سورة البقرة تفسير ابن كثير
ج1.
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى
لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ
الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا
أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
(4)
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
البقرة - تفسير ابن كثير
[بسم الله الرحمن الرحيم] (1)
تفسير سورة البقرة
خمسة وعشرون ألفًا وخمسمائة حرف، وستة آلاف ومائة وعشرون كلمة، ومائتان
وستة وثمانون آية في عدد الكوفي وعدد علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ذكر ما ورد في فضلها
قال الإمام أحمد: حدثنا عارم، حدثنا معتمر، عن أبيه، عن رجل، عن أبيه،
عن معقل بن يسار؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " البقرة سَنَام القرآن
وذروته، نزل مع كل آية منها ثمانون مَلَكًا، واستخرجت: "اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا
هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" [البقرة: 255] من تحت العرش، فوصلت بها، أو فوصلت
بسورة البقرة، ويس: قلب القرآن، لا يقرؤها رجل يريد الله، والدار الآخرة إلا غفر
له، واقرؤوها على موتاكم " انفرد به أحمد (2) .
وقد رواه أحمد -أيضًا-عن عارم، عن عبد الله بن المبارك، عن سليمان
التيمي (3) عن أبي عثمان -وليس بالنَّهْدي-عن أبيه، عن مَعْقِل بن يَسَار، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقرؤوها على موتاكم " يعني: يس (4) .
فقد بَيَّنَّا بهذا الإسناد معرفة المبهم في الرواية الأولى. وقد أخرج
هذا الحديث على هذه الصفة في الرواية الثانية أبو داود، والنسائي، وابن ماجه (5) .
وقد روى الترمذي من حديث حكيم بن جبير، وفيه ضعف، عن أبي صالح، عن أبي
هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لكل شيء سنام، وإن سَنَام
القرآن البقرة، وفيها آية هي سيدة آي القرآن: آية الكرسي " (6) .
وفي مسند أحمد وصحيح مسلم والترمذي والنسائي، من حديث سهيل (7) بن أبي
صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا
تجعلوا بيوتكم قبورًا، فإن البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان " (8) وقال الترمذي:
حسن صحيح.
__________
(1) زيادة من جـ، ط.
(2) المسند (5/26).
(3) في جـ: "التميمي".
(4) المسند (5/26) وأبو عثمان لم يوثقه سوى ابن حبان وأبوه لا يعرف، وقد
اتضح أن الحديث مضطرب، اختلف فيه على سليمان التميمي.
(5) سنن أبي داود برقم (3121) وسنن النسائي الكبرى برقم (10913) وسنن ابن
ماجة برقم (1448).
(6) سنن الترمذي برقم (2878) ورواه الحاكم في المستدرك (2/259) من طريق حكيم
بن جبير به.
(7) في أ: "سهل".
(8) المسند (2/284) وصحيح مسلم برقم (780) وسنن الترمذي برقم (2877) وسنن
النسائي الكبرى برقم (8015).
(1/149)
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثني ابن أبي مريم، عن ابن (1) لهيعة،
عن يزيد بن أبي حبيب، عن سِنان بن سعد، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " إن الشيطان يخرج من البيت إذا سمع سورة البقرة تقرأ فيه " (2) .
سنان بن سعد، ويقال بالعكس، وثقه ابن معين واستنكر حديثه أحمد بن حنبل
وغيره.
وقال أبو عبيد: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سلمة بن كُهَيْل، عن
أبي الأحوص، عن عبد الله، يعني ابن مسعود، قال: إن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع
فيه سورة البقرة. ورواه النسائي في اليوم والليلة، وأخرجه الحاكم في مستدركه من
حديث شعبة (3) ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وقال ابن مَرْدُويه: حدثنا أحمد بن كامل، حدثنا أبو إسماعيل الترمذي،
حدثنا أيوب بن سليمان بن بلال، حدثني أبو بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن محمد
بن عجلان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " لا ألْفَيَنَّ أحَدَكم، يَضَع إحدى رجليه على الأخرى
يتغنى، ويدع سورة البقرة يقرؤها، فإن الشيطان يفرّ من البيت تقرأ فيه سورة البقرة،
وإن أصفْرَ البيوت، الجَوْفُ الصِّفْر من كتاب الله " .
وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة، عن محمد بن نصر، عن أيوب بن
سليمان، به (4) .
وروى الدارمي في مسنده عن ابن مسعود قال: ما من بيت تقرأ فيه سورة
البقرة إلا خرج منه الشيطان وله ضراط (5) . وقال: إن لكل شيء سناما، وإن سنام
القرآن سورة البقرة، وإن لكل شيء لبابًا، وإن لباب القرآن المفصل (6) . وروى -أيضا-من طريق
الشعبي قال: قال عبد الله بن مسعود: من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم
يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة أربع من أولها وآية الكرسي وآيتان بعدها وثلاث
آيات من آخرها (7) وفي رواية: لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ولا شيء يكرهه ولا
يقرأن على مجنون إلا أفاق.
وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لكل
شيء سناما، وإن سنام القرآن البقرة، من قرأها في بيته ليلة (8) لم يدخله الشيطان
(9) ثلاث ليال، ومن قرأها في بيته نهارًا لم يدخله
__________
(1) في جـ: "أبي".
(2) فضائل القرآن (ص121).
(3) فضائل القرآن لأبي عبيد (ص121) وسنن النسائي الكبرى برقم (10800)
والمستدرك (2/260).
(4) سنن النسائي الكبرى برقم (10799) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3292) "مجمع
البحرين" من طريق حلو بن السري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله به
مرفوعا وخالفهما -أي ابن عجلان وحلو بن السري- شعبة، فرواه عن أبي إسحاق، عن أبي
الأحوص، عن عبد الله فوقفه، أخرجه ابن الضريس في فضائل القرآن برقم (176) وشعبة
أوثق الناس في أبي إسحاق، ورواه ابن الضريس في فضائل القرآن برقم (165) من طريق
إبراهيم، عن أبي الأحوص، عن عبد الله موقوفا.
(5) سنن الدارمي برقم (3375).
(6) سنن الدارمي برقم (3377).
(7) سنن الدارمي برقم (3383).
(8) في أ: "ليلا".
(9) في ط، ب: "شيطان".
(1/150)
الشيطان (1) ثلاثة أيام " .
رواه أبو القاسم الطبراني، وأبو حاتم، وابن حبان في صحيحه (2) .
وقد روى الترمذي، والنسائي، وابن ماجه من حديث عبد الحميد بن جعفر، عن
سعيد المقبري، عن عطاء مولى أبي أحمد، عن أبي هريرة، قال: بعث رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعثا وهم ذوو عدد، فاستقرأهم فاستقرأ كُلّ واحد منهم، يعني ما معه من
القرآن، فأتى على رجل من أحدثهم سنًا، فقال: " ما معك يا فلان؟ " قال: معي كذا
وكذا وسورة البقرة، فقال: " أمعك سورة البقرة؟" قال: نعم. قال: " اذهب
فأنت أميرهم " فقال رجل من أشرافهم: والله ما منعني أن أتعلم البقرة (3) إلا
أني خشيت ألا أقوم بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعلموا القرآن
واقرؤوه، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأ وقام به كمثل جراب محشو مسْكًا يفوح ريحه
في كل مكان، ومثل من تعلمه، فيرقد وهو في جوفه، كمثل جراب أوكِي على مسك " (4) .
هذا لفظ رواية الترمذي، ثم قال: هذا حديث حسن. ثم رواه من حديث الليث،
عن سعيد، عن عطاء مولى أبي أحمد مرسلا فالله أعلم (5) .
قال (6) البخاري: وقال الليث: حدثني يزيد بن الهاد، عن
محمد بن إبراهيم، عن أسَيد بن حُضَير (7) قال: بينما هو يقرأ من الليل (8) سورة
البقرة، وفرسه مربوطة عنده، إذ جالت الفرس، فسكت، فسكَنتْ، فقرأ (9) فجالت الفرس،
فسكت، فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبًا منها. فأشفق أن تصيبه،
فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه
وسلم فقال: " اقرأ يا ابن حُضَير (10) " . قال: فأشفقت يا رسول الله أن
تطأ يحيى، وكان منها قريبًا، فرفعت رأسي وانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء،
فإذا مثل الظُّلَّة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال: " وتدري
ما ذاك؟ " . قال: لا. قال: " تلك الملائكة دنت لصوتك ولو قرأت لأصبحت
(11) ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم (12) .
وهكذا رواه الإمام العَالم أبو عبيد القاسم بن سلام، في كتاب فضائل
القرآن، عن عبد الله بن صالح، ويحيى بن بكير، عن الليث به (13) .
وقد روي من وجه آخر (14) عن أسيد بن حضير، كما تقدم (15) ، والله أعلم.
__________
(1) في ط، ب: "شيطان".
(2) المعجم الكبير (6/163) وصحيح ابن حبان برقم (1727) "موارد".
(3) في أ: "سورة البقرة".
(4) سنن الترمذي برقم (2876) وسنن النسائي الكبرى برقم (8749).
(5) في جـ: "فالله تبارك وتعالى أعلم".
(6) في ب: "وقال".
(7) في جـ، ط، ب، أ، و: "الحضير".
(8) في جـ، ط: "في".
(9) في ط: "ثم قرأ".
(10) في جـ، أ: "الحضير".
(11) في أ: "لأصبح".
(12) صحيح البخاري برقم (5018).
(13) فضائل القرآن (ص26).
(14) في جـ، ط، ب، أ، و: "وجوه أخر".
(15) سبق تخريجه في فضائل القرآن.
(1/151)
وقد وقع نحو من هذا لثابت بن قيس بن شماس، (1) رضي الله عنه، وذلك فيما
رواه أبو عبيد [القاسم] (2) : حدثنا عباد بن عباد، عن جرير بن حازم، عن جرير (3) بن يزيد: أن
أشياخ أهل المدينة حدثوه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل له: ألم تر ثابت
بن قيس بن شماس؟ لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح، قال: " فلعله قرأ سورة
البقرة " . قال: فسئل ثابت، فقال: قرأت سورة البقرة (4) .
وهذا إسناد جيد، إلا أن فيه إبهاما، ثم هو مرسل، والله أعلم. [ذكر] (5)
ما ورد في فضلها مع آل عمران
قال (6) الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم، حدثنا بشير بن
مهاجر (7) حدثني عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: كنت جالسًا عند النبي صلى الله
عليه وسلم فسمعته يقول: " تعلموا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة،
ولا تستطيعها البطلة " . قال: ثم سكت ساعة، ثم قال: " تعلموا سورة
البقرة، وآل عمران، فإنهما الزهراوان، يُظلان صاحبهما يوم القيامة، كأنهما غمامتان
أو غيايتان، أو فرْقان من طير صَوافّ، وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق
عنه قبره كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك. فيقول: أنا صاحبك
القرآن الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك
اليوم من وراء كل تجارة. فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج
الوقار، ويكسى والداه حلتين، لا يقوم لهما (8) أهل الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا؟
فيقال: بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال: اقرأ واصعد في دَرَج الجنة وغرفها، فهو في
صعود ما دام يقرأ هَذًّا كان أو ترتيلا " .
وروى ابن ماجه من حديث بشير بن المهاجر (9) بعضه (10) ، وهذا إسناد حسن
(11) على شرط مسلم، فإن بشيرا هذا أخرج له مسلم، ووثقه ابن معين، وقال النسائي:
ليس به بأس، إلا أن الإمام أحمد قال فيه: هو منكر الحديث، قد اعتبرت أحاديثه فإذا
هي تجيء بالعجب. وقال البخاري: يخالف في بعض حديثه. وقال أبو حاتم الرازي: يكتب
حديثه ولا يحتج به. وقال ابن عدي: روى ما لا يتابع
عليه. وقال الدارقطني: ليس بالقوي.
قلت: ولكن لبعضه شواهد؛ فمن ذلك حديث أبي أمامة الباهلي؛ قال الإمام
أحمد: حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلام، عن
أبي أمامة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "
اقرؤوا القرآن فإنه شافع لأهله يوم القيامة، اقرؤوا الزهراوين: البقرة وآل عمران،
فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فِرْقان
من طير صوافّ يحاجان عن أهلهما " (12) ثم قال: " اقرؤوا البقرة فإن
أخذها بركة (13) ،
وتركها حسرة، ولا تستطيعها
__________
(1) في ط، ب: "الشماس".
(2) زيادة من ط.
(3) في جـ، ب: "عن عمه جرير".
(4) فضائل القرآن لأبي عبيد (ص27) وتقدم تخريجه في فضائل القرآن أيضا.
(5) زيادة من أ، و.
(6) في جـ، ط: "وقال".
(7) في ط، ب: "المهاجر".
(8) في أ، و: "عليهما".
(9) في جـ: "المهاجر به".
(10) المسند (5/348) وسنن ابن ماجة برقم (3781).
(11) في جـ: "جيد".
(12) في جـ: "عن أهلهما يوم القيامة".
(13) في أ: "حسنة".
(1/152)
البطلة " (1) .
وقد رواه مسلم في الصلاة من حديث معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام،
عن جده أبي سلام مَمْطور الحَبَشِيّ، عن أبي أمامة صُدَيّ بن عجلان [الباهلي] (2) ، به (3) .
الزهراوان: المنيران، والغياية: ما أظلك من فوقك. والفِرْقُ:
القطعة من الشيء، والصواف: المصطفة المتضامة (4) . والبطلة السحرة، ومعنى "
لا تستطيعها " أي: لا يمكنهم حفظها، وقيل: لا تستطيع النفوذ في قارئها، والله
أعلم.
ومن ذلك حديث النَّوّاس (5) بن سِمْعان. قال الإمام أحمد:
حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا الوليد بن مسلم، عن محمد بن مهاجر، عن الوليد بن عبد
الرحمن الجُرَشي، عن جُبَير بن نُفَير، قال: سمعت النواس بن سمعان الكلابي، يقول:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يؤتى بالقرآن يوم
القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمهم سورة البقرة وآل عمران " . وضرب
لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: " كأنهما
غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شَرْق، أو كأنهما فرْقَان من طير صَوَاف (6)
يُحَاجَّان عن صاحبهما " (7) .
ورواه مسلم، عن إسحاق بن منصور، عن يزيد بن عبد ربه، به (8) .
والترمذي، من حديث الوليد بن عبد الرحمن الجرشي، به (9) . وقال: حسن
غريب.
وقال أبو عبيد: حدثنا حجاج، عن حماد بن سلمة، عن عبد الملك بن عمير،
قال: قال حماد: أحسبه عن أبي منيب، عن عمه؛ أن رجلا قرأ البقرة وآل عمران، فلما
قضى صلاته قال له كعب: أقرأت البقرة وآل عمران؟ قال: نعم. قال: فوالذي نفسي بيده،
إن فيهما اسم الله الذي إذا دعي به استجاب (10) . قال: فأخبرني به. قال: لا والله لا
أخبرك، ولو أخبرتك لأوشكت أن تدعوه بدعوة أهلك فيها أنا وأنت (11) .
[قال أبو عبيد] (12) : وحدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن
سليم بن عامر: أنه سمع أبا أمامة يقول: إن أخًا لكم (13) أرِي في المنام أن الناس
يسلكون في صدع جبل وعر طويل، وعلى رأس الجبل شجرتان خضراوان تهتفان: هل فيكم من
يقرأ سورة البقرة؟ وهل فيكم من يقرأ سورة آل عمران؟ قال: فإذا قال الرجل: نعم.
دنتا منه بأعذاقهما، حتى يتعلق بهما فتُخطران به
__________
(1) المسند (5/249).
(2) زيادة من جـ، ب، أ، و.
(3) صحيح مسلم برقم (804).
(4) في جـ: "المتصلة".
(5) في جـ: "نواس".
(6) في جـ، ط: "من طير صاف".
(7) في أ: "صاحب لهما".
(8) المسند (4/183) وصحيح مسلم برقم (805).
(9) سنن الترمذي برقم (2883).
(10) في ط: "أجاب".
(11) فضائل القرآن (ص126).
(12) زيادة من ب.
(13) في جـ: "أخاكم".
(1/153)
الجبل (1) .
[قال أبو عبيد] (2) وحدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن أبي
عمران: أنه سمع أم الدرداء تقول: إن رجلا ممن قرأ القرآن
أغار على جار له، فقتله، وإنه أقيدَ به (3) ، فقتل، فما زال القرآن ينسل منه سورة
سورة، حتى بقيت البقرة وآل عمران جمعة، ثم إن آل عمران انسلت منه، وأقامت البقرة
جمعة، فقيل لها: { مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ
} [ق: 29] قال: فخرجت كأنها السحابة العظيمة (4) .
قال أبو عبيد: أراه، يعني: أنهما كانتا معه في قبره تدفعان عنه
وتؤنسانه، فكانتا من آخر ما بقي معه من القرآن.
وقال -أيضًا-: حدثنا أبو مُسْهِر الغساني، عن سعيد بن
عبد العزيز التنوخي: أن يزيد بن الأسود الجُرَشي كان يحدث (5) : أنه من قرأ البقرة
وآل عمران في يوم، برئ من النفاق حتى يمسي، ومن قرأهما من ليلة برئ من النفاق حتى
يصبح، قال: فكان يقرؤهما كل يوم وليلة سوى جزئه (6) .
[قال أيضًا] (7) : وحدثنا يزيد، عن وقاء (8) بن إياس، عن سعيد بن
جبير، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من قرأ البقرة وآل عمران في ليلة كان
-أو كتب-من القانتين (9) .
فيه انقطاع، ولكن ثبت في الصحيحين (10) : أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قرأ بهما (11) في ركعة واحدة (12) . [ذكر] (13) ما ورد في فضل السبع الطول
قال أبو عبيد: حدثنا هشام بن إسماعيل الدمشقي، عن محمد بن شعيب، عن سعيد
بن بشير، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة بن الأسقع، عن النبي صلى الله عليه
وسلم، قال: " أعطيت السبع الطُّوال مكان التوراة، وأعطيت المئين مكان
الإنجيل، وأعطيت المثاني (14) مكان الزبور، وفضلت بالمفصّل " (15) .
هذا حديث غريب، وسعيد بن بشير، فيه لين.
وقد رواه أبو عبيد [أيضا] (16) ، عن عبد الله بن صالح، عن الليث، عن
سعيد بن أبي هلال، قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال... فذكره،
والله أعلم. ثم قال (17) حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن عمرو (18) بن أبي عمرو، مولى المطلب
بن عبد الله بن حنطب، عن حبيب بن هند الأسلمي،
__________
(1) فضائل القرآن (ص126).
(2) زيادة من و.
(3) في جـ، ط، ب: "منه".
(4) فضائل القرآن (ص126، 127].
(5) في جـ: "يحدثه".
(6) فضائل القرآن (127).
(7) زيادة من ب، و.
(8) في هـ: "ورقاء".
(9) فضائل القرآن (ص127).
(10) في جـ، ط، ب، أ، و: "والصحيح".
(11) في جـ، ط، ب، و: "قرأ بهن"، وفي أ: "قرأهن".
(12) الحديث وقع لي في سنن النسائي (2/177) من حديث حذيفة، رضي الله عنه.
(13) زيادة من أ، و.
(14) في أ: "وأعطيت السبع المثاني".
(15) فضائل القرآن (ص120) ورواه الطبري في تفسيره (1/100) من طريق رواد بن الجراح
عن سعيد بن بشير به، ورواه الطبري في تفسيره (1/100) من طريق الطيالسي عن عمران
-أبي العوام- عن قتادة به، ورواه الطبري في تفسيره (1/101) من طريق ليث بن
أبي سليم عن أبي بردة عن أبي المليح به نحوه.
(16) زيادة من ب.
(17) في ب: "قال أيضا".
(18) في جـ: "عمر".
(1/154)
عن عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أخذ
السبع فهو حَبْر" (1) .
وهذا أيضًا غريب، وحبيب بن هند بن أسماء بن هند بن حارثة الأسلمي، روى
عنه عمرو بن أبي عمرو وعبد الله بن أبي بكرة، وذكره أبو حاتم الرازي ولم يذكر فيه جرحا،
فالله أعلم.
وقد رواه الإمام أحمد، عن سليمان بن داود، وحسين، كلاهما عن إسماعيل بن
جعفر، به (2) .
ورواه -أيضًا-عن أبي سعيد، عن سليمان بن بلال، عن حبيب
بن هند، عن عروة، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أخذ
السبع الأوَل من القرآن فهو حَبْر " (3) .
قال أحمد: وحدثنا حسين، حدثنا ابن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة،
عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله (4) .
قال عبد الله بن أحمد: وهذا أرى فيه، عن أبيه، عن الأعرج، ولكن كذا كان
في الكتاب بلا " أبي " (5) ، أغفله أبي، أو كذا هو مرسل، ثم قال أبو
عبيد:
حدثنا هُشَيْم، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، في قوله تعالى: { وَلَقَدْ
آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي } [الحجر: 87]، قال: هي السبع الطول: البقرة،
وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس. قال: وقال مجاهد: هي
السبع الطول. وهكذا قال مكحول، وعطية بن قيس، وأبو محمد الفارسي (6) ،وشَداد بن
عبيد الله، ويحيى بن الحارث الذماري في تفسير الآية بذلك، وفي تعدادها، وأن يونس
هي السابعة. فصل
والبقرة جميعها مدنية بلا خلاف، قال بعض العلماء: وهي مشتملة على ألف
خبر، وألف أمر، وألف نهي.
وقال العادون: آياتها مائتان وثمانون وسبع آيات، وكلماتها ستة آلاف كلمة
ومائة وإحدى وعشرون كلمة، وحروفها خمسة (7) وعشرون ألفًا وخمسمائة حرف، فالله أعلم.
قال ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن ابن عباس: أنزل بالمدينة سورة البقرة.
وقال خَصيف: عن مجاهد، عن عبد الله بن الزبير، قال: أنزل بالمدينة سورة
البقرة.
وقال الواقدي: حدثني الضحاك بن عثمان، عن أبي الزِّناد، عن خارجة بن زيد
بن ثابت، عن أبيه، قال: نزلت البقرة بالمدينة.
وهكذا قال غير واحد من الأئمة والعلماء، والمفسرين، ولا خلاف فيه.
__________
(1) فضائل القرآن (ص120).
(2) المسند (6/73).
(3) المسند (6/82).
(4) المسند (6/73).
(5) في جـ، ط، ب، أ، و: "فلا أدري".
(6) في جـ، ط، ب: "القارئ".
(7) في جـ: "خمس".
(1/155)
الم (1)
وقال ابن مَرْدُويه: حدثنا محمد بن مَعْمَر، حدثنا الحسن بن علي بن
الوليد [الفارسي] (1) حدثنا خلف بن هشام، حدثنا عُبيس (2)
بن ميمون، عن موسى بن أنس بن مالك، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " لا تقولوا: سورة البقرة، ولا سورة آل عمران، ولا سورة النساء، وكذا
القرآن كله، ولكن قولوا: السورة التي يذكر فيها البقرة، والتي يذكر فيها آل عمران،
وكذا القرآن كله " (3) .
هذا حديث غريب لا يصح رفعه، وعيسى بن ميمون هذا هو أبو سلمة الخواص، وهو
ضعيف الرواية، لا يحتج به. وقد ثبت في الصحيحين (4) ، عن ابن مسعود: أنه رمى
الجمرة من بطن الوادي، فجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، ثم قال (5) : هذا مقام
الذي أنزلت عليه سورة البقرة. أخرجاه (6) .
وروى ابن مَرْدُويه، من حديث شعبة، عن عقيل بن طلحة، عن عتبة بن فرقد
(7) قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه تأخرًا (8) ، فقال: " يا
أصحاب سورة البقرة " (9) . وأظن هذا كان يوم حنين، حين ولوا مدبرين أمر
العباس فناداهم: " يا أصحاب الشجرة " ، يعني أهل بيعة الرضوان. وفي
رواية: " يا أصحاب البقرة (10) " ؛ لينشطهم بذلك، فجعلوا يقبلون من كل
وجه (11) . وكذلك يوم اليمامة مع أصحاب مسيلمة، جعل الصحابة يفرون لكثافة حَشْر
(12) بني حنيفة، فجعل المهاجرون والأنصار يتنادون: يا أصحاب سورة البقرة، حتى فتح
الله عليهم (13) . رضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين.
{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم الم 1 }
قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور، فمنهم من
قال: هي مما استأثر الله بعلمه، فردوا علمها إلى الله، ولم يفسروها [حكاه القرطبي
في تفسيره عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم به، وقاله عامر
الشعبي وسفيان الثوري والربيع بن خثيم، واختاره
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(2) في هـ: "عيسى".
(3) رواه الطبراني في الأوسط برقم (3450) "مجمع البحرين" والبيهقي
في شعب الإيمان برقم (2582) من طريق عُبيس بن ميمون، عن موسى بن أنس به، وقال البيهقي:
"عُبيس بن ميمون منكر الحديث: وهذا لا يصح، وإنما روى عن ابن عمر من قوله".
(4) ف جـ، ط، ب، أ، و: "الصحيح".
(5) في و: "يقول".
(6) صحيح البخاري برقم (1747) وصحيح مسلم برقم (1296).
(7) في هـ: "مربد" وهو خطأ.
(8) في جـ: "تأخرا في أصحابه".
(9) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (17/133) من طريق علي بن قتيبة عن شعبة
عن عقيل بن أبي طلحة به، وجاء من حديث أنس، رواه أبو يعلى في مسنده (6/289) من طريق عمرو بن
عاصم عن أبي العوام عن معمر عن الزهري عن أنس رضي الله عنه.
(10) في ب: "سورة البقرة".
(11) جاء من حديث العباس، رواه مسلم في صحيحه برقم (1775) من طريق الزهري، عن
كثير بن عباس عن أبيه العباس رضي الله عنه.
(12) في جـ، ط، ب، و: "حبيش".
(13) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (12/502) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه
قال:
"كان شعار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم مسيلمة: "يا أصحاب
سورة البقرة".
(1/156)
أبو حاتم بن حبان (1) ] (2) .
ومنهم من فسَّرها، واختلف هؤلاء في معناها، فقال عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم: إنما هي أسماء السور [قال العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في
تفسيره: وعليه إطباق الأكثر، ونقله عن سيبويه أنه نص عليه] (3) ، ويعتضد هذا بما
ورد في الصحيحين، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة
الصبح يوم الجمعة: الم السجدة، وهل أتى على الإنسان (4) .
وقال سفيان الثوري، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: أنه قال: الم، وحم،
والمص، وص، فواتح افتتح الله بها القرآن.
وكذا قال غيره: عن مجاهد. وقال مجاهد في رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود،
عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عنه، أنه قال: الم، اسم من أسماء القرآن.
وهكذا قال قتادة، وزيد بن أسلم، ولعل هذا يرجع إلى معنى قول عبد الرحمن
بن زيد: أنه اسم من أسماء السور (5) ، فإن كل سورة يطلق
عليها اسم القرآن، فإنه يبعد أن يكون "المص" اسما للقرآن كله؛ لأن
المتبادر إلى فهم سامع من يقول: قرأت
"المص"، إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف، لا لمجموع القرآن. والله أعلم.
وقيل: هي اسم من أسماء الله تعالى. فقال الشعبي: فواتح السور من أسماء
الله تعالى، وكذلك قال سالم بن عبد الله، وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير،
وقال شعبة عن السدي: بلغني أن ابن عباس قال: الم اسم من أسماء الله الأعظم . هكذا
رواه ابن أبي حاتم من حديث شعبة.
ورواه ابن جرير عن بُنْدَار، عن ابن مَهْدِي، عن شعبة، قال: سألت السدي
عن حم وطس والم، فقال: قال ابن عباس: هي اسم الله الأعظم.
وقال ابن جرير: وحدثنا محمد بن المثنى، حدثنا أبو النعمان، حدثنا شعبة،
عن إسماعيل السدي، عن مُرَّة الهمداني قال: قال عبد الله، فذكر نحوه [وحكي مثله عن
علي وابن عباس] (6) .
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هو قسم أقسم الله به، وهو من أسماء
الله تعالى.
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث ابن عُلية، عن خالد الحذاء، عن
عكرمة أنه قال: الم، قسم.
ورويا (7) -أيضًا-من حديث شريك بن عبد الله، عن عطاء بن السائب، عن أبي
الضُّحَى، عن ابن عباس: الم، قال: أنا الله أعلم.
وكذا قال سعيد بن جبير، وقال السُّدِّي عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن
ابن عباس -وعن
__________
(1) تفسير القرطبي (1/154).
(2) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(3) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(4) صحيح البخاري برقم (891) وصحيح مسلم برقم (880).
(5) في ط، ب، أ، و: "السورة".
(6) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(7) في جـ: "وروي".
(1/157)
مرّة الهمذاني عن ابن مسعود. وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم: الم. قال: أما الم فهي حروف استفتحت من حروف هجاء
أسماء الله تعالى.
وقال أبو جعفر الرّازي، عن الرّبيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله
تعالى: { الم } قال: هذه الأحرف الثلاثة من التسعة والعشرين
حرفًا دارت فيها الألسن كلها، ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، وليس
منها حرف إلا وهو من آلائه وبلائه، وليس منها حرف إلا وهو في مدة أقوام وآجالهم.
قال عيسى ابن مريم، عليه السلام، وعَجب، فقال: وأعْجَب أنهم ينطقون بأسمائه
ويعيشون في رزقه، فكيف يكفرون به؛ فالألف مفتاح اسم الله، واللام مفتاح اسمه لطيف
(1) والميم مفتاح اسمه مجيد (2) فالألف آلاء الله، واللام لطف الله، والميم مجد
الله، والألف (3) سنة، واللام ثلاثون سنة، والميم أربعون [سنة] (4) . هذا لفظ ابن
أبي حاتم. ونحوه رواه ابن جرير، ثم شرع يوجه كل واحد من هذه الأقوال ويوفق بينها،
وأنه لا منافاة بين كل واحد منها وبين الآخر، وأن الجمع ممكن، فهي أسماء السور،
ومن أسماء الله تعالى يفتتح بها السور، فكل حرف منها دَلّ على اسم من أسمائه وصفة
من صفاته، كما افتتح سورا كثيرة بتحميده وتسبيحه وتعظيمه. قال: ولا مانع من دلالة
الحرف منها على اسم من أسماء الله، وعلى صفة من صفاته، وعلى مدة وغير ذلك، كما
ذكره الرّبيع بن أنس عن أبي العالية؛ لأن الكلمة الواحدة تطلق على معان كثيرة،
كلفظة الأمة فإنها تطلق ويراد به الدين، كقوله تعالى: { إِنَّا وَجَدْنَا
آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } [الزخرف: 22، 23]. وتطلق ويراد بها الرجل المطيع لله،
كقوله: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ
حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [النحل: 120] وتطلق ويراد بها
الجماعة، كقوله: { وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ
} [القصص: 23]، وقوله: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا}
[النحل: 36] وتطلق ويراد بها الحين من الدهر كقوله: { وَقَالَ الَّذِي نَجَا
مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } [يوسف: 45] أي: بعد حين على أصح القولين،
قال: فكذلك هذا.
هذا حاصل كلامه موجهًا، ولكن هذا ليس كما ذكره أبو العالية، فإن أبا
العالية زعم أن الحرف دل على هذا، وعلى هذا، وعلى هذا معًا، ولفظة الأمة وما
أشبهها (5) من الألفاظ المشتركة في الاصطلاح، إنما دل في
القرآن في كل موطن على معنى واحد دل عليه سياق الكلام، فأما حمله على مجموع محامله
إذا أمكن فمسألة مختلف فيها بين علماء الأصول، ليس هذا (6) موضع البحث فيها، والله
أعلم؛ ثم إن لفظ الأمة تدل على كل (7) معانيه في سياق الكلام بدلالة الوضع، فأما
دلالة الحرف الواحد على اسم يمكن أن يدل على اسم آخر من غير أن يكون أحدهما أولى
من الآخر في التقدير أو الإضمار بوضع ولا بغيره، فهذا مما لا يفهم إلا بتوقيف،
والمسألة مختلف فيها، وليس فيها إجماع حتى يحكم به.
__________
(1) في جـ: "اسمه اللطيف"، وفي أ: "اسم لطيف".
(2) في جـ: "المجيد".
(3) في جـ، ط، ب، أ، و: "فالألف".
(4) زيادة من جـ، ط، ب.
(5) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و: "وما أشبهه".
(6) في أ: "هنا".
(7) في ط، ب: "كل من".
(1/158)
وما أنشدوه من الشواهد على صحة إطلاق الحرف الواحد على بقية الكلمة، فإن
في السياق ما يدل على ما حذف بخلاف هذا، كما قال الشاعر:
قلنا قفي لنا فقالت قاف ... لا تَحْسَبِي أنا نَسينا الإيجاف (1)
تعني: وقفت. وقال الآخر:
ما للظليم عَالَ كَيْفَ لا يا ... ينقَدُّ عنه جلده إذا يا (2)
قال ابن جرير: كأنه أراد أن يقول: إذا يفعل كذا وكذا، فاكتفى بالياء من
يفعل، وقال الآخر:
بالخير خيرات وإن شرًا فا ... ولا أريد الشر إلا أن تا (3)
يقول: وإن شرًا فشر، ولا أريد الشر إلا أن تشاء، فاكتفى
بالفاء والتاء من الكلمتين عن بقيتهما، ولكن هذا ظاهر من سياق الكلام، والله أعلم.
[قال القرطبي: وفي الحديث: "من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة"
(4) الحديث. قال شقيق: هو أن يقول في اقتل: اق] (5) .
وقال خصيف، عن مجاهد، أنه قال: فواتح السور كلها "ق وص وحم وطسم
والر" وغير ذلك هجاء موضوع. وقال بعض أهل العربية: هي حروف من حروف المعجم،
استغنى بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها، التي هي تتمة الثمانية والعشرين
حرفًا، كما يقول القائل: ابني يكتب في: ا ب ت ث، أي: في حروف المعجم الثمانية
والعشرين فيستغني بذكر بعضها عن مجموعها. حكاه ابن جرير.
قلت: مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف
المكرر منها أربعة عشر حرفًا، وهي: ا ل م ص ر ك ي ع ط س ح ق ن، يجمعها قولك: نص
حكيم قاطع له سر. وهي نصف الحروف عددًا، والمذكور منها أشرف من المتروك، وبيان ذلك
من صناعة التصريف.
[قال الزمخشري: وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أنصاف أجناس الحروف
يعني من المهموسة والمجهورة، ومن الرخوة والشديدة، ومن المطبقة والمفتوحة، ومن
المستعلية والمنخفضة ومن حروف القلقلة. وقد سردها مفصلة ثم قال: فسبحان الذي دقت
في كل شيء حكمته، وهذه الأجناس المعدودة ثلاثون بالمذكورة منها، وقد علمت أن معظم
الشيء وجله ينزل منزلة كله] (6) .
__________
(1) البيت في تفسير الطبري (1/212).
(2) البيت في تفسير الطبري (1/213).
(3) البيت في تفسير الطبري (1/213) وينسب إلى القيم بن أوس كما ذكره المحقق
الفاضل.
(4) تفسير القرطبي (1/156) والحديث رواه ابن ماجة في السنن برقم (2620) من طريق
يزيد بن أبي زياد، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه به مرفوعا، وقال
البوصيري في الزوائد (2/334): "هذا إسناد ضعيف، يزيد بن أبي زياد الدمشقي قال
فيه البخاري وأبو حاتم: منكر الحديث" .
تنبيه: وقع في بعض النسخ المساعدة: قال سفيان، بدل شقيق، والذي في تفسير
القرطبي موافق لما هاهنا، وقد روي هذا القول عن سفيان الأصبهاني في الترغيب
والترهيب برقم (2329).
(5) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(6) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(1/159)
ومن هاهنا لحظ (1) بعضهم في هذا المقام كلامًا، فقال: لا شك أن هذه الحروف
لم ينزلها سبحانه وتعالى عبثًا ولا سدى؛ ومن قال من الجهلة: إنَّه في القرآن ما هو
تعبد لا معنى له بالكلية، فقد أخطأ خطأ كبيرًا، فتعين أن لها معنى في نفس الأمر،
فإن صح لنا فيها عن المعصوم شيء قلنا به، وإلا وقفنا حيث وقفنا، وقلنا: { آمَنَّا
بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } [آل عمران: 7].
ولم يجمع العلماء فيها على شيء معين، وإنما اختلفوا، فمن ظهر له بعض
الأقوال بدليل فعليه اتباعه، وإلا فالوقف حتى يتبين. هذا مقام.
المقام الآخر في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور، ما
(2) هي؟ مع قطع النظر عن معانيها في أنفسها. فقال بعضهم: إنما ذكرت لنعرف بها
أوائل السور. حكاه ابن جرير، وهذا ضعيف؛ لأن الفصل حاصل بدونها فيما لم تذكر فيه،
وفيما ذكرت فيه بالبسملة تلاوة وكتابة.
وقال آخرون: بل ابتدئ بها لتُفْتَحَ لاستماعها أسماعُ المشركين -إذ (3)
تواصوا بالإعراض عن القرآن -حتى إذا استمعوا له تُلي عليهم المؤلَّف منه.
حكاه ابن جرير -أيضًا-، وهو ضعيف أيضًا؛ لأنه لو كان كذلك لكان ذلك في جميع السور
لا (4) يكون في بعضها، بل غالبها ليس كذلك، ولو كان كذلك -أيضًا-لانبغى (5)
الابتداء بها في أوائل الكلام معهم، سواء كان افتتاح سورة أو غير ذلك. ثم إن هذه
السورة والتي تليها أعني البقرة وآل عمران مدنيتان ليستا خطابًا للمشركين، فانتقض ما
ذكروه بهذه الوجوه.
وقال آخرون: بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها
بيانًا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه [تركب] (6)
من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها.
ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن
وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء، وهو الواقع في تسع وعشرين سورة،
ولهذا يقول تعالى: { الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ } [البقرة: 1، 2]. { الم * اللَّهُ لا
إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } [آل عمران: 1-3]. { المص * كِتَابٌ
أُنزلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ } [الأعراف: 1، 2]. { الر
كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } [إبراهيم: 1]{ الم * تَنزيلُ
الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [السجدة: 1، 2]. {
حم * تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [فصلت: 1، 2]. { حم * عسق *
كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ } [الشورى: 1-3]، وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء
لمن أمعن (7) النظر، والله أعلم.
__________
(1) في ب، و: "لخص"، وفي جـ، ط: "يخص".
(2) في ط: "وما".
(3) في ط: "إذا".
(4) في ب: "ولا".
(5) في جـ، ط: "لا ينبغي".
(6) زيادة من جـ، ط، ب.
(7) في ط: "أنعم".
(1/160)
وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد، وأنه يستخرج من ذلك أوقات
الحوادث والفتن والملاحم، فقد ادعى ما ليس له، وطار في غير مطاره، وقد ورد في ذلك حديث
ضعيف، وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته. وهو ما رواه محمد
بن إسحاق بن يسار، صاحب المغازي، حدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر
بن عبد الله بن رئاب، قال: مر أبو ياسر (1) بن أخطب، في رجال من يهود، برسول الله
صلى الله عليه وسلم، وهو يتلو فاتحة سورة البقرة: { الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا
رَيْبَ فِيهِ [ هدى للمتقين] (2) } [البقرة: 1، 2 ] فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من
اليهود، فقال: تعلمون -والله-لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل
الله عليه: { الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ } فقال: أنت سمعته؟ قال:
نعم. قال: فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من اليهود (3) إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم: فقالوا: يا محمد، ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل
الله عليك: { الم * ذلك الكتاب لا [ريب] } (4) ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "بلى". فقالوا: جاءك (5) بهذا جبريل من عند الله؟ فقال:
"نعم". قالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه (6) بين لنبي منهم ما
مدة ملكه وما أجل أمته غيرك. فقام (7) حيي بن أخطب، وأقبل على من كان معه، فقال
لهم: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، أفتدخلون
في دين نبي، إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فقال: يا محمد، هل مع هذا غيره؟ فقال: "نعم"، قال: ما ذاك؟ قال:
"المص"، قال: هذا أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون،
والصاد سبعون (8) ، فهذه إحدى وثلاثون (9) ومائة سنة. هل مع هذا يا محمد غيره (10)
؟ قال: "نعم" قال: ما ذاك (11) ؟ قال: "الر". قال: هذا (12) أثقل وأطول،
الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان. فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة. فهل مع
هذا يا محمد غيره؟ قال: "نعم"، قال: ماذا؟ قال: "المر". قال:
فهذه أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه
إحدى وسبعون ومائتان، ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا محمد، حتى ما ندري أقليلا
أعطيت أم كثيرا. ثم قال: قوموا عنه. ثم قال أبو ياسر (13) لأخيه حيي بن أخطب، ولمن
معه من الأحبار: ما يدريكم؟ لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون وإحدى وثلاثون
(14) ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبعمائة وأربع سنين
(15)
. فقالوا: لقد تشابه علينا أمره، فيزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم: {
هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ
وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } [آل عمران: 7] (16) .
__________
(1) في جـ: "أبو إياس".
(2) زيادة من جـ.
(3) في جـ، ط: "من يهود".
(4) زيادة من ب.
(5) في جـ، ط: "أجاءك".
(6) في جـ: "ما نعلمهم".
(7) في أ: "فقال".
(8) في جـ: "تسعون"، وفي ط، ب، أ، و: "ستون".
(9) في جـ: "إحدى وستون".
(10) في جـ، أ، و: "هل مع هذا غيره يا محمد".
(11) في جـ، ط، ب، و: "ماذا".
(12) في جـ، ط، ب: "هذه".
(13) في جـ: "أبو إياس".
(14) في جـ: "إحدى وستون".
(15) في جـ: "أربع وثلاثين سنة".
(16) ورواه البخاري في التاريخ الكبير (2/208) والطبري في تفسيره (1/217) من طريق
ابن إسحاق، وأطنب العلامة أحمد شاكر في الكلام عليه في حاشية تفسير الطبري.
(1/161)
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
فهذا مداره على محمد بن السائب الكلبي، وهو ممن لا يحتج بما انفرد به،
ثم كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحًا أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي
ذكرناها، وذلك يبلغ منه جملة كثيرة، وإن حسبت مع التكرر فأتم وأعظم (1) والله أعلم.
{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) }
قال ابن جُرَيج: قال ابن عباس: "ذَلِكَ الْكِتَابُ" : هذا
الكتاب. وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والسديّ ومقاتل بن حيان، وزيد بن
أسلم، وابن جريج: أن ذلك بمعنى هذا، والعرب تقارض بين هذين الاسمين من أسماء
الإشارة فيستعملون كلا منهما مكان الآخر، وهذا معروف في كلامهم.
و { الْكِتَابُ } القرآن. ومن قال: إن المراد بذلك الكتاب الإشارة
إلى التوراة والإنجيل، كما حكاه ابن جرير وغيره، فقد أبعد النَّجْعَة وأغْرق (2)
في النزع، وتكلف ما لا علم له به.
والرّيب: الشك، قال السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن
مرة الهَمْدانيّ عن ابن مسعود، وعن أناس (3) من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم: { لا رَيْبَ فِيهِ } لا شك فيه.
وقاله أبو الدرداء وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك ونافع مولى
ابن عمر وعطاء وأبو العالية والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان والسدي وقتادة وإسماعيل
بن أبي خالد. وقال ابن أبي حاتم: لا أعلم في هذا خلافًا.
[وقد يستعمل الريب في التهمة قال جميل:
بثينة قالت يا جميل أربتني ... فقلت كلانا يا بثين مريب ...
واستعمل -أيضًا-في الحاجة كما قال بعضهم (4) :
قضينا من تهامة كل ريب ... وخيبر ثم أجمعنا السيوفا] (5)
ومعنى الكلام: أن هذا الكتاب -وهو القرآن-لا شك فيه أنه نزل (6) من عند
الله، كما قال تعالى في السجدة: { الم * تَنزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ } [السجدة: 1، 2]. [وقال بعضهم: هذا خبر ومعناه النهي، أي: لا
ترتابوا فيه] (7) .
ومن القراء من يقف على قوله: { لا رَيْبَ } ويبتدئ بقوله: { فِيهِ هُدًى
لِلْمُتَّقِينَ } والوقف على قوله تعالى: { لا رَيْبَ فِيهِ } أولى للآية التي
ذكرنا، ولأنه يصير قوله: { هُدًى } صفة للقرآن، وذلك أبلغ من كون: { فِيهِ
هُدًى } .
و { هُدًى } يحتمل من حيث العربية أن يكون مرفوعًا على النعت، ومنصوبًا
على الحال.
__________
(1) في و: "أطم وأعظم"، وفي أ: "أعظم وأعظم".
(2) في جـ،:"أغرب".
(3) في جـ، ط: "ناس".
(4) هو كعب بن مالك، والبيت في اللسان، مادة "ريب".
(5) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(6) في جـ، ط، ب: "منزل".
(7) زيادة من جـ، ط.
(1/162)
وخصّت الهداية للمتَّقين. كما قال: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ
عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [فصلت: 44]. { وَنُنزلُ مِنَ
الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ
الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } [الإسراء: 82] إلى غير ذلك من
الآيات الدالة على اختصاص المؤمنين بالنفع بالقرآن؛ لأنه هو في نفسه هدى، ولكن لا
يناله إلا الأبرار، كما قال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ
مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ
لِلْمُؤْمِنِينَ } [يونس: 57] .
وقد قال السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة
الهمداني، عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: { هُدًى
لِلْمُتَّقِينَ } يعني: نورًا (1) للمتقين.
وقال الشعبي: هدى من الضلالة. وقال سعيد بن جبير: تبيان للمتَّقين. وكل
ذلك صحيح.
وقال السدي: عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني،
عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ
} قال: هم المؤمنون (2) .
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة أو
سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { لِلْمُتَّقِينَ } أي: الذين يحذرون من الله
عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به.
وقال أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس: { لِلْمُتَّقِينَ } قال:
المؤمنين الذين يتَّقون (3) الشرك بي، ويعملون بطاعتي.
وقال سفيان الثوري، عن رجل، عن الحسن البصري، قوله: { لِلْمُتَّقِينَ }
قال: اتَّقوا ما حرّم الله عليهم، وأدوا ما افترض عليهم.
وقال أبو بكر بن عياش: سألني الأعمش عن المتَّقين، قال: فأجبته. فقال
[لي] (4) سل عنها الكلبي، فسألته فقال: الذين يجتنبون
كبائر الإثم. قال: فرجعت إلى الأعمش، فقال: نرى أنه كذلك. ولم ينكره.
وقال قتادة { لِلْمُتَّقِينَ } هم الذين نعتهم
الله بقوله: { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ } الآية
والتي بعدها [البقرة: 3، 4].
واختار ابن جرير: أن الآية تَعُمّ ذلك كله، وهو كما قال.
وقد روى الترمذي وابن ماجه، من رواية أبي عقيل عبد الله بن عقيل، عن عبد
الله بن يزيد، عن ربيعة بن يزيد، وعطية بن قيس، عن عطية السعدي، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتَّقين حتى يدع ما لا بأس
به حذرًا مما به بأس (5) . ثم قال الترمذي: حسن غريب (6) .
__________
(1) في جـ، ب: "نور".
(2) في جـ: "يعني نورا للمؤمنين".
(3) في جـ: "يتعوذون".
(4) زيادة من جـ، ط، ب.
(5) في ب: "البأس".
(6) سنن الترمذي برقم (2451) وسنن ابن ماجه برقم (4215).
(1/163)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن عمران، حدثنا إسحاق بن
سليمان، يعني الرازي، عن المغيرة بن مسلم، عن ميمون أبي حمزة، قال: كنت جالسًا عند
أبي وائل، فدخل علينا رجل، يقال له: أبو عفيف، من أصحاب معاذ، فقال له شقيق بن
سلمة: يا أبا عفيف، ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل؟ قال: بلى سمعته يقول: يحبس الناس
يوم القيامة في بقيع واحد، فينادي مناد: أين المتَّقون؟ فيقومون في كَنَفٍ من
الرّحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر. قلت: من
المتَّقون؟ قال: قوم اتَّقوا الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا لله العبادة، فيمرون
إلى الجنة (1) .
وأصل التقوى: التوقي مما يكره لأن أصلها وقوى من الوقاية. قال النابغة:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد ...
وقال الآخر:
فألقت قناعا دونه الشمس واتقت ... بأحسن موصولين كف ومعصم ...
وقد قيل: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، سأل أبيّ بن كعب عن التقوى،
فقال له: أما سلكت طريقًا ذا شوك؟ قال: بلى قال: فما عملت؟
قال: شمرت واجتهدت، قال: فذلك التقوى.
وقد أخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال:
خل الذنوب صغيرها ... وكبيرها ذاك التقى ...
واصنع كماش فوق أر ... ض الشوك يحذر ما يرى ...
لا تحقرن صغيرة ... إن الجبال من الحصى ...
وأنشد أبو الدرداء يومًا:
يريد المرء أن يؤتى مناه ... ويأبى الله إلا ما أرادا ...
يقول المرء فائدتي ومالي ... وتقوى الله أفضل ما استفادا ...
وفي سنن ابن ماجه عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما استفاد المرء بعد تقوى الله خيرًا من زوجة صالحة، إن نظر إليها سرته، وإن
أمرها أطاعته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله" (2) .
{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ (3) }
قال أبو جعفر الرازي، عن العلاء بن المسيب بن رافع، عن أبي إسحاق، عن
أبي الأحوص، عن عبد الله، قال: الإيمان التصديق.
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (1/33) وفي إسناده ميمون القصاب ضعيف.
(2) سنن ابن ماجة برقم (1857) من طريق عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن زيد
عن القاسم، عن أبي أمامة رضي الله عنه، وقال البوصيري في الزوائد (2/70):
"هذا إسناد فيه علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، وعثمان بن أبي العاتكة مختلف فيه".
(1/164)
وقال علي بن أبي طلحة وغيره، عن ابن عباس، { يُؤْمِنُونَ } يصدقون.
وقال مَعْمَر عن الزهري: الإيمان العمل.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس: { يُؤْمِنُونَ } يخشون.
قال ابن جرير وغيره: والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولا واعتقادًا
وعملا قال: وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان، الذي هو تصديق القول بالعمل،
والإيمان كلمة جامعةٌ للإقرار بالله وكتبه ورسله، وتصديق الإقرار بالفعل. قلت: أما
الإيمان في اللغة فيطلق على التصديق المحض، وقد يستعمل في القرآن، والمراد به ذلك،
كما قال تعالى: { يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [التوبة: 61]،
وكما قال إخوة يوسف لأبيهم: { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا
صَادِقِينَ } [يوسف: 17]،
وكذلك إذا استعمل مقرونا مع الأعمال؛ كقوله: { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ } [الإنشقاق: 25، والتين: 6]، فأما إذا استعمل مطلقًا فالإيمان
الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادًا وقولا وعملا.
هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة، بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو
عُبَيد وغير واحد إجماعًا: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. وقد ورد فيه آثار
كثيرة وأحاديث أوردنا (1) الكلام فيها في أول شرح البخاري، ولله الحمد والمنة.
ومنهم من فسره بالخشية، لقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ } [الملك: 12]، وقوله: { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ
بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } [ق: 33]، والخشية خلاصة الإيمان والعلم،
كما قال تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [فاطر: 28] .
وأما الغيب المراد هاهنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه، وكلها صحيحة ترجع
إلى أن الجميع مراد.
قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: { يُؤْمِنُونَ
بِالْغَيْبِ } قال: يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وجنته وناره
ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث، فهذا غيب كله.
وكذا قال قتادة بن دعامة.
وقال السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني
عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (2) صلى الله عليه
وسلم: أما الغَيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة، وأمر النار، وما ذكر في القرآن.
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة، أو عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس: { بِالْغَيْبِ } قال: بما جاء منه، يعني: مِنَ الله تعالى.
وقال سفيان الثوري، عن عاصم، عن زِرّ، قال: الْغَيْب القرآن.
__________
(1) في جـ، ط: "وأفردنا".
(2) في جـ، ط: "رسول الله".
(1/165)
وقال عطاء بن أبي رباح: من آمن بالله فقد آمن بالغيب.
وقال إسماعيل بن أبي خالد: { يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } قال: بغيب
الإسلام.
وقال زيد بن أسلم: { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } قال: بالقدر.
فكل هذه متقاربة في معنى واحد؛ لأن جميع هذه المذكورات من الغيب الذي يجب الإيمان به.
وقال سعيد بن منصور: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن
عبد الرحمن بن يزيد (1) قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا، فذكرنا أصحَاب
النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقوا به، قال: فقال عبد الله: إن أمر محمد صلى
الله عليه وسلم كان بينا لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيمانا أفضل من
إيمان بغيب، ثم قرأ: { الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى
لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } إلى قوله: {
الْمُفْلِحُونَ } [البقرة: 1-5] (2) .
وهكذا رواه ابن أبي حاتم، وابن مَرْدُويه، والحاكم في مستدركه، من طرق،
عن الأعمش، به (3) .
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
وفي معنى هذا الحديث الذي رواه [الإمام] (4) أحمد، حدثنا أبو المغيرة،
أخبرنا الأوزاعي، حدثني أسيد (5) بن عبد الرحمن، عن خالد بن دُرَيك، عن ابن مُحَيريز،
قال: قلت لأبي جمعة: حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم،
أحدثك حديثًا جيدًا: تغدينا (6) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة
بن الجراح، فقال: يا رسول الله، هل أحد (7) خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك. قال:
"نعم"، قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني" (8) .
طريق أخرى: قال أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره: حدثنا عبد الله بن
جعفر، حدثنا إسماعيل عن عبد الله بن مسعود، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا معاوية
بن صالح، عن صالح بن جُبَيْر، قال: قدم علينا أبو جمعة الأنصاري، صاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس، ليصلي فيه، ومعنا يومئذ رجاء بن حيوة، فلما انصرف
(9) خرجنا نشيعه، فلما أراد الانصراف قال: إن لكم جائزة وحقا؛ أحدثكم بحديث سمعته
من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلنا: هات رحمك الله قال: كنا مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة، فقلنا: يا رسول الله، هل من قوم أعظم
أجرًا منا؟ آمنا بك واتبعناك، قال:
__________
(1) في أ: "زيد".
(2) سنن سعيد بن منصور برقم (180) تحقيق د. الحميد.
(3) تفسير ابن أبي حاتم (1/34) والمستدرك (2/260).
(4) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(5) في هـ: "أسد".
(6) في جـ: "فعدنا".
(7) في جـ: "أأحد".
(8) المسند (4/106) قال الحافظ ابن حجر في الإصابة (4/33): "واختلف فيه
على الأوزاعي، فقال الأكثر: عن أسيد عن خالد بن دريك عن ابن محيريز. وقال ابن شماسة:
عن الأوزاعي عن أسيد عن صالح بن محمد حدثني أبو جمعة به" وقال في فتح الباري
(7/6): "إسناده حسن".
(9) في جـ: "انصرفنا".
(1/166)
"ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء، بل
قوم من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجرا"
مرتين (1) .
ثم رواه من حديث ضَمْرَة بن ربيعة، عن مرزوق بن نافع، عن صالح بن جبير،
عن أبي جمعة، بنحوه (2) .
وهذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوِجَادة التي اختلف فيها أهل
الحديث، كما قررته في أول شرح البخاري؛ لأنه مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجرًا
من هذه الحيثية لا مطلقا.
وكذا الحديث الآخر الذي رواه الحسن بن عرفة العبدي: حدثنا إسماعيل بن
عياش الحمصي، عن المغيرة بن قيس التميمي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي الخلق أعجب إليكم إيمانا؟".
قالوا: الملائكة. قال: "وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم؟". قالوا:
فالنبيون. قال: "وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟". قالوا: فنحن.
قال: "وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟". قال: فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "ألا إن أعجب الخلق إليّ إيمانا لَقَوْمٌ يكونون من بعدكم
يَجدونَ صحفا فيها كتاب يؤمنون بما فيها" (3) .
قال أبو حاتم الرازي: المغيرة بن قيس البصري منكر الحديث.
قلت: ولكن قد روى أبو يعلى في مسنده، وابن مردويه في
تفسيره، والحاكم في مستدركه، من حديث محمد بن أبي حميد، وفيه ضعف، عن زيد بن أسلم،
عن أبيه، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله أو نحوه. وقال الحاكم: صحيح الإسناد،
ولم يخرجاه (4) وقد روي نحوه عن أنس بن مالك مرفوعًا (5) ، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن محمد المسندي، حدثنا
إسحاق بن إدريس، أخبرني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن سلمة الأنصاري، أخبرني جعفر
بن محمود، عن جدته تويلة (6) بنت أسلم، قالت: صليت الظهر أو العصر في مسجد بني
حارثة، فاستقبلنا مسجد إيلياء (7) ، فصلينا سجدتين، ثم جاءنا من يخبرنا: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت (8) الحرام، فتحول
النساء مكان الرجال، والرجال مكان النساء، فصلينا السجدتين الباقيتين، ونحن
مستقبلون (9) البيت الحرام.
قال إبراهيم: فحدثني رجال من بني حارثة: أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم حين بلغه ذلك قال: "أولئك قوم
__________
(1) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (4/23) عن بكر بن سهل عن عبد الله بن
صالح به.
(2) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (4/23) من طريق ضمرة بن ربيعة به.
(3) جزء الحسن بن عرفة برقم (19).
(4) مسند أبي يعلى (1/147) والمستدرك (4/85) وتعقب الذهبي الحاكم فقال:
"بل ضعفوه".
(5) رواه البزار في مسنده (2840) "كشف الأستار" من طريق سعيد بن
بشير، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه، وقال: "غريب من حديث أنس".
(6) في هـ: "نويلة".
(7) في جـ: "المسجد الأقصى".
(8) في جـ، ط: "بيت الله".
(9) في طـ، ب، أ، و: "مستقبلوا".
(1/167)
آمنوا بالغيب" (1) .
هذا حديث غريب من هذا الوجه.
{ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومما رزقناهم ينفقون 3 }
قال ابن عباس: أي: يقيمون الصلاة بفروضها.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: إقامة (2) الصلاة إتمام (3) الركوع والسجود
والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها.
وقال قتادة: إقامة (4) الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها، وركوعها
وسجودها.
وقال مقاتل بن حيان: إقامتها: المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطهور
فيها (5) وتمام ركوعها وسجودها (6) وتلاوة القرآن فيها،
والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا إقامتها.
وقال علي بن أبي طلحة، وغيره عن ابن عباس: { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ } قال: زكاة أموالهم.
وقال السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن
مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله (7) صلى الله عليه وسلم { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ } قال: هي نفقة الرجل على أهله، وهذا قبل أن تنزل الزكاة.
وقال جُوَيْبر، عن الضحاك: كانت النفقات قربات (8) يتقربون بها إلى الله
على قدر ميسرتهم وجهدهم، حتى نزلت فرائض الصدقات: سبعُ آيات في سورة براءة، مما
يذكر فيهن الصدقات، هن الناسخات المُثْبَتَات.
وقال قتادة: { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } فأنفقوا مما أعطاكم
الله، هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم، يوشك أن تفارقها.
واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات، فإنه قال: وأولى
التأويلات وأحقها بصفة القوم: أن يكونوا لجميع اللازم لهم في أموالهم مُؤَدّين،
زكاة كان ذلك أو نفقة مَنْ لزمته نفقته، من أهل أو عيال وغيرهم، ممن تجب عليهم نفقته
بالقرابة والملك وغير ذلك؛ لأن الله تعالى عم وصفهم ومدحهم بذلك، وكل من الإنفاق
والزكاة ممدوح به محمود عليه.
قلت: كثيرًا ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال، فإن
الصلاة حق الله وعبادته، وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه، وتمجيده والابتهال إليه،
ودعائه والتوكل عليه؛ والإنفاق هو
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (1/36) وفي إسناده إسحاق بن إدريس قال البخاري:
"تركه الناس". وقال ابن معين: "يضع الحديث". ورواه الطبراني
في المعجم الكبير (24/207) من طريق إبراهيم بن حمزة الزبيري، عن إبراهيم بن جعفر عن
أبيه به نحوه.
(2) في جـ، ط: "إقام".
(3) في جـ، ط، ب: "تمام".
(4) في طـ: "إقام".
(5) في جـ: "لها".
(6) في جـ: "وإتمام الركوع والسجود".
(7) في جـ: "النبي".
(8) في جـ، ط، ب: "قربانا".
(1/168)
الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم، وأولى الناس بذلك القرابات
والأهلون والمماليك، ثم الأجانب، فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في
قوله تعالى: { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن
عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة
أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت"
(1) . والأحاديث في هذا كثيرة.
وأصل الصلاة في كلام العرب الدعاء، قال الأعشى:
لها حارس لا يبرحُ الدهرَ بَيْتَها ... وإن ذُبحَتْ صلى عليها وزَمْزَما
(2)
وقال أيضًا (3) وقابلها الريح في دَنّها ... وصلى على دَنّها وارتسم (4)
أنشدهما ابن جرير مستشهدا على ذلك.
وقال الآخر -وهو الأعشى أيضًا-:
تقول بنتي وقد قَرَّبتُ مرتحلا ... يا رب جنب أبي الأوصابَ والوَجَعَا ...
عليكِ مثلُ الذي صليتِ فاغتمضي ... نوما فإن لِجَنب المرء مُضْطجعا ...
يقول: عليك من الدعاء مثل الذي دعيته لي. وهذا ظاهر، ثم
استعملت الصلاة في الشرع في ذات الركوع والسجود والأفعال المخصوصة في الأوقات
المخصوصة، بشروطها المعروفة، وصفاتها، وأنواعها [المشروعة] (5) المشهورة.
وقال ابن جرير: وأرى أن الصلاة المفروضة سميت صلاة؛ لأن المصلي
يتعرض لاستنجاح طلبتَه من ثواب الله بعمله، مع ما يسأل ربه من (6) حاجته (7) .
[وقيل: هي مشتقة من الصلَوَيْن إذا تحركا في الصلاة عند (8) الركوع، وهما
عرقان يمتدان من الظهر حتى يكتنفا (9) عجب الذنب، ومنه سمي المصلي؛ وهو الثاني
للسابق في حلبة الخيل، وفيه نظر، وقيل: هي مشتقة من الصلى، وهو الملازمة للشيء من قوله:
{ لا يَصْلاهَا } أي: يلزمها ويدوم فيها { إِلا الأشْقَى } [الليل: 15] وقيل: مشتقة من
تصلية الخشبة في النار لتقوّم، كما أن المصلي يقوّم عوجه بالصلاة: { إِنَّ
الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ }
[العنكبوت: 45] واشتقاقها من الدعاء أصح وأشهر، والله أعلم] (10) .
وأما الزكاة فسيأتي الكلام عليها في موضعه، إن شاء الله.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (8) وصحيح مسلم برقم (16).
(2) البيت في تفسير الطبري (1/242).
(3) في ب: "الآخر".
(4) البيت في تفسير الطبري (1/242).
(5) زيادة من ط.
(6) في جـ، ط، ب، أ، و: "فيها".
(7) في أ، و: "حاجاته".
(8) في أ: "في".
(9) في أ: "يكشفا".
(10) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(1/169)
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
{ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ
قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) }
قال ابن عباس: { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا
أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ } أي: يصدقون بما جئت به من الله، وما جاء به مَنْ قبلك من المرسلين،
لا يفرقون بينهم، ولا يجحدون ما جاؤوهم به من ربهم { وَبِالآخِرَةِ
هُمْ يُوقِنُونَ } أي: بالبعث والقيامة، والجنة، والنار، والحساب، والميزان.
وإنما سميت الآخرة لأنها بعد الدنيا، وقد اختلف المفسرون في الموصوفين
هاهنا: هل هم الموصوفون بما تقدم من قوله تعالى: { الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ } [البقرة: 3] ومن هم؟ على ثلاثة أقوال حكاها ابن جرير:
أحدهما (1) : أن الموصوفين أوّلا هم الموصوفون ثانيًا، وهم كل مؤمن،
مؤمنو العرب ومؤمنو أهل الكتاب وغيرهم، قاله مجاهد، وأبو العالية، والربيع بن أنس،
وقتادة.
والثاني: هما واحد، وهم مؤمنو أهل الكتاب، وعلى هذين تكون الواو عاطفة
صفات على صفات، كما قال تعالى: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى * الَّذِي خَلَقَ
فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي
أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى } [الأعلى: 1-5] وكما قال الشاعر:
إلى الملك القَرْم وابن الهُمام ... وليثِ الكتيبة في المُزْدَحَم ...
فعطف الصفات بعضها على بعض، والموصوف واحد.
والثالث: أن الموصوفين أولا مؤمنو العرب، والموصوفون ثانيا
بقوله: { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ
قَبْلِكَ } الآية مؤمنو (2) أهل الكتاب، نقله السدي في تفسيره، عن ابن عباس وابن
مسعود وأناس من الصحابة، واختاره ابن جرير، ويستشهد لما قال بقوله تعالى: {
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ
إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ } الآية [آل عمران: 199]، وبقوله تعالى: {
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا
يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا
كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ
يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ
السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [القصص: 52-54]. وثبت في
الصحيحين، من حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى: أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي،
ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها
وتزوجها" (3) .
وأما ابن جرير فما استشهد على صحة ما قال إلا بمناسبة، وهي أن الله وصف
في أول هذه السورة المؤمنين والكافرين، فكما أنه صنف الكافرين إلى صنفين: منافق وكافر،
فكذلك المؤمنون صنفهم إلى عربي وكتابي.
قلت: والظاهر قول مجاهد فيما رواه الثوري، عن رجل، عن مجاهد. ورواه غير
واحد، عن
__________
(1) في جـ، ط، ب، أ، و: "أحدها".
(2) في جـ، ط، ب: "لمؤمني".
(3) صحيح البخاري برقم (97) وصحيح مسلم برقم (154).
(1/170)
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
(5)
ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد أنه قال: أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت
المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين، فهذه الآيات الأربع
عامة في كل مؤمن اتصف بها من عربي وعجمي، وكتابي من إنسي وجني، وليس تصح واحدة من
هذه الصفات بدون الأخرى، بل كل واحدة مستلزمة للأخرى وشرط معها، فلا يصح الإيمان
بالغيب وإقام الصلاة والزكاة إلا مع الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه
وسلم، وما جاء به مَنْ قبله من الرسل والإيقان بالآخرة، كما أن هذا لا يصح إلا
بذاك، وقد أمر الله تعالى المؤمنين بذلك، كما قال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نزلَ عَلَى رَسُولِهِ
وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزلَ مِنْ قَبْلُ } الآية [النساء: 136]. وقال: { وَلا
تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزلَ إِلَيْنَا وَأُنزلَ
إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ } الآية [العنكبوت:46] . وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نزلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ }
[النساء: 47] وقال تعالى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ
حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ
رَبِّكُمْ } [المائدة: 68] وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك، فقال تعالى:
{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ
آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْ رُسُلِهِ } الآية [البقرة: 285] وقال: { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ
} [النساء: 152] وغير ذلك من الآيات الدالة على أمْر جميع المؤمنين بالإيمان بالله
ورسله وكتبه. لكن لمؤمني أهل الكتاب خصوصية، وذلك أنهم مؤمنون بما بأيديهم (1)
مفصلا فإذا دخلوا في الإسلام وآمنوا به مفصلا كان لهم على ذلك الأجر مرتين، وأما
غيرهم فإنما يحصل له الإيمان، بما تقدم مجملا كما جاء في الصحيح: "إذا حدثكم
أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، ولكن قولوا: آمنا بالذي (2) أنزل إلينا وأنزل
إليكم" (3) ولكن قد يكون إيمان كثير من العرب
بالإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل وأعم وأشمل من إيمان من
دخل منهم في الإسلام، فهم وإن حصل لهم أجران من تلك الحيثية، فغيرهم [قد] (4) يحصل
له من التصديق ما يُنيف ثوابه على الأجرين اللذين حصلا لهم، والله أعلم.
{ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
(5)
}
يقول الله تعالى: { أُولَئِكَ } أي: المتصفون بما تقدم: من الإيمان
بالغيب، وإقام الصلاة، والإنفاق من الذي رزقهم الله، والإيمان بما أنزل الله إلى الرسول
ومَنْ قبله من الرسل، والإيقان بالدار الآخرة، وهو يستلزم الاستعداد لها من العمل
بالصالحات وترك المحرمات.
{ عَلَى هُدًى } أي: نور وبيان وبصيرة من الله تعالى. { وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ } أي: في الدنيا والآخرة.
__________
(1) في جـ: "بما في أيديهم".
(2) في طـ، ب، أ، و: "بما".
(3) صحيح البخاري برقم (4485، 7362) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) زيادة من طـ، ب.
(1/171)
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة أو سعيد بن
جُبَيْر، عن ابن عباس: { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ } أي: على نور من
ربهم، واستقامة على ما جاءهم، { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي: الذين أدركوا
ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا.
وقال ابن جرير: وأما معنى قوله: { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ
} فإن معنى ذلك: أنهم على نور من ربهم، وبرهان واستقامة وسداد، بتسديد الله إياهم،
وتوفيقه لهم وتأويل قوله: { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي المُنْجِحون
المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله، من الفوز بالثواب،
والخلود في الجنات، والنجاة مما أعد الله لأعدائه من العقاب (1) .
وقد حكى ابن جرير قولا عن بعضهم أنه أعاد اسم الإشارة في قوله تعالى: { أُولَئِكَ عَلَى
هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } إلى مؤمني أهل
الكتاب الموصوفين بقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ }
الآية، على ما تقدم من الخلاف. [قال] (2) وعلى هذا فيجوز أن يكون قوله تعالى: {
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ } منقطعا (3) مما قبله، وأن يكون
مرفوعًا على الابتداء وخبره { [ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَ]
أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (4) واختار أنه عائد
إلى جميع من تقدم ذكره من مؤمني العرب وأهل الكتاب، لما رواه السدي عن أبي مالك،
وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما الذين يؤمنون بالغيب، فهم المؤمنون من العرب،
والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك هم المؤمنون من أهل الكتاب. ثم جمع
الفريقين فقال: { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } وقد تقدم من
الترجيح أن ذلك صفة للمؤمنين عامة، والإشارة عائدة عليهم، والله أعلم. وقد نقل هذا
عن مجاهد، وأبي العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، رحمهم الله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري،
حدثنا أبي، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثني عبيد الله بن المغيرة عن أبي الهيثم واسمه
سليمان بن عبد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل له: يا
رسول الله، إنا نقرأ من القرآن فنرجو، ونقرأ من القرآن فنكاد أن نيأس، أو كما قال.
قال: فقال: "أفلا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار؟". قالوا: بلى يا رسول
الله. قال:" { الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ } " إلى قوله
تعالى: { الْمُفْلِحُونَ } هؤلاء أهل الجنة". قالوا: إنا نرجو
أن نكون هؤلاء. ثم قال :" { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ }
" إلى قوله: { عَظِيمٌ } هؤلاء أهل النار". قالوا: لسنا هم يا رسول
الله. قال: "أجل " (5) .
__________
(1) تفسير الطبري (1/249).
(2) زيادة من جـ، ب، أ، و.
(3) في جـ، ط، ب، أ، و: "مقتطعا".
(4) زيادة من جـ، ط، ب.
(5) تفسير ابن أبي حاتم (1/40).
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ
لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى
سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ
(8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا
أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ
مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ
لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ
لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ
أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا
الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا
إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ
يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ
الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا
كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
البقرة - تفسير ابن كثير
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ
لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ
لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) }
يقول تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي: غَطوا الحق وستروه، وقد
كتب الله تعالى عليهم ذلك، سواء عليهم إنذارك وعدمه، فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم
به، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ
* وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [يونس:
96، 97] وقال في حق المعاندين من أهل الكتاب: { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } الآية [البقرة: 145]
أي: إن من (1) كتب الله عليه الشقاوة فلا مُسْعِد له، ومن أضلَّه فلا هادي له، فلا
تذهب نفسك عليهم حسرات، وبلّغهم الرّسالة، فمن استجاب لك فله الحظ الأوفر، ومن
تولى فلا تحزن عليهم ولا يُهْمِدَنَّك ذلك؛ { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ
وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [الرعد: 40]، و { إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [هود: 12] .
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ } قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرصُ أن يؤمن جميع النَّاس
ويُتَابعوه على الهدى، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله
السعادةُ في الذكر الأوّل، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأوّل.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن
جبير، عن ابن عباس: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي: بما أنزل إليك، وإن قالوا:
إنَّا قد آمنا بما جاءنا قبلك { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ
تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } أي: إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك، وجحدوا ما
أخذ عليهم من الميثاق، فقد (2) كفروا بما جاءك، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك، فكيف
يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا، وقد كفروا بما عندهم من علمك؟!
وقال أبو جعفر الرّازي، عن الرّبيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: نزلت
هاتان الآيتان في قادة الأحزاب، وهم الذين قال الله فيهم: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ *
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا } [إبراهيم: 28، 29] .
والمعنى الذي ذكرناه أوّلا وهو المروي عن ابن عباس في رواية علي بن أبي
طلحة، أظهر، ويفسر (3) ببقية الآيات التي في معناها، والله أعلم.
وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثًا، فقال: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن
عثمان بن صالح المصري، حدثنا أبي، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثني عبد الله بن المغيرة،
عن أبي الهيثم (4) عن عبد الله بن عمرو، قال: قيل: يا رسول الله، إنَّا نقرأ من القرآن
فنرجو، ونقرأ فنكاد أن نيأس، فقال: "ألا أخبركم"، ثم قال: { إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ } هؤلاء أهل النار". قالوا: لسنا منهم يا رسول الله؟ قال:
"أجل" (5) .
__________
(1) في جـ: "إلا أنه من".
(2) في جـ، ط، ب: "وقد".
(3) في جـ: "وتفسيره"، وفي طـ، ب: "ويفسره".
(4) في جـ: "القسم".
(5) تفسير ابن أبي حاتم (1/42).
(1/173)
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ
غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
[وقوله: { لا يُؤْمِنُونَ } محله من الإعراب أنه جملة مؤكدة
للتي قبلها: { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ } أي هم كفار في كلا الحالين؛ فلهذا أكد ذلك بقوله: { لا يُؤْمِنُونَ
} ويحتمل أن يكون { لا يُؤْمِنُونَ } خبرًا لأن تقديره: إن الذين كفروا لا يؤمنون،
ويكون قوله: { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } جملة معترضة،
والله أعلم] (1) .
{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ
غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) }
قال السّدي: { خَتَمَ اللَّهُ } أي: طبع الله، وقال قتادة في هذه الآية: استحوذ عليهم
الشيطان إذ أطاعوه؛ فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، فهم لا
يبصرون هدى ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون.
وقال ابن جُرَيْج: قال مجاهد: { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ }
قال: نبئت أن الذنوب على القلب تحف به (2) من كل نواحيه حتى تلتقي عليه، فالتقاؤها
عليه الطبع، والطبع الختم، قال ابن جريج: الختم على القلب والسمع.
قال ابن جُرَيْج: وحدثني عبد الله بن كَثير، أنه سمع مجاهدًا يقول:
الرّانُ أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الأقفال، والأقفال أشد من ذلك كله.
وقال الأعمش: أرانا مجاهد بيده فقال: كانوا يرون أن القلب في مثل هذه
(3) -يعني: الكف-فإذا أذنب العبد ذنبًا ضُمَّ منه، وقال
بأصبعه الخنصر هكذا، فإذا أذنب ضَمّ. وقال بأصبع أخرى، فإذا أذنب ضُمّ. وقال بأصبع
أخرى وهكذا، حتى ضم أصابعه كلها، ثم قال (4) : يطبع عليه بطابع.
وقال مجاهد: كانوا (5) يرون أن ذلك: الرين.
ورواه ابن جرير: عن أبي كُرَيْب، عن وَكِيع، عن الأعمش، عن مجاهد، بنحوه.
قال ابن جرير: وقال بعضهم: إنما معنى قوله: { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ
} إخبار من الله عن تكبرهم، وإعراضهم عن الاستماع لما دُعُوا إليه من الحق، كما
يقال: إن فلانًا لأصَمّ عن هذا الكلام، إذا امتنع من سماعه، ورفع (6) نفسه عن
تفهمه تكبرًا.
قال: وهذا لا يصح؛ لأن الله قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم
وأسماعهم.
(قلت): وقد أطنب الزمخشري في تقرير ما رده ابن جرير
هاهنا وتأول الآية من خمسة أوجه وكلها ضعيفة جدًا، وما جرأه على ذلك إلا اعتزاله؛
لأن الختم على قلوبهم ومنعها من وصول الحق إليها قبيح عنده -تعالى الله عنه في اعتقاده-ولو
فهم قوله تعالى: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } وقوله {
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } وما أشبه ذلك من الآيات
الدالة على أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحال بينهم وبين الهدى جزاءً وفاقًا على
تماديهم في الباطل وتركهم الحق، وهذا عدل منه تعالى حسن وليس بقبيح، فلو أحاط
علمًا بهذا لما قال ما قال، والله أعلم.
قال القرطبي: وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل قد وصف نفسه بالختم
والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم كما قال: { بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا
بِكُفْرِهِمْ } وذكر حديث تقليب القلوب: "ويا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على
دينك"، وذكر حديث حذيفة الذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة
سوداء وأي قلب أنكرها
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(2) في جـ، ط، ب، أ، و: "وقال: الطبع ينبت الذنوب على القلب فحفت به".
(3) في جـ، ط، ب، أ، و: "هذا".
(4) في طـ، ب: "قال: ثم".
(5) في جـ، ط، ب: "وكانوا".
(6) في جـ: "يرفع".
(1/174)
نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفاء فلا تضره
فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباد كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا
ينكر منكرًا" الحديث.
قال (1) والحق عندي في ذلك ما صَحّ بنظيره (2) الخبرُ عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما حدثنا به محمد بن بشار، حدثنا صفوان بن عيسى،
حدثنا ابن عَجْلان، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم:(إن المؤمن إذا أذنب ذنبًا كانت نُكْتة سوداء في قلبه فإن تاب
ونزعَ واستعتب صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله
تعالى: { كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [المطففين:
14] (3) .
وهذا الحديث من هذا الوجه قد رواه الترمذي والنسائي، عن قتيبة، عن الليث
بن سعد، وابن ماجه عن هشام بن عمار عن حاتم بن إسماعيل والوليد بن مسلم، ثلاثتهم عن
محمد بن عجلان، به (4) .
وقال الترمذي: حسن صحيح.
ثم قال ابن جرير: فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا
تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله تعالى
والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك، ولا للكفر عنها (5) مخلص، فذلك (6) هو الختم
والطبع الذي ذكر (7) في قوله تعالى: { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى
سَمْعِهِمْ } نظير الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف، التي لا
يوصل إلى ما فيها إلا بفض (8) ذلك عنها ثم حلها، فكذلك (9) لا يصل الإيمان
إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم وعلى سمعهم إلا بعد فض خاتمه وحَلّه
رباطه [عنها] (10) .
واعلم أن الوقف التام على قوله تعالى: { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى
قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } ،
وقوله { وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } جملة تامة، فإن الطبع يكون على القلب
وعلى السمع، والغشاوة -وهي الغطاء-تكون على البصر، كما قال السدي في تفسيره عن أبي
مالك، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن أناس من
أصحاب رسول الله (11) صلى الله عليه وسلم في قوله: { خَتَمَ اللَّهُ
عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } يقول: فلا يعقلون ولا يسمعون، ويقول: وجعل
على أبصارهم غشاوة، يقول: على أعينهم فلا يبصرون.
قال (12) ابن جرير: حدثني محمد بن سعد (13) حدثنا أبي،
حدثني عمي الحسين بن الحسن، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس: { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى
قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } والغشاوة على أبصارهم.
وقال: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، يعني ابن داود، وهو سُنَيد، حدثني
حجاج، وهو ابن محمد الأعور، حدثني ابن جريج قال : الختم على القلب والسمع،
والغشاوة على البصر، قال الله تعالى : { فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى
قَلْبِكَ } [الشورى: 24]،
وقال { وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً }
[الجاثية: 23] (14) .
__________
(1) في جـ، ط: "قال ابن جرير"
(2) في جـ: "ما صح به بنظره".
(3) تفسير الطبري (1/260).
(4) سنن الترمذي برقم (3334) وسنن النسائي الكبرى برقم (11658) وسنن ابن
ماجة برقم (4244).
(5) في أ، و: "منها".
(6) في جـ: "فلذلك".
(7) في و: "ذكره الله".
(8) في جـ: "إلى نقض".
(9) في جـ: "فلذلك".
(10) زيادة من جـ، ط.
(11) في جـ، ط: "النبي".
(12) في جـ، ط: "وقال".
(13) في أ: "سفيان".
(14) تفسير الطبري (1/265).
(1/175)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ
الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ
آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
قال (1) ابن جرير: ومن نصب غشاوة من قوله تعالى: { وَعَلَى
أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } يحتمل (2) أنه نصبها بإضمار فعل، تقديره: وجعل
على أبصارهم غشاوة، ويحتمل أن يكون نصبها على الإتباع، على محل { وَعَلَى
سَمْعِهِمْ } كقوله تعالى: { وَحُورٌ عِينٌ } [الواقعة: 22]، وقول الشاعر:
عَلَفْتُها تبنًا وماء باردًا ... حتى شَتتْ هَمَّالَةً عيناها (3)
وقال الآخر:
ورأيت زَوْجَك في الوغى ... متقلِّدًا سيفًا ورُمْحًا (4)
تقديره: وسقيتها ماء باردًا، ومعتَقِلا رمحًا.
لما تقدم وصف المؤمنين في صدر السورة بأربع آيات، ثم عرّف حال الكافرين
بهاتين الآيتين، شرع تعالى في بيان حال المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر،
ولما كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس أطنب في ذكرهم بصفات متعددة، كل منها
نفاق، كما أنزل (5) سورة براءة فيهم، وسورة المنافقين فيهم، وذكرهم في سورة النور
وغيرها من السور، تعريفا لأحوالهم لتجتنب، ويجتنب من تلبس (6) بها أيضًا، فقال
تعالى:
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ
وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا
يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) }
النفاق: هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع: اعتقادي، وهو الذي يخلد
صاحبه في النار، وعملي وهو من أكبر الذنوب، كما سيأتي تفصيله (7) في موضعه، إن شاء
الله تعالى، وهذا كما قال ابن جريج: المنافق يخالف قَوْلُه فِعْلَهُ، وسِرّه
علانيته، ومدخله مخرجه، ومشهده مَغِيبه.
وإنما نزلت صفات المنافقين في السّور المدنية؛ لأن مكة لم يكن فيها
نفاق، بل كان خلافه، من الناس من كان يظهر الكفر مُسْتَكْرَها، وهو في الباطن
مؤمن، فلمَّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان بها الأنصار من
الأوس والخزرج، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام، على طريقة مشركي العرب، وبها
اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم، وكانوا ثلاث قبائل: بنو قَيْنُقَاع حلفاء
الخزرج، وبنو النَّضِير، وبنو قُرَيْظَة حلفاء الأوس، فلمَّا قدم رسول الله صلى
الله عليه وسلم المدينة، وأسلم من أسلم
__________
(1) في جـ: "وقال".
(2) في جـ، ط: "فيحتمل".
(3) البيت في تفسير الطبري (1/264).
(4) البيت في تفسير الطبري (1/265) وهو للحارث المخزومي.
(5) في جـ: "كما أنزلت".
(6) في جـ: "يتلبس".
(7) في جـ: "تفسيره".
(1/176)
من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج، وقل من أسلم من اليهود إلا عبد
الله بن سَلام، رضي الله عنه، ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضا؛ لأنه لم يكن للمسلمين بعد
شوكة تخاف، بل قد كان، عليه الصلاة والسلام، وَادَعَ اليهود وقبائل كثيرة من أحياء
العرب حوالي المدينة، فلما كانت وقعة بدر العظمى وأظهر الله كلمته، وأعلى الإسلام
وأهله، قال عبد الله بن أبيّ بن سلول، وكان رأسا في المدينة، وهو من الخزرج، وكان
سيد الطائفتين في الجاهلية، وكانوا قد عزموا على أن يملّكوه عليهم، فجاءهم الخير
وأسلموا، واشتغلوا عنه، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله، فلما كانت وقعة بدر قال:
هذا أمر قد تَوَجَّه فأظهر الدخول في الإسلام، ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته
ونحلته، وآخرون من أهل الكتاب، فمن ثَمّ وُجِد النفاق في أهل المدينة ومن حولها من
الأعراب، فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد، لأنه لم يكن أحد يهاجر مكرَهًا، بل
يهاجر ويترك ماله، وولده، وأرضه رغبة فيما عند الله في الدار الآخرة.
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكْرِمة، أو سعيد بن
جُبَيْر، عن ابن عباس: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ
الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } يعني: المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على
أمرهم.
وكذا فسَّرها بالمنافقين أبو العالية، والحسن، وقتادة، والسدي.
ولهذا نبَّه الله، سبحانه، على صفات المنافقين لئلا يغترّ بظاهر أمرهم
المؤمنون، فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم، وهم
كفار في نفس الأمر، وهذا من المحذورات الكبار، أن يظن بأهل الفجور خَيْر، فقال تعالى:
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا
هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } أي: يقولون ذلك قولا ليس وراءه شيء آخر، كما قال تعالى: {
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ }
[المنافقون: 1] أي: إنما يقولون ذلك إذا جاؤوك فقط، لا في نفس الأمر؛ ولهذا يؤكدون
في الشهادة بإن ولام التأكيد في خبرها؛ كما أكَّدوا قولهم: { آمَنَّا بِاللَّهِ
وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ } وليس الأمر كذلك، كما أكْذبهم الله في شهادتهم،
وفي خبرهم هذا بالنسبة إلى اعتقادهم، بقوله: { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [المنافقون: 1]،
وبقوله { وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ }
وقوله تعالى: { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا } أي:
بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر، يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله
بذلك، وأن ذلك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما يروج على بعض المؤمنين، كما قال
تعالى: { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا
فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى
شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [المجادلة: 18]؛ ولهذا قابلهم على
اعتقادهم ذلك بقوله: { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }
يقول:
وما يَغُرُّون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم، وما يشعرون بذلك من أنفسهم،
كما قال تعالى: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ
} [النساء: 142].
ومن القراء من قرأ: "وَمَا يُخَادِعُونَ (1) إِلا
أَنفُسَهُمْ"، وكلا القراءتين ترجع إلى معنى واحد.
__________
(1) في جـ، ط، ب: "يخدعون".
(1/177)
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
قال ابن جرير: فإن قال قائل: كيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعًا،
وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية؟
قيل: لا تمتنع (1) العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير
الذي في ضميره تقية، لينجو مما هو له خائف، مخادعا، فكذلك المنافق، سمي مخادعا لله
وللمؤمنين، بإظهاره ما أظهر (2) بلسانه تقية، مما تخلص به من القتل والسباء (3) والعذاب العاجل،
وهو لغير ما أظهر، مستبطن، وذلك من فعلِه -وإن كان خداعًا للمؤمنين في عاجل
الدنيا-فهو لنفسه بذلك من فعله خادع، لأنه يُظْهِر لها بفعله ذلك بها أنَّه يعطيها
أمنيّتها، ويُسقيها كأس (4) سرورها، وهو موردها حياض عطبها، ومُجرّعها بها كأس
عذابها، ومُزيرُها (5) من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبَلَ لها به، فذلك خديعته
نفسه، ظنًا منه -مع إساءته إليها في أمر معادها-أنه إليها محسن، كما قال تعالى: {
وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } إعلامًا منه عِبَادَه
المؤمنين أنّ المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسْخَاطهم (6) عليها ربهم بكفرهم،
وشكهم وتكذيبهم، غير شاعرين ولا دارين، ولكنهم على عمياء من أمرهم مقيمون (7) .
وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا عليّ بن المبارك، فيما كتب إليّ، حدثنا زيد
بن المبارك، حدثنا محمد بن ثور، عن ابن جُرَيْج، في قوله تعالى: { يُخَادِعُونَ
اللَّهَ } قال: يظهرون "لا إله إلا الله" يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم
وأموالهم، وفي أنفسهم غير ذلك (8) .
وقال سعيد، عن قتادة: { وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ *
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ
وَمَا يَشْعُرُونَ } نعت المنافق عند كثير: خَنعُ الأخلاق يصدّق بلسانه وينكر
بقلبه ويخالف بعمله، يصبح على حال ويمسي على غيره، ويمسي على حال ويصبح على غيره،
ويتكفأ تكفأ السفينة كلما هبَّت ريح هبّ معها.
{ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) }
قال السدي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة الهمداني
عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: { فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ } قال: شَكٌّ، { فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } قال: شكًّا.
وقال [محمد] (9) بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة، أو سعيد
بن جبير، عن ابن عباس [في قوله] (10) { : فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } قال: شك.
__________
(1) في جـ: "لا تمنع".
(2) في أ، و: "ما أظهره".
(3) في أ: "السبي".
(4) في جـ: "بكأس".
(5) في أ: "ويزيدها".
(6) في جـ: "بإسخاطهم".
(7) تفسير الطبري (1/273).
(8) تفسير ابن أبي حاتم (1/46).
(9) زيادة من و.
(10) زيادة من جـ.
(1/178)
وكذلك قال مجاهد، وعكرمة، والحسن البصري، وأبو العالية، والرّبيع بن
أنس، وقتادة.
وعن عكرمة، وطاوس: { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } يعني: الرياء.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } قال: نفاق {
فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } قال: نفاقا، وهذا كالأول.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } قال: هذا
مرض في الدين، وليس مرضًا في الأجساد، وهم المنافقون. والمرض: الشك الذي دخلهم في الإسلام
{ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } قال: زادهم رجسًا، وقرأ: { فَأَمَّا
الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ }
[التوبة: 124، 125] قال: شرًا إلى شرهم وضلالة إلى ضلالتهم.
وهذا الذي قاله عبد الرحمن، رحمه الله، حسن، وهو الجزاء من جنس العمل،
وكذلك قاله الأولون، وهو نظير قوله تعالى أيضًا: { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا
زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [محمد: 17].
وقوله { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } وقرئ: "يكذّبون"، وقد كانوا
متصفين بهذا وهذا، فإنهم كانوا كذبة يكذبون بالحق يجمعون بين هذا وهذا. وقد سئل
القرطبي وغيره من المفسرين عن حكمة كفه، عليه السلام، عن قتل المنافقين مع علمه
بأعيان بعضهم، وذكروا أجوبة عن ذلك منها ما ثبت في الصحيحين: أنه قال لعمر:
"أكره أن يتحدث العرب أن محمدًا يقتل أصحابه" (1) ومعنى هذا خشية
أن يقع بسبب ذلك تغير لكثير من الأعراب عن الدخول في الإسلام ولا يعلمون حكمة قتله
لهم، وأن قتله إياهم إنما هو على الكفر، فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم
فيقولون: إن محمدًا يقتل أصحابه، قال القرطبي: وهذا قول علمائنا وغيرهم كما كان
يعطي المؤلفة قلوبهم مع علمه بشر اعتقادهم. قال ابن عطية: وهي طريقة أصحاب مالك نص
عليه محمد بن الجهم والقاضي إسماعيل والأبهري وابن الماجشون. ومنها: ما قال مالك،
رحمه الله: إنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
المنافقين ليبين لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه.
قال القرطبي: وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل
بعلمه، وإن اختلفوا في سائر الأحكام، قال: ومنها ما قال الشافعي: إنما منع رسول
الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم
بنفاقهم؛ لأن ما يظهرونه يجبّ ما قبله. ويؤيد هذا قوله، عليه الصلاة والسلام، في
الحديث المجمع على صحته في الصحيحين وغيرهما: "أمرت أن أقاتل الناس حتى
يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم
على الله، عز وجل" (2) . ومعنى هذا: أن من قالها جرت عليه أحكام الإسلام
ظاهرًا، فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الدار الآخرة، وإن لم يعتقدها لم ينفعه
في الآخرة جريان الحكم عليه في الدنيا، وكونه كان
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4902) وصحيح مسلم برقم (3314).
(2) صحيح البخاري برقم (25) وصحيح مسلم برقم (22) من حديث ابن عمرو رضي الله
عنهما.
(1/179)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا
نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ
(12)
خليط أهل الإيمان { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا
بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ
وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ } الآية [الحديد: 14]، فهم
يخالطونهم في بعض المحشر، فإذا حقت المحقوقية تميزوا منهم وتخلفوا بعدهم { وَحِيلَ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } [سبأ: 54] ولم يمكنهم أن يسجدوا معهم كما
نطقت بذلك الأحاديث، ومنها ما قاله بعضهم: أنه إنما لم يقتلهم لأنه كان يخاف من
شرهم مع وجوده، عليه السلام، بين أظهرهم يتلو عليهم آيات الله مبينات، فأما بعده فيقتلون
إذا أظهروا النفاق وعلمه المسلمون، قال مالك: المنافق في عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم هو الزنديق اليوم. قلت: وقد اختلف العلماء في قتل الزنديق إذا أظهر
الكفر هل يستتاب أم لا. أو يفرق بين أن يكون داعية أم لا أو يتكرر منه ارتداده أم
لا أو يكون إسلامه ورجوعه من تلقاء نفسه أو بعد أن ظهر عليه؟ على أقوال موضع بسطها
وتقريرها وعزوها كتاب الأحكام.
(تنبيه) قول من قال: كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان
بعض المنافقين إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر
منافقًا في غزوة تبوك الذين هموا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في
ظلماء الليل عند عقبة هناك؛ عزموا على أن ينفروا به الناقة ليسقط عنها فأوحى الله
إليه أمرهم فأطلع على ذلك حذيفة. ولعل الكف عن قتلهم كان لمدرك من هذه المدارك أو
لغيرها والله أعلم.
فأما غير هؤلاء فقد قال تعالى: { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ
مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا
تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } الآية، وقال تعالى: { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ
الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي
الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا
* مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا } ففيها دليل
على أنه لم يغر بهم ولم يدرك على أعيانهم وإنما كانت تذكر له صفاتهم فيتوسمها في بعضهم
كما قال تعالى: { وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } وقد كان من أشهرهم بالنفاق عبد الله
بن أبي بن سلول وقد شهد عليه زيد بن أرقم بذلك الكلام الذي سبق في صفات المنافقين
ومع هذا لما مات [صلى عليه] صلى الله عليه وسلم وشهد دفنه كما يفعل ببقية
المسلمين، وقد عاتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه فقال: "إني أكره أن
تتحدث العرب أن محمدًا يقتل أصحابه" وفي رواية في الصحيح "إني خيرت
فاخترت" وفي رواية "لو أني أعلم لو زدت على السبعين يغفر الله له لزدت".
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا
نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا
يَشْعُرُونَ (12) }
قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مُرّة
الطيب الهمداني، عن ابن مسعود، وعن أناس (1) من أصحاب رسول الله (2) صلى الله عليه
وسلم: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ
} أما لا تفسدوا في الأرض، قال: الفساد هو الكفر، والعمل بالمعصية.
وقال أبو جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله تعالى: {
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ } قال: يعني: لا تعصُوا في الأرض،
وكان فسادهم ذلك معصية الله؛ لأنه من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله، فقد
أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطَّاعة.
وهكذا قال الربيع بن أنس، وقتادة.
وقال ابن جُرَيْج، عن مجاهد: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي
الأرْضِ } قال: إذا ركبوا معصية الله، فقيل لهم: لا تفعلوا
كذا وكذا، قالوا: إنما نحن على الهدى، مصلحون.
__________
(1) في طـ، ب: "ناس".
(2) في أ: "النبي".
(1/180)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا
أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ
لَا يَعْلَمُونَ (13)
وقد قال وَكِيع، وعيسى بن يونس، وعثَّام بن علي، عن الأعمش، عن
المِنْهَال بن عمرو، عن عباد بن عبد الله الأسدي، عن سلمان الفارسي: { وَإِذَا
قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }
قال سلمان: لم يجئ أهل هذه الآية بعد.
وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن عثمان بن حَكيم، حدثنا عبد الرحمن بن
شَريك، حدثني أبي، عن الأعمش، عن زيد بن وهب وغيره، عن سلمان، في هذه الآية، قال: ما جاء هؤلاء
بَعْدُ (1) .
قال ابن جرير: يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم
فسادًا من الذين كانوا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لا أنه عنى أنه لم يمض
ممن تلك صفته أحد (2) .
قال ابن جرير: فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم، وركوبهم
فيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكّهم في دينه الذي لا يُقْبَلُ من أحد
عمل إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه
مقيمون من الشك والريب، ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله،
إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا. فذلك إفساد المنافقين في الأرض، وهم يحسبون أنهم بفعلهم
ذلك مصلحون فيها (3) .
وهذا الذي قاله حسن، فإن من الفساد في الأرض اتخاذ المؤمنين الكافرين
أولياء، كما قال تعالى: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ }
[الأنفال: 73] فقطع الله الموالاة بين المؤمنين والكافرين كما قال: { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } [النساء:
144] ثم قال: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ
وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } [النساء: 145]
فالمنافق لما كان ظاهره الإيمان اشتبه أمره على المؤمنين، فكأن الفساد من جهة
المنافق حاصل؛ لأنه هو الذي غَرّ المؤمنين بقوله الذي لا حقيقة له، ووالى الكافرين
على المؤمنين، ولو أنه استمر على حالته (4) الأولى لكان شرّه
أخف، ولو أخلص العمل لله وتطابق قوله وعمله لأفلح وأنجح؛ ولهذا قال تعالى: {
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ
مُصْلِحُونَ } أي: نريد أن نداري الفريقين من المؤمنين والكافرين، ونصطلح مع هؤلاء
وهؤلاء، كما قال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير،
عن ابن عباس: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ
مُصْلِحُونَ } أي: إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين
وأهل الكتاب. يقول الله: { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا
يَشْعُرُونَ } يقول: ألا إن هذا الذي يعتمدونه ويزعمون أنه إصلاح هو عين الفساد،
ولكن من جهلهم لا يشعرون بكونه فسادًا.
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ
كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا
يَعْلَمُونَ (13) }
يقول [الله] (5) تعالى: وإذا قيل للمنافقين: { آمِنُوا كَمَا آمَنَ
النَّاسُ } أي: كإيمان الناس بالله وملائكته
__________
(1) تفسير الطبري (1/288).
(2) تفسير الطبري (1/289).
(3) تفسير الطبري (1/289).
(4) في أ، و: "لحاله".
(5) زيادة من (أ).
(1/181)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا
إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ
يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنَّة والنَّار وغير ذلك، مما أخبر
المؤمنين به وعنه، وأطيعوا الله ورسوله في امتثال الأوامر وترك الزواجر { قَالُوا
أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ } يعنون -لعنهم
الله-أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنهم، قاله أبو العالية
والسدي في تفسيره، بسنده عن ابن عباس وابن مسعود وغير واحد من الصحابة، وبه يقول
الربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم، يقولون: أنصير نحن وهؤلاء
بمنزلة واحدة وعلى طريقة واحدة وهم سفهاء!!
والسفهاء: جمع سفيه، كما أن الحكماء جمع حكيم [والحلماء جمع
حليم] (1) والسفيه: هو الجاهل الضعيف الرّأي القليل المعرفة بمواضع المصالح
والمضار؛ ولهذا سمى الله النساء والصبيان سفهاء، في قوله تعالى: { وَلا تُؤْتُوا
السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا } [النساء: 5]
قال عامة علماء السلف: هم النساء والصبيان.
وقد تولى الله، سبحانه، جوابهم في هذه المواطن كلها، فقال (2) { أَلا
إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ } فأكد وحصر السفاهة فيهم.
{ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ } يعني: ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم
في الضلالة والجهل، وذلك أردى لهم وأبلغ في العمى، والبعد عن الهدى.
{ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا
إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ
يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) }
يقول [الله] (3) تعالى: وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا: {
آمَنَّا } أي: أظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة، غرورًا منهم للمؤمنين
ونفاقا ومصانعة وتقية، ولِيَشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم، { وَإِذَا خَلَوْا
إِلَى شَيَاطِينِهِمْ } يعني: وإذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا (4) إلى شياطينهم. فضمن
{ خَلَوْا } معنى انصرفوا؛ لتعديته بإلى، ليدل على الفعل المضمر والفعل الملفوظ
(5) به. ومنهم من قال: "إلى" هنا بمعنى
"مع"، والأول أحسن، وعليه يدور كلام ابن جرير.
وقال السدي عن أبي مالك: { خَلَوْا } يعني: مضوا، و { شَيَاطِينِهِمْ }
يعني: سادتهم وكبراءهم ورؤساءهم من أحبار اليهود ورؤوس المشركين والمنافقين.
قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة
عن ابن مسعود، عن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى
شَيَاطِينِهِمْ } يعني: هم رؤوسهم من الكفر.
وقال الضحاك عن ابن عباس: وإذا خلوا إلى أصحابهم، وهم شياطينهم.
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة أو سعيد بن
جُبَيْر، عن ابن
__________
(1) زيادة من طـ، ب، و.
(2) في أ: "كما قال".
(3) زيادة من أ.
(4) في أ، و: "أو ذهبوا أو خلصوا".
(5) في طـ، ب، أ، و: "الملفوظ".
(1/182)
عباس: { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ } من يهود الذين يأمرونهم
بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول.
وقال مجاهد: { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ } إلى أصحابهم من
المنافقين والمشركين.
وقال قتادة: { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ } قال: إلى رؤوسهم،
وقادتهم في الشرك، والشر.
وبنحو ذلك فسَّره أبو مالك، وأبو العالية والسدي، والرّبيع بن أنس.
قال ابن جرير: وشياطين كل شيء مَرَدَتُه، وتكون الشياطين من الإنس
والجن، كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا
شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ
غُرُورًا } [الأنعام: 112] .
وفي المسند عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن". فقلت: يا رسول الله، وللإنس
شياطين؟ قال: "نعم" (1) .
وقوله تعالى: { قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ } قال محمد بن إسحاق، عن محمد
بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أي إنا على مثل ما أنتم
عليه { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } أي: إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: قالوا إنما نحن مستهزئون ساخرون بأصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قال الرّبيع بن أنس، وقتادة.
وقوله تعالى جوابًا لهم ومقابلة على صنيعهم: { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }
وقال (2) ابن جرير: أخبر الله تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم
القيامة، في قوله: { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ
وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ
قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ
لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ }
الآية [الحديد: 13]،
وقوله تعالى: { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ
خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ
عَذَابٌ مُهِينٌ } [آل عمران: 178]. قال: فهذا وما أشبهه، من استهزاء الله، تعالى
ذكره، وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين، وأهل الشرك به عند قائل هذا القول، ومتأول
هذا التأويل.
قال: وقال آخرون: بل استهزاؤه بهم توبيخه إياهم، ولومه لهم على ما ركبوا
من معاصيه، والكفر به.
قال: وقال آخرون: هذا وأمثاله على سبيل الجواب، كقول
الرّجل لمن يخدعه إذا ظفر به: أنا الذي خدعتك. ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ
صار الأمر إليه، قالوا: وكذلك قوله: { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ
خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [آل عمران: 54] و { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } على الجواب،
والله
__________
(1) المسند (5/178).
(2) في طـ، ب: "وقال".
(1/183)
لا يكون منه المكر ولا الهزء، والمعنى: أن المكر والهُزْء حَاق بهم.
وقال آخرون: قوله: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ
يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } وقوله { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [النساء: 142]، وقوله { فَيَسْخَرُونَ
مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ } [التوبة: 79] و { نَسُوا
اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة: 67] وما أشبه ذلك، إخبار من الله تعالى أنه
يجازيهم (1) جَزَاءَ الاستهزاء، ويعاقبهم (2) عقوبة الخداع فأخرج خبره عن جزائه
إياهم وعقابه لهم مُخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ، وإن
اختلف المعنيان كما قال تعالى: { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا }
[الشورى: 40] وقوله تعالى: { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ
} [البقرة: 194]، فالأول ظلم، والثاني عدل، فهما وإن اتفق لفظاهما فقد اختلف
معناهما.
قال: وإلى هذا المعنى وَجَّهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك.
قال: وقال آخرون: إن معنى ذلك: أنّ الله أخبر عن
المنافقين أنهم إذا خَلَوا إلى مَرَدَتِهم قالوا: إنا معكم على دينكم، في تكذيب
محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإنما نحن بما يظهر لهم -من قولنا لهم: صدقنا
بمحمد، عليه السلام، وما جاء به مستهزئون؛ فأخبر الله تعالى أنه يستهزئ بهم، فيظهر
لهم من أحكامه في الدنيا، يعني من عصمة دمائهم وأموالهم خلاف الذي لهم عنده في الآخرة،
يعني من العذاب والنكال (3) .
ثم شرع ابن جرير يوجه هذا القول وينصره؛ لأن المكر والخداع والسخرية على
وجه اللعب والعبث منتف عن الله، عز وجل، بالإجماع، وأما على وجه الانتقام
والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك.
قال: وبنحو ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس: حدثنا أبو كُرَيْب،
حدثنا عثمان، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله تعالى: {
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } قال: يسخر بهم للنقمة منهم.
وقوله تعالى: { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } قال
السدي: عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة، عن ابن مسعود، وعن أناس
(4)
من الصحابة [قالوا] (5) يَمدهم: يملي لهم.
وقال مجاهد: يزيدهم.
قال ابن جرير: والصواب يزيدهم على وجه الإملاء والترك لهم في عُتُوّهم وتَمَرّدهم،
كما قال: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا
بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الأنعام: 110] .
__________
(1) في طـ، أ، و: "مجازيهم".
(2) في طـ، ب، أ، و: "ومعاقبهم".
(3) تفسير الطبري (1/303).
(4) في جـ، ط، ب: "ناس".
(5) زيادة من ب، و.
(1/184)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ
تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
والطغيان: هو المجاوزة في الشيء. كما قال: { إِنَّا لَمَّا
طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ } [الحاقة: 11]، وقال الضحاك، عن
ابن عباس: { فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } في كفرهم
يترددون.
وكذا فسره السدي بسنده عن الصحابة، وبه يقول أبو العالية، وقتادة،
والرّبيع بن أنس، ومجاهد، وأبو مالك، وعبد الرحمن بن زيد: في كفرهم وضلالتهم.
قال ابن جرير: والعَمَه: الضلال، يقال: عمه فلان يَعْمَه عَمَهًا
وعُمُوهًا: إذا ضل.
قال: وقوله: { فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } في
ضلالهم (1) وكفرهم الذي غمرهم دَنَسُه، وعَلاهم رجْسه، يترددون [حيارى] (2) ضُلالا
(3) لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا؛ لأن الله تعالى قد طبع على قلوبهم وختم عليها،
وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها، فلا يبصرون رُشْدًا، ولا يهتدون سبيلا.
[وقال بعضهم: العمى في العين، والعمه في القلب، وقد يستعمل العمى في
القلب -أيضا-: قال الله تعالى: { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى
الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [الحج: 46]
ويقال: عمه الرجل يعمه عموها فهو عمه وعامه، وجمعه عمّه، وذهبت إبله العمهاء: إذا لم
يدر أين ذهبت (4) .
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ
تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) }
قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن
مُرّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ
بِالْهُدَى } قال: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى.
وقال [محمد] (5) بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ
بِالْهُدَى } أي: الكفر بالإيمان.
وقال مجاهد: آمنوا ثمّ كفروا.
وقال قتادة: استحبوا الضلالة على الهدى [أي: الكفر بالإيمان] (6) . وهذا
الذي قاله قتادة يشبهه في المعنى قوله تعالى في ثمود: { وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } [فصلت: 17] (7) .
وحاصل قول المفسرين فيما تقدم: أن المنافقين عَدَلوا عن الهدى إلى
الضلال، واعتاضوا عن الهدى بالضلالة، وهو معنى قوله تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى } أي بذلوا الهدى ثمنا للضلالة، وسواء في ذلك
من كان منهم قد حصل له الإيمان ثم رجع عنه إلى الكفر، كما قال
__________
(1) في ب، أ، و: "ضلالتهم".
(2) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(3) في جـ: "ضلال".
(4) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(5) زيادة من جـ.
(6) زيادة من طـ.
(7) في هـ: "فأما" وهو خطأ.
(1/185)
تعالى فيهم: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ
عَلَى قُلُوبِهِمْ } [المنافقون: 3]، أو أنهم استحبوا الضلالة على الهدى، كما يكون
(1) حال فريق آخر منهم، فإنهم أنواع وأقسام؛ ولهذا قال تعالى: { فَمَا رَبِحَتْ
تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } أي: ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة، {
وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } أي: راشدين في صنيعهم ذلك.
قال (2) ابن جرير: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن
قتادة { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } قد
-والله-رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن
إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة. وهكذا رواه ابن أبي حاتم، من حديث يزيد بن
زُرَيْع، عن سعيد، عن قتادة، بمثله سواء.
__________
(1) في جـ، ط، ب، أ، و: "كما قد يكون".
(2) في ط: "وقال".
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا
حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ
عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ
ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ
الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ
الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا
أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ
وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يَا أَيُّهَا
النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا
وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا
بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا
النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ
(24)
البقرة - تفسير ابن كثير
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا
حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ
عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا
حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ
عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) }
[يقال: مثل ومثل ومثيل -أيضا-والجمع أمثال، قال الله تعالى: { وَتِلْكَ
الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ }
[العنكبوت: 43] (1) .
وتقدير هذا المثل: أن الله سبحانه، شبَّههم في اشترائهم الضلالة بالهدى،
وصيرورتهم بعد التبصرة إلى العمى، بمن استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله وانتفع
بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله، وتَأنَّس بها فبينا هو كذلك إذْ طفئت ناره،
وصار في ظلام شديد، لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع ذلك أصم لا يسمع، أبكم لا ينطق،
أعمى لو كان ضياء لما أبصر؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء
(2) المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضًا عن الهدى، واستحبابهم الغَيّ على
الرّشَد. وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا، كما أخبر عنهم تعالى في
غير هذا الموضع، والله أعلم.
وقد حكى هذا الذي قلناه فخر الدين الرازي في تفسيره عن السدي ثم قال:
والتشبيه هاهنا في غاية الصحة؛ لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولا نورا ثم بنفاقهم
ثانيًا أبطلوا ذلك النور فوقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين.
وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات،
واحتج بقوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ
وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } [البقرة: 8] .
والصواب: أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان
حصل لهم إيمان قبل ذلك، ثم سُلبوه وطبع على قلوبهم، ولم يستحضر ابن جرير، رحمه
الله، هذه الآية هاهنا وهي
__________
(1) زيادة من جـ، ط.
(2) في جـ: "هم".
(1/186)
قوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ
عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ } [المنافقون: 3]؛ فلهذا وجه [ابن جرير] (1) هذا المثل بأنهم
استضاؤوا بما أظهروه من كلمة الإيمان، أي في الدنيا، ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة.
قال: وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد، كما قال: { رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ
إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ }
[الأحزاب: 19] أي: كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى: { مَا
خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [لقمان: 28] وقال تعالى: {
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ
الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا } [الجمعة: 5]، وقال بعضهم: تقدير الكلام: مثل
قصتهم كقصة الذي استوقد نارا. وقال بعضهم: المستوقد واحد لجماعة معه. وقال آخرون: الذي هاهنا بمعنى
الذين كما قال الشاعر:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد (2)
قلت: وقد التفت في أثناء المثل من الواحد (3) إلى
الجمع، في قوله تعالى: { فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ
بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ
فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } وهذا أفصح في الكلام، وأبلغ في النظام، وقوله
تعالى: { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } أي: ذهب عنهم ما ينفعهم، وهو النور، وأبقى
لهم ما يضرهم، وهو الإحراق والدخان { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } وهو ما هم فيه
من الشك والكفر والنفاق، { لا يُبْصِرُونَ } لا يهتدون إلى سبل (4) خير ولا يعرفونها،
وهم مع ذلك { صُمٌّ } لا يسمعون خيرا { بُكْمٌ } لا يتكلمون بما ينفعهم { عُمْيٌ }
في ضلالة وعماية البصيرة، كما قال تعالى: { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ
وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [الحج: 46] فلهذا
لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة.
ذكر أقوال المفسرين من السلف بنحو ما ذكرناه:
قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة،
عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة، في قوله تعالى: { فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا
حَوْلَهُ } زعم أن ناسًا دخلوا في الإسلام مَقْدَم نبيّ الله
صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم إنهم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجُل كان في ظلمة،
فأوقد نارًا، فأضاءت ما حوله من قذى، أو أذى، فأبصره حتى عرف ما يتقي منه (5)
فبينا (6) هو كذلك إذ طفئت ناره، فأقبل لا يدري ما يتقي من
أذى، فكذلك المنافق: كان في ظلمة الشرك فأسلم، فعرف الحلال والحرام، و[عرف] (7) الخير
والشر، فبينا (8) هو كذلك إذ كفر، فصار لا يعرف الحلال من
__________
(1) زيادة من و.
(2) البيت للأشهب بن رميلة، كما في اللسان، مادة "فلج".
(3) في جـ، ط، ب، أ، و: "الوحدة".
(4) في طـ، ب: "سبيل".
(5) في جـ، ط، ب: "منها".
(6) في أ، و: "فبينما".
(7) زيادة من جـ.
(8) في أ، و: "فبينما".
(1/187)
الحرام، ولا الخير من الشر.
وقال مجاهد: { فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } (1) أما إضاءة النار
فإقبالهم (2) إلى المؤمنين، والهدى.
وقال عطاء الخرساني في قوله: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ
نَارًا } قال: هذا مثل المنافق، يبصر أحيانًا ويعرف
أحيانًا، ثم يدركه عمى القلب.
وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة، والحسن والسدي، والرّبيع بن أنس نحو
قول عطاء الخرساني.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، في قوله تعالى: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } إلى آخر الآية، قال: هذه صفة المنافقين. كانوا قد آمنوا
حتى أضاء الإيمان في قلوبهم، كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا (3) ثم كفروا فذهب
الله بنورهم فانتزعه، كما ذهب بضوء هذه النار فتركهم في ظلمات لا يبصرون.
وقال العوفي، عن ابن عباس، في هذه الآية، قال: أما النور: فهو إيمانهم
الذي كانوا يتكلمون به، وأمَّا الظلمة: فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به،
وهم قوم كانوا على هدى، ثمّ نزع منهم، فعتوا بعد ذلك.
وأما قول ابن جرير فيشبه ما رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله
تعالى: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } قال: هذا مثل
ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام، فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم
ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العِزّ، كما سُلِب صاحب النار ضَوءه.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الرّبيع بن أنس، عن أبي العالية: { مَثَلُهُمْ
كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } فإنما ضوء النار ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب
نورها، وكذلك المنافق، كلما تكلم بكلمة الإخلاص، بلا إله إلا الله، أضاء له، فإذا
شك وقع في الظلمة.
وقال الضحاك [في قوله] (4) { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } أما نورهم
فهو إيمانهم الذي تكلموا به.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ
نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } فهي (5) لا إله إلا الله؛ أضاءت لهم
فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدنيا، ونكحوا النساء، وحقنوا دماءهم، حتى إذا ماتوا
ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون.
وقال سعيد، عن قتادة في هذه الآية: إن المعنى: أن المنافق تكلم بلا إله
إلا الله فأضاءت له الدنيا، فناكح بها المسلمين، وغازاهم بها، ووارثهم بها، وحقن
بها دمه وماله، فلما كان عند الموت،
__________
(1) في جـ: "ما حوله ذهب الله بنورهم".
(2) في جـ، ط، ب: "فإقباله".
(3) في جـ: "استوقد نارا".
(4) زيادة من جـ، ط، ب.
(5) في جـ: "فهو".
(1/188)
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ
يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ
مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا
أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (20)
سلبها المنافق؛ لأنه (1) لم يكن لها أصل في قلبه، ولا حقيقة في عمله (2) .
{ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {
وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } يقول: في عذاب إذا ماتوا.
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة، أو سعيد بن
جبير، عن ابن عباس: { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } أي يبصرون الحق ويقولون به،
حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم (3) ونفاقهم فيه، فتركهم الله في ظلمات
الكفر، فهم لا يبصرون هدى، ولا يستقيمون على حق.
وقال السدي في تفسيره بسنده: { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } فكانت
الظلمة نفاقهم.
وقال الحسن البصري: { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ } فذلك
(4)
حين يموت المنافق، فيظلم عليه عمله عمل السوء، فلا يجد له عملا من خير
عمل به يصدق (5) به قول: لا إله إلا الله (6) .
{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } قال السدي بسنده: { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } فهم
خرس عمي (7) .
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } يقول: لا
يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه، وكذا قال أبو العالية، وقتادة بن دعامة.
{ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } قال ابن عباس: أي لا يرجعون إلى هدى، وكذلك (8)
قال الرّبيع بن أنس.
وقال السدي بسنده: { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } إلى
الإسلام.
وقال قتادة: { فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } أي لا يتوبون (9) ولا هم يذكرون.
{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ
أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ
مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا
أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (20) }
وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين، وهم قوم يظهر لهم
الحق تارة، ويشكّون تارة أخرى، فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم { كَصَيِّبٍ } والصيب: المطر،
قاله ابن مسعود، وابن عباس، وناس من الصحابة، وأبو العالية، ومجاهد، وسعيد بن
جبير، وعطاء،
__________
(1) في جـ: "لأنها".
(2) في جـ: "علمه".
(3) في جـ: "طعنوا بكفرهم به".
(4) في جـ: "فبذلك".
(5) في جـ: "يصدقه".
(6) في طـ، ب، و: "إلا هو".
(7) في جـ: "عمي خرس".
(8) في جـ، ط، ب، أ: "وكذا".
(9) في جـ: "لا يؤمنون".
(1/189)
والحسن البصري، وقتادة، وعطية العَوْفِي، وعطاء الخراساني، والسُّدي،
والرّبيع بن أنس.
وقال الضحاك: هو السحاب.
والأشهر هو المطر نزل من السماء في حال ظلمات، وهي الشكوك والكفر
والنفاق. { وَرَعْدٌ } وهو ما يزعج القلوب من الخوف، فإن من
شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع، كما قال تعالى: { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ
عَلَيْهِمْ [ هُمُ الْعَدُوُّ ] (1) } [المنافقون: 4] وقال: {
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ
قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا
إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } [التوبة: 56، 57].
والبرق: هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان،
من نور الإيمان؛ ولهذا قال: { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ
حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ } أي: ولا يُجْدي عنهم
حذرهم شيئًا؛ لأن الله محيط [بهم] (2) بقدرته، وهم تحت مشيئته وإرادته، كما قال: {
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ } [البروج: 17-20] .
[والصواعق: جمع صاعقة، وهي نار تنزل من السماء وقت الرعد الشديد، وحكى
الخليل بن أحمد عن بعضهم صاعقة، وحكى بعضهم صاعقة وصعقة وصاقعة، ونقل عن الحسن
البصري أنه: قرأ "من الصواقع حذر الموت" بتقديم القاف وأنشدوا لأبي
النجم:
يحكوك بالمثقولة القواطع ... شفق البرق عن الصواقع (3)
قال النحاس: وهي لغة بني تميم وبعض بني ربيعة، حكى ذلك .
ثم قال: { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } أي: لشدته وقوته
في نفسه، وضعف بصائرهم، وعدم ثباتها للإيمان.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ
} يقول: يكاد مُحْكَمُ القرآن يدل على عورات المنافقين.
وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن
ابن عباس: { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } أي لشدة ضوء الحق، { كلما أضاء لهم
مشوا فيه وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا } أي كلما ظهر لهم من الإيمان شيء
استأنسوا (4) به واتبعوه، وتارة تعْرِض لهم الشكوك أظلمت قلوبَهم فوقفوا حائرين.
__________
(1) زيادة من جـ، ط.
(2) زيادة من جـ، ط، ب.
(3) البيت في اللسان، مادة "صقع" وهو فيه: يحكون بالمصقولة
القواطع ... تشقق البرق عن الصواقع
(4) في أ: "استضاءوا".
(1/190)
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا
فِيهِ } يقول: كلما أصاب المنافقين من عز الإسلام اطمأنوا
إليه، وإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر، كقوله: { وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ
[وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ] (1) } الآية [الحج: 11].
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير،
عن ابن عباس: { كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ
عَلَيْهِمْ قَامُوا } أي: يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم من قولهم به على
استقامة فإذا ارتكسوا منه (2) إلى الكفر { قَامُوا } أي: متحيرين.
وهكذا قال أبو العالية، والحسن البصري، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي
بسنده، عن الصحابة وهو أصح وأظهر. والله أعلم.
وهكذا يكونون (3) يوم القيامة عندما يعطى الناس النور بحسب إيمانهم،
فمنهم من يعطى من النور ما يضيء له مسيرة فراسخ، وأكثر من ذلك وأقل من ذلك، ومنهم
من يطْفَأ نوره تارة ويضيء له أخرى، فيمشي (4) على الصراط تارة ويقف أخرى. ومنهم من يطفأ
نوره بالكلية وهم الخُلَّص من المنافقين، الذين قال تعالى (5) فيهم: { يَوْمَ
يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا
نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا }
[الحديد: 13] وقال في حق المؤمنين: { يَوْمَ تَرَى
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ } الآية [الحديد: 12]،
وقال تعالى: { يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا
أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
[التحريم: 8] .
ذكر الحديث الوارد في ذلك:
قال سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة في قوله تعالى: { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ } الآية [الحديد: 12]، ذكر لنا أن النبي (6) صلى الله عليه
وسلم كان يقول: "من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن، أو بين (7)
صنعاء ودون ذلك، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه". رواه
ابن جرير.
ورواه ابن أبي حاتم من حديث عمران بن دَاوَر (8) القطان، عن قتادة،
بنحوه.
وهذا كما قال المِنْهَال بن عمرو، عن قيس بن السكن، عن عبد الله بن
مسعود، قال: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يرى (9)
نوره كالنخلة، ومنهم من يرى (10) نوره كالرجل القائم، وأدناهم نورًا على إبهامه
يطفأ مرة ويَقِد (11) مرة.
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) في أ: "فيه".
(3) في جـ: "يكذبون"، وفي أ: "يكون".
(4) في أ، و: "ومنهم من يمشي".
(5) في جـ، ط، ب، أ، و: "الله".
(6) في جـ، ط، ب، أ، و: "أن نبي الله".
(7) في جـ، ط، ب، "أبين و".
(8) في أ: "داود".
(9) في و: "يؤتى".
(10) في أ، و: "يؤتى".
(11) في جـ: "ويتقد".
(1/191)
وهكذا رواه ابن جرير، عن ابن مُثَنَّى، عن ابن إدريس، عن أبيه، عن
المنهال.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافسي (1) حدثنا
ابن إدريس، سمعت أبي يذكر عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن السكن، عن عبد الله بن مسعود:
{ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } [التحريم: 8] قال: على قدر أعمالهم
يمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نورًا
من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ أخرى.
وقال ابن أبي حاتم أيضًا: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، حدثنا أبو
يحيى الحِمَّاني، حدثنا عُتْبَةُ (2) بن اليقظان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ليس أحد من أهل
التوحيد إلا يعطى نورًا يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره، فالمؤمن مشفق مما
يرى من إطفاء نور المنافقين، فهم يقولون: ربنا أتمم لنا نورنا.
وقال الضحاك بن مزاحم: يعطى كل من كان يظهر الإيمان في الدنيا يوم
القيامة نورًا؛ فإذا انتهى إلى الصراط طفئ نور المنافقين، فلما رأى ذلك المؤمنون
أشفقوا، فقالوا: " ربنا أتمم لنا نورنا " .
فإذا تقرر هذا صار الناس أقسامًا: مؤمنون خُلّص، وهم الموصوفون بالآيات
الأربع في أول البقرة، وكفار خلص، وهم الموصوفون بالآيتين بعدها، ومنافقون، وهم
قسمان: خلص، وهم المضروب لهم المثل الناري، ومنافقون
يترددون، تارة يظهر لهم لُمَعٌ من الإيمان وتارة يخبو (3) وهم أصحاب المثل المائي،
وهم أخف حالا من الذين قبلهم.
وهذا المقام يشبه (4) من بعض الوجوه ما ذكر في سورة النور، من ضرب مثل
المؤمن (5) وما جعل الله في قلبه من الهدى والنور، بالمصباح (6) في الزجاجة التي
كأنها كوكب دُرّي، وهي قلب المؤمن المفطور على الإيمان واستمداده من الشريعة
الخالصة الصافية الواصلة إليه من غير كدر ولا تخليط، كما سيأتي تقريره في موضعه إن
شاء الله.
ثم ضرب مثل العُبّاد من الكفار، الذين يعتقدون أنهم على شيء، وليسوا على
شيء، وهم أصحاب الجهل المركب، في قوله: { وَالَّذِينَ
كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى
إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا } الآية [النور: 39].
ثم ضرب مثل الكفار الجُهَّال الجَهْلَ البسيط، وهم الذين قال [الله] (7)
فيهم: { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ
مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ
لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ
نُورٍ } [النور: 40] فقسم الكفار هاهنا إلى قسمين: داعية ومقلد، كما ذكرهما في أول
سورة الحج: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ } [الحج: 3]
__________
(1) في جـ: "الطيالسي".
(2) في جـ: "عتيبة".
(3) في أ: "تحير".
(4) في جـ: "وهذا شبه".
(5) في جـ: "المؤمنين".
(6) في جـ: "بالمصباح الذي".
(7) زيادة من جـ، ط.
(1/192)
وقال بعده: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ
عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ } [الحج: 8] (1) وقد قسم الله (2)
المؤمنين في أول الواقعة وآخرها (3) وفي سورة الإنسان، إلى قسمين: سابقون وهم المقربون،
وأصحاب يمين وهم الأبرار.
فتلخص (4) من مجموع هذه الآيات الكريمات: أن المؤمنين صنفان: مقربون
وأبرار، وأن الكافرين صنفان: دعاة ومقلدون، وأن المنافقين -أيضًا-صنفان: منافق
خالص، ومنافق فيه شعبة من نفاق، كما جاء في الصحيحين، عن عبد الله بن عَمْرو، عن
النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه
واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يَدَعها: من إذا حَدّث كذب، وإذا وعد
أخلف، وإذا اؤتمن خان" (5) .
استدلوا به على أن الإنسان قد تكون فيه شعبة من إيمان، وشعبة من نفاق.
إما عَمَلي لهذا الحديث، أو اعتقادي، كما دلت عليه الآية، كما ذهب إليه طائفة من
السلف وبعض العلماء، كما تقدم، وكما سيأتي، إن شاء الله. قال الإمام أحمد: حدثنا
أبو النضر، حدثنا أبو معاوية يعني شيبان، عن ليث، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري،
عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القلوب أربعة: قلب
أجرد، فيه مثل السراج يُزْهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب
مُصَفَّح، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن، سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب
الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص، عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح
فقلب فيه إيمان ونفاق، ومَثَل الإيمان فيه كمثل البقلة، يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق
فيه كمثل القرحة يَمُدّها القيح والدم، فأي المدّتين (6) غلبت على الأخرى غلبت
عليه" (7) . وهذا إسناد جيد حسن.
وقوله: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي
محمد عن عِكْرِمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله تعالى: { وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } قال: لِمَا تركوا من الحق بعد معرفته.
{ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قال ابن عباس (8) أي إنّ
الله على كل ما أراد بعباده من نقمة، أو عفو، قدير.
وقال ابن جرير: إنما وصف الله تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا
الموضع ؛ لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم محيط، و [أنه] (9) على إذهاب
أسماعهم وأبصارهم قدير، ومعنى { قَدِيرٌ } قادر، كما أن معنى { عَلِيمٌ } عالم.
__________
(1) في جـ، ب: قدم الآية الثامنة على الآية الثالثة من سورة الحج.
(2) في جـ، ب، أ، و: "تعالى".
(3) في أ: "في أول البقرة وآخرها"، وفي جـ: "في أول سورة
الواقعة وفي آخرها".
(4) في جـ: "فلخص".
(5) صحيح البخاري برقم (34) وصحيح مسلم برقم (58) ولفظه: "أربع من كن
فيه كان منافقا خالصا -والرابعة- وإذا خاصم فجر".
(6) في جـ: "المددين".
(7) المسند (3/17).
(8) في جـ، ط، ب، و: "ابن إسحاق".
(9) زيادة من جـ.
(1/193)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ
مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (22)
[وذهب ابن جرير الطبري ومن تبعه من كثير من المفسرين أن هذين المثلين
مضروبان لصنف واحد من المنافقين وتكون "أو" في قوله تعالى: { أَوْ
كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ } بمعنى الواو، كقوله تعالى: { وَلا تُطِعْ
مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا } [الإنسان: 24]، أو
تكون للتخبير، أي: اضرب لهم مثلا بهذا وإن شئت بهذا، قاله القرطبي. أو للتساوي مثل
جالس الحسن أو ابن سيرين، على ما وجهه الزمخشري: أن كلا منهما مساو للآخر في إباحة
الجلوس إليه، ويكون معناه على قوله: سواء ضربت لهم مثلا بهذا أو بهذا فهو مطابق
لحالهم.
قلت: وهذا يكون باعتبار جنس المنافقين، فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات
كما ذكرها الله تعالى في سورة براءة -ومنهم -ومنهم -ومنهم -يذكر أحوالهم وصفاتهم
وما يعتمدونه من الأفعال والأقوال، فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة لأحوالهم
وصفاتهم، والله أعلم، كما ضرب المثلين في سورة النور لصنفي الكفار الدعاة
والمقلدين في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ
بِقِيعَةٍ } إلى أن قال: { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ
} الآية [النور: 39، 40]، فالأول للدعاة الذين هم في جهل مركب، والثاني لذوي الجهل
البسيط من الأتباع المقلدين، والله أعلم بالصواب] (1) .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) }
شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته، بأنه تعالى هو المنعم على
عَبيده، بإخراجهم من العدم إلى الوجود وإسباغه عليهم النعمَ الظاهرة والباطنة، بأن
جعل لهم الأرض فراشا، أي: مهدا كالفراش مُقَرّرَة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات،
{ وَالسَّمَاءَ بِنَاءً } وهو السقف، كما قال في الآية الأخرى: { وَجَعَلْنَا
السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } [الأنبياء:
32] وأنزل لهم من السماء ماء -والمراد به السحاب هاهنا-في وقته عند احتياجهم إليه،
فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد؛ رزقًا لهم ولأنعامهم، كما قرر
هذا في غير موضع (2) من القرآن. ومنْ أشبه آية
بهذه الآية قوله تعالى: { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا (3)
وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ
الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ } [غافر: 64] ومضمونه: أنه الخالق الرازق مالك الدار، وساكنيها،
ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يُشْرَك به غَيره؛ ولهذا قال: { فَلا
تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وفي الصحيحين عن ابن
مسعود، قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندا، وهو
خلقك" الحديث (4) . وكذا حديث معاذ:
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(2) في جـ: "غير هذا الموضع".
(3) في جـ: "فراشا" وهو خطأ.
(4) صحيح البخاري برقم (4761) وصحيح مسلم برقم (68).
(1/194)
"أتدري ما حق الله على عباده؟ أن يعبدوه لا (1) يشركوا به شيئًا"
الحديث (2) وفي الحديث الآخر: "لا يقولن أحدكم: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن
ليقل (3) ما شاء الله، ثم شاء فلان" (4) .
وقال حماد بن سلمة: حدثنا عبد الملك بن عمير، عن رِبْعيِّ بن حِرَاش، عن
الطفيل بن سَخْبَرَة، أخى عائشة أم المؤمنين لأمها، قال: رأيت فيما يرى النائم،
كأني أتيت على نفر من اليهود، فقلت: من أنتم؟ فقالوا: نحن اليهود، قلت: إنكم لأنتم
القوم لولا أنكم تقولون: عُزَير ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم
تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. قال: ثم مررت بنفر من النصارى، فقلت: من أنتم؟
قالوا: نحن النصارى. قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم
تقولون: المسيح ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما
شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها مَنْ أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله
عليه وسلم فأخبرته، فقال: "هل أخبرت بها أحدًا؟" فقلت: نعم. فقام، فحمد
الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد، فإن طُفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر
منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء
الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده". هكذا رواه ابن مردويه في
تفسير هذه الآية من حديث حماد بن سلمة، به (5) . وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر، عن
عبد الملك بن عمير به، بنحوه (6) .
وقال سفيان بن سعيد الثوري، عن الأجلح بن عبد الله الكندي، عن يزيد بن
الأصم، عن ابن عباس، قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت.
فقال: "أجعلتني لله ندا (7) ؟ قل: ما شاء الله وحده". رواه ابن مردويه،
وأخرجه النسائي، وابن ماجه من حديث عيسى بن يونس، عن الأجلح، به (8) .
وهذا كله صيانة، وحماية لجناب التوحيد، والله أعلم.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن
جبير، عن ابن عباس، قال: قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ
} للفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين، أي: وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من
قبلكم.
وبه عن ابن عباس: { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ } أي: لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر، وأنتم
تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه
__________
(1) في جـ: "ولا".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (7373) ومسلم في صحيحه برقم (30).
(3) في جـ: "ليقول".
(4) رواه أبو داود في السنن برقم (4980) من حديث حذيفة رضي الله عنه.
(5) ورواه الإمام أحمد في المسند (5/72) من طريق بهز وعفان عن حماد بن سلمة
به.
(6) رواه ابن ماجة في السنن برقم (2118) عن هشام بن عمار، عن سفيان، عن عبد الملك
بن عمير به، وقال البوصيري في الزوائد (2/151): "هذا إسناد رجاله ثقات على
شرط البخاري لكنه منقطع بين سفيان وبين عبد الملك بن عمير".
(7) في جـ: "أندادا".
(8) سنن النسائي الكبرى برقم (10825) وسنن ابن ماجة برقم (2117) وقال
البوصيري في الزوائد (1/150): "هذا فيه الأجلح بن عبد الله، مختلف فيه".
(1/195)
الرسول صلى الله عليه وسلم من توحيده هو الحق الذي لا شك فيه. وهكذا قال
قتادة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم، حدثنا أبي عمرو،
حدثنا أبي الضحاك بن مخلد أبو عاصم، حدثنا شبيب بن بشر، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس،
في قول الله، عز وجل (1) { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا [وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ]
(2) } قال: الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صَفَاة سوداء في ظلمة الليل،
وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلان، وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا
لأتانا اللصوص، ولولا البطّ في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله
وشئتَ، وقول الرجل: لولا الله وفلان. لا تجعل فيها "فلان". هذا (3) كله
به شرك.
وفي الحديث: أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت،
فقال: "أجعلتني لله ندا". وفي الحديث الآخر: "نعم القوم أنتم، لولا
أنكم تنددون، تقولون: ما شاء الله، وشاء فلان".
قال (4) أبو العالية: { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } أي عدلاء
شركاء. وهكذا قال الربيع بن أنس، وقتادة، والسُّدي، وأبو مالك: وإسماعيل بن أبي
خالد.
وقال مجاهد: { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ } قال: تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل.
ذكر حديث في معنى هذه الآية الكريمة:
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا أبو خلف موسى بن خلف، وكان يُعَد من
البُدَلاء، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، عن جده ممطور، عن الحارث
الأشعري، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل، أمر يحيى بن
زكريا، عليه السلام، بخمس كلمات أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن،
وكان يبطئ بها، فقال له عيسى، عليه السلام: إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن
وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهن، وإما أن أبلغهن. فقال: يا أخي،
إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي" . قال: "فجمع يحيى بن زكريا بني
إسرائيل في بيت المقدس، حتى امتلأ المسجد، فقعد على الشرف، فحمد الله وأثنى عليه،
ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن، وأولهن: أن
تعبدوا الله (5) لا تشركوا به شيئًا، فإن مثل ذلك مَثَل رجل اشترى عبدًا من خالص
ماله بوَرِق أو ذهب، فجعل يعمل ويؤدي غلته (6) إلى غير سيده فأيكم يسره (7) أن
يكون عبده كذلك؟ وأن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأمركم بالصلاة؛
فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا. وأمركم
بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة، كلهم يجد ريح المسك. وإن
خلوف فم الصائم عند الله أطيب (8) من ريح المسك. وأمركم بالصدقة؛
فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو، فشدوا يديه إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، فقال
لهم: هل لكم أن أفتدي
__________
(1) في جـ: "تعالى".
(2) زيادة من جـ، ط.
(3) في جـ: "لأن هذا".
(4) في جـ: "وقال".
(5) في جـ: "الله وحده".
(6) في جـ، أ: "عمله".
(7) في جـ: "سره".
(8) في ب: "أطيب عند الله".
(1/196)
نفسي (1) ؟
فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه. وأمركم بذكر الله كثيرًا؛ وإن
مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سِراعا في أثره، فأتى حصنا حصينًا فتحصن فيه، وإن
العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله".
قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنا آمركم بخمس الله أمرني
بهن: الجماعة، والسمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله؛ فإنه من خرج من
الجماعة قيدَ شِبْر فقد خلع رِبْقة الإسلام من عنقه، إلا أن يراجع ومن دعا بدعوى
جاهلية فهو من جِثِيِّ جهنم". قالوا: يا رسول الله، وإن صام وصلى (2) ؟ فقال:
"وإن صلى وصام (3) وزعم أنه مسلم؛ فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سماهم (4)
الله عز وجل: المسلمين المؤمنين عباد الله" (5) .
هذا حديث حسن، والشاهد منه في هذه الآية قوله: "وإن الله خلقكم
ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئًا".
وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له، وقد استدل
به كثير من المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع فقال: وهي دالة على ذلك بطريق الأولى،
فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها
ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة، علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه
وعظيم سلطانه، كما قال بعض الأعراب، وقد سئل: ما الدليل على
وجود الرب تعالى؟ فقال: يا سبحان الله، إن البعرة لتدل على البعير، وإن أثر
الأقدام لتدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج؟ ألا
يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟
وحكى فخر الدين عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل باختلاف
اللغات والأصوات والنغمات، وعن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري
تعالى، فقال لهم: دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه ذكروا لي أن سفينة في البحر
موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها، وهي مع ذلك تذهب
وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها، وتسير حيث شاءت بنفسها
من غير أن يسوقها أحد. فقالوا: هذا شيء لا يقوله عاقل، فقال: ويحكم هذه
الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة
ليس لها صانع!! فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه.
وعن الشافعي: أنه سئل عن وجود الصانع، فقال: هذا ورق التوت طعمه واحد
تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم، وتأكله النحل فيخرج منه العسل، وتأكله الشاة
والبعير والأنعام فتلقيه بعرًا وروثا، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك وهو شيء
واحد.
وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال: هاهنا حصن حصين أملس، ليس
له باب
__________
(1) في جـ، ب، أ، و: "نفسي منكم".
(2) في جـ: "وصلى وزعم أنه مسلم".
(3) في أ: "وإن صلى وإن صام".
(4) في جـ، ط: "بل بما سماهم".
(5) المسند (4/130).
(1/197)
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا
بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ
الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
ولا منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، فبينا هو كذلك
إذ انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح، يعني بذلك البيضة
إذا خرج منها الدجاجة.
وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد:
تأمل في نبات الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك ...
عيون من لجين شاخصات ... بأحداق هي الذهب السبيك ...
على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك ...
وقال ابن المعتز:
فيا عجبًا كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد ...
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد ...
وقال آخرون: من تأمل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من
الكواكب الكبار والصغار المنيرة من السيارة ومن الثوابت، وشاهدها كيف تدور مع
الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها، ونظر إلى البحار الملتفة
للأرض من كل جانب، والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف
أشكالها وألوانها كما قال: { وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ
أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ
مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ } [فاطر: 27، 28] وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر لمنافع
العباد وما زرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأراييح
والأشكال والألوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء، علم وجود الصانع وقدرته العظيمة
وحكمته ورحمته بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم وبره بهم لا إله غيره ولا رب سواه،
عليه توكلت وإليه أنيب، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جدًا.
{ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ
الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) }
ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه (1) لا إله إلا هو،
فقال مخاطبًا للكافرين: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نزلْنَا عَلَى
عَبْدِنَا } يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم { فَأْتُوا
بِسُورَةٍ } من مثل ما جاء به إن زعمتم أنه من عند غير الله، فعارضوه بمثل ما جاء
به، واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله، فإنكم لا تستطيعون ذلك.
__________
(1) في أ: "بأن".
(1/198)
قال ابن عباس: { شُهَدَاءَكُمْ } أعوانكم [أي: قومًا آخرين يساعدونكم
على ذلك] (1) .
وقال السدي، عن أبي مالك: شركاءكم [أي استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم
وينصرونكم] (2) .
وقال مجاهد: { وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ } قال: ناس يشهدون به [يعني:
حكام الفصحاء] (3) .
وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن، فقال في سورة القصص: { قُلْ فَأْتُوا
بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ } [القصص: 49] وقال في سورة سبحان: { قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [الإسراء: 88]
وقال في سورة هود: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ
مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [هود: 13]، وقال في سورة يونس: { وَمَا كَانَ
هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي
بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ
* أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [يونس: 37، 38] وكل هذه الآيات
مكية.
ثم تحداهم [الله تعالى] (4) بذلك -أيضًا-في المدينة، فقال في هذه الآية:
{ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ } أي: [في] (5) شك { مِمَّا
نزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم. { فَأْتُوا
بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } يعني: من مثل [هذا] (6) القرآن؛ قاله مجاهد وقتادة،
واختاره ابن جرير. بدليل قوله: { فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ } [هود: 13]
وقوله: { لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } [الإسراء: 88] وقال بعضهم: من
مثل محمد صلى الله عليه وسلم، يعني: من رجل أمي مثله. والصحيح الأول؛
لأن التحدي عام لهم كلهم، مع أنهم أفصح الأمم، وقد (7) تحداهم بهذا في
مكة والمدينة مرات عديدة، مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه، ومع هذا عجزوا عن ذلك؛
ولهذا قال تعالى: { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا } "ولن":
لنفي التأبيد (8) أي: ولن تفعلوا ذلك أبدًا. وهذه -أيضًا-معجزة
أخرى، وهو أنه أخبر أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبدا (9) وكذلك وقع الأمر،
لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن، وَأنَّى يَتَأتَّى ذلك لأحد، والقرآن
كلام الله خالق كل شيء؟ وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين؟!
ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونًا ظاهرة وخفية من حيث
اللفظ ومن جهة المعنى، قال الله تعالى: { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ
فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [هود: 1]،
فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف، فكل من لفظه ومعناه فصيح لا
يجارى ولا يدانى، فقد أخبر عن مغيبات ماضية وآتية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء
بسواء، وأمر بكل خير، ونهى عن كل شر كما قال: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ
صِدْقًا وَعَدْلا } [الأنعام: 115] أي: صدقًا في الأخبار وعدلا في الأحكام، فكله
حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء،
__________
(1) زيادة من جـ، ط.
(2) زيادة من جـ، ط.
(3) زيادة من جـ، ط.
(4) زيادة من جـ.
(5) زيادة من جـ، ط.
(6) زيادة من أ، و.
(7) في أ: "وهو قد".
(8) في جـ، ب، أ، و: "التأبيد في المستقبل".
(9) في جـ، ط، أ: "أبد الآبدين ودهر الداهرين".
(1/199)
كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن
شعرهم إلا بها، كما قيل في الشعر: إن أعذبه أكذبه، وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد
استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر، أو في مدح شخص معين أو فرس أو
ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع، أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد
شيئًا إلا قدرة المتكلم المعبر على التعبير على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه
إلى الشيء الواضح، ثم تجد له فيها بيتًا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها
هذر لا طائل تحته.
وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلا
وإجمالا ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية
الحلاوة، سواء كانت مبسوطة أو وجيزة، وسواء تكررت أم لا وكلما تكرر حلا وعلا لا
يَخلق عن كثرة الرد، ولا يمل منه العلماء، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما
تقشعر منه الجبال الصم الراسيات، فما ظنك بالقلوب الفاهمات، وإن وعد أتى بما يفتح
القلوب والآذان، ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن، كما قال في الترغيب: {
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ } [السجدة: 17] وقال: { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ
الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [الزخرف: 71]، وقال
في الترهيب: { أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ
الْبَرِّ } [الإسراء: 68]،
{
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا
هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ
حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } [الملك: 16، 17] وقال في الزجر: {
فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ } [العنكبوت: 40]، وقال في الوعظ: { أَفَرَأَيْتَ
إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا
أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ } [الشعراء: 205
-207] إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة، وإن جاءت الآيات في
الأحكام والأوامر والنواهي، اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب،
والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء؛ كما قال ابن مسعود وغيره من السلف: إذا سمعت الله
تعالى يقول في القرآن { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فأوعها سمعك فإنه خير ما
يأمر به أو شر ينهى عنه. ولهذا قال تعالى: { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ
عَلَيْهِمْ } الآية [الأعراف: 157]، وإن جاءت الآيات في وصف
المعاد وما فيه من الأهوال وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه
وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم، بشرت به وحذرت وأنذرت؛ ودعت
إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات، وزهدت في الدنيا ورغبت في الأخرى، وثبتت على الطريقة
المثلى، وهدت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم، ونفت عن القلوب رجس الشيطان
الرجيم.
ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم، قال: "ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعْطِيَ من الآيات ما
مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله
(1/200)
إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا (1) يوم القيامة" لفظ (2)
مسلم. وقوله: "وإنما كان الذي أوتيته وحيًا" أي: الذي اختصصت به من
بينهم هذا القرآن المعجز (3) للبشر أن يعارضوه، بخلاف غيره من الكتب الإلهية،
فإنها ليست معجزة [عند كثير من العلماء] (4) والله أعلم. وله عليه الصلاة
والسلام من الآيات الدالة على نبوته، وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصر، ولله
الحمد والمنة.
[وقد قرر بعض المتكلمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة وقول المعتزلة
في الصوفية، فقال: إن كان هذا القرآن معجزًا في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان
بمثله ولا في قواهم معارضته، فقد حصل المدعى وهو المطلوب، وإن كان في إمكانهم
معارضته بمثله ولم يفعلوا ذلك مع شدة عداوتهم له، كان ذلك دليلا على أنه من عند
الله؛ لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك، وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضية لأن
القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته، كما قررنا، إلا أنها تصلح على سبيل
التنزل والمجادلة والمنافحة عن الحق وبهذه الطريقة أجاب فخر الدين في تفسيره عن
سؤاله في السور القصار كالعصر و { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } ] (5) .
وقوله تعالى: { فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } أما الوَقُود، بفتح الواو، فهو ما يلقى
في النار لإضرامها كالحطب ونحوه، كما قال: { وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا
لِجَهَنَّمَ حَطَبًا } [الجن: 15] وقال تعالى: {
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا
وَارِدُونَ } [الأنبياء: 98] .
والمراد بالحجارة هاهنا: هي حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة
المنتنة، وهي أشد الأحجار حرا إذا حميت، أجارنا الله منها.
قال عبد الملك بن ميسرة الزرّاد (6) عن عبد الرحمن بن سابط، عن عمرو بن
ميمون، عن عبد الله بن مسعود، في قوله تعالى: { وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ
} قال: هي حجارة من كبريت، خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا،
يعدها للكافرين. رواه ابن جرير، وهذا لفظه. وابن أبي حاتم، والحاكم في مستدركه
وقال: على شرط الشيخين (7) .
وقال السدي في تفسيره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة
عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: { فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا
النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } أما الحجارة فهي حجارة في النار من كبريت أسود، يعذبون
به مع النار.
وقال مجاهد: حجارة من كبريت أنتن من الجيفة. وقال أبو جعفر محمد بن علي:
[هي] (8) حجارة من كبريت. وقال ابن جريج: حجارة من كبريت أسود في النار، وقال لي
عمرو بن دينار:
__________
(1) في جـ: "تبعا".
(2) صحيح البخاري برقم (4981)، وصحيح مسلم برقم (152).
(3) في ط: "المفهم".
(4) زيادة من جـ، ط، ب، أ.
(5) زيادة من جـ، ط، ب.
(6) في جـ: "الرزاز".
(7) تفسير الطبري (1/381) وتفسير ابن أبي حاتم (1/85) والمستدرك (2/61).
(8) زيادة من جـ.
(1/201)
أصلب من هذه الحجارة وأعظم.
[وقيل: المراد بها: حجارة الأصنام والأنداد التي كانت
تعبد من دون الله كما قال: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
حَصَبُ جَهَنَّمَ } الآية [الأنبياء: 98]، حكاه القرطبي وفخر الدين ورجحه
على الأول؛ قال: لأن أخذ النار في حجارة الكبريت ليس بمنكر فجعلها هذه الحجارة
أولى، وهذا الذي قاله ليس بقوي،؛ وذلك أن النار إذا أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك
أشد لحرها وأقوى لسعيرها، ولا سيما على ما ذكره السلف من أنها حجارة من كبريت معدة
لذلك، ثم إن أخذ النار في هذه الحجارة -أيضا-مشاهد، وهذا الجص يكون أحجارًا فتعمل
فيه بالنار حتى يصير كذلك. وكذلك سائر الأحجار تفخرها النار وتحرقها. وإنما سيق
هذا في حر هذه النار التي وعدوا بها، وشدة ضرامها وقوة لهبها كما قال: { كُلَّمَا
خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } [الإسراء: 97]. وهكذا رجح
القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمى ويشتد لهبها قال: ليكون
ذلك أشد عذابًا لأهلها، قال: وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "كل مؤذ في النار" وهذا الحديث ليس بمحفوظ ولا معروف (1) ثم قال
القرطبي: وقد فسر بمعنيين، أحدهما: أن كل من آذى الناس دخل النار (2) ، والآخر: كل
ما يؤذي فهو في النار يتأذى به أهلها من السباع والهوام وغير ذلك] (3) .
وقوله تعالى: { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } الأظهر أنّ
الضمير في { أُعِدَّتْ } عائد إلى النار التي وقودها الناس والحجارة، ويحتمل عوده
على الحجارة، كما قال ابن مسعود، ولا منافاة بين القولين في المعنى؛ لأنهما
متلازمان.
و { أُعِدَّتْ } أي: أرصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله، كما قال [محمد]
(4) بن إسحاق، عن محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { أُعِدَّتْ
لِلْكَافِرِينَ } أي: لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر.
وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن
لقوله: { أُعِدَّتْ } أي: أرصدت وهيئت وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها:
"تحاجت الجنة والنار" ومنها: "استأذنت النار ربها فقالت: رب أكل
بعضي بعضًا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف"، وحديث ابن مسعود
سمعنا وجبة فقلنا ما هذه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا حجر ألقي
به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها" وهو عند مسلم (5) وحديث
صلاة الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنى وقد
خالفت المعتزلة بجهلهم في هذا ووافقهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الأندلس.
__________
(1) رواه الخطيب في تاريخ بغداد (11/299) من طريق المفيد عن الأشج، عن علي
رضي الله عنه به مرفوعًا.
(2) في أ: "عذب في النار".
(3) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(4) زيادة من جـ.
(5) صحيح مسلم برقم (2844).
(1/202)
تنبيه ينبغي الوقوف عليه:
قوله: { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } وقوله في
سورة يونس: { بِسُورَةٍ مِثْلِهِ } [يونس: 38] يعم كل سورة في القرآن طويلة كانت
أو قصيرة؛ لأنها نكرة في سياق الشرط فتعم كما هي في سياق النفي عند المحققين من
الأصوليين كما هو مقرر في موضعه، فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها، وهذا ما
أعلم فيه نزاعًا بين الناس سلفًا وخلفًا، وقد قال الإمام العلامة فخر الدين الرازي
في تفسيره: فإن قيل: قوله: { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } يتناول سورة
الكوثر وسورة العصر، و { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } ونحن نعلم
بالضرورة أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن. فإن قلتم: إن الإتيان بمثل هذه
السور خارج عن مقدور البشر كان مكابرة، والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق
بالتهمة (1) إلى الدين: قلنا: فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني، وقلنا: إن بلغت
هذه السورة في الفصاحة حد الإعجاز فقد حصل المقصود، وإن لم يكن كذلك، كان امتناعهم
من المعارضة مع شدة دواعيهم إلى تهوين أمره معجزًا (2) ، فعلى التقديرين يحصل
المعجز (3) ، هذا لفظه بحروفه. والصواب: أن كل سورة من القرآن معجزة لا يستطيع
البشر معارضتها طويلة كانت أو قصيرة.
قال الشافعي، رحمه الله: لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم: {
وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [سورة العصر].
وقد روينا عن عمرو بن العاص أنه وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم، فقال له
مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم بمكة في هذا الحين؟ فقال له عمرو: لقد أنزل عليه
سورة وجيزة بليغة فقال: وما هي؟ فقال: { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي
خُسْرٍ } ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال: ولقد أنزل عليَّ مثلها، فقال: وما هو؟ فقال:
يا وبْر يا وبْر، إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حقر فقر، ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟
فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني لأعلم إنك تكذب (4) .
__________
(1) في أ: "الفهم".
(2) في أ: "معجز".
(3) في أ: "العجز".
(4) سيأتي الكلام على هذه القصة عند تفسير سورة العصر.
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ
رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا
وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) إِنَّ
اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا
يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا
الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ
وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ
أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا
فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
(28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
البقرة - تفسير ابن كثير
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ
رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا
وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
{ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ
ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ
مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) }
لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به (1) وبرسله من
العذاب والنكال، عَطف بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به (2) وبرسله، الذين
صَدَّقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة، وهذا معنى تسمية القرآن "مثاني" على
أصح أقوال (3) العلماء، كما سنبسطه في موضعه، وهو أن يذكر
الإيمان ويتبعه بذكر الكفر، أو عكسه، أو حال السعداء ثم الأشقياء، أو عكسه. وحاصله
ذكر الشيء ومقابله. وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك التشابه، كما سنوضحه
إن شاء الله؛ فلهذا قال تعالى: { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } فوصفها
بأنها تجري من تحتها
__________
(1) في جـ: "بالله تعالى".
(2) في جـ: "بالله تعالى".
(3) في جـ: "قولي".
(1/203)
الأنهار، كما وصف النار بأن وقودها الناس والحجارة، ومعنى { تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي: من تحت أشجارها وغرفها، وقد جاء في الحديث: أن
أنهارها تجري من (1) غير أخدود، وجاء في الكوثر أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف، ولا
منافاة بينهما، وطينها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر، نسأل الله من فضله
[وكرمه] (2) إنه هو البر الرحيم.
وقال ابن أبي حاتم: قرئ على الربيع بن سليمان: حدثنا أسد بن موسى، حدثنا
ابن ثوبان، عن عطاء بن قرّة، عن عبد الله بن ضمرة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "أنهار الجنة تُفَجَّر من تحت تلال -أو من تحت
جبال-المسك" (3) .
وقال أيضا: حدثنا أبو سعيد، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة،
عن مسروق، قال: قال عبد الله: أنهار الجنة تفجر من جبل مسك.
وقوله تعالى: { كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا
قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ } قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك،
وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مُرّة عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: { قَالُوا هَذَا
الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ } قال: إنهم أتوا بالثمرة في الجنة، فلما نظروا
إليها قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل في [دار] (4) الدنيا.
وهكذا قال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ونصره ابن جرير.
وقال عكرمة: { قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ } قال:
معناه: مثل الذي كان بالأمس، وكذا قال الربيع بن أنس. وقال مجاهد: يقولون: ما
أشبهه به.
قال ابن جرير: وقال آخرون: بل تأويل ذلك هذا الذي رزقنا من ثمار الجنة
من قبل هذا (5) لشدة مشابهة بعضه بعضًا، لقوله تعالى: { وَأُتُوا بِهِ
مُتَشَابِهًا } قال سُنَيْد بن داود: حدثنا شيخ من أهل المِصِّيصة، عن الأوزاعي،
عن يحيى بن أبي كثير، قال: يؤتى أحدهم بالصحفة (6) من الشيء، فيأكل منها ثم يؤتى
(7) بأخرى فيقول: هذا الذي أوتينا به من قبل. فتقول الملائكة: كُلْ، فاللون واحد،
والطعم مختلف.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عامر (8) بن
يَسَاف، عن يحيى بن أبي كثير قال: عشب الجنة الزعفران، وكثبانها المسك، ويطوف
عليهم الولدان بالفواكه فيأكلونها (9) ثم يؤتون بمثلها، فيقول لهم أهل الجنة: هذا
الذي أتيتمونا آنفا به، فيقول لهم الولدان: كلوا، فإن اللون واحد، والطعم مختلف.
وهو قول الله تعالى: { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا }
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: { وَأُتُوا
بِهِ مُتَشَابِهًا } قال: يشبه
__________
(1) في جـ، ط، ب، أ، و: "في".
(2) زيادة من جـ، ط، ب.
(3) تفسير ابن أبي حاتم (1/87) ورواه أبو نعيم في صفة الجنة برقم (313) من طريق
الربيع بن سليمان به، ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (2622) "موارد" من طريق
القراطيسي عن أسد بن موسى عن ابن ثوبان به.
(4) زيادة من جـ.
(5) في جـ: "هذه".
(6) في جـ، ب: "بالصحيفة".
(7) في جـ: "يأتي".
(8) في أ: "عباس".
(9) في جـ: "فيأكلون".
(1/204)
بعضه بعضًا، ويختلف في الطعم.
وقال ابن أبي حاتم: ورُوي عن مجاهد، والربيع بن أنس، والسدي نحو ذلك.
وقال ابن جرير بإسناده عن السدي في تفسيره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح،
عن ابن عباس وعن مُرّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة، في قوله تعالى: { وَأُتُوا بِهِ
مُتَشَابِهًا } يعني: في اللون والمرأى، وليس يشتبه (1) في الطعم.
وهذا اختيار ابن جرير.
وقال عكرمة: { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } قال: يشبه ثمر الدنيا، غير
أن ثمر الجنة أطيب.
وقال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن أبي ظِبْيان، عن ابن عباس، لا يشبه
شَيءٌ مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء، وفي رواية: ليس في الدنيا مما في
الجنة إلا الأسماء. رواه ابن جرير، من رواية الثوري، وابن أبي حاتم من حديث أبي
معاوية كلاهما عن الأعمش، به.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا
} قال: يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا: التفاح بالتفاح، والرمان بالرمان،
قالوا في الجنة: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا، وأتوا به متشابها، يعرفونه وليس
هو مثله في الطعم.
وقوله تعالى: { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ } قال ابن أبي
طلحة، عن ابن عباس: مطهرة من القذر والأذى.
وقال مجاهد: من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد.
وقال قتادة: مطهرة من الأذى والمأثم. وفي رواية عنه: لا حيض ولا كلف.
وروي عن عطاء والحسن والضحاك وأبي صالح وعطية والسدي نحو ذلك.
وقال ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وهب، عن عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم، قال: المطهرة التي لا تحيض. قال: وكذلك خلقت حواء، عليها السلام،
حتى عصت، فلما عصت قال الله تعالى: إني خلقتك مطهرة وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة.
وهذا غريب.
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا إبراهيم بن محمد، حدثني جعفر بن
محمد بن حرب، وأحمد بن محمد الجُوري (2) قالا حدثنا محمد
بن عبيد الكندي، حدثنا عبد الرزاق بن عمر البَزيعيّ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن
شعبة، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله
تعالى: { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ } قال: "من الحيض والغائط
والنخاعة والبزاق" (3) .
هذا حديث غريب. وقد رواه الحاكم في مستدركه، عن محمد بن يعقوب، عن الحسن
بن علي بن عفان، عن محمد بن عبيد، به، وقال: صحيح على شرط الشيخين.
__________
(1) في جـ: "يشبه".
(2) في جـ، ط، ب: "الجواري".
(3) ورواه أبو نعيم في صفة الجنة برقم (363) من طريق عبد الله بن محمد بن
يعقوب عن محمد بن عبيد به.
(1/205)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً
فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ
بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ
بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ
مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي
الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
وهذا الذي ادعاه فيه نظر؛ فإن عبد الرزاق بن عمر البزيعي (1) هذا قال
فيه أبو حاتم بن حبان البُسْتي: لا يجوز الاحتجاج به (2) .
قلت: والأظهر أن هذا من كلام قتادة، كما تقدم، والله أعلم.
وقوله تعالى: { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } هذا (3) هو تمام السعادة،
فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين من الموت والانقطاع فلا آخر له ولا انقضاء، بل
في نعيم سرمدي أبدي على الدوام، والله المسؤول أن يحشرنا في زمرتهم، إنه جواد كريم،
بر رحيم.
{ إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا
فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ
بِهَذَا مَثَلا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ
إِلا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ
مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي
الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) }
قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مرة،
عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين، يعني
قوله: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } [البقرة: 17] وقوله {
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ } [البقرة: 19]
الآيات الثلاث، قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله
هذه الآية إلى قوله: { هُمُ الْخَاسِرُونَ }
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: لما ذكر الله العنكبوت والذباب،
قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنزل الله [تعالى هذه الآية] (4) { إِنَّ اللَّهَ لا
يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } (5) .
وقال سعيد، عن قتادة : أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئا ما،
قل أو كثر، وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة: ما أراد
الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله: { إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ
مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا }
قلت: العبارة الأولى عن قتادة فيها إشعار أن هذه الآية مكية، وليس كذلك،
وعبارة رواية سعيد، عن قتادة أقرب والله أعلم. وروى ابن جُرَيج عن مجاهد نحو هذا
الثاني عن قتادة.
وقال ابن أبي حاتم: روي عن الحسن وإسماعيل بن أبي خالد نحو قول السدي
وقتادة.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في هذه الآية قال: هذا مثل ضربه
الله للدنيا؛ إذ
__________
(1) في أ: "الربعي".
(2) المجروحين (2/160).
(3) في جـ، ط: "وهذا".
(4) زيادة من ط.
(5) تفسير عبد الرزاق (1/64).
(1/206)
البعوضة تحيا ما جاعت، فإذا سمنت ماتت. وكذلك مثل هؤلاء (1) القوم الذين
ضرب لهم هذا المثل في القرآن، إذا امتلؤوا من الدنيا ريا أخذهم الله تعالى عند
ذلك، ثم تلا { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ
كُلِّ شَيْءٍ } [الأنعام: 44] .
هكذا رواه ابن جرير، ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر، عن الربيع،
عن أبي العالية، بنحوه، فالله أعلم.
فهذا اختلافهم في سبب النزول، وقد اختار ابن جرير ما حكاه السُّدي؛ لأنه
أمس بالسورة، وهو مناسب، ومعنى الآية: أنه تعالى أخبر أنه لا يستحيي، أي: لا يستنكف،
وقيل: لا يخشى أن يضرب مثلا ما، أي: أيّ مثل كان، بأي شيء كان، صغيرًا كان أو
كبيرًا.
و "ما" هاهنا للتقليل (2) وتكون { بَعُوضَةً } منصوبة على
البدل، كما تقول: لأضربن ضربًا ما، فيصدق بأدنى شيء [أو تكون "ما" نكرة
موصوفة ببعوضة] (3) . واختار ابن جرير أن ما موصولة، و { بَعُوضَةً }
معربة بإعرابها، قال: وذلك سائغ (4) في كلام العرب، أنهم يعربون صلة ما ومن
بإعرابهما لأنهما يكونان معرفة تارة، ونكرة أخرى، كما قال حسان بن ثابت:
وَكَفَى (5) بِنَا فَضْلا عَلَى مَنْ غَيْرِنَا ... حُب (6) النَّبِيِّ
مُحَمَّدٍ إيَّانَا (7)
قال: ويجوز أن تكون { بَعُوضَةً } منصوبة بحذف الجار، وتقدير الكلام: إن
الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها.
[وهذا الذي اختاره الكسائي والفراء. وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة
ورويت "بعوضة" بالرفع، قال ابن جني: وتكون صلة لما
وحذف العائد كما في قوله: { تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ } [الأنعام:
154] أي: على الذي أحسن هو أحسن، وحكى سيبويه: ما أنا بالذي قائل لك شيئا، أي:
يعني بالذي هو قائل لك شيئًا] (8) .
وقوله: { فَمَا فَوْقَهَا } فيه قولان: أحدهما: فما دونها في الصغر،
والحقارة، كما إذا وصف رجل باللؤم والشح، فيقول السامع (9) : نعم، وهو فوق
ذلك، يعني فيما وصفت. وهذا قول الكسائي وأبي عبيدة، قال الرازي: وأكثر المحققين،
وفي الحديث: "لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة
ماء" (10) . والثاني: فما فوقها: فما هو أكبر منها؛ لأنه ليس شيء أحقر ولا
أصغر من البعوضة. وهذا [قول قتادة بن دعامة و] (11) اختيار ابن جرير.
__________
(1) في أ: "هذا".
(2) في جـ، ط، ب، أ، و: "للتقليل زائدة".
(3) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(4) في جـ، أ، و: "شائع".
(5) في جـ، ب، أ، و: "يكفي".
(6) في جـ: "حث".
(7) البيت في تفسير الطبري (1/404).
(8) زيادة من جـ، ط، ب.
(9) في جـ: "القابل".
(10) رواه الترمذي في السنن برقم (2320) من طريق عبد الحميد بن سليمان عن أبي
حازم، عن سهل بن سعد رضي الله عنه به مرفوعا، وفيه عبد الحميد بن سليمان ضعيف.
(11) زيادة من جـ، ط.
(1/207)
[ويؤيده ما رواه مسلم عن عائشة، رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت
عنه بها خطيئة" (1) ] (2) .
فأخبر أنه لا يستصغر (3) شيئًا يَضْرب به مثلا ولو كان في الحقارة
والصغر كالبعوضة، كما [لم يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف من] (4) ضرب المثل بالذباب
والعنكبوت في قوله: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ
اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ
مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } [الحج: 73]، وقال: { مَثَلُ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ
بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ
} [العنكبوت: 41] وقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا
كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي
السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ
الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ
كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ *
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ
} [إبراهيم: 24-27]، وقال تعالى: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا
يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا] (5) } الآية
[النحل: 75]، ثم قال: { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ
لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا
يَأْتِ بِخَيْرٍ [هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ] (6) } الآية [النحل: 76]،
كما قال: { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ } الآية [الروم: 28].
وقال: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ [وَرَجُلا
سَلَمًا لِرَجُلٍ] (7) } الآية [الزمر: 29]، وقد قال تعالى: { وَتِلْكَ الأمْثَالُ
نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ } [العنكبوت: 43] وفي
القرآن أمثال كثيرة.
قال بعض السلف: إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي؛ لأن
الله تعالى يقول: { وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا
إِلا الْعَالِمُونَ }
وقال مجاهد قوله: { إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا
مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } الأمثال صغيرها وكبيرها يؤمن بها المؤمنون
ويعلمون أنها الحق من ربهم، ويهديهم الله بها.
وقال قتادة: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ } أي: يعلمون أنه كلام الرحمن، وأنه من عند الله.
وروي عن مجاهد والحسن والربيع بن أنس نحو ذلك.
وقال أبو العالية: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّهِمْ } يعني: هذا المثل: { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ
مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا } كما قال في سورة المدثر: { وَمَا
جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ
مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ }
[المدثر: 31]،
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2572)
(2) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(3) في جـ: "لا يستنكف".
(4) زيادة من جـ، ط.
(5) زيادة من جـ، ط.
(6) زيادة من جـ.
(7) زيادة من جـ.
(1/208)
وكذلك قال هاهنا: { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا
وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ }
قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مرة،
عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا } يعني: المنافقين، { وَيَهْدِي بِهِ
كَثِيرًا } يعني المؤمنين، فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالهم (1) لتكذيبهم بما قد
علموه حقًا يقينًا، من المثل الذي ضربه الله بما ضربه لهم (2) وأنه لما ضربه له
موافق، فذلك (3) إضلال الله إياهم به { وَيَهْدِي بِهِ } يعني بالمثل كثيرًا من
أهل الإيمان والتصديق، فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانًا إلى إيمانهم، لتصديقهم بما
قد علموه حقًا يقينًا أنه موافق ما (4) ضربه الله له مثلا وإقرارهم به، وذلك هداية
من الله لهم به { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ } قال: هم المنافقون (5) .
وقال أبو العالية: { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ } قال: هم
أهل النفاق. وكذا قال الربيع بن أنس.
وقال ابن جريج عن مجاهد، عن ابن عباس: { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا
الْفَاسِقِينَ } يقول: يعرفه الكافرون فيكفرون به.
وقال قتادة: { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ } فسقوا، فأضلهم
الله على فسقهم.
وقال ابن أبي حاتم: حُدّثتُ عن إسحاق بن سليمان، عن أبي سِنان، عن عمرو
بن مرة، عن مصعب بن سعد، عن سعد { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا } يعني الخوارج.
وقال شعبة، عن عمرو بن مرة، عن مصعب بن سعد، قال: سألت أبي فقلت: قوله
تعالى: { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ
مِيثَاقِهِ } إلى آخر الآية، فقال: هم الحرورية. وهذا الإسناد إن صح عن سعد بن أبي
وقاص، رضي الله عنه، فهو تفسير على المعنى، لا أن (6) الآية أريد منها التنصيص على
الخوارج، الذين خرجوا على عليٍّ بالنهروان، فإن أولئك لم يكونوا حال نزول الآية،
وإنما هم داخلون بوصفهم فيها مع من دخل؛ لأنهم سموا خوارج لخروجهم على (7) طاعة
الإمام والقيام بشرائع الإسلام.
والفاسق في اللغة: هو الخارج عن الطاعة أيضًا. وتقول العرب: فسقت
الرطبة: إذا خرجت من قشرتها (8) ؛
ولهذا يقال للفأرة: فويسقة، لخروجها عن جُحْرها للفساد. وثبت في الصحيحين، عن
عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمس فواسق يُقتلن في الحل
والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور" (9) .
__________
(1) في جـ، ط، ب: "ضلالتهم".
(2) في جـ، ط، أ: "لما ضربه له".
(3) في جـ: "فوافق ذلك".
(4) في جـ، ط: "لما".
(5) في أ: "أهل النفاق".
(6) في جـ: "لأن"، وفي ط: "إلا أن".
(7) في جـ، ط، ب، أ: "عن".
(8) في أ: "قشرها".
(9) صحيح البخاري برقم (3314) وصحيح مسلم برقم (1198).
(1/209)
فالفاسق يشمل (1) الكافر والعاصي، ولكن فسْق الكافر أشد وأفحش، والمراد
من الآية الفاسق الكافر، والله أعلم، بدليل (2) أنه وصفهم بقوله: { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ
عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ
أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
وهذه الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين، كما قال تعالى في
سورة الرعد: { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ
كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ
بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا
أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ
الْحِسَابِ } الآيات، إلى أن قال: { وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ
بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ
فِي الأرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [الرعد:
19-25] .
وقد اختلف أهل التفسير في معنى العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه،
فقال بعضهم: هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه
إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه، وعلى لسان رسله، ونقضهم (3) ذلك هو تركهم
العمل به.
وقال آخرون: بل هي (4) في كفار أهل
الكتاب والمنافقين منهم، وعهد الله الذي نقضوه هو ما أخذه الله عليهم في التوراة
من العمل بما فيها واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث والتصديق به، وبما جاء
به من عند ربهم، ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته وإنكارهم ذلك،
وكتمانهم علم ذلك [عن] (5) الناس بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه
للناس ولا يكتمونه، فأخبر تعالى أنهم نبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنًا قليلا.
وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله وقول مقاتل بن حيان.
وقال آخرون: بل عنى بهذه الآية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق. وعهده
إلى جميعهم في توحيده: ما وضع لهم (6) من الأدلة الدالة على ربوبيته، وعهده إليهم
في أمره ونهيه ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن
يأتي بمثلها (7) الشاهدة لهم على صدقهم، قالوا: ونقضهم ذلك: تركهم (8) الإقرار بما
ثبتت لهم صحته بالأدلة وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق، وروي
أيضًا عن مقاتل بن حيان (9) نحو هذا، وهو حسن، [وإليه مال الزمخشري، فإنه قال: فإن
قلت: فما المراد بعهد الله؟ قلت: ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد، كأنه أمر
وصاهم به ووثقه عليهم وهو معنى قوله: { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } [الأعراف: 172] إذ أخذ الميثاق عليهم في
الكتب المنزلة عليهم لقوله: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [البقرة:
40] (10) .
وقال آخرون: العهد الذي ذكره [الله] (11) تعالى هو العهد الذي أخذه
عليهم حين أخرجهم من
__________
(1) في جـ: "شمل".
(2) في طـ: "الدليل".
(3) في جـ: "وبغضهم".
(4) في جـ: "هو".
(5) زيادة من جـ، ط.
(6) في جـ، ط: "إليهم".
(7) في و: "بمثله".
(8) في جـ: "عدم".
(9) في جـ، ط، أ، و: "بن حيان أيضا".
(10) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(11) زيادة من جـ.
(1/210)
صلب آدم الذي وصف في قوله: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ
مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
قَالُوا بَلَى [شَهِدْنَا] } (1) الآيتين [الأعراف: 172، 173] ونقضهم (2) ذلك
تركهم الوفاء به. وهكذا روي عن مقاتل بن حيان أيضًا، حكى هذه الأقوال ابن جرير في
تفسيره.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: {
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ } إلى قوله: {
الْخَاسِرُونَ } قال: هي ست خصال من (3) المنافقين إذا
كانت فيهم الظَّهْرَة (4) على الناس أظهروا هذه الخصال: إذا حدثوا كذبوا،
وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما
أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض، وإذا كانت الظَّهْرَةُ (5) عليهم أظهروا
الخصال (6) الثلاث: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا.
وكذا (7) قال الربيع بن أنس أيضًا. وقال السدي في تفسيره بإسناده، قوله
تعالى: { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ } قال: هو
ما عهد إليهم في القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه.
وقوله: { وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } قيل:
المراد به صلة الأرحام والقرابات، كما فسره قتادة كقوله تعالى: { فَهَلْ
عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا
أَرْحَامَكُمْ } [محمد: 22] ورجحه ابن جرير. وقيل: المراد أعم من
ذلك فكل ما أمر الله بوصله وفعله قطعوه وتركوه.
وقال مقاتل بن حيان في قوله: { أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } قال (8)
في الآخرة، وهذا كما قال تعالى: { أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ
الدَّارِ } [الرعد: 25] .
وقال الضحاك عن ابن عباس: كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم
مثل خاسر، فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذنب.
وقال ابن جرير في قوله: { أُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ } الخاسرون: جمع خاسر، وهم الناقصون أنفسهم [و] (9) حظوظهم
بمعصيتهم الله من رحمته، كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه،
وكذلك الكافر والمنافق خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة
أحوج ما كانوا إلى رحمته، يقال منه: خسر الرجل يخسر خَسْرًا وخُسْرانًا وخَسارًا،
كما قال جرير بن عطية (10) إن سَلِيطًا في الخَسَارِ إنَّه ... أولادُ قَومٍ
خُلقُوا أقِنَّه (11)
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) في جـ: "وبغضهم".
(3) في جـ، ط: "في".
(4) في جـ: "الظهيرة".
(5) في جـ: "الظهيرة".
(6) في جـ: "أخفوا هذه الخصال".
(7) في جـ: "وقال".
(8) في أ: "أي".
(9) زيادة من جـ.
(10) في أ: "خطيئة".
(11) اليت في تفسير الطبري (1/417).
(1/211)
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ
ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) }
يقول تعالى محتجًا على وجوده وقدرته، وأنه الخالق المتصرف في عباده: {
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ } أي: كيف تجحدون وجوده أو تعبدون معه غيره! { وَكُنْتُمْ
أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ } أي: قد كنتم عدمًا فأخرجكم إلى الوجود، كما قال تعالى:
{ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ } [الطور: 35، 36]، وقال { هَلْ أَتَى عَلَى
الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا } [الإنسان: 1]
والآيات في هذا كثيرة.
وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود،
رضي الله عنه: { قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا
اثْنَتَيْنِ } [غافر: 11] قال: هي التي في البقرة: { وَكُنْتُمْ
أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ }
وقال ابن جُريج (1) ، عن عطاء، عن ابن عباس: { كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ
} أمواتا في أصلاب آبائكم، لم تكونوا شيئًا حتى خلقكم، ثم يميتكم موتة الحق، ثم
يحييكم حين يبعثكم. قال: وهي مثل قوله: { [رَبَّنَا] (2) أَمَتَّنَا
اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } .
وقال الضحاك، عن ابن عباس في قوله: { رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا
اثْنَتَيْنِ } قال: كنتم ترابًا قبل أن يخلقكم (3) ، فهذه ميتة، ثم أحياكم فخلقكم
فهذه حياة، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة
فهذه حياة أخرى. فهذه ميتتان وحياتان، فهو كقوله: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ
وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ }
وهكذا روي عن السدي بسنده، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن
مرة، عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة-وعن أبي العالية والحسن البصري ومجاهد
وقتادة وأبي صالح والضحاك وعطاء الخراساني نَحْوُ ذلك.
وقال الثوري، عن السدي عن أبي صالح: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ
وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ
إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } قال: يحييكم (4) في القبر (5) ، ثم يميتكم.
وقال ابن جرير عن يونس، عن ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم؛
خلقهم في (6) ظهر آدم ثم أخذ (7) عليهم الميثاق، ثم أماتهم ثم خلقهم في الأرحام،
ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة. وذلك كقول الله تعالى: { قَالُوا رَبَّنَا
أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ }
__________
(1) في جـ، ط: "جرير".
(2) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(3) في جـ: "أخلفكم".
(4) في أ: "يحيهم".
(5) في جـ: "القبور".
(6) في جـ، ط: "من".
(7) في جـ، ط: "فأخذ".
(1/212)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى
إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
وهذا غريب والذي قبله. والصحيح ما تقدم عن ابن مسعود وابن عباس، وأولئك
الجماعة من التابعين، وهو كقوله تعالى: { قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [الجاثية: 26] .
[وعبر عن الحال قبل الوجود بالموت بجامع ما يشتركان فيه من عدم الإحساس،
كما قال في الأصنام: { أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ } [النحل: 21]، وقال { وَآيَةٌ لَهُمُ
الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ
يَأْكُلُونَ } [يس: 33] (1) .
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى
إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
(29)
}
لما ذكر تعالى دلالةً مِنْ خَلْقهم وما يشاهدونه من أنفسهم، ذكر دليلا
آخر مما يشاهدونه مِنْ خَلْق السماوات والأرض، فقال: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ
مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ } أي: قصد إلى السماء، والاستواء
هاهنا تَضَمَّن (2) معنى القصد والإقبال؛ لأنه عدي بإلى { فَسَوَّاهُنَّ }
أي: فخلق السماء سبعًا، والسماء هاهنا اسم جنس، فلهذا قال: { فَسَوَّاهُنَّ }
. { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي: وعلمه محيط بجميع ما خلق (3) . كما قال:
{ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } [الملك: 14] وتفصيل هذه الآية
في سورة حم السجدة وهو قوله: { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ
الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ
* وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا
أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى
إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ
كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ
وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا
بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [فصلت: 9-12] .
ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولا ثم خلق السماوات
سبعًا، وهذا شأن البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك، وقد صرح المفسرون
بذلك، كما سنذكره بعد هذا إن شاء الله. فأما قوله تعالى: { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ
خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا
فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأرْضَ بَعْدَ
ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ
أَرْسَاهَا } [النازعات: 27-32] فقد قيل: إن { ثُمَّ } هاهنا
إنما هي لعطف الخبر على الخبر، لا لعطف الفعل على الفعل، كما قال الشاعر:
قل لمن ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جده (4)
وقيل: إن الدَّحْىَ كان بعد خلق السماوات، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن
عباس.
__________
(1) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(2) في جـ، ط: "مضمن".
(3) في جـ: "وعلمه محيط بجميع الخلق"، وفي ط: "وعلمه محيط
بالأشياء بجميع ما خلق".
(4) البيت في مغني البيب لابن هشام غير منسوب. أ. هـ. مستفادا من حاشية
الشعب.
(1/213)
وقد قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك -وعن أبي صالح عن ابن عباس-وعن
مُرّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ
جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ
[وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ] (1) } قال: إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على
الماء، ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء. فلما أراد أن يخلق الخلق، أخرج من
الماء دخانًا، فارتفع فوق الماء فسما عليه، فسماه سماء. ثم أيبس الماء فجعله أرضًا
واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين في الأحد والاثنين، فخلق الأرض على
حوت، والحوتُ هو النون الذي ذكره الله في القرآن: { ن وَالْقَلَمِ (2) } والحوت في
الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر مَلَك، والملك على صخرة، والصخرة في
الريح، وهي الصخرة التي ذكر (3) لقمان -ليست في السماء ولا في الأرض، فتحرك الحوت فاضطرب،
فتزلزلت الأرض، فأرسى عليها الجبال فَقَرّت، فالجبال تفخر على الأرض، فذلك قوله
تعالى: { وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ (4) } [النحل: 15]
. وخلق الجبال فيها، وأقواتَ أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين، في الثلاثاء
والأربعاء، وذلك حين يقول: { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ
الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ
* وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا } [فصلت: 9، 10].
يقول:
أنبت شجرها { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا } يقول: أقواتها لأهلها {
فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ } [فصلت: 10] يقول: من سأل فهكذا
الأمر. { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } [فصلت: 11] وذلك الدخان من
تنفس الماء حين تنفس، فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين، في
الخميس والجمعة، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض، {
وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا } [فضلت: 12] قال:
خلق الله في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي (5) فيها، من البحار
وجبال البَرَد وما لا نعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب، فجعلها زينة وحفظًا
(6) تُحْفَظُ من الشياطين. فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش، فذلك حين
يقول: { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى
عَلَى الْعَرْشِ } [الأعراف: 54] ويقول { كَانَتَا
رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } [الأنبياء: 30] .
وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني أبو معشر
عن سعيد بن أبي سعيد، عن عبد الله بن سلام أنه قال: إن الله بدأ الخلق يوم الأحد،
فخلق الأرضين في الأحد والاثنين، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء، وخلق
السماوات في الخميس والجمعة، وفرغ في آخر (7) ساعة من يوم الجمعة، فخلق فيها آدم
على عَجَل، فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة.
وقال مجاهد في قوله: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ
جَمِيعًا } قال: خلق الله الأرض قبل السماء، فلما خلق الأرض
ثار منها دخان، فذلك حين يقول: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ }
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) في جـ: "والقلم وما يسطرون".
(3) في ب: "ذكرها"
(4) في جـ: "وجعل لها رواسي من فوقها أن تميد بكم"، وفي ط:
"وجعل لها رواسي أن تميد بكم"، وفي ب: "وجعلنا في الأرض رواسي أن
تميد بكم".
(5) في جـ، ط: "الذين".
(6) في أ: "وحفظها".
(7) في جـ: "وأخر".
(1/214)
{ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } قال: بعضهن فوق بعض، وسبع أرضين،
يعني بعضهن تحت بعض.
وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء، كما قال في آية السجدة:
{ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ
لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ
فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ
أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ
دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا
أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ
وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا
بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [فصلت: 9-12]
فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعًا بين العلماء
إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة: أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض، وقد توقف في
ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ
بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ
لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ
مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا } [النازعات: 27-31] قالوا: فذكر خلق
السماء قبل الأرض. وفي صحيح البخاري (1) : أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه، فأجاب
بأن الأرض خلقت قبل السماء وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء، وكذلك أجاب غير
واحد من علماء التفسير قديمًا وحديثًا، وقد قررنا ذلك في تفسير سورة النازعات،
وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله: { وَالأرْضَ بَعْدَ
ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ
أَرْسَاهَا } [النازعات: 30-32] ففسر الدحي بإخراج ما كان مودعًا فيها بالقوة إلى
الفعل لما اكتملت صورة المخلوقات الأرضية ثم السماوية دحى بعد ذلك الأرض، فأخرجت
ما كان مودعًا فيها من المياه، فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها
وألوانها وأشكالها، وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت
والسيارة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه في تفسير هذه الآية الحديث الذي رواه
مسلم والنسائي في التفسير -أيضًا-من رواية ابن جُرَيج قال: أخبرني إسماعيل بن
أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة، قال: أخذ
رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: "خلق الله التربة يوم السبت، وخلق
الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء،
وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم
الجمعة من آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل" (2) .
وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم، وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري
وغير واحد من الحفاظ، وجعلوه من كلام كعب، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب
الأحبار، وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه (3) مرفوعا، وقد حرر ذلك البيهقي (4) .
__________
(1) صحيح البخاري (8/555) "فتح".
(2) تفسير ابن أبي حاتم (1/103) وصحيح مسلم برقم (2789) وسنن النسائي الكبرى
برقم (11010).
(3) في جـ، ط، ب: "فجعله".
(4) الأسماء والصفات (ص276) وللعلامة عبد الرحمن المعلمي كلام متين في تصحيح
هذا الحديث ورد الشبه عنه في كتابه "الأنوار الكاشفة" (ص185-190)
فليراجع فإنه مهم.
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ
خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا
تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى
الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ
بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ
لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا
تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ
اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ
(34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا
رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ
الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا
كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي
الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ
كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
البقرة - تفسير ابن كثير
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ
خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ
نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ
(30)
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ
خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا
تَعْلَمُونَ (30) }
يخبر (1) تعالى بامتنانه على بني آدم، بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى
قبل إيجادهم، فقال تعالى: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ } أي: واذكر يا
محمد إذ قال ربك للملائكة، واقصص على قومك ذلك. وحكى ابن جرير عن بعض أهل العربية
[وهو أبو عبيدة] (2) أنه زعم أن "إذ" هاهنا زائدة، وأن تقدير الكلام:
وقال ربك. ورده ابن جرير.
قال القرطبي: وكذا رده جميع المفسرين حتى قال الزجاج: هذا اجتراء (3) من
أبي عبيدة.
{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } أي: قوما يخلف بعضهم بعضا قرنا بعد
قرن وجيلا بعد جيل، كما قال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ
} [الأنعام: 165] وقال { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ } [النمل: 62]. وقال {
وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ }
[الزخرف: 60]. وقال { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } [مريم: 59]. [وقرئ في
الشاذ: "إني جاعل في الأرض خليقة" حكاه الزمخشري وغيره ونقلها القرطبي
عن زيد بن علي] (4) . وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم، عليه السلام، فقط، كما
يقوله طائفة من المفسرين، وعزاه القرطبي إلى ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل
التأويل، وفي ذلك نظر، بل الخلاف في ذلك كثير، حكاه فخر الدين الرازي في تفسيره
وغيره، والظاهر أنه لم يرد آدم عينًا إذ لو كان كذلك لما حسن قول الملائكة: { أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } فإنهم (5) إنما أرادوا أن
من هذا الجنس من يفعل ذلك، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص، أو بما فهموه من الطبيعة
البشرية فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صَلْصَال من حمإ مسنون [أو فهموا من
الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ويقع بينهم من المظالم ويرد عنهم المحارم
والمآثم، قاله القرطبي] (6) أو أنهم قاسوهم على من سبق، كما سنذكر أقوال المفسرين
في ذلك.
وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله، ولا على وجه الحسد
لبني آدم، كما قد يتوهمه بعض المفسرين [وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه
بالقول، أي: لا يسألونه شيئا لم يأذن لهم فيه وهاهنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في
الأرض خلقًا. قال قتادة: وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا: { أَتَجْعَلُ
فِيهَا } الآية] (7) وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن
الحكمة في ذلك، يقولون: يا ربنا، ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في
الأرض ويسفك الدماء، فإن كان المراد عبادتك، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك، أي: نصلي
لك كما سيأتي، أي: ولا يصدر منا شيء من ذلك، وهلا وقع الاقتصار علينا؟ قال الله
تعالى مجيبا لهم عن هذا السؤال: { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } أي: إني أعلم
من المصلحة (8) الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها (9) ما لا تعلمون
أنتم؛ فإني سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، ويوجد فيهم
__________
(1) في جـ: "أخبر".
(2) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(3) في أ: "إجرام".
(4) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(5) في جـ، ب: "فإن الله".
(6) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(7) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(8) في جـ: "بالمصلحة".
(9) في جـ: "الذي ذكروها".
(1/216)
الصديقون والشهداء، والصالحون والعباد، والزهاد والأولياء، والأبرار
والمقربون، والعلماء العاملون والخاشعون، والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله،
صلوات الله وسلامه عليهم.
وقد ثبت في الصحيح (1) : أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال
عباده سألهم وهو أعلم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم
يصلون وتركناهم وهم يصلون. وذلك لأنهم يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة
العصر، فيمكث هؤلاء ويصعد أولئك بالأعمال كما قال عليه السلام: "يرفع إليه
عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل" فقولهم: أتيناهم وهم
يصلون وتركناهم وهم يصلون من تفسير قوله: { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ }
وقيل: معنى قوله جوابًا لهم: { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } أن لي حكمة
مفصلة في خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها، وقيل: إنه جواب لقولهم: {
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } فقال: { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا
تَعْلَمُونَ } أي: من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به. وقيل: بل
تضمن قولهم: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ
إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } طلبًا منهم أن يسكنوا الأرض بدل بني آدم،
فقال الله تعالى لهم: { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } من أن بقاءكم في
السماء أصلح لكم وأليق بكم. ذكرها فخر الدين مع غيرها من الأجوبة، والله أعلم.
ذكر أقوال المفسرين ببسط ما ذكرناه:
قال ابن جرير: حدثني القاسم بن الحسن قال: حدثنا الحسين قال: حدثني
الحجاج، عن جرير بن حازم، ومبارك، عن الحسن وأبي بكر، عن الحسن وقتادة، قالوا: قال
الله للملائكة: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } قال لهم: إني فاعل. وهذا
معناه أنه أخبرهم بذلك.
وقال السدي: استشار الملائكة في خلق آدم. رواه ابن أبي حاتم، قال (2) :
وروي عن قتادة نحوه. وهذه العبارة إن لم ترجع إلى معنى الإخبار ففيها تساهل،
وعبارة الحسن وقتادة في رواية ابن جرير أحسن، والله أعلم.
{ فِي الأرْضِ } قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد
(3) حدثنا عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن بن سابط أن رسول الله (4) صلى الله عليه
وسلم قال: "دُحِيت الأرض من مكة، وأول من طاف بالبيت الملائكة، فقال الله:
إني جاعل في الأرض خليفة، يعني مكة" (5) .
وهذا مرسل، وفي سنده ضعف، وفيه مُدْرَج، وهو أن المراد بالأرض مكة،
والله أعلم، فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك.
{ خَلِيفَةً } قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس
-وعن مرة، عن ابن
مسعود، وعن ناس من الصحابة أن الله تعالى قال للملائكة: { إِنِّي جَاعِلٌ
فِي الأرْضِ خَلِيفَةً }
__________
(1) صحيح مسلم برقم (632) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) في جـ، ط: "وقال".
(3) في جـ: "أحمد".
(4) في جـ، ط، ب: "النبي".
(5) تفسير ابن أبي حاتم (1/108).
(1/217)
قالوا (1) : ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في
الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا.
قال ابن جرير: فكان تأويل الآية على هذا: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً
} مني، يخلفني في الحكم بين خلقي، وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة
الله والحكم (2) بالعدل بين خلقه. وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها (3) فمن غير
خلفائه.
قال ابن جرير: وإنما [كان تأويل الآية على هذا] (4) معنى الخلافة التي
ذكرها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرنا.
قال: والخليفة الفعلية من قولك، خلف فلان فلانا في هذا
الأمر: إذا قام مقامه فيه بعده، كما قال تعالى: { ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ
فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [يونس: 14]. ومن ذلك
قيل للسلطان الأعظم: خليفة؛ لأنه خلف الذي كان قبله، فقام بالأمر مقامه، فكان منه
خَلَفًا.
قال: وكان محمد بن إسحاق يقول في قوله تعالى: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي
الأرْضِ خَلِيفَةً } يقول: ساكنا وعامرا يسكنها ويعمرها خلفا ليس منكم.
قال ابن جرير: وحدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا بشر بن
عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: أول من سكن الأرض الجنُّ،
فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء، وقتل بعضهم بعضا. قال: فبعث الله إليهم
إبليس، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم (5) بجزائر البحور وأطراف الجبال. ثم خلق
آدم وأسكنه إياها، فلذلك قال: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } (6) .
وقال سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن ابن سابط: { إِنِّي جَاعِلٌ
فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ
الدِّمَاءَ } قال: يعنون [به] (7) بني آدم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: قال الله للملائكة: إني أريد أن أخلق
في الأرض خلقا وأجعل فيها خليفة وليس لله، عز وجل، خلق إلا الملائكة، والأرض ليس
فيها خلق، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها [ويسفك الدماء] (8) ؟!
وقد تقدم ما رواه السدي، عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة: أن
الله أعلم الملائكة بما يفعل ذرّية آدم، فقالت الملائكة ذلك. وتقدم آنفا (9) ما
رواه الضحاك، عن ابن عباس: أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم، فقالت الملائكة
ذلك، فقاسوا هؤلاء بأولئك.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسي، حدثنا
أبو معاوية، حدثنا
__________
(1) في جـ: "فقالوا".
(2) في جـ: "وحكم".
(3) في جـ، ط، أ: "حقها".
(4) زيادة من جـ.
(5) في جـ: "ألحقوهم".
(6) تفسير الطبري (1/450).
(7) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(8) زيادة من جـ.
(9) في جـ، ط: "أيضا".
(1/218)
الأعمش، عن بُكَير (1) بن الأخنس، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، قال:
كان الجن بنو الجان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة، فأفسدوا في الأرض، وسفكوا
الدماء، فبعث الله جندا من الملائكة فضربوهم، حتى ألحقوهم بجزائر البحور، فقال
الله للملائكة: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } قالوا: أتجعل فيها من
يفسد فيها ويسفك الدماء؟ قال: إني أعلم ما لا تعلمون (2) .
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: { إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } إلى قوله: { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ } [البقرة: 33] قال: خلق الله الملائكة يوم الأربعاء وخلق الجن يوم
الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة؛ فكفر قوم من الجن، فكانت الملائكة تهبط إليهم في
الأرض فتقاتلهم، فكانت الدماء بينهم، وكان الفساد في الأرض، فمن ثم قالوا: {
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا } كما أفسدت الجن { وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ
} كما سَفَكُوا.
قال ابن أبي حاتم: وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا سعيد بن
سليمان، حدثنا مبارك بن فضالة، حدثنا الحسن، قال: قال الله للملائكة: { إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } قال لهم: إني فاعل. فآمنوا بربهم (3) ، فعلمهم
علمًا وطوى عنهم علمًا علمه ولم يعلموه، فقالوا بالعلم الذي علمهم: { أَتَجْعَلُ فِيهَا
مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } ؟ { قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا
تَعْلَمُونَ }
قال الحسن: إن الجن كانوا في الأرض يفسدون (4) ويسفكون الدماء، ولكن جعل
الله في قلوبهم أن ذلك سيكون فقالوا بالقول الذي عَلَّمهم.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة في قوله: { أَتَجْعَلُ فِيهَا
مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا } كان [الله] (5) أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خَلْق أفسدوا
فيها وسفكوا الدماء، فذلك حين قالوا: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا }
(6)
.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام الرازي، حدثنا ابن المبارك،
عن معروف، يعني ابن خَرّبوذ المكي، عمن سمع أبا جعفر محمد بن علي يقول: السّجِلّ
ملك، وكان هاروت وماروت من أعوانه، وكان له في كل يوم ثلاث لمحات ينظرهن في أم
الكتاب، فنظر نظرة لم تكن له فأبصر فيها خلق آدم وما كان فيه من الأمور، فأسَر ذلك
إلى هاروت وماروت، وكانا من أعوانه، فلما قال تعالى: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ
خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ
} قالا ذلك استطالة على الملائكة.
وهذا أثر غريب. وبتقدير صحته إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسن الباقر،
فهو نقله عن أهل الكتاب، وفيه نكارة توجب رده، والله أعلم. ومقتضاه أن الذين قالوا
ذلك إنما كانوا اثنين فقط،
__________
(1) في أ: "بكر".
(2) تفسير ابن أبي حاتم (1/109).
(3) في أ، و: "أفأمنوا برأيهم".
(4) في جـ: "يفسدون في الأرض".
(5) زيادة من جـ، ط، ب، أ.
(6) تفسير عبد الرزاق (1/65).
(1/219)
وهو خلاف السياق.
وأغرب منه ما رواه ابن أبي حاتم -أيضًا-حيث قال: حدثنا أبي، حدثنا هشام
بن أبي عَبْد الله، حدثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير، قال: سمعت أبي يقول: إن الملائكة
الذين قالوا: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } كانوا عشرة آلاف،
فخرجت نار من عند الله فأحرقتهم.
وهذا -أيضًا-إسرائيلي منكر كالذي قبله، والله أعلم.
قال ابن جريج: إنما تكلموا بما أعلمهم الله أنه كائن من خلق آدم، فقالوا: { أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ }
وقال ابن جرير: وقال بعضهم: إنما قالت الملائكة ما قالت: { أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } ؛ لأن الله أذن لهم (1) في السؤال
عن ذلك، بعد ما أخبرهم (2) أن ذلك كائن من بني آدم، فسألته الملائكة، فقالت على
التعجب منها: وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم!؟ فأجابهم ربهم: { إِنِّي أَعْلَمُ
مَا لا تَعْلَمُونَ } يعني: أن ذلك كائن منهم، وإن لم تعلموه أنتم ومن بعض من
ترونه لي طائعا.
قال: وقال بعضهم: ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من
ذلك، فكأنهم قالوا: يا رب خبرنا، مسألة [الملائكة] (3) استخبار منهم، لا على وجه
الإنكار، واختاره ابن جرير.
وقال سعيد عن قتادة قوله: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } فاستشار الملائكة في خلق آدم، فقالوا: {
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } وقد علمت
الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في الأرض {
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا
تَعْلَمُونَ } فكان في علم الله أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون
وساكنو الجنة، قال: وذكر لنا عن ابن عباس أنه كان يقول: إن الله لما أخذ في خلق
آدم قالت الملائكة: ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا، فابتلوا بخلق
آدم، وكل خلق مبتلى كما ابتليت السماوات والأرض بالطاعة فقال: { اِئْتِيَا طَوْعًا
أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [فصلت: 11] .
وقوله تعالى: { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ
} قال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: التسبيحُ: التسبيحُ، والتقديس: الصلاة (4) .
وقال السدي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مُرّة، عن ابن مسعود-وعن
ناس من الصحابة: { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } قال: يقولون:
نصلي لك.
وقال مجاهد: { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } قال:
نعظمك ونكبرك.
__________
(1) في أ، و: "لها".
(2) في أ، و: "ما أخبرها".
(3) زيادة من جـ.
(4) تفسير عبد الرزاق (1/65).
(1/220)
وقال الضحاك: التقديس: التطهير.
وقال محمد بن إسحاق: { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ
} قال: لا نعصي ولا نأتي شيئًا تكرهه.
وقال ابن جرير: التقديس: هو التعظيم والتطهير، ومنه قولهم: سُبُّوح
قُدُّوس، يعني بقولهم: سُبوح، تنزيه له، وبقولهم: قدوس، طهارة وتعظيم له. ولذلك
قيل للأرض: أرض مقدسة، يعني بذلك المطهرة. فمعنى قول الملائكة إذًا: { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ } ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهلُ الشرك بك { وَنُقَدِّسُ لَكَ
} ننسبك إلى ما هو من صفاتك، من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك.
[وفي صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي
الكلام أفضل ؟ قال: "ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده" (1)
وروى البيهقي عن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به
سمع تسبيحًا في السماوات العلا "سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى" (2)
] (3)
.
{ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } قال قتادة: فكان في علم
الله أنه سيكون في تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة، وسيأتي عن
ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من الصحابة والتابعين أقوال في حكمة قوله تعالى: {
قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ }
وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين
الناس فيما يختلفون فيه، ويقطع تنازعهم، وينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم الحدود،
ويزجر عن تعاطي الفواحش، إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا يمكن إقامتها إلا
بالإمام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنة في أبي بكر، أو
بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم، أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق
بعمر بن الخطاب، أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر، أو باجتماع أهل
الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعة واحد منهم له فيجب التزامها عند الجمهور وحكى
على ذلك (4) إمام الحرمين الإجماع، والله أعلم، أو بقهر واحد الناس على طاعته فتجب
لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق والاختلاف، وقد نص عليه الشافعي.
وهل يجب الإشهاد على عقد الإمامة؟ فيه خلاف، فمنهم من قال: لا يشترط،
وقيل: بلى ويكفي شاهدان. وقال الجبائي: يجب أربعة وعاقد ومعقود له، كما ترك عمر
رضي الله عنه، الأمر شورى بين ستة، فوقع الأمر على عاقد وهو عبد الرحمن بن عوف،
ومعقود له وهو عثمان، واستنبط
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2731).
(2) ورواه أبو نعيم في الحلية (2/7) من طريق مسكين بن ميمون عن عروة بن
رويم، عن عبد الرحمن بن قرط رضي الله عنه به مرفوعا وسيأتي من رواية الطبراني عند تفسير
الآية: 44 من سورة الإسراء.
(3) زيادة من جـ، ط، ب، أ.
(4) في أ: "تلك".
(1/221)
وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى
الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا
عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آَدَمُ
أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ
أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا
تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
وجوب الأربعة الشهود من الأربعة الباقين، وفي هذا نظر، والله أعلم.
ويجب أن يكون ذكرًا حرًا بالغًا عاقلا مسلمًا عدلا مجتهدًا بصيرًا سليم
الأعضاء خبيرًا بالحروب والآراء قرشيًا على الصحيح، ولا يشترط الهاشمي ولا المعصوم
من الخطأ خلافًا للغلاة الروافض، ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا؟ فيه خلاف،
والصحيح أنه لا ينعزل لقوله عليه الصلاة والسلام: "إلا أن تروا كفرًا بواحًا
عندكم من الله فيه برهان" (1) وهل له أن يعزل نفسه؟ فيه خلاف، وقد عزل الحسن
بن علي نفسه وسلم الأمر إلى معاوية لكن هذا لعذر وقد مدح على ذلك.
فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام:
"من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنًا من كان" (2) . وهذا قول
الجمهور، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد، منهم إمام الحرمين، وقالت الكرامية:
يجوز نصب إمامين فأكثر كما كان علي ومعاوية إمامين واجبي الطاعة، قالوا: وإذا جاز
بعث نبيين في وقت واحد وأكثر جاز ذلك في الإمامة؛ لأن النبوة أعلى رتبة بلا خلاف،
وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت
الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما، وتردد إمام الحرمين في ذلك، قلت: وهذا يشبه حال
خلفاء بني العباس بالعراق والفاطميين بمصر والأمويين بالمغرب.
{ وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى
الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ
بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ
إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ (33) }
هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة، بما اختصه به من
عِلم أسماء كلّ شيء دونهم، وهذا كان بعد سجودهم له، وإنما قدم هذا الفصل على ذاك،
لمناسبة ما بين هذا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة، حين سألوا عن ذلك،
فأخبرهم [الله] (3) تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون؛ ولهذا ذكر تعالى (4) هذا المقام
عقيب هذا ليبين لهم شرف آدم بما فضل به عليهم في العلم، فقال تعالى: { وَعَلَّمَ
آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا }
وقال السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ
كُلَّهَا } قال: عرض عليه أسماء ولده إنسانًا إنسانًا، والدواب، فقيل: هذا الحمار،
هذا الجمل، هذا الفرس.
وقال الضحاك عن ابن عباس: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا } قال:
هي هذه الأسماء التي يتعارف
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (7055) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله
عنه.
(2) رواه مسلم في صحيحه برقم (1852) من حديث عرفجة رضي الله عنه.
(3) زيادة من جـ.
(4) في جـ: "ذكر تبارك وتعالى"، وفي ب: "ذكر الله تعالى".
(1/222)
بها الناس: إنسان، ودابة، وسماء، وأرض، وسهل، وبحر، وجمل (1) ، وحمار،
وأشباه ذلك من الأمم وغيرها.
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير، من حديث عاصم بن كليب، عن سعيد بن معبد،
عن ابن عباس: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: علمه اسم الصحفة والقِدر،
قال: نعم حتى الفسوة والفُسَيَّة (2) .
وقال مجاهد: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: علمه اسم كل
دابة، وكل طير، وكل شيء.
وكذلك روي عن سعيد بن جبير وقتادة وغيرهم من السلف: أنه علمه أسماء كل
شيء، وقال الربيع في رواية عنه: أسماء الملائكة. وقال حميد الشامي: أسماء النجوم. وقال عبد الرحمن
بن زيد: علمه أسماء ذريته كلهم.
واختار ابن جرير أنه علمه أسماء الملائكة وأسماء الذرية؛ لأنه قال: {
ثُمَّ عَرَضَهُمْ } وهذا عبارة عما يعقل. وهذا الذي رجح به ليس بلازم، فإنه لا
ينفي أن يدخل معهم غيرهم، ويعبر عن الجميع بصيغة من يعقل للتغليب. كما قال: {
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى
بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى
أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
} [النور: 45] .
[وقد قرأ عبد الله بن مسعود: "ثم عرضهن" وقرأ أبي بن كعب:
"ثم عرضها" أي: السماوات] (3) .
والصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها: ذواتها وأفعالها؛ كما قال ابن
عباس حتى الفسوة والفُسَية. يعني أسماء الذوات والأفعال المكبر والمصغر؛ ولهذا قال
البخاري في تفسير هذه الآية من كتاب التفسير من صحيحه: حدثنا مسلم بن إبراهيم،
حدثنا مسلم، حدثنا هشام، حدثنا قتادة، عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
وسلم، وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زُرَيع، حدثنا سعيد، عن قتادة عن أنس، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال -: "يجتمع المؤمنون يوم القيامة، فيقولون: لو
استشفعنا إلى ربنا؟ فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس،
خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا عند ربك حتى
يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لَسْتُ هُنَاكُمْ، ويذكر ذنبه فيستحي؛ ائتوا نوحًا
فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتونه فيقول: لست هُنَاكُم. ويذكر سؤاله
ربه ما ليس له به علم فيستحي. فيقول: ائتوا خليل الرحمن، فيأتونه، فيقول: لست
هُنَاكم؛ فيقول: ائتوا موسى عَبْدًا كَلمه الله، وأعطاه التوراة، فيأتونه، فيقول:
لست هُنَاكُمْ، ويذكر قَتْلَ النفس بغير نفس، فيستحي من ربه؛ فيقول: ائتوا عيسى
عَبْدَ الله ورسولَه وكَلِمةَ الله وروحه، فيأتونه، فيقول: لست هُنَاكُم، ائتوا محمدًا
عبدًا غَفَر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني، فأنطلق حتى أستأذن على
ربي، فيُؤذن لي، فإذا رأيت ربي وقعتُ ساجدًا، فيدعني ما شاء الله، ثم يقال: ارفع
رأسك، وسل تعطه، وقل
__________
(1) في جـ، ط، ب: "وجبل".
(2) في جـ: "الفشوة والفشية".
(3) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(1/223)
يُسْمَع، واشفع تُشَفَّع، فأرفع رأسي، فأحمده بتحميد (1) يعلمُنيه، ثم
أشفع فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة، ثم أعود إليه، وإذا رأيت ربي مثله (2) ، ثم أشفع
فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة (3) ، ثم أعود الرابعة فأقول: ما بقي في النار إلا مَنْ
حبسه القرآن ووجب عليه الخلود" (4) .
هكذا ساق البخاري هذا الحديث هاهنا. وقد رواه مسلم والنسائي من حديث
هشام، وهو ابن أبي عبد الله الدَّسْتُوائي، عن قتادة، به (5) . وأخرجه مسلم
والنسائي وابن ماجه من حديث سعيد، وهو ابن أبي عَرُوبَة، عن قتادة (6) . ووجه
إيراده هاهنا والمقصود منه قوله عليه الصلاة والسلام: "فيأتون آدم فيقولون:
أنت أبو الناس خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء"، فدل
هذا على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات؛ ولهذا قال: { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى
الْمَلائِكَةِ } يعني: المسميات؛ كما قال عبد الرزاق، عن مَعْمَر،
عن قتادة قال: ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة { فَقَالَ أَنْبِئُونِي
بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس -وعن مرة،
عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا } ثم
عرض الخَلْق على الملائكة.
وقال ابن جريج، عن مجاهد: { ثُمَّ عَرَضَهُمْ } عرض أصحاب الأسماء على
الملائكة.
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثني الحجاج، عن جرير بن
حازم ومبارك بن فضالة، عن الحسن -وأبي بكر، عن الحسن وقتادة -قالا علمه اسم كل شيء،
وجعل يسمي كل شيء باسمه، وعرضت عليه أمة أمة.
وبهذا الإسناد عن الحسن وقتادة في قوله: { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
إني لم أخلق خلقًا إلا كنتم أعلم منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين.
وقال الضحاك عن ابن عباس: { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } إن كنتم تعلمون
(7) لم أجعل في الأرض خليفة.
وقال السدي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مرة عن ابن
مسعود، وعن ناس من الصحابة: إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء.
وقال ابن جرير: وأولى الأقوال في ذلك تأويل ابن عباس ومن قال بقوله،
ومعنى ذلك فقال: أنبئوني بأسماء من عَرَضْتُه عليكم أيها الملائكة القائلون: أتجعل
في الأرض من يفسد فيها ويسفك
__________
(1) في جـ: "تحميدا".
(2) في جـ: "فإذا رأيته عملت مثله".
(3) في جـ، ط: "فأدخلهم الجنة ثم أعود إليه، فإذا رأيت ربي عملت مثله،
ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة".
(4) صحيح البخاري برقم (4476).
(5) صحيح مسلم برقم (193) وسنن النسائي الكبرى برقم (10984).
(6) صحيح مسلم برقم (193) وسنن النسائي الكبرى برقم (11243) وسنن ابن ماجة
برقم (4312).
(7) في جـ: "إن كنتم عالمين".
(1/224)
الدماء، من غيرنا أم منا، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ إن كنتم صادقين في
قيلكم: إني إن جعلتُ خليفتي في الأرض من غيركم عصاني ذريته وأفسدوا وسفكوا الدماء،
وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس، فإذا كنتم لا تعلمون
أسماء هؤلاء الذين عرضت عليكم وأنتم تشاهدونهم، فأنتم بما هو غير موجود من الأمور
الكائنة التي لم توجد أحرى أن تكونوا غير عالمين.
[وقوله] (1) { قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا
عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } هذا تقديس وتنزيه من
الملائكة لله تعالى أن يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء، وأن يعلموا شيئا إلا ما
علمهم الله تعالى، ولهذا قالوا: { سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } أي: العليم بكل شيء، الحكيم في خلقك وأمرك
وفي تعليمك من تشاء ومنعك من تشاء، لك الحكمة في ذلك، والعدل التام.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا حفص بن غياث، عن حجاج،
عن ابن أبي مُلَيْكَة، عن ابن عباس: سبحان الله، قال: تنزيه الله نفسه عن السوء.
[قال] (2) ثم قال عمر لعلي وأصحابه عنده: لا إله إلا الله، قد عرفناها (3) فما
سبحان الله؟ فقال له علي: كلمة أحبها الله لنفسه، ورضيها، وأحب أن تقال (4) .
قال: وحدثنا أبي، حدثنا ابن نفيل، حدثنا النضر بن عربي قال: سأل رجل
ميمون بن مِهْرَان عن "سبحان الله"، فقال: اسم يُعَظَّمُ الله به،
ويُحَاشَى به من السوء.
وقوله تعالى: { قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا
أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }
قال زيد بن أسلم. قال: أنت جبريل، أنت ميكائيل، أنت إسرافيل، حتى عدد الأسماء
كلها، حتى بلغ الغراب.
وقال مجاهد في قول الله: { يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ }
قال: اسم الحمامة، والغراب، واسم كل شيء.
وروي عن سعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، نحو ذلك.
فلما ظهر فضل آدم، عليه السلام، على الملائكة، عليهم السلام، في سرده ما
علمه الله تعالى من أسماء الأشياء، قال الله تعالى للملائكة: { أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ
إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا
كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } أي: ألم أتقدم إليكم أني أعلم الغيب الظاهر والخفي، كما
قال [الله] (5) تعالى: { وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ
وَأَخْفَى } وكما قال تعالى إخبارا عن الهدهد أنه قال
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(3) في جـ، ط: "عرفناه".
(4) تفسير ابن أبي حاتم (1/117).
(5) زيادة من أ.
(1/225)
لسليمان: { أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ
الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا
تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } .
وقيل في [معنى] (1) قوله تعالى: { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا
كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } غيرُ ما ذكرناه؛ فروى الضحاك، عن ابن عباس: { وَأَعْلَمُ
مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } قال: يقول: أعلم السر كما أعلم
العلانية، يعني: ما كَتَم إبليس في نفسه من الكِبْر والاغترار.
وقال السدي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مرة، عن ابن
مسعود، وعن ناس من الصحابة، قال: قولهم: { أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا } فهذا الذي أبدوا { وَمَا كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ } يعني: ما أسر إبليس في نفسه من الكبر.
وكذلك قال سعيد بن جبير، ومجاهد، والسدي، والضحاك، والثوري. واختار ذلك
ابن جرير.
وقال أبو العالية، والربيع بن أنس، والحسن، وقتادة: هو قولهم: لم يخلق
ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم .
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس: { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ
وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } فكان الذي أبدوا قولهم: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ
فِيهَا } وكان الذي كتموا بينهم قولهم: لن (2) يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه
وأكرم. فعرفوا أن الله فضل عليهم آدم في العلم، والكرم.
وقال ابن جرير: حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم، في قصة الملائكة وآدم: فقال الله للملائكة: كما لم تعلموا هذه الأسماء فليس لكم
علم، إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها، هذا عندي قد علمته؛ ولذلك (3) أخفيت عنكم أني
أجعل فيها من يعصيني ومن يطيعني، قال: وسَبَقَ من الله { لأمْلأنَّ
جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } قال: ولم تعلم الملائكة ذلك
ولم يدروه قال: ولما (4) رأوا ما أعطى الله آدم من العلم أقروا له بالفضل (5) .
وقال ابن جرير: وأولى الأقوال في ذلك قولُ ابن عباس، وهو أن معنى قوله
تعالى: { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ } وأعلم -مع علمي غيب السماوات والأرض -ما
تظهرونه بألسنتكم وما كنتم تخفون (6) في أنفسكم، فلا يخفى عَلَيَّ شيء، سواء عندي
سرائركم، وعلانيتكم.
والذي أظهروه بألسنتهم قولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها، والذي كانوا
يكتمون ما كان عليه منطويا إبليس من الخلاف على الله في أوامره (7) ، والتكبر عن طاعته.
__________
(1) زيادة من جـ، أ، و.
(2) في جـ: "لم".
(3) في جـ، ب: "فلذلك".
(4) في جـ، ط: "فلما".
(5) تفسير الطبري (1/497).
(6) في أ، و: "تخفونه".
(7) في جـ، ط، ب: "في أمره".
(1/226)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا
إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
قال: وصح ذلك كما تقول العرب: قُتِل الجيش وهُزموا، وإنما قتل الواحد أو
البعض، وهزم الواحد أو البعض، فيخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج الخبر عن
جميعهم، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ } [الحجرات: 4 ] ذكر
أن الذي نادى إنما كان واحدا من بني تميم، قال: وكذلك قوله: { وَأَعْلَمُ مَا
تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا
إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) } .
وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم امتن بها على ذريته، حيث أخبر أنه
تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم. وقد دل على ذلك أحاديث -أيضا-كثيرة منها حديث الشفاعة
المتقدم، وحديث موسى، عليه السلام: "رَبِّ، أرني آدم الذي أخرجنا ونفسَه من
الجنة" ، فلما اجتمع به قال: "أنت آدم الذي خلقه (1) الله بيده، ونفخ
فيه من روحه وأسجد له ملائكته". قال... وذكر الحديث كما سيأتي.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيب، حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا بشْر بن
عُمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: كان إبليس من حَيّ من أحياء الملائكة
يقال لهم: الجِنّ، خلقوا من نار السموم، من بين الملائكة، وكان اسمه الحارث، وكان
خازنا من خزان الجنة، قال: وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي، قال: وخلقت
الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، [وهو لسان النار الذي يكون في طرفها
إذا لهبت قال: وخلق الإنسان من طين] (2) . فأول من سكن
الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وقتل بعضهم بعضا. قال: فبعث الله إليهم
إبليس في جند من الملائكة -وهم هذا الحي الذي يقال لهم: الجنّ -فقتلهم
إبليس ومن معه، حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، فلما فعل إبليس ذلك
اغتَرّ في نفسه، فقال: قد صنعت شيئا لم يصنعه أحد. قال: فاطلع الله على
ذلك من قلبه، ولم يطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه، فقال الله تعالى للملائكة
الذين معه: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } فقالت الملائكة مجيبين له: {
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } كما أفسدت الجن
وسفكت الدماء، وإنما بعثتنا عليهم (3) لذلك؟ فقال: { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا
تَعْلَمُونَ } يقول: إني قد اطلعت من (4) قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره
واغتراره، قال: ثم أمر بتربة آدم فرفعت، فخلق الله آدم من طين
لازب -واللازب: اللزج الصلب (5) من حمإ مسنون منتن، وإنما كان حَمَأ مسنونا بعد
التراب. فخلق منه آدم بيده، قال: فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى. فكان إبليس يأتيه
فيضربه برجله، فيصلصل، أي فيصوت. قال: فهو قول الله تعالى: { مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ
} يقول: كالشيء المنفرج الذي ليس [ الرحمن: 14 ]
__________
(1) في ب، أ، و: "خلقك".
(2) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(3) في جـ: "إليهم".
(4) في جـ: "على".
(5) في ب، أ، و: "الطيب".
(1/227)
بمُصْمَت. قال: ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره، ويدخل من (1)
دبره، ويخرج من فيه. ثم يقول: لست شيئا -للصلصلة-ولشيء ما خلقت، ولئن سُلِّطْتُ
عليك لأهلكنك، ولئن سُلِّطْتُ علي لأعْصيَنَّك. قال: فلما نفخ الله فيه من روحه،
أتت النفخة من قبل رأسه، فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحمًا ودمًا، فلما
انتهت النفخة إلى سُرَّته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من جسده، فذهب لينهض فلم
يقدر، فهو قول الله تعالى: { وَكَانَ (2) الإنْسَانُ عَجُولا } قال: ضجر لا صبر له
على سراء ولا ضراء. قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس، فقال: "الحمد لله رب
العالمين" بإلهام الله. فقال [الله] (3) له: "يرحمك الله يا آدم (4)
". قال ثم قال [الله] (5) تعالى للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة
الذين في السماوات: اسجدوا لآدم. فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس أبى واستكبر، لما
كان حدث نفسه من الكبر والاغترار. فقال: لا أسجد له، وأنا خير منه وأكبر سنا وأقوى
خلقا، خلقتني (6) من نار وخلقته من طين. يقول: إن النار
أقوى من الطين. قال: فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله، أي: آيسه من الخير كله،
وجعله شيطانا رجيما عُقُوبة لمعصيته، ثم عَلَّم آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء
التي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار، وأشباه ذلك من
الأمم وغيرها. ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة، يعني: الملائكة الذين كانوا
مع إبليس، الذين خلقوا من نار السموم، وقال لهم: { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ
هَؤُلاءِ } يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } إن كنتم
تعلمون لِمَ أجعل في الأرض خليفة. قال: فلما علمت الملائكة موجدة الله عليهم فيما
تكلموا به من علم الغيب، الذي لا يعلمه غيره، الذي ليس لهم به علم قالوا: سبحانك،
تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره، وتبنا إليك { لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا
عَلَّمْتَنَا } تبريا منهم من علم الغيب، إلا ما علمتنا كما علمت آدم، فقال: { يَا
آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ } يقول: أخبرهم بأسمائهم { فَلَمَّا
أَنْبَأَهُمْ } [يقول: أخبرهم] (7) { بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ
} أيها الملائكة خاصة { إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } ولا
يعلم غيري { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ } يقول: ما تظهرون
{ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية، يعني: ما كتم
إبليس في نفسه من الكبر والاغترار (8) .
هذا سياق غريب، وفيه أشياء فيها نظر، يطول مناقشتها، وهذا الإسناد إلى
ابن عباس يروى به تفسير مشهور.
وقال السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن
مُرّة، عن ابن
__________
(1) في ب: "في".
(2) في هـ: "وخلق"، والمثبت من باقي النسخ، وهو الصواب.
(3) زيادة من أ، و:
(4) في جـ: "يرحمك يا آدم ربك".
(5) زيادة من جـ.
(6) في جـ: "فخلقتني".
(7) زيادة من أ، و.
(8) تفسير الطبري (1/455).
(1/228)
مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي (1) صلى الله عليه وسلم: لما فرغ الله
من خلق ما أحب استوى على العرش، فجعل إبليس على مُلْك السماء الدنيا، وكان من
قبيلة من الملائكة يقال لهم: الجن، وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة، وكان إبليس مع
مُلْكه خازنا، فوقع في صدره كبر وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي على
الملائكة. فلما وقع ذلك الكبر في نفسه (2) اطلع الله على ذلك منه. فقال الله
للملائكة: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } قالوا (3) : ربنا، وما يكون
ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا.
قالوا: ربنا، { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا
تَعْلَمُونَ } يعني: من شأن إبليس. فبعث الله جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها،
فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تَقْبض (4) مني أو تشينني فرجع ولم يأخذ،
وقال: رب مني (5) عاذت بك فأعذتُها، فبعث ميكائيل، فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال
كما قال جبريل، فبعث مَلَك الموت فعاذت منه. فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم
أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض، وخَلَطَ ولم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء
وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين، فَصعِد به فَبَلَّ التراب حتى عاد طينا
لازبا -واللازب: هو الذي يلتزق بعضه ببعض -ثم قال للملائكة: { إِنِّي خَالِقٌ
بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا
لَهُ سَاجِدِينَ } [ص:71 ، 72 ] فخلقه الله بيده لئلا يتكبر إبليس عنه، ليقول له:
تتكبر عما عملت بيدي، ولم أتكبر أنا عنه. فخلقه (6) بشرا،
فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة، فمرت به الملائكة ففزعوا منه
لما رأوه، وكان أشدهم فزعا منه (7) إبليس، فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما
يصوت الفخار وتكون له صلصلة. فذلك حين يقول: { مِنْ صَلْصَالٍ
كَالْفَخَّارِ } [ الرحمن : 14 ] ويقول: لأمر ما خُلقت. ودخل من فيه فخرج
من دبره، وقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا، فإن ربكم صَمَدٌ وهذا أجوف. لئن سلطت
عليه لأهلكنه، فلما بلغ الحين الذي يريد الله عز وجل أن ينفخ فيه الروح، قال
للملائكة: إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في
رأسه، عَطِسَ، فقالت الملائكة: قل: الحمد لله. فقال:
الحمد لله، فقال له الله: رحمك ربك، فلما دخلت الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة.
فلما دخل الروح في (8) جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ (9) الروح رجليه عجلان
(10) إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول تعالى: { خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ }
[الأنبياء: 37 ]{ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ
أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ } [الحجر: 30، 31 ] أبى واستكبر وكان من
الكافرين. قال الله له: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لما خلقت بيدي؟ قال: أنا خير
منه، لم أكن لأسجد لمن (11) خلقته من طين. قال الله له: اخرج منها فما يكون لك، يعني:
ما ينبغي لك { أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ }
__________
(1) في جـ ، ط ، ب : "رسول الله".
(2) في جـ: "في صدره".
(3) في طـ، ب: "فقالوا".
(4) في أ، و: "تنقص".
(5) في جـ، ط، ب: "رب إنها".
(6) في جـ، ط: "بخلقه".
(7) في جـ، ب، ط: "أشدهم منه فزعا".
(8) في جـ: "إلى".
(9) في جـ: "أن يدخل".
(10) في جـ: "عجلا".
(11) في جـ، ب: "لبشر".
(1/229)
[الأعراف : 13] والصغار: هو الذل. قال: { وَعَلَّمَ آدَمَ
الأسْمَاءَ كُلَّهَا } ثم عرض الخلق على الملائكة { فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ
هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء،
فقالوا (1) { سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا
عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } قال الله: { يَا آدَمُ
أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ
أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا
تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } قال: قولهم: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ
يُفْسِدُ فِيهَا } فهذا الذي أبدوا "وأعلم ما تكتمون" يعني: ما أسر إبليس
في نفسه من الكبر.
فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السُّدِّي ويقع فيه
إسرائيليات كثيرة، فلعل بعضها مُدْرَج (2) ليس من كلام الصحابة، أو أنهم أخذوه من
بعض الكتب المتقدمة. والله أعلم. والحاكم يروي في مستدركه بهذا الإسناد بعينه
أشياء، ويقول: [هو] (3) على شرط البخاري.
والغرض أن الله تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم دخل إبليس في
خطابهم؛ لأنه -وإن لم يكن من عُنْصرهم -إلا أنه كان قد (4) تشَبَّه بهم وتوسم
بأفعالهم؛ فلهذا دخل في الخطاب لهم، وذم في مخالفة الأمر. وسنبسط المسألة إن -شاء
الله تعالى-عند قوله: { إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ
رَبِّهِ } [ الكهف: 50 ].
ولهذا قال: محمد بن إسحاق، عن خلاد، عن (5) عطاء، عن طاوس،
عن ابن عباس قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل (6) ،
وكان من سكان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهادا، وأكثرهم علما؛ فذلك دعاه إلى
الكبر، وكان من حي يسمون جِنًّا.
وفي رواية عن خلاد، عن عطاء، عن طاوس -أو مجاهد -عن ابن عباس، أو غيره،
بنحوه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سعيد (7) بن سليمان، حدثنا عباد
-يعني: ابن العوام -عن سفيان بن حسين، عن يعلى بن مسلم،
عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: كان إبليس اسمه عزازيل (8) ، وكان من أشراف
الملائكة من ذوي الأجنحة الأربعة، ثم أبلس بعد.
وقال سُنَيْد (9) ، عن حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: كان (10)
إبليس من أشراف (11) الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازنا على الجنان، وكان له
سلطان سماء الدنيا، وكان له سلطان الأرض.
وهكذا روى الضحاك وغيره عن ابن عباس، سواء.
وقال صالح مولى التَّوْأمة، عن ابن عباس: إن من الملائكة قَبيلا يقال
لهم: الجن، وكان إبليس
__________
(1) في أ، و: "فقالوا له".
(2) في ب: "مدرجا".
(3) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(4) في جـ: "قد كان".
(5) في جـ، ط، ب: "خلاد بن".
(6) في جـ، ط، ب: "عزرائيل".
(7) في ب: "سعد".
(8) في جـ: "عزرائيل".
(9) في جـ: "سعيد".
(10) في جـ: "وكان".
(11) في جـ: "من أشرف".
(1/230)
منهم، وكان يسوس ما بين السماء والأرض، فعصى، فمسخه الله شيطانا رجيما.
رواه ابن جرير.
وقال قتادة عن سعيد بن المسيب: كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عدي بن أبي عدي، عن عوف، عن
الحسن، قال: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قَط، وإنه لأصل الجن، كما أن آدم أصل
الإنس. وهذا إسناد صحيح عن الحسن. وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم سواء.
وقال شَهْر بن حَوْشَب: كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة، فأسره
بعض الملائكة فذهب به إلى السماء، رواه ابن جرير.
وقال سُنَيْد بن داود: حدثنا هُشَيم، أنبأنا عبد الرحمن بن يحيى، عن
موسى بن نمير وعثمان بن سعيد بن كامل، عن سعد (1) بن مسعود، قال: كانت الملائكة تقاتل
الجن، فسبي إبليس وكان صغيرا، فكان مع الملائكة، فتعبد معها، فلما أمروا بالسجود
لآدم سجدوا، فأبى إبليس. فلذلك قال تعالى: { إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ }
[الكهف: 50 ].
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن سنان القزاز، حدثنا أبو عاصم، عن شريك، عن
رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: إن الله خلق خلقا، فقال: اسجدوا لآدم. فقالوا:
لا نفعل. فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم، ثم خلق خلقا آخر، فقال: "إني خالق
بشرا من طين، اسجدوا لآدم. قال: فأبوا. فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم. ثم
خلق هؤلاء، فقال: اسجدوا لآدم، قالوا: نعم. وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن
يسجدوا لآدم (2) . وهذا غريب، ولا يكاد يصح إسناده، فإن فيه رجلا
مبهما، ومثله لا يحتج به، والله أعلم.
وقال قتادة في قوله: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ
} فكانت الطاعة لله، والسجدة أكر الله آدم بها أن أسجد له ملائكته.
وقال في قوله تعالى: { فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ
وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } حسد عدو الله إبليسُ آدمَ، عليه السلام، على ما
أعطاه الله من الكرامة، وقال: أنا ناريٌّ وهذا طينيٌّ، وكان بدء الذنوب الكبر،
استكبر عدوُّ الله أن يسجد لآدم، عليه السلام.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، حدثنا صالح
بن حيان، حدثنا عبد الله بن بُرَيدة: قوله تعالى: { وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ }
من الذين أبوا، فأحرقتهم النار.
وقال أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: { وَكَانَ مِنَ
الْكَافِرِينَ } يعني: من العاصين.
وقال السدي: { وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } الذين لم يخلقهم الله يومئذ
يكونون بعد.
__________
(1) في جـ "سعيد".
(2) تفسير الطبري (1/508).
(1/231)
وقال محمد بن كعب القُرَظِيُّ: ابتدأ الله خلق إبليس على الكفر
والضلالة، وعمل بعمل الملائكة، فصيره إلى ما أبدى عليه خلقه من الكفر، قال الله
تعالى: { وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ }
وقال بعض الناس: كان هذا سجود تحية وسلام وإكرام، كما قال تعالى: {
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ
هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا } [ يوسف :
100] وقد كان هذا مشروعا في الأمم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا، قال معاذ (1) :
قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لأساقفتهم وعلمائهم، فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك،
فقال: "لا لو كنت آمرا بشرا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم
حقه عليها" (2) ورجحه الرازي، وقال بعضهم: بل كانت السجدة لله
وآدم قبلة فيها كما قال: { أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } [الإسراء:
78 ] وفي هذا التنظير نظر، والأظهر أن القول الأول أولى، والسجدة لآدم إكرامًا
وإعظامًا واحترامًا وسلامًا، وهي طاعة لله، عز وجل؛ لأنها امتثال لأمره تعالى، وقد
قواه الرازي في تفسيره وضعف ما عداه من القولين الآخرين وهما كونه جعل قبلة إذ لا
يظهر فيه شرف، والآخر: أن المراد بالسجود الخضوع لا الانحناء ووضع الجبهة على
الأرض وهو ضعيف كما قال.
قلت: وقد ثبت في الصحيح: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة
خردل من كبر" (3) وقد كان في قلب إبليس من الكبر -والكفر -والعناد ما اقتضى
طرده وإبعاده عن جناب الرحمة وحضرة القدس؛ قال بعض المعربين: وكان من الكافرين أي:
وصار من الكافرين بسبب امتناعه، كما قال: { فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ } [ هود :
43] وقال { فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } [ البقرة : 35 ] وقال الشاعر:
بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها ...
أي: قد صارت، وقال ابن فورك: تقديره: وقد كان في علم
الله من الكافرين، ورجحه القرطبي، وذكر هاهنا مسألة فقال: قال علماؤنا من أظهر
الله على يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق للعادات فليس ذلك دالا على ولايته،
خلافا لبعض الصوفية والرافضة هذا لفظه. ثم استدل على ما قال: بأنا لا نقطع بهذا
الذي جرى الخارق على يديه أنه يوافي الله بالإيمان، وهو لا يقطع لنفسه بذلك، يعني
والولي الذي يقطع له بذلك في نفس الأمر.
قلت: وقد استدل بعضهم على أن الخارق قد يكون على يدي غير الولي، بل قد
يكون على يد الفاجر والكافر، أيضا، بما ثبت عن ابن صياد أنه قال: هو الدخ حين خبأ
له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ
بِدُخَانٍ مُبِينٍ } [الدخان : 10 ] ، وبما كان يصدر عنه أنه كان يملأ الطريق إذا
غضب حتى ضربه عبد الله بن عمر، وبما ثبتت به الأحاديث عن الدجال بما يكون على يديه
من الخوارق الكثيرة من أنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت،
وتتبعه كنوز الأرض
__________
(1) في و: "معاوية".
(2) رواه أحمد في المسند (5/227).
(3) صحيح مسلم برقم (91) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(1/232)
وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا
مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا
مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
مثل اليعاسيب، وأنه يقتل ذلك الشاب ثم يحييه إلى غير ذلك من الأمور
المهولة. وقد قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي: قلت للشافعي: كان الليث بن سعد
يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا
أمره على الكتاب والسنة، فقال الشافعي: قصر الليث، رحمه الله، بل إذا رأيتم الرجل
يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة،
وقد حكى فخر الدين وغيره قولين للعلماء: هل المأمور بالسجود لآدم خاص بملائكة
الأرض، أو عام بملائكة السماوات والأرض، وقد رجح كلا من القولين طائفة، وظاهر
الآية الكريمة العموم: { فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا
إِبْلِيسَ } [ الحجر : 30 ، 31 ، ص : 73 ، 74 ]، فهذه أربعة
أوجه مقوية للعموم، والله أعلم.
{ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا
مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا
مِنَ الظَّالِمِينَ (35) }
يقول الله تعالى إخبارا عما أكرم به آدم: بعد أن أمر الملائكة (1)
بالسجود له، فسجدوا إلا إبليس: إنه أباحه الجنة يسكن منها حيث يشاء، ويأكل منها ما
شاء (2) رَغَدًا، أي: هنيئًا واسعًا طيبًا.
وروى الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه، من حديث محمد بن عيسى الدامغاني،
حدثنا سلمة بن الفضل، عن ميكائيل، عن ليث، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر:
قال: قلت: يا رسول الله؛ أريت آدم، أنبيًّا كان؟ قال: "نعم، نبيا رسولا كلمه
الله قِبَلا فقال: { اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ } " (3) .
وقد اختلف في الجنة التي أسكنها آدم، أهي في السماء أم في الأرض؟
والأكثرون على الأول [وحكى القرطبي عن المعتزلة والقدرية القول بأنها في الأرض]
(4) ، وسيأتي تقرير ذلك في سورة الأعراف، إن شاء الله تعالى، وسياق الآية يقتضي أن
حواء خلقت قبل دخول آدم (5) الجنة، وقد صرح بذلك محمد بن إسحاق، حيث قال: لما فرغ
الله من معاتبة إبليس، أقبل على آدم وقد عَلَّمه الأسماء كلها، فقال: { يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ
بِأَسْمَائِهِمْ } إلى قوله: { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } (6) قال:
ثم ألقيت السِّنَةُ على آدم -فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من
أهل العلم، عن ابن عباس وغيره -ثم أخذ ضِلعًا من أضلاعه من شِقه الأيسر، ولأم
مكانه لحما، وآدم نائم لم يهب من
__________
(1) في جـ، ط، ب، أ، و: "أمر ملائكته".
(2) في جـ، ط: "ما يشاء".
(3) ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/10) من طريق أبي عمر الشامي، عن
عبيد الخشخاش، عن أبي ذر بنحوه، ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (1016) من طريق جعفر
بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن أبي ذر بنحوه، ورواه أحمد في المسند(5/265)
من طريق علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة مرفوعا بنحوه.
(4) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(5) في ب، و: "آدم إلى".
(6) في أ: "وما كنتم تكتمون".
(1/233)
نومه، حتى خلق الله من ضلعه تلك زوجته حواء، فسواها امرأة ليسكن إليها.
فلما كُشِفَ عنه السِّنَة وهبَّ من نومه، رآها إلى جنبه، فقال -فيما يزعمون والله
أعلم-: لحمي ودمي وروحي (1) . فسكن إليها. فلما زوَّجَه الله، وجعل له سكنا من
نفسه، قال له قِبَلا { يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا
مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا
مِنَ الظَّالِمِينَ }
ويقال: إن خلق حواء كان بعد دخوله الجنة، كما قال السدي في تفسيره (2) ،
ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من
الصحابة: أخرج إبليس من الجنة، وأسكن آدم الجنة، فكان يمشي فيها وحشا ليس له زوج
يسكن إليه، فنام نومة فاستيقظ، وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه، فسألها:
ما أنت؟ قالت: امرأة. قال: ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إلي. قالت له الملائكة -ينظرون
ما بلغ من علمه-: ما اسمها يا آدم؟ قال: حواء. قالوا: ولم سميت حواء؟ قال: إنها
خلقت من شيء حي. قال الله: { يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ
وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا }
وأما قوله: { وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } فهو اختبار من الله
تعالى وامتحان لآدم. وقد اختلف في هذه الشجرة: ما هي؟
فقال السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس: الشجرة التي نهي عنها آدم، عليه
السلام، هي الكَرْم. وكذا قال سعيد بن جبير، والسدي، والشعبي، وجَعْدة بن هُبَيرة،
ومحمد بن قيس.
وقال السدي -أيضا-في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس
-وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: { وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ
} هي الكرم. وتزعم يهود أنها الحنطة.
وقال ابن جرير وابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي،
حدثنا أبو يحيى الحِمَّاني، حدثنا النضر أبو عمر الخراز، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس،
قال: الشجرة التي نُهِي عنها آدم، عليه السلام، هي السنبلة.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا ابن عيينة وابن المبارك، عن الحسن بن عمارة، عن
المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: هي السنبلة.
وقال محمد بن إسحاق، عن رجل من أهل العلم، عن حجاج، عن مجاهد، عن ابن
عباس، قال: هي البر.
وقال ابن جرير: وحدثني المثنى بن إبراهيم، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا
القاسم، حدثني
__________
(1) في جـ، ب، أ، و: "وزوجتي".
(2) في جـ، ط، ب، أ، و: "في خبر".
(1/234)
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا
فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ
مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
رجل من بني تميم، أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن الشجرة التي
أكل منها آدم، والشجرة التي تاب عندها آدم. فكتب إليه أبو
الجلد: سألتني عن الشجرة التي نُهِي عنها آدم، عليه السلام، وهي السنبلة، وسألتني
عن الشجرة التي تاب عندها آدم وهي الزيتونة (1) .
وكذلك فسره الحسن البصري، ووهب بن مُنَبَّه، وعطية العَوفي، وأبو مالك،
ومحارب (2) بن دِثَار، وعبد الرحمن بن أبي ليلى.
وقال محمد بن إسحاق، عن بعض أهل اليمن، عن وهب بن منبه: أنه كان يقول:
هي البُر، ولكن الحبة منها في الجنة ككُلَى البقر، ألين من الزبد وأحلى من العسل.
وقال سفيان الثوري، عن حصين، عن أبي مالك: { وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ
الشَّجَرَةَ } قال: النخلة.
وقال ابن جرير، عن مجاهد: { وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } قال:
تينة. وبه قال قتادة وابن جريج.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: كانت الشجرة
من أكل منها أحدث، ولا ينبغي أن يكون في الجنة حَدَثٌ، وقال عبد الرزاق: حدثنا عمر
بن عبد الرحمن بن مُهْرِب (3) قال: سمعت وهب بن منبه يقول: لما أسكن الله آدم
وزوجته الجنة، ونهاه عن أكل الشجرة، وكانت شجرة غصونها متشعب بعضها من (4) بعض، وكان لها
ثمر تأكله الملائكة لخلدهم، وهي الثمرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته.
فهذه أقوال ستة في تفسير (5) هذه الشجرة.
قال الإمام العلامة أبو جعفر بن جرير، رحمه الله (6) : والصواب في ذلك
أن يقال: إن الله جل ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة
بعينها من أشجار الجنة، دون سائر أشجارها (7) ، فأكلا منها، ولا علم عندنا بأي
شجرة كانت على التعيين؟ لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا من
السنة الصحيحة. وقد قيل: كانت شجرة البر. وقيل: كانت شجرة العنب، وقيل: كانت شجرة
التين. وجائز أن تكون واحدة منها، وذلك عِلْمٌ، إذا علم
ينفع العالمَ به علمُه، وإن جهله جاهلٌ لم يضرَّه جهله به، والله أعلم. [وكذلك رجح
الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره وغيره، وهو الصواب] (8) .
{ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا
فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ
مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) }
وقوله تعالى: { فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا } يصح أن يكون
الضمير في قوله: { عَنْهَا } عائدا إلى
__________
(1) تفسير الطبري (1/517).
(2) في جـ: "مجاهد".
(3) في جـ: "مهدي".
(4) في جـ، ط، ب: "في".
(5) في جـ، ط، ب، أ، و: "تعيين".
(6) تفسير الطبري (1/520، 521).
(7) في جـ: "سائر الأشجار".
(8) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(1/235)
الجنة، فيكون معنى الكلام كما قال (1) [حمزة و] (2) عاصم بن بَهْدلَة،
وهو ابن أبي النَّجُود، فأزالهما، أي: فنجَّاهما. ويصح أن يكون عائدا على أقرب المذكورين،
وهو الشجرة، فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادةُ { فأزلهما } أي: من قبيل (3)
الزلل، فعلى هذا يكون تقدير الكلام { فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا } أي:
بسببها، كما قال تعالى: { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } [الذاريات: 9 ] أي: يصرف
بسببه من هو مأفوك؛ ولهذا قال تعالى: { فَأَخْرَجَهُمَا
مِمَّا كَانَا فِيهِ } أي: من اللباس والمنزل الرحب والرزق الهنيء والراحة.
{ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ
مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } أي: قرار وأرزاق وآجال { إِلَى حِينٍ } أي:
إلى وقت مؤقت ومقدار معين، ثم تقوم القيامة.
وقد ذكر المفسرون من السلف كالسُّدِّي بأسانيده، وأبي العالية، ووهب بن مُنَبِّه
وغيرهم، هاهنا أخبارا إسرائيلية عن قصة الحَيَّة، وإبليس، وكيف جرى من دخول إبليس
إلى الجنة ووسوسته، وسنبسط ذلك إن شاء الله، في سورة الأعراف، فهناك القصة أبسط
منها هاهنا، والله الموفق.
وقد قال ابن أبي حاتم هاهنا: حدثنا علي بن الحسن بن إشكاب، حدثنا علي بن
عاصم، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم رجلا طُوَالا كثير شعر الرأس،
كأنه نخلة سَحُوق، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه، فأول ما بدا منه عورته، فلما
نظر إلى عورته جعل يَشْتَد (4) في الجنة، فأخذت شَعْرَه شجرةٌ، فنازعها، فناداه الرحمن:
يا آدم، مني تَفِرُّ! فلما سمع كلام الرحمن قال: يا رب، لا ولكن استحياء" (5) .
قال: وحدثني جعفر بن أحمد بن الحكم القومشي (6) سنة أربع وخمسين
ومائتين، حدثنا سليم (7) بن منصور بن عمار، حدثنا علي بن عاصم، عن سعيد، عن قتادة،
عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما ذاق آدم من
الشجرة فَرَّ هاربا؛ فتعلقت شجرة بشعره، فنودي: يا آدم، أفِرارًا مني؟ قال: بل
حَيَاء منك، قال: يا آدم اخرج من جواري؛ فبعزتي لا يساكنني فيها من عصاني، ولو
خلقت مِثْلَك ملء الأرض خَلْقًا ثم عصوني لأسكنتهم دار العاصين" (8) .
هذا حديث غريب، وفيه انقطاع، بل إعضال بين قتادة وأبي بن كعب، رضي الله
عنهما (9) .
وقال الحاكم: حدثنا أبو بكر بن بَالُويه (10) ، عن محمد بن أحمد بن
النضر، عن معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن عَمَّار بن معاوية البَجَلي، عن سعيد بن جبير،
عن ابن عباس، قال: ما أسكن
__________
(1) في جـ، ط: "كما قرأ".
(2) زيادة من جـ، ط.
(3) في جـ، ط، ب: "من قبل".
(4) في جـ: "يستدير".
(5) تفسير ابن أبي حاتم (1/129).
(6) في هـ: "القرشي".
(7) في هـ: "سليمان".
(8) تفسير ابن أبي حاتم (1/130).
(9) في جـ، ب، و: "عنه".
(10) في جـ: "مالويه".
(1/236)
آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس. ثم قال: صحيح على شرط
الشيخين، ولم يخرجاه.
وقال عبد بن حميد في تفسيره: حدثنا رَوح، عن هشام، عن الحسن، قال: لبث
آدم في الجنة ساعة من نهار، تلك الساعة ثلاثون ومائة سنة من أيام الدنيا.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، قال: خرج آدم من الجنة للساعة
التاسعة أو العاشرة، فأخرج آدم معه غصنًا من شجر الجنة، على رأسه تاج من شجر الجنة
وهو الإكليل من ورق الجنة.
وقال السدي: قال الله تعالى: { اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا } فهبطوا
فنزل آدم بالهند، ونزل معه الحجر الأسود، وقبضة (1) من ورق الجنة
فبثه بالهند، فنبتت شجرة الطيب، فإنما أصل ما يجاء به من الهند من الطيب من قبضة
الورق التي هبط بها آدم، وإنما قبضها آدم أسفا على الجنة حين أخرج منها (2) .
وقال عمران بن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس،
قال: أهبط آدم من الجنة بِدَحْنا، أرض الهند.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا
جرير، عن عطاء، عن سعيد عن ابن عباس قال: أهبط آدم، عليه السلام، إلى أرض يقال لها:
دَحْنا، بين مكة والطائف.
وعن الحسن البصري قال: أهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، وإبليس
بدَسْتُمِيسان (3) من البصرة على أميال، وأهبطت الحية بأصبهان. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار بن الحارث، حدثنا محمد بن سعيد
بن سابق، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن ابن عدي (4) ،
عن ابن عمر، قال: أهبط آدم بالصفا، وحواء بالمروة
وقال رجاء بن سلمة: أهبط آدم، عليه السلام، يداه على ركبتيه مطأطئًا
رأسه، وأهبط إبليس مشبكا بين صابعه رافعا رأسه إلى السماء.
وقال عبد الرزاق: قال مَعْمَر: أخبرني عَوْف عن قَسَامة بن زهير، عن أبي
موسى، قال: إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض، عَلَّمه صنعة كل شيء، وزوده من
ثمار الجنة، فثماركم هذه من ثمار الجنة، غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير (5) .
وقال الزهري عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) في جـ، ط، ب، أ، و: "فأنزل معه بالحجر الأسود ويقبضه".
(2) في جـ، ط، ب: "وإنما قبضها آدم حين أخرج من الجنة أسفا على الجنة
حين أخرج منها".
(3) في و: "بدسمت ميسان".
(4) في جـ، ط، ب، أ، و: "عمرو بن أبي قيس عن الزبير عن ابن عدي".
(5) تفسير عبد الرزاق (1/66).
(1/237)
فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ
هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
"خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه
أخرج منها" رواه مسلم والنسائي (1) .
وقال فخر الدين: اعلم أن في هذه الآيات تهديدًا عظيما عن كل المعاصي من
وجوه:
الأول: أن من تصور ما جرى على آدم بسبب إقدامه على هذه الزلة الصغيرة
كان على وجل شديد من المعاصي، قال الشاعر:
يا ناظرا يرنو بعيني راقد ومشاهدا للأمر غير مشاهد ...
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ... درج الجنان ونيل فوز العابد ...
أنسيت ربك حين أخرج آدما ... منها إلى الدنيا بذنب واحد ...
قال فخر الدين عن فتح الموصلي أنه قال: كنا قوما من أهل الجنة فسبانا
إبليس إلى الدنيا، فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها. فإن قيل: فإذا
كانت جنة آدم التي أسكنها في السماء كما يقوله الجمهور من العلماء، فكيف يمكن
إبليس من دخول الجنة، وقد طرد من هنالك طردًا قدريًّا، والقدري لا يخالف ولا
يمانع؟ فالجواب: أن هذا بعينه استدل به من يقول: إن الجنة التي كان فيها آدم في
الأرض لا في السماء، وقد بسطنا هذا في أول كتابنا البداية والنهاية، وأجاب الجمهور
بأجوبة، أحدها: أنه منع من دخول الجنة مكرما، فأما على وجه الردع والإهانة، فلا
يمتنع؛ ولهذا قال بعضهم: كما جاء في التوراة أنه دخل في فم الحية إلى
الجنة، وقد قال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهما وهو خارج باب الجنة، وقال بعضهم: يحتمل
أنه وسوس لهما وهو في الأرض، وهما في السماء، ذكرها الزمخشري وغيره. وقد أورد
القرطبي هاهنا أحاديث في الحيات وقتلهن وبيان حكم ذلك، فأجاد وأفاد (2) .
{ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) }
قيل: إن هذه (3) الكلمات مفسرة بقوله تعالى: { قَالا
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا
لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] روي هذا عن مجاهد، وسعيد بن
جبير، وأبي العالية، والربيع بن أنس، والحسن، وقتادة، ومحمد بن كعب القُرَظي،
وخالد بن مَعْدان، وعطاء الخراساني، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال أبو إسحاق السَّبِيعي،
عن رجل من بني تميم، قال: أتيت ابن عباس، فسألته: [قلت] (4) : ما الكلمات التي
تلقى آدم من ربه؟ قال: عُلم [آدم] (5) شَأنَ الحج.
__________
(1) صحيح مسلم برقم (854) وسنن النسائي (3/89).
(2) تفسير القرطبي (1/313-317).
(3) في جـ، ط: "هؤلاء.
(4) زيادة من طـ، ب، و.
(5) زيادة من جـ.
(1/238)
وقال سفيان الثوري، عن عبد العزيز بن (1) رُفَيع، أخبرني من سمع عبيد بن
عُمَير، وفي رواية: [قال] (2) : أخبرني مجاهد، عن عبيد بن عمير، أنه قال: قال آدم: يا رب،
خطيئتي التي أخطأت شيء كتبتُه علي قبل أن تخلقني، أو شيء ابتدعته من قبل نفسي؟
قال: بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك. قال: فكما كتبته علي فاغفر (3) لي. قال:
فذلك قوله تعالى: { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ }
وقال السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس: فتلقى آدم من ربه كلمات، قال: قال
آدم ، عليه السلام: يا رب، ألم تخلقني بيدك؟ قيل (4) له: بلى. ونفخت
في من روحك؟ قيل (5) له: بلى. وعَطستُ فقلتَ: يرحمك الله، وسبقت رحمتُك غَضبَك؟
قيل (6) له: بلى، وكتبت عليّ أن أعمل هذا؟ قيل (7) له: بلى. قال:
أفرأيت إن تبتُ هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قال: نعم.
وهكذا رواه العوفي، وسعيد بن جبير، وسعيد بن مَعْبَد، عن ابن عباس،
بنحوه. ورواه الحاكم في مستدركه من حديث سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وقال: صحيح
الإسناد، ولم يخرجاه (8) وهكذا فسره السدي وعطية العَوْفي.
وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثا شبيهًا بهذا فقال: حدثنا علي بن
الحسين بن إشكاب، حدثنا علي بن عاصم، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن الحسن،
عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال
آدم، عليه السلام: أرأيت يا رب إن تبتُ ورجعتُ، أعائدي إلى الجنة؟ قال: نعم. فذلك
قوله: { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ } (9) .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه وفيه انقطاع.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله تعالى: { فَتَلَقَّى آدَمُ
مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ } قال: إن آدم لما أصاب الخطيئة قال: يا رب، أرأيت إن تبت
وأصلحت؟ قال الله: إذن أرجعك إلى الجنة فهي من الكلمات. ومن الكلمات أيضا: {
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا
لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الأعراف: 23].
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد أنه كان يقول في قول الله تعالى: { فَتَلَقَّى آدَمُ
مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ } قال: الكلمات: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب
إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب
إني ظلمت نفسي فارحمني، إنك (10) خير الراحمين. اللهم لا إله إلا أنت سبحانك
وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فتب علي، إنك أنت التواب الرحيم.
__________
(1) في جـ: "عن".
(2) زيادة من جـ، ط، ب.
(3) في جـ، ب: "فاغفره".
(4) في جـ: "قال".
(5) في جـ: "قال".
(6) في جـ: "قال".
(7) في جـ: "قال".
(8) المستدرك (2/545).
(9) تفسير ابن أبي حاتم (1/135).
(10) في جـ: "فاغفر لي أنت".
(1/239)
@ 1-240
وقوله تعالى: { إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } أي: إنه يتوب على
من تاب إليه وأناب، كقوله: { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ
عَنْ عِبَادِهِ } [ التوبة: 104] وقوله: { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ
نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } [النساء
: 11]، وقوله: { وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ
مَتَابًا } [ الفرقان : 71 ] وغير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى يغفر
الذنوب ويتوب على من يتوب وهذا من لطفه بخلقه ورحمته بعبيده، لا إله إلا هو التواب
الرحيم.
وذكرنا في المسند الكبير من طريق سليمان بن سليم عن ابن بريدة وهو
سليمان عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما أهبط الله آدم إلى
الأرض طاف بالبيت سبعا، وصلى خلف المقام ركعتين، ثم قال: اللهم إنك تعلم سري
وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي، وتعلم ما عندي فاغفر ذنوبي،
أسألك إيمانا يباشر قلبي، ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي. قال فأوحى الله
إليه إنك قد دعوتني بدعاء أستجيب لك فيه ولمن يدعوني به، وفرجت همومه وغمومه،
ونزعت فقره من بين عينيه، وأجرت له من وراء كل تاجر زينة الدنيا وهي كلمات عهد وإن
لم يزدها" رواه الطبراني في معجمه الكبير (1) .
__________
(1) جامع المسانيد والسنن برقم (742) ولم أقع عليه في المطبوع من المعجم
الكبير.
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي
هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (39) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ
كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ
(41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ
(43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ
تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا
لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ
مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
البقرة - تفسير ابن كثير
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي
هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (39)
{ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي
هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (39) }
يقول تعالى مخبرا عما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حتى (1) أهبطهم من الجنة،
والمراد الذرية: أنه سينزل الكتب، ويبعث الأنبياء والرسل؛ كما قال أبو العالية:
الهُدَى الأنبياء والرسل والبيان، وقال مقاتل بن حَيَّان: الهدى محمد صلى الله
عليه وسلم. وقال الحسن: الهدى القرآن. وهذان القولان
صحيحان، وقول أبي العالية أعَمّ.
{ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ } أي: من أقبل على
ما أنزلت به الكتب وأرسلت به الرسل { فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي: فيما يستقبلونه
من أمر الآخرة { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما فاتهم من
أمور الدنيا، كما قال في سورة طه: { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ
فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } [طه : 123 ] قال ابن عباس:
فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ
لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [طه : 124 ]
كما قال هاهنا : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي: مخلدون فيها، لا محيد لهم عنها،
ولا محيص.
وقد أورد ابن جرير، رحمه الله، هاهنا حديثا ساقه من طريقين، عن أبي
مَسْلَمة سعيد بن يزيد،
__________
(1) في جـ، ط، ب، أ، و: "حين".
(1/240)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآَمِنُوا بِمَا
أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا
تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطْعَة (1) عن أبي سعيد -واسمه
سعد بن مالك بن سِنَان الخُدْري-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما
أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، لكن أقواماً أصابتهم
النار بخطاياهم، أو بذنوبهم فأماتتهم إماتة، حتى إذا صاروا فحماً أذنَ في
الشفاعة". وقد رواه مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة به (2) .
[وذكر هذا الإهباط الثاني لما تعلق به ما بعده من المعنى المغاير للأول،
وزعم بعضهم أنه تأكيد وتكرير، كما تقول: قم قم، وقال آخرون: بل الإهباط الأول
من الجنة إلى السماء الدنيا، والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض، والصحيح الأول، والله
تعالى أعلم بأسرار كتابه] (3) .
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا
أَنزلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا
تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) }
يقول تعالى آمرا بني إسرائيل بالدخول في الإسلام، ومتابعة محمد عليه من
الله أفضل الصلاة والسلام، ومُهَيجًا لهم بذكر أبيهم إسرائيل، وهو نبي الله يعقوب،
عليه السلام، وتقديره: يا بني العبد الصالح المطيع لله كونوا مثل أبيكم في متابعة
الحق، كما تقول: يا ابن الكريم، افعل كذا. يا ابن الشجاع، بارز الأبطال، يا ابن
العالم، اطلب العلم ونحو ذلك.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ
إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } [الإسراء: 3] فإسرائيل هو يعقوب عليه السلام،
بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي: حدثنا عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حَوشب،
قال: حدثني عبد الله بن عباس قال: حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه
وسلم فقال لهم: "هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب؟". قالوا: اللهم نعم. فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اشهد (4) " (5) وقال الأعمش، عن
إسماعيل بن رجاء، عن عمير مولى ابن عباس، عن عبد الله بن عباس؛ أن إسرائيل كقولك:
عبد الله.
وقوله تعالى: { اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ }
قال مجاهد: نعمة الله التي أنعم بها عليهم فيما سمى وفيما سِوَى ذلك، فَجَّر لهم
الحجر، وأنزل عليهم المن والسلوى، وأنجاهم من عبودية آل فرعون.
__________
(1) في جـ: "قصعة".
(2) تفسير الطبري (1/552) وصحيح مسلم برقم (185).
(3) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(4) في جـ: "اللهم فاشهد".
(5) رواه أحمد في المسند (1/273) عن حسين، عن عبد الحميد بن بهرام به.
(1/241)
وقال أبو العالية: نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل، وأنزل عليهم
الكتب.
قلت: وهذا كقول موسى عليه السلام لهم: { يَا قَوْمِ
اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ
وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ }
[المائدة: 20] يعني في زمانهم.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير،
عن ابن عباس، في قوله: { اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ }
أي: بلائي عندكم وعند آبائكم لِمَا كان نجاهم به من فرعون وقومه { وَأَوْفُوا
بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } قال: بعهدي الذي أخذت في (1) أَعناقكم للنبي صلى
الله عليه وسلم إذا جاءكم. { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } أي: أنجز لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه
واتباعه، بوضع ما كان عليكم من الإصر والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي
كانت من أحداثكم.
[وقال الحسن البصري: هو قوله: { وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ
إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ
بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا
لأكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الأنْهَارُ } الآية [المائدة: 12].
وقال آخرون: هو الذي أخذه الله عليهم في التوراة أنه سيبعث من بني إسماعيل نبيًا
عظيما يطيعه جميع الشعوب والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم فمن اتبعه غُفر له
ذنبه وأدخل الجنة وجعل له أجران. وقد أورد فخر الدين الرازي هاهنا بشارات كثيرة عن
الأنبياء عليهم السلام بمحمد صلى الله عليه وسلم] (2) .
وقال أبو العالية: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي } قال: عهده إلى عباده: دينه
الإسلام أن يتبعوه.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } قال: أرْض عنكم
وأدخلكم الجنة.
وكذا قال السدي، والضحاك، وأبو العالية، والربيع بن أنس.
وقوله: { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } أي: فاخشون؛ قاله أبو العالية،
والسدي، والربيع بن أنس، وقتادة.
وقال ابن عباس في قوله تعالى: { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } أي أنزل بكم
ما أنزل (3) بمن كان قبلكم من آبائكم من النَّقِمَات التي قد
عرفتم من المسخ وغيره.
وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب، فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة،
لعلهم يرجعون إلى الحق واتباع الرسول والاتعاظ بالقرآن وزواجره، وامتثال أوامره،
وتصديق أخباره، والله الهادي لمن يشاء إلى صراطه المستقيم؛ ولهذا (4) قال: {
وَآمِنُوا بِمَا أَنزلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ } [ { مُصَدِّقًا }
ماضيًا منصوبًا على الحال من { بِمَا } أي: بالذي أنزلت مصدقًا أو من الضمير
المحذوف من قولهم: بما أنزلته مصدقًا، ويجوز أن يكون مصدرًا من غير الفعل وهو
قوله:{ بِمَا أَنزلْتُ مُصَدِقًا } ] (5) يعني به: القرآن الذي
أنزله على محمد النبي الأمي العربي بشيرًا ونذيرًا وسراجًا منيرًا مشتملا على الحق
من الله
__________
(1) في جـ، ط، ب: "من".
(2) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(3) في جـ، ط، ب: "ما أنزلت".
(4) في جـ: "فلهذا".
(5) زيادة من جـ، ب، و.
(1/242)
تعالى، مصدقًا لما بين يديه من التوراة والإنجيل.
قال أبو العالية، رحمه الله، في قوله: { وَآمِنُوا بِمَا أَنزلْتُ
مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ } يقول: يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت مصدقًا لما
معكم يقول: لأنهم يجدون محمدًا صلى الله عليه وسلم مكتوبًا عندهم في التوراة
والإنجيل.
وروي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك.
وقوله: { وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } [قال بعض
المفسرين: أول فريق كافر به ونحو ذلك] (1) . قال ابن عباس: { وَلا تَكُونُوا
أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم.
وقال أبو العالية: يقول: { وَلا تَكُونُوا
أَوَّلَ [كَافِرٍ بِهِ } أول] (2) من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم [يعني من جنسكم
أهل الكتاب بعد سماعهم بمحمد وبمبعثه] (3) .
وكذا قال الحسن، والسدي، والربيع بن أنس.
واختار ابن جرير أن الضمير في قوله: { بِهِ } عائد على القرآن، الذي
تقدم ذكره في قوله: { بِمَا أَنزلْتُ }
وكلا القولين صحيح؛ لأنهما متلازمان، لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد
صلى الله عليه وسلم، ومن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالقرآن.
وأما قوله: { أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } فيعني به أول من كفر به من بني
إسرائيل؛ لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بَشر كثير، وإنما المراد
أول من كفر به من بني إسرائيل مباشرة، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن،
فكفرهم به يستلزم أنهم أول من كفر به من جنسهم.
وقوله: { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا } يقول: لا تعتاضوا
عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها، فإنها قليلة فانية، كما قال عبد
الله بن المبارك: أنبأنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن هارون بن زيد (4) قال: سُئِل
الحسن، يعني البصري، عن قوله تعالى: { ثَمَنًا قَلِيلا } قال: الثمن القليل
الدنيا بحذافيرها.
وقال ابن لَهِيعة: حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، في قوله: {
وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا } وإن آياته: كتابه
الذي أنزله (5) إليهم، وإن الثمن القليل: الدنيا وشهواتها.
وقال السدي: { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا } يقول: لا
تأخذوا طمعًا قليلا ولا تكتموا (6) اسم
__________
(1) زيادة من جـ، ب، و.
(2) زيادة من جـ.
(3) في جـ، ط، ب، أ، و.
(4) في جـ، ط، ب، أ، و: "بن يزيد".
(5) في جـ: "آياته التي أنزل".
(6) في جـ، ب: "وتكتموا".
(1/243)
الله لذلك الطمع وهو الثمن.
وقال أبو جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله تعالى: { وَلا
تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا } يقول: لا تأخذوا عليه أجرًا. قال: وهو مكتوب عندهم
في الكتاب الأول: يا ابن آدم عَلِّم مَجَّانا كما عُلِّمت مَجَّانا.
وقيل: معناه لا تعتاضوا عن البيان والإيضاح ونشر العلم النافع في الناس بالكتمان
واللبس لتستمروا على رياستكم في الدنيا القليلة الحقيرة الزائلة عن قريب، وفي سنن
أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلم
علمًا مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يرح رائحة
الجنة يوم القيامة" (1) وأما تعليم العلم بأجرة، فإن كان قد تعين عليه فلا
يجوز أن يأخذ عليه أجرة، ويجوز أن يتناول من بيت المال ما يقوم به حاله وعياله،
فإن لم يحصل له منه شيء وقطعه التعليم عن التكسب، فهو كما لم يتعين عليه، وإذا لم
يتعين عليه، فإنه يجوز أن يأخذ عليه أجرة عند مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء،
كما في صحيح البخاري عن أبي سعيد في قصة اللديغ: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا
كتاب الله" (2) وقوله في قصة المخطوبة: "زوجتكها بما معك من
القرآن" (3) فأما حديث عبادة بن الصامت، أنه علم رجلا من أهل الصفة شيئًا من
القرآن فأهدى له قوسًا، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن
أحببت أن تطوق بقوس من نار فاقبله" فتركه، رواه أبو داود (4) وروي مثله عن
أبي بن كعب مرفوعًا (5) فإن صح إسناده فهو محمول عند كثير من العلماء منهم: أبو
عمر بن عبد البر على أنه لما علمه الله لم يجز بعد هذا أن يعتاض عن ثواب الله بذلك
القوس، فأما إذا كان من أول الأمر على التعليم بالأجرة فإنه يصح كما في حديث
اللديغ وحديث سهل في المخطوبة، والله أعلم.
{ وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ } قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عمر الدوري،
حدثنا أبو إسماعيل المؤدب، عن عاصم الأحول، عن أبي العالية، عن طلق بن حبيب، قال:
التقوى أن تعمل بطاعة الله رجاء رحمة الله على نور من الله، والتقوى أن تترك معصية
الله مخافة عذاب الله على نور من الله.
ومعنى قوله: { وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ } أنه تعالى يتوعدهم فيما
يتعمدونه من كتمان الحق وإظهار خلافه (6) ومخالفتهم
الرسول، صلوات الله وسلامه عليه.
__________
(1) سنن أبي داود برقم (3664).
(2) صحيح البخاري برقم (5007) وهذا اللفظ هو لفظ حديث ابن عباس.
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (5149) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
(4) سنن أبي داود برقم (3416).
(5) رواه البيهقي في السنن الكبرى (6/125) من طريق عبد الرحمن بن أبي مسلم،
عن عطية بن قيس، عن أبي بن كعب رضي الله عنه به مرفوعا، وهو منقطع.
(6) في أ: "وإظهاره الباطل".
(1/244)
وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ
وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
{ وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) }
يقول تعالى ناهيًا لليهود عما كانوا يتعمدونه، من تلبيس (1) الحق
بالباطل، وتمويهه به (2) وكتمانهم الحق وإظهارهم الباطل: { وَلا
تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
(3) فنهاهم عن الشيئين معًا، وأمرهم بإظهار الحق والتصريح به؛ ولهذا قال الضحاك،
عن ابن عباس { وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } لا تخلطوا الحق بالباطل
والصدق بالكذب.
وقال أبو العالية: { وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } يقول: ولا
تخلطوا الحق بالباطل، وأدوا النصيحة لعباد الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ويروى (4) عن سعيد بن جبير والربيع بن أنس، نحوه.
وقال قتادة: { وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } [قال] (5) ولا
تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام؛ إن دين الله الإسلام، واليهودية والنصرانية بدعة
ليست من الله.
وروي عن الحسن البصري نحو ذلك.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير،
عن ابن عباس: { وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
أي: لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به، وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم
فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم. وروي عن أبي العالية نحو ذلك.
وقال مجاهد، والسدي، وقتادة، والربيع بن أنس: { وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ }
يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم.
[قلت: { وَتَكْتُمُوا } يحتمل أن يكون مجزومًا، ويجوز أن
يكون منصوبًا، أي: لا تجمعوا بين هذا وهذا كما يقال: لا تأكل السمك وتشرب اللبن.
قال الزمخشري: وفي مصحف ابن مسعود: "وتكتمون الحق"
أي: في حال كتمانكم الحق وأنتم تعلمون حال أيضًا، ومعناه: وأنتم تعلمون الحق،
ويجوز أن يكون المعنى: وأنتم تعلمون ما في ذلك من الضرر العظيم على الناس من
إضلالهم عن الهدى المفضي بهم إلى النار إلى أن سلكوا ما تبدونه لهم من الباطل
المشوب بنوع من الحق لتروّجوه عليهم، والبيان الإيضاح وعكسه الكتمان وخلط الحق
بالباطل] (6) .
{ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ
الرَّاكِعِينَ } قال مقاتل: قوله تعالى لأهل الكتاب: {
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ } أمرهم أن يصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم { وَآتُوا
الزَّكَاةَ } أمرهم أن يؤتوا الزكاة، أي: يدفعونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم {
وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } أمرهم أن يركعوا مع الراكعين من أمة محمد صلى
الله عليه وسلم.
__________
(1) في جـ، ط، ب: "تلبيسهم".
(2) في جـ، ب: "تمويههم".
(3) في جـ: "وتكتمون" وهو خطأ.
(4) في جـ، ط، ب، أ، و: "وروي".
(5) زيادة من جـ، ط، ب.
(6) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(1/245)
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ
وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
يقول: كونوا منهم ومعهم.
وقال علي بن طلحة، عن ابن عباس: [ { وَآتُوا الزَّكَاةَ } ] (1) يعني
بالزكاة: طاعة الله والإخلاص.
وقال وَكِيع، عن أبي جَنَاب، عن عِكْرِمة عن ابن عباس، في قوله: {
وَآتُوا الزَّكَاةَ } قال: ما يوجب الزكاة؟ قال: مائتان فصاعدا.
وقال مبارك بن فضالة، عن الحسن، في قوله تعالى: { وَآتُوا الزَّكَاةَ }
قال: فريضة واجبة، لا تنفع الأعمال إلا بها وبالصلاة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا
جرير عن أبي حيان [العجمي] (2) التيمي، عن الحارث العُكلي في قوله: { وَآتُوا الزَّكَاةَ
} قال: صدقة الفطر.
وقوله تعالى: { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } أي: وكونوا مع
المؤمنين في أحسن أعمالهم، ومن أخص ذلك وأكمله (3) الصلاة.
[وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على وجوب الجماعة، وبسط ذلك في
كتاب الأحكام الكبير إن شاء الله، وقد تكلم القرطبي على مسائل الجماعة والإمامة فأجاد]
(4)
.
{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ
وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) }
يقول تعالى: كيف يليق بكم -يا معشر أهل الكتاب، وأنتم تأمرون الناس
بالبر، وهو جماع الخير-أن تنسوا أنفسكم، فلا تأتمروا بما تأمرون الناس به، وأنتم
مع ذلك تتلون الكتاب، وتعلمون ما فيه على من قَصر في أوامر الله؟ أفلا تعقلون ما
أنتم صانعون بأنفسكم؛ فتنتبهوا من رَقدتكم، وتتبصروا من عمايتكم. وهذا كما قال عبد
الرزاق عن مَعْمَر، عن قتادة في قوله تعالى: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ
وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } قال: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله
وبتقواه، وبالبر، ويخالفون، فَعَيّرهم الله، عز وجل. وكذلك قال السدي.
وقال ابن جريج: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ } أهل الكتاب
والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة، وَيَدَعُونَ العملَ بما يأمرون به
الناس، فعيرهم الله بذلك، فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة.
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {
وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } أي: تتركون أنفسكم { وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ
أَفَلا تَعْقِلُونَ } أي: تنهون الناس عن الكفر بما
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب.
(2) زيادة من جـ.
(3) في أ، و: "وأجمله".
(4) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(1/246)
عندكم من النبوة والعَهْد من التوراة، وتتركون أنفسكم، أي: وأنتم (1)
تكفرون بما فيها من عَهْدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي، وتجحدون ما
تعلمون (2) من كتابي.
وقال الضحاك، عن ابن عباس في هذه الآية، يقول: أتأمرون الناس بالدخول في
دين محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما أمرتم (3) به من إقام الصلاة، وتنسون
أنفسكم.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني علي بن الحسن، حدثنا مُسلم الجَرْمي،
حدثنا مَخْلَد بن الحسين، عن أيوب السختياني، عن أبي قِلابة في قول الله تعالى: {
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ
تَتْلُونَ الْكِتَابَ } قال: قال أبو الدرداء: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقُت
الناس في ذات الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتًا.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية: هؤلاء اليهود إذا جاء
الرجل يسألهم عن الشيء ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء أمروه بالحق، فقال الله تعالى:
{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ
تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ }
والغرض أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع ونبههم على خطئهم (4) في حق
أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر
مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف [معروف] (5) وهو واجب على
العالم، ولكن [الواجب و] (6) الأولى بالعالم أن يفعله مع أمرهم به، ولا يتخلف
عنهم، كما قال شعيب، عليه السلام: { وَمَا أُرِيدُ
أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا
اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ
أُنِيبُ } [هود: 88]. فَكُلٌّ من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك
الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف. وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا
ينهى غيره عنها، وهذا ضعيف، وأضعف منه تمسكهم بهذه الآية؛ فإنه لا حجة لهم فيها.
والصحيح أن العالم يأمر بالمعروف، وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه، [قال
مالك عن ربيعة: سمعت سعيد بن جبير يقول له: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا
ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. وقال
مالك: وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء؟ قلت] (7) ولكنه -والحالة هذه-مذموم على ترك
(8) الطاعة وفعله المعصية، لعلمه بها ومخالفته على بصيرة، فإنه ليس من يعلم كمن لا
يعلم؛ ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك، كما قال الإمام أبو القاسم الطبراني
في معجمه الكبير: حدثنا أحمد بن المعلى الدمشقي والحسن بن علي المعمري، قالا حدثنا
هشام بن عمار، حدثنا علي
__________
(1) في جـ: "أي أنتم".
(2) في جـ: "بما تعملون".
(3) في جـ: "مما أمرتكم".
(4) في جـ: "خطاياهم".
(5) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(6) زيادة من جـ، ط، أ.
(7) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(8) في جـ، ب: "على تركه".
(1/247)
بن سليمان الكلبي، حدثنا الأعمش، عن أبي تَميمة الهُجَيمي، عن جندب بن
(1)
عبد الله، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق
نفسه" (2) .
هذا حديث غريب من هذا الوجه.
حديث آخر: قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: حدثنا وَكِيع، حدثنا حماد
بن سلمة، عن علي بن زيد هو ابن جدعان، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "مررت ليلة أسري بي على قوم شفاههم تُقْرَض بمقاريض
(3) من نار. قال: قلت: من هؤلاء؟" قالوا: خطباء من أهل الدنيا
ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون؟ (4) .
ورواه عبد بن حميد في مسنده، وتفسيره، عن الحسن بن موسى، عن حماد بن
سلمة به.
ورواه ابن مردويه في تفسيره، من حديث يونس بن محمد المؤدب، والحجاج بن
مِنْهَال، كلاهما عن حماد بن سلمة، به.
وكذا رواه يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة به.
ثم قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم، حدثنا موسى بن
هارون، حدثنا إسحاق بن إبراهيم التستري ببلخ، حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا عمر بن قيس،
عن علي بن زيد (5) عن ثمامة، عن أنس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار.
قلت: من هؤلاء يا جبريل؟" قال: هؤلاء خطباء أمتك، الذين يأمرون الناس بالبر
وينسون أنفسهم.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وابن أبي حاتم، وابن مردويه -أيضًا-من حديث
هشام الدَّستَوائيّ، عن المغيرة -يعني ابن حبيب-ختن مالك بن دينار، عن مالك بن
دينار، عن ثمامة، عن أنس بن مالك، قال: لما عرج برسول
الله صلى الله عليه وسلم مرّ بقوم تُقْرض شفاههم (6) ،
فقال: "يا جبريل، من هؤلاء؟" قال: هؤلاء الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر
وينسون أنفسهم؛ أفلا يعقلون؟ (7) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يعلى بن
عبيد، حدثنا الأعمش، عن أبي وائل، قال: قيل لأسامة -وأنا رديفه-: ألا تكلم عثمان؟
فقال: إنكم تُرَون أني لا أكلمه إلا أسمعكم. إني لا أكلمه فيما بيني وبينه ما دون
أن أفتتح أمرًا -لا أحب أن أكون أول من افتتحه، والله لا أقول لرجل
__________
(1) في جـ: "عن".
(2) المعجم الكبير (2/165) وقال الهيثمي في المجمع (1/185): "رجاله
موثقون".
(3) في جـ، ب: "تقرض شفاههم بمقاريض".
(4) المسند (3/120).
(5) في أ: "بن يزيد".
(6) في جـ، ط، ب، أ، و: "تقرض من شفاههم".
(7) صحيح ابن حبان برقم (35) "موارد" وتفسير ابن أبي حاتم (1/151).
(1/248)
إنك خير الناس. وإن كان عليّ أميرًا -بعد أن (1) سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول، قالوا: وما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول: "يُجَاء
بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق به أقتابه (2) ، فيدور بها في النار
كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهلُ النار، فيقولون: يا فلان ما أصابك؟ ألم تكن
تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم
عن المنكر وآتيه" (3) .
ورواه البخاري ومسلم، من حديث سليمان بن مِهْرَان الأعمش، به نحوه (4) .
[وقال أحمد: حدثنا سيار بن حاتم، حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يعافي الأميين يوم القيامة
ما لا يعافي العلماء" (5) . وقد ورد في بعض الآثار: أنه يغفر للجاهل سبعين
مرة حتى يغفر للعالم مرة واحدة، ليس من يعلم كمن لا يعلم. وقال تعالى: { قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ
أُولُو الألْبَابِ } [الزمر: 9]. وروى ابن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: "إن أناسًا من أهل الجنة يطلعون على أناس من أهل
النار فيقولون: بم دخلتم النار؟ فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم،
فيقولون: إنا كنا نقول ولا نفعل" (6) رواه من حديث الطبراني عن أحمد بن يحيى
بن حيان (7) الرقي عن زهير بن عباد الرواسي عن أبي بكر الداهري (8) عن عبد الله بن
حكيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن الوليد بن عقبة فذكره] (9) .
وقال الضحاك، عن ابن عباس: إنه جاءه رجل، فقال: يا ابن عباس، إني أريد
أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، قال: أو بلغت ذلك؟ قال: أرجو. قال: إن لم تخش أن
تفْتَضَح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل. قال: وما هن؟ قال: قوله عز وجل (10) {
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } أحكمت هذه؟ قال:
لا. قال: فالحرف الثاني. قال: قوله تعالى: { لِمَ
تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا
عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } [الصف: 2،
3]
أحكمت هذه؟ قال: لا. قال: فالحرفَ الثالث. قال: قول العبد الصالح شعيب،
عليه السلام: { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ }
[هود: 88] أحكمت هذه الآية؟ قال: لا. قال: فابدأ بنفسك.
رواه ابن مردويه في تفسيره.
وقال الطبراني (11) حدثنا عبدان بن أحمد، حدثنا زيد بن الحريش، حدثنا
عبد الله بن خِرَاش، عن العوام بن حوشب، عن [سعيد بن] (12) المسيب بن رافع، عن ابن
عمر، قال: قال رسول الله
__________
(1) في جـ، ب: "إذ".
(2) في جـ: "شفتاه".
(3) المسند (5/205).
(4) صحيح البخاري برقم (3267) وصحيح مسلم برقم (2989).
(5) ورواه أبو نعيم في الحلية (2/7) من طريق الإمام أحمد وقال: "هذا
حديث غريب تفرد به سيار عن جعفر، ولم نكتبه إلا من حديث أحمد بن حنبل". وقال
عبد الله بن أحمد: "هذا حديث منكر حدثني به أبي، وما حدثني به إلا مرة".
(6) انظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (26/336).
(7) في جـ: "حماد"، والصواب ما أثبتناه.
(8) في جـ: "الزاهري"، والصواب ما أثبتناه.
(9) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(10) في جـ: "قوله تعالى".
(11) في أ: "القرطبي".
(12) زيادة من ط، أ، و.
(1/249)
صلى الله عليه وسلم: "من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به
لم يزل في ظل سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال، أو دعا إليه" (1) .
إسناده فيه ضعف، وقال إبراهيم النخعي: إني لأكره القصص لثلاث آيات قوله
تعالى: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ
أَنْفُسَكُمْ } وقوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ
مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا
مَا لا تَفْعَلُونَ } [الصف: 2،
3]
وقوله إخبارا عن شعيب: { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا
أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي
إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [هود: 88] .
وما أحسن ما قال مسلم بن عمرو:
ما أقبح التزهيد من واعظ ... يزهد الناس ولا يزهد ...
لو كان في تزهيده صادقا ... أضحى وأمسى بيته المسجد ...
إن رفض الناس فما باله ... يستفتح الناس ويسترقد ...
الرزق مقسوم على من ترى ... يسقى له الأبيض والأسود
...
وقال بعضهم: جلس أبو عثمان الحيري الزاهد يوما على مجلس التذكير فأطال
السكوت، ثم أنشأ يقول:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي والطبيب مريض ...
قال: فضج الناس بالبكاء. وقال أبو العتاهية الشاعر:
وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى ... وريح الخطايا من شأنك تقطع ...
وقال أبو الأسود الدؤلي:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم ...
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم ...
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى ... بالقول منك وينفع التعليم ...
وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد بن زيد البصري العابد الواعظ
قال:
دعوت الله أن يريني رفيقي في الجنة، فقيل لي في المنام: هي امرأة في
الكوفة يقال لها: ميمونة السوداء، فقصدت الكوفة لأراها. فقيل لي: هي ترعى غنما بواد
هناك، فجئت إليها فإذا هي قائمة تصلي والغنم ترعى
__________
(1) ورواه أبو نعيم في الحلية (2/7) من طريق الطبراني، وقال الهيثمي في
المجمع (7/276): "فيه عبد الله بن خراش وثقه ابن حبان
وقال: يخطئ، وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات".
(1/250)
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا
عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو
رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
حولها وبينهن الذئاب لا ينفرن منه، ولا يسطو الذئاب عليهن. فلما سلمت
قالت: يا ابن زيد، ليس الموعد هنا إنما الموعد ثَمّ، فسألتها عن شأن الذئاب
والغنم. فقالت: إني أصلحت ما بيني وبين سيدي فأصلح ما بين الذئاب والغنم. فقلت
لها: عظيني. فقالت: يا عجبا من واعظ يوعظ، ثم قالت: يا ابن زيد، إنك لو وضعت
موازين القسط على جوارحك لخبرتك بمكتوم مكنون ما فيها، يا ابن زيد، إنه بلغني ما
من عبد أعطى من الدنيا شيئا فابتغى إليه تائبا إلا سلبه الله حب الخلوة وبدله
بَعْدَ القرب البعد وبعد الأنس الوحشة ثم أنشأت تقول:
يا واعظًا قام لا حساب ... يزجر قوما عن الذنوب ...
تنه عنه وأنت السقيم حقا ... هذا من المنكر العجيب ...
تنه عن الغي والتمادي ... وأنت في النهي كالمريب ...
لو كنت أصلحت قبل هذا ... غيك أو تبت من قريب ...
كان لما قلت يا حبيبي ... موضع صدق من القلوب (1)
{ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى
الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) }
يقول تعالى (2) آمرًا عبيده، فيما يؤمّلون من خير الدنيا والآخرة،
بالاستعانة بالصبر والصلاة، كما قال مقاتل بن حَيَّان في تفسير هذه الآية:
استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض، والصلاة.
فأما الصبر فقيل: إنه الصيام، نص عليه مجاهد.
[قال القرطبي وغيره: ولهذا سمي رمضان شهر الصبر كما نطق به الحديث] (3) .
وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن جُرَيّ بن كُليب، عن رجل من بني
سليم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصوم نصف الصبر".
وقيل: المراد بالصبر الكف عن المعاصي؛ ولهذا قرنه بأداء العبادات
وأعلاها: فعل الصلاة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن حمزة بن إسماعيل، حدثنا
إسحاق بن سليمان، عن أبي سِنان، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: الصبر صبران:
صبر عند المصيبة حسن، وأحسن منه الصبر عن محارم الله.
__________
(1) انظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (15/253).
(2) في جـ: "تعالى مخبرا".
(3) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(1/251)
[قال] (1) وروي عن الحسن البصري نحو قول عمر.
وقال ابن المبارك عن ابن لَهِيعة عن مالك بن دينار، عن سعيد بن جبير،
قال:
الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب فيه، واحتسابه عند الله ورجاء ثوابه،
وقد يجزع الرجل وهو يتجلد، لا يرى (2) منه إلا الصبر.
وقال أبو العالية في قوله: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ }
على مرضاة الله، واعلموا أنها من طاعة الله.
وأما قوله: { وَالصَّلاةِ } فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في
الأمر، كما قال تعالى: { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ
إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ
أَكْبَرُ } الآية [العنكبوت: 45].
وقال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي
زائدة، عن عكرمة بن عمار، عن محمد بن عبد الله الدؤلي، قال: قال عبد العزيز أخو
حذيفة، قال حذيفة، يعني ابن اليمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه
أمر صلى. ورواه أبو داود [عن محمد بن عيسى عن يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار كما
سيأتي (3) ] (4) .
وقد رواه ابن جرير، من حديث ابن جُرَيج، عن عِكْرِمة بن عمار، عن محمد
بن عبيد بن أبي قدامة، عن عبد العزيز بن اليمان، عن حذيفة، قال: كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة (5) .
[ورواه بعضهم عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة؛ ويقال: أخي حذيفة مرسلا عن
النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقال محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة: حدثنا سهل بن
عثمان أبو مسعود (6) العسكري، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال: قال عكرمة بن
عمار: قال محمد بن عبد الله الدؤلي: قال عبد العزيز:
قال حذيفة: رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة
يصلي، وكان إذا حزبه أمر صلى (7) . وحدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا
شعبة عن أبي إسحاق سمع حارثة بن مضرب سمع عليا يقول: لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا
إلا نائم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح (8) ] (9) .
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب.
(2) في جـ: "فلا يرى".
(3) المسند (5/388) وسنن أبي داود برقم (1319).
(4) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(5) المسند (5/26).
(6) في ط: "ابن مسعود"، والصواب ما أثبتناه.
(7) تعظيم قدر الصلاة برقم (212).
(8) تعظيم قدر الصلاة برقم (213).
(9) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(1/252)
قال ابن جرير: وروي عنه، عليه الصلاة والسلام، أنه مر بأبي هريرة، وهو
منبطح على بطنه، فقال له: "اشكنب درد" [قال: نعم] (1) قال: "قم فصل
فإن الصلاة شفاء" (2) [ومعناه: أيوجعك بطنك؟ قال: نعم] (3) . قال ابن جرير:
وقد حدثنا محمد بن العلاء ويعقوب بن إبراهيم، قالا حدثنا ابن عُلَيَّة، حدثنا
عُيَينة بن عبد الرحمن، عن أبيه: أن ابن عباس نُعي إليه أخوه قُثَم وهو في سفر، فاسترجع،
ثم تنحَّى عن الطريق، فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى
راحلته وهو يقول: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا
لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ } (4) .
وقال سُنَيد، عن حجاج، عن ابن جرير: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ
وَالصَّلاةِ } قال: إنهما مَعُونتان على رحمة الله.
والضمير في قوله: { وَإِنَّهَا } عائد إلى الصلاة، نص عليه مجاهد،
واختاره ابن جرير.
ويحتمل أن يكون عائدا على ما يدل عليه الكلام، وهو الوصية بذلك، كقوله
تعالى في قصة قارون: { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ
خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ }
[القصص: 80] وقال تعالى: { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ
وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا
إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [فصلت: 34، 35]أي: وما يلقى هذه الوصية إلا الذين صبروا
{ وَمَا يُلَقَّاهَا } أي: يؤتاها ويلهمها { إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }
وعلى كل تقدير، فقوله تعالى: { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } أي: مشقة ثقيلة
إلا على الخاشعين. قال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني المصدّقين بما أنزل الله. وقال مجاهد:
المؤمنين حقا. وقال أبو العالية: إلا على الخاشعين الخائفين، وقال مقاتل بن حيان:
إلا على الخاشعين يعني به المتواضعين. وقال الضحاك: { وَإِنَّهَا
لَكَبِيرَةٌ } قال: إنها لثقيلة إلا على الخاضعين (5) لطاعته، الخائفين سَطَواته،
المصدقين بوعده ووعيده.
وهذا يشبه ما جاء في الحديث: "لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من
يسره الله عليه" (6) .
وقال ابن جرير: معنى الآية: واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب، بحبس
أنفسكم على طاعة الله وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر، المقربة من رضا الله،
العظيمة إقامتها إلا على المتواضعين لله المستكينين لطاعته المتذللين من مخافته.
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(2) تفسير الطبري (2/13) وانظر ما كتبه المحقق الفاضل عن معنى: "اشكنب
درد".
(3) زيادة من جـ، ط، ب.
(4) تفسير الطبري (2/14).
(5) في جـ: "الخاشعين".
(6) رواه أحمد في المسند (5/231) من حديث معاذ رضي الله عنه.
(1/253)
هكذا قال، والظاهر أن الآية وإن كانت خطابًا في سياق إنذار بني إسرائيل،
فإنهم لم يقصدوا بها على سبيل التخصيص، وإنما هي عامة لهم، ولغيرهم. والله أعلم.
وقوله تعالى: { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ
وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } هذا من تمام الكلام الذي قبله، أي: وإن الصلاة
أو الوَصَاة (1) لثقيلة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم، أي: [يعلمون أنهم] (2)
محشورون إليه يوم القيامة، معروضون عليه، وأنهم إليه راجعون، أي: أمورهم راجعة إلى
مشيئته، يحكم فيها ما يشاء بعدله، فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء سَهُل عليهم
فعلُ الطاعات وترك المنكرات.
فأما قوله: { يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ } قال (3) ابن
جرير، رحمه الله: العرب قد تسمي اليقين ظنا، والشك ظنًا، نظير تسميتهم الظلمة
سُدْفة، والضياء سُدفة، والمغيث صارخا، والمستغيث صارخًا، وما أشبه ذلك من الأسماء
التي يسمى بها الشيء وضدّه، كما قال دُرَيد بن الصِّمَّة:
فقلت لهم ظُنُّوا بألفي مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُم في الفَارسِيِّ
المُسَرَّدِ (4)
يعني بذلك تيقنوا بألفي مدجج يأتيكم، وقال عَمِيرة بن طارق:
بِأنْ يَعْتَزُوا (5) قومي وأقعُدَ فيكم ... وأجعلَ مني الظنَّ غيبا
مرجمّا (6)
يعني: وأجعل مني اليقين غيبا مرجما، قال: والشواهد من
أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى اليقين، أكثر من أن تحصر، وفيما ذكرنا
لمن وفق لفهمه كفاية، ومنه قول الله تعالى: { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ
فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا } [الكهف: 53].
ثم قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو عاصم، حدثنا سفيان، عن
جابر، عن مجاهد، قال: كل ظن في القرآن يقين، أي: ظننت وظَنوا.
وحدثني المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا أبو داود الحَفَرِيّ، عن سفيان عن
ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، قال: كل ظن في القرآن فهو علم. وهذا سند صحيح.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله تعالى: { الَّذِينَ
يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ } قال: الظن هاهنا يقين.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد، والسدي، والربيع بن أنس، وقتادة نحو
قول أبي العالية.
__________
(1) في أ: "الوصية".
(2) زيادة من جـ، ب، أ.
(3) في طـ، ب: "فقال".
(4) البيت في تفسير الطبري (2/18).
(5) في جـ: "نصروا"، وفي ب، أ: "تعيروا".
(6) البيت في تفسير الطبري (2/18).
(1/254)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)
وقال سُنَيد، عن حجاج، عن ابن جريج: { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ
مُلاقُو رَبِّهِمْ } علموا أنهم ملاقو ربهم، كقوله: { إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ
حِسَابِيَهْ } [الحاقة: 20] يقول: علمت.
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
قلت: وفي الصحيح: "أن الله تعالى يقول للعبد يوم
القيامة: ألم أزوجك، ألم أكرمك، ألم أسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟
فيقول: بلى. فيقول الله تعالى: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا. فيقول الله: اليوم
أنساك كما نسيتني". وسيأتي مبسوطا عند قوله: { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة: 67] إن
شاء الله، والله تعالى أعلم.
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) }
يذكرهم تعالى سَالفَ نعمه على آبائهم وأسلافهم، وما كان فَضَّلهم به من
إرسال الرسل منهم وإنزال الكتب عليهم وعلى سائر الأمم من أهل زمانهم، كما قال تعالى:
{ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } [الدخان: 32]،
وقال تعالى: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا
وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } [المائدة: 20].
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله
تعالى: { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } قال: بما أعطوا من الملك
والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان؛ فإن لكل زمان عالما.
ورُوي عن مجاهد، والربيع بن أنس، وقتادة، وإسماعيل بن أبي خالد نحوُ
ذلك، ويجب الحمل على هذا؛ لأن هذه الأمة أفضل منهم؛ لقوله تعالى خطابا لهذه الأمة:
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ
الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } [آل عمران: 110] وفي المسانيد والسنن (1) عن معاوية
بن حَيْدَة القُشَيري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنتم تُوفُونَ
سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله". والأحاديث في هذا كثيرة تذكر عند
قوله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }
[وقيل: المراد تفضيل بنوع ما من الفضل على سائر الناس، ولا يلزم تفضيلهم
مطلقًا، حكاه فخر الدين الرازي وفيه نظر. وقيل: إنهم فضلوا على سائر الأمم لاشتمال
أمتهم على الأنبياء منهم، حكاه القرطبي في تفسيره، وفيه نظر؛ لأن { الْعَالَمِينَ
} عام يشتمل من قبلهم ومن بعدهم من الأنبياء، فإبراهيم الخليل قبلهم وهو أفضل من
سائر أنبيائهم، ومحمد بعدهم وهو أفضل من جميع الخلق وسيد ولد آدم في الدنيا
والآخرة، صلوات الله وسلامه عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين] (2) .
__________
(1) في جـ، أ، و: "وفي السنن والمسانيد".
(2) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(1/255)
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا
يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ
(48)
{ وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا
يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) }
لما ذكرهم [الله] (1) تعالى بنعمه أولا عطف على ذلك التحذير من حُلُول
نقمه بهم يوم القيامة فقال: { وَاتَّقُوا يَوْمًا } يعني: يوم القيامة { لا
تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا } أي: لا يغني أحد عن أحد كما قال: { وَلا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [الأنعام : 164] ،
وقال: { لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [عبس : 37 ] ، وقال { يَا أَيُّهَا
النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ
وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا } [لقمان : 33] ، فهذه (2) أبلغ
المقامات: أن كلا من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئا، وقوله تعالى: {
وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } يعني عن الكافرين، كما قال: { فَمَا
تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } [المدثر : 48] ، وكما قال عن أهل النار: {
فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [الشعراء : 110 ، 111] ، وقوله: { وَلا يُؤْخَذُ
مِنْهَا عَدْلٌ } أي: لا يقبل منها فداء، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ
الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } [آل عمران : 91 ]
وقال: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا
وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا
تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [المائدة : 36 ]
وقال تعالى: { وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا } [الأنعام : 70
] ، وقال: { فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا } الآية [الحديد : 15] ، فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه
على ما بعثه به، ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه، فإنه لا ينفعهم قرابة
قريب ولا شفاعة ذي جاه، ولا يقبل منهم فداء، ولو بملء الأرض ذهبا، كما قال تعالى:
{ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ
} [البقرة : 254] ،
وقال { لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ } [إبراهيم : 31 ].
[وقال سنيد: حدثني حجاج، حدثني ابن جريج، قال: قال مجاهد: قال ابن عباس:
{ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } قال: بدل، والبدل: الفدية، وقال السدي: أما عدل فيعدلها
من العذاب يقول: لو جاءت بملء الأرض ذهبا تفتدي به ما تقبل منها، وكذا قال عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم،] (3) . وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي
العالية، في قوله: { وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } يعني: فداء.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي مالك، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة،
والربيع بن أنس، نحو ذلك.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه
عن علي ، رضي الله عنه، في حديث طويل، قال: والصرف والعدل: التطوع والفريضة.
وكذا قال الوليد بن مسلم، عن عثمان بن أبي العاتكة (4) ، عن عمير بن
هانئ.
__________
(1) زيادة من و.
(2) في جـ، ط، ب: "فهذا".
(3) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(4) في جـ، أ: "العالية".
(1/256)
وهذا القول غريب هنا، والقول الأول أظهر في تفسير هذه الآية، وقد ورد
حديث يقويه، وهو ما قال ابن جرير: حدثني نَجِيح بن إبراهيم، حدثنا علي بن حكيم، حدثنا
حميد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عَمْرو بن قيس الملائي (1) ، عن رجل من بني أمية
-من أهل الشام أحسن عليه الثناء -قال: قيل: يا رسول الله، ما العدل؟ قال:
"العدل الفدية" (2) .
وقوله تعالى: { وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ } أي: ولا أحد يغضب
لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله، كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة ولا ذو
جاه ولا يقبل منهم فداء. هذا كله من جانب التلطف، ولا لهم ناصر من أنفسهم، ولا من
غيرهم، كما قال: { فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ } [الطارق : 10 ] أي: إنه
تعالى لا يقبل فيمن كفر به فِدْيَة ولا شفاعة، ولا ينقذ أحدا من عذابه منقذ، ولا
يجيره منه أحد، كما قال تعالى: { وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ }
[المؤمنون : 88 ] . وقال { فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ
أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } [الفجر : 25 26 ] ، وقال { مَا لَكُمْ
لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ } [الصافات
: 25 ، 26 ] ، وقال { فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ } الآية [الأحقاف : 28].
وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله: { مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ } ما
لكم اليوم لا تمانعون منا؟ هيهات ليس ذلك لكم اليوم.
قال (3) ابن جرير: وتأويل قوله: { وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ
} يعني: أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر، كما لا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدل ولا
فدية، بَطَلت هنالك (4) المحاباة واضمحلت الرَّشى والشفاعات، وارتفع من القوم
التعاون والتناصر، وصار الحكم إلى عدل (5) الجبار الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء،
فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة (6) أضعافها وذلك نظير قوله تعالى: { وَقِفُوهُمْ
إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ* مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ* بَلْ هُمُ الْيَوْمَ
مُسْتَسْلِمُونَ } [ الصافات : 24-26 ]
__________
(1) في جـ: "الملا".
(2) تفسير الطبري (2/34).
(3) في جـ: "وقال".
(4) في جـ: "هنا".
(5) في جـ، ط، ب: "العدل".
(6) في جـ: "فيجزي بالسيئة مثلها والحسنة".
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ
الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي
ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ
وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ
وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ
بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ
إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى
بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ
فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا
مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا
عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا
ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
البقرة - تفسير ابن كثير
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ
الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي
ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ
وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
{ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ
يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ
مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ
وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) }
يقول تعالى (1) واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم "إِذْ
نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ" أي:
__________
(1) في جـ: "يقول الله تبارك وتعالى".
(1/257)
خلصتكم منهم وأنقذتكم من أيديهم صحبة (1) موسى، عليه السلام، وقد كانوا
يسومونكم، أي: يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب. وذلك أن فرعون -لعنه الله-كان
قد رأى رؤيا هالته، رأى نارا خرجت من بيت المقدس فدخلت دور القبط ببلاد مصر، إلا
بيوت بني إسرائيل، مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل، ويقال:
بل تحدث سماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم، يكون لهم به دولة
ورفعة، وهكذا جاء في حديث الفُتُون، كما سيأتي في موضعه [في سورة طه] (2) إن شاء
الله، فعند ذلك أمر فرعون -لعنه الله-بقتل كل [ذي] (3) ذَكر يولد بعد ذلك من بني
إسرائيل، وأن تترك البنات، وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأراذلها.
وهاهنا فسر العذاب بذبح الأبناء، وفي سورة إبراهيم عطف عليه، كما قال: { يَسُومُونَكُمْ
سُوءَ الْعَذَابِ ويُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ }
[إبراهيم ] وسيأتي تفسير (4) ذلك في أول سورة القصص، إن شاء الله تعالى، وبه الثقة
والمعونة والتأييد.
ومعنى { يَسُومُونَكُمْ } أي: يولونكم، قاله أبو عبيدة، كما يقال سامه
خطة خسف إذا أولاه إياها، قال عمرو بن كلثوم:
إذا ما الملك سام الناس خسفا ... أبينا أن نقر الخسف فينا ...
وقيل: معناه: يديمون عذابكم، كما يقال: سائمة الغنم من
إدامتها الرعي، نقله القرطبي، وإنما قال هاهنا: { يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ
وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ } ليكون ذلك تفسيرا للنعمة عليهم في قوله: {
يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } ثم فسره بهذا لقوله هاهنا { اذْكُرُوا
نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } وأما في سورة إبراهيم فلما قال: { وَذَكِّرْهُمْ
بِأَيَّامِ اللَّهِ } [إبراهيم:5] ، أي: بأياديه ونعمه عليهم فناسب أن يقول هناك:
{ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ويُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ
نِسَاءَكُمْ } فعطف عليه الذبح ليدل على تعدد النعم والأيادي.
وفرعون علم على كل مَنْ مَلَكَ مصر، كافرًا من العماليق (5) وغيرهم، كما
أن قيصر علم على كل من ملك الروم مع الشام كافرًا، وكسرى لكل من ملك الفرس،
وتُبَّع لمن ملك اليمن كافرا [والنجاشي لمن ملك الحبشة، وبطليموس لمن ملك الهند]
(6) ويقال: كان اسم فرعون الذي كان في زمن موسى، عليه السلام، الوليد بن مصعب بن
الريان، وقيل: مصعب بن الريان، أيا ما كان فعليه لعنة الله، [وكان من سلالة عمليق
بن داود بن إرم بن سام بن نوح، وكنيته أبو مرة، وأصله فارسي من استخر] (7) .
__________
(1) في جـ: "بصحبة".
(2) زيادة من جـ، ط.
(3) زيادة من جـ.
(4) في جـ، ط: "تفصيل".
(5) في جـ: "العمالقة".
(6) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(7) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(1/258)
وقوله تعالى: { وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } قال ابن
جرير:
وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا إياكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون
بلاء لكم من ربكم عظيم. أي: نعمة عظيمة عليكم في ذلك (1) .
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس [في] (2) قوله: { بَلاءٌ مِنْ
رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } قال: نعمة. وقال مجاهد: { بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ
عَظِيمٌ } قال: نعمة من ربكم عظيمة. وكذا قال أبو العالية، وأبو مالك، والسدي،
وغيرهم.
وأصل البلاء: الاختبار، وقد يكون بالخير والشر، كما قال تعالى:
{ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } [الأنبياء: 25] ، وقال: { وَبَلَوْنَاهُمْ
بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ } [الأعراف: 168].
قال ابن جرير: وأكثر ما يقال في الشر: بلوته أبلوه بَلاءً، وفي الخير:
أبليه إبلاء وبلاء، قال زهير بن أبي سلمى:
جزى الله بالإحسان ما فَعَلا بكُم ... وأبلاهما خَيْرَ البلاءِ الذي
يَبْلُو (3)
قال: فجمع بين اللغتين؛ لأنه أراد فأنعم الله عليهما خير النعم التي يَخْتَبر
بها عباده.
[وقيل: المراد بقوله: { وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ } إشارة
إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النساء؛ قال القرطبي:
وهذا قول الجمهور ولفظه بعدما حكى القول الأول، ثم قال: وقال الجمهور: الإشارة إلى
الذبح ونحوه، والبلاء هاهنا في الشر، والمعنى في الذبح مكروه وامتحان] (4) .
وقوله تعالى: { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا
آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } معناه: وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون،
وخرجتم مع موسى، عليه السلام، خرج (5) فرعون في طلبكم، ففرقنا بكم البحر، كما أخبر
تعالى عن ذلك مفصلا (6) كما سيأتي في مواضعه (7) ومن أبسطها في سورة الشعراء إن
شاء الله.
{ فَأَنْجَيْنَاكُمْ } أي: خلصناكم منهم، وحجزنا بينكم وبينهم، وأغرقناهم وأنتم
تنظرون؛ ليكون ذلك أشفى لصدوركم، وأبلغ في إهانة عدوكم.
قال (8) عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمر، عن أبي إسحاق
الهَمْداني، عن عمرو بن ميمون الأودي في قوله تعالى: { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ
الْبَحْرَ } إلى قوله: { وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } قال: لما خرج موسى ببني
إسرائيل، بلغ ذلك فرعون فقال: لا تتبعوهم حتى تصيح الديكة. قال: فوالله ما صاح
ليلتئذ ديك
__________
(1) في جـ: "أي نعمة عليكم عظيمة في ذلك".
(2) زيادة من جـ، أ.
(3) البيت في تفسير الطبري (2/49).
(4) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(5) في جـ: "وخرج".
(6) في جـ: "مفصلا عن ذلك".
(7) في جـ: "مفصلا".
(8) في جـ، ط: "وقال".
(1/259)
حتى أصبحوا؛ فدعا بشاة فَذُبحت، ثم قال: لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع
إليَّ ستمائة ألف من القبط. فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط
ثم سار، فلما أتى موسى البحر، قال له رجل من أصحابه، يقال له: يوشع بن نون: أين
أمَرَ ربك؟ قال: أمامك، يشير إلى البحر. فأقحم يوشع فرسَه في البحر حتى بلغ
الغَمْرَ، فذهب به الغمر، ثم رجع. فقال: أين أمَرَ ربك يا موسى؟ فوالله ما كذبت
ولا كُذبت (1) . فعل ذلك ثلاث مرات، ثم أوحى الله إلى موسى: { أَنِ اضْرِبْ
بِعَصَاكَ الْبَحْرَ } فضربه { فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ
الْعَظِيمِ } [الشعراء : 63 ] ، يقول: مثل الجبل. ثم سار موسى ومن
معه وأتبعهم فرعون في طريقهم، حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم فلذلك قال: {
وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } (2) .
وكذلك قال غير واحد من السلف، كما سيأتي بيانه في موضعه (3) . وقد ورد
أن هذا اليوم كان يوم عاشوراء، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا عفان، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب، عن عبد الله بن سعيد بن
جبير، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود
يصومون يوم عاشوراء، فقال: "ما هذا اليوم الذي تصومون؟". قالوا: هذا يوم
صالح، هذا يوم نجى الله عز وجل فيه بني إسرائيل من عدوهم (4) ، فصامه موسى، عليه
السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أحق بموسى منكم".
فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصومه.
وروى هذا الحديث البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه من طرق، عن أيوب
السختياني، به (5) نحو ما تقدم.
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو الربيع، حدثنا سلام -يعني ابن سليم-عن
زيد العَمِّيّ عن يزيد الرقاشي عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "
فلق الله البحر لبني إسرائيل يوم عاشوراء " (6) .
وهذا ضعيف من هذا الوجه فإن زيدا العَمِّيّ فيه ضعف، وشيخه يزيد الرقاشي
أضعف منه.
__________
(1) في جـ: "ولا كذبت"، وفي ط: "وكذبت".
(2) تفسير عبد الرزاق (1/67).
(3) في أ: "كما سيأتي في موضعه إن شاء الله".
(4) في جـ: "من الغرق، وفي ط: "من غرقهم".
(5) المسند (1/291) وصحيح البخاري برقم (2004) وصحيح مسلم برقم (1130).
(6) مسند أبي يعلى (7/133).
(1/260)
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ
الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ
مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ
وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا
قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا
إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ
بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
{ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ
الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ
مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) }
يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم، لَمَّا عبدتم العجل بعد
ذهاب موسى لميقات ربه، عند انقضاء أمَد المواعدة، وكانت أربعين يومًا، وهي
المذكورة في الأعراف، في قوله تعالى: { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً
وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ } [الأعراف: 142] قيل: إنها ذو القعدة بكماله وعشر من
ذي الحجة، وكان ذلك بعد خلاصهم من قوم فرعون وإنجائهم من البحر.
{ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ (53) }
وقوله: { وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } يعني:
التوراة { وَالْفُرْقَانَ } وهو ما يَفْرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال
{ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } وكان ذلك -أيضا-بعد خروجهم من البحر، كما دل عليه
سياق الكلام في سورة الأعراف. ولقوله (1) تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى
الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ
وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [القصص: 43].
وقيل: الواو زائدة، والمعنى: ولقد آتينا موسى الكتاب والفرقان وهذا
غريب، وقيل: عطف عليه وإن كان المعنى واحدًا، كما في قول الشاعر:
وقدمت الأديم لراقشيه ... فألفى قولها كذبًا ومينا ...
وقال الآخر:
ألا حبذا هند وأرض بها هند ... وهند أتى من دونها النأي والبعد ...
فالكذب هو المين، والنأي: هو البعد. وقال عنترة:
حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أم الهيثم ...
فعطف الإقفار على الإقواء وهو هو.
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ
بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) } .
هذه صفَةُ توبته تعالى على بني إسرائيل من عبادة العجل، قال الحسن
البصري، رحمه الله، في قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ
ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ } فقال: ذلك حين وقع في قلوبهم
من شأن عبادتهم العجل ما وقع حين قال الله تعالى: { وَلَمَّا سُقِطَ
فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ
يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا } الآية [الأعراف : 149] .
قال: فذلك حين يقول موسى: { يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ
أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ }
وقال أبو العالية، وسعيد بن جبير، والربيع بن أنس: { فَتُوبُوا إِلَى
بَارِئِكُمْ } أي إلى خالقكم.
قلت: وفي قوله هاهنا: { إِلَى بَارِئِكُمْ } تنبيه على عظم جرمهم، أي:
فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره.
__________
(1) في جـ:" "وكقوله".
(1/261)
وروى النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم، من حديث يزيد بن هارون، عن
الأصبغ بن زيد الوراق عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال:
قال الله تعالى: إن توبتهم أن يقتل كل واحد منهم كل من لقي من ولد ووالد (1) فيقتله بالسيف،
ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن. فتاب أولئك الذين كانوا خفي على موسى وهارون ما
اطلع الله من ذنوبهم، فاعترفوا بها، وفعلوا ما أمروا به فغفر الله تعالى للقاتل
والمقتول. وهذا (2) قطعة من حديث الفُتُون، وسيأتي في تفسير سورة طه بكماله، إن
شاء الله (3) .
وقال ابن جرير: حدثني عبد الكريم بن الهيثم، حدثنا إبراهيم بن بَشَّار،
حدثنا سفيان بن عيينة، قال: قال أبو سعيد: عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال موسى
لقومه: { فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ
إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } قال: أمر موسى قومه -من أمر ربه عز وجل -أن
يقتلوا أنفسهم قال: واحتبى الذين عبدوا (4) العجل فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا
على العجل، فأخذوا الخناجر بأيديهم، وأصابتهم ظُلَّة (5) شديدة، فجعل يقتل بعضهم
بعضا، فانجلت الظلَّة (6) عنهم، وقد أجلوا عن سبعين ألف قتيل، كل من قتل منهم كانت
له توبة، وكل من بقي كانت له توبة.
وقال ابن جُرَيْج: أخبرني القاسم بن أبي بَزَّة أنه سمع سعيد بن
جبير ومجاهدًا يقولان في قوله تعالى: { فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } قالا قام بعضهم
إلى بعض بالخناجر فقتل بعضهم بعضًا، لا يحنو رجل على قريب ولا بعيد، حتى ألوى موسى
بثوبه، فطرحوا ما بأيديهم، فكُشِفَ عن سبعين ألف قتيل. وإن الله أوحى إلى موسى: أن
حَسْبي، فقد اكتفيت، فذلك حين ألوى موسى بثوبه، [وروي عن علي رضي الله عنه نحو
ذلك] (7) .
وقال قتادة: أمر القوم بشديد من الأمر، فقاموا يتناحرون بالشفار يقتل
بعضهم بعضا، حتى بلغ الله فيهم نقمته، فسقطت الشفار من أيديهم، فأمسك عنهم القتل،
فجعل لحيهم توبة، وللمقتول شهادة.
وقال الحسن البصري: أصابتهم ظلمة حنْدس، فقتل بعضهم بعضا [نقمة] (8) ثم
انكشف عنهم، فجعل توبتهم في ذلك.
وقال السدي في قوله: { فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } قال: فاجتلد الذين
عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف، فكان من قُتِل من الفريقين شهيدًا، حتى كثر القتل،
حتى كادوا أن يهلكوا، حتى قتل بينهم (9) سبعون ألفًا، وحتى دعا موسى وهارون: ربنا
أهلكت بني إسرائيل، ربنا البقيةَ البقيةَ،
__________
(1) في ط: "أو والد".
(2) في جـ: "وهذه".
(3) وهو في سنن النسائي الكبرى برقم (11326) وسيأتي عند الموضع الذي أشار
إليه الحافظ ابن كثير.
(4) في جـ، ط، ب: "عكفوا".
(5) في جـ، ط، ب، أ، و: "ظلمة".
(6) في جـ، ط، ب، أ، و: "الظلمة".
(7) زيادة من جـ، ط، ب، وفي أ، و: "وروي عن علي رحمة الله عليه نحو ذلك".
(8) زيادة من أ.
(9) في جـ، ط، ب: "منهم".
(1/262)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ
جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ
مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
فأمرهم أن يضعوا السلاح وتاب عليهم، فكان من قتل منهم من الفريقين
شهيدًا، ومن بقي مُكَفّرا عنه؛ فذلك قوله: { فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ }
وقال الزهري: لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها، برزوا ومعهم موسى،
فاضطربوا بالسيوف، وتطاعنوا بالخناجر، وموسى رافع يديه، حتى إذا أفنوا بعضهم (1) ،
قالوا: يا نبي الله، ادع الله لنا. وأخذوا بعضُديه
يسندون يديه، فلم يزل أمرهم على ذلك، حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيديهم، بعضهم
عن بعض، فألقوا السلاح، وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم، فأوحى
الله، جل ثناؤه، إلى موسى: ما يحزنك؟ أما من قتل منكم فحي عندي يرزقون، وأما من
بقي فقد قبلت توبته. فسُرّ بذلك موسى، وبنو إسرائيل.
رواه ابن جرير بإسناد جيد عنه.
وقال ابن إسحاق: لما رجع موسى إلى قومه، وأحرق العجل وذَرّاه في اليم،
خرج إلى ربه بمن اختار من قومه، فأخذتهم الصاعقة، ثم بُعثوا، فسأل موسى ربه التوبة
لبني إسرائيل من عبادة العجل. فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم قال: فبلغني أنهم
قالوا لموسى: نَصبر لأمر الله. فأمر موسى من لم يكن عبد العجل
أن يَقْتُل من عبده. فجلسوا بالأفنية وأصْلَتَ عليهم القومُ السيوف،
فجعلوا يقتلونهم، وبكى موسى، وَبَهَش إليه النساء والصبيان، يطلبون العفو عنهم،
فتاب الله عليهم، وعفا عنهم وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما رجع موسى إلى قومه، وكان (2) سبعون
(3) رجلا قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه. فقال لهم موسى: انطلقوا إلى موعد
ربكم. فقالوا: يا موسى، ما من (4) توبة؟ قال: بلى، { فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } الآية، فاخترطوا
السيوف والجرزَة والخناجر والسكاكين. قال: وبعث عليهم ضبابة. قال: فجعلوا يتلامسون
بالأيدي، ويقتل بعضهم بعضًا. قال: ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله ولا يدري. قال:
ويتنادون [فيها] (5) : رحم الله عبدا صبر نفسه حتى يبلغ الله رضاه، قال: فقتلاهم شهداء،
وتيب على أحيائهم، ثم قرأ: { فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ }
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا
__________
(1) في جـ، أ: "بعضهم بعضا".
(2) في جـ: "وكانوا".
(3) في أ: "سبعين".
(4) في أ: "هل من".
(5) زيادة من جـ، ط، ب، أ.
(1/263)
مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً
فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ
مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) }
يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق، إذ سألتم رؤيتي
جهرة عيانًا، مما لا يستطاع (1) لكم ولا لأمثالكم، كما قال ابن جريج، قال ابن
عباس في هذه الآية: { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ
حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } قال: علانية.
وكذا قال إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق، عن أبي الحويرث، عن ابن
عباس، أنه قال في قول الله تعالى: { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ
جَهْرَةً } أي علانية، أي حتى نرى الله.
وقال قتادة، والربيع بن أنس: { حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } أي
عيانا.
وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس: هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا
معه.
قال: فسمعوا كلاما، فقالوا: { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً
} قال: فسمعوا صوتًا فصعقوا، يقول: ماتوا.
وقال مروان بن الحكم، فيما خطب به على منبر مكة: الصاعقة: صيحة من
السماء.
وقال السدي في قوله: { فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ } الصاعقة: نار.
وقال عروة بن رويم في قوله: { وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } قال: فصعق بعضهم
وبعض ينظرون (2) ، ثم بعث هؤلاء وصعق هؤلاء.
وقال السدي: { فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ } فماتوا، فقام موسى يبكي
ويدعو الله، ويقول: رب، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم { لَوْ شِئْتَ
أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ
مِنَّا } [الأعراف : 155]. فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا
العجل، ثم إن الله أحياهم فقاموا وعاشوا (3) رجلٌ رجلٌ، ينظر (4) بعضهم إلى بعض:
كيف يحيون؟ قال: فذلك قوله تعالى: { ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
وقال الربيع بن أنس: كان موتهم عقوبة لهم، فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا
آجالهم. وكذا قال قتادة.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن حميد، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن
إسحاق، قال: لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري
ما قال، وحَرّق العجل وذَرّاه في اليم، اختار موسى منهم سبعين (5) رجلا الخَيِّرَ
فالخير، وقال: انطلقوا إلى الله وتوبوا إلى الله مما صنعتم وسلوه التوبة على من
تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور
سيناء (6) لميقات وقَّتَه له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعِلْم، فقال له
السبعون، فيما ذكر لي، حين صنعوا ما أمروا به وخرجوا للقاء الله، قالوا: يا موسى،
اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل. فلما دنا موسى من الجبل، وقع عليه
الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا. وكان موسى إذا
كلمه الله (7) وقع على جبهته نور ساطع،
__________
(1) في جـ: "يتطلع".
(2) في جـ: "ينظر".
(3) في جـ، ط، ب: "وعاش".
(4) في جـ، ط، ب: "فنظر".
(5) في جـ: "سبعون" وهو خطأ.
(6) في جـ: "الطور سينين".
(7) في جـ: "كلمه ربه".
(1/264)
لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونه (1) بالحجاب، ودنا
القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا (2) فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه:
افعل ولا تفعل. فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم، فقالوا
لموسى: { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } فأخذتهم الرجفة
(3) ، وهي الصاعقة، فماتوا جميعًا. وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه، ويقول:
{ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ [وَإِيَّايَ ] (4)
} [الأعراف : 155] قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل السفهاء
منا؟ أي: إن هذا لهم هلاك. اخترتُ منهم سبعين رجلا الخَيِّر فالخير، أرجع إليهم
وليس معي منهم رجل واحد! فما الذي يصدقوني به ويأمنوني عليه بعد هذا؟ { إِنَّا
هُدْنَا إِلَيْكَ } [الأعراف : 156] فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل، ويطلب إليه حتى
ردّ إليهم أرواحهم، وطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا؛ إلا
أن يقتلوا أنفسهم (5) .
هذا سياق محمد بن إسحاق.
وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير: لما تابت بنو إسرائيل من
عبادة العجل وتاب الله عليهم بقتل بعضهم بعضا كما أمرهم به، أمر الله موسى أن
يأتيه في كل أناس من بني إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موسى،
فاختار موسى قومه سبعين رجلا على عَينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا. وساق البقية.
[وهذا السياق يقتضي أن الخطاب توجه إلى بني إسرائيل في قوله: { وَإِذْ
قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } والمراد السبعون
المختارون منهم، ولم يحك كثير من المفسرين سواه، وقد أغرب فخر الدين الرازي في
تفسيره حين حكى في قصة هؤلاء السبعين: أنهم بعد إحيائهم قالوا: يا موسى، إنك لا
تطلب من الله شيئا إلا أعطاك، فادعه أن يجعلنا أنبياء، فدعا بذلك فأجاب الله
دعوته، وهذا غريب جدا، إذ لا يعرف في زمان موسى نبي سوى هارون ثم يوشع بن نون، وقد
غلط أهل الكتاب أيضًا في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عز وجل، فإن موسى الكليم، عليه
السلام، قد سأل ذلك فمنع منه فكيف يناله هؤلاء السبعون؟
القول الثاني في الآية] (6) قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه
الآية: قال لهم موسى -لما رجع من عند ربه بالألواح، قد كتب فيها التوراة، فوجدهم
يعبدون العجل، فأمرهم بقتل أنفسهم، ففعلوا، فتاب الله عليهم، فقال: إن هذه الألواح
فيها كتاب الله، فيه (7) أمركم الذي أمركم به ونهيكم الذي نهاكم عنه. فقالوا: ومن
يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى
__________
(1) في جـ: "دونهما".
(2) في جـ: "سجدا".
(3) في ط: "الصاعقة".
(4) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(5) تفسير الطبري (2/77).
(6) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(7) في جـ: "فيها كتاب الله الذي".
(1/265)
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ
وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ
كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
يطلع الله علينا فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما يكلمك
أنت يا موسى! وقرأ قول الله: { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ
جَهْرَةً } قال: فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة بعد التوبة، فصعقتهم فماتوا
أجمعون. قال: ثم أحياهم الله من بعد موتهم، وقرأ قول الله: { ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ
مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله. فقالوا: لا فقال:
أي شيء أصابكم؟ فقالوا: أصابنا أنا متنا ثم حَيِينا. قال (1) : خذوا كتاب الله.
قالوا: لا. فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم.
[وهذا السياق يدل على أنهم كلفوا بعد ما أحيوا. وقد حكى الماوردي في ذلك
قولين: أحدهما: أنه سقط التكليف عنهم لمعاينتهم الأمر
جهرة حتى صاروا مضطرين إلى التصديق؛ والثاني: أنهم مكلفون لئلا يخلو عاقل من
تكليف، قال القرطبي: وهذا هو الصحيح لأن معاينتهم للأمور الفظيعة لا تمنع تكليفهم؛
لأن بني إسرائيل قد شاهدوا أمورًا عظامًا من خوارق العادات، وهم في ذلك مكلفون
وهذا واضح، والله أعلم] (2) .
{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ
وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ
كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) }
لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم، شرع يذكرهم -أيضا-بما أسبغ عليهم
من النعم، فقال: { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ } وهو جمع غمامة، سمي بذلك
لأنه يَغُمّ السماء، أي: يواريها ويسترها. وهو السحاب الأبيض، ظُلِّلوا به في
التيه ليقيهم حر الشمس. كما رواه النسائي وغيره عن ابن عباس في حديث الفُتُون،
قال: ثم ظلل عليهم في التيه بالغمام.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عمر، والربيع بن أنس، وأبي مجلز،
والضحاك، والسدي، نحو قول ابن عباس.
وقال الحسن وقتادة: { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ } [قال] (3)
كان هذا في البرية (4) ظلل عليهم الغمام من الشمس.
وقال ابن جرير (5) قال آخرون: وهو غمام أبرد من هذا، وأطيب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد: { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ } (6) قال: ليس بالسحاب، هو
الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة، ولم يكن إلا لهم.
وهكذا رواه ابن جرير، عن المثنى بن إبراهيم، عن أبي حذيفة.
__________
(1) في جـ: "فقال".
(2) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(3) زيادة من جـ، ط.
(4) في أ: "في التيه".
(5) في جـ، ط: "ابن جريج".
(6) في جـ، ط: "عليهم" وهو خطأ.
(1/266)
وكذا رواه الثوري، وغيره، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وكأنه يريد، والله
أعلم، أنه ليس من زِيّ هذا السحاب، بل أحسن منه وأطيب وأبهى منظرا، كما قال سنيد في
تفسيره عن حجاج بن محمد، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ
الْغَمَامَ } قال: غمام أبرد من هذا وأطيب، وهو الذي يأتي الله فيه في قوله: {
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ
وَالْمَلائِكَةُ } [البقرة : 210] وهو الذي جاءت فيه
الملائكة يوم بدر. قال ابن عباس: وكان معهم في التيه.
وقوله: { وَأَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ } اختلفت عبارات
المفسرين في المن: ما هو؟ فقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: كان المن ينزل عليهم
على الأشجار، فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاؤوا.
وقال مجاهد: المن: صمغة. وقال عكرمة: المن: شيء أنزله الله عليهم مثل
الطل، شبه الرِّبِ الغليظ.
وقال السدي: قالوا: يا موسى، كيف لنا بما هاهنا؟ أين الطعام؟ فأنزل الله
عليهم المن، فكان يسقط على شجر (1) الزنجبيل.
وقال قتادة: كان المن ينزل عليهم في محلتهم (2) سقوط الثلج، أشد بياضا
من اللبن، وأحلى من العسل، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، يأخذ الرجل
منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك؛ فإذا تعدى ذلك فسد ولم يبق، حتى إذا كان يوم سادسه،
ليوم جمعته، أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه؛ لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه
لأمر معيشته ولا يطلبه لشيء، وهذا كله في البرية.
وقال الربيع بن أنس: المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل، فيمزجونه
بالماء ثم يشربونه.
وقال وهب بن منبه -وسئل عن المن-فقال: خبز الرقاق مثل الذرة أو مثل
النَقيِّ.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو أحمد، حدثنا
إسرائيل، عن جابر، عن عامر وهو الشعبي، قال: عسلكم هذا جزء من سبعين جزءا من المن.
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إنه العسل.
ووقع في شعر أمية بن أبي الصلت، حيث قال:
فرأى الله أنهم بمضيع ... لا بذي مزرع ولا مثمورا ...
فسناها عليهم غاديات ... وترى مزنهم خلايا وخورا ...
عسلا ناطفا وماء فراتا ... وحليبا ذا بهجة مرمورا (3)
__________
(1) في ط: "الشجرة"، وفي ب: "الشجر".
(2) في أ: "في نخلتهم".
(3) الأبيات في تفسير الطبري (2/94، 95).
(1/267)
فالناطف: هو السائل، والحليب المرمور: الصافي منه.
والغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن، فمنهم من فسره بالطعام،
ومنهم من فسره بالشراب، والظاهر، والله أعلم، أنه (1) كل ما امتن الله به عليهم من
طعام وشراب (2) ، وغير ذلك، مما ليس لهم فيه عمل ولا كد، فالمن المشهور إن أكل
وحده كان طعاما وحلاوة، وإن مزج مع الماء صار شرابا طيبا، وإن ركب مع غيره صار
نوعا آخر، ولكن ليس هو المراد من الآية وحده؛ والدليل على ذلك قول البخاري:
حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن عبد الملك، عن عمر بن حريث (3) عن سعيد (4) بن
زيد، رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن،
وماؤها شفاء للعين".
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الملك، وهو
ابن عمير، به (5) .
وأخرجه الجماعة في كتبهم، إلا أبا داود، من طرق عن عبد الملك، وهو ابن
عمير، به (6) . وقال الترمذي: حسن صحيح، ورواه البخاري ومسلم
والنسائي من رواية الحكم، عن الحسن العُرَني، عن عمرو بن حريث، به (7) .
وقال الترمذي: حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر ومحمود بن غَيْلان،
قالا حدثنا سعيد بن عامر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم،
والكمأة من المن وماؤها شفاء للعين" (8) .
تفرد بإخراجه الترمذي، ثم قال: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث
محمد بن عمرو، وإلا من حديث سعيد (9) بن عامر، عنه، وفي الباب عن سعيد بن زيد،
وأبي سعيد وجابر.
كذا قال، وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره، من طريق آخر، عن
أبي هريرة، فقال: حدثنا أحمد بن الحسن (10) بن أحمد البصري، حدثنا أسلم بن سهل،
حدثنا القاسم بن عيسى، حدثنا طلحة بن عبد الرحمن، عن قتادة (11) عن سعيد بن
المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من
المن، وماؤها شفاء للعين".
وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وطلحة بن عبد الرحمن هذا سلمي واسطي، يكنى
بأبي
__________
(1) في جـ: "أن".
(2) في جـ: "أو شراب".
(3) في جـ: "حوشب".
(4) في جـ: "سفيان".
(5) صحيح البخاري برقم (4478) والمسند (1/187).
(6) صحيح البخاري برقم (4639) وصحيح مسلم برقم (2049) وسنن الترمذي برقم
(2067) وسنن النسائي الكبرى برقم (6667).
(7) صحيح البخاري برقم (5708) وصحيح مسلم برقم (2049) وسنن النسائي الكبرى
برقم (10988).
(8) سنن الترمذي برقم (3013).
(9) في جـ: "محمد".
(10) في جـ، أ، و: "الحسين".
(11) في جـ: "عبادة".
(1/268)
محمد، وقيل: أبو سليمان المؤدب قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عدي: روى عن
قتادة أشياء لا يتابع عليها (1) .
ثم قال [الترمذي] (2) حدثنا محمد بن بشار، حدثنا معاذ بن هشام، حدثنا
أبي، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة: أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم قالوا: الكمأة جدري الأرض، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن،
وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم".
وهذا الحديث قد رواه النسائي، عن محمد بن بشار، به (3) . وعنه، عن غندر،
عن شعبة، عن أبي بشر جعفر بن إياس، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة، به (4) . وعن محمد بن
بشار، عن عبد الأعلى، عن خالد الحذاء، عن شهر بن حوشب. بقصة الكمأة فقط (5) .
وروى النسائي -أيضا-وابن ماجه من حديث محمد بن بشار، عن أبي عبد الصمد
عبد العزيز بن عبد الصمد، عن مطر الوراق، عن شهر: بقصة العجوة عند النسائي،
وبالقصتين عند ابن ماجه (6) .
وهذه الطريق منقطعة بين شهر بن حوشب وأبي هريرة فإنه لم يسمعه (7) منه،
بدليل ما رواه النسائي في الوليمة من سننه، عن علي بن الحسين الدرهمي (8) عن عبد
الأعلى، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غَنْم،
عن أبي هريرة، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يذكرون الكمأة، وبعضهم يقول
(9) جدري الأرض، فقال: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" (10) .
وروي عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن شهر بن حوشب،
عن جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري، قالا قال
__________
(1) الكامل لابن عدي (4/114).
(2) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(3) هو في سنن النسائي الكبرى برقم (6671) عن نصير بن الفرج، عن معاذ بن
هشام به، ولم أقع عليه عن محمد بن بشار، وقد ذكره المزي عن محمد بن بشار في تحفة الأشراف
(10/112).
(4) سنن النسائي الكبرى برقم (6673).
(5) سنن النسائي الكبرى برقم (6672).
(6) سنن ابن ماجة برقم (3400).
(7) في جـ: "لم يسمع".
(8) في جـ: "الدهرمي".
(9) في جـ: "وبعضهم يذكرون".
(10) سنن النسائي الكبرى برقم (6670).
(1/269)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين
والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم" (1) .
قال (2) النسائي في الوليمة أيضا: حدثنا محمد بن بشار،
حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي بشر جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب، عن أبي
سعيد وجابر، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الكمأة
من المن، وماؤها شفاء للعين" (3) . ثم رواه -أيضا-، وابن ماجه من طرق، عن
الأعمش، عن أبي بشر، عن شهر، عنهما، به (4) .
وقد رويا (5) -أعني النسائي (6) وابن ماجه-من حديث سعيد بن مسلم (7)
كلاهما عن الأعمش، عن جعفر بن إياس عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، زاد النسائي:
[وحديث] (8) جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكمأة من المن، وماؤها
شفاء للعين" (9) .
ورواه ابن مردويه، عن أحمد بن عثمان، عن عباس الدوري، عن لاحق بن صواب
(10) عن عمار بن رزيق (11) عن الأعمش، كابن ماجه.
وقال ابن مردويه أيضا: حدثنا أحمد بن عثمان، حدثنا عباس الدوري، حدثنا
الحسن (12) بن الربيع، حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن
المنهال بن عمرو، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي سعيد الخدري، قال: خرج علينا
رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كمآت، فقال: "الكمأة من المن، وماؤها
شفاء للعين".
وأخرجه النسائي، عن عمرو بن منصور، عن الحسن بن الربيع (13) ثم [رواه]
(14) ابن مردويه. رواه أيضا عن عبد الله بن إسحاق عن الحسن بن سلام، عن عبيد الله بن
موسى، عن شيبان (15) عن الأعمش به، وكذا رواه النسائي عن أحمد بن عثمان بن حكيم،
عن عبيد الله بن موسى [به] (16) (17) .
وقد روى من حديث أنس بن مالك، رضي الله عنه كما قال ابن مردويه:
حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم، حدثنا حمدون بن أحمد، حدثنا حوثرة
بن أشرس، حدثنا حماد، عن شعيب بن الحبحاب (18) عن أنس: أن أصحاب رسول الله (19)
صلى الله عليه وسلم تدارؤوا (20) في الشجرة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار،
فقال بعضهم: نحسبه الكمأة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن
وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم" (21) .
__________
(1) المسند (3/48).
(2) في جـ، ط: "وقال".
(3) لم أقع عليه في المطبوع من سنن النسائي الكبرى.
(4) سنن ابن ماجة برقم (3453) ولم أقع عليه في سنن النسائي الكبرى المطبوعة.
(5) في جـ: "وقد روياه".
(6) في جـ، و: "النسائي من حديث جرير".
(7) في جـ: "مسلمة".
(8) زيادة من جـ، و.
(9) سنن النسائي الكبرى برقم (6676، 6677) وسنن ابن ماجة برقم (3453) لكن
وقع في سنن النسائي عن جرير عن الأعمش والله أعلم.
(10) في جـ: "صوان".
(11) في جـ: "زريق".
(12) في جـ: "الحسين".
(13) لم أقع عليه في المطبوع من سنن النسائي الكبرى.
(14) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(15) في جـ: "سفيان".
(16) زيادة من جـ، ط، أ.
(17) سنن النسائي الكبرى برقم (6678).
(18) في جـ: "ابن الحجاب"، وفي أ: "ابن الحجاج".
(19) في جـ: "أصحاب النبي".
(20) ف جـ: "تذاكروا".
(21) ورواه ابن عدي في الكامل (2/370) من طريق حسان بن سياه عن ثابت عن أنس
بنحوه.
(1/270)
وهذا الحديث محفوظ أصله من رواية حماد بن سلمة. وقد روى الترمذي
والنسائي من طريقه شيئاً من هذا، والله أعلم (1) (2) .
[وقد] (3) روي عن شهر، عن ابن عباس، كما رواه النسائي
-أيضًا-في الوليمة، عن أبي بكر أحمد بن علي بن سعيد، عن عبد الله بن عون الخَرّاز،
عن أبي عبيدة الحداد، عن عبد الجليل بن عطية، عن شهر، عن عبد الله بن عباس، عن
النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" (4) .
فقد اختلف -كما ترى فيه-على شهر بن حوشب، ويحتمل عندي أنه حفظه ورواه من
هذه الطرق كلها، وقد سمعه من بعض الصحابة وبلغه عن بعضهم، فإن الأسانيد إليه جيدة،
وهو لا يتعمد الكذب، وأصل الحديث محفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تقدم
من رواية سعيد بن زيد.
وأما السلوى فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: السلوى طائر شبيه
بالسُّمَّانى، كانوا يأكلون منه.
وقال السدي في خَبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن
مُرّة، عن ابن مسعود، وعن ناس (5) من الصحابة: السلوى: طائر يشبه السُّمَّانَى.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا عبد الصمد بن
عبد الوارث، حدثنا قرّة بن خالد، عن جهضم، عن ابن عباس، قال: السلوى: هو السمَّانى.
وكذا قال مجاهد، والشعبي، والضحاك، والحسن، وعكرمة، والربيع بن أنس،
رحمهم الله.
وعن عكرمة: أما السلوى فطير (6) كطير يكون بالجنة (7) أكبر من العصفور،
أو نحو ذلك.
وقال قتادة: السلوى من طير إلى الحمرة، تحشُرها عليهم الريحُ الجنَوبُ.
وكان الرجل يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده، حتى إذا
كان يوم سادسه ليوم جمعته (8) أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه؛ لأنه كان يوم
عبادة لا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه.
وقال وهب بن منبه: السلوى: طير سمين مثل الحمام، كان يأتيهم فيأخذون
منه من سبت إلى سبت. وفي رواية عن وهب، قال: سألَتْ بنو إسرائيل موسى عليه السلام،
اللحم، فقال الله: لأطعمنهم من أقل لحم يعلم في الأرض، فأرسل عليهم ريحًا، فأذرت
عند مساكنهم السلوى، وهو السمانى (9) مثل ميل في ميل قيدَ رمح إلى (10) السماء فخبَّؤوا
للغد فنتن اللحم وخنز الخبز.
__________
(1) في جـ: "والله تبارك أعلم".
(2) سنن الترمذي برقم (3119) وسنن النسائي الكبرى برقم (11262).
(3) زيادة من ط.
(4) سنن النسائي الكبرى برقم (6669).
(5) في جـ، ط: "وعن أناس".
(6) في جـ: "فيطير".
(7) في و: "في الجنة".
(8) في جـ: "جمعة".
(9) في جـ: "السمان".
(10) في جـ: "في".
(1/271)
وقال السدي: لما دخل بنو إسرائيل التيه، قالوا لموسى، عليه السلام: كيف
لنا بما هاهنا؟ أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم الَمنّ فكان يسقط على الشجر (1) الزنجبيل،
والسلوى وهو طائر يشبه السمانى أكبر منه، فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير، فإن
كان سمينا ذبحه وإلا أرسله، فإذا سمن أتاه، فقالوا: هذا الطعام فأين الشراب؟
فَأُمِر موسى فضرب بعصاه الحجر، فانفجرت (2) منه اثنتا عشرة عينًا، فشرب كل سبط من
عين، فقالوا: هذا الشراب، فأين الظل؟ فَظَلَّل عليهم الغمام. فقالوا: هذا الظل،
فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم (3) تطول معهم كما يطول الصبيان، ولا يَنْخرق لهم ثوب،
فذلك قوله تعالى: { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزلْنَا عَلَيْكُمُ
الْمَنَّ وَالسَّلْوَى } وقوله { وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ
فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ
عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ } [البقرة:60].
وروي عن وهب بن منبه، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ما قاله السدي.
وقال سُنَيْد، عن حجاج، عن ابن جُرَيْج، قال: قال ابن عباس: خُلق لهم في
التيه ثياب لا تخرق (4) ولا تدرن، قال ابن جريج: فكان الرجل إذا أخذ من المن والسلوى
فوق طعام يوم فسد، إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت فلا يصبح
فاسدًا.
[قال ابن عطية: السلوى: طير بإجماع المفسرين، وقد غلط الهذلي في قوله:
إنه العسل، وأنشد في ذلك مستشهدًا:
وقاسمها بالله جهدًا لأنتم ... ألذ من السلوى إذا ما أشورها ...
قال: فظن أن السلوى عسلا (5) قال القرطبي: دعوى
الإجماع لا تصح؛ لأن المؤرخ أحد علماء اللغة والتفسير قال: إنه العسل، واستدل ببيت
الهذلي هذا، وذكر أنه كذلك في لغة كنانة؛ لأنه يسلى به ومنه عين سلوان، وقال
الجوهري: السلوى العسل، واستشهد ببيت الهذلي -أيضا-، والسلوانة بالضم خرزة، كانوا
يقولون إذا صب عليها ماء المطر فشربها العاشق سلا قال الشاعر:
شربت على سلوانة ماء مزنة ... فلا وجديد العيش يا مي ما أسلو ...
واسم ذلك الماء السلوان، وقال بعضهم: السلوان دواء يشفي الحزين فيسلو
والأطباء يسمونه(مُفَرِّح)، قالوا: والسلوى جمع بلفظ -الواحد-أيضًا، كما يقال:
سمانى للمفرد والجمع ودِفْلَى كذلك، وقال الخليل واحده سلواة، وأنشد:
وإني لتعروني لذكراك هزة ... كما انتفض السلواة من بلل القطر ...
__________
(1) في جـ: "على شجر".
(2) في جـ، ب: "فانفجر".
(3) في جـ: "لباسهم".
(4) في جـ: "لا تخلق".
(5) المحرر الوجيز لابن عطية (1/229).
(1/272)
وقال الكسائي: السلوى واحدة وجمعه سلاوي، نقله كله القرطبي (1) ] (2) .
وقوله تعالى: { كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } أمر إباحة
وإرشاد وامتنان. وقوله: { وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
} [البقرة:57] ، أي أمرناهم بالأكل مما رزقناهم وأن يعبدوا، كما قال: { كُلُوا
مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ } [سبأ:15] فخالفوا وكفروا
فظلموا أنفسهم، هذا مع ما شاهدوه من الآيات البينات والمعجزات القاطعات، وخوارق
العادات، ومن هاهنا تتبين فضيلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (3) ورضي عنهم، على
سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم وثباتهم وعدم تعنتهم، كما كانوا معه في أسفاره
وغزواته، منها عام تبوك، في ذلك القيظ والحر الشديد والجهد، لم يسألوا خرق عادة،
ولا إيجاد أمر، مع أن ذلك كان سهلا على الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن لما
أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم، فجاء قدر مَبْرك الشاة، فدعا
[الله] (4) فيه، وأمرهم فملؤوا كل وعاء معهم، وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله
تعالى، فجاءت سحابة فأمطرتهم، فشربوا وسقوا الإبل وملؤوا أسقيتهم. ثم نظروا فإذا هي
لم تجاوز العسكر. فهذا هو الأكمل في الاتباع: المشي مع قدر الله، مع متابعة الرسول
صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) تفسير القرطبي (1/408).
(2) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(3) في ط: "صلوات الله وسلامه عليه.
(4) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ
شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ
لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ
اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ
فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ
مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي
الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى
طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ
مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ
أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا
فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ
وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ
اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا
يَعْتَدُونَ (61)
البقرة - تفسير ابن كثير
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ
شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ
لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
{ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ
شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ
لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنزيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا
مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) }
يقول تعالى لائمًا لهم على نكولهم عن الجهاد ودخول (1) الأرض المقدسة،
لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى، عليه السلام، فأمروا بدخول الأرض المقدسة التي
هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل، وقتال من فيها من العماليق الكفرة، فنكلوا عن
قتالهم وضعفوا واستحسروا، فرماهم الله في التيه عقوبة لهم، كما ذكره تعالى في سورة
المائدة؛ ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس، كما نص على ذلك
السدي، والرّبيع بن أنس، وقتادة، [وأبو مسلم
الأصفهاني وغير واحد وقد قال الله تعالى: { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ
الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } الآيات] (2) .[المائدة: 21-24]
وقال آخرون: هي أريحا [ويحكى عن ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد] (3) وهذا
بعيد؛ لأنها ليست على طريقهم، وهو قاصدون بيت المقدس لا أريحا [وأبعد من ذلك قول
من ذهب أنها مصر، حكاه فخر الدين في تفسيره، والصحيح هو الأول؛ لأنها بيت المقدس]
(4) . وهذا كان لما خرجوا من
__________
(1) في ب: "عن دخولهم".
(2) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(3) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(4) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(1/273)
التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون، عليه السلام، وفتحها الله عليهم
عشية جمعة، وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلا حتى أمكن الفتح، وأما أريحا فقرية ليست
مقصودة لبني إسرائيل، ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب -باب البلد-{ سُجَّدًا } أي:
شكرًا لله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر، وردّ بلدهم (1) إليهم
وإنقاذهم من التيه والضلال.
قال العوفي في تفسيره، عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله: { وَادْخُلُوا
الْبَابَ سُجَّدًا } أي ركعا.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا
سفيان، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: { وَادْخُلُوا
الْبَابَ سُجَّدًا } قال: ركعا (2) من باب صغير.
رواه الحاكم من حديث سفيان، به. ورواه ابن أبي حاتم من حديث سفيان، وهو
الثوري، به (3) . وزاد: فدخلوا من قبل أستاههم.
[وقال الحسن البصري: أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم، واستبعده
الرازي، وحكى عن بعضهم: أن المراد بالسجود هاهنا الخضوع لتعذر حمله على حقيقته] (4) .
وقال خصيف: قال عكرمة، قال ابن عباس: كان الباب قبل القبلة.
وقال [ابن عباس و] (5) مجاهد، والسدي، وقتادة، والضحاك:
هو باب الحطة من باب إيلياء ببيت المقدس، [وحكى الرازي عن بعضهم أنه عن باب جهة من
جهات القرية] (6) .
وقال خَصِيف: قال عكرمة: قال ابن عباس: فدخلوا على شق، وقال السدي، عن
أبي سعيد الأزدي، عن أبي الكنُود، عن عبد الله بن مسعود: وقيل لهم ادخلوا الباب
سجدا، فدخلوا مقنعي رؤوسهم، أي: رافعي رؤوسهم خلاف ما أمروا.
وقوله: { وَقُولُوا حِطَّةٌ } قال الثوري عن الأعمش، عن المنهال، عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { وَقُولُوا حِطَّةٌ } قال: مغفرة، استغفروا.
وروي عن عطاء، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، نحوه.
وقال الضحاك عن ابن عباس: { وَقُولُوا حِطَّةٌ } قال: قولوا: هذا الأمر
حق، كما قيل لكم.
وقال عكرمة: قولوا: لا إله إلا الله.
وقال الأوزاعي: كتب ابن عباس إلى رجل قد سماه يسأله عن قوله تعالى: {
وَقُولُوا حِطَّةٌ }
__________
(1) في جـ: "بلادهم".
(2) في جـ: "أي ركعا".
(3) تفسير الطبري (2/113) والمستدرك (2/262) وتفسير ابن أبي حاتم (1/182).
(4) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(5) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(6) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(1/274)
فكتب إليه: أن أقروا بالذنب.
وقال الحسن وقتادة: أي احطط عنا خطايانا.
{ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنزيدُ الْمُحْسِنِينَ } هذا جواب
الأمر، أي: إذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكم الخطيئات وضعفنا لكم الحسنات.
وحاصل الأمر: أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول،
وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها، والشكر على النعمة عندها والمبادرة إلى ذلك
من المحبوب لله تعالى، كما قال تعالى: { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } [سورة النصر] فسره
بعض الصحابة بكثرة الذكر والاستغفار عند الفتح والنصر، وفسره ابن عباس بأنه نُعي
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله فيها، وأقره على ذلك عمر [بن الخطاب] (1)
رضي الله عنه. ولا منافاة بين أن يكون قد أمر بذلك عند ذلك، ونعي إليه روحه
الكريمة أيضًا؛ ولهذا كان عليه السلام يظهر عليه الخضوع جدًا عند النصر، كما روي
أنه كان يوم الفتح -فتح مكة-داخلا إليها من الثنية العليا، وإنَّه
الخاضع لربه حتى إن عُثْنونه ليمس مَوْرِك رحله، يشكر الله على ذلك. ثم لما دخل
البلد اغتسل وصلى ثماني ركعات وذلك ضُحى، فقال بعضهم: هذه صلاة الضحى، وقال آخرون:
بل هي صلاة الفتح، فاستحبوا للإمام وللأمير إذا فتح بلدًا أن يصلي فيه ثماني ركعات
عند أول دخوله، كما فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما دخل إيوان كسرى صلى فيه
ثماني ركعات، والصحيح أنه يفصل بين كل ركعتين بتسليم؛ وقيل: يصليها كلها
بتسليم واحد، والله أعلم.
وقوله تعالى: { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي
قِيلَ لَهُمْ } قال البخاري: حدثني محمد، حدثنا (2) عبد الرحمن بن مَهْدي، عن
ابن المبارك، عن مَعْمَر، عن هَمَّام بن مُنَبّه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قيل لبني إسرائيل: { ادْخُلُوا الْبَابَ
سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ } فدخلوا يزحفون على أستاههم، فبدّلوا وقالوا: حطة:
حبة في شعرة" (3) .
ورواه النسائي، عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، عن (4) عبد الرحمن بن
مهدي به موقوفا (5) وعن محمد بن عبيد بن محمد، عن ابن المبارك ببعضه مسندًا، في
قوله تعالى: { حِطَّةٌ } قال: فبدلوا. فقالوا: حبة (6) (7) .
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) في جـ: "حدثني محمد بن".
(3) صحيح البخاري برقم (4479).
(4) في جـ، ط: "بن".
(5) سنن النسائي الكبرى برقم (10989).
(6) في جـ: "فقال حنطة".
(7) سنن النسائي الكبرى برقم (10990).
(1/275)
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، عن هَمَّام بن مُنَبه أنه سمع أبا هريرة
يقول:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله لبني إسرائيل: {
وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } فبدلوا، ودخلوا
الباب يزحفون على أستاههم، فقالوا: حبة في شعرة (1) ".
وهذا حديث صحيح، رواه البخاري عن إسحاق بن نصر، ومسلم عن محمد بن رافع. والترمذي عن عبد
بن حميد، كلهم عن عبد الرزاق، به (2) . وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال محمد بن إسحاق: كان تبديلهم (3) كما حدثني صالح بن كيسان، عن صالح
مولى التوأمة، عن أبي هريرة، وعمن لا أتهم، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "دخلوا الباب -الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجدًا-يزحفون على
أستاههم، وهم يقولون: حنطة في شعيرة" (4) .
وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، وحدثنا سليمان بن داود، حدثنا عبد
الله بن وهب، حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد
الخدري، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قال الله لبني إسرائيل: { ادْخُلُوا
الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } ثم قال أبو
داود: حدثنا جعفر بن مسافر، حدثنا ابن أبي فديك، عن هشام بن سعد، مثله (5) (6) .
هكذا رواه منفردًا به في كتاب الحروف مختصرًا.
وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا إبراهيم بن مهدي، حدثنا
أحمد بن محمد بن المنذر القَزّاز، حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن (7) هشام بن سعد، عن
زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، قال: سرنا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من آخر الليل، أجَزْنا في ثنية (8) يقال لها:
ذات الحنظل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما مثل هذه الثنية الليلة
إلا كمثل الباب الذي قال الله لبني إسرائيل: { ادْخُلُوا
الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } (9) .
وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن البراء: { سَيَقُولُ
السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ } [البقرة: 142] قال اليهود: قيل لهم: ادخلوا الباب
سجدًا، قال: ركعًا، وقولوا: حطة: أي مغفرة، فدخلوا على
__________
(1) في جـ، ط: "شعيرة".
(2) صحيح البخاري برقم (4641) وصحيح مسلم برقم (3015) وسنن الترمذي برقم
(2956).
(3) في جـ، ط: "يتذيلهم".
(4) ورواه الطبراني في تفسيره (2/112) عن محمد بن إسحاق، عن صالح بن كيسان،
عن أبي هريرة، عن محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس.
(5) في جـ: "بمثله".
(6) سنن أبي داود برقم (4006).
(7) في جـ: "حدثنا".
(8) في جـ: "ضربة".
(9) ورواه البزار في مسنده برقم (1812) عن إسحاق بن بهلول، عن محمد بن
إسماعيل بن أبي فديك به نحوه، وقال الهيثمي في المجمع (6/144): "رجاله ثقات".
(1/276)
أستاههم، وجعلوا يقولون: حنطة حمراء فيها شعيرة (1) ، فذلك قول الله
تعالى: { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ
الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } .
وقال الثوري، عن السدي، عن أبي سعد الأزدي، عن أبي الكَنود، عن ابن
مسعود: { وَقُولُوا حِطَّةٌ } فقالوا: حنطة حبة حمراء فيها
شعيرة (2) ، فأنزل الله: { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ
الَّذِي قِيلَ لَهُمْ }
وقال أسباط، عن السدي، عن مرة، عن ابن مسعود أنه قال: إنهم قالوا:
"هُطِّي سمعاتا أزبة مزبا" فهي بالعربية: حبة حنطة حمراء مثقوبة (3)
فيها شعرة سوداء، فذلك قوله: { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ
الَّذِي قِيلَ لَهُمْ }
وقال الثوري، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد، عن ابن عباس في قوله: {
ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا } ركعًا من باب صغير، فدخلوا (4) من قبل أستاههم،
وقالوا: حنطة، فهو قوله تعالى: { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ
الَّذِي قِيلَ لَهُمْ }
وهكذا روي عن عطاء، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، والحسن، وقتادة، والربيع
بن أنس، ويحيى بن رافع.
وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق أنهم بدلوا أمر (5) الله لهم
من الخضوع بالقول والفعل، فأمروا أن يدخلوا سجدًا، فدخلوا يزحفون على أستاههم من
قبل أستاههم رافعي رؤوسهم، وأمروا أن يقولوا: حطة، أي: احطط عنا ذنوبنا، فاستهزؤوا
فقالوا: حنطة في شعرة (6) . وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة؛ ولهذا
أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم، وهو خروجهم عن طاعته؛ ولهذا قال: { فَأَنزلْنَا
عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }
وقال الضحاك عن ابن عباس: كل شيء في كتاب الله من "الرِّجْز"
يعني به العذاب.
وهكذا روي عن مجاهد، وأبي مالك، والسدي، والحسن، وقتادة، أنه العذاب.
وقال أبو العالية: الرجز الغضب. وقال الشعبي: الرجز: إما الطاعون، وإما البرد.
وقال سعيد بن جبير: هو الطاعون.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا وَكِيع، عن (7) سفيان،
عن حبيب بن أبي ثابت، عن إبراهيم بن سعد -يعني ابن أبي وقاص-عن سعد بن مالك،
وأسامة بن زيد، وخزيمة بن ثابت، رضي الله عنهم، قالوا: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "الطاعون رجْز عذاب عُذِّب (8) به من كان
__________
(1) في جـ: "شعرة".
(2) في جـ: "شعرة".
(3) في جـ: "منقوشة".
(4) في جـ: "يدخلون".
(5) في جـ: "بدلوا ما أمر".
(6) في جـ، أ: "شعيرة".
(7) في جـ: "حدثنا".
(8) في أ: "عذب الله".
(1/277)
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ
الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ
أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي
الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
قبلكم" (1) .
وهكذا رواه النسائي من حديث سفيان الثوري به (2) . وأصل الحديث في
الصحيحين من حديث حبيب بن أبي ثابت: "إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا
تدخلوها" الحديث (3) .
قال (4) ابن جرير: أخبرني يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن يونس، عن
الزهري، قال: أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أسامة بن زيد
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن هذا الوجع والسقم رجْز عُذِّب به
بعض الأمم قبلكم" (5) . وهذا الحديث أصله مخرَّج في الصحيحين، من حديث
الزهري، ومن حديث مالك، عن محمد بن المُنكَدِر، وسالم أبي النضر، عن عامر بن سعد،
بنحوه (6) .
{ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ
فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ
مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ
مُفْسِدِينَ (60) }
يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إجابتي لنبيكم موسى، عليه السلام،
حين استسقاني لكم، وتيسيري لكم الماء، وإخراجه لكم من حَجَر يُحمل معكم، وتفجيري
الماء لكم منه من ثنتي عشرة عينًا لكل سبط من أسباطكم عين قد عرفوها، فكلوا من
المن والسلوى، واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم بلا سعي منكم ولا كد، واعبدوا
الذي سخر لكم ذلك. { وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ } ولا تقابلوا النعم
بالعصيان فتسلبوها. وقد بسطه المفسرون في كلامهم، كما قال ابن عباس: وجُعِل بين
ظهرانيهم حجر مربَّع وأمر موسى، عليه السلام، فضربه بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة
عينًا، في كل ناحية منه ثلاث (7) عيون، وأعلم كل سبط عينهم، يشربون منها لا
يرتحلون من مَنْقَلَة إلا وجدوا ذلك معهم (8) بالمكان الذي كان
منهم بالمنزل الأول.
وهذا قطعة من الحديث الذي رواه النسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وهو
حديث الفتون الطويل (9) .
وقال عطية العوفي: وجُعل لهم حجر مثل رأس الثور يحمل على ثور، فإذا
نزلوا منزلا وضعوه فضربه موسى بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، فإذا ساروا
حملوه على ثور، فاستمسك الماء.
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (1/186).
(2) سنن النسائي الكبرى برقم (7523).
(3) صحيح البخاري برقم (5728) وصحيح مسلم برقم (2218).
(4) في جـ: "وقال".
(5) تفسير الطبري (2/116).
(6) صحيح البخاري برقم (3473، 6974) وصحيح مسلم برقم (2218).
(7) في جـ: "ثلاثة".
(8) في جـ: "ذلك منهم".
(9) سيأتي بطوله في تفسير سورة طه.
(1/278)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ
فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا
وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى
بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ
اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ
النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
وقال عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه: كان لبني إسرائيل حجر، فكان
يضعه هارون ويضربه موسى بالعصا.
وقال قتادة: كان حجرًا طوريًا، من الطور، يحملونه معهم حتى إذا نزلوا
ضربه موسى بعصاه.
[وقال الزمخشري: وقيل: كان من رخام وكان ذراعًا في ذراع، وقيل: مثل رأس
الإنسان، وقيل: كان من أسس الجنة طوله عشرة أذرع على طول موسى. وله شعبتان تتقدان في
الظلمة وكان يحمل على حمار، قال: وقيل: أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه، حتى وقع إلى
شعيب فدفعه إليه مع العصا، وقيل: هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل، فقال له
جبريل: ارفع هذا الحجر فإن فيه قدرة ولك فيه معجزة، فحمله في مخلاته. قال
الزمخشري: ويحتمل أن تكون اللام للجنس لا للعهد، أي اضرب الشيء الذي يقال له
الحجر، وعن الحسن لم يأمره أن يضرب حجرًا بعينه، قال: وهذا أظهر في المعجزة وأبين
في القدرة فكان يضرب الحجر بعصاه فينفجر ثم يضربه فييبس، فقالوا: إن فقد موسى هذا
الحجر عطشنا، فأوحى الله إليه أن يكلم الحجارة فتنفجر ولا يمسها بالعصا لعلهم
يقرون] (1) .
وقال يحيى بن النضر: قلت لجويبر: كيف علم كل أناس مشربهم؟ قال: كان موسى
يضع الحجر، ويقوم من كل سبط رجل، ويضرب موسى الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عينًا
فينضح من كل عين على رجل، فيدعو ذلك الرجل سبطه إلى تلك العين.
وقال الضحاك: قال ابن عباس: لما كان بنو إسرائيل في التيه شق لهم من
الحجر أنهارًا.
وقال سفيان الثوري، عن أبي سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ذلك في
التيه، ضرب لهم موسى الحجر فصار فيه (2) اثنتا عشرة عينًا من ماء، لكل سِبْط منهم عين
يشربون منها.
وقال مجاهد نحو قول ابن عباس.
وهذه القصة شبيهة بالقصة المذكورة في سورة الأعراف، ولكن تلك مكية،
فلذلك كان الإخبار عنهم بضمير الغائب؛ لأن الله تعالى يقص ذلك (3) على رسوله صلى
الله عليه وسلم عما فعل بهم. وأما في هذه السورة، وهي البقرة فهي (4) مدنية؛ فلهذا
كان الخطاب فيها متوجهًا إليهم. وأخبر هناك بقوله: { فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا
عَشْرَةَ عَيْنًا } [الأعراف: 160] وهو أول الانفجار، وأخبر هاهنا بما آل إليه
الأمر (5) آخرًا وهو الانفجار فناسب ذكر الانفجار (6) هاهنا، وذاك هناك، والله
أعلم.
وبين السياقين تباين من عشرة أوجه لفظية ومعنوية قد سأل عنها الرازي في
تفسيره وأجاب عنها بما عنده، والأمر في ذلك قريب والله تبارك وتعالى أعلم بأسرار
كتابه.
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ
فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ بَقْلِهَا
وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ
الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا
سَأَلْتُمْ }
__________
(1) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(2) في جـ: "منه".
(3) في جـ: "نص هنالك".
(4) في و: "فإنها".
(5) في جـ، و: "الحال".
(6) في جـ: "ذكر هذا".
(1/279)
يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى، طعامًا
طيبًا نافعًا هنيئًا سهلا واذكروا دَبَرَكم وضجركم مما رزَقتكم (1) وسؤالكم موسى استبدال
ذلك بالأطعمة الدنيّة من البقول ونحوها مما سألتم. وقال الحسن البصري رحمه الله:
فبطروا ذلك ولم يصبروا عليه، وذكروا عيشهم (2) الذي كانوا فيه، وكانوا قومًا أهل
أعداس وبصل وبقل وفوم، فقالوا: { يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ
فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ بَقْلِهَا
وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا } [وهم يأكلون المن والسلوى،
لأنه لا يتبدل ولا يتغير كل يوم فهو كأكل واحد] (3) . فالبقول والقثاء والعدس
والبصل كلها معروفة. وأما "الفوم" فقد اختلف السلف في معناه فوقع في
قراءة ابن مسعود "وثومها" بالثاء، وكذلك فسره مجاهد في رواية
ليث بن أبي سليم، عنه، بالثوم. وكذا الربيع بن أنس، وسعيد بن جبير.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن رافع، حدثنا أبو عمارة
يعقوب بن إسحاق البصري، عن يونس، عن الحسن، في قوله: { وَفُومِهَا } قال: قال ابن
عباس: الثوم.
قالوا: وفي اللغة القديمة: فَوِّمُوا لنا بمعنى: اختبزوا. وقال ابن
جرير: فإن كان ذلك صحيحًا، فإنه من الحروف المبدلة كقولهم: وقعوا في "عاثُور
شَرّ، وعافور شر، وأثافي وأثاثي، ومغافير ومغاثير". وأشباه (4) ذلك مما تقلب
الفاء ثاء والثاء فاء لتقارب مخرجيهما، والله أعلم.
وقال آخرون: الفوم الحنطة، وهو البر الذي يعمل منه الخبز.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أنبأنا ابن وهب
قراءة، حدثني نافع بن أبي نعيم: أن ابن عباس سئِل عن قول الله: { وَفُومِهَا } ما فومها؟
قال: الحنطة. قال ابن عباس: أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح وهو يقول:
قد كنتُ أغنى الناس شخصًا واحدًا ... وَرَدَ المدينة عن زرَاعة فُوم (5)
وقال ابن جرير: حدثنا علي بن الحسن، حدثنا مسلم الجرمي، حدثنا عيسى بن
يونس، عن رشدين بن كُرَيْب، عن أبيه، عن ابن عباس، في قول الله تعالى: {
وَفُومِهَا } قال: الفوم الحنطة بلسان بني هاشم.
__________
(1) في جـ: "مما رزقناكم".
(2) في جـ: "شيمهم".
(3) زيادة من جـ.
(4) في و: "وما أشبه".
(5) البيت في تفسير الطبري (2/129).
(1/280)
وكذا قال علي بن أبي طلحة، والضحاك (1) وعكرمة عن ابن عباس أن الفوم:
الحنطة.
وقال سفيان الثوري، عن ابن جُرَيْج، عن مجاهد وعطاء: { وَفُومِهَا }
قالا وخبزها.
وقال هُشَيْم عن يونس، عن الحسن، وحصين، عن أبي مالك: { وَفُومِهَا }
قال: الحنطة.
وهو قول عكرمة، والسدي، والحسن البصري، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن
أسلم، وغيرهم، والله أعلم (2) .
[وقال الجوهري: الفوم: الحنطة. وقال ابن دريد: الفوم: السنبلة، وحكى
القرطبي عن عطاء وقتادة أن الفوم كل حب يختبز. قال: وقال بعضهم: هو الحمص لغة
شامية، ومنه يقال لبائعه: فامي مغير عن فومي] (3) .
وقال البخاري: وقال بعضهم: الحبوب التي تؤكل كلها فوم.
وقوله تعالى: { قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي
هُوَ خَيْرٌ } فيه تقريع لهم وتوبيخ (4) على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنيّة مع ما
هم فيه من العيش الرغيد، والطعام الهنيء الطيب النافع.
وقوله: { اهْبِطُوا مِصْرًا } هكذا هو منون مصروف مكتوب بالألف في
المصاحف الأئمة العثمانية، وهو قراءة الجمهور بالصرف.
قال ابن جرير: ولا أستجيز (5) القراءة بغير ذلك؛ لإجماع المصاحف على ذلك.
وقال ابن عباس: { اهْبِطُوا مِصْرًا } قال: مصرًا من الأمصار، رواه ابن
أبي حاتم، من حديث أبي سعيد (6) البقال سعيد بن المرزبان، عن عكرمة، عنه.
قال: وروي عن السدي، وقتادة، والربيع بن أنس نحو ذلك.
وقال ابن جرير: وقع في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود: "اهبطوا
مصر" من غير إجراء يعني من غير صرف. ثم روى عن أبي العالية، والربيع بن أنس
أنهما فسرا ذلك بمصر فرعون.
وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية، وعن الأعمش أيضًا.
وقال ابن جرير: ويحتمل أن يكون المراد مصر فرعون على قراءة الإجراء
أيضًا. ويكون ذلك من باب الاتباع لكتابة المصحف، كما في
قوله تعالى: { قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَا } [الإنسان: 15، 16] . ثم توقف في
المراد ما هو؟ أمصر فرعون أم مصر من الأمصار؟
وهذا الذي قاله فيه نظر، والحق أن المراد مصر من الأمصار كما روي عن ابن
عباس وغيره،
__________
(1) في ط: "عن الضحاك".
(2) في جـ، ط، أ، و: "فالله أعلم".
(3) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(4) في جـ: "وتوبيخ لهم".
(5) في أ: "ولا أستحسن".
(6) في جـ: "أبي سعد".
(1/281)
والمعنى على ذلك لأن موسى، عليه السلام يقول لهم: هذا الذي سألتم ليس
بأمر عزيز، بل هو كثير في أي بلد دخلتموه وجدتموه، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في
الأمصار أن أسأل الله فيه؛ ولهذا قال: { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى
بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ } أي: ما
طلبتم، ولما كان سؤالهم (1) هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه، لم يجابوا
إليه، والله أعلم
{ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ
مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ
النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) }
يقول تعالى: { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ } أي:
وضعت عليهم وألزموا بها شَرْعًا وقدرًا، أي: لا يزالون مستذلين، من وجدهم استذلهم
وأهانهم، وضرب عليهم الصغار، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء متمسكنون (2) .
قال الضحاك عن ابن عباس في قوله: { وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ } قال: هم أصحاب النيالات (3) يعني أصحاب
الجزية.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن الحسن وقتادة، في قوله تعالى: { وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ } قال: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون (4) ، وقال الضحاك: { وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } قال: الذل. وقال الحسن: أذلهم الله فلا منعة لهم،
وجعلهم الله تحت أقدام المسلمين. ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم
الجزية.
وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي: المسكنة الفاقة. وقال عطية
العوفي: الخراج. وقال الضحاك: الجزية.
وقوله تعالى: { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } قال الضحاك: استحقوا
الغضب من الله، وقال الربيع بن أنس: فحدَثَ عليهم غضب من الله. وقال سعيد بن جبير: { وَبَاءُوا
بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } يقول: استوجبوا سخطًا، وقال ابن جرير: يعني بقوله: {
وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } انصرفوا ورجعوا، ولا يقال: باؤوا إلا موصولا
إما بخير وإما بشر، يقال منه: باء فلان بذنبه يبوء به بَوْءًا وبواء. ومنه قوله
تعالى: { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } [المائدة: 29] يعني:
تنصرف متحملهما وترجع بهما، قد صارا عليك دوني. فمعنى الكلام إذًا: فرجعوا منصرفين
متحملين غضب الله، قد صار عليهم من الله غضب، ووجب عليهم من الله سخط.
وقوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } يقول تعالى:
__________
(1) في جـ، ط: "كان سألهم".
(2) في جـ: "مستذلين"، وفي ط، أ، و: "مستكينين".
(3) في جـ، طـ، و: "القبالات"، وفي أ: "السالات".
(4) تفسير عبد الرزاق (1/ 69).
(1/282)
هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة، وإحلال الغضب بهم (1) بسبب
استكبارهم عن اتباع الحق، وكفرهم بآيات الله، وإهانتهم حملة الشرع وهم الأنبياء وأتباعهم،
فانتقصوهم إلى (2) أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم، فلا كبْر أعظم من هذا، أنهم
كفروا بآيات الله وقتلوا أنبياء الله بغير الحق؛ ولهذا جاء في الحديث المتفق على
صحته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الكبر بَطَر
الحق، وغَمْط الناس" (3) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، عن ابن عون، عن عمرو بن سعيد، عن حميد
بن عبد الرحمن، قال: قال ابن مسعود: كنت لا أحجب عن النَّجْوى، ولا عن كذا ولا عن
كذا قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي،
فأدركته (4) من آخر حديثه، وهو يقول: يا رسول الله، قد قسم لي من الجمال ما ترى،
فما أحب أن أحدًا من الناس فَضَلني بشراكين فما فوقهما أفليس ذلك هو البغي؟ فقال: "لا ليس ذلك من
البغي، ولكن البغي مَنْ بطر -أو قال: سفه الحق-وغَمط الناس". يعني: رد الحق
وانتقاص الناس، والازدراء بهم والتعاظم عليهم. ولهذا لما ارتكب بنو إسرائيل ما
ارتكبوه من الكفر بآيات الله وقتل أنبيائهم، أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد،
وكساهم ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة جزاء وفاقًا (5) .
قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي
معمر، عن عبد الله بن مسعود، قال: كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي،
ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبان، حدثنا عاصم، عن أبي
وائل، عن عبد الله -يعني ابن مسعود-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل قتله نبي، أو قتل نبيًا، وإمام ضلالة
وممثل من الممثلين" (6) .
وقوله تعالى: { ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } وهذه علة
أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به، أنهم كانوا يعصون ويعتدون، فالعصيان فعل المناهي،
والاعتداء المجاوزة في حد المأذون فيه أو المأمور به. والله أعلم.
__________
(1) في جـ: "عليهم".
(2) في جـ، ط، أ، و: "حتى".
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (91) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(4) في جـ، ط: "قال فأدركت".
(5) المسند (1/385).
(6) المسند (1/407).
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى
وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
(62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا
آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ
تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ
اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ
(65)
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ
أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ
أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ
لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ
لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ
إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)
البقرة - تفسير ابن كثير
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى
وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
(62)
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى
وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ (62) }
لما بين [الله] (1) تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره، وتعدى في
فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم، وما أحلّ بهم من النكال، نبه تعالى على أن مَنْ
أحسن من الأمم السالفة وأطاع، فإن له جزاء الحسنى، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة؛
كُلّ من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية، ولا خوف عليهم فيما
يستقبلونه، ولا هُمْ يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه، كما قال تعالى: { أَلا إِنَّ
أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [يونس: 62] وكما تقول
الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا
اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا
وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } [فصلت:
30]
.
قال (2) ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا
ابن أبي عمر العَدني، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، قال: قال سلمان:
سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم، فذكرتُ من صلاتهم وعبادتهم،
فنزلت: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى
وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } إلى آخر الآية.
وقال السدي: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ
صَالِحًا } الآية: نزلت في أصحاب سلمان الفارسي، بينا هو يحدث النبي صلى الله عليه
وسلم إذْ ذكر أصحابه، فأخبره خبرهم، فقال: كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك،
ويشهدون (3) أنك ستبعث نبيًا، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم، قال له نبي الله صلى
الله عليه وسلم: "يا سلمان، هم من أهل النار". فاشتد ذلك على سلمان،
فأنزل الله هذه الآية، فكان إيمان اليهود: أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى، عليه السلام؛
حتى جاء عيسى. فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى، فلم يدعها ولم
يتبع عيسى، كان هالكًا. وإيمان النصارى أن (4) من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى
كان مؤمنًا مقبولا منه حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لم يتبعْ محمدًا صلى
الله عليه وسلم منهم ويَدَعْ (5) ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل -كان هالكا.
وقال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا.
قلت: وهذا لا ينافي ما روى عَليّ بن (6) أبي طلحة، عن
ابن عباس: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى
وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } الآية فأنزل الله بعد
ذلك:
{ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ
فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [آل عمران: 85] .
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في جـ: "وقال".
(3) في جـ: "ويشهدوا".
(4) في أ: "أنه".
(5) في أ: "ولم يدع".
(6) في جـ: "عن ابن".
(1/284)
فإن هذا الذي قاله [ابن عباس] (1) إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة
ولا عملا إلا ما كان موافقًا لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثه [الله] (2) بما بعثه به،
فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة، فاليهود أتباع
موسى، عليه السلام، الذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم.
واليهود من الهوادة وهي المودة أو التهود وهي التوبة؛ كقول موسى، عليه
السلام: { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } [الأعراف: 156] أي: تبنا، فكأنهم
سموا بذلك في الأصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم لبعض.
[وقيل: لنسبتهم إلى يهوذا أكبر أولاد يعقوب عليه السلام،
وقال أبو عمرو بن العلاء: لأنهم يتهودون، أي: يتحركون عند قراءة التوراة] (3) .
فلما بعث عيسى صلى الله عليه وسلم (4) وجب على بني إسرائيل اتباعه
والانقياد له، فأصحابه وأهل دينه هم النصارى، وسموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم، وقد
يقال لهم: أنصار أيضًا، كما قال عيسى، عليه السلام: { مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ
قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ } [آل عمران: 52] وقيل: إنهم إنما
سُمّوا بذلك من أجل أنهم نزلوا أرضًا يقال لها ناصرة، قاله قتادة وابن جُرَيج ،
وروي عن ابن عباس أيضًا، والله أعلم.
والنصارى: جمع نصران (5) كنشاوى جمع نشوان، وسكارى جمع سكران، ويقال
للمرأة: نصرانة، قال الشاعر:
نصرانة لم تَحَنَّفِ (6)
فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتمًا للنبيين، ورسولا إلى
بني آدم على الإطلاق، وجب عليهم تصديقُه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانكفاف
عما عنه زجر. وهؤلاء هم المؤمنون [حقا] (7) . وسميت أمة محمد صلى الله عليه وسلم
مؤمنين لكثرة إيمانهم وشدة إيقانهم، ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب
الآتية. وأما الصابئون فقد اختلف فيهم؛ فقال سفيان الثوري، عن ليث بن أبي سليم، عن
__________
(1) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(4) في جـ: "عليه السلام".
(5) في جـ: "نصراني".
(6) البيت في تفسير الطبري (2/144) وهو لأبي الأخز الحماني، وهذا جزء منه
وهو بتمامه: فكلتاهما خرت وأسجد رأسها ... كما سجدت نصرانة لم تحنف
(7) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(1/285)
مجاهد، قال: الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى، ليس لهم دين.
وكذا رواه ابن أبي نجيح، عنه وروي عن عطاء وسعيد بن جبير نحو ذلك.
وقال أبو العالية والربيع بن أنس، والسدي، وأبو الشعثاء جابر بن زيد،
والضحاك [وإسحاق بن راهويه] (1) الصابئون فرقة من أهل
الكتاب يقرؤون الزبور.
[ولهذا قال أبو حنيفة وإسحاق: لا بأس بذبائحهم ومناكحتهم] (2) .
وقال هشيم عن مطرف: كنا عند الحكم بن عتيبة (3) فحدثه رجل من أهل البصرة
عن الحسن أنه كان يقول في الصابئين: إنهم كالمجوس، فقال الحكم: ألم أخبركم بذلك.
وقال عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن عبد الكريم: سمعت الحسن ذكر
الصابئين، فقال: هم قوم يعبدون الملائكة.
[وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر بن سليمان عن
أبيه، عن الحسن قال: أخبر زياد أن الصابئين يصلون إلى القبلة ويصلون الخمس. قال: فأراد أن يضع
عنهم الجزية. قال: فخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة] (4) .
وقال أبو جعفر الرازي: بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة، ويقرؤون
الزبور، ويصلون إلى القبلة.
وكذا قال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني
ابن أبي الزناد، عن أبيه، قال: الصابئون قوم مما يلي العراق، وهم بكوثى، وهم
يؤمنون بالنبيين كلهم، ويصومون من كل سنة ثلاثين يوما ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس
صلوات.
وسئل وهب بن منبه عن الصابئين، فقال: الذي يعرف الله وحده، وليست له
شريعة يعمل بها ولم يحدث كفرًا.
وقال عبد الله بن وهب: قال عبد الرحمن بن زيد: الصابئون أهل دين من
الأديان، كانوا بجزيرة الموصل يقولون: لا إله إلا الله، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا
نبي إلا قول: لا إله إلا الله، قال: ولم يؤمنوا برسول، فمن أجل ذلك كان المشركون
يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: هؤلاء الصابئون، يشبهونهم بهم، يعني في
قول: لا إله إلا الله.
وقال الخليل (5) هم قوم يشبه دينهم دين النصارى، إلا أن قبلتهم نحو مهب
الجنوب، يزعمون
__________
(1) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(2) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(3) في جـ: "عيينة".
(4) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(5) في أ: "الخدري".
(1/286)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا
مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ
تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)
أنهم على دين نوح، عليه السلام. وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن وابن أبي
نجيح: أنهم قوم تركب دينهم بين اليهود والمجوس، ولا تؤكل ذبائحهم، قال ابن عباس:
ولا تنكح نساؤهم. قال القرطبي: والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكره بعض العلماء أنهم
موحدون ويعتقدون تأثير النجوم، وأنهم فاعلة؛ ولهذا أفتى أبو سعيد الإصطخري بكفرهم
للقادر بالله حين سأله عنهم، واختار فخر الدين الرازي أن الصابئين قوم يعبدون
الكواكب؛ بمعنى أن الله جعلها قبلة للعبادة والدعاء، أو بمعنى أن الله فوض تدبير
أمر هذا العالم إليها، قال: وهذا القول هو المنسوب إلى الكشرانيين الذين جاءهم
إبراهيم الخليل، عليه السلام، رادًا عليهم ومبطلا لقولهم.
وأظهر الأقوال، والله أعلم، قول مجاهد ومتابعيه، ووهب بن منبه: أنهم قوم
ليسوا على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين، وإنما هم قوم باقون
على فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتفونه؛ ولهذا كان المشركون ينبزون من أسلم
بالصابئي، أي: أنه قد خرج عن سائر أديان أهل الأرض إذ ذاك.
وقال بعض العلماء: الصابئون الذين لم تبلغهم دعوة نبي، والله أعلم.
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا
آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ
تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) }
يقول تعالى مذكرًا بني إسرائيل ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق
بالإيمان به وحده لا شريك له واتباع رسله، وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق
رفع الجبل على رؤوسهم ليقروا بما عوهدوا عليه، ويأخذوه (1) بقوة وحزم وهمة وامتثال
(2) كما قال تعالى: { وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ
وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا
مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأعراف : 171]
الطور هو الجبل، كما فسره بآية (3) الأعراف، ونص على ذلك ابن عباس، ومجاهد، وعطاء
وعكرمة والحسن والضحاك والربيع بن أنس، وغير واحد، وهذا ظاهر (4) .
وفي رواية عن ابن عباس: الطور ما أنبت من الجبال، وما لم ينبت فليس بطور.
وفي حديث الفتون: عن ابن عباس: أنهم لما امتنعوا عن الطاعة رفع عليهم
الجبل ليسمعوا [فسجدوا] (5) .
وقال السدي: فلما أبوا أن يسجدوا أمر الله الجبل أن يقع عليهم، فنظروا
إليه وقد غشيهم،
__________
(1) في جـ، ط: "فأخذوه".
(2) في أ: "امتثال أمر".
(3) في جـ، ط: "فسرنا به آية".
(4) في ط: "وهذا الظاهر".
(5) زيادة من جـ.
(1/287)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ
فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا
بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
فسقطوا سجدًا [فسجدوا] (1) على شق، ونظروا بالشق الآخر، فرحمهم الله
فكشفه عنهم، فقالوا (2) والله ما سجدة أحب إلى الله من سجدة كشف بها العذاب عنهم،
فهم يسجدون كذلك، وذلك قوله تعالى: { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ (3) الطُّورَ } .
وقال الحسن في قوله: { خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ } يعني
التوراة.
وقال أبو العالية، والربيع بن أنس: { بِقُوَّةٍ } أي بطاعة. وقال مجاهد:
بقوة:
بعمل بما فيه. وقال قتادة { خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ } القوة: الجد وإلا قذفته
(4) عليكم.
قال: فأقروا بذلك: أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة. ومعنى قوله: وإلا قذفته
عليكم، أي (5) أسقطه عليكم، يعني الجبل.
وقال أبو العالية والربيع: { وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ } يقول: اقرؤوا ما
في التوراة واعملوا به.
وقوله تعالى: { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } يقول تعالى:
ثم بعد هذا الميثاق المؤكد العظيم توليتم عنه وانثنيتم ونقضتموه { فَلَوْلا فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } أي: توبته (6) عليكم وإرساله النبيين والمرسلين
إليكم { لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } بنقضكم ذلك الميثاق في الدنيا والآخرة.
{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ
فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا
نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) }
يقول تعالى: { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ } يا معشر اليهود،
ما حل من البأس بأهل القرية التي عصت أمر الله وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذه
عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره، إذ كان مشروعًا لهم، فتحيلوا على اصطياد
الحيتان في يوم السبت، بما وضعوا لها من الشصوص والحبائل والبرك قبل يوم السبت،
فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل والحيل، فلم تخلص
منها يومها ذلك، فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت. فلما فعلوا ذلك مسخهم
الله إلى صورة القردة، وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل (7) الظاهر وليست بإنسان
حقيقة. فكذلك أعمال هؤلاء وحيلهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في
الباطن، كان جزاؤهم من جنس عملهم. وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف، حيث يقول
تعالى: { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ
حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ
يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ
نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [الأعراف : 163 ] القصة بكمالها.
__________
(1) زيادة من جـ، ب، أ، و.
(2) في جـ: "فقال".
(3) في جـ: "فوقهم" وهو خطأ.
(4) في جـ، ب، أ، و: "دفنته".
(5) في جـ، ب، أ، و: "دفنته إلا".
(6) في جـ، ط، أ، و: "أي بتوبته".
(7) في جـ: "بالأناسي والشكل".
(1/288)
وقال السدي: أهل هذه القرية هم أهل "أيلة". وكذا قال قتادة،
وسنورد أقوال المفسرين هناك مبسوطة إن شاء الله وبه الثقة (1) .
وقوله: { كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } قال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبي، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: { فَقُلْنَا
لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } قال: مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردة، وإنما
هو مثل ضربه الله { كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا } [الجمعة : 5].
ورواه ابن جرير، عن المثنى، عن أبي (2) حذيفة. وعن محمد بن عمرو (3)
الباهلي، عن أبي عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، به.
وهذا سند جيد عن مجاهد، وقول غريب خلاف الظاهر من السياق في هذا المقام
وفي غيره، قال الله تعالى: { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً
عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ
الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } الآية [المائدة :
60]
.
وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس: { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا
قِرَدَةً خَاسِئِينَ } فجعل [الله] (4) منهم القردة والخنازير. فزعم أن شباب القوم
صاروا قردة والمشيخة صاروا خنازير.
وقال شيبان النحوي، عن قتادة: { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً
خَاسِئِينَ } فصار القوم قرودًا تعاوى لها أذناب بعد ما كانوا
رجالا ونساء.
وقال عطاء الخراساني: نودوا: يا أهل القرية، { كُونُوا قِرَدَةً
خَاسِئِينَ } فجعل الذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون: يا فلان،
ألم ننهكم؟ فيقولون برؤوسهم، أي بلى.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين (5) حدثنا عبد الله بن محمد بن
ربيعة بالمصيصة، حدثنا محمد بن مسلم -يعني الطائفي-عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن
ابن عباس، قال: إنما كان الذين اعتدوا في السبت فجعلوا قردة فُوَاقا ثم هلكوا. ما
كان للمسخ (6) نسل (7) .
وقال الضحاك، عن ابن عباس: فمسخهم الله قردة بمعصيتهم، يقول: إذ لا
يحيون في الأرض إلا ثلاثة أيام، قال: ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم
يشرب ولم ينسل. وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة أيام التي
ذكرها الله (8) في كتابه، فمسخ [الله] (9) هؤلاء القوم في صورة القردة، وكذلك يفعل
بمن يشاء كما يشاء. ويحوله كما يشاء.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: { كُونُوا
قِرَدَةً خَاسِئِينَ } قال: يعني
__________
(1) في أ: "وبه الثقة والإعانة".
(2) في جـ: "عن أبو" وهو خطأ.
(3) في جـ، ب: "بن عمر".
(4) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(5) في جـ، ط، ب: "الحسن".
(6) في جـ: "للمسيخ".
(7) تفسير ابن أبي حاتم (1/209).
(8) في جـ، ط، ب: "التي ذكر الله".
(9) زيادة من أ.
(1/289)
أذلة صاغرين. وروي عن مجاهد، وقتادة والربيع، وأبي مالك، نحوه.
وقال محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، قال: قال ابن عباس:
إن الله إنما افترض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم في عيدكم -يوم الجمعة-فخالفوا
إلى (1) السبت فعظموه، وتركوا ما أمروا به. فلما أبوا إلا لزوم السبت ابتلاهم الله
فيه، فحرم عليهم ما أحل لهم في غيره. وكانوا في قرية بين أيلة والطور، يقال لها:
"مدين"؛ فحرم الله عليهم في السبت الحيتان: صيدها وأكلها. وكانوا إذا
كان يوم السبت أقبلت إليهم شرعًا إلى ساحل بحرهم، حتى إذا ذهب السبت ذهبن، فلم
يروا حوتًا صغيرًا ولا كبيرًا. حتى إذا كان يوم السبت أتين شرعًا، حتى إذا ذهب
السبت ذهبن، فكانوا كذلك، حتى إذا طال عليهم الأمد وقرموا إلى الحيتان، عمد رجل
(2) منهم فأخذ حوتًا سرًا يوم السبت، فخزمه بخيط، ثم أرسله في الماء، وأوتد له
وتدًا في الساحل فأوثقه، ثم تركه. حتى إذا كان الغد جاء فأخذه، أي: إني لم آخذه في
يوم السبت ثم انطلق به فأكله. حتى إذا كان يوم السبت الآخر، عاد لمثل ذلك، ووجد الناس
ريح الحيتان، فقال أهل القرية: والله لقد وجدنا ريح الحيتان، ثم عثروا على صنيع
(3) ذلك الرجل. قال: ففعلوا كما فعل، وصنعوا (4) سرًا زمانًا طويلا لم يعجل الله
عليهم العقوبة (5) حتى صادوها علانية وباعوها في بالأسواق (6) . فقالت طائفة منهم
من أهل البقية: ويحكم، اتقوا الله. ونهوهم عما
يصنعون. فقالت طائفة أخرى لم تأكل الحيتان، ولم تنه القوم عما صنعوا: { لِمَ
تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا
قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ } لسخطنا أعمالهم { وَلَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ } [الأعراف : 164] .
قال ابن عباس: فبينما هم على ذلك أصبحت تلك البقية في أنديتهم ومساجدهم
وفقدوا الناس فلم يرونهم قال: فقال بعضهم لبعض: إن للناس لشأنًا! فانظروا ما هو.
فذهبوا ينظرون في دورهم، فوجدوها مغلقة عليهم، قد دخلوها ليلا فغلقوها على أنفسهم،
كما يغلق الناس على أنفسهم فأصبحوا فيها قردة، وإنهم ليعرفون الرجل بعينه وإنه
لقرد، والمرأة بعينها وإنها لقردة، والصبي بعينه وإنه لقرد. قال: يقول ابن عباس: فلولا ما ذكر
الله أنه أنجى الذين نهوا عن السوء لقلنا (7) أهلك الجميع منهم،
قال: وهي القرية التي قال الله جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم: { وَاسْأَلْهُمْ
عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ } الآية [الأعراف :
163] . وروى الضحاك عن ابن عباس نحوًا من هذا.
قال (8) السدي في قوله تعالى: { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ
الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً
خَاسِئِينَ } قال: فهم أهل "أيلة"، وهي القرية التي
كانت حاضرة البحر، فكانت الحيتان إذا كان يوم السبت -وقد حرم الله على اليهود أن
يعملوا (9) في السبت شيئًا-لم يبق في البحر حوت إلا خرج،
__________
(1) في جـ، ط: "إلي يوم".
(2) في جـ: "عمد رجلا" وهو خطًا.
(3) في جـ: "على صنع".
(4) في جـ، ط، ب، أ، و: "وأكلوا".
(5) في جـ، ط، ب، أ، و: "بعقوبة".
(6) في جـ: "في الأسواق".
(7) في جـ، ط، ب، أ، و: "لقد".
(8) في جـ، ط، ب: "وقال".
(9) في جـ، ط: "أن تعمل".
(1/290)
حتى يخرجن خراطيمهن من الماء، فإذا كان يوم الأحد لزمن مقل البحر، فلم
ير منهن شيء (1) حتى يكون يوم السبت، فذلك قوله تعالى: { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ
الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ
تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا
تَأْتِيهِمْ [كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ] (2) } . فاشتهى
بعضهم السمك، فجعل الرجل يحفر الحفيرة، ويجعل لها نهرًا إلى البحر، فإذا كان يوم
السبت فتح النهر فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة، فيريد الحوت
أن يخرج، فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر، فيمكث فإذا كان يوم الأحد جاء فأخذه،
فجعل الرجل يشوي السمك فيجد جاره ريحه فيسأله فيخبره، فيصنع مثل ما صنع جاره، حتى
فشا فيهم أكل السمك، فقال لهم علماؤهم: ويحكم! إنما تصطادون يوم السبت، وهو لا يحل
لكم، فقالوا: إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه. فقال العلماء (3) لا ولكنكم صدتموه
يوم فتحكم (4) الماء فدخل، قال: وغلبوا أن ينتهوا. فقال بعض (5)
الذين نهوهم لبعض: { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ
مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا } يقول: لم تعظوهم، وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم؟
فقال بعضهم: { مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [الأعراف :
164] فلما أبوا قال المسلمون: والله لا نساكنكم في قرية واحدة. فقسموا القرية
بجدار، ففتح المسلمون بابًا والمعتدون في السبت بابًا، ولعنهم داود، عليه السلام،
فجعل المسلمون يخرجون من بابهم، والكفار من بابهم، فخرج المسلمون ذات يوم، ولم
يفتح الكفار بابهم، فلما أبطأوا عليهم تسور المسلمون عليهم الحائط، فإذا هم قردة
يثب بعضهم على بعض، ففتحوا عنهم، فذهبوا في الأرض، فذلك قول الله تعالى: { فَلَمَّا عَتَوْا
عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [الأعراف
:166 ] وذلك حين يقول: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى
لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } [المائدة : 78 ].
فهم القردة.
قلت: والغرض من هذا السياق عن هؤلاء الأئمة بيان خلاف ما ذهب إليه
مجاهد، رحمه الله، من أن مسخهم إنما كان معنويًا لا صوريًا بل الصحيح أنه معنوي
صوري، والله أعلم.
وقوله تعالى: { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا
وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } قال بعضهم: الضمير في {
فَجَعَلْنَاهَا } عائد على القردة، وقيل: على الحيتان، وقيل: على
العقوبة، وقيل: على القرية؛ حكاها ابن جرير.
والصحيح أن الضمير عائد على القرية، أي: فجعل الله هذه القرية، والمراد
أهلها بسبب اعتدائهم في سبتهم { نَكَالا } أي: عاقبناهم عقوبة، فجعلناها (6) .
عبرة، كما قال الله عن فرعون: { فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى }
[النازعات : 25].
__________
(1) في جـ: "شيئًا" وهو خطأ.
(2) زيادة من جـ.
(3) في جـ، ط، ب، أ، و: "الفقهاء".
(4) في أ، و: "فتحتم له".
(5) في أ: "فقال بعضهم".
(6) في جـ، ط، ب، أ، و: "فجعلناهم".
(1/291)
وقوله: { لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا } أي من
القرى. قال (1) ابن عباس: يعني جعلناها بما أحللنا بها من العقوبة عبرة لما حولها
من القرى. كما قال تعالى: { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا
حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }
[الأحقاف : 27] ، ومنه قوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ
نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } الآية [الرعد : 41 ] ، على أحد الأقوال، فالمراد:
لما بين يديها وما خلفها في المكان، كما قال محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن
عكرمة، عن ابن عباس: لما بين يديها من القرى وما خلفها من القرى. وكذا قال سعيد بن
جبير { لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا } [قال] (2) من بحضرتها من الناس
يومئذ.
وروي عن إسماعيل بن أبي خالد، وقتادة، وعطية العوفي: { فَجَعَلْنَاهَا
نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْها [وَمَا خَلْفَهَا] } (3) قال: ما [كان]
(4) قبلها من الماضين في شأن السبت.
وقال أبو العالية والربيع وعطية: { وَمَا خَلْفَهَا } لما (5) بقي بعدهم
من الناس من بني إسرائيل أن يعملوا مثل عملهم.
وكان هؤلاء يقولون: المراد بما بين يديها وما خلفها في الزمان.
وهذا مستقيم بالنسبة إلى من يأتي بعدهم من الناس أن يكون أهل تلك القرية
عبرة لهم، وأما بالنسبة إلى من سلف قبلهم من الناس فكيف يصح هذا الكلام أن تفسر الآية
به وهو أن يكون عبرة لمن سبقهم؟ هذا لعل أحدًا من الناس لا يقوله بعد تصوره، فتعين
أن المراد بما بين يديها وما خلفها في المكان، وهو ما حولها من القرى؛ كما قاله
ابن عباس وسعيد بن جبير، والله أعلم.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع عن أبي العالية: { فَجَعَلْنَاهَا
نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } أي: عقوبة لما خلا من ذنوبهم.
وقال ابن أبي حاتم (6) وروى عن عكرمة، ومجاهد، والسدي، والحسن، وقتادة،
والربيع بن أنس، نحو ذلك.
وحكى القرطبي، عن ابن عباس والسدي، والفراء، وابن عطية { لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا
} بين ذنوب القوم { وَمَا خَلْفَهَا } لمن يعمل بعدها مثل تلك الذنوب، وحكى فخر
الدين ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المراد بما بين يديها وما خلفها: من تقدمها من القرى، بما
عندهم من العلم بخبرها، بالكتب المتقدمة ومن بعدها.
الثاني: المراد بذلك من بحضرتها من القرى والأمم.
__________
(1) في جـ، ط، ب، أ، و: "قاله".
(2) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(3) زيادة من جـ.
(4) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(5) في جـ، ط، ب، أ، و: "لمن".
(6) في أ: "وقال ابن أبي جرير".
(1/292)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ
أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
والثالث: أنه جعلها تعالى عقوبة لجميع ما ارتكبوه من قبل هذا الفعل وما
بعده، قال: وهذا قول الحسن. قلت: وأرجح الأقوال أن المراد بما بين يديها وما
خلفها: من بحضرتها من القرى التي يبلغهم خبرها، وما حل بها، كما قال: { وَلَقَدْ
أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ } [الأحقاف : 27] وقال تعالى: { وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا
تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ }
[الرعد : 31] ،
وقال { أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا }
[الأنبياء : 44 ] ، فجعلهم عبرة ونكالا لمن في زمانهم، وعبرة لمن يأتي بعدهم
بالخبر المتواتر عنهم، ولهذا قال: { وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ }
وقوله تعالى: { وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } قال محمد بن إسحاق، عن
داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: { وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } الذين من
بعدهم إلى يوم القيامة.
وقال الحسن وقتادة: { وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } بعدهم، فيتقون نقمة
الله، ويحذرونها.
وقال السدي، وعطية العوفي: { وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } قال: أمة
محمد صلى الله عليه وسلم.
قلت: المراد بالموعظة هاهنا الزاجر، أي: جعلنا ما
أحللنا بهؤلاء من البأس والنكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم الله، وما تحيلوا
به من الحيل، فليحذر المتقون صنيعهم لئلا يصيبهم ما أصابهم، كما قال الإمام أبو
عبد الله بن بطة: حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم، حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني،
حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمرو [عن أبي سلمة] (1) عن أبي هريرة: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترتكبوا ما ارتكب (2) اليهود، فتستحلوا
محارم الله بأدنى الحيل" (3) .
وهذا إسناد جيد، وأحمد بن محمد بن مسلم هذا وثقه الحافظ أبو بكر الخطيب
البغدادي، وباقي رجاله مشهورون على شرط الصحيح. والله أعلم.
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا
بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْجَاهِلِينَ (67) }
يقول تعالى: واذكروا -يا بني
إسرائيل-نعمتي عليكم في خرق العادة لكم في شأن البقرة، وبيان القاتل من هو بسببها
وإحياء الله المقتول، ونصه على من قتله منهم. [مسألة الإبل تنحر والغنم تذبح
واختلفوا في البقر فقيل: تذبح، وقيل: تنحر، والذبح أولى لنص القرآن ولقرب منحرها
من مذبحها. قال ابن المنذر: ولا أعلم خلافا صحيحًا بين ما ينحر أو نحر ما يذبح،
غير أن مالكا كره ذلك. وقد يكره الإنسان ما لا يحرم، وقال أبو عبد الله: أعلم أن
نزول قصة البقرة على موسى،
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(2) في جـ، ط، ب، أ، و: "ما ارتكبت".
(3) جزء الخلع وإبطال الحيل لابن بطة (ص24).
(1/293)
عليه السلام، في أمر القتيل قبل نزول القسامة في التوراة.
بسط القصة] (1) -كما قال ابن أبي حاتم-:
حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا هشام بن
حسان، عن محمد بن سيرين، عن (2) عبيدة السلماني، قال: كان رجل من بني إسرائيل
عقيمًا لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان (3) ابن أخيه وارثه، فقتله ثم احتمله ليلا
فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا، وركب بعضهم إلى (4) بعض،
فقال ذوو الرأي منهم والنهى: علام يقتل بعضكم بعضًا وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا
موسى، عليه السلام، فذكروا ذلك له، فقال: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ
أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } قال: فلو لم يعترضوا
[البقر] (5) لأجزأت عنهم أدنى بقرة، ولكنهم (6) شددوا فشدد عليهم، حتى انتهوا إلى
البقرة التي أمروا بذبحها فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها، فقال: والله لا
أنقصها من ملء جلدها ذهبا، فأخذوها بملء جلدها ذهبًا فذبحوها، فضربوه ببعضها فقام
فقالوا: من قتلك؟ فقال: هذا، لابن أخيه. ثم مال ميتًا،
فلم يعط من ماله شيئًا، فلم يورث قاتل بعد.
ورواه ابن جرير من حديث أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة (7) بنحو من
ذلك (8) والله أعلم.
ورواه عبد بن حميد في تفسيره: أنبأنا يزيد بن هارون، به.
ورواه آدم بن أبي إياس في تفسيره، عن أبي جعفر -هو الرازي-عن هشام بن
حسان، به. وقال آدم بن أبي إياس في تفسيره: أنبأنا أبو جعفر
الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية، في قول الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } قال: كان رجل من بني إسرائيل، وكان
غنيًا، ولم يكن له ولد، وكان له قريب وكان وارثه، فقتله ليرثه، ثم ألقاه على مجمع
الطريق، وأتى موسى، عليه السلام، فقال له: إن قريبي قتل وإني إلى أمر عظيم، وإني
لا أجد أحدًا يبين [لي] (9) من قتله غيرك يا نبي الله. قال: فنادى موسى في الناس،
فقال: أنشد الله من كان عنده من هذا علم إلا بينه لنا، [قال] (10) : فلم يكن عندهم
علم، فأقبل القاتل على موسى عليه السلام، فقال له: أنت نبي الله فاسأل لنا ربك أن
يبين لنا، فسأل ربه فأوحى الله إليه: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تَذْبَحُوا بَقَرَةً } فعجبوا من
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، و.
(2) في جـ: "بن".
(3) في ط، ب: "وكان له".
(4) في جـ: "على".
(5) زيادة من ب.
(6) في جـ: "ولكن".
(7) في جـ: "عبدة".
(8) تفسير ابن أبي حاتم (1/214) وتفسير الطبري (1/337).
(9) زيادة من ط، ب، أ، و.
(10) زيادة من أ.
(1/294)
ذلك، فقالوا: { أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ
أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ* قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا
هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ } يعني: لا هرمة { وَلا بِكْرٌ }
يعني: ولا صغيرة { عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } أي: نصف بين البكر والهرمة { قَالُوا
ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ
إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا } أي: صاف لونها { تَسُرُّ
النَّاظِرِينَ } أي: تعجب الناظرين { قَالُوا ادْعُ
لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا
وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا
بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ } أي: لم يذللها (1) العمل { تُثِيرُ الأرْضَ
} يعني: وليست بذلول تثير الأرض { وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ } يقول: ولا تعمل
في الحرث { مُسَلَّمَةٌ } يعني: مسلمة من العيوب { لا شِيَةَ فِيهَا } يقول: لا
بياض فيها { قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا
يَفْعَلُونَ } قال: ولو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة، استعرضوا بقرة من
البقر فذبحوها، لكانت إياها، ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد عليهم، ولولا أن القوم
استثنوا فقالوا: { وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } لما هدوا إليها
أبدًا. فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعتت لهم إلا عند عجوز عندها يتامى، وهي
القيمة عليهم، فلما علمت أنه لا يزكو لهم (2) غيرها، أضعفت عليهم الثمن. فأتوا
موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة، وأنها سألتهم أضعاف ثمنها.
فقال لهم موسى: إن الله قد كان خفف عليكم فشددتم على أنفسكم فأعطوها رضاها وحكمها.
ففعلوا، واشتروها (3) فذبحوها، فأمرهم موسى، عليه السلام، أن يأخذوا عظمًا (4)
منها فيضربوا به القتيل، ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتًا
كما كان، فأخذ قاتله -وهو الذي كان أتى موسى فشكا إليه [مقتله] (5) -فقتله الله
على أسوأ (6) عمله.
وقال محمد بن جرير: حدثني ابن سعد (7) حدثني أبي، حدثني عمي، حدثني أبي،
عن أبيه [عن جده] (8) عن ابن عباس، في قوله في شأن البقرة: وذلك أن
شيخًا من بني إسرائيل على عهد موسى، عليه السلام، كان مكثرًا من المال، وكان بنو
أخيه فقراء لا مال لهم، وكان الشيخ لا ولد له وبنو أخيه ورثته فقالوا: ليت (9)
عمنا قد مات فورثنا ماله، وإنه لما تطاول عليهم ألا يموت عمهم، أتاهم الشيطان فقال
لهم: هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم، فترثوا ماله، وَتُغْرِمُوا أهل المدينة التي لستم
بها ديته، وذلك أنهما كانتا مدينتين، كانوا في إحداهما وكان القتيل إذا قتل فطرح
بين المدينتين (10) قيس ما بين القتيل والقريتين فأيهما (11) كانت أقرب إليه غرمت
الدية، وأنهم لما سول لهم الشيطان ذلك، وتطاول عليهم ألا يموت عمهم عمدوا إليه
فقتلوه، ثم عمدوا فطرحوه على باب المدينة التي ليسوا فيها. فلما أصبح أهل المدينة
جاء بنو أخي الشيخ، فقالوا: عمنا قتل على باب مدينتكم، فوالله
__________
(1) في ب، أ، و: "لم يذلها".
(2) في أ: "أنهم لا يتركوا".
(3) في ط: "واشتروا".
(4) في جـ: "عظمها".
(5) زيادة من و.
(6) في جـ: "أشر"، وفي أ: "سوء".
(7) في جـ، ط، ب، أ، و: "ابن أبي سعيد".
(8) زيادة من أ، و.
(9) في جـ: "يا ليت".
(10) في ب: "القريتين".
(11) في جـ، ط، ب، أ، و: "فأيتهما".
(1/295)
لتغرمن لنا دية عمنا. قال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلنا ولا علمنا
(1) قاتلا ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا. وإنهم عمدوا إلى موسى، عليه
السلام، فلما أتوه قال بنو أخي الشيخ: عمنا وجدناه مقتولا على باب مدينتهم. وقال أهل
المدينة: نقسم بالله ما قتلناه ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا،
وإنه جبريل (2) جاء بأمر (3) السميع العليم إلى موسى، عليه السلام، فقال: قل لهم:
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } فتضربوه ببعضها.
وقال السدي: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } قال: كان رجل من بني
إسرائيل مكثرًا من المال وكانت له ابنة، وكان له ابن أخ محتاج، فخطب إليه ابن أخيه
ابنته، فأبى أن يزوجه، فغضب الفتى، وقال: والله لأقتلن عمي، ولآخذن ماله، ولأنكحن
ابنته، ولآكلن ديته. فأتاه الفتى وقد قدم تجار في بعض أسباط بني إسرائيل، فقال: يا
عم (4) انطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم، لعلي أن أصيب منها (5) فإنهم إذا
رأوك معي أعطوني. فخرج العم مع الفتى ليلا فلما بلغ الشيخ ذلك السبط قتله الفتى،
ثم رجع إلى أهله. فلما أصبح جاء كأنه يطلب عمه، كأنه لا يدري أين هو، فلم يجده.
فانطلق نحوه، فإذا هو بذلك السبط مجتمعين عليه، فأخذهم وقال: قتلتم عمي، فأدوا إليّ
ديته فجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه، وينادي: واعماه. فرفعهم إلى موسى، فقضى
عليهم بالدية، فقالوا له: يا رسول الله، ادع الله لنا (6) حتى يبين لنا من صاحبه،
فيؤخذ صاحب الجريمة (7) فوالله إن ديته علينا لهينة، ولكنا نستحيي أن نعير به فذلك
حين يقول الله تعالى: { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا
وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } فقال لهم موسى، عليه السلام: {
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } قالوا: نسألك عن القتيل
وعمن قتله، وتقول: اذبحوا بقرة. أتهزأ بنا! { قَالَ أَعُوذُ
بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } قال ابن عباس: فلو اعترضوا بقرة فذبحوها
لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا وتعنتوا [على] (8) موسى فشدد الله عليهم. فقالوا: {
ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ
لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } والفارض: الهرمة التي لا تلد،
والبكر التي لم تلد إلا ولدًا واحدًا. والعوان: النصف التي بين ذلك، التي قد ولدت
وولد ولدها { فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ* قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ
لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ
لَوْنُهَا } قال: نقي لونها { تَسُرُّ النَّاظِرِينَ } قال: تعجب الناظرين {
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ
عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ* قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ
إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ
لا شِيَةَ فِيهَا } من بياض ولا سواد ولا حمرة { قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ
} فطلبوها فلم يقدروا عليها.
__________
(1) في جـ: "ما قتلناه ولا علمناه".
(2) في جـ، ط، ب، أ، و: "وإن جبريل".
(3) في جـ، ط، ب، أ، و: "بأمر ربه".
(4) في جـ: "يا عمي".
(5) في جـ: "فيها".
(6) في ب، أ، و: "ادع لنا الله".
(7) في جـ، ط، ب، أ، و: "الفرصة".
(8) زيادة من جـ، أ.
(1/296)
وكان رجل في (1) بني إسرائيل، من أبر الناس بأبيه، وإن رجلا مر به معه
لؤلؤ يبيعه، وكان أبوه نائمًا تحت رأسه المفتاح، فقال له الرجل: تشتري (2) مني هذا
اللؤلؤ بسبعين ألفًا؟ فقال له الفتى: كما أنت حتى يستيقظ أبي فآخذه منك بثمانين
ألفًا. فقال الآخر: أيقظ أباك وهو لك بستين ألفًا، فجعل التاجر يحط له حتى بلغ
ثلاثين ألفًا، وزاد الآخر على أن ينتظر أباه حتى يستيقظ حتى بلغ مائة ألف، فلما
أكثر عليه قال: والله لا أشتريه منك بشيء أبدًا، وأبى أن يوقظ أباه، فعوضه الله من
ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة، فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة وأبصروا
البقرة عنده، فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة، فأبى، فأعطوه ثنتين فأبى، فزادوه
حتى بلغوا عشرا، فأبى، فقالوا: والله لا نتركك حتى نأخذها منك. فانطلقوا به إلى
موسى، عليه السلام، فقالوا: يا نبي الله، إنا وجدناها عند هذا فأبى أن يعطيناها
وقد أعطيناه ثمنًا فقال له موسى: أعطهم بقرتك. فقال: يا رسول الله، أنا أحق بمالي. فقال: صدقت. وقال
للقوم: أرضوا صاحبكم، فأعطوه وزنها ذهبًا، فأبى، فأضعفوا (3) له مثل ما أعطوه
وزنها، حتى أعطوه وزنها عشر مرات ذهبًا، فباعهم إياها وأخذ ثمنها، فذبحوها. قال:
اضربوه ببعضها، فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين، فعاش، فسألوه: من قتلك؟ فقال
لهم: ابن أخي، قال: أقْتُلُهُ، فآخذُ مالَه، وأنكح ابنتَه. فأخذوا الغلام فقتلوه
(4)
.
وقال سنيد: حدثنا حجاج، هو ابن محمد، عن ابن جريج، عن مجاهد، وحجاج، عن
أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس -دخل حديث بعضهم في حديث بعض-قالوا:
إن سبطًا من بني إسرائيل لما رأوا كثرة شرور الناس، بنوا مدينة فاعتزلوا شرور
الناس، فكانوا إذا أمسوا لم يتركوا أحدًا منهم خارجًا إلا أدخلوه، وإذا افتتحوا (5) قام رئيسهم فنظر
وأشرف، فإذا لم ير شيئًا فتح المدينة، فكانوا مع الناس حتى يمسوا. قال: وكان رجل
من بني إسرائيل له مال كثير، ولم يكن له وارث غير أخيه، فطال عليه حياته فقتله
ليرثه، ثم حمله فوضعه على باب المدينة، ثم كمن في مكان هو وأصحابه. قال: فأشرف (6)
رئيس المدينة على باب المدينة فنظر، فلم ير شيئًا ففتح الباب، فلما رأى القتيل رد
الباب، فناداه أخو المقتول وأصحابه: هيهات! قتلتموه ثم تردون الباب. وكان موسى لما
رأى القتل كثيرًا في أصحابه بني إسرائيل، كان إذا رأى القتيل بين ظهراني القوم
أخذهم، فكاد يكون بين أخى المقتول وبين أهل المدينة قتال، حتى لبس الفريقان السلاح،
ثم كف بعضهم عن بعض، فأتوا موسى فذكروا له شأنهم. قالوا: يا رسول الله، إن هؤلاء
قتلوا قتيلا ثم ردوا الباب، وقال أهل المدينة: يا رسول الله قد عرفت اعتزالنا
الشرور (7) وبنينا مدينة، كما رأيت، نعتزل شرور الناس، والله ما قتلنا ولا علمنا
قاتلا. فأوحى الله تعالى إليه أن يذبحوا بقرة فقال لهم موسى:
__________
(1) في جـ: "من".
(2) في أ: "اشترى".
(3) في جـ، ط، ب: "فأضعفوه".
(4) تفسير الطبري (2/185).
(5) في جـ، ط، ب، أ، و: "وإذا أصبحوا".
(6) في و: "فتشرف".
(7) في جـ: "اعتزالنا عن الناس الشرور".
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ
تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ
إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ
مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا
وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا
وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا
اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ
كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا
يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ
مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا
اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا
لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ
يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا
الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا
أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ
رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)
البقرة - تفسير ابن كثير
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ
يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا
مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ
النَّاظِرِينَ (69)
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } (1) .
وهذه السياقات [كلها] (2) عن عبيدة (3) وأبي العالية والسدي وغيرهم،
فيها اختلاف ما، والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل وهي مما يجوز نقلها (4) ولكن لا نصدق ولا
نكذب (5) فلهذا لا نعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا، والله أعلم.
{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ
إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا
تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ
النَّاظِرِينَ (69) }
أخبر تعالى عن تعنت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم. ولهذا لما ضيقوا
على أنفسهم ضيق عليهم، ولو أنهم ذبحوا أي بقرة كانت لوقعت الموقع عنهم، كما قال ابن
عباس وعبيدة وغير واحد، ولكنهم شددوا فشدد عليهم، فقالوا: { ادْعُ لَنَا رَبَّكَ
يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ } ما هذه البقرة؟ وأي شيء صفتها؟
قال (6) ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا عثام (7) بن
علي، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لو أخذوا
أدنى بقرة اكتفوا بها، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم (8) .
إسناد صحيح، وقد رواه غير واحد عن ابن عباس. وكذا قال عبيدة، والسدي،
ومجاهد، وعكرمة، وأبو العالية وغير واحد.
وقال ابن جريج: قال [لي] (9) عطاء: لو أخذوا أدنى بقرة كفتهم. قال ابن
جريج:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أمروا بأدنى بقرة، ولكنهم
لما شددوا على أنفسهم شدد الله عليهم؛ وايم الله لو أنهم لم يستثنوا ما بينت لهم
آخر الأبد" (10) .
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ } أي:
لا كبيرة هرمة ولا صغيرة لم يلحقها (11)
__________
(1) ورواه الطبري في تفسيره (2/188) من طريق سنيد.
(2) زيادة من جـ.
(3) في أ: "أبي عبيدة".
(4) في أ: "فعله".
(5) في ط، ب: "لا تصدق ولا تكذب".
(6) في ط: "وقال".
(7) في جـ: "هشام".
(8) تفسير الطبري (2/204).
(9) زيادة من جـ، ط، ب، و.
(10) رواه الطبري في تفسيره (2/205).
(11) في جـ، ط: "يلقحها"، وفي أ: "ينكحها".
(1/298)
الفحل، كما قاله أبو العالية، والسدي، ومجاهد، وعكرمة، وعطية العوفي،
وعطاء الخراساني (1) ووهب بن منبه، والضحاك، والحسن، وقتادة، وقاله ابن عباس أيضًا.
وقال الضحاك، عن ابن عباس { عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } [يقول: نصف] (2) بين الكبيرة
والصغيرة، وهي أقوى ما يكون من الدواب والبقر وأحسن ما تكون. وروي عن عكرمة،
ومجاهد، وأبي العالية، والربيع بن أنس، وعطاء الخراساني، والضحاك نحو ذلك.
وقال السدي: العوان: النصف التي بين ذلك التي ولدت، وولد ولدها.
وقال هشيم، عن جويبر، عن كثير بن زياد، عن الحسن في البقرة: كانت بقرة
وحشية.
وقال ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس: من لبس نعلا صفراء لم يزل في سرور
ما دام لابسها، وذلك قوله (3) تعالى: { صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ
} وكذا قال مجاهد، ووهب بن منبه أنها كانت صفراء.
وعن ابن عمر: كانت صفراء الظلف. وعن سعيد بن جبير: كانت صفراء القرن
والظلف.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا نصر بن علي، حدثنا نوح بن قيس،
أنبأنا أبو رجاء، عن الحسن في قوله: { بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا } قال: سوداء شديدة
السواد.
وهذا غريب، والصحيح الأول، ولهذا أكد صفرتها بأنه { فَاقِعٌ لَوْنُهَا }
وقال عطية العوفي: { فَاقِعٌ لَوْنُهَا } تكاد تسود من صفرتها.
وقال سعيد بن جبير: { فَاقِعٌ لَوْنُهَا } قال: صافية اللون. وروى عن
أبي العالية، والربيع بن أنس، والسدي، والحسن، وقتادة نحوه.
وقال شريك، عن مَغْراء (4) عن ابن عمر: { فَاقِعٌ لَوْنُهَا } قال: صاف
(5)
.
وقال العوفي في تفسيره، عن ابن عباس: { فَاقِعٌ لَوْنُهَا } شديدة
الصفرة، تكاد من صفرتها تبيض.
وقال السدي: { تَسُرُّ النَّاظِرِينَ } أي: تعجب الناظرين (6) وكذا قال
أبو العالية، وقتادة، والربيع بن أنس.
[وفي التوراة: أنها كانت حمراء، فلعل هذا خطأ في التعريب أو كما قال
الأول: إنها كانت شديدة الصفرة تضرب إلى حمرة وسواد،
والله أعلم] (7) .
__________
(1) في جـ: "الخراساني وسيأتي".
(2) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(3) في جـ، ب: "قول الله تعالى"، وفي ط: "قول الله.
(4) في أ: "عن ابن عباس".
(5) في جـ، ط، ب: "صافي".
(6) في جـ: "أي تعجبهم".
(7) زيادة من جـ، ط، ب، و.
(1/299)
وقال وهب بن منبه: إذا نظرت إلى جلدها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من
جلدها.
(1/300)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ
تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ
إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ
مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا
وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ
تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) }
وقوله: { إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } أي:
لكثرتها، فميز لنا هذه البقرة وصفها وحِلَّها لنا { وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ }
إذا بينتها لنا { لَمُهْتَدُونَ } إليها.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن يحيى الأودي (1) الصوفي، حدثنا
أبو سعيد أحمد بن داود الحداد، حدثنا سرور بن المغيرة الواسطي، ابن أخي منصور بن
زاذان، عن عباد بن منصور، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن بني إسرائيل قالوا: { وَإِنَّا إِن شَاءَ
اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } لما أعطوا، ولكن استثنوا" (2) .
ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من وجه آخر، عن سرور بن
المغيرة، عن (3) زاذان، عن عباد بن منصور، عن الحسن، عن حديث أبي رافع، عن أبي
هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن بني
إسرائيل قالوا: { وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } ما أعطوا أبدًا،
ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوا لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا، فشدد الله
عليهم" (4) .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة،
كما تقدم مثله (5) عن السدي، والله أعلم.
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ
وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ
فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) }
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ
وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ } أي: إنها ليست مذللة بالحراثة ولا معدة للسقي في السانية،
بل هي مكرمة حسنة صبيحة { مُسَلَّمَةٌ } صحيحة لا عيب فيها { لا شِيَةَ فِيهَا }
أي: ليس فيها لون غير لونها.
وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة { مُسَلَّمَةٌ } يقول: لا عيب فيها،
وكذا قال أبو العالية والربيع، وقال مجاهد { مُسَلَّمَةٌ } من الشية.
وقال عطاء الخراساني: { مُسَلَّمَةٌ }
القوائم والخلق { لا شِيَةَ فِيهَا } قال مجاهد: لا بياض ولا سواد. وقال أبو
العالية والربيع، والحسن وقتادة: ليس فيها بياض. وقال عطاء الخراساني: { لا شِيَةَ
فِيهَا } قال: لونها واحد بهيم. وروي عن عطية العوفي، ووهب بن منبه، وإسماعيل بن
أبي خالد، نحو ذلك. وقال السدي: { لا شِيَةَ فِيهَا } من بياض ولا سواد ولا حمرة،
وكل هذه الأقوال متقاربة [في المعنى، وقد زعم بعضهم أن المعنى في ذلك قوله تعالى:
{ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ } ليست بمذللة بالعمل ثم استأنف فقال: { تُثِيرُ
الأرْضَ } أي: يعمل عليها بالحراثة لكنها لا تسقي الحرث، وهذا
ضعيف؛ لأنه فسر الذلول التي لم تذلل بالعمل بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث
كذا قرره القرطبي وغيره] (6)
__________
(1) في جـ، ط: "الأزدي".
(2) تفسير ابن أبي حاتم (1/223).
(3) في جـ، ط، ب: "بن".
(4) قال الحافظ ابن حجر: "فيه عباد بن منصور وهو ضعيف".
(5) في جـ، ط: "نقله".
(6) زيادة من جـ، ط، ب، أ.
(1/300)
{ قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } قال قتادة: الآن بَيَّنْتَ لنا، وقال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: وقبل ذلك -والله (1) -قد جاءهم الحق.
{ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } قال الضحاك، عن ابن عباس:
كادوا ألا يفعلوا، ولم يكن ذلك الذي أرادوا، لأنهم أرادوا ألا يذبحوها.
يعني أنَّهم مع هذا البيان (2) وهذه الأسئلة، والأجوبة، والإيضاح ما
ذبحوها إلا بعد الجهد، وفي هذا ذم لهم، وذلك أنه لم يكن غرضهم إلا التعنت، فلهذا
ما كادوا يذبحونها.
وقال محمد بن كعب، ومحمد بن قيس: { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا
يَفْعَلُونَ } لكثرة ثمنها.
وفي هذا نظر؛ لأن كثرة ثمنها لم يثبت إلا من نقل بني إسرائيل، كما تقدم
من حكاية أبي العالية والسدي، ورواه العوفي عن ابن عباس. وقال عبيدة، ومجاهد، ووهب
بن منبه، وأبو العالية، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إنهم اشتروها بمال كثير (3)
وفيه اختلاف، ثم قد قيل في ثمنها غير ذلك. وقال عبد الرزاق: أنبأنا ابن
عيينة، أخبرني محمد بن سوقة، عن عكرمة، قال: ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير (4)
وهذا إسناد جيد عن عكرمة، والظاهر أنه نقله عن أهل الكتاب أيضًا.
وقال ابن جرير: وقال آخرون: لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة، إن
اطلع الله على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه.
ولم يسنده عن أحد، ثم اختار أن الصواب في ذلك أنهم لم يكادوا يفعلوا ذلك
لغلاء ثمنها، وللفضيحة. وفي هذا نظر، بل الصواب -والله أعلم-ما تقدم من رواية الضحاك،
عن ابن عباس، على ما وجهناه. وبالله التوفيق.
مسألة: استدل بهذه الآية في حصر صفات هذه البقرة حتى تعينت أو تم
تقييدها بعد الإطلاق على صحة السلم في الحيوان كما هو مذهب مالك والأوزاعي والليث
والشافعي وأحمد وجمهور العلماء سلفًا وخلفًا بدليل ما ثبت في الصحيحين عن النبي
صلى الله عليه وسلم: "لا تنعت المرأةُ المرأةَ لزوجها كأنه ينظر إليها"
(5) . وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم إبل الدية في قتل الخطأ وشبه العمد
بالصفات المذكورة بالحديث، وقال أبو حنيفة والثوري والكوفيون: لا يصح السلم في الحيوان
لأنه لا تنضبط أحواله، وحكى مثله عن ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعبد الرحمن بن
سمرة وغيرهم.
__________
(1) في جـ، ط: "والله أعلم".
(2) في جـ: "الشأن".
(3) في ب: "بثمن كثير".
(4) تفسير عبد الرزاق (1/71).
(5) صحيح البخاري برقم (5241).
(1/301)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ
مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي
اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ
مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي
اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) }
قال البخاري: { فَادَّارَأْتُمْ } اختلفتم. وهكذا قال مجاهد فيما رواه
ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن أبي حذيفة، عن شبْل عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، أنه
قال في قوله تعالى: { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا } اختلفتم.
وقال عطاء الخراساني، والضحاك: اختصمتم فيها.
وقال ابن جريج { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا } قال: قال
بعضهم أنتم قتلتموه.
وقال آخرون: بل أنتم قتلتموه. وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
{ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } قال مجاهد: ما تُغَيبُون. وقال ابن أبي
حاتم: حدثنا عمرو بن مسلم البصري، حدثنا محمد بن الطفيل العبدي، حدثنا صدقة بن
رستم، سمعت المسيب بن رافع يقول: ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله،
وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وتصديق ذلك في كلام الله: {
وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ* فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا }
هذا البعض أيُّ شيء كان من أعضاء هذه البقرة فالمعجزة حاصلة به.
وخرق العادة به كائن، وقد كان معينا في نفس الأمر، فلو كان في تعيينه
لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبينه الله تعالى لنا، ولكن أبهمه،
ولم يجئ من طريق صحيح عن معصوم بيانه (1) فنحن نبهمه كما أبهمه الله.
ولهذا قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن
سنان، حدثنا عفَّان بن مسلم، حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الأعمش، عن المنهال
بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إن أصحاب بقرة بني إسرائيل طلبوها
أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل في بقر له، وكانت بقرة تعجبه، قال: فجعلوا يعطونه
بها فيأبى، حتى أعطوه ملء مَسْكها دنانير، فذبحوها، فضربوه -يعني القتيل-بعضو
منها، فقام تَشْخُب أوداجه دمًا [فسألوه] (2)
فقالوا له: من قتلك؟ قال: (3) قتلني فلان (4) .
وكذا قال الحسن، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إنه ضرب ببعضها.
وفي رواية عن ابن عباس: إنهم ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمَر، قال: قال أيوب، عن ابن سيرين، عن
عبيدة: ضربوا القتيل ببعض لحمها. وقال معمر: قال قتادة:
فضربوه بلحم فخذها فعاش، فقال: قتلني فلان.
وقال أبو أسامة، عن النضر بن عربي، عن عكرمة: { فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ
بِبَعْضِهَا } [قال] (5) فضرب
__________
(1) في جـ: "عن معصوم حدثنا به".
(2) زيادة من جـ.
(3) في جـ: "فقال".
(4) تفسير ابن أبي حاتم (1/229).
(5) زيادة من جـ، أ، و.
(1/302)
بفخذها فقام، فقال: قتلني فلان.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد، وقتادة، نحو ذلك.
وقال السدي: فضربوه بالبَضْعة التي بين الكتفين فعاش، فسألوه، فقال:
قتلني ابن أخي.
وقال أبو العالية: أمرهم موسى، عليه السلام، أن يأخذوا عظمًا من عظامها،
فيضربوا به القتيل، ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمى لهم قاتله ثم عاد ميتا كما كان.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: فضربوه ببعض آرابها [وقيل: بلسانها،
وقيل: بعجب ذنبها] (1) .
وقوله: { كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى } أي:
فضربوه فحيى. ونَبَّه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل:
جعل تبارك وتعالى ذلك الصنع حجة لهم على المعاد، وفاصلا ما كان بينهم من الخصومة
والفساد (2) ،
والله تعالى قد ذكر في هذه السورة ما خلقه في (3) إحياء الموتى، في خمسة مواضع: {
ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ } [البقرة: 56]. وهذه القصة، وقصة
الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وقصة الذي مرَّ على قرية وهي خاوية على
عروشها، وقصة إبراهيم والطيور الأربعة.
ونبه تعالى بإحياء الأرض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها (4)
رميما، كما قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، أخبرني يعلى بن عطاء، قال: سمعت وَكِيع
بن عُدُس، يحدث عن أبي رَزِين العُقَيلي، قال: قلت: يا رسول الله، كيف يحيي الله
الموتى؟ قال: "أما مررت بواد مُمْحِل، ثم مررت به خَضِرًا؟" قال: بلى. قال:
"كذلك النشور". أو قال: "كذلك يحيي الله الموتى" (5) . وشاهد هذا قوله
تعالى: { وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا
مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ* وَجَعَلْنَا
فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُون*
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ }
[يس:33-35] .
مسألة: استدل لمذهب مالك في كون قول الجريح: فلان قتلني لوثًا بهذه
القصة؛ لأن القتيل لما حيي سئل عمن قتله فقال: قتلني فلان، فكان ذلك مقبولا منه؛
لأنه لا يخبر حينئذ إلا بالحق، ولا يتهم والحالة هذه، ورجحوا ذلك بحديث أنس: أن
يهوديًا قتل جارية على أوضاح لها، فرضخ رأسها بين حجرين فقيل: من فعل بك هذا؟
أفلان؟ أفلان؟ حتى ذكر اليهودي، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي، فلم يزل به حتى
اعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد رأسه بين حجرين (6) وعند مالك:
إذا كان لوثًا حلف أولياء القتيل قسامة، وخالف الجمهور في ذلك ولم يجعلوا قول القتيل
في
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(2) في جـ، ط، ب، أ، و: "والعناد".
(3) في جـ، ط، ب، أ، و: "من".
(4) في جـ، ط، ب، أ، و: "بعد صيرورتها".
(5) مسند الطيالسي برقم (1089).
(6) رواه البخاري في صحيحه برقم (6885).
(1/303)
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ
أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ
وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا
لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
(74)
ذلك لوثًا.
{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ
أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ
الأنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا
لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
(74)
}
يقول تعالى توبيخًا لبني إسرائيل، وتقريعًا لهم على ما شاهدوه من آيات
الله تعالى، وإحيائه الموتى: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } كله
{ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ } التي لا تلين أبدًا. ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل
حالهم فقال: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ
لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نزلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } [الحديد: 16].
وقال العوفي، في تفسيره، عن ابن عباس: لما ضُرب المقتول ببعض البقرة جلس
أحيا ما كان قط، فقيل له: من قتلك؟ فقال: بنو أخي قتلوني. ثم قبض. فقال بنو أخيه
حين قبض: والله ما قتلناه، فكذبوا بالحق بعد إذا رأوا (1) . فقال (2) الله: {
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } يعني: بني (3) أخي الشيخ { فَهِيَ
كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } فصارت قلوب بني (4) إسرائيل مع طول الأمد
قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات فهي في قسوتها كالحجارة
التي لا علاج للينها أو أشد قسوة من الحجارة، فإن من الحجارة ما تتفجر منها العيون
الجارية بالأنهار، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء، وإن لم يكن جاريا، ومنها ما
يهبط من رأس الجبل من خشية الله، وفيه إدراك لذلك بحسبه، كما قال: { تُسَبِّحُ
لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ
حَلِيمًا غَفُورًا } [الإسراء: 44].
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد أنه كان يقول: كل حجر يتفجر منه الماء،
أو يتشقق عن ماء، أو يتردى من رأس جبل، لمن خشية الله، نزل بذلك القرآن.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير،
عن ابن عباس: { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ
وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا
لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } أي وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عَمَّا
تدعون إليه من الحق { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }
[وقال أبو علي الجبائي في تفسيره: { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ
خَشْيَةِ اللَّهِ } هو سقوط البرد من
__________
(1) في أ، و "إذ رأوه".
(2) في جـ: "ثم قال".
(3) في أ، و: "يعني ابن".
(4) في جـ: "قلوب بنوا" وهو خطأ.
(1/304)
السحاب. قال القاضي الباقلاني: وهذا تأويل بعيد وتبعه في
استبعاده فخر الدين الرازي وهو كما قالا؛ فإن هذا خروج عن ظاهر اللفظ بلا دليل،
والله أعلم] (1) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا الحكم بن هشام
الثقفي، حدثني يحيى بن أبي طالب -يعني يحيى بن يعقوب-في قوله تعالى: { وَإِنَّ
مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ } قال: هو كثرة
البكاء { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ } قال: قليل
البكاء { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } قال: بكاء
القلب، من غير دموع العين.
وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز؛ وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة كما
أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله: { يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ } قال الرازي
والقرطبي وغيرهما من الأئمة: ولا حاجة إلى هذا فإن الله تعالى يخلق فيها هذه الصفة
كما في قوله تعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } الآية، وقال:
{ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } و { أَوَلَمْ يَرَوْا
إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ } الآية، { قَالَتَا
أَتَيْنَا طَائِعِينَ } { لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ } الآية،
{ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ
} الآية، وفي الصحيح: "هذا جبل يحبنا ونحبه"، وكحنين الجذع
المتواتر خبره، وفي صحيح مسلم: "إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن
أبعث إني لأعرفه الآن" وفي صفة الحجر الأسود أنه يشهد لمن استلمه بحق يوم
القيامة، وغير ذلك مما في معناه. وحكى القرطبي قولا أنها للتخيير؛ أي مثلا لهذا
وهذا وهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين.. وكذا حكاه الرازي في تفسيره وزاد قولا
آخر: إنها للإبهام بالنسبة إلى المخاطب كقول القائل أكلت خبزًا أو تمرًا، وهو يعلم
أيهما أكل، وقال آخر: إنها بمعنى قول القائل كل حلوًا أو حامضًا؛ أي لا يخرج عن
واحد منهما؛ أي وقلوبكم صارت كالحجارة أو أشد قسوة منها لا تخرج عن واحد من هذين الشيئين.
والله أعلم.
تنبيه:
اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى: { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ
أَشَدُّ قَسْوَةً } بعد الإجماع على استحالة كونها للشك، فقال بعضهم: "أو"
هاهنا بمعنى الواو، تقديره: فهي كالحجارة وأشد قسوة كقوله تعالى: { وَلا تُطِعْ
مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا } [الإنسان: 24] ، وكما قال النابغة الذبياني:
قالت ألا ليتما هذا الحمامُ لنا ... إلى حَمامتنا أو نِصفُه فَقدِ (2)
تريد: ونصفه، قاله ابن جرير. وقال جرير بن عطية:
نال الخِلافَةَ أو كانت له قدرًا ... كما أتى ربَّه مُوسى على قَدَرِ (3)
قال ابن جرير: يعني نال الخلافة، وكانت له قدرًا.
وحكى القرطبي قولا أنها للتخيير في مفهومها بهذا أو بهذا مثل جالس الحسن
أو ابن سيرين، وكذا حكاه فخر الدين في تفسيره وزاد قولا آخر وهو: أنها للإبهام وبالنسبة
إلى المخاطب، كقول القائل: أكلت خبزًا أو تمرا وهو يعلم أيهما أكل، وقولا آخر وهو
أنها بمعنى قول القائل: أكلي حلو أو حامض، أي: لا يخرج عن واحد منهما، أي: وقلوبكم
صارت في قسوتها كالحجارة أو أشد قسوة منها لا يخرج عن واحد من هذين الشيئين والله
أعلم.
وقال آخرون: "أو" هاهنا بمعنى بل، تقديره (4) فهي كالحجارة بل
أشد قسوة، وكقوله: { إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ
اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [النساء: 77]{ وَأَرْسَلْنَاهُ
إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [الصافات: 147]{
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } [النجم: 9] وقال آخرون: معنى (5) ذلك {
فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } عندكم. حكاه ابن
جرير.
وقال آخرون: المراد بذلك الإبهام على المخاطب، كما قال أبو الأسود:
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(2) البيت في تفسير الطبري (2/236).
(3) البيت في تفسير الطبري (2/236).
(4) في جـ، ط، ب: "فتقديره".
(5) في جـ: "بمعنى".
(1/305)
أحبّ محمدًا حُبا شديدًا ... وعبَّاسا وحمزةَ والوصيا (1)
فإن يك حُبّهم رشدا أصبه ... ولست (2) بمخطئ إن كان غيّا (3)
قال ابن جرير: قالوا: ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكًّا في أن حُبّ من
سَمَّى رَشَدٌ، ولكنه أبهم على من خاطبه، قال: وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال
هذه الأبيات قيل له: شككت؟ فقال: كلا والله. ثم انتزع بقول الله تعالى: { وَإِنَّا
أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } فقال: أوَ كان
شاكًّا من أخبر بهذا في الهادي منهم من الضلال (4) ؟
وقال بعضهم: معنى ذلك: فقلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين، إما أن
تكون مثل الحجارة في القسوة وإما أن تكون أشد منها قسوة.
قال ابن جرير: ومعنى ذلك على هذا التأويل: فبعضها كالحجارة قسوة، وبعضها
أشد قسوة من الحجارة. وقد رجحه ابن جرير مع توجيه غيره.
قلت: وهذا القول الأخير يبقى شبيها بقوله تعالى: {
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } [البقرة: 17] مع قوله: { أَوْ
كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ } [البقرة: 19] وكقوله: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا
أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } [النور: 39] مع قوله: { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي
بَحْرٍ لُجِّيٍّ } [النور: 40]، الآية أي: إن منهم من هو هكذا، ومنهم من هو هكذا، والله
أعلم.
قال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا
محمد بن أيوب، حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي الثلج، حدثنا علي بن حفص، حدثنا
إبراهيم بن عبد الله بن حاطب، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير
ذكر الله قسوة القلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي".
رواه الترمذي في كتاب الزهد من جامعه، عن محمد بن عبد الله بن أبي
الثلج، صاحب الإمام أحمد، به. ومن وجه آخر عن إبراهيم بن عبد الله بن الحارث بن
حاطب، به، وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم (5) .
[وروى البزار عن أنس مرفوعا: "أربع من الشقاء: جمود العين، وقسي
القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا" (6) ]. (7) .
__________
(1) في جـ، ط، ب: "أو عليا".
(2) في جـ، ط، ب: "وليس".
(3) البيتان في تفسير الطبري (2/235، 236).
(4) في جـ، ط، ب، و: "من الضال".
(5) سنن الترمذي برقم (2411) وأورده الإمام مالك في الموطأ (2/986) بلاغًا
عن عيس عليه السلام.
(6) مسند البزار برقم (3230) من طريق هانئ بن المتوكل، عن عبد الله بن
سليمان وأبان عن أنس به مرفوعًا، وقال البزار: "عبد الله بن سليمان حدث بأحاديث
لم يتابع عليها"، وقال الهيثمي في المجمع (10/226): "وفيه هانئ بن
المتوكل، وهو ضعيف".
(7) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(1/306)
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ
يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا
خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)
{ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ
يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا
وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ
اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) }
البقرة - تفسير ابن كثير
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ
يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا
مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ
النَّاظِرِينَ (69)
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } (1) .
وهذه السياقات [كلها] (2) عن عبيدة (3) وأبي العالية والسدي وغيرهم،
فيها اختلاف ما، والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل وهي مما يجوز نقلها (4) ولكن لا نصدق ولا
نكذب (5) فلهذا لا نعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا، والله أعلم.
{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ
يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ
فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا
مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ
لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) }
أخبر تعالى عن تعنت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم. ولهذا لما ضيقوا
على أنفسهم ضيق عليهم، ولو أنهم ذبحوا أي بقرة كانت لوقعت الموقع عنهم، كما قال ابن
عباس وعبيدة وغير واحد، ولكنهم شددوا فشدد عليهم، فقالوا: { ادْعُ لَنَا رَبَّكَ
يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ } ما هذه البقرة؟ وأي شيء صفتها؟
قال (6) ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا عثام (7) بن
علي، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لو أخذوا
أدنى بقرة اكتفوا بها، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم (8) .
إسناد صحيح، وقد رواه غير واحد عن ابن عباس. وكذا قال عبيدة، والسدي،
ومجاهد، وعكرمة، وأبو العالية وغير واحد.
وقال ابن جريج: قال [لي] (9) عطاء: لو أخذوا أدنى بقرة كفتهم. قال ابن
جريج:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أمروا بأدنى بقرة، ولكنهم
لما شددوا على أنفسهم شدد الله عليهم؛ وايم الله لو أنهم لم يستثنوا ما بينت لهم
آخر الأبد" (10) .
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ } أي:
لا كبيرة هرمة ولا صغيرة لم يلحقها (11)
__________
(1) ورواه الطبري في تفسيره (2/188) من طريق سنيد.
(2) زيادة من جـ.
(3) في أ: "أبي عبيدة".
(4) في أ: "فعله".
(5) في ط، ب: "لا تصدق ولا تكذب".
(6) في ط: "وقال".
(7) في جـ: "هشام".
(8) تفسير الطبري (2/204).
(9) زيادة من جـ، ط، ب، و.
(10) رواه الطبري في تفسيره (2/205).
(11) في جـ، ط: "يلقحها"، وفي أ: "ينكحها".
(1/298)
الفحل، كما قاله أبو العالية، والسدي، ومجاهد، وعكرمة، وعطية العوفي،
وعطاء الخراساني (1) ووهب بن منبه، والضحاك، والحسن، وقتادة، وقاله ابن عباس أيضًا.
وقال الضحاك، عن ابن عباس { عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } [يقول: نصف] (2) بين الكبيرة والصغيرة،
وهي أقوى ما يكون من الدواب والبقر وأحسن ما تكون. وروي عن عكرمة، ومجاهد، وأبي
العالية، والربيع بن أنس، وعطاء الخراساني، والضحاك نحو ذلك.
وقال السدي: العوان: النصف التي بين ذلك التي ولدت، وولد ولدها.
وقال هشيم، عن جويبر، عن كثير بن زياد، عن الحسن في البقرة: كانت بقرة
وحشية.
وقال ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس: من لبس نعلا صفراء لم يزل في سرور
ما دام لابسها، وذلك قوله (3) تعالى: { صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ
} وكذا قال مجاهد، ووهب بن منبه أنها كانت صفراء.
وعن ابن عمر: كانت صفراء الظلف. وعن سعيد بن جبير: كانت صفراء القرن
والظلف.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا نصر بن علي، حدثنا نوح بن قيس،
أنبأنا أبو رجاء، عن الحسن في قوله: { بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا } قال: سوداء شديدة
السواد.
وهذا غريب، والصحيح الأول، ولهذا أكد صفرتها بأنه { فَاقِعٌ لَوْنُهَا }
وقال عطية العوفي: { فَاقِعٌ لَوْنُهَا } تكاد تسود من صفرتها.
وقال سعيد بن جبير: { فَاقِعٌ لَوْنُهَا } قال: صافية اللون. وروى عن
أبي العالية، والربيع بن أنس، والسدي، والحسن، وقتادة نحوه.
وقال شريك، عن مَغْراء (4) عن ابن عمر: { فَاقِعٌ لَوْنُهَا } قال: صاف
(5)
.
وقال العوفي في تفسيره، عن ابن عباس: { فَاقِعٌ لَوْنُهَا } شديدة
الصفرة، تكاد من صفرتها تبيض.
وقال السدي: { تَسُرُّ النَّاظِرِينَ } أي: تعجب الناظرين (6) وكذا قال
أبو العالية، وقتادة، والربيع بن أنس.
[وفي التوراة: أنها كانت حمراء، فلعل هذا خطأ في التعريب أو كما قال
الأول: إنها كانت شديدة الصفرة تضرب إلى حمرة وسواد،
والله أعلم] (7) .
__________
(1) في جـ: "الخراساني وسيأتي".
(2) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(3) في جـ، ب: "قول الله تعالى"، وفي ط: "قول الله.
(4) في أ: "عن ابن عباس".
(5) في جـ، ط، ب: "صافي".
(6) في جـ: "أي تعجبهم".
(7) زيادة من جـ، ط، ب، و.
(1/299)
وقال وهب بن منبه: إذا نظرت إلى جلدها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من
جلدها.
(1/300)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ
تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ
إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ
مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا
وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ
تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) }
وقوله: { إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } أي:
لكثرتها، فميز لنا هذه البقرة وصفها وحِلَّها لنا { وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ }
إذا بينتها لنا { لَمُهْتَدُونَ } إليها.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن يحيى الأودي (1) الصوفي، حدثنا
أبو سعيد أحمد بن داود الحداد، حدثنا سرور بن المغيرة الواسطي، ابن أخي منصور بن
زاذان، عن عباد بن منصور، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن بني إسرائيل قالوا: { وَإِنَّا إِن شَاءَ
اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } لما أعطوا، ولكن استثنوا" (2) .
ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من وجه آخر، عن سرور بن
المغيرة، عن (3) زاذان، عن عباد بن منصور، عن الحسن، عن حديث أبي رافع، عن أبي
هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن بني
إسرائيل قالوا: { وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } ما أعطوا أبدًا،
ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوا لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا، فشدد الله
عليهم" (4) .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة،
كما تقدم مثله (5) عن السدي، والله أعلم.
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ
وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ
فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) }
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ
وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ } أي: إنها ليست مذللة بالحراثة ولا معدة للسقي في السانية،
بل هي مكرمة حسنة صبيحة { مُسَلَّمَةٌ } صحيحة لا عيب فيها { لا شِيَةَ فِيهَا }
أي: ليس فيها لون غير لونها.
وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة { مُسَلَّمَةٌ } يقول: لا عيب فيها،
وكذا قال أبو العالية والربيع، وقال مجاهد { مُسَلَّمَةٌ } من الشية.
وقال عطاء الخراساني: { مُسَلَّمَةٌ }
القوائم والخلق { لا شِيَةَ فِيهَا } قال مجاهد: لا بياض ولا سواد. وقال أبو
العالية والربيع، والحسن وقتادة: ليس فيها بياض. وقال عطاء الخراساني: { لا شِيَةَ
فِيهَا } قال: لونها واحد بهيم. وروي عن عطية العوفي، ووهب بن منبه، وإسماعيل بن
أبي خالد، نحو ذلك. وقال السدي: { لا شِيَةَ فِيهَا } من بياض ولا سواد ولا حمرة،
وكل هذه الأقوال متقاربة [في المعنى، وقد زعم بعضهم أن المعنى في ذلك قوله تعالى:
{ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ } ليست بمذللة بالعمل ثم استأنف فقال: { تُثِيرُ
الأرْضَ } أي: يعمل عليها بالحراثة لكنها لا تسقي الحرث، وهذا ضعيف؛
لأنه فسر الذلول التي لم تذلل بالعمل بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث كذا قرره
القرطبي وغيره] (6)
__________
(1) في جـ، ط: "الأزدي".
(2) تفسير ابن أبي حاتم (1/223).
(3) في جـ، ط، ب: "بن".
(4) قال الحافظ ابن حجر: "فيه عباد بن منصور وهو ضعيف".
(5) في جـ، ط: "نقله".
(6) زيادة من جـ، ط، ب، أ.
(1/300)
{ قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } قال قتادة: الآن بَيَّنْتَ لنا، وقال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: وقبل ذلك -والله (1) -قد جاءهم الحق.
{ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } قال الضحاك، عن ابن عباس:
كادوا ألا يفعلوا، ولم يكن ذلك الذي أرادوا، لأنهم أرادوا ألا يذبحوها.
يعني أنَّهم مع هذا البيان (2) وهذه الأسئلة، والأجوبة، والإيضاح ما
ذبحوها إلا بعد الجهد، وفي هذا ذم لهم، وذلك أنه لم يكن غرضهم إلا التعنت، فلهذا
ما كادوا يذبحونها.
وقال محمد بن كعب، ومحمد بن قيس: { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا
يَفْعَلُونَ } لكثرة ثمنها.
وفي هذا نظر؛ لأن كثرة ثمنها لم يثبت إلا من نقل بني إسرائيل، كما تقدم
من حكاية أبي العالية والسدي، ورواه العوفي عن ابن عباس. وقال عبيدة، ومجاهد، ووهب
بن منبه، وأبو العالية، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إنهم اشتروها بمال كثير (3)
وفيه اختلاف، ثم قد قيل في ثمنها غير ذلك. وقال عبد الرزاق: أنبأنا ابن
عيينة، أخبرني محمد بن سوقة، عن عكرمة، قال: ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير (4)
وهذا إسناد جيد عن عكرمة، والظاهر أنه نقله عن أهل الكتاب أيضًا.
وقال ابن جرير: وقال آخرون: لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة، إن
اطلع الله على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه.
ولم يسنده عن أحد، ثم اختار أن الصواب في ذلك أنهم لم يكادوا يفعلوا ذلك
لغلاء ثمنها، وللفضيحة. وفي هذا نظر، بل الصواب -والله أعلم-ما تقدم من رواية الضحاك،
عن ابن عباس، على ما وجهناه. وبالله التوفيق.
مسألة: استدل بهذه الآية في حصر صفات هذه البقرة حتى تعينت أو تم
تقييدها بعد الإطلاق على صحة السلم في الحيوان كما هو مذهب مالك والأوزاعي والليث
والشافعي وأحمد وجمهور العلماء سلفًا وخلفًا بدليل ما ثبت في الصحيحين عن النبي
صلى الله عليه وسلم: "لا تنعت المرأةُ المرأةَ لزوجها كأنه ينظر إليها"
(5) . وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم إبل الدية في قتل الخطأ وشبه العمد
بالصفات المذكورة بالحديث، وقال أبو حنيفة والثوري والكوفيون: لا يصح السلم في الحيوان
لأنه لا تنضبط أحواله، وحكى مثله عن ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعبد الرحمن بن
سمرة وغيرهم.
__________
(1) في جـ، ط: "والله أعلم".
(2) في جـ: "الشأن".
(3) في ب: "بثمن كثير".
(4) تفسير عبد الرزاق (1/71).
(5) صحيح البخاري برقم (5241).
(1/301)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ
مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي
اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ
مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي
اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) }
قال البخاري: { فَادَّارَأْتُمْ } اختلفتم. وهكذا قال مجاهد فيما رواه
ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن أبي حذيفة، عن شبْل عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، أنه
قال في قوله تعالى: { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا } اختلفتم.
وقال عطاء الخراساني، والضحاك: اختصمتم فيها.
وقال ابن جريج { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا } قال: قال
بعضهم أنتم قتلتموه.
وقال آخرون: بل أنتم قتلتموه. وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
{ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } قال مجاهد: ما تُغَيبُون. وقال ابن أبي
حاتم: حدثنا عمرو بن مسلم البصري، حدثنا محمد بن الطفيل العبدي، حدثنا صدقة بن
رستم، سمعت المسيب بن رافع يقول: ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله،
وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وتصديق ذلك في كلام الله: {
وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ* فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا }
هذا البعض أيُّ شيء كان من أعضاء هذه البقرة فالمعجزة حاصلة به.
وخرق العادة به كائن، وقد كان معينا في نفس الأمر، فلو كان في تعيينه
لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبينه الله تعالى لنا، ولكن أبهمه،
ولم يجئ من طريق صحيح عن معصوم بيانه (1) فنحن نبهمه كما أبهمه الله.
ولهذا قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن
سنان، حدثنا عفَّان بن مسلم، حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الأعمش، عن المنهال
بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إن أصحاب بقرة بني إسرائيل طلبوها
أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل في بقر له، وكانت بقرة تعجبه، قال: فجعلوا يعطونه
بها فيأبى، حتى أعطوه ملء مَسْكها دنانير، فذبحوها، فضربوه -يعني القتيل-بعضو
منها، فقام تَشْخُب أوداجه دمًا [فسألوه] (2)
فقالوا له: من قتلك؟ قال: (3) قتلني فلان (4) .
وكذا قال الحسن، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إنه ضرب ببعضها.
وفي رواية عن ابن عباس: إنهم ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمَر، قال: قال أيوب، عن ابن سيرين، عن
عبيدة: ضربوا القتيل ببعض لحمها. وقال معمر: قال قتادة:
فضربوه بلحم فخذها فعاش، فقال: قتلني فلان.
وقال أبو أسامة، عن النضر بن عربي، عن عكرمة: { فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ
بِبَعْضِهَا } [قال] (5) فضرب
__________
(1) في جـ: "عن معصوم حدثنا به".
(2) زيادة من جـ.
(3) في جـ: "فقال".
(4) تفسير ابن أبي حاتم (1/229).
(5) زيادة من جـ، أ، و.
(1/302)
بفخذها فقام، فقال: قتلني فلان.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد، وقتادة، نحو ذلك.
وقال السدي: فضربوه بالبَضْعة التي بين الكتفين فعاش، فسألوه، فقال:
قتلني ابن أخي.
وقال أبو العالية: أمرهم موسى، عليه السلام، أن يأخذوا عظمًا من عظامها،
فيضربوا به القتيل، ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمى لهم قاتله ثم عاد ميتا كما كان.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: فضربوه ببعض آرابها [وقيل: بلسانها،
وقيل: بعجب ذنبها] (1) .
وقوله: { كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى } أي:
فضربوه فحيى. ونَبَّه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل:
جعل تبارك وتعالى ذلك الصنع حجة لهم على المعاد، وفاصلا ما كان بينهم من الخصومة
والفساد (2) ،
والله تعالى قد ذكر في هذه السورة ما خلقه في (3) إحياء الموتى، في خمسة مواضع: {
ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ } [البقرة: 56]. وهذه القصة، وقصة
الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وقصة الذي مرَّ على قرية وهي خاوية على
عروشها، وقصة إبراهيم والطيور الأربعة.
ونبه تعالى بإحياء الأرض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها (4)
رميما، كما قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، أخبرني يعلى بن عطاء، قال: سمعت وَكِيع
بن عُدُس، يحدث عن أبي رَزِين العُقَيلي، قال: قلت: يا رسول الله، كيف يحيي الله
الموتى؟ قال: "أما مررت بواد مُمْحِل، ثم مررت به خَضِرًا؟" قال: بلى. قال:
"كذلك النشور". أو قال: "كذلك يحيي الله الموتى" (5) . وشاهد هذا قوله
تعالى: { وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا
مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ* وَجَعَلْنَا
فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُون*
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ }
[يس:33-35] .
مسألة: استدل لمذهب مالك في كون قول الجريح: فلان قتلني لوثًا بهذه القصة؛
لأن القتيل لما حيي سئل عمن قتله فقال: قتلني فلان، فكان ذلك مقبولا منه؛ لأنه لا
يخبر حينئذ إلا بالحق، ولا يتهم والحالة هذه، ورجحوا ذلك بحديث أنس: أن يهوديًا
قتل جارية على أوضاح لها، فرضخ رأسها بين حجرين فقيل: من فعل بك هذا؟ أفلان؟
أفلان؟ حتى ذكر اليهودي، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي، فلم يزل به حتى اعترف، فأمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد رأسه بين حجرين (6) وعند مالك: إذا كان لوثًا
حلف أولياء القتيل قسامة، وخالف الجمهور في ذلك ولم يجعلوا قول القتيل في
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(2) في جـ، ط، ب، أ، و: "والعناد".
(3) في جـ، ط، ب، أ، و: "من".
(4) في جـ، ط، ب، أ، و: "بعد صيرورتها".
(5) مسند الطيالسي برقم (1089).
(6) رواه البخاري في صحيحه برقم (6885).
(1/303)
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ
أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ
وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا
لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
(74)
ذلك لوثًا.
{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ
أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ
الأنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا
لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
(74)
}
يقول تعالى توبيخًا لبني إسرائيل، وتقريعًا لهم على ما شاهدوه من آيات
الله تعالى، وإحيائه الموتى: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } كله
{ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ } التي لا تلين أبدًا. ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل
حالهم فقال: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ
لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نزلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } [الحديد: 16].
وقال العوفي، في تفسيره، عن ابن عباس: لما ضُرب المقتول ببعض البقرة جلس
أحيا ما كان قط، فقيل له: من قتلك؟ فقال: بنو أخي قتلوني. ثم قبض. فقال بنو أخيه
حين قبض: والله ما قتلناه، فكذبوا بالحق بعد إذا رأوا (1) . فقال (2) الله: {
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } يعني: بني (3) أخي الشيخ { فَهِيَ
كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } فصارت قلوب بني (4) إسرائيل مع طول الأمد
قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات فهي في قسوتها كالحجارة
التي لا علاج للينها أو أشد قسوة من الحجارة، فإن من الحجارة ما تتفجر منها العيون
الجارية بالأنهار، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء، وإن لم يكن جاريا، ومنها ما
يهبط من رأس الجبل من خشية الله، وفيه إدراك لذلك بحسبه، كما قال: { تُسَبِّحُ
لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ
حَلِيمًا غَفُورًا } [الإسراء: 44].
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد أنه كان يقول: كل حجر يتفجر منه الماء،
أو يتشقق عن ماء، أو يتردى من رأس جبل، لمن خشية الله، نزل بذلك القرآن.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير،
عن ابن عباس: { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ
وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا
لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } أي وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عَمَّا
تدعون إليه من الحق { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }
[وقال أبو علي الجبائي في تفسيره: { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ
خَشْيَةِ اللَّهِ } هو سقوط البرد من
__________
(1) في أ، و "إذ رأوه".
(2) في جـ: "ثم قال".
(3) في أ، و: "يعني ابن".
(4) في جـ: "قلوب بنوا" وهو خطأ.
(1/304)
السحاب. قال القاضي الباقلاني: وهذا تأويل بعيد وتبعه في
استبعاده فخر الدين الرازي وهو كما قالا؛ فإن هذا خروج عن ظاهر اللفظ بلا دليل،
والله أعلم] (1) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا الحكم بن هشام
الثقفي، حدثني يحيى بن أبي طالب -يعني يحيى بن يعقوب-في قوله تعالى: { وَإِنَّ
مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ } قال: هو كثرة
البكاء { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ } قال:
قليل البكاء { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } قال: بكاء
القلب، من غير دموع العين.
وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز؛ وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة كما
أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله: { يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ } قال الرازي
والقرطبي وغيرهما من الأئمة: ولا حاجة إلى هذا فإن الله تعالى يخلق فيها هذه الصفة
كما في قوله تعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } الآية، وقال:
{ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } و { أَوَلَمْ يَرَوْا
إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ } الآية، { قَالَتَا
أَتَيْنَا طَائِعِينَ } { لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ } الآية،
{ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ
} الآية، وفي الصحيح: "هذا جبل يحبنا ونحبه"، وكحنين الجذع
المتواتر خبره، وفي صحيح مسلم: "إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن
أبعث إني لأعرفه الآن" وفي صفة الحجر الأسود أنه يشهد لمن استلمه بحق يوم
القيامة، وغير ذلك مما في معناه. وحكى القرطبي قولا أنها للتخيير؛ أي مثلا لهذا
وهذا وهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين.. وكذا حكاه الرازي في تفسيره وزاد قولا
آخر: إنها للإبهام بالنسبة إلى المخاطب كقول القائل أكلت خبزًا أو تمرًا، وهو يعلم
أيهما أكل، وقال آخر: إنها بمعنى قول القائل كل حلوًا أو حامضًا؛ أي لا يخرج عن
واحد منهما؛ أي وقلوبكم صارت كالحجارة أو أشد قسوة منها لا تخرج عن واحد من هذين الشيئين.
والله أعلم.
تنبيه:
اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى: { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ
أَشَدُّ قَسْوَةً } بعد الإجماع على استحالة كونها للشك، فقال بعضهم:
"أو" هاهنا بمعنى الواو، تقديره: فهي كالحجارة وأشد قسوة كقوله تعالى: {
وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا } [الإنسان: 24] ، وكما قال النابغة
الذبياني:
قالت ألا ليتما هذا الحمامُ لنا ... إلى حَمامتنا أو نِصفُه فَقدِ (2)
تريد: ونصفه، قاله ابن جرير. وقال جرير بن عطية:
نال الخِلافَةَ أو كانت له قدرًا ... كما أتى ربَّه مُوسى على قَدَرِ (3)
قال ابن جرير: يعني نال الخلافة، وكانت له قدرًا.
وحكى القرطبي قولا أنها للتخيير في مفهومها بهذا أو بهذا مثل جالس الحسن
أو ابن سيرين، وكذا حكاه فخر الدين في تفسيره وزاد قولا آخر وهو: أنها للإبهام وبالنسبة
إلى المخاطب، كقول القائل: أكلت خبزًا أو تمرا وهو يعلم أيهما أكل، وقولا آخر وهو
أنها بمعنى قول القائل: أكلي حلو أو حامض، أي: لا يخرج عن واحد منهما، أي: وقلوبكم
صارت في قسوتها كالحجارة أو أشد قسوة منها لا يخرج عن واحد من هذين الشيئين والله
أعلم.
وقال آخرون: "أو" هاهنا بمعنى بل، تقديره (4) فهي كالحجارة بل
أشد قسوة، وكقوله: { إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ
اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [النساء: 77]{
وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [الصافات: 147]{
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } [النجم: 9] وقال آخرون: معنى (5) ذلك {
فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } عندكم. حكاه ابن
جرير.
وقال آخرون: المراد بذلك الإبهام على المخاطب، كما قال أبو الأسود:
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(2) البيت في تفسير الطبري (2/236).
(3) البيت في تفسير الطبري (2/236).
(4) في جـ، ط، ب: "فتقديره".
(5) في جـ: "بمعنى".
(1/305)
أحبّ محمدًا حُبا شديدًا ... وعبَّاسا وحمزةَ والوصيا (1)
فإن يك حُبّهم رشدا أصبه ... ولست (2) بمخطئ إن كان غيّا (3)
قال ابن جرير: قالوا: ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكًّا في أن حُبّ من
سَمَّى رَشَدٌ، ولكنه أبهم على من خاطبه، قال: وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال
هذه الأبيات قيل له: شككت؟ فقال: كلا والله. ثم انتزع بقول الله تعالى: { وَإِنَّا
أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } فقال: أوَ كان
شاكًّا من أخبر بهذا في الهادي منهم من الضلال (4) ؟
وقال بعضهم: معنى ذلك: فقلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين، إما أن
تكون مثل الحجارة في القسوة وإما أن تكون أشد منها قسوة.
قال ابن جرير: ومعنى ذلك على هذا التأويل: فبعضها كالحجارة قسوة، وبعضها
أشد قسوة من الحجارة. وقد رجحه ابن جرير مع توجيه غيره.
قلت: وهذا القول الأخير يبقى شبيها بقوله تعالى: {
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } [البقرة: 17] مع قوله: { أَوْ
كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ } [البقرة: 19] وكقوله: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا
أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } [النور: 39] مع قوله: { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي
بَحْرٍ لُجِّيٍّ } [النور: 40]، الآية أي: إن منهم من هو هكذا، ومنهم من هو هكذا، والله
أعلم.
قال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا
محمد بن أيوب، حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي الثلج، حدثنا علي بن حفص، حدثنا
إبراهيم بن عبد الله بن حاطب، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير
ذكر الله قسوة القلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي".
رواه الترمذي في كتاب الزهد من جامعه، عن محمد بن عبد الله بن أبي
الثلج، صاحب الإمام أحمد، به. ومن وجه آخر عن إبراهيم بن عبد الله بن الحارث بن
حاطب، به، وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم (5) .
[وروى البزار عن أنس مرفوعا: "أربع من الشقاء: جمود العين، وقسي
القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا" (6) ]. (7) .
__________
(1) في جـ، ط، ب: "أو عليا".
(2) في جـ، ط، ب: "وليس".
(3) البيتان في تفسير الطبري (2/235، 236).
(4) في جـ، ط، ب، و: "من الضال".
(5) سنن الترمذي برقم (2411) وأورده الإمام مالك في الموطأ (2/986) بلاغًا
عن عيس عليه السلام.
(6) مسند البزار برقم (3230) من طريق هانئ بن المتوكل، عن عبد الله بن
سليمان وأبان عن أنس به مرفوعًا، وقال البزار: "عبد الله بن سليمان حدث بأحاديث
لم يتابع عليها"، وقال الهيثمي في المجمع (10/226): "وفيه هانئ بن
المتوكل، وهو ضعيف".
(7) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(1/306)
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ
يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا
خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)
{ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ
يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا
وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ
اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) }
أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا
يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ
الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ
لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا
كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا
النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا
فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ
أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ
حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا
قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
البقرة - تفسير ابن كثير
أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا
يُعْلِنُونَ (77)
{ أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا
يُعْلِنُونَ (77) }
يقول تعالى: { أَفَتَطْمَعُونَ } أيها المؤمنون { أَنْ يُؤْمِنُوا
لَكُمْ } أي: ينقاد (1) لكم بالطاعة، هؤلاء الفرقة الضالة من
اليهود، الذين شاهد آباؤهم (2) من الآيات البينات ما شاهدوه (3) ثم قست قلوبهم
من بعد ذلك { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ
يُحَرِّفُونَهُ } أي: يتأولونه على غير تأويله { مِنْ بَعْدِ مَا
عَقَلُوهُ } أي: فهموه على الجلية ومع هذا يخالفونه على بصيرة { وَهُمْ
يَعْلَمُونَ } أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله؟ وهذا المقام شبيه
بقوله تعالى: { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ
وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ }
[المائدة: 13]. (4) .
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير،
عن ابن عباس أنه قال: ثم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولمن معه من المؤمنين
يؤيسهم منهم: { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ
مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ } وليس قوله: { يَسْمَعُونَ
كَلامَ اللَّهِ } يسمعون التوراة. كلهم قد سمعها. ولكن الذين سألوا موسى رؤية ربهم
فأخذتهم الصاعقة فيها.
قال محمد بن إسحاق: فيما حدثني بعض أهل العلم أنهم قالوا لموسى: يا
موسى، قد حيل بيننا وبين رؤية الله تعالى، فأسمعنا كلامه حين يكلمك. فطلب ذلك موسى
إلى ربه تعالى فقال: نعم، مُرْهم فليتطهروا، وليطهروا ثيابهم ويصوموا
ففعلوا، ثم خرج بهم حتى أتوا الطور، فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى أن يسجدوا،
فوقعوا سجودًا، وكلمه ربه تعالى، فسمعوا (5) كلامه يأمرهم وينهاهم، حتى عقلوا عنه
ما سمعوا. ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل، فلما جاءوهم حَرَّف فريق منهم ما أمرهم
به، وقالوا حين قال موسى لبني إسرائيل: إن الله قد أمركم بكذا وكذا. قال ذلك الفريق
الذين ذكرهم الله: إنما قال كذا وكذا خلافًا لما قال الله عز وجل لهم، فهم الذين
عنى الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.
وقال السدي: { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ
اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } قال: هي التوراة، حرفوها.
وهذا الذي ذكره السدي أعم مما ذكره ابن عباس وابن إسحاق، وإن كان قد
اختاره ابن جرير لظاهر السياق. فإنه ليس يلزم من سماع كلام الله أن يكون منه (6)
كما سمعه الكليم موسى بن
__________
(1) في جـ، ط: "ينقادوا".
(2) في جـ: "ما آتاهم".
(3) في ط: "مما شاهدوه".
(4) في أ: "من بعد" وهو خطأ.
(5) في جـ، ط، ب: "فلما سمعوا".
(6) في جـ: "لمن يكون منه" ، وفي ط: "لمن تكون منه".
(1/307)
عمران، عليه الصلاة والسلام (1) ، وقد قال الله تعالى: { وَإِنْ أَحَدٌ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ } [التوبة: 6]، أي:
مبلَّغًا إليه؛ ولهذا قال قتادة في قوله: { ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا
عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } قال: هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه
من بعد ما عقلوه ووعوه.
وقال مجاهد: الذين يحرفونه والذين يكتمونه هم العلماء منهم.
وقال أبو العالية: عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم، من نعت (2) محمد
صلى الله عليه وسلم، فحرفوه عن مواضعه.
وقال السدي: { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أي أنهم أذنبوا. وقال ابن وهب: قال
ابن زيد في قوله: { يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } قال: التوراة التي
أنزلها الله عليهم يحرفونها يجعلون الحلال فيها حرامًا، والحرام فيها حلالا والحق
فيها باطلا والباطل فيها حقًا؛ إذا جاءهم المحق برشوة أخرجوا له كتاب الله، وإذا
جاءهم المبطل (3) برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب، فهو فيه محق، وإن جاءهم أحد يسألهم
شيئًا ليس فيه حق، ولا رشوة، ولا شيء، أمروه بالحق، فقال الله لهم: {
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ
تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ } [البقرة: 44].
وقوله: { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا } الآية .
قال محمد بن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير،
عن ابن عباس: { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا } أي بصاحبكم رسول
الله، ولكنه إليكم خاصة. { وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا } لا
تحدثوا العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم، فكان منهم. فأنزل الله: {
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى
بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ } أي: تقرون بأنه نبي،
وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا
ننتظر، ونجد في كتابنا. اجحدوه ولا تقروا به. يقول الله تعالى:
{ أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } .
وقال الضحاك، عن ابن عباس: يعني المنافقين من اليهود كانوا إذا لقوا
أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا.
وقال السدي: هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا. وكذا قال الربيع بن
أنس، وقتادة وغير واحد من السلف والخلف، حتى قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فيما
رواه ابن وهب عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: "لا يدخلن (4)
علينا قصبة المدينة إلا مؤمن". فقال رؤساؤهم (5) من أهل الكفر والنفاق:
اذهبوا فقولوا: آمنا، واكفروا إذا رجعتم إلينا، فكانوا يأتون المدينة بالبُكَر،
ويرجعون إليهم بعد العصر. وقرأ قول الله تعالى: { وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزلَ عَلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [آل
عمران: 72]
__________
(1) في جـ: "كما سمعه الكليم عليه السلام"، وفي ط: "كما سمعه
الكليم موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام".
(2) في جـ، ط: "من نص".
(3) في جـ: "الباطل".
(4) في جـ: "لا يدخل".
(5) في جـ: "فقال رؤسائهم" وهو خطأ.
(1/308)
وكانوا يقولون، إذا دخلوا المدينة: نحن مسلمون. ليعلموا خبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأمره. فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر. فلما أخبر الله نبيه صلى الله
عليه وسلم قطع ذلك عنهم فلم يكونوا يدخلون. وكان المؤمنون يظنون أنهم مؤمنون (1)
فيقولون: أليس قد قال الله لكم كذا وكذا؟ فيقولون: بلى. فإذا رجعوا إلى قومهم
[يعني الرؤساء] (2) قالوا: { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
} الآية (3) .
وقال أبو العالية: { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ } يعني: بما أنزل الله عليكم في كتابكم من نعت (4) محمد صلى الله عليه
وسلم.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا
فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ } قال: كانوا
يقولون: سيكون نبي. فخلا بعضهم ببعض (5) فقالوا: {
أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } (6) .
قول آخر في المراد بالفتح: قال ابن جُرَيج: حدثني القاسم بن
أبي بَزَّة، عن مجاهد، في قوله تعالى: { أَتُحَدِّثُونَهُمْ
بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة
تحت حصونهم، فقال: "يا إخوان (7) القردة والخنازير، ويا عبدة الطاغوت"،
فقالوا: من أخبر بهذا (8) الأمر محمدًا؟ ما خرج هذا القول (9) إلا منكم {
أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } بما حكم الله، للفتح، ليكون
لهم حجة عليكم. قال ابن جريج، عن مجاهد: هذا حين أرسل إليهم عليا (10) فآذوا
محمدًا صلى الله عليه وسلم.
وقال السدي: { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } من
العذاب { لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ } هؤلاء
ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا وكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عُذِّبوا به.
فقال بعضهم لبعض: { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ } من العذاب، ليقولوا: نحن أحب إلى الله منكم، وأكرم على الله منكم.
وقال عطاء الخراساني: { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ } يعني: بما قضى [الله] (11) لكم وعليكم.
وقال الحسن البصري: هؤلاء اليهود، كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا:
آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض، قال بعضهم: لا تحدثوا أصحاب محمد بما فتح الله عليكم
مما في كتابكم، فيحاجوكم (12) به عند ربكم، فيخصموكم.
__________
(1) في جـ: "أنهم يؤمنون".
(2) زيادة من جـ، ب، أ، و.
(3) رواه الطبري في تفسيره (2/254) عن يونس عن ابن وهب به.
(4) في أ: "من بعث".
(5) في جـ، ط، ب: "فخلا بعضهم ببعض".
(6) تفسير عبد الرزاق (1/71).
(7) في جـ: "أيا إخوان".
(8) في جـ، ط، ب: "من أخبر هذا".
(9) في أ، و: "هذا الأمر".
(10) في جـ: "حين أرسل عليًا إليهم".
(11) زيادة من جـ، أ.
(12) في جـ، ط، ب: "ليحاجوكم".
(1/309)
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ
وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ
ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا
فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ
(79)
وقوله: { أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ
وَمَا يُعْلِنُونَ } قال أبو العالية: يعني ما أسروا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه
وسلم وتكذيبهم به، وهو (1) يجدونه مكتوبًا عندهم. وكذا قال قتادة.
وقال الحسن: { أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ } قال: كان ما
أسروا أنهم كانوا إذا تولوا عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وخلا بعضهم إلى بعض،
تناهوا أن يخبر أحد (2) منهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما فتح الله
عليهم مما في كتابهم، خشيةَ أن يحاجهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما في
كتابهم عند (3) ربهم. { وَمَا يُعْلِنُونَ } يعني: حين قالوا
لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: آمنا. وكذا قال أبو العالية، والربيع، وقتادة .
{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ
وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ
بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ
ثَمَنًا قَلِيلا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا
يَكْسِبُونَ (79) }
يقول تعالى: { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ } أي: ومن أهل الكتاب،
قاله مجاهد: والأميون جمع أمي، وهو: الرجل الذي لا يحسن الكتابة، قاله أبو
العالية، والربيع، وقتادة، وإبراهيم النَّخَعي، وغير واحد (4) وهو ظاهر في قوله
تعالى: { لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ [إِلا أَمَانِيَّ] } (5) أي: لا يدرون ما فيه.
ولهذا في صفات النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمي؛ لأنه لم يكن يحسن الكتابة، كما
قال تعالى: { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ
بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } [العنكبوت: 48] وقال عليه الصلاة
والسلام: "إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا"
الحديث. أي: لا نفتقر في عباداتنا ومواقيتها إلى كتاب ولا حساب وقال تعالى: { هُوَ
الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ } [الجمعة: 2] .
وقال ابن جرير: نسبت العرب من لا يكتب ولا يَخُط من الرجال إلى أمِّه في
جهله بالكتاب دون أبيه، قال: وقد روي عن ابن عباس، رضي الله عنهما (6) قول خلاف هذا،
وهو ما حدثنا به أبو كُرَيب: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق،
عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله: { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ } قال: الأميون قوم
لم يصدِّقوا رسولا أرسله الله، ولا كتابًا أنزله الله، فكتبوا كتابًا بأيديهم، ثم
قالوا لقوم سَفلة جُهَّال: { هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } وقال: قد أخبر أنهم
يكتبون بأيديهم، ثم سماهم أميين، لجحودهم كتب الله ورسله. ثم قال ابن جرير: وهذا
التأويل (7) على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم. وذلك أن الأمي عند
العرب: الذي لا يكتب (8) .
قلت: ثم في صحة هذا عن ابن عباس، بهذا الإسناد، نظر. والله أعلم.
__________
(1) في جـ، ط، ب، أ، و: "وهم".
(2) في جـ: "يخبروا واحدًا"، وفي أ: "يخبروا أحد".
(3) في جـ: "وعند".
(4) في أ: "وإبراهيم النخغي وغيرهم".
(5) زيادة من جـ، ط، ب.
(6) في ط: "رضي الله عنه".
(7) في جـ، ط، ب، أ، و: "وهذا التأويل تأويل".
(8) تفسير الطبري (2/259).
(1/310)
قوله (1) تعالى: { إِلا أَمَانِيَّ } قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: {
إِلا أَمَانِيَّ } إلا أحاديث.
وقال الضحاك، عن ابن عباس، في قوله: { إِلا أَمَانِيَّ } يقول: إلا قولا
يقولونه بأفواههم كذبًا. وقال مجاهد: إلا كذبًا. وقال سنيد، عن حجاج، عن ابن جريج
عن مجاهد: { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ }
قال: أنَاس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئًا، وكانوا يتكلمون بالظن (2)
بغير ما في كتاب الله، ويقولون: هو من الكتاب، أمانيّ يتمنونها. وعن الحسن البصري،
نحوه.
وقال أبو العالية، والربيع وقتادة: { إِلا أَمَانِيَّ } يتمنون على الله
ما ليس لهم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: { إِلا أَمَانِيَّ } قال: تمنوا
فقالوا: نحن من أهل الكتاب. وليسوا منهم.
قال ابن جرير: والأشبه بالصواب قول الضحاك عن ابن عباس، وقال مجاهد: إن الأميين
الذين وصفهم الله أنهم لا يفقهون من الكتاب -الذي أنزل (3) الله على موسى -شيئًا،
ولكنهم يَتَخَرَّصُون الكذب ويتخرصون الأباطيل كذبًا وزورًا. والتمني في هذا
الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه. ومنه الخبر المروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه:
"ما تغنيت ولا تمنيت". يعني ما تخرصت الباطل ولا اختلقت الكذب (4) .
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير،
عن ابن عباس: { لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا
يَظُنُّونَ } ولا يدرون ما فيه، وهم يجحدون (5) نبوتك بالظن.
وقال مجاهد: { وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ } يكذبون.
وقال قتادة: وأبو العالية، والربيع: يظنون الظنون بغير الحق.
وقوله: { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ
بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ
ثَمَنًا قَلِيلا } الآية: هؤلاء صنف (6) آخر من اليهود، وهم الدعاة
إلى الضلال بالزور والكذب على الله، وأكل أموال الناس بالباطل.
والويل: الهلاك والدمار، وهي كلمة مشهورة في اللغة. وقال سفيان الثوري،
عن زياد بن فياض: سمعت أبا عياض يقول: ويل: صديد في أصل جهنم.
وقال عطاء بن يسار. الويل: واد في جهنم لو سيرت فيه الجبال لماعت.
__________
(1) في جـ، ط: "وقوله".
(2) في جـ: "يتكلمون الظن".
(3) في جـ، ط، ب: "الذي أنزله".
(4) تفسير الطبري (1/262).
(5) في أ، و: "وهم يجدون".
(6) في جـ: "هو صنف".
(1/311)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني
عمرو بن الحارث، عن دَرَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم، قال: "ويل واد في جهنم، يهوي فيه الكافر أربعين خريفًا قبل أن
يبلغ قعره".
ورواه الترمذي عن عبد بن حميد، عن الحسن بن موسى، عن ابن لهيعة، عن
دراج، به (1) . وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة.
قلت: لم ينفرد به ابن لهيعة كما ترى، ولكن الآفة ممن بعده، وهذا الحديث
بهذا الإسناد -مرفوعًا-منكر، والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح
العشيري (2) حدثنا علي بن جرير، عن حماد بن سلمة، عن عبد
الحميد بن جعفر، عن كنانة العدوي، عن عثمان بن عفان، عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم: { فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا
يَكْسِبُونَ } قال: "الويل جبل في النار. وهو الذي أنزل في
اليهود؛ لأنهم حَرَّفوا التوراة، زادوا فيها ما أحبوا، ومحوا منها ما يكرهون،
ومحوا اسم محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة. ولذلك غضب الله عليهم، فرفع بعض
التوراة، فقال: { فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ
وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } (3) .
وهذا غريب أيضا جدًا.
[وعن ابن عباس: الويل: السعير من
العذاب، وقال الخليل بن أحمد: الويل: شدة الشر، وقال سيبويه: ويل: لمن وقع في
الهلكة، وويح لمن أشرف عليها، وقال الأصمعي: الويل: تفجع والويل ترحم، وقال غيره:
الويل الحزن (4) . وقال الخليل: وفي معنى ويل: ويح وويش وويه وويك وويب، ومنهم من
فرق بينها، وقال بعض النحاة: إنما جاز الابتداء بها وهي نكرة؛ لأن فيها معنى
الدعاء، ومنهم من جوز نصبها، بمعنى: ألزمهم ويلا.
قلت: لكن لم يقرأ بذلك أحد] (5) .
وعن عكرمة، عن ابن عباس: { فَوَيْلٌ
لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ } قال: هم أحبار اليهود. وكذا
قال سعيد، عن قتادة: هم اليهود.
وقال سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن علقمة: سألت ابن عباس عن قوله
تعالى: { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ } قال: نزلت
في المشركين وأهل الكتاب.
وقال السدي: كان ناس من اليهود كتبوا كتابًا من عندهم، يبيعونه من العرب،
ويحدثونهم أنه من عند الله، ليأخذوا (6) به ثمنًا قليلا.
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (1/243) وسنن الترمذي برقم (3164).
(2) في جـ: "العيري".
(3) تفسير الطبري (2/268).
(4) في أ: "الخوف".
(5) زيادة من جـ، ط، ب.
(6) في جـ، ط، ب: "فيأخذوا".
(1/312)
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ
عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى
اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
وقال الزهري: أخبرني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس أنه
قال: يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل الله على
نبيه، أحدث أخبار الله تقرؤونه (1) محضًا (2) لم يشب؟ وقد حَدَّثكم الله تعالى أن
أهل الكتاب قد بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله
ليشتروا به ثمنًا قليلا؛ أفلا (3) ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مُسَاءلتهم؟ ولا
والله ما رأينا منهم أحدًا قط سألكم عن الذي أنزل إليكم. رواه البخاري (4)
من طرق عن الزهري.
وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: الثمن القليل: الدنيا بحذافيرها.
وقوله تعالى: { فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ
لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } أي: فويل لهم مما كتبوا بأيديهم من الكذب (5) والبهتان،
والافتراء، وويل لهم مما أكلوا به من السحت، كما قال الضحاك عن ابن عباس: {
فَوَيْلٌ لَهُمْ } يقول: فالعذاب عليهم، من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب، {
وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } يقول: مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم.
{ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ
أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ
تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (80) }
يقول تعالى إخبارًا عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لأنفسهم، من أنهم لن
تمسهم النار إلا أيامًا معدودة، ثم ينجون منها، فرد الله عليهم ذلك بقوله: { قُلْ
أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا } (6) أي: بذلك؟ فإن
كان قد وقع عهد فهو لا يُخْلِف عهده (7) .
ولكن هذا ما جرى ولا كان. ولهذا أتى بـ"أم" التي بمعنى: بل،
أي: بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه.
قال (8) محمد بن إسحاق، عن سيف بن سليمان (9) عن مجاهد،
عن ابن عباس: أن اليهود كانوا يقولون: هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نُعَذَّب
بكل ألف سنة يومًا في النار، وإنما هي سبعة أيام معدودة (10) . فأنزل الله تعالى: { وَقَالُوا لَنْ
تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً } إلى قوله: { خَالِدُونَ }
[البقرة: 82].
ثم رواه عن محمد، عن سعيد -أو عكرمة-عن ابن عباس، بنحوه.
وقال العوفي عن ابن عباس: { وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا
أَيَّامًا مَعْدُودَةً } اليهود قالوا (11) : لن
__________
(1) في ط: "يعرفونه"، وفي و: "تعرفونه".
(2) في جـ، ط، و: "غضًا".
(3) في جـ: "أفلم".
(4) صحيح البخاري برقم (2685 ، 7363 ، 7523).
(5) في جـ: "من الكتب".
(6) بعدها في جـ: "فلن يخلف الله عهده".
(7) في جـ، ط، ب، أ، و: "وعده".
(8) في جـ، ط: "وقال".
(9) في جـ: "سلمان".
(10) في جـ، ط، ب، أ، و: "أيام معدودات".
(11) في جـ: "وقالوا".
(1/313)
تمسنا النار إلا أربعين ليلة، [زاد غيره: هي مدة عبادتهم العجل، وحكاه
القرطبي عن ابن عباس وقتادة] (1) .
وقال الضحاك: قال ابن عباس: زعمت اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوبًا:
أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة، إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم، التي هي نابتة
في أصل الجحيم. وقال أعداء الله: إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم فتذهب جهنم
وتهلك. فذلك قوله تعالى: { وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا
مَعْدُودَةً }
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: { وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا
النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً } يعني: الأيام
التي عبدنا فيها العجل (2) .
وقال عكرمة: خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) فقالوا: لن
ندخل النار إلا أربعين ليلة، وسيخلفنا إليها (4) قوم آخرون، يعنون (5) محمدًا صلى
الله عليه وسلم وأصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على رءوسهم:
"بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفكم إليها أحد". فأنزل الله: { وَقَالُوا
لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً } الآية.
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه رحمه الله: حدثنا عبد الرحمن بن جعفر،
حدثنا محمد بن محمد بن صخر، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، حدثنا ليث بن سعد، حدثني
سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله
صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال (6) رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"اجمعوا لي من كان من اليهود هاهنا" فقال لهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "من أبوكم؟" قالوا: فلان (7) . قال: "كذبتم، بل أبوكم فلان". فقالوا: صدقت
وبَرِرْت، ثم قال لهم: "هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟". قالوا:
نعم، يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا. فقال لهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "من أهل النار؟" فقالوا: نكون فيها يسيرًا
ثم تخلفونا فيها. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخسأوا، والله لا
نخلفكم فيها أبدًا". ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل أنتم
صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟". قالوا: نعم يا أبا القاسم. فقال: "هل
جعلتم في هذه الشاة سمًّا؟". فقالوا: نعم. قال (8) : "فما حملكم على
ذلك؟". فقالوا: أردنا إن كنت كاذبًا أن نستريح منك، وإن كنت نبيًا لم يضرك.
ورواه أحمد، والبخاري، والنسائي، من حديث الليث بن سعد، بنحوه (9) .
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، و.
(2) تفسير عبد الرزاق (1/71، 72).
(3) في جـ: "رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه".
(4) في جـ: "فيها".
(5) في جـ، ط، أ، و: "يعني"، وفي ب: "تعني".
(6) في ط، ب: "فقال لهم".
(7) في جـ: "قالوا: أبونا فلان".
(8) في جـ، ط، ب: "فقال".
(9) المسند (2/451) وصحيح البخاري برقم (3161، 4249) وسنن النسائي الكبرى
برقم (11355).
(1/314)
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
{ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (82) }
يقول تعالى: ليس الأمر كما تمنيتم، ولا كما تشتهون، بل الأمر: أنه من
عمل سيئة وأحاطت به خطيئته، وهو من وافى يوم القيامة وليس له حسنة، بل جميع عمله
سيئات، فهذا من أهل النار، والذين آمنوا بالله ورسوله (1) وعملوا الصالحات -من
العمل الموافق للشريعة-فهم (2) من أهل الجنة. وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: {
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ
بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا* وَمَنْ يَعْمَلْ
مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا } [النساء: 123 ، 124].
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد -أو عكرمة-عن ابن
عباس: { بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً } أي: عمل مثل أعمالكم، وكفر بمثل ما كفرتم
به، حتى يحيط به كفره (3) فما له من حسنة.
وفي رواية عن ابن عباس، قال: الشرك.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي وائل، وأبي العالية، ومجاهد، وعكرمة،
والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، نحوه (4) .
وقال الحسن -أيضًا-والسدي: السيئة: الكبيرة من الكبائر.
وقال ابن جريج، عن مجاهد: { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } قال: بقلبه.
وقال أبو هريرة، وأبو وائل، وعطاء، والحسن: { وَأَحَاطَتْ بِهِ
خَطِيئَتُهُ } قالوا: أحاط به شركه.
وقال الأعمش، عن أبي رزين، عن الربيع بن خُثَيم: { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ
} قال: الذي يموت على خطايا (5) من قبل أن يتوب. وعن السدي، وأبي رزين، نحوه.
وقال أبو العالية، ومجاهد، والحسن، في رواية عنهما، وقتادة، والربيع بن
أنس: { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } الكبيرة الموجبة.
وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى، والله أعلم. ويذكر هاهنا الحديث
الذي رواه الإمام أحمد حيث قال:
حدثنا سليمان بن داود، حدثنا عمرو بن قتادة (6) عن عبد ربه، عن أبي عياض،
عن عبد الله
__________
(1) في أ: "ورسله".
(2) في جـ، ط، ب، أ، و: "فهو".
(3) في جـ: "فمتى يحيط عمله".
(4) في جـ: "بنحوه".
(5) في أ، و: "على خطاياه".
(6) في أ: "عن عمر بن صادق".
(1/315)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا
اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ
وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ
تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
بن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إيَّاكم ومحقرات
الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه". وإن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ضرب لهُنَّ مثلا كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل
ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادًا (1) ، وأججوا نارًا،
فأنضجوا ما قذفوا فيها (2) .
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد، عن سعيد -أو عكرمة-عن ابن عباس: {
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي من آمن بما كفرتم به، وعمل بما تركتم من دينه، فلهم الجنة
خالدين فيها. يخبرهم أن الثواب بالخير والشرّ مقيم على أهله، لا انقطاع له أبدًا
(3)
.
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا
اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) }
يُذكّر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر، وأخذ ميثاقهم
على ذلك، وأنهم تولوا عن ذلك كله، وأعرضوا قصدًا وعمدًا، وهم يعرفونه ويذكرونه،
فأمرهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. وبهذا أمر جميع خلقه، ولذلك خلقهم كما قال
تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ
إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء: 25]
وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا
أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [النحل: 36] وهذا هو أعلى
الحقوق وأعظمها، وهو حق الله تعالى، أن يعبد وحده لا شريك له، ثم بعده حق
المخلوقين، وآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين، ولهذا يقرن الله تعالى بين حقه وحق
الوالدين، كما قال تعالى: { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [لقمان: 14] وقال
تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًا } الآية إلى أن قال: { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ
وَابْنَ السَّبِيلِ } [الإسراء: 23-26] وفي الصحيحين، عن ابن مسعود، قلت: يا رسول
الله، أي العمل أفضل؟ قال: "الصلاة على وقتها". قلت: ثم أي؟ قال:
"بر الوالدين". قلت: ثم أيّ؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" (4)
. ولهذا جاء في الحديث الصحيح: أن رجلا قال: يا رسول الله، من أبر؟ قال:
"أمك". قال: ثم من (5) ؟ قال: "أمك". قال: ثم من؟ قال:
"أباك . ثم أدناك أدناك" (6) .
__________
(1) في جـ: "جمعوا أعوادًا".
(2) المسند (1/402).
(3) في جـ، ط، ب: "أبدًا لا انقطاع له".
(4) صحيح البخاري برقم (527، 5970، 7534) وصحيح مسلم برقم (85).
(5) في ط: "ثم قال من".
(6) جاء من حديث معاوية بن حيدة، رواه أبو داود في السنن برقم (5139)، ومن حديث
كليب بن منفعة عن أبيه عن جده، رواه أبو داود في السنن برقم (5140).
(1/316)
[وقوله: { لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ } قال الزمخشري: خبر
بمعنى الطلب، وهو آكد. وقيل: كان أصله: ألا تعبدوا كما قرأها بعض السلف
(1) فحذفت أن فارتفع، وحكي عن أبي وابن مسعود، رضي الله عنهما، أنهما قرآها:
"لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّه". وقيل: { لا تَعْبُدُونَ } مرفوع على أنه
قسم، أي: والله لا تعبدون إلا الله، ونقل هذا التوجيه القرطبي في تفسيره عن
سيبويه. وقال: اختاره المبرد والكسائي والفراء] (2) .
قال: { وَالْيَتَامَى } وهم: الصغار الذين لا
كاسب لهم من الآباء. [وقال أهل اللغة: اليتيم في بني آدم من الآباء، وفي البهائم
من الأم، وحكى الماوردي أن اليتيم أطلق في بني آدم من الأم أيضا] (3) {
وَالْمَسَاكِينَ } الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم، وسيأتي الكلام
على هذه الأصناف عند آية النساء، التي أمرنا الله تعالى بها صريحًا في قوله: {
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
} الآية [النساء: 36].
وقوله تعالى: { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } أي: كلموهم طيبًا،
ولينُوا لهم جانبًا، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف، كما
قال الحسن البصري في قوله: { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } فالحُسْن من القول: يأمُر بالمعروف
وينهى عن المنكر، ويحلم، ويعفو، ويصفح، ويقول للناس حسنًا كما قال الله، وهو كل
خُلُق حسن رضيه الله.
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا أبو عامر الخَزَّاز، عن أبي عمران
الجَوْني، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: "لا تحقرن من المعروف شيئًا، وإن لم تجد فَالْقَ
أخاك بوجه منطلق (4) " .
وأخرجه مسلم في صحيحه، والترمذي [وصححه] (5) من حديث أبي عامر الخزّاز،
واسمه صالح بن رستم، به (6) .
وناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للناس حسنًا، بعد ما أمرهم بالإحسان إليهم
بالفعل، فجمع بين طرفي الإحسان الفعلي والقولي. ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى
الناس بالمُعيّن (7) من ذلك، وهو الصلاة والزكاة، فقال: { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَآتُوا الزَّكَاةَ } وأخبر أنهم تولوا عن ذلك كله، أي: تركوه وراء ظهورهم،
وأعرضوا عنه على عمد بعد العلم به، إلا القليل منهم، وقد أمر تعالى هذه الأمة
بنظير ذلك في سورة النساء، بقوله: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ
شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ
بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا
يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا } [النساء: 36]
__________
(1) في أ: "كما قرأها من قرأها من السلف".
(2) زيادة من جـ، ط، ب، أ.
(3) زيادة من جـ، ط، ب، أ.
(4) في ط: "بوجه طلق".
(5) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(6) المسند (5/173) وصحيح مسلم برقم (2626) وسنن الترمذي برقم (1833).
(7) في جـ، ط، ب، أ، و: "بالمتعين".
(1/317)
فقامت هذه الأمة من ذلك بما لم تقم به أمة من الأمم قبلها، ولله الحمد
والمنة.
ومن النقول الغريبة هاهنا ما ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره:
حدثنا أبي، حدثنا محمد بن خلف العسقلاني، حدثنا عبد الله بن يوسف -يعني التِّنِّيسِي-حدثنا
خالد بن صَبِيح، عن حميد بن عقبة، عن أسد بن وَدَاعة: أنه كان يخرج من
منزله فلا يلقى يهوديًا ولا نصرانيًا إلا سلم عليه، فقيل له: ما شأنك؟ تسلم
على اليهودي والنصراني. فقال: إن الله يقول: { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } وهو:
السلام. قال: وروي عن عطاء الخراساني، نحوه.
قلت: وقد ثبت في السنة أنهم لا يبدؤون بالسلام، والله أعلم (1) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه برقم (2166) عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتم
أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه".
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا
تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ
تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ
وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ
بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ
مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ
بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ
وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ
الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ
عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى
الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ
رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ
وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ
اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
البقرة - تفسير ابن كثير
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا
تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ
تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ
أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ
عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ
وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ
بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ
وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ
الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ
عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ
أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)
ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا
مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ
وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ
إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا
جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ
بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ
(86)
}
يقول، تبارك وتعالى، منكرًا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج، وذلك
أن الأوس والخزرج، وهم الأنصار، كانوا في الجاهلية عُبَّاد أصنام، وكانت بينهم
حروب كثيرة، وكانت يهود المدينة ثلاثَ قبائل: بنو قينقاع. وبنو النضير حلفاء
الخزرج. وبنو قريظة حلفاء الأوس. فكانت الحرب إذا نشبت (1) بينهم قاتل كل فريق مع
حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه، وقد يقتل اليهوديّ الآخرُ من الفريق الآخر، وذلك
حرام عليهم في دينه ونص كتابه، ويخرجونهم من بيوتهم وينهبون ما فيها من الأثاث
والأمتعة والأموال، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكّوا الأسارى من الفريق
المغلوب، عملا بحكم التوراة؛ ولهذا قال تعالى: { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ
الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } ولهذا قال تعالى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ
لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } أي:
لا يقتل بعضكم بعضًا، ولا يخرجه من منزله، ولا يظاهر عليه، كما قال تعالى: {
فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ
عِنْدَ بَارِئِكُمْ } [البقرة: 54]
__________
(1) في أ: "نشئت".
(1/318)
وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة، كما قال عليه الصلاة
والسلام: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة
الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
[وقوله] (1) { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } أي: ثم
أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به.
{ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ
فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ
وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ
إِخْرَاجُهُمْ } قال محمد بن إسحاق بن يسار: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن
جبير -أو عكرمة-عن ابن عباس: { ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ
} الآية، قال: أنبهم الله (2) من فعلهم، وقد حرّم عليهم في التوراة سفك دمائهم (3)
وافترض عليهم فيها فدَاء أسراهم، فكانوا فريقين: طائفة منهم بنو قينقاع وإنهم (4)
حلفاء الخزرج، والنضير، وقريظة وإنهم (5) حلفاء الأوس، فكانوا إذا كانت بين الأوس
والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يظاهر (6)
كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى يتسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم
التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم. والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان،
ولا يعرفون جنة ولا نارًا، ولا بعثًا ولا قيامة، ولا كتابًا، ولا حلالا ولا حرامًا،
فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم، تصديقًا لما في التوراة، وأخذًا به؛ بعضهم
من بعض، يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي (7) الأوس، ويفتدي
النضير وقريظة ما كان في أيدي (8) الخزرج منهم، ويطلبون (9) ما أصابوا من دمائهم
(10) وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم، مظاهرة لأهل الشرك عليهم. يقول الله تعالى
ذكره حيث أَنَّبهم (11) بذلك: { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ
وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } أي: يفاديه بحكم التوراة ويقتله، وفي حكم التوراة ألا
يفعل، ولا يُخرج (12) من داره، ولا يُظَاهَر عليه من يُشْرك بالله، ويعبد الأوثان
من دونه، ابتغاء عرض الدنيا. ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج -فيما بلغني-نزلت
هذه القصة (13) .
وقال أسباط عن السدي: كانت قريظة حلفاء الأوس، وكانت النضير حلفاء
الخزرج، فكانوا يقتتلون في حرب سُمَير، فيقاتل بنو قريظة مع حلفائها النضيرَ
وحلفاءهم، وكانت النضير تقاتل قريظة
__________
(1) زيادة من جـ، ط، أ.
(2) في جـ، ط، ب، أ، و: "أنبأهم الله بذلك".
(3) في جـ: "سفك الدماء".
(4) في جـ: "وهم".
(5) في جـ: "وهم".
(6) في جـ، ط، ب: "فظاهر".
(7) في جـ: "يدي".
(8) في جـ: "يدي".
(9) في جـ، ط، أ: "يطلبون".
(10) في جـ، ط، ب، أ، و: "من الدماء وقتلوا".
(11) في جـ، ط، ب، أ، و: "حين أنبأهم".
(12) في جـ، ط، ب: "ويخرجه".
(13) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/540) وتفسير الطبري (2/305).
(1/319)
وحلفاءها، ويغلبونهم، فيخربون ديارهم، ويخرجونهم منها، فإذا أسر رجل من
الفريقين كليهما، جمعوا له حتى يفدوه. فتعيرهم العرب بذلك، ويقولون: كيف تقاتلونهم
وتفدونهم؟ قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم، وحرّم علينا قتالهم، قالوا: فلم تقاتلونهم؟
قالوا: إنَّا نستحيى أن تُسْتَذلّ حلفاؤنا (1) . فذلك حين عيَّرهم الله، فقال: {
ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا
مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ }
وقال شعبة، عن السدي: نزلت هذه الآية في قيس بن الخَطيم: { ثُمَّ
أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ
دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ }
وقال أسباط، عن السدي، عن عبد خير، قال: غزونا مع سلمان بن ربيعة
الباهلي بَلَنْجَر (2) فحاصرنا أهلها ففتحنا المدينة وأصبنا سبايا واشترى عبد الله
بن سلام يهودية بسبعمائة، فلما مرّ برأس الجالوت نزل به، فقال له عبد الله: يا رأس الجالوت،
هل لك في عجوز هاهنا من أهل دينك، تشتريها مني؟ قال: نعم. قال: أخذتها
بسبعمائة درهم. قال: فإني أرْبحُك سبعمائة أخرى. قال: فإني قد حلفت ألا أنقصها من
أربعة آلاف. قال: لا حاجة لي فيها، قال: والله لتشترينها مني، أو لتكفرن بدينك
الذي أنت عليه. قال: ادن مني، فدنا منه، فقرأ في أذنه التي في التوراة: إنك لا تجد
مملوكًا من بني إسرائيل إلا اشتريته فأعتقته { وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى
تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ } قال: أنت عبد الله بن
سلام؟ قال: نعم. قال: فجاء بأربعة آلاف، فأخذ عبد الله
ألفين، ورد عليه ألفين.
وقال آدم بن أبي إياس في تفسيره: حدثنا أبو جعفر يعني الرازي، حدثنا
الربيع بن أنس، أخبرنا أبو العالية: أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت
بالكوفة، وهو يفادي من النساء من لم يقع عليها العرب، ولا يفادي من وقع عليها العرب،
فقال (3) عبد الله بن سلام: أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن.
والذي أرشدت إليه الآية الكريمة، وهذا السياق، ذم اليهود في قيامهم بأمر
التوراة التي يعتقدون صحتها، ومخالفة شرعها، مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة،
فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها، ولا يصدقون فيما يكتمونه من صفة رسول
الله (4) صلى الله عليه وسلم ونعته، ومبعثه ومخرجه، ومهاجره، وغير ذلك من شؤونه،
التي قد أخبرت بها الأنبياء قبله. واليهود عليهم لعائن الله يتكاتمونه بينهم،
ولهذا قال تعالى { فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي: بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره { وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ } جزاء على ما كتموه من كتاب
الله الذي بأيديهم { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ* أُولَئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ } أي: استحبوها على الآخرة
واختاروها { فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ } أي: لا يفتر عنهم ساعة واحدة {
وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ }
__________
(1) في أ، و: "نستذل بحلفائنا".
(2) في جـ: "بكنجر".
(3) في جـ، ط، ب، أ، و: "فقال له".
(4) في جـ: "صفة محمد".
(1/320)
وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ
بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ
بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ
اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)
أي: وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي، ولا
يجيرهم منه.
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ
وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ
أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ
فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) }
ينعت، تبارك وتعالى، بني إسرائيل بالعتو والعناد والمخالفة، والاستكبار
على الأنبياء، وأنهم إنما يتبعون أهواءهم، فذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب -وهو
التوراة-فحرفوها وبدلوها، وخالفوا أوامرها وأولوها. وأرسل الرسل والنبيين من بعده
الذين يحكمون بشريعته، كما قال تعالى: { إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا
هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ
هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ
وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ } الآية [المائدة: 44]، ولهذا قال: { وَقَفَّيْنَا
مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ } قال السدي، عن أبي مالك: أتبعنا. وقال
غيره: أردفنا. والكل قريب، كما قال تعالى: { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا
} [المؤمنون: 44] حتى ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم، فجاء بمخالفة
التوراة في بعض الأحكام، ولهذا أعطاه الله من البينات، وهي: المعجزات. قال ابن
عباس: من إحياء الموتى، وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيرًا بإذن
الله، وإبرائه الأسقام، وإخباره بالغيوب، وتأييده بروح القدس، وهو جبريل عليه
السلام -ما يدلهم (1) على صدقه فيما جاءهم به. فاشتد تكذيب بني إسرائيل
له وحَسَدهم وعنادهم لمخالفة التوراة في البعض، كما قال تعالى إخبارًا عن عيسى: {
وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
} الآية [آل عمران: 50]. فكانت بنو إسرائيل تعامل الأنبياء عليهم السلام (2) أسوأ
المعاملة، ففريقًا يكذبونه. وفريقًا يقتلونه، وما ذاك إلا لأنهم كانوا يأتونهم
بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم وبإلزامهم بأحكام التوراة التي قد تصرفوا في
مخالفتها، فلهذا كان يشق ذلك عليهم، فيكذبونهم، وربما قتلوا بعضهم؛ ولهذا قال
تعالى: { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ
اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ }
والدليل على أن روح القدس هو جبريل، كما نص عليه ابن مسعود في تفسير هذه
الآية، وتابعه على ذلك [ابن عباس و] (3) محمد بن كعب القرظي، وإسماعيل بن أبي خالد،
والسدي، والربيع بن أنس، وعطية العوفي، وقتادة مع قوله تعالى: { نزلَ بِهِ
الرُّوحُ الأمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* [بِلِسَانٍ
عَرَبِيٍّ مُبِينٍ] (4) } [الشعراء: 193-195] ما قال البخاري: وقال ابن أبي
الزناد، عن أبيه، عن عروة، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع لحسان
بن ثابت منْبرًا في المسجد، فكان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "اللهم أيد حسان بروح القدس كما نافح عن نبيك" (5) .
وهذا من
__________
(1) في جـ، ط، ب، أ، و: "يدلهم به".
(2) في جـ: "عليهم الصلاة والسلام".
(3) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(4) زيادة من جـ.
(5) في جـ، ط، ب، أ، و: "عن نبيه".
(1/321)
البخاري تعليق (1) .
وقد رواه أبو داود في سننه، عن لُوَين، والترمذي، عن علي بن حجر،
وإسماعيل بن موسى الفزاري، ثلاثتهم عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه وهشام بن
عروة، كلاهما عن عروة، عن عائشة به (2) . وقال الترمذي: حسن صحيح، وهو حديث أبي
الزناد (3) .
وفي الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن
أبي هريرة: أن عمر مر بحسان، وهو ينشد الشعر في المسجد (4) فلحظ إليه، فقال:
قد كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك. ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال: أنشدك الله
أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أجب عني، اللهم
أيده بروح القدس"؟. فقال: اللَّهُمَّ نعم (5) .
وفي بعض الروايات: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان: "أهجهم
-أو: هاجهم-وجبريل معك".
[وفي شعر حسان قوله:
وجبريل رسول الله ينادي ... وروح القدس ليس به خفاء] (6)
وقال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي،
عن شهر بن حوشب الأشعري: أن نفرًا من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
أخبرنا عن الروح. فقال: "أنشدكم بالله وبأيامه (7) عند بني إسرائيل، هل
تعلمون أنه جبريل؟ وهو الذي يأتيني؟" قالوا: نعم (8) .
[وفي صحيح ابن حبان أظنه عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال:
"إن روح القدس نفخ (9) في روعي: إن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها
وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب" (10) ] (11) .
أقوال أخر:
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا منْجاب بن الحارث، حدثنا
بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: { بِرُوحِ الْقُدُسِ } قال: هو الاسم
الأعظم الذي كان عيسى يُحيي به
__________
(1) وكذا عزاه المزي في تحفة الأشراف (12/10) للبخاري، وقال
الحافظ ابن حجر في "النكت الظراف": "لم أر هذا الموضع في صحيح
البخاري، وقد وصله أحمد والطبراني وصححه الحاكم".
(2) سنن أبي داود برقم (5015) وسنن الترمذي برقم (2846).
(3) في ط، ب، أ، و: "وهو حديث ابن أبي الزناد".
(4) في جـ: "وهو في المسجد ينشد".
(5) صحيح البخاري برقم (3212) وصحيح مسلم برقم (2485).
(6) زيادة من جـ، ط، ب، أ.
(7) في جـ، أ: "وبآياته".
(8) ورواه الطبري في تفسيره (2/320) من طريق سلمة عن ابن إسحاق به.
(9) في و: "نفث".
(10) ورواه البغوي في شرح السنة (14/304) من طريق أبي عبيد عن هشيم عن
إسماعيل بن أبي خالد عن زبيد اليامي، عمن أخبره، عن ابن مسعود به مرفوعًا.
(11) زيادة من جـ، ط، ب، و.
(1/322)
الموتى. وقال ابن جرير: حُدثت عن المنجاب. فذكره. قال ابن
أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك. [ونقله القرطبي عن عبيد بن عمير
-أيضا-قال: وهو الاسم الأعظم] (1) .
وقال ابن أبي نَجِيح: الروح هو حفظة على الملائكة.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس: القدس هو الرب تبارك وتعالى.
وهو قول كعب. وقال السدي: القدس: البركة. وقال العوفي، عن ابن عباس: القدس: الطهر.
[وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن البصري أنهما قالا القدس: هو الله تعالى،
وروحه: جبريل، فعلى هذا يكون القول الأول] (2) .
وقال ابن جرير: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وهب قال: قال ابن
زيد (3) في قوله تعالى: { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ
الْقُدُسِ } قال: أيد الله عيسى بالإنجيل روحًا كما جعل القرآن روحًا، كلاهما روح
من الله، كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ
أَمْرِنَا } [الشورى: 52] .
ثم قال ابن جرير: وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قولُ من قال: الروح في
هذا الموضع جبريل، لأن الله، عز وجل، أخبر أنه أيد عيسى به، كما أخبر في قوله: { إِذْ قَالَ
اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ
إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا
وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ } الآية
[المائدة: 110] . فذكر أنه أيده به، فلو كان الروح الذي أيده به هو الإنجيل، لكان
قوله: { إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ } { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ } تكرير قول لا معنى له، والله أعز أن يخاطب عباده
بما لا يفيدهم به.
قلت: ومن الدليل على أنه جبريل ما تقدم في أول السياق؛ ولله الحمد (4) .
وقال الزمخشري { بِرُوحِ الْقُدُسِ } بالروح المقدسة، كما يقول: حاتم
الجود ورجل صدق ووصفها بالقدس كما قال: { وَرُوحٌ مِنْهُ } فوصفه بالاختصاص والتقريب
تكرمة، وقيل: لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث، وقيل: بجبريل، وقيل:
بالإنجيل، كما قال في القرآن: { رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } [الشورى: 52] وقيل
باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره، وتضمن كلامه قولا آخر وهو أن المراد
روح عيسى نفسه المقدسة المطهرة.
وقال الزمخشري في قوله: { فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا
تَقْتُلُونَ } إنما لم يقل: وفريقًا قتلتم؛ لأنه أراد بذلك وصفهم في المستقبل
-أيضًا-لأنهم حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بالسم والسحر، وقد قال، عليه
السلام، في مرض موته: "ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع
أبهري"، وهذا الحديث في صحيح البخاري وغيره (5) .
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(2) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(3) في جـ: "قال ابن أبي زيد".
(4) في جـ، ط: "ولله الحمد والمنة".
(5) صحيح البخاري برقم (2617) وصحيح مسلم برقم (2190).
(1/323)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ
فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
{ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ
فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ (88) }
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير،
عن ابن عباس: { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } أي: في أكنة.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ }
أي: لا تفقه.
وقال العوفي، عن ابن عباس: { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } [قال] (1)
هي القلوب المطبوع عليها.
وقال مجاهد: { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } عليها غشاوة.
وقال عكرمة: عليها طابع. وقال أبو العالية: أي لا تفقه. وقال السدي:
يقولون: عليها غلاف، وهو الغطاء.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ
} هو كقوله: { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } [فصلت: 5] .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، في قوله: { غُلْفٌ } قال: يقول: قلبي في
غلاف فلا يَخْلُص إليه ما تقول، قرأ (2) { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ
مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ }
وهذا هو الذي رجحه ابن جرير، واستشهد مما روي من حديث عمرو بن مُرّة
الجملي، عن أبي البختري، عن حذيفة، قال: القلوب أربعة. فذكر منها: وقلب أغلف
مَغْضُوب عليه، وذاك قلب الكافر.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الرحمن العَرْزَمي، أنبأنا أبي،
عن جدي، عن قتادة، عن الحسن في قوله: { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } قال: لم تختن.
هذا (3) القول يرجع معناه إلى ما تقدم من عدم طهارة قلوبهم، وأنها بعيدة
من الخير.
قول آخر:
قال الضحاك، عن ابن عباس في قوله: { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } قال
قالوا: قلوبنا مملوءة علمًا لا تحتاج إلى علم محمد، ولا غيره.
وقال عطية العوفي: { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } أي: أوعية للعلم.
وعلى هذا المعنى جاءت قراءة بعض الأنصار (4) فيما حكاه ابن جرير:
"وقالوا قلوبنا غُلُف" بضم اللام، أي: جمع غلاف، أي: أوعية، بمعنى أنهم
ادعوا (5) أن قلوبهم مملوءة بعلم لا يحتاجون معه إلى علم
آخر. كما كانوا يَمُنُّون (6) بعلم التوراة. ولهذا قال تعالى: { بَل
لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلا مَّا يُؤْمِنُونَ } ، أي: ليس الأمر
كما ادعوا بل
__________
(1) زيادة من جـ، ط.
(2) في جـ، ط، ب: "وقرأ".
(3) في جـ، ط، ب: "وهذا".
(4) في أ، و: "بعض الأمصار".
(5) ف جـ: "أنهم زعموا".
(6) في أ: "كما كانوا يكتمون".
(1/324)
قلوبهم ملعونة مطبوع عليها، كما قال في سورة النساء: { وَقَوْلِهِمْ
قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ
إِلا قَلِيلا } [النساء: 155] . وقد اختلفوا في معنى قوله: { فَقَلِيلا مَّا يُؤْمِنُونَ
} وقوله: { فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا } ، فقال بعضهم: فقليل من يؤمن
منهم [واختاره فخر الدين الرازي وحكاه عن قتادة والأصم وأبي مسلم الأصبهاني] وقيل:
فقليل إيمانهم. بمعنى أنهم يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد والثواب
والعقاب، ولكنه إيمان لا ينفعهم، لأنه مغمور بما كفروا به من الذي جاءهم به محمد
صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: إنهم كانوا غير مؤمنين بشيء، وإنما قال: { فَقَلِيلا مَا
يُؤْمِنُونَ } وهم بالجميع كافرون، كما تقول العرب: قلما رأيت مثل هذا قط. تريد:
ما رأيت مثل هذا قط. [وقال الكسائي: تقول العرب: من زنى بأرض قلما تنبت، أي: لا
تنبت شيئًا]. (1) .
حكاه (2) ابن جرير، والله أعلم.
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(2) في جـ، ط، ب: "حكاها".
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا
مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ
(89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا
أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا
لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ
الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ
وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ
الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (93)
البقرة - تفسير ابن كثير
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا
مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ
(89)
{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا
مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
الْكَافِرِينَ (89) }
يقول تعالى: { وَلَمَّا جَاءَهُمْ } يعني اليهود { كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ } وهو: القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم { مُصَدِّقٌ لِمَا
مَعَهُمْ } يعني: من التوراة، وقوله: { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ
عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } أي: وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب
يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم، يقولون: إنه سيبعث نبي في
آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم، كما قال محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عُمَر عن
قتادة الأنصاري، عن أشياخ منهم قال: قالوا: فينا والله وفيهم -يعني في الأنصار-وفي
اليهود الذين كانوا جيرانهم، نزلت هذه القصة يعني: { وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ
يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا
كَفَرُوا بِهِ } قالوا (1) كنا قد علوناهم دهرًا في الجاهلية، ونحن أهل شرك وهم
أهل كتاب، فكانوا يقولون: إن نبيًا من [الأنبياء] (2)
يبعث الآن نتبعه، قد أظل زمانه، نقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما بعث الله
رسوله من قريش [واتبعناه] (3) كفروا به. يقول الله تعالى: { فَلَمَّا
جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ }
[النساء : 155] .
وقال الضحاك، عن ابن عباس، في قوله: { وَكَانُوا مِنْ
قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } قال: يستظهرون يقولون:
نحن نعين محمدًا عليهم، وليسوا كذلك، يكذبون.
__________
(1) في جـ، ط، ب: "قال".
(2) زيادة من جـ.
(3) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(1/325)
وقال محمد بن إسحاق: أخبرني محمد بن أبي محمد، أخبرني عكرمة أو سعيد بن
جبير، عن ابن عباس: أن يَهود (1) كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى
الله عليه وسلم قبل مبعثه. فلما بعثه الله من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا
يقولون فيه. فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن مَعْرُور، أخو بني سلمة (2)
يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه
وسلم ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفُونه لنا بصفته. فقال سَلام بن
مِشْكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل
الله في ذلك من قولهم: { وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
الْكَافِرِينَ } (3)
وقال العوفي، عن ابن عباس: { وَكَانُوا مِنْ
قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } يقول: يستنصرون بخروج محمد صلى
الله عليه وسلم على مشركي العرب -يعني بذلك أهل الكتاب-فلما بعث محمد صلى الله
عليه وسلم ورأوه من غيرهم كفروا به وحسدوه.
وقال أبو العالية: كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على
مشركي العرب، يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبًا عندنا حتى نعذب
المشركين ونقتلهم. فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، ورأوا أنه (4) من
غيرهم، كفروا به حسدًا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
الله: { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
الْكَافِرِينَ }
وقال قتادة: { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ
كَفَرُوا } قال: كانوا يقولون: إنه سيأتي نبي. { فَلَمَّا
جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ }
وقال مجاهد: { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ
فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } قال: هم اليهود.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني صالح بن
إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن محمود بن لبيد، أخي بني عبد الأشهل عن سلمة بن
سلامة بن وقش، وكان من أهل بدر قال: كان لنا جار يهودي في بني عبد الأشهل قال:
فخرج علينا يومًا من بيته قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بيسير، حتى وقف
على مجلس بني عبد الأشهل. قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيهم سنًّا على بردة
مضطجعًا فيها بفناءٍ أصلي. فذكر البعث والقيامة والحسنات والميزان والجنة والنار.
قال ذلك لأهل شرك أصحاب أوثان لا يرون بعثًا كائنًا بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا
فلان، ترى هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون فيها
بأعمالهم؟ فقال: نعم، والذي يحلف به، لود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في
الدنيا يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبق به عليه، وأن ينجو من تلك النار غدًا. قالوا
له: ويحك وما آية ذلك؟ قال: نبي
__________
(1) في جـ، ط، ب، أ، و: "أن يهودًا".
(2) في جـ، ط، ب، أ، و: "وداود بن سلمة".
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/547) وتفسير الطبري (2/233).
(4) في جـ: "ورأوه".
(1/326)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكة واليمن. قالوا: ومتى
نراه؟ قال: فنظر إليّ وأنا من أحدثهم سنًّا، فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره
يدركه. قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه
وسلم وهو بين أظهرنا، فآمنا به وكفر به بغيًا وحسدًا.
فقلنا: ويلك يا فلان، ألست بالذي قلت لنا؟ قال: بلى وليس به. تفرد به
أحمد (1) .
وحكى القرطبي وغيره عن ابن عباس، رضي الله عنهما: أن يهود خيبر اقتتلوا
في زمان الجاهلية مع غطفان فهزمتهم غطفان، فدعا اليهود عند ذلك، فقالوا: اللهم إنا
نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا بإخراجه في آخر الزمان، إلا نصرتنا عليهم. قال:
فنصروا عليهم. قال: وكذلك كانوا يصنعون يدعون الله فينصرون على أعدائهم ومن
نازلهم. قال الله تعالى: { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا } أي من الحق وصفة
محمد صلى الله عليه وسلم "كَفَرُوا به" فلعنة الله على الكافرين.
{ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزلَ
اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنزلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) }
قال مجاهد: { بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ } يهودُ شَرَوُا
الحقَّ بالباطل، وكتمانَ مَا جاءَ به مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بأن يبينوه.
وقال السدي: { بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ } يقول:
باعوا به أنفسهم، يعني: بئسما اعتاضوا لأنفسهم ورضوا به [وعدلوا إليه من
الكفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم إلى تصديقه ومؤازرته ونصرته] (2) .
وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية { أَنْ يُنزلَ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } ولا حسد أعظم من هذا.
قال ابن إسحاق عن محمد، عن عكرمة أو سعيد، عن ابن عباس: { بِئْسَمَا
اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنزلَ
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } أي: إن الله جعله من
غيرهم { فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } قال ابن عباس: فالغضب على
الغضب، فغضبه عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم، وغضب بكفرهم بهذا النبي
الذي أحدث الله إليهم.
قلت: ومعنى { بَاءُوا } استوجبوا،
واستحقوا، واستقروا بغضب على غضب. وقال أبو العالية: غضب الله عليهم بكفرهم
بالإنجيل وعيسى، ثم غضب عليهم بكفرهم بمحمد، وبالقرآن (3) عليهما السلام،
[وعن عكرمة وقتادة مثله] (4) .
__________
(1) المسند (3/467).
(2) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(3) في جـ، ط، ب، أ، و: "بكفرهم بمحمد والقرآن".
(4) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(1/327)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ
بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا
لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ
اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)
قال السدي: أما الغضب الأول فهو حين غضب عليهم في العِجْل، وأما الغضب
الثاني فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم [وعن ابن عباس
مثله] (1) .
وقوله: { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ } لما كان كفرهم
سببه البغي والحسد، ومنشأ ذلك التكبر، قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والآخرة،
كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ
جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر: 60]، [أي: صاغرين حقيرين ذليلين راغمين] (2) .
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، حدثنا ابن عَجْلان، عن عمرو بن شعيب،
عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحشر المتكبرون يوم
القيامة أمثال الذر في صور الناس، يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجنًا في
جهنم، يقال له: بُولَس فيعلوهم نار الأنيار يسقون (3) من طينة
الخبال: عصارة أهل النار" (4) .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ
بِمَا أُنزلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا
لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ
اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) }
يقول تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } أي: لليهود وأمثالهم
من أهل الكتاب { آمِنُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ } [أي] (5) : على محمد صلى
الله عليه وسلم وصدقوه واتبعوه { قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزلَ عَلَيْنَا } أي:
يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوراة والإنجيل ولا نقر إلا بذلك، {
وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } يعنى: بما بعده { وَهُوَ الْحَقُّ
مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ } أي: وهم يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه
وسلم الحق (6) { مُصَدِّقًا } (7) منصوب على الحال، أي في حال تصديقه لما معهم من
التوراة والإنجيل، فالحجة قائمة عليهم بذلك، كما قال تعالى: { الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ }
[البقرة: 146] ثم قال تعالى: { [قُلْ] (8) فَلِمَ
تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي: إن
كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم، فلم قتلتم الأنبياء الذين جاؤوكم
بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها، وأنتم تعلمون صدقهم؟ قتلتموهم
بغيًا [وحسدًا] (9) وعنادًا واستكبارًا على رسل الله، فلستم تتبعون إلا مجرد
الأهواء، والآراء والتشهي (10) كما قال تعالى { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ
بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا
تَقْتُلُونَ } [البقرة: 87].
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(2) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(3) في جـ، ط: "ويسقون".
(4) المسند (2/179).
(5) زيادة من ط، ب، و.
(6) في و: "هو الحق".
(7) في جـ: "مصدقا لما معهم".
(8) زيادة من جـ، ط، ب، و.
(9) زيادة من جـ.
(10) في جـ: "والشهوة".
(1/328)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا
مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا
فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ
إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
وقال السدي: في هذه الآية يعيرهم الله تعالى: { قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ
أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }
وقال أبو جعفر بن جرير: قل يا محمد ليهود بني إسرائيل -[الذين] (1) إذا
قلت لهم: آمنوا بما أنزل الله قالوا: { نُؤْمِنُ بِمَا
أُنزلَ عَلَيْنَا } -: لم تقتلون (2) -إن كنتم يا معشر اليهود مؤمنين بما أنزل
الله عليكم-أنبياءه وقد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم، بل أمركم فيه
باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم، وذلك من الله تكذيب لهم في قولهم: { نُؤْمِنُ بِمَا أُنزلَ
عَلَيْنَا } وتعيير لهم.
{ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ } أي: بالآيات الواضحات (3)
والدلائل القاطعة (4) على أنه رسول الله، وأنه لا إله إلا الله. والبينات هي:
الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والعصا، واليد، وفَلْق البحر،
وتظليلهم بالغمام، والمن والسلوى، والحجر، وغير ذلك من الآيات التي شاهدوها {
ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ } أي: معبودًا من دون الله في زمان موسى وآياته.
وقوله { مِنْ بَعْدِهِ } أي: من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله كما قال
تعالى: { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ
حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ } [الأعراف: 148]، { وَأَنْتُمْ
ظَالِمُونَ } [أي وأنتم ظالمون] (5) في هذا الصنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل،
وأنتم تعلمون أنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى: { وَلَمَّا سُقِطَ فِي
أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا
وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الأعراف: 149].
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا
مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا
وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ
بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) }
يعدد، تبارك وتعالى، عليهم خطأهم ومخالفتهم للميثاق وعتوهم وإعراضهم
عنه، حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه؛ ولهذا قال: { قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا
} وقد تقدم تفسير ذلك.
{ وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } قال عبد الرزاق،
عن مَعْمَر، عن قتادة: { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ
[بِكُفْرِهِمْ] (6) } قال: أشربوا [في قلوبهم] (7)
حبه، حتى خلص ذلك إلى قلوبهم. وكذا قال أبو العالية، والربيع بن أنس.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عصام بن خالد، حدثني أبو بكر بن عبد الله بن
أبي مريم الغساني، عن خالد بن محمد الثقفي، عن بلال بن أبي الدرداء، عن أبي
الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حُبُّك
__________
(1) زيادة من ب.
(2) في جـ، ط: "تقتلون أنبياء الله من قبل".
(3) في جـ، ط، ب: "الواضحة".
(4) في أ: "القاطعات".
(5) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(6) زيادة من جـ، ط، ب، و.
(7) زيادة من جـ، ط، ب، و.
(1/329)
الشيء يُعْمِي ويُصم".
ورواه أبو داود عن حيوة بن شريح عن بَقِيَّة، عن أبي بكر بن عبد الله بن
أبي مريم به (1) وقال السدي: أخذ موسى، عليه السلام، العجل فذبحه ثم حرقه بالمبرد،
ثم ذراه في البحر، فلم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء منه، ثم قال لهم موسى:
اشربوا منه. فشربوا، فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب. فذلك حين يقول
الله تعالى: { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ }
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا إسرائيل
(2) عن أبي إسحاق، عن عمارة بن عبد (3) وأبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب،
قال: عمد موسى إلى العجل، فوضع عليه المبارد، فبرده بها، وهو على شاطئ نهر، فما
شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب (4) .
وقال سعيد بن جبير: { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ } قال:
لما أحرق العجل بُرِدَ ثم نسف، فحسوا الماء حتى عادت وجوههم كالزعفران.
وحكى القرطبي عن كتاب القشيري: أنه ما شرب منه أحد ممن عبد العجل إلا
جنَّ [ثم قال القرطبي] (5) وهذا شيء غير ما هاهنا؛ لأن المقصود من هذا السياق، أنه
ظهر النقير على شفاههم ووجوههم، والمذكور هاهنا: أنهم أشربوا في قلوبهم حب العجل،
يعني: في حال عبادتهم له، ثم أنشد قول النابغة في زوجته عثمة:
تغلغل حب عثمة في فؤادي ... فباديه مع الخافي يسير ...
تغلغل حيث لم يبلغ شراب ... ولا حزن ولم يبلغ سرور ...
أكاد إذا ذكرت العهد منها ... أطير لو أن إنسانا يطير ...
وقوله: { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي: بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه، من كفركم
بآيات الله ومخالفتكم الأنبياء، ثم اعتمادكم في كفركم بمحمد صلى الله عليه وسلم -وهذا أكبر
ذنوبكم، وأشد الأمور عليكم-إذ كفرتم بخاتم الرسل وسيد الأنبياء والمرسلين المبعوث
إلى الناس أجمعين، فكيف تدّعون لأنفسكم الإيمان وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة،
من نقضكم المواثيق، وكفركم بآيات الله، وعبادتكم العجل؟!
__________
(1) المسند (5/194) وسنن أبي داود برقم (5130).
(2) في أ: "حدثنا إسماعيل".
(3) في هـ: "عبد الله" وهو خطأ.
(4) تفسير ابن أبي حاتم (1/282).
(5) زيادة من أ، و.
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً
مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ
يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ
بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا
يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى
قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى
لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ
وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ
(99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ
لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ
لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ
وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
البقرة - تفسير ابن كثير
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ
خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
(94)
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ
بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا
يَعْمَلُونَ (96)
{ قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً
مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ
يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
(95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ
بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا
يَعْمَلُونَ (96) }
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير،
عن ابن عباس: يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: { قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ
الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا
الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي: ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب.
فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } أي: بِعِلْمِهِم بما
عندهم من العلم بك، والكفر بذلك، ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض
يهودي إلا مات.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: { فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ } فسلوا الموت.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، قوله: { فَتَمَنَّوُا
الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قال: قال ابن عباس: لو تمنى اليهود الموت
لماتوا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسِي، حدثنا
عثام، سمعت الأعمش -قال: لا أظنه إلا عن المِنْهال، عن سعيد بن جبير-عن ابن عباس،
قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه.
وهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس.
وقال ابن جرير في تفسيره: وبلغنا أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا. ولرأوا
مقاعدهم من النار. ولو خرج الذين يُباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا
يجدون (1) أهلا ولا مالا". حدثنا بذلك أبو كُرَيْب، حدثنا زكريا بن عدي،
حدثنا عبيد الله (2) بن عمرو، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
ورواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن يزيد (3) الرقي [أبي يزيد] (4) حدثنا
فرات، عن عبد الكريم، به (5) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن أحمد [قال] (6) : حدثنا إبراهيم بن
عبد الله بن بشار،
__________
(1) في جـ: "ولا يجدون".
(2) في أ: "عبد الله".
(3) في جـ: "عن إسماعيل عن زيد"، وفي أ، و: "عن إسماعيل بن يزيد".
(4) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(5) تفسير الطبري (2/362) والمسند (1/248).
(6) زيادة من جـ.
(1/331)
حدثنا سرور بن المغيرة، عن عباد بن منصور، عن الحسن، قال: قول الله ما
كانوا ليتمنوه بما قدمت أيديهم. قلت: أرأيتك لو أنهم أحبوا الموت حين قيل لهم: تمنوا، أتراهم
كانوا ميتين؟ قال: لا والله ما كانوا ليموتوا ولو تمنوا الموت، وما كانوا ليتمنوه،
وقد قال الله ما سمعت: { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }
وهذا غريب عن الحسن. ثم هذا الذي فسر به ابن عباس الآية هو المتعين، وهو
الدعاء على أي الفريقين أكذب منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة، ونقله (1) ابن جرير عن
قتادة، وأبي العالية، والربيع بن أنس، رحمهم الله.
ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الجمعة: { قُلْ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ
فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا
بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ* قُلْ إِنَّ
الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ
إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ } [الجمعة: 6-8] فهم -عليهم لعائن الله-لما زعموا أنهم أبناء الله
وأحباؤه، وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى، دعوا إلى المباهلة
والدعاء على أكذب الطائفتين منهم، أو من المسلمين. فلما نكلوا عن ذلك علم كل أحد
(2)
أنهم ظالمون؛ لأنهم لو كانوا جازمين بما هم فيه لكانوا أقدموا على ذلك، فلما
تأخروا علم كذبهم. وهذا (3) كما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران من
النصارى بعد قيام الحجة عليهم في المناظرة، وعتوّهم وعنادهم إلى المباهلة، فقال
تعالى: { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ
تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ
وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى
الْكَاذِبِينَ } [آل عمران: 61] فلما رأوا ذلك قال بعض القوم لبعض: والله لئن
باهلتم هذا النبيّ لا يبقى منكم عين تطرف. فعند ذلك جنحوا للسلم وبذلوا الجزية عن
يد وهم صاغرون، فضربها عليهم. وبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح، رضي الله عنه،
أمينًا. ومثل هذا المعنى أو قريب منه قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول
للمشركين: { قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ
لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا } [مريم: 75]، أي: من كان في الضلالة منا أو منكم،
فزاده الله مما هو فيه ومَدّ له، واستدرجه، كما سيأتي تقريره في موضعه، إن شاء
الله (4) .
فأما من فسر الآية على معنى: { قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ
الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي: إن كنتم صادقين في دعواكم، فتمنوا الآن الموت. ولم يتعرض هؤلاء
للمباهلة كما قرره طائفة من المتكلمين وغيرهم، ومال إليه ابن جرير بعد ما قارب
القول الأول؛ فإنه قال: القول في تفسير (5) قوله تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَتْ
لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ
فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وهذه الآية مما احتج الله به
لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا
__________
(1) في جـ: "ونقل".
(2) في أ: "واحد".
(3) في جـ: "وهكذا".
(4) في جـ: "إن شاء الله وبه الثقة".
(5) في جـ، ط، ب، أ، و: "في تأويله".
(1/332)
بين ظهراني مُهَاجَره، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم؛ وذلك أن الله تعالى
أمر نبيه صلى الله عليه وسلم إلى قضية عادلة بينه وبينهم، فيما كان بينه وبينهم من
الخلاف، كما أمره أن يدعو الفريق الآخر من النصارى إذا خالفوه في عيسى ابن مريم،
عليه السلام، وجادلوه فيه، إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة. فقال لفريق [من]
(1) اليهود: إن كنتم محقين فتمنوا الموت، فإن ذلك غير ضار بكم (2) إن كنتم محقين
فيما تدعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله، بل أعطيكم أمنيتكم من الموت إذا
تمنيتم، فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها، والفوز بجوار
الله في جناته (3) إن كان الأمر كما تزعمون: من أن الدار الآخرة لكم خالصة دوننا.
وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا، وانكشف أمرنا
وأمركم لهم فامتنعت اليهود من الإجابة إلى ذلك لعلمها (4) أنها إن تمنت الموت
هلكت، فذهبت دنياها وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها، كما امتنع فريق [من] (5)
النصارى.
فهذا الكلام منه أوله حسن، وأما آخره فيه نظر؛ وذلك أنه لا تظهر الحجة
عليهم على هذا التأويل، إذ يقال: إنه لا يلزم من كونهم يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم
أنهم يتمنوا الموت فإنه لا ملازمة بين وجود الصلاح وتمني الموت، وكم من صالح لا
يتمنى الموت، بل يود أن يعمر ليزداد خيرًا وترتفع درجته في الجنة، كما جاء في
الحديث: "خيركم من طال عمره وحسن عمله" (6) . [وجاء في الصحيح النهي عن
تمني الموت، وفي بعض ألفاظه: "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به إما محسنًا
فلعله أن يزداد، وإما مسيئًا فلعله أن يستعتب" (7) ] (8) . ولهم مع ذلك أن
يقولوا على هذا: فها أنتم تعتقدون -أيها المسلمون-أنكم أصحاب الجنة، وأنتم لا
تتمنون في حال الصحة الموت؛ فكيف تلزمونا بما لا نُلزمكم؟
وهذا كله إنما نشأ من تفسير الآية على هذا المعنى، فأما على تفسير ابن
عباس فلا يلزم عليه شيء من ذلك، بل قيل لهم كلام نَصَف: إن كنتم تعتقدون أنكم (9)
أولياء الله من دون الناس، وأنكم أبناء الله وأحبّاؤه، وأنكم من أهل الجنة ومن
عداكم [من] (10) أهل النار، فباهلوا على ذلك وادعوا على الكاذبين منكم أو من
غيركم، واعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة. فلما تيقَّنوا ذلك وعرفوا
صدقه نكلوا عن المباهلة لما يعلمون من كذبهم وافترائهم وكتمانهم الحق من صفة
الرسول صلى الله عليه وسلم ونعته، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويتحققونه. فعلم
كل أحد باطلهم، وخزيهم، وضلالهم وعنادهم
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) في أ، و: "غير ضايركم".
(3) في جـ: "وجنانه".
(4) في جـ، ط، ب، أ، و: "لعلمهم".
(5) زيادة من جـ.
(6) جاء من حديث عبد الله بن يسر، وأبي بكرة، وأبي هريرة رضي الله عنهم،
فأما حديث عبد الله بن بسر، فرواه الترمذي في السنن برقم (2329) وقال: "هذا
حديث حسن غريب من هذا الوجه" وأما حديث أبي بكرة، فرواه الترمذي في السنن
برقم (2330) وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وأما حديث
أبي هريرة، فرواه أحمد في المسند (2/235).
(7) صحيح البخاري برقم (5671) وصحيح مسلم برقم (2680) من حديث أنس رضي الله
عنه.
(8) زيادة من جـ، ب، أ، و.
(9) في و: "أنهم".
(10) زيادة من أ.
(1/333)
-عليهم لعائن الله المتتابعة (1) إلى يوم القيامة.
[وسميت هذه المباهلة تمنيًا؛ لأن كل محق يود لو أهلك الله المبطل المناظر
له ولا سيما إذا كان في ذلك حجة له فيها بيان حقه وظهوره، وكانت المباهلة بالموت؛ لأن
الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت] (2) .
ولهذا قال تعالى: { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ* وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ
النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } : أي: [أحرص الخلق على حياة أي] (3) : على طول عُمْر،
لما يعلمون من مآلهم السيئ وعاقبتهم عند الله الخاسرة؛ لأن الدنيا سجن المؤمن وجنة
الكافر، فهم يودون لو تأخروا عن مقام الآخرة بكل ما أمكنهم. وما يحذرون (4) واقع
بهم لا محالة، حتى وهم أحرص [الناس] (5) من المشركين الذين لا كتاب لهم. وهذا من
باب عطف الخاص على العام.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي،
عن سفيان، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا } قال: الأعاجم.
ورواه الحاكم في مستدركه من حديث الثوري، وقال: صحيح على شرطهما، ولم
يخرجاه. قال: وقد اتفقا على سند تفسير الصحابي (6) . وقال الحسن البصري: {
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } قال: المنافق أحرص
الناس على حياة، وهو أحرص على الحياة من المشرك { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } أي: أحد
اليهود كما يدل عليه نظم السياق.
وقال أبو العالية: { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } يعني : المجوس، وهو يرجع إلى
الأول.
{ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } قال الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس: { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } قال: هو كقول
الفارسي: "زه هزارسال" يقول: عشرة آلاف سنة. وكذا روي عن سعيد بن جبير
نفسه أيضًا.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال: سمعت أبي يقول:
حدثنا أبو حمزة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله تعالى: { يَوَدُّ
أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } قال: هو الأعاجم:
"هزارسال نوروزر مهرجان".
وقال مجاهد: { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } قال:
حببت إليهم الخطيئة طول العمر.
__________
(1) في جـ، ط، ب: "التابعة"، وفي أ: "البالغة".
(2) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(3) زيادة من جـ، ب، أ، و.
(4) في أ: "وما يجدون".
(5) زيادة من ط.
(6) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 286) والمستدرك (2/ 263).
(1/334)
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى
قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ
(97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ
وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس: { وَمَا هُوَ
بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ } أي: ما هو بمنجيه من العذاب.
وذلك أن المشرك لا يرجو بعثًا بعد الموت، فهو يحب طول الحياة (1) وأن اليهودي قد
عرف ما له في الآخرة من الخزي بما صنع (2) بما عنده من العلم.
وقال العوفي، عن ابن عباس: { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ
أَنْ يُعَمَّرَ } قال: هم الذين عادوا جبريل.
وقال أبو العالية وابن عمر (3) فما ذاك بمغيثه (4) من العذاب ولا منجيه
منه.
وقال عبد الرحمن بن زيد (5) بن أسلم [في هذه الآية] (6) يهود أحرص على
[هذه]
(7) الحياة من هؤلاء، وقد ود هؤلاء أن (8) يعمر أحدهم ألف سنة، وليس ذلك بمزحزحه
من العذاب لو عمر، كما عمر إبليس لم ينفعه إذ كان كافرًا.
{ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي: خبير بما يعمل عباده من خير
وشر، وسيجازي كل عامل بعمله.
{ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ
اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ
فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) }
قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله: أجمع أهل العلم بالتأويل
جميعًا [على] (9) أن هذه الآية نزلت جوابًا لليهود من بني إسرائيل، إذ زعموا أن
جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل ولي لهم، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك.
فقال بعضهم: إنما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جَرَت بينَهم وبين رسول الله
صلى الله عليه وسلم في (10) أمر نبوته. ذكر من قال ذلك
حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا يونس بن بُكَيْر، عن عبد الحميد بن بَهرام، عن
شَهْر بن حَوْشَب، عن ابن عباس أنه قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن خلال نسألك عنهن، لا يعلمهن إلا نبي،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوا عما شئتم،
ولكن اجعلوا لي
__________
(1) في أ: "طول العمر".
(2) في ب: "بما ضيع".
(3) في جـ، ط، ب: "وإن عمر".
(4) في جـ: "لا ذاك بمغنيه".
(5) في جـ: "بز يزيد".
(6) زيادة من جـ، ط، ب، و.
(7) زيادة من جـ.
(8) في ط، ب، أ، و: "هؤلاء لو".
(9) زيادة من جـ، ط.
(10) في جـ، ط، ب، أ: "من".
(1/335)
ذمة وما أخذ يعقوب على بنيه، لئن أنا حدثتكم شيئًا فعرفتموه
لتتابِعُنِّي على الإسلام". فقالوا: ذلك لك. فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "سلوني عما شئتم". فقالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن:
أخبرنا أيّ الطعام حرم (1) إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟
وأخبرنا كيف ماء (2) المرأة وماء الرجل؟ وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا
بهذا النبي الأمي في النوم (3) ووليه من الملائكة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعنِّي؟" فأعطوه ما شاء الله
من عهد وميثاق. فقال: "نشدتكم (4) بالذي أنزل التوراة على
موسى، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضًا شديدًا فطال سقمه منه، فنذر لله نذرًا
لئن عافاه الله من سقمه ليحرّمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه
لحوم (5) الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها؟". فقالوا:
اللهم نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اشهد (6) عليهم.
وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن ماء
الرجل أبيض غليظ، وأن ماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن
الله، وإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرًا بإذن الله، وإذا علا ماء
المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله؟". قالوا: اللهم نعم. قال:
"اللهم اشهد". قال: "وأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على
موسى، هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟". قالوا:
اللهم نعم. قال: "اللهم اشهد". قالوا: أنت الآن،
فحدثنا من وليك من الملائكة، فعندها نجامعك أو نفارقك. قال: "فإن
وليي جبريل، ولم يبعث الله نبيًا قط إلا وهو وليُّه". قالوا: فعندها نفارقك،
لو كان وليّك سواه من الملائكة تابعناك (7) وصدقناك. قال: "فما مَنَعكم أن
تصدقوه؟" قالوا: إنه عدونا. فأنزل الله عز وجل: { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا
لِجِبْرِيلَ } إلى قوله: { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [البقرة: 103]
فعندها باؤوا بغضب على غضب (8) .
وقد رواه الإمام أحمد في مسنده، عن أبي النضر هاشم بن القاسم وعبد بن
حميد في تفسيره، عن أحمد بن يونس، كلاهما عن عبد الحميد بن بَهرام، به (9) .
ورواه الإمام أحمد -أيضاً-عن الحسين بن محمد المروزي، عن عبد الحميد،
بنحوه [به] (10) (11) .
وقد رواه محمد بن إسحاق بن يسار: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي
حسين، عن شهر بن حوشب، فذكره مرسلا وزاد فيه: قالوا: فأخبرنا عن الروح قال: "أنشدكم بالله
وبآياته (12)
__________
(1) في جـ، ط: "الذي حرم".
(2) في جـ: "كيف يكون ماء".
(3) في جـ، ط، ب، أ: "في التوراة".
(4) في جـ: "أنشدكم".
(5) في جـ: "لحم"، وفي ط، ب، أ، و: "لحمان".
(6) في جـ: "اللهم أشهدك".
(7) في جـ: "لتابعناك" وفي ط: : "بايعناك".
(8) تفسير الطبري (2/377).
(9) المسند (1/278).
(10) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(11) المسند (1/273).
(12) في ط، ب: "وبأيامه".
(1/336)
عند بني إسرائيل، هل تعلمون أنه جبريل، وهو الذي يأتيني؟" قالوا:
نعم، ولكنه لنا عدو، وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء، فلولا ذلك اتبعناك (1) . فأنزل الله فيهم:
{ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ
اللَّهِ } إلى قوله: { كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [البقرة: 101] .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو أحمد (2) حدثنا عبد الله
بن الوليد العجلي، عن بكير بن شهاب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أقبلت
يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، إنا نسألك عن خمسة
أشياء، فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك. فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على
بنيه إذ قال: { اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [يوسف:66] قال:
"هاتوا" . قالوا: أخبرنا عن علامة النبي. قال: "تنام عيناه ولا ينام
قلبه". قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف يذكر الرجل؟ قال: "يلتقي
الماءان فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل
أنثت"، قالوا: أخبرنا ما (3) حرّم إسرائيل على نفسه. قال: "كان يشتكي
عِرْق النَّساء، فلم يجد شيئًا يلائمه إلا ألبان كذا وكذا" -قال أحمد: قال
بعضهم: يعني الإبل، فحرم لحومها -قالوا: صدقت.
قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال "ملك من ملائكة الله، عز وجل، موكل بالسحاب
بيديه-أو في يده-مِخْراق من نار يزجر به السحاب، يسوقه حيث أمره الله عز
وجل". قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمعه؟ قال: "صوته". قالوا: صدقت.
إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا (4) إنه ليس من نبي إلا وله مَلَك
يأتيه بالخبر، فأخبرنا من صاحبك؟ قال: "جبريل عليه السلام"، قالوا:
جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا، لو قلت: ميكائيل الذي ينزل
بالرحمة والنبات والقطر لكان (5) فأنزل الله عز وجل: { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا
لِجِبْرِيلَ } إلي آخر الآية.
ورواه الترمذي، والنسائي من حديث عبد الله بن الوليد، به (6) . وقال
الترمذي: حسن غريب.
وقال سُنَيْد في تفسيره، عن حجاج بن محمد، عن ابن جُرَيْج: أخبرني
القاسم بن أبي بَزَّة أن يهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن صاحبه الذي ينزل
(7)
عليه بالوحي. قال: "جبريل". قالوا: فإنه لنا عدو، ولا يأتي
إلا بالشدة والحرب والقتال. فنزل: { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } الآية. قال ابن جريج:
وقال مجاهد: قالت يهود: يا محمد، ما ينزل (8) جبريل إلا بشدة وحرب وقتال، وإنه لنا
عدو. فنزل: { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } الآية.
وقال البخاري: قوله: { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } قال عكرمة:
جبر، وميك، وإسراف: عبد. وإيل: الله. حدثنا عبد الله بن مُنير (9) سَمِع عبد الله
بن بكر (10) حدثنا حُمَيد، عن أنس بن مالك،
__________
(1) في جـ: "لتبعناك".
(2) في جـ: "أبو عمر".
(3) في جـ، ط: "أخبرنا عما".
(4) في ب "أخبرتنا بها".
(5) في جـ: "لكنا تابعناك".
(6) المسند (1/274) وسنن الترمذي برقم (3117) وسنن النسائي الكبرى برقم
(9072).
(7) في أ: "نزل".
(8) في جـ، ط، أ: "ما نزل".
(9) في جـ، ط، ب، أ، و: "بن نمير".
(10) في أ: "بن بكير".
(1/337)
قال: سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو في أرض يخترف. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن
ثلاث لا يعلمهن (1) إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل
الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: "أخبرني بِهن جبريل
آنفًا". قال: جبريل؟ قال: "نعم". قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة،
فقرأ هذه الآية: { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى
قَلْبِكَ } "أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب،
وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة
نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة [ماء الرجل] (2) نزعت". قال: أشهد أن لا إله
إلا الله وأشهد أنك (3) رسول الله. يا رسول الله، إن اليهود قوم بُهُت، وإنهم إن
يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني (4) . فجاءت اليهود فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: "أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟" قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا
وابن سيدنا. قال: "أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام". فقالوا: أعاذه الله
من ذلك. فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.
فقالوا: شرنا وابن شرنا. فانتقصوه.
قال (5) هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله.
انفرد به البخاري من هذا الوجه (6) وقد أخرجه من وجه آخر، عن أنس بنحوه
(7) وفي صحيح مسلم، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريب من هذا
السياق (8) كما سيأتي في موضعه (9) .
وحكاية البخاري عن عكرمة هو المشهور أن "إيل" هو الله. وقد
رواه سفيان الثوري، عن خَصِيف، عن عكرمة.
ورواه عبد بن حميد، عن إبراهيم بن الحكم، عن أبيه، عن عكرمة، ورواه ابن
جرير، عن الحسين بن يزيد الطحان، عن إسحاق بن منصور، عن قيس، عن عاصم، عن عكرمة، أنه
قال: إن جبريل اسمه عبد الله وميكائيل: عبيد الله. إيل: الله.
ورواه يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله سواء. وكذا قال غير
واحد من السلف، كما سيأتي قريبا.
__________
(1) في أ: "لا يعرفهن".
(2) زيادة من جـ.
(3) في جـ، ط: "وأن محمدًا".
(4) في جـ: "بهتوني".
(5) في جـ: "فقال".
(6) صحيح البخاري برقم (4480).
(7) صحيح البخاري برقم (3329) من طريق مروان بن معاوية عن حميد، عن أنس،
وصحيح البخاري برقم (3938) من طريق بشر ابن المفضل، عن حميد، عن أنس.
(8) صحيح مسلم برقم (315).
(9) في جـ: "كما سيأتي في موضعه إن شاء الله".
(1/338)
[وقال الإمام أحمد في أثناء حديث سمرة بن جندب: حدثنا محمد بن سلمة،
حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء قال: قال لي علي بن الحسين: اسم جبريل
عبد الله ، واسم ميكائيل: عبيد الله] (1) .
ومن الناس من يقول: "إيل" عبارة عن عبد، والكلمة الأخرى هي اسم
الله؛ لأن كلمة "إيل" لا تتغير في الجميع، فوزانه: عبد الله، عبد
الرحمن، عبد الملك، عبد القدوس، عبد السلام، عبد الكافي، عبد الجليل. فعبد موجودة
في هذا كله، واختلفت الأسماء المضاف إليها، وكذلك جبريل وميكائيل وإسرافيل
وعزرائيل ونحو ذلك، وفي كلام غير العرب يقدمون المضاف إليه على المضاف، والله أعلم.
ثم قال ابن جرير: وقال آخرون: بل كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة
جرت بين عمر بن الخطاب وبينهم في أمر النبي صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن المثنى، حدثني ربعي بن عُلَيّة، عن داود بن أبي هند، عن
الشعبي، قال: نزل عمر الروحاء، فرأى رجالا يبتدرون أحجارًا يصلون إليها، فقال: ما
بال هؤلاء؟ قالوا: يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى هاهنا. قال: فكفر
ذلك.
وقال: إنما رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بواد صلاها ثم ارتحل،
فتركه. ثم أنشأ يحدثهم، فقال: كنت أشهد اليهود يوم مِدْرَاسهم (2) فأعجب من التوراة
كيف تصدق الفرقان ومن الفرقان كيف يصدق التوراة؟ فبينما أنا عندهم ذات يوم، قالوا:
يا ابن الخطاب، ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك. قلت: ولم ذلك؟
قالوا: إنك تغشانا وتأتينا. فقلت: إني آتيكم فأعجب من الفرقان (3) كيف يصدق
التوراة، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان. قال: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالوا: يا ابن الخطاب، ذاك صاحبكم فالحق به، قال: فقلت لهم عند ذلك: نشدتكم (4)
بالله الذي لا إله إلا هو، وما استرعاكم من حقه واستودعكم من كتابه: أتعلمون أنه
رسول الله؟ قال: فسكتوا. فقال لهم عالمهم وكبيرهم: إنه قد غَلَّظ عليكم
فأجيبوه. فقالوا: فأنت عالمنا وكبيرنا فأجبه أنت. قال: أما إذ نشدتنا بما نشدتنا
به فإنا نعلم أنه رسول الله، قال: قلت: ويحكم فأنَّي هلكتم؟! قالوا (5) إنا لم
نهلك (6) [قال] (7) : قلت: كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول
الله [ثم] (8) ولا تتبعونه ولا تصدقونه؟ قالوا: إن لنا عدوا من الملائكة وسِلْمًا
من الملائكة، وإنه قرن بنبوته عدونا من الملائكة. قال: قلت: ومن عدوكم ومن سلمكم؟
قالوا: عدونا جبريل، وسلمنا ميكائيل. قال: قلت: وفيم
عاديتم جبريل، وفيم سالمتم ميكائيل؟ قالوا: إن جبريل مَلَك الفظاظة والغلظة
والإعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا، وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف
ونحو هذا.
__________
(1) زيادة من جـ، ط.
(2) في جـ، أ: "يوم مدارستهم".
(3) في أ، و: "القرآن".
(4) في أ: "أنشدكم".
(5) في جـ: "فقالوا".
(6) في جـ، ط: "إياكم يهلك".
(7) زيادة من أ.
(8) زيادة من ط.
(1/339)
قال: قلت: وما منزلتهما من ربهما عز وجل؟ قالوا:
أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره. قال: قلت: فو [الله] (1) الذي لا إله إلا هو،
إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما وسلم لمن سالمهما وما ينبغي لجبريل أن يسالم
عدو ميكائيل وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدو جبريل. ثم قمت فاتبعت النبي صلى الله
عليه وسلم فلحقته وهو خارج من خَوْخة لبني فلان، فقال: يا ابن الخطاب، ألا أقرئك
آيات نزلن (2) قبل؟" فقرأ عليّ: { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ
نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } حتى
قرأ هذه الآيات. قال: قلت: بأبي وأمي يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا
أريد أن أخبرك، فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر (3) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، عن مجالد،
أنبأنا عامر، قال: انطلق عمر بن الخطاب إلى اليهود، فقال: أنشدكم بالذي
أنزل التوراة على موسى: هل تجدون محمدًا في كتبكم؟ قالوا: نعم. قال: فما
يمنعكم أن تتبعوه؟ قالوا: إن الله لم يبعث رسولا (4) إلا جعل له من الملائكة كفْلا
وإن جبريل كَفَل محمَّدًا، وهو الذي يأتيه، وهو عدونا من الملائكة، وميكائيل
سلمنا؛ لو كان ميكائيل هو الذي يأتيه أسلمنا. قال: فإني أنشدكم
بالله الذي أنزل التوراة على موسى: ما منزلتهما من رب العالمين؟ قالوا: جبريل عن
يمينه وميكائيل عن شماله. قال عمر. وإني أشهد ما ينزلان إلا بإذن الله، وما كان
ميكائيل ليسالم عدو جبريل، وما كان جبريل ليسالم عدو ميكائيل. فبينما هو عندهم إذ
مر النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذا صاحبك يا ابن الخطاب: فقام إليه عمر،
فأتاه، وقد أنزل الله، عز وجل، عليه: { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ
لِلْكَافِرِينَ } (5) .
وهذان الإسنادان يدلان على أن الشعبي حدث به عن عمر، ولكن فيه انقطاع
بينه وبين عمر، فإنه لم يدرك وفاته (6) ،والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثنا بشر (7) حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة،
قال:
ذُكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود. فلما أبصروه (8) رحبوا به، فقال
لهم عمر: أما والله ما جئت لحبكم ولا للرغبة فيكم، ولكن جئت لأسمع منكم. فسألهم
وسألوه. فقالوا: من صاحب صاحبكم (9) ؟ فقال لهم: جبريل. فقالوا:
ذاك عدونا من أهل السماء، يُطلع محمدًا على سرنا، وإذا جاء جاء الحرب والسَّنَة،
ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل، وكان إذا جاء جاء الخصب والسلم. فقال لهم عمر: هل
تعرفون جبريل وتنكرون محمدًا صلى الله عليه وسلم؟ ففارقهم عمر عند ذلك وتوجه نحو
النبي صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) زيادة من جـ، ب، أ، و.
(2) في جـ: "نزلت".
(3) تفسير الطبري (2/ 382).
(4) في جـ: "نبيا رسولا".
(5) تفسير ابن أبي حاتم (1/290).
(6) في جـ، ط، ب، أ، و: "زمانه".
(7) في أ: "محمد بن بشر".
(8) في جـ، ط، ب، أ، و: "فلما انصرف".
(9) في أ، و: "صاحبكم".
(1/340)
ليحدثه حديثهم، فوجده قد أنزلت عليه هذه الآية: { قُلْ مَنْ كَانَ
عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } (1) .
ثم قال: حدثني المثنى، حدثنا آدم، حدثنا أبو جعفر عن قتادة، قال: بلغنا
أن عمر أقبل إلى اليهود يومًا، فذكر نحوه. وهذا -أيضًا-منقطع، وكذلك رواه أسباط،
عن السدي، عن عمر مثل هذا أو نحوه، وهو (2) منقطع أيضًا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار، حدثنا عبد الرحمن -يعني الدَّشْتَكي-حدثنا
أبو جعفر، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهوديا أتي (3)
عمر بن الخطاب، فقال: إن جبريل الذي يذكر صاحبكم عدو لنا. فقال عمر: { مَنْ كَانَ
عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ
اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } قال: فنزلت على
لسان عمر، رضي الله عنه (4) .
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشيم، أخبرنا حصين بن عبد
الرحمن، عن ابن أبي ليلى في قوله: { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } قال: قالت
اليهود للمسلمين: لو أن ميكائيل كان الذي ينزل عليكم اتبعناكم،
فإنه ينزل بالرحمة والغيث، وإن جبريل ينزل بالعذاب والنقمة، فإنه لنا عدو (5) قال:
فنزلت هذه الآية.
حدثني يعقوب قال: حدثنا هُشَيْم، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء، بنحوه.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة في قوله: { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ
} قال: قالت اليهود: إن جبريل عدونا، لأنه ينزل بالشدة والسَّنَة، وإن ميكائيل
ينزل بالرخاء والعافية والخصب، فجبريل عدونا. فقال الله تعالى: { مَنْ كَانَ
عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } [الآية] (6) .
وأما تفسير الآية فقوله تعالى: { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ
نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } أي: من عادى جبريل فليعلم أنه الروح
الأمين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله بإذنه له في ذلك، فهو رسول من رسل
الله مَلَكي [عليه وعلى سائر إخوانه من الملائكة السلام] (7)
ومن عادى رسولا فقد عادى جميع الرسل، كما أن من آمن برسول فإنه يلزمه الإيمان
بجميع الرسل، وكما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل، كما قال تعالى:
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ
بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا* أُولَئِكَ هُمُ
الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا }
[النساء:150، 151] فحكم عليهم بالكفر المحقّق، إذْ آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم
(8) وكذلك من عادى جبريل فإنه عدو لله؛
__________
(1) تفسير الطبري (2/383).
(2) في أ: "وهذا".
(3) في جـ، ط، ب، أ، و: "لقي".
(4) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 291) وهذا منقطع، ابن أبي ليلي لم يدرك عمر.
(5) في جـ: "فإنه عدونا".
(6) زيادة من جـ.
(7) زيادة من جـ.
(8) في أ: "وكفروا ببعض".
(1/341)
لأن جبريل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه، وإنما ينزل بأمر ربه كما قال: { وَمَا نَتَنزلُ
إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ
ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } [مريم: 64] وقال تعالى: {
وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ* عَلَى
قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } [الشعراء:
192-194] وقد روى البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب" (1) . ولهذا غضب الله
لجبريل على من عاداه، فقال: { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ
عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي: مِنَ
الكتب المتقدمة { وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } أي: هدى لقلوبهم وبشرى لهم
بالجنة، وليس ذلك إلا للمؤمنين. كما قال تعالى: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ
عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [فصلت: 44] ، وقال
تعالى: { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ
وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } [الإسراء:
82]
.
ثم قال تعالى: { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ
وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } يقول تعالى: من
عاداني وملائكتي ورسلي -ورسله تشمل رسله من الملائكة والبشر، كما قال تعالى: {
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ } [الحج: 75] .
{ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } (2) وهذا من باب عطف الخاص على العام، فإنهما
دخلا في الملائكة، ثم (3) عموم الرسل، ثم خصصا بالذكر؛ لأن السياق في الانتصار
لجبريل وهو السفير بين الله وأنبيائه، وقرن معه ميكائيل في اللفظ؛ لأن اليهود
زعموا أن جبريل عدوهم وميكائيل وليهم، فأعلمهم أنه من عادى واحدًا منهما فقد عادى
الآخر وعادى الله أيضًا؛ لأنه -أيضًا-ينزل على الأنبياء بعض الأحيان، كما قُرن (4)
برسول الله صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر، ولكن جبريل أكثر، وهي وظيفته،
وميكائيل موكل بالقطر والنبات، هذاك بالهدى وهذا بالرزق، كما أن إسرافيل موكل
بالصور للنفخ للبعث يوم (5) القيامة؛ ولهذا جاء في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان إذا قام من الليل يقول (6) "اللهم رب جبريل وإسرافيل وميكائيل (7) ،
فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه
يختلفون، اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط
مستقيم" (8) . وقد تقدم ما حكاه البخاري، ورواه ابن جرير (9) عن عكرمة أنه
قال: جبر، وميك، وإسراف: عُبَيد. وإيل: الله.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6502).
(2) في جـ، ط، ب: "وميكائيل".
(3) في أ: "في".
(4) في أ: "كما مر".
(5) في ط، ب: "ليوم".
(6) في جـ، ط: "قال".
(7) في جـ، ط، ب: "رب جبريل وميكائيل وإسرافيل".
(8) صحيح مسلم برقم (770) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(9) في ب: "وغيره".
(1/342)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سِنان، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن
سفيان، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن عمير (1) مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال:
إنما قوله: "جبريل" كقوله: "عبد الله" و "عبد
الرحمن". وقيل (2) جبر: عبد. وإيل: الله.
وقال محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن علي بن الحسين، قال: أتدرون (3) ما
اسم جبرائيل (4) من أسمائكم؟ قلنا: لا. قال: اسمه عبد الله، قال: فتدرون ما اسم
ميكائيل من أسمائكم؟ قلنا: لا. قال: اسمه عبيد الله (5) . وكل اسم مرجعه إلى
"يل" (6) فهو إلى الله.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد وعكرمة والضحاك ويحيى بن يعمر نحو
ذلك. ثم قال: حدثني أبي، حدثنا أحمد بن أبي الحَوَارِي، حدثني عبد العزيز بن عمير
قال: اسم جبريل في الملائكة خادم الله. قال: فحدثت (7) به أبا سليمان الداراني،
فانتفض وقال: لهذا الحديث أحبّ إليَّ من كل شيء [وكتبه] (8) في
دفتر كان بين يديه.
وفي جبريل وميكائيل لغات وقراءات، تذكر في كتب اللغة والقراءات، ولم
نطوّل كتابنا هذا بسَرد ذلك إلا أن يدور فهم المعنى عليه، أو يرجع الحكم في ذلك إليه،
وبالله الثقة، وهو المستعان.
وقوله تعالى: { فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } فيه إيقاع
المظهر مكان المضمر حيث لم يقل: فإنه عدو للكافرين. قال: { فَإِنَّ اللَّهَ
عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } كما قال الشاعر:
لا أرى الموتَ يسبق (9) الموتَ شيء ... نَغَّص (10) الموتُ ذا الغنى
والفقيرا ...
وقال آخر:
ليتَ الغرابَ غداة ينعَبُ (11) دائبا ... كان الغرابُ مقطَّع الأوداج
(12)
وإنما أظهر الاسم هاهنا لتقرير هذا المعنى وإظهاره، وإعلامهم أن من عادى
أولياء الله فقد عادى الله، ومن عادى الله فإن الله عدو له، ومن كان الله عدوه فقد
خسر الدنيا والآخرة، كما تقدم الحديث: "من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالحرب".
وفي الحديث الآخر: "إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب". وفي الحديث
الصحيح: "وَمَن كنتُ خَصْمَه خَصَمْتُه".
__________
(1) في أ: "عمر".
(2) في جـ، ط، ب، أ، و: "وقال".
(3) في جـ، ط، ب، أ، و: "تدرون".
(4) في جـ، ط، ب: "جبريل".
(5) في جـ: "عبد الله".
(6) في أ، و: "إيل".
(7) في جـ: "فحدث".
(8) زيادة من جـ.
(9) في جـ: "سوى".
(10) في جـ، ط، ب: "سبق"، وفي أ: "مسبق" وفي و:
"يسبق".
(11) في جـ: "ينعق".
(12) البيت في تفسير الطبري (2/396) وهو لجرير بن عطية.
(1/343)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا
إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
{ وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا
إِلا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ
مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) }
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا
كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ
السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ
وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا
تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ
وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ
وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ
اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ
أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ
آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ (103) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا
وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا
يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ
يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
البقرة - تفسير ابن كثير
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا
كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ
وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا
يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا
تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ
وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ
وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ
اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ
لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا
لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
{ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا
كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ
السِّحْرَ وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا
يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ
مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ
بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا
يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي
الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) }
قال الإمام أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى: { وَلَقَدْ أَنزلْنَا
إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أي: أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات [دلالات] (1)
على نبوتك، وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود، ومكنونات
سرائر أخبارهم، وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم
يكن يعلمها إلا أحبارُهم وعلماؤهم، وما حرفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه من أحكامهم،
التي كانت في التوراة. فأطلع الله في كتابه الذي أنزله إلى نبيه محمد صلى الله
عليه وسلم؛ فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف نفسه، ولم يَدْعُه إلى هلاكها
الحسد (2) والبغي، إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة تصديقُ من أتى بمثل (3) ما جاء
به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات التي وَصَفَ، من غير تعلُّم تعلَّمه
من بَشَريٍّ (4) ولا أخذ شيئًا (5) منه عن آدمي. كما قال الضحاك، عن ابن عباس: {
وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } يقول: فأنت تتلوه عليهم وتخبرهم
به غدوة وعشية، وبين ذلك، وأنت عندهم أمي لا تقرأ (6) كتابًا، وأنت تخبرهم بما في
أيديهم على وجهه. يقول الله: في ذلك لهم عبرة وبيان، وعليهم حجة لو
كانوا يعلمون.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير،
عن ابن عباس، قال: قال ابن صُوريا الفطْيُوني لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد،
ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك. فأنزل الله في ذلك
من قوله: { وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا
إِلا الْفَاسِقُونَ }
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(2) في جـ: "هلاكه بالحسد".
(3) في جـ: "تصديق ذلك من أن يمثل".
(4) في جـ: "من بشر".
(5) في جـ، ط، ب: "شيء" وهو خطأ.
(6) في جـ، ط، ب: "لم تقرأ".
(1/344)
وقال مالك بن الصيف -حين بُعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وذكرهم (1)
ما أخذ عليهم من الميثاق، وما عهد إليهم في محمد صلى الله عليه وسلم (2) والله ما عَهِد
إلينا في محمد صلى الله عليه وسلم ولا أخذ [له] (3) علينا ميثاقًا. فأنزل الله: {
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ }
وقال الحسن البصري في قوله: { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } قال:
نَعَم، ليس في الأرض عَهْدٌ يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه، يعاهدون اليوم، وينقضون
غدًا.
وقال السدي: لا يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة:
{ نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ } أي: نقضه فريق منهم.
وقال ابن جرير: أصل النبذ: الطرح والإلقاء، ومنه سمي اللقيط: منبوذًا،
ومنه سمي النبيذ، وهو التمر والزبيب إذا طرحا في الماء. قال أبو الأسود الدؤلي:
نظرتُ إلى عنوانه فنبذْتُه كنبذك نَعْلا أخْلقَتْ من نعَالكا (4)
قلت: فالقوم ذمهم الله بنبذهم العهود التي تقدم اللهُ
إليهم في التمسك بها والقيام بحقها. ولهذا أعقبهم ذلك التكذيب بالرسول المبعوث
إليهم وإلى الناس كافة، الذي في كتبهم نعتُه وصفتُه وأخبارُه، وقد أمروا فيها
باتباعه ومؤازرته ومناصرته، كما قال: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ
الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ
} الآية [الأعراف: 157]، وقال هاهنا: { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ } أي:
اطَّرَحَ طائفة منهم كتاب الله الذي بأيديهم، مما فيه البشارة بمحمد صلى الله عليه
وسلم وراء ظهورهم، أي: تركوها، كأنهم لا يعلمون ما فيها، وأقبلوا على تعلم السحر
واتباعه. ولهذا أرادوا كيْدًا برسول الله صلى الله عليه
وسلم وسَحَروه في مُشْط ومُشَاقة وجُفّ طَلْعَة ذَكر، تحت راعوثة بئر ذي أروان.
وكان الذي تولى ذلك منهم رجل، يقال له: لبيد بن الأعصم، لعنه الله، فأطلع الله على
ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، وشفاه منه وأنقذه، كما ثبت ذلك مبسوطًا في الصحيحين
عن عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، كما سيأتي بيانه (5) قال (6) السدي: { وَلَمَّا جَاءَهُمْ
رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ } قال: لما جاءهم
محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها، فاتفقت التوراة والقرآن،
فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت، فلم يوافق القرآن، فذلك قوله:
{ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ }
وقال قتادة في قوله: { كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ } قال: إن القوم
كانوا يعلمون، ولكنهم نبذوا علمهم، وكتموه وجحدوا به.
__________
(1) في أ: "وما ذكر لهم".
(2) في أ: "وما عهد الله إليهم فيه".
(3) زيادة من أ.
(4) البيت في تفسير الطبري (2/401).
(5) في جـ: "كما سيأتي بيانه إن شاء الله وبه الثقة"، وفي أ:
"كما سيأتي بيانه إن شاء اله تعالى".
(6) في جـ، ط: "وقال".
(1/345)
وقال العوفي في تفسيره، عن ابن عباس في قوله تعالى: { وَاتَّبَعُوا مَا
تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ
الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } وكان حين ذهب مُلْكُ سليمان ارتد فِئَامٌ من الجن والإنس
واتبعوا الشهوات، فلما رجع (1) اللهُ إلى سليمان ملكَه، وقام الناس على الدين كما
كان أوان سليمان، ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه، وتوفي سليمان، عليه السلام،
حدثان ذلك، فظهر الإنس والجن على الكتب بعد وفاة سليمان، وقالوا: هذا كتاب من الله
نزل (2) على سليمان وأخفاه عنا فأخذوا به فجعلوه دينًا. فأنزل الله: { وَلَمَّا
جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ
لا يَعْلَمُونَ } واتبعوا الشهوات، [أي]: (3) التي كانت [تتلو الشياطين] (4) وهي
المعازف واللعب وكل شيء يصد عن ذكر الله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، عن الأعمش،
عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان آصف كاتب سليمان، وكان يعلم
الاسم "الأعظم"، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان
ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان أخرجه (5) الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحرًا
وكفرًا، وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل بها (6) . قال: فأكفره جُهَّالُ الناس
وسبّوه، ووقف علماؤهم فلم يزل جهالهم يسبونه، حتى أنزل الله على محمد صلى الله
عليه وسلم: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا
كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } (7) .
وقال ابن جرير: حدثني أبو السائب سلم (8) بن جنادة السوائي، حدثنا أبو
معاوية، حدثنا عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان سليمان،
عليه السلام، إذا أراد أن يدخل الخلاء، أو يأتي شيئًا من نسائه، أعطى الجرادة -وهي
امرأة-خاتمه. فلما أراد الله أن يبتلي سليمان، عليه السلام، بالذي ابتلاه به، أعطى
الجرادة ذات يوم خاتَمه، فجاء (9) الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي.
فأخذه فلبسه. فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس. قال: فجاءها سليمان، فقال:
هاتي خاتمي فقالت: كذبت، لست سليمان. قال: فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به. قال:
فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبًا فيها سحر وكفر. ثم دفنوها تحت كرسي
سليمان، ثم أخرجوها وقرؤوها (10) على الناس، وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس
بهذه الكتب. قال: فبرئ الناس من سليمان، عليه السلام، وأكفروه حتى بعث الله محمدًا
صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ
الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا }
ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير،عن حصين بن عبد الرحمن، عن
عمران،
__________
(1) في جـ: "فلما أرجع".
(2) في جـ: "أنزل".
(3) زيادة من جـ.
(4) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(5) في جـ، ط، أ، و: "أخرجته".
(6) في هـ: "به"، والصواب ما أثبتناه من جـ، ط، ب، أ، و.
(7) تفسير ابن أبي حاتم (1/297).
(8) في جـ، ط، ب: "مسلم".
(9) في جـ: "فجاءها".
(10) في جـ، ط، ب، أ: "فقرؤوها".
(1/346)
وهو ابن الحارث قال: بينا نحن عند ابن عباس -رضي الله عنهما (1) -إذ جاء
(2)
رجل فقال له: مِنْ أين جئت؟ قال: من العراق. قال: من أيِّه؟ قال: من الكوفة.
قال: فما الخبر؟ قال: تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم. ففزع ثم قال: ما تقول؟
لا أبا لك! لو شعرنا ما نكحنا نساءه، ولا قسمنا ميراثه، أما إني سأحدثكم (3) عن
ذلك: إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء، فيجيء أحدهم بكلمة حق قد سمعها،
فإذا جُرِّبَ منه صدق كذب معها سبعين كذْبة، قال: فَتَشْرَبُها قلوب الناس. فأطلع
الله عليها سليمان. عليه السلام، فدفنها تحت كرسيه. فلما توفي سليمان، عليه
السلام، قام شيطانُ الطريق، فقال: أفلا أدلكم على كنزه الممنَّع (4) الذي لا كنز
له مثله؟ تحت الكرسي. فأخرجوه، فقالوا هذا سحره (5) فتناسخا الأمم-حتى
بقاياها ما يتحدث به أهل العراق-وأنزل الله عز وجل (6) { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو
الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ
كَفَرُوا }
ورواه الحاكم في مستدركه، عن أبي زكريا العَنْبري، عن محمد بن عبد
السلام، عن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير، به (7) .
وقال السدي في قوله تعالى: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ
عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أي: على عهد سليمان. قال: كانت الشياطين تصعد إلى السماء،
فتقعد منها مقاعد للسمع، فيستمعون من كلام الملائكة مما يكون في الأرض من موت أو
غيب (8) أو أمر، فيأتون الكهنة فيخبرونهم. فتحدِّث الكهنة الناسَ فيجدونه كما
قالوا. حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم. وأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل كلمة
سبعين كلمة، فاكتتب الناسُ ذلك الحديثَ في الكتب، وفشا في بني إسرائيل أن الجن
تعلم الغيب. فبُعث سليمانُ في الناس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق. ثم دفنها تحت
كرسيه. ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق. وقال: لا
أسمع أحدًا يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه. فلما مات سليمان، عليه
السلام، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان، وخلف من بعد ذلك خَلْف تمثل
شيطان في صورة إنسان، ثم أتى نفرًا من بني إسرائيل، فقال لهم: هل أدلكم على كنز لا
تأكلونه أبدًا؟ قالوا: نعم. قال: فاحفروا تحت الكرسي. وذهب معهم وأراهم المكان،
وقام ناحية، فقالوا له: فَادْنُ. قال (9) لا ولكنني هاهنا في أيديكم، فإن لم تجدوه
فاقتلوني. فحفروا فوجدوا تلك الكتب. فلما أخرجوها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان
يضبط الإنس والشياطين (10) والطير بهذا السحر. ثم طار وذهب. وفشا في الناس أن
سليمان كان
__________
(1) في ط: "عنه".
(2) في ط، ب، أ، و: "إذ جاءه".
(3) في جـ، ط: "سأحدثك"
(4) في جـ: "الممتنع".
(5) في ب، أ، و: "هذا سحر".
(6) في جـ: "الله تعالى".
(7) تفسير الطبري (2/ 415) والمستدرك (2/ 265).
(8) في جـ: "أو عبس".
(9) في جـ: "فقال".
(10) في جـ: "والجن".
(1/347)
ساحرًا. واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب، فلما جاء محمد صلى
الله عليه وسلم خاصموه بها (1) ؛ فذلك حين يقول الله تعالى: { وَمَا كَفَرَ
سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا }
وقال الربيع بن أنس: إن اليهود سألوا محمدًا صلى الله عليه وسلم زمانًا
عن أمور من التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله تعالى عليه ما سألوه
عنه، فيخصمهم (2) ، فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل الله إلينا منا. وإنهم
سألوه عن السحر وخاصموه به، فأنزل الله عز وجل: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو
الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ
الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } وإن الشياطين عَمَدوا
إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك، فدفنوه تحت مجلس سليمان،
وكان [سليمان] (3) عليه السلام، لا يعلم الغيب. فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا
ذلك السحر وخدعوا الناس، وقالوا: هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد (4) الناس عليه.
فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث فرجعوا من عنده وقد حزنوا، وأدحض
الله حجتهم.
وقال مجاهد في قوله: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى
مُلْكِ سُلَيْمَانَ } قال: كانت الشياطين تستمع (5) الوحي فما سمعوا من كلمة [إلا]
(6) زادوا فيها مائتين مثلها. فأرسِل سليمان، عليه السلام، إلى ما كتبوا من
ذلك. فلما توفي سليمان وجدته الشياطين فعلمته الناس [به] (7) وهو السحر.
وقال سعيد بن جبير: كان سليمان، عليه السلام، يتتبع ما في أيدي الشياطين
من السحر فيأخذه منهم، فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته، فلم يقدر الشياطين أن
يصلوا إليه، فدبَّت (8) إلى الإنس، فقالوا لهم: أتدرون ما العلم (9) الذي
كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا: نعم. قالوا: فإنه في بيت
خزانته وتحت كرسيه. فاستثار به (10) الإنسُ واستخرجوه فعملوا (11) بها. فقال أهل
الحجا: كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر. فأنزل الله تعالى
على [لسان] (12) نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان عليه السلام، فقال: {
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ
وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا }
وقال محمد بن إسحاق بن يسار (13) عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن
داود، عليه السلام (14) فكتبوا أصناف السحر: "من كان يحب أن يبلغ
كذا وكذا فليقل كذا وكذا". حتى إذا صنفوا أصناف السحر جعلوه في كتاب. ثم
ختموا بخاتم على نقش خاتم سليمان، وكتبوا في
__________
(1) في جـ: "بهذا".
(2) في جـ: "فيخصهم".
(3) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(4) في جـ: "ويحشر"، وفي ط: "ففسد".
(5) في جـ، ط، أ، و: "تسمع".
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من ط.
(8) في جـ، ب، أ، و: "فدنت".
(9) في جـ: "أن العلم".
(10) في جـ، ط، ب، أ، و: "فاستثارته".
(11) في جـ: "فعلموا".
(12) زيادة من جـ، ط، ، أ، و.
(13) في جـ، ط: "بشار".
(14) في جـ، ب: "عليهما السلام".
(1/348)
عُنْوانه: "هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن
داود، عليهما السلام (1) من ذخائر كنوز العلم". ثم دفنوه تحت كرسيه
واستخرجته (2) بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حتى أحدثوا ما أحدثوا. فلما عثروا عليه
قالوا: والله ما كان سليمان بن داود إلا بهذا. فأفشوا السحر في الناس [وتعلموه
وعلموه] (3) . وليس هو في أحد أكثر (4) منه في اليهود لعنهم
الله. فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نزل عليه من الله، سليمان بن
داود، وعده فيمن عَدَّه من المرسلين، قال من كان بالمدينة من يهود: ألا تعجبون من
محمد! يزعم أن ابن داود كان نبيًا، والله ما كان إلا ساحرًا. وأنزل الله [في] (5)
ذلك من قولهم: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ
وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } الآية.
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا حسين، حدثنا الحجاج (6) عن أبي بكر،
عن شَهْر بن حَوشب، قال: لما سلب سليمان، عليه السلام، ملكه، كانت الشياطين تكتب
السحر في غيبة سليمان. فكتبت: "من أراد أن يأتي كذا وكذا فليستقبل الشمس،
وليقل كذا وكذا (7) ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا.
فكتبته وجعلت عنوانه: هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان [بن داود] (8) من
ذخائر كنوز العلم". ثم دفنته تحت كرسيه. فلما مات سليمان، عليه السلام، قام
إبليس، لعنه الله، خطيبًا، [ثم] (9) قال: يا أيها الناس، إن سليمان لم يكن
نَبيًّا، إنما كان ساحرًا، فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته. ثم دلهم على المكان
الذي دفن فيه. فقالوا: والله لقد كان سليمان ساحرًا! هذا (10) سحره، بهذا
تَعَبدنا، وبهذا قهرنا. وقال المؤمنون: بل كان نبيًا مؤمنًا. فلما بعث الله النبي
صلى الله عليه وسلم جعل يذكر الأنبياء حتى ذكر داود وسليمان. فقالت اليهود [لعنهم
الله] (11) انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل. يذكر سليمان مع الأنبياء. إنما كان
ساحرًا يركب الريح، فأنزل الله تعالى: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ
عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } الآية.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: حدثنا المعتمر
بن سليمان، قال: سمعت عمران بن حُدَير، عن أبي مِجْلَز، قال: أخذ سليمان، عليه
السلام، من كل دابة عهدًا، فإذا أصيب رجل فسأل بذلك العهد، خلى عنه. فزاد الناس
السجع والسحر، وقالوا: هذا يعمل به
__________
(1) في ط: "عليه السلام".
(2) في ط: "واستخرجه".
(3) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(4) في جـ: "اكبر".
(5) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(6) في جـ، ط، ب، أ، و: "حجاج".
(7) في جـ، ط، ب، أ، و: "كذا وكذا".
(8) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(9) زيادة من جـ.
(10) في جـ: "وهذا".
(11) زيادة من جـ.
(1/349)
سليمان. فقال الله تعالى: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ
الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } (1) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عصام بن رَوّاد، حدثنا آدم، حدثنا المسعودي،
عن زياد مولى ابن مصعب، عن الحسن: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ } قال: ثلث الشعر، وثلث
السحر، وثلث الكهانة.
وقال: حدثنا الحسن بن أحمد، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار الواسطي،
حدثني سُرور بن المغيرة، عن عباد بن منصور، عن الحسن: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو
الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } واتبعته اليهود على ملكه. وكان السحر
قبل ذلك في الأرض لم يزل بها، ولكنه إنما اتبع على ملك سليمان.
فهذه نبذة من أقوال أئمة السلف في هذا المقام، ولا يخفى ملخص القصة
والجمع بين أطرافها، وأنه لا تعارض بين السياقات على اللبيب الفَهِم، والله
الهادي. وقوله تعالى: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى
مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أي: واتبعت اليهود -الذين أوتوا الكتاب بعد إعراضهم
عن كتاب الله الذي بأيديهم ومخالفتهم الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم ما تتلوه
(2) الشياطين، أي: ما ترويه وتخبر به وتُحدثه الشياطين على ملك سليمان. وعداه
بعلى؛ لأنه تضمن تتلو: تكذب. وقال ابن جرير: "على" (3) هاهنا بمعنى
"في"، أي: تتلو في ملك سليمان. ونقله عن ابن جُرَيج، وابن إسحاق.
قلت: والتضمن أحسن وأولى، والله أعلم.
وقول الحسن البصري، رحمه الله: "قد كان السحر قبل زمان (4) سليمان
بن داود" صحيح لا شك فيه؛ لأن السحرة كانوا في زمان (5)
موسى، عليه السلام، وسليمان بن داود بعده، كما قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى
الْمَلإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ
لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } الآية [البقرة:
246]، ثم ذكر القصة بعدها، وفيها: { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ
وَالْحِكْمَةَ } [البقرة: 251] . وقال قوم صالح -وهم قبل إبراهيم الخليل، عليه
السلام، لنبيهم صالح: { إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ } [الشعراء: 153]
أي: [من] (6) المسحورين على المشهور.
وقوله تعالى: { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ
وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ
فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ
وَزَوْجِهِ } اختلف الناس في هذا المقام، فذهب بعضهم إلى أن "ما" نافية، أعني التي
في قوله: { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } قال القرطبي: "ما" نافية
ومعطوفة على قوله: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } ثم قال: { وَلَكِنَّ
الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزلَ } أي: السحر
{ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } وذلك أن اليهود -لعنهم الله-كانوا يزعمون أنه نزل
__________
(1) تفسير الطبري (2/ 414).
(2) في جـ، ط، ب، أ، و: "ما تتلوه".
(3) في جـ، ط،: "وعلي".
(4) في جـ، ط، ب، أ، و: "قبل زمن".
(5) في جـ: "زمن".
(6) زيادة من جـ، ط.
(1/350)
به جبريل وميكائيل فأكذبهم الله في ذلك وجعل قوله: { هَارُوتَ
وَمَارُوتَ } بدلا من: { الشياطين } قال: وصح ذلك، إما لأن
الجمع قد يطلق على الاثنين كما في قوله: { فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } [النساء:
11] أو يكون لهما أتباع، أو ذكرا من بينهم لتمردهما، فتقدير الكلام عنده: تعلمون
الناس السحر ببابل، هاروت وماروت. ثم قال: وهذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح ولا يلتفت
إلى ما سواه.
وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي، عن ابن عباس، في قوله: { وَمَا
أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } يقول: لم ينزل الله
السحر. وبإسناده، عن الربيع بن أنس، في قوله: { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ
} قال: ما أنزل الله عليهما السحر.
قال ابن جرير: فتأويل الآية على هذا: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك
سليمان من السحر، وما كفر سليمان، ولا أنزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين
كفروا يعلمون الناس السحر ببابل، هاروت وماروت. فيكون قوله: {
بِبَابِلَ هَارُوتَ [وَمَارُوت (1) ] } من المؤخر الذي معناه المقدم. قال: فإن قال
لنا قائل: وكيف وجه تقديم ذلك؟ قيل: وجه تقديمه أن يقال: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو
الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } -"من السحر"-
{ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } وما أنزل الله "السحر" على الملكين، {
وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } ببابل وهاروت
وماروت فيكون معنيا بالملكين: جبريل وميكائيل، عليهما السلام؛ لأن سحرة اليهود
فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن
داود، فأكذبهم الله بذلك، وأخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل
لم ينزلا بسحر، وبرأ سليمان، عليه السلام، مما نحلوه من السحر، وأخبرهم أن السحر
من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان، اسم
أحدهما هاروت، واسم الآخر ماروت، فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن
الناس، وردًا عليهم.
هذا لفظه بحروفه (2) .
وقد قال ابن أبي حاتم: حُدّثت عن عُبَيد الله بن موسى، أخبرنا فضيل بن
مرزوق، عن عطية { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } قال: ما أنزل الله على جبريل
وميكائيل السحر.
حدثنا (3) الفضل بن شاذان، حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا يعلى
-يعني ابن أسد-حدثنا بكر (4) -يعني ابن مصعب-حدثنا الحسن بن أبي جعفر: أن عبد
الرحمن بن أبزى كان يقرؤها: "وما أنزل على الملكين داود وسليمان".
وقال أبو العالية: لم ينزل عليهما السحر، يقول: علما الإيمان والكفر،
فالسحر من الكفر، فهما ينهيان عنه أشد النهي. رواه ابن أبي حاتم.
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(2) تفسير الطبري (2/ 419، 420).
(3) في و: "وقال ابن أبي حاتم: حدثنا".
(4) في جـ، ط، ب: "بكير".
(1/351)
ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول، وأن "ما" بمعنى الذي، وأطال
القول في ذلك، وادعى (1) أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما الله إلى الأرض، وأذن لهما
في تعليم السحر اختبارًا لعباده وامتحانًا، بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه
على ألسنة الرسل، وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك؛ لأنهما امتثلا ما
أمرا به.
وهذا الذي سلكه غريب جدًا! وأغرب منه قول من زعم أن هاروت وماروت قبيلان
من الجن [كما زعمه ابن حزم] (2) !
وروى ابن أبي حاتم بإسناده. عن الضحاك بن مزاحم: أنه كان يقرؤها: {
وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } ويقول: هما علجان من أهل بابل.
وَوَجَّه أصحابُ هذا القول الإنزال بمعنى الخَلْق، لا بمعنى الإيحاء، في
قوله:
{ وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } كما قال تعالى: { وَأَنزلَ لَكُمْ
مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [الزمر: 6]، { وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ
بَأْسٌ شَدِيدٌ } [الحديد: 25] ، { وَيُنزلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا }
[غافر: 13] . وفي الحديث: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء". وكما يقال: أنزل
الله الخير والشر.
[وحكى القرطبي عن ابن عباس وابن أبزى والضحاك والحسن البصري: أنهم قرؤوا:
"وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ" بكسر اللام. قال ابن أبزى: وهما
داود وسليمان. قال القرطبي: فعلى هذا تكون "ما" نافية أيضًا] (3) .
وذهب آخرون إلى الوقف على قوله: { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ
السِّحْرَ } [و "ما" نافية] (4) قال ابن جرير: حدثني يونس،
أخبرنا ابن وهب، أخبرنا الليث، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، وسأله رجل عن
قول الله تعالى: { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } قال الرجل: يعلمان الناس السحر، ما
أنزل عليهما (5) أو يعلمان الناس ما لم ينزل عليهما؟ فقال القاسم: ما أبالي أيتهما
كانت.
ثم روى عن يونس، عن أنس بن عياض، عن بعض أصحابه: أن القاسم قال في هذه
القصة: لا أبالي أيّ ذلك كان، إني آمنت به.
وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء، وأنهما أنزلا إلى
الأرض، فكان من أمرهما ما كان. وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في مسنده
كما سنورده إن شاء الله تعالى. وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا وبين ما ثبت من
الدلائل على عصمة الملائكة أن هذين سبق في علم الله لهما هذا، فيكون تخصيصًا لهما،
فلا تعارض حينئذ، كما سبق في علمه من أمر إبليس
__________
(1) في جـ: "وادعى على".
(2) زيادة من جـ، ط.
(3) زيادة من جـ، ط.
(4) زيادة من جـ، ط، ب، و.
(5) في جـ : "إليهما".
(1/352)
ما سبق، وفي قول: إنه كان من الملائكة، لقوله تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ
اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى } [طه: 116] ،
إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك. مع أن شأن هاروت وماروت -على ما ذكر-أخف
مما وقع من إبليس لعنه الله.
[وقد حكاه القرطبي عن على، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وكعب
الأحبار، والسدي، والكلبي] (1) .
ذكر الحديث الوارد في ذلك -إن صح سنده ورفعه-وبيان الكلام عليه:
قال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله، في مسنده: حدثنا يحيى بن [أبي] (2)
بكير، حدثنا زهير بن محمد، عن موسى بن جبير، عن نافع، عن عبد الله بن عمر: أنه سمع
نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن آدم -عليه السلام-لما أهبطه الله إلى
الأرض قالت الملائكة: أي رب (3) { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ
إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } [البقرة: 30] ،
قالوا: ربنا، نحن أطوع لك من بني آدم. قال الله تعالى للملائكة: هَلُموا ملكين من
الملائكة حتى نهبطهما إلى الأرض، فننظر كيف يعملان؟ قالوا: برَبِّنا، هاروتَ
وماروتَ. فأهبطا إلى الأرض ومثُلت لهما (4) الزُّهَرة امرأة من أحسن البشر،
فجاءتهما، فسألاها نفسها. فقالت: لا والله حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك.
فقالا والله (5) لا نشرك بالله شيئًا أبدًا. فذهبت عنهما ثم
رجعت بصبي تحمله، فسألاها نفسها. فقالت: لا والله حتى تقتلا هذا الصبي. فقالا لا
والله لا نقتله أبدًا. ثم ذهبت فرجعت (6) بقَدَح خَمْر تحمله، فسألاها نفسها.
فقالت: لا والله حتى تشربا هذا الخمر. فشربا فسكرا، فوقعا عليها، وقتلا الصبي.
فلما أفاقا قالت المرأة: والله ما تركتما شيئًا أبيتماه عليّ إلا قد (7) فعلتماه
حين سكرتما. فخيرَا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا".
وهكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه، عن الحسن عن سفيان، عن أبي بكر
بن أبي شيبة، عن يحيى بن بكير، به (8) .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه، ورجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين، إلا
موسى بن جبير هذا، وهو الأنصاري السلمي مولاهم المديني الحذاء، رَوَى عن ابن عباس وأبي
أمامة بن سهل بن حنيف، ونافع، وعبد الله بن كعب بن مالك. وروى عنه ابنه عبد
السلام، وبكر بن مضر، وزهير بن محمد، وسعيد بن سلمة، وعبد الله بن لَهِيعة، وعمرو
بن الحارث، ويحيى بن أيوب. وروى له أبو داود، وابن ماجه، وذكره ابن أبي حاتم في
كتاب الجرح والتعديل، ولم يحك فيه شيئًا
__________
(1) زيادة من جـ، ط.
(2) زيادة من ط.
(3) في جـ: "يا رب".
(4) في جـ: "لهم".
(5) في جـ، ط: "لا والله".
(6) في ج، ط، ب: "فذهبت ثم رجعت".
(7) في جـ: "وقد".
(8) المسند (2/ 134) وصحيح ابن حبان برقم (1717) "موارد" وقال أبو
حاتم في العلل (2/ 69): "هذا حديث منكر".
(1/353)
من هذا ولا هذا، فهو مستور الحال (1) وقد تفرد به عن نافع مولى ابن عمر،
عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروي له متابع من وجه آخر عن نافع، كما
قال ابن مَرْدُويه: حدثنا دَعْلَجُ بن أحمد، حدثنا هشام [بن علي بن هشام] (2) حدثنا
عبد الله بن رجاء، حدثنا سعيد بن سلمة، حدثنا موسى بن سَرْجِس، عن نافع، عن ابن
عمر: سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول. فذكره بطوله.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين -وهو سنيد بن داود
صاحب التفسير-حدثنا الفرج بن فضالة، عن معاوية بن صالح، عن نافع، قال: سافرت مع
ابن عمر، فلما كان من آخر الليل قال: يا نافع، انظر، طلعت الحمراء؟ قلت: لا -مرتين
أو ثلاثًا-ثم قلت: قد طلعت. قال: لا مرحبًا بها ولا أهلا؟ قلت: سبحان الله! نجم
مسخر سامع مطيع. قال: ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم -أو
قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم-: "إن الملائكة قالت: يا رب، كيف
صبرك على بني آدم في الخطايا (3) والذنوب؟ قال: إني ابتليتهم وعافيتكم. قالوا: لو
كنا مكانهم ما عصيناك. قال: فاختاروا ملكين منكم. قال: فلم يألوا جهدًا
أن يختاروا، فاختاروا هاروت وماروت" (4) .
وهذان -أيضاً-غريبان جدًّا. وأقرب ما في هذا أنه من رواية عبد الله بن
عمر، عن كعب الأحبار، لا عن النبي (5) صلى الله عليه وسلم، كما قال عبد الرزاق في
تفسيره، عن الثوري، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر، عن كعب، قال (6) ذكرت
الملائكة أعمال بني آدم، وما يأتون من الذنوب، فقيل لهم: اختاروا منكم اثنين،
فاختاروا هاروت وماروت. فقال (7) لهما: إني أرسل
إلى بني آدم رسلا وليس بيني وبينكم رسول، انزلا لا تشركا بي شيئًا ولا تزنيا ولا
تشربا الخمر. قال كعب: فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استكملا جميع
ما نهيا عنه.
ورواه ابن جرير من طريقين، عن عبد الرزاق، به (8) .
ورواه ابن أبي حاتم، عن أحمد بن عصام، عن مُؤَمَّل، عن سفيان الثوري، به
(9)
.
ورواه ابن جرير أيضًا: حدثني المثنى، حدثنا المعلى -وهو ابن أسد-حدثنا
عبد العزيز بن المختار، عن موسى بن عقبة، حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث، عن كعب
الأحبار، فذكره (10) .
فهذا أصح وأثبت إلى عبد الله بن عمر من الإسنادين المتقدمين، وسالم أثبت
في أبيه من مولاه
__________
(1) الجرح والتعديل (8/ 139) وذكره ابن حبان في الثقات (7/451) وقال:
"يخطئ ويخالف".
(2) زيادة من جـ، ط، و.
(3) في ط، ب: "الخطأ".
(4) تفسير الطبري (2/433).
(5) في جـ: "رسول الله".
(6) في ط: "وقال".
(7) في جـ، ط، ب، و: "فقيل".
(8) تفسير عبد الرزاق (1/ 73، 74). وتفسير الطبري (2/429).
(9) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 306).
(10) تفسير الطبري (2/ 430).
(1/354)
نافع. فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار، عن كتب بني إسرائيل، والله
أعلم.
ذكر الآثار الواردة في ذلك عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين:
قال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا الحجاج (1) حدثنا حماد، عن خالد
الحذاء، عن عمير بن سعيد، قال: سمعت عليًا، رضي الله عنه، يقول: كانت الزُّهَرة
امرأة جميلة من أهل فارس، وإنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت، فراوداها (2) عن نفسها، فأبت
عليهما إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكَلَّم [المتكلم] (3) به يُعْرج به إلى
السماء. فعلماها فتكلمت به فعرجت إلى السماء. فمسخت كوكبًا!
وهذا الإسناد [جيد و] (4) رجاله ثقات، وهو غريب جداً.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الفضل بن شاذان، حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا
إبراهيم بن موسى، حدثنا أبو معاوية، عن [ابن أبي] (5) خالد، عن عمير بن سعيد، عن
علي قال: هما ملكان من ملائكة السماء. يعني: { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ }
(6)
.
ورواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره بسنده، عن مغيث، عن مولاه
جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن علي -مرفوعًا. وهذا لا يثبت من
هذا الوجه.
ثم رواه من طريقين آخرين، عن جابر، عن أبي الطفيل، عن علي، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الزّهَرة، فإنها هي التي فتنت
الملكين هاروت وماروت". وهذا أيضًا لا يصح (7) وهو منكر جدًا.
والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثني المثنى بن إبراهيم، حدثنا الحجاج بن مِنْهال،
حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي، عن ابن مسعود وابن عباس أنهما
قالا جميعًا: لما كثر (8) بنو آدم وعصوا، دعت الملائكة عليهم والأرض والجبال ربنا
لا تهلكهم (9) فأوحى الله إلى الملائكة: إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم، ولو
نزلتم لفعلتم أيضًا. قال: فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا، فأوحى الله إليهم
أن اختاروا ملكين من أفضلكم. فاختاروا هاروت وماروت. فأهبطا إلى الأرض، وأنزلت الزُّهَرة
إليهما في صورة (10) امرأة من أهل فارس يسمونها بيذخت. قال: فوقعا بالخطيَّة
(11) . فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا: { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ
رَحْمَةً وَعِلْمًا } [غافر: 7]
__________
(1) في جـ: "المثنى بن الحجاج".
(2) في جـ: "فراودوها".
(3) زيادة من جـ، ط.
(4) زيادة من جـ.
(5) زيادة من ط، ب، و.
(6) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 303).
(7) ورواه ابن السني في عمل اليوم والليلة برقم (654) من طريق عيسى بن يونس
عن أخيه إسرائيل عن جابر عن أبي الطفيل عن علي به.
(8) في جـ: "كثر سواد".
(9) في جـ، ط: "تمهلهم".
(10) في جـ: "في أحسن صورة".
(11) في جـ: "بالخطيئة".
(1/355)
فلما وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور
الرحيم. فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختاروا (1) عذاب الدنيا (2) .
وقال: ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن جعفر
الرقي، أخبرنا عبيد الله -يعني ابن عمرو-عن زيد بن أبي أنيسة، عن المِنْهال
بن عمرو ويونس بن خباب، عن مجاهد، قال: كنت نازلا على عبد الله بن عمر في سفر،
فلما كان (3) ذات ليلة قال لغلامه: انظر، هل طلعت الحمراء، لا مرحبًا بها ولا أهلا
ولا حياها الله هي صاحبة الملكين. قالت الملائكة: يا رب، كيف تدع عصاة بني آدم وهم
يسفكون الدم الحرام وينتهكون محارمك ويفسدون في الأرض! قال: إني ابتليتهم، فعلَّ
(4) إن ابتليتكم بمثل الذي ابتليتهم به فعلتم كالذي يفعلون. قالوا: لا. قال:
فاختاروا من خياركم اثنين. فاختاروا هاروت وماروت. فقال لهما: إني مهبطكما إلى
الأرض، وعاهد إليكما ألا تشركا ولا تزنيا ولا تخونا. فأهبطا إلى الأرض وألقي
عليهما الشَّبَق، وأهبطت لهما الزُّهَرة في أحسن صورة امرأة، فتعرضت لهما،
فراوداها (5) عن نفسها. فقالت: إني على دين لا يصح (6) لأحد أن يأتيني
إلا من كان على مثله. قالا وما دينك؟ قالت: المجوسية. قالا الشرك! هذا شيء لا نقر
به. فمكثت عنهما ما شاء الله. ثم تعرضت لهما فأراداها عن نفسها. فقالت: ما شئتما،
غير أن لي زوجًا، وأنا أكره أن يطلع على هذا مني فأفتضح، فإن أقررتما لي بديني،
وشرطتما لي أن تصعدا بي إلى السماء فعلت. فأقرا لها بدينها وأتياها فيما يريان، ثم
صعدا بها إلى السماء. فلما انتهيا بها إلى السماء اختطفت منهما، وقطعت أجنحتهما (7) فوقعا خائفين
نادمين يبكيان، وفي الأرض نبي يدعو بين الجمعتين، فإذا كان يوم الجمعة أجيب. فقالا
لو أتينا فلانًا فسألناه فطلب (8) لنا التوبة فأتياه، فقال: رحمكما الله (9) كيف
يطلب التوبة أهل الأرض لأهل السماء! قالا إنا قد
ابتلينا. قال: ائتياني (10) يوم الجمعة. فأتياه، فقال: ما أجبت فيكما بشيء،
ائتياني في الجمعة الثانية. فأتياه، فقال: اختارا، فقد خيرتما، إن أحببتما معافاة
الدنيا وعذاب الآخرة، وإن أحببتما فعذاب الدنيا وأنتما يوم القيامة على حكم الله.
فقال أحدهما: إن الدنيا لم يمض منها إلا القليل. وقال الآخر: ويحك؟ إني قد أطعتك
في الأمر الأول فأطعني الآن، إن عذابا يفنى ليس كعذاب يبقى. وإننا يوم القيامة على
حكم الله، فأخاف أن يعذبنا. قال: لا إني أرجو إن علم الله أنا قد اخترنا عذاب
الدنيا مخافة عذاب الآخرة لا يجمعهما علينا. قال: فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا في
بكرات من حديد في قَلِيب مملوءة من نار، عَاليهُمَا
__________
(1) في جـ، ط، ب: "فاختارا".
(2) تفسير الطبري (2/ 428)
(3) في جـ: "فلما كانت".
(4) في جـ: "بفعل".
(5) في جـ: "فأراداها".
(6) في جـ، ط، ب: "لا يصلح".
(7) في جـ: "أجنحتها".
(8) في جـ، ط، ب: "يطلب".
(9) في جـ: "ما رحمكم الله".
(10) في جـ: "فأتياني".
(1/356)
سافلَهما (1) .
وهذا إسناد جيد إلى عبد الله بن عمر. وقد تقدم في رواية ابن جرير من
حديث معاوية بن صالح، عن نافع، عنه رفعه. وهذا أثبت وأصح إسنادًا. ثم هو -والله أعلم-من
رواية ابن عمر عن كعب، كما تقدم بيانه من رواية سالم عن أبيه. وقوله: إن
الزُّهَرة نزلت في صورة امرأة حسناء، وكذا في المروي عن علي، فيه غرابة جدًا.
وأقرب ما ورد في ذلك ما قال ابن أبي حاتم: حدثنا عصام بن روّاد، حدثنا
آدم، حدثنا أبو جعفر، حدثنا الربيع بن أنس، عن قيس بن عباد، عن ابن عباس، رضي الله
عنهما (2) قال: لما وقع الناس من بعد آدم، عليه السلام، فيما وقعوا فيه من المعاصي
والكفر بالله، قالت الملائكة في السماء: يا رب، هذا
العالم الذي إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك، قد وقعوا فيما وقعوا فيه وركبوا الكفر
وقتل النفس وأكل المال الحرام، والزنا والسرقة وشرب الخمر. فجعلوا يدعون عليهم،
ولا يعذرونهم، فقيل: إنهم في غَيْب. فلم يعذروهم. فقيل لهم: اختاروا منكم من
أفضلكم ملكين، آمرهما وأنهاهما. فاختاروا هاروت
وماروت. فأهبطا إلى الأرض، وجعل لهما شهوات بني آدم، وأمرهما الله أن يعبداه ولا
يشركا به شيئًا، ونهيا عن قتل النفس الحرام وأكل المال الحرام، وعن الزنا والسرقة
وشرب الخمر. فلبثا في الأرض زمانًا يحكمان بين الناس بالحق وذلك في زمان إدريس
عليه السلام. وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزُّهَرة في سائر
الكواكب، وأنهما أتيا عليها فخضعا لها في القول وأراداها على نفسها فأبت إلا أن
يكونا على أمرها وعلى دينها، فسألاها (3) عن دينها، فأخرجت لهما صنمًا فقالت: هذا
أعبده. فقالا لا حاجة لنا في عبادة هذا. فذهبا فغَبَرا ما شاء الله. ثم أتيا عليها
فأراداها على نفسها، ففعلت مثل ذلك. فذهبا، ثم أتيا عليها فراوداها (4) على نفسها،
فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم قالت لهما: اختارا إحدى الخلال الثلاث: إما
أن تعبدا هذا الصنم، وإما أن تقتلا هذه النفس، وإما أن تشربا هذا الخمر. فقالا كل
هذا لا ينبغي، وأهون هذا شرب الخمر. فشربا الخمر فأخذت فيهما فواقعا (5) المرأة،
فخشيا أن يخبر الإنسان عنهما فقتلاه (6) فلما ذهب عنهما
السكر وعلما ما وقعا فيه من الخطيئة أرادا أن يصعدا إلى السماء، فلم يستطيعا، وحيل
بينهما وبين ذلك، وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما
وقعا فيه، فعجبوا كل العجب، وعَرَفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية، فجعلوا بعد
ذلك يستغفرون لمن في الأرض، فنزل في ذلك: { وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ
رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ } [الشورى: 5] فقيل لهما: اختارا عذاب
الدنيا أو عذاب الآخرة فقالا أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 306، 307).
(2) في جـ، ط: "عنه".
(3) في جـ، ط، ب: "فسألا".
(4) في جـ، ط، ب: "فأراداها".
(5) في جـ: "فوقعا".
(6) في جـ: "فقتلاها".
(1/357)
ويذهب، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له. فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا
ببابل، فهما يعذبان (1) .
وقد رواه الحاكم في مستدركه مطولا عن أبي زكريا العنبري، عن محمد بن عبد
السلام، عن إسحاق بن راهويه، عن حكام بن سلم (2) الرازي، وكان ثقة، عن أبي جعفر
الرازي، به. ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. فهذا أقرب ما روي في شأن
الزُّهَرة، والله أعلم (3) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا مسلم، حدثنا القاسم بن الفضل
الحُدَّاني (4) حدثنا يزيد -يعني الفارسي-عن ابن عباس [قال] (5) أن أهل سماء
الدنيا أشرفوا على أهل الأرض فرأوهم يعملون المعاصي (6) فقالوا: يا رب أهل الأرض
كانوا يعملون بالمعاصي! فقال الله: أنتم معي، وهم
غُيَّب عني. فقيل لهم: اختاروا منكم ثلاثة، فاختاروا منهم ثلاثة على أن يهبطوا إلى
الأرض، على أن يحكموا بين أهل الأرض، وجعل فيهم شهوة الآدميين، فأمروا ألا يشربوا
خمرًا ولا يقتلوا نفسا، ولا يزنوا، ولا يسجدوا لوثن. فاستقال منهم واحد، فأقيل.
فأهبط اثنان إلى الأرض، فأتتهما امرأة من أحسن الناس (7) يقال لها: مناهية (8) .
فَهَويَاها جميعًا، ثم أتيا منزلها فاجتمعا عندها، فأراداها فقالت لهما: لا حتى
تشربا خمري، وتقتلا ابن جاري، وتسجدا لوثني. فقالا لا نسجد. ثم شربا من الخمر، ثم
قتلا ثم سجدا. فأشرف أهل السماء عليهما. فقالت (9) لهما: أخبراني بالكلمة التي إذا
قلتماها طرتما. فأخبراها فطارت فمسخت جمرة. وهي هذه الزهَرة. وأما هما فأرسل
إليهما سليمان بن داود فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فاختارا عذاب
الدنيا. فهما مناطان بين السماء والأرض (10) .
وهذا السياق فيه زيادات كثيرة وإغراب ونكارة، والله أعلم بالصواب.
وقال عبد الرزاق: قال مَعْمَر: قال قتادة والزهري، عن عبيد الله بن عبد
الله:
{ وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } كانا
ملكين من الملائكة، فأهبطا ليحكما بين الناس. وذلك أن الملائكة سخروا من حكام بني
آدم، فحاكمت إليهما امرأة، فحافا لها. ثم ذهبا يصعدان فحيل بينهما وبين ذلك، ثم
خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا. وقال مَعْمَر:
قال قتادة: فكانا يعلمان الناس السحر، فأخذ عليهما ألا يعلما أحدا حتى يقولا {
إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } (11) .
وقال أسباط عن السدي أنه قال: كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على
أهل الأرض في
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 305).
(2) في و: "بن سالم".
(3) وقد أبطل الإمام ابن حزم قصة هاروت وماروت ورد على من ادعى شربهما الخمر
وارتكابهما الزنا والقتل في كتابه الفصل (3 / 303-308، 4/ 61-65).
(4) في جـ: "الحراني".
(5) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(6) في جـ، ط، أ، و: "بالمعاصي".
(7) في جـ: "النساء".
(8) في أ: "أناهيد".
(9) في جـ، ط، ب،: "وقالت.
(10) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 308).
(11) تفسير عبد الرزاق (1/ 73).
(1/358)
أحكامهم، فقيل لهما: إني أعطيت بني آدم عشرًا من الشهوات، فبها (1)
يعصونني. قال هاروت وماروت: ربنا، لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل.
فقال لهما: انزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر، فاحكما بين الناس. فنزلا ببابل
دَنْباوَند، فكانا يحكمان، حتى إذا أمسيا عرجا، فإذا أصبحا هبطا، فلم يزالا كذلك
حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها، فأعجبهما (2) حسنها -واسمها بالعربية
"الزّهَرة"، وبالنبطية "بيذخت" وبالفارسية
"أناهيد"-فقال أحدهما لصاحبه: إنها لتعجبني. قال الآخر: قد أردت أن أذكر
لك فاستحييت منك. فقال الآخر: هل لك أن أذكرها لنفسها؟ قال: نعم ولكن كيف لنا
بعذاب الله؟ قال الآخر: إنا لنرجو رحمة الله. فلما جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها
نفسها، فقالت: لا حتى تقضيا لي على زوجي. فقضيا لها على زوجها، ثم واعدتهما خَربة من
الخَرِب يأتيانها فيها، فأتياها لذلك. فلما أراد الذي يواقعها قالت: ما أنا بالذي
أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء، وبأي كلام تنزلان منها؟ فأخبراها،
فتكلمت فصعدت، فأنساها الله ما تنزل به، فبقيت (3) مكانها، وجعلها (4) الله
كوكبًا. فكان عبد الله بن عمر كلما رآها لعنها، فقال: هذه التي فتنت هاروت وماروت،
فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يطيقا، فعرفا الهلكة فخيرا بين عذاب الدنيا
وعذاب الآخرة. فاختارا عذاب الدنيا، فعلقا ببابل، وجعلا يكلمان الناس كلامهما وهو
السحر.
وقال ابن أبي نَجِيح (5) عن مجاهد: أما
شأن هاروت وماروت، فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم، وقد جاءتهم الرسل والكتب
والبينات، فقال لهم ربهم تعالى: اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض بين
بنى آدم فاختاروا فلم يألوا [إلا] (6) هاروت وماروت، فقال لهما حين أنزلهما:
أعجبتما (7) من بني آدم من ظلمهم ومن معصيتهم، وإنما تأتيهم الرسل والكتب
[والبينات] (8) من وَرَاء وَرَاء، وأنتما ليس بيني وبينكما رسول، فافعلا كذا وكذا،
ودعا كذا وكذا، فأمرهما بأمر ونهاهما، ثم نزلا على ذلك ليس أحد أطوع لله منهما،
فحكما فعدلا. فكانا يحكمان في النهار بين بني آدم، فإذا أمسيا عرجا فكانا مع
الملائكة، وينزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان، حتى أنزلت عليهما الزهرة في أحسن
صورة امرأة تُخَاصم، فقضيا عليها. فلما قامت وجد كل واحد منهما في نفسه، فقال أحدهما
لصاحبه: وجدتَ مثل الذي وجدتُ؟ قال: نعم. فبعثا إليها أن ائتيانا نقض لك. فلما
رجعت قالا وقضيا لها، فأتتهما فتكشفا لها عن عورتيهما، وإنما كانت شهوتهما (9) في
أنفسهما، ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذتها. فلما بلغا ذلك
واستحلا افتُتنا، فطارت الزهرة فرجعت حيث كانت. فلما أمسيا عَرَجا فزُجرا فلم يؤذن
لهما، ولم تحملهما أجنحتهما. فاستغاثا برجل من بني آدم
__________
(1) في ط، ب: "فما".
(2) في جـ، ط، ب، أ، و: "فأعجبهما من ".
(3) في ب، أ، و: "فثبتت".
(4) في أ: "وخلقها".
(5) في ط: "جريج".
(6) زيادة من جـ.
(7) في جـ، ط، ب: "أعجبتم".
(8) زيادة من جـ.
(9) في أ، و: "سوآتهما".
(1/359)
فأتياه، فقالا ادع لنا ربك. فقال: كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا
سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء. فوعدهما يومًا، وغدا يدعو لهما، فدعا لهما،
فاستجيب له، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فنظر أحدهما إلى صاحبه، فقال: ألا تعلم أن
أفواج عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد، وفي الدنيا تسع مرات مثلها؟ فأمرا
أن ينزلا ببابل، فثَمَّ عذابهما. وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان، يصفقان
بأجنحتهما.
وقد روى في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين، كمجاهد والسدي
والحسن [البصري] (1) وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان
وغيرهم، وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع في تفصيلها
إلى أخبار بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق
المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط
ولا إطناب فيها، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى، والله أعلم
بحقيقة الحال.
وقد ورد في ذلك أثر غريب وسياق عجيب في ذلك أحببنا أن ننبه عليه، قال:
الإمام أبو جعفر بن جرير، رحمه الله: حدثنا الربيع بن سليمان، أخبرنا ابن وهب،
أخبرني ابن أبي الزناد، حدثني هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي صلى
الله عليه وسلم [رضي الله عنها وعن أبيها] (2) أنها قالت: قدمت امرأة عليَّ من أهل
دومة الجندل، جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حَدَاثة ذلك،
تسأله عن شيء (3) دخلت فيه من أمر السحر، ولم تعمل به. قالت عائشة، رضي الله عنها،
لعُرْوَة: يا ابن أختي، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيشفيها كانت تبكي حتى إني لأرحمها، وتقول: إني أخاف أن أكون قد هلكت. كان لي زوج
فغاب عني، فدخلت على عجوز فشكوت ذلك إليها، فقالت: إن فعلت ما آمرك به فأجعله
يأتيك. فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين، فركبتُ أحدهما (4) وركبت الآخر، فلم
يكن كشيء حتى وقفنا ببابل، وإذا برجلين معلقين بأرجلهما. فقالا ما جاء بك؟ فقلتُ: أتعلم (5) السحر.
فقالا إنما نحن فتنة فلا تكفري، فارجعي. فأبيت وقلت: لا. قالا فاذهبي (6)
إلى ذلك التنور، فبولي فيه. فذهبت ففزعتُ ولم أفعل، فرجعت إليهما، فقالا أفعلت؟
فقلت: نعم. فقالا هل رأيت شيئًا؟ فقلت: لم أر شيئًا. فقالا لم تفعلي،
ارجعي إلى بلادك ولا تكفري [فإنك على رأس أمري] (7) . فأرْبَبْت وأبيت
(8) . فقالا اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. فذهبت فاقشعررت [وخفت] (9) ثم رجعت
إليهما فقلت: قد فعلت. فقالا فما رأيت؟ فقلت: لم
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(2) زيادة من جـ.
(3) في أ، و: "عن أشياء".
(4) في جـ: "فركبت إحداهما".
(5) في جـ، ب، أ، و: "فقلنا نتعلم".
(6) في أ: "فقالا فاذهبا".
(7) زيادة من جـ.
(8) في جـ: "فأبت وأبيت".
(9) زيادة من جـ، ب، أ، و.
(1/360)
أر شيئًا. فقالا كذبت، لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري (1) ؛ فإنك
على رأس أمرك. فأرببتُ وأبيتُ. فقالا اذهبي إلى ذلك التنور، فبولي فيه. فذهبت إليه
فبلت فيه، فرأيت فارسًا مقنعًا (2) بحديد خَرَج مني، فذهب في السماء وغاب [عني]
(3) حتى ما أراه، فجئتهما فقلت: قد فعلت. فقالا فما رأيت؟ قلت: رأيت فارسًا
مقنعًا خرج مني فذهب في السماء، حتى ما أراه. فقالا صدقت، ذلك إيمانك خرج منك،
اذهبي. فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئًا وما قالا لي شيئًا. فقالت: بلى، لم تريدي
شيئًا إلا كان، خذي هذا القمح فابذري، فبذرت، وقلت: أطلعي (4) فأطلعت (5) وقلت:
أحقلي فأحقلت (6) ثم قلت: أفْركي فأفرَكَتْ. ثم قلت: أيبسي فأيبست (7) . ثم قلت:
أطحني فأطحنت (8) . ثم قلت: أخبزي فأخبزت (9) . فلما رأيتُ أني لا أريد شيئًا
إلا كان، سقط في يدي وندمت -والله-يا أم المؤمنين والله ما فعلت شيئًا قط ولا
أفعله أبدًا (10) .
ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن سليمان، به مطولا كما تقدم (11) . وزاد
بعد قولها: ولا أفعله أبدًا: فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حداثة وفاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يومئذ متوافرون، فما دَرَوا ما يقولون لها،
وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلمه، إلا أنه قد قال لها ابن عباس -أو بعض من
كان عنده-: لو كان أبواك حيين أو أحدهما [لكان يكفيانك] (12) .
قال هشام: فلو جاءتنا أفتيناها بالضمان [قال] (13) : قال ابن أبي
الزناد: وكان هشام يقول: إنهم كانوا أهل الورع والخشية (14) من الله. ثم يقول
هشام: لو جاءتنا مثلها اليوم لوجدت نوكى أهل حمق وتكلف بغير علم.
فهذا إسناد جيد إلى عائشة، رضي الله عنها.
وقد استدل بهذا الأثر من ذهب إلى أن (15) الساحر له تمكن في قلب
الأعيان؛ لأن هذه المرأة بذرت واستغلت في الحال.
وقال آخرون: بل ليس له قدرة إلا على التخييل، كما قال [الله] (16) تعالى: { سَحَرُوا
أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } [الأعراف: 116]
وقال تعالى: { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [طه: 66]
__________
(1) في جـ: "ولم تكفري".
(2) في جـ: "معلقا".
(3) زيادة من أ.
(4) في جـ، ط: "اطلع فطلع".
(5) في جـ: "احقل فأحقل"، وفي أ، و: "فطلعت".
(6) في ط: "احقلى فأجعلت".
(7) في جـ: "أيبس فيبس".
(8) في جـ: "اطحن فطحن".
(9) في جـ: "اختبز فاختبز".
(10) تفسير الطبري (2/ 439-441).
(11) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 312) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (8/ 137) من
طريق الربيع بن سليمان به مطولا، وهذه الزيادة لم ترد في المطبوع من تفسير ابن أبي
حاتم، وقد نبه إلى ذلك المحقق الفاضل، جزاه الله خيرًا.
(12) زيادة من أ.
(13) زيادة من أ.
(14) في جـ: "وأهل خشية".
(15) في أ: "من ذهب بأن".
(16) زيادة من أ.
(1/361)
واستدل به على أن بابل المذكورة في القرآن هي بابل العراق، لا بابل
دُنْباوَنْد (1) كما قاله السدي وغيره. ثم الدليل على أنها بابل
العراق ما قال (2) ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أحمد بن صالح، حدثني
ابن وهب، حدثني ابن لَهِيعة ويحيى بن أزهر، عن عمار بن سعد المرادي، عن أبي صالح
الغفاري أن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه [مر ببابل وهو يسير، فجاء المؤذن
يُؤْذنه بصلاة العصر، فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة، فلما فرغ] قال: إن حبيبي
صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي [بأرض المقبرة، ونهاني أن أصلي] ببابل فإنها
ملعونة (3) .
وقال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا ابن وهب، حدثني ابن لَهِيعة
ويحيى بن أزهر، عن عمار بن سعد المرادي، عن أبي صالح الغفاري: أن عليا مر ببابل،
وهو يسير، فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر، فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة
فلما فرغ قال: إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن
أصلي بأرض بابل، فإنها ملعونة.
حدثنا أحمد بن صالح: حدثنا ابن وهب، أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة، عن
الحجاج بن شداد، عن أبي صالح الغفاري، عن علي، بمعنى حديث سليمان بن داود، قال:
فلما "خرج" مكان "برز" (4) .
وهذا الحديث حسن عند الإمام أبي داود، لأنه رواه وسكت عنه (5) ؛ ففيه من
الفقه كراهية الصلاة بأرض بابل، كما تكره بديار ثمود الذين نهى رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن الدخول إلى منازلهم، إلا أن يكونوا باكين.
قال أصحاب الهيئة: وبُعْدُ ما بين بابل، وهي من إقليم العراق، عن البحر
المحيط الغربي، ويقال له: أوْقيانُوس (6) سبعون درجة، ويسمون هذا طولا وأما
عرضها وهو بعد ما بينها وبين وسط الأرض من ناحية الجنوب، وهو المسامت لخط
الاستواء، اثنان (7) وثلاثون درجة، والله أعلم.
وقوله تعالى: { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا
نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن قيس
(8) بن عباد، عن ابن عباس، قال: فإذا أتاهما
الآتي يريد السحر نهياه أشد النهي، وقالا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر، وذلك أنهما
علما الخير والشر والكفر والإيمان، فعرفا أن السحر من الكفر (9) . [قال] (10) فإذا
أبى عليهما أمراه أن يأتي مكان كذا وكذا، فإذا أتاه عاين الشيطان فَعلمه، فإذا
تعلم خرج منه النور، فنظر (11) إليه ساطعًا في السماء، فيقول: يا حسرتاه!
__________
(1) في ط، ب، أ، و: "ديناوند".
(2) في أ: "ما قاله".
(3) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 304)، وما بين المعقوفين ليس في تفسير ابن أبي
حاتم.
(4) سنن أبي داود برقم (490، 491).
(5) في جـ، ط، ب، أ، و: "وسكت عليه".
(6) في ب: "أوليانوس".
(7) في ب، أ، و: "ثنتان".
(8) في أ: "عن بشر".
(9) في ب: "أن الكفر من السحر".
(10) زيادة من جـ، أ، و.
(11) في أ: "فينظر".
(1/362)
يا ويله! ماذا أصنع (1) ؟.
وعن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية: نعم، أنزل الملكان
بالسحر، ليعلما (2) الناس البلاء الذي أراد الله أن يبتلي به الناس، فأخذ عليهما الميثاق
أن لا يعلما أحدًا حتى يقولا { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } رواه ابن
أبي حاتم، وقال قتادة: كان أخذ عليهما ألا يعلما أحدًا حتى يقولا { إِنَّمَا
نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } -أي: بلاء ابتلينا به-{ فَلا تَكْفُرْ }
وقال [قتادة و] (3) السدي: إذا أتاهما إنسان يريد السحر، وعظاه، وقالا
له: لا تكفر، إنما نحن فتنة. فإذا أبى قالا له: ائت هذا الرماد، فبُلْ عليه. فإذا
بال عليه خرج منه نور فسطع حتى يدخل السماء، وذلك الإيمان. وأقبل شيء أسود كهيئة
الدخان حتى يدخل في مسامعه وكلِّ شيء [منه] (4) . وذلك
غضب الله. فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر، فذلك قول الله تعالى: { وَمَا
يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ
} الآية.
وقال سُنَيد، عن حجاج، عن ابن جريج في هذه الآية: لا يجترئ على السحر
إلا كافر.
وأما الفتنة فهي المحنة والاختبار، ومنه قول الشاعر:
وقد فُتن النَّاسُ في دينهم ... وخَلَّى ابنُ عفان شرًا طويلا (5)
وكذلك (6) قولُه تعالى إخبارًا عن موسى، عليه السلام، حيث
قال: { إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ } أي: ابتلاؤك واختبارك وامتحانك { تُضِلُّ
بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ } [الأعراف: 155] (7) .
وقد استدل بعضهم بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر، ويُستشهد له
بالحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا أبو
معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، عن عبد الله، قال: من أتى كاهنًا أو
ساحرًا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا إسناد جيد (8) وله شواهد أخر.
وقوله تعالى: { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ
بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } أي: فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر ما يتصرفون
به فيما يتصرفون فيه من الأفاعيل المذمومة، ما إنهم ليفَرِّقُون به بين الزوجين مع
ما بينهما من الخلطة والائتلاف. وهذا من صنيع الشياطين، كما رواه مسلم في صحيحه،
من حديث الأعمش، عن أبي سفيان طلحة بن نافع، عن جابر بن عبد الله، رضي الله
__________
(1) في أ، و: "ماذا صنع".
(2) في أ، و: "ليعلموا" وهو خطأ.
(3) زيادة من و.
(4) زيادة من أ، و.
(5) البيت في تفسير الطبري (2/ 444) وانظر هناك الاختلاف في قائله.
(6) في ط، ب، أ، و: "وكذا".
(7) في جـ، ط، ب، أ، و: "وتهدي من تشاء الآية".
(8) في جـ، ط، ب، أ، و: "إسناد صحيح".
(1/363)
عنه (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن
الشيطان ليضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه في الناس، فأقربهم عنده منزلة أعظمهم
عنده فتنة، يجيء أحدهم فيقول: ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا. فيقول
إبليس: لا والله ما صنعت شيئًا. ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين
أهله (2) قال: فيقربه ويدنيه ويلتزمه، ويقول: نِعْم أنت (3) .
وسبب التفرق بين الزوجين بالسحر: ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر
من سوء منظر، أو خلق أو نحو ذلك أو عَقد أو بَغْضه، أو نحو ذلك من الأسباب
المقتضية للفرقة.
والمرء عبارة عن الرجل، وتأنيثه امرأة، ويثنى كل منهما ولا يجمعان،
والله أعلم.
وقوله تعالى: { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ
اللَّهِ } قال سفيان الثوري: إلا بقضاء الله. وقال محمد بن
إسحاق إلا بتخلية الله بينه وبين ما أراد. وقال الحسن البصري: { وَمَا هُمْ
بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } قال: نَعَم، من شاء الله
سلطهم عليه، ومن لم يشأ الله لم يسلط، ولا يستطيعون ضر أحد إلا بإذن الله، كما قال
الله تعالى، وفي رواية عن الحسن أنه قال: لا يضر هذا السحر إلا من دخل فيه.
وقوله تعالى: { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ }
أي: يضرهم في دينهم، وليس له نفع يوازي ضرره.
{ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ
خَلاقٍ } أي: ولقد علم اليهود الذين استبدلوا بالسحر عن
متابعة الرسول (4) صلى الله عليه وسلم لمن فعل فعلهم ذلك، أنه ما له في الآخرة من
خلاق.
قال ابن عباس ومجاهد والسدي: من نصيب. وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن
قتادة: ما له في الآخرة من جهة عند الله (5) وقال: وقال الحسن: ليس له دين.
وقال سعد (6) عن قتادة: { مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } قال:
ولقد علم أهل الكتاب فيما عهد الله إليهم أن الساحر لا خلاق له في الآخرة.
وقوله تعالى: { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ*
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ
لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } يقول تعالى: { ولبئس } البديل ما
استبدلوا به من السحر عوضًا عن الإيمان، ومتابعة الرسل (7) لو كان لهم علم بما
وعظوا به { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
خَيْرٌ } أي: ولو أنهم آمنوا بالله ورسله واتقوا المحارم، لكان مثوبة الله على ذلك
خيرا لهم مما استخاروا لأنفسهم ورضوا به، كما قال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ
صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ } [القصص: 80] .
__________
(1) في ب: "عنهما".
(2) في جـ: "وبين زوجه".
(3) صحيح مسلم برقم (2813).
(4) في أ: "متابعة الرسل".
(5) في أ: "ما له في الآخرة من خلاق".
(6) في ط، ب، و: "سعيد".
(7) في أ: "الرسول".
(1/364)
وقد استدل بقوله: { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا } من ذهب إلى
تكفير الساحر، كما هو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل وطائفة من السلف. وقيل: بل لا يكفر،
ولكن حَده ضَرْبُ عنقه، لما رواه الشافعي وأحمد بن حنبل، رحمهما الله: أخبرنا
سفيان، عن عمرو بن دينار، أنه سمع بجالة بن عَبَدَةَ يقول: كتب [أمير
المؤمنين] (1) عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. قال:
فقتلنا ثلاث سواحر (2) . وقد أخرجه البخاري في صحيحه أيضًا (3) . وهكذا صح أن حفصة
أم المؤمنين سحرتها جارية لها، فأمرت بها فقتلت (4) . قال أحمد بن
حنبل: صح من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم [أذنوا] (5) في قتل الساحر.
وروى الترمذي من حديث إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن جندب الأزدي أنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حد الساحر ضَرْبُه بالسيف" (6) .
ثم قال: لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه. وإسماعيل بن مسلم يُضعَّف
في الحديث، والصحيح: عن الحسن عن جُنْدُب موقوفًا.
قلت: قد رواه الطبراني من وجه آخر، عن الحسن، عن جندب، مرفوعًا (7) .
والله أعلم.
وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عقبة كان عنده ساحر يلعب بين يديه،
فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه، فقال الناس: سبحان الله! يحيي الموتى!
ورآه رجل من صالحي المهاجرين، فلما كان الغد جاء مشتملا على سيفه، وذهب يلعب لعبه
ذلك، فاخترط الرجل سيفه فضرب (8) عنق الساحر، وقال: إن كان صادقا (9) فليحي نفسه.
وتلا قوله تعالى: { أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ } [الأنبياء:
3] فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك فسجنه ثم أطلقه، (10) والله أعلم.
وقال (11) أبو بكر الخلال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي،
حدثنا يحيى بن سعيد، حدثني أبو إسحاق، عن حارثة قال: كان عند بعض الأمراء رجل يلعب
فجاء جندب مشتملا
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) رواه عبد الله بن أحمد في مسائل أبيه، ط. المكتب الإسلامي برقم (1542)
عن أبيه عن سفيان به.
(3) صحيح البخاري برقم (3156).
(4) رواه عبد الله بن أحمد في مسائل أبيه، ط. المكتب الإسلامي برقم (1543)
عن أبيه عن يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: أن حفصة سحرتها جاريتها،
فذكره.
(5) زيادة من جـ.
(6) سنن الترمذي برقم (1460).
(7) المعجم الكبير (2/ 161) من طريق محمد بن الحسن بن سيار، عن خالد العبد
عن الحسن عن سمرة به.
(8) في جـ: "وضرب".
(9) في أ، و: "إن كان ساحرًا".
(10) الرجل الذي قتله هو جندب بن كعب، انظر القصة في: أسد الغابة لابن الأثير
في ترجمة جندب بن كعب (1 /361) وفي الإصابة للحافظ ابن حجر (1/ 251).
(11) في و: "وقال الإمام".
(1/365)
على سيفه فقتله، فقال: أراه كان ساحرًا، وحمل الشافعي، رحمه الله، قصة
عمر، وحفصة (1) على سِحْر يكون شركا. والله أعلم. فصل
حكى أبو عبد الله الرازي في تفسيره عن المعتزلة أنهم أنكروا وجود السحر،
قال:
وربما كفروا من اعتقد وجوده. قال: وأما أهل السنة فقد جَوَّزُوا أن يقدر
الساحر أن يطير في الهواء، ويقلب الإنسان حمارًا، والحمار إنسانًا، إلا أنهم
قالوا: إن الله يخلق الأشياء عندما يقول الساحر تلك الرقى و [تلك] (2) الكلمات
المُعَيَّنة، فأما أن يكون المؤثر في ذلك هو الفلك والنجوم فلا خلافًا للفلاسفة
والمنجمين الصابئة، ثم استدل على وقوع السحر وأنه بخلق الله تعالى، بقوله تعالى: {
وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } ومن الأخبار بأن
رسول الله صلى الله عليه وسلم سُحِر، وأن السحر عَمِل فيه، وبقصة تلك المرأة مع
عائشة، رضي الله عنها، وما ذكرت تلك المرأة من إتيانها بابل وتعلمها السحر، قال:
وبما يذكر (3) في هذا الباب من الحكايات الكثيرة، ثم قال بعد هذا:
المسألة الخامسة في أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور: اتفق المحققون
على ذلك؛ لأن (4) العلم لذاته شريف وأيضًا لعموم قوله تعالى: { قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } [الزمر: 9] ؛ ولأن
السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة، والعلم بكون المعجز
مُعْجِزًا واجب، وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب؛ فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر
واجبًا، وما يكون واجبًا فكيف يكون حرامًا وقبيحًا؟!
هذا لفظه بحروفه في هذه المسألة، وهذا الكلام فيه نظر من وجوه، أحدها:
قولُهُ: "العلم بالسحر ليس بقبيح". إن عنى به ليس
بقبيح عقلا فمخالفوه من المعتزلة يمنعون هذا (5) وإن عنى أنه ليس بقبيح شرعًا، ففي
هذه الآية الكريمة تبشيع (6) لتعلم السحر، وفي الصحيح: "من أتى عرافًا أو
كاهنًا، فقد كفر بما أنزل على محمد" (7) . وفي السنن: "من عقد عقدة ونفث
فيها فقد سحر" (8) . وقوله: ولا محظور اتفق
المحققون على ذلك". كيف لا يكون محظورًا مع ما ذكرناه من الآية والحديث؟!
واتفاق المحققين (9) يقتضي أن يكون قد نص على هذه المسألة أئمة العلماء أو أكثرهم،
وأين نصوصهم على ذلك؟ ثم إدخاله [علم] (10) السحر في عموم قوله: { قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } فيه نظر؛ لأن هذه
الآية إنما دلت على مدح العالمين بالعلم الشرعي، ولم
__________
(1) في جـ: "في قصة حفصة وعمر".
(2) زيادة من جـ.
(3) في جـ: "وما يذكر".
(4) في جـ، ط: "فإن".
(5) في جـ: "ذلك".
(6) في أ: "متسع".
(7) صحيح مسلم برقم (2230) من حديث بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وليس
فيه: "كاهنًا" والعراف من جملة أنواع الكهان.
(8) رواه النسائي في السنن (7/ 112) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(9) في أ: "المحدثين".
(10) زيادة من جـ، ب، أ، و. وفي ط "تعلم".
(1/366)
قلتَ إن هذا منه؟ ثم تَرَقيه (1) إلى وجوب تعلمه بأنه لا يحصل العلم
بالمعجز إلا به، ضعيف بل فاسد؛ لأن معظم (2) معجزات رسولنا، عليه الصلاة والسلام (3) هي القرآن
العظيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. ثم إن
العلم بأنه معجز لا يتوقف على علم السحر أصلا ثم من المعلوم بالضرورة أن الصحابة
والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم، كانوا يعلمون المعجز، ويفرّقُون بينه وبين
غيره، ولم يكونوا يعلمون السحر ولا تعلموه ولا علموه، والله أعلم.
ثم قد ذكر أبو عبد الله الرازي أن أنواع السحر ثمانية:
الأول: سحر الكلُدْانيين والكُشْدانيين، الذين كانوا
يعبدون الكواكب السبعة المتحيرة، وهي السيارة، وكانوا يعتقدون أنها مُدَبّرة
العالم (4) وأنها تأتي بالخير والشر، وهم الذين بَعث (5) إليهم إبراهيم الخليل صلى
الله عليه وسلم مبطلا لمقالتهم ورادا لمذهبهم (6) وقد استقصى في "كتاب السر
المكتوم، في مخاطبة الشمس والنجوم" المنسوب إليه فيما (7) ذكره القاضي ابن
خلكان وغيره (8) ويقال: إنه تاب منه. وقيل (9) إنه (10) صنفه على وجه إظهار الفضيلة
لا على سبيل الاعتقاد. وهذا هو المظنون به، إلا أنه ذكر فيه طرائقهم في مخاطبة كل
من هذه الكواكب السبعة، وكيفية ما يفعلون وما يلبسونه، وما يتنسكون به.
قال: والنوع الثاني: سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية، ثم استدلّ على
أن الوهم له تأثير، بأن الإنسان يمكنه أن يمشي على الجسر الموضوع على وجه الأرض،
ولا يمكنه المشي عليه إذا كان ممدودًا على نهر أو نحوه. قال: وكما أجمعت الأطباء
على نهي المَرْعُوف (11) عن النظر إلى الأشياء الحُمْر، والمصروع إلى
الأشياء القوية اللمعان أو الدوران، وما ذاك إلا لأن النفوس خلقت مُطِيعة (12)
للأوهام.
قال: وقد اتفق العقلاء على أن الإصابة بالعين حق.
وله أن يستدل على ذلك بما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، قال: "العين حَقّ، ولو كان شيء سَابِقَ القدر لسبقته العين" (13) .
قال: فإذا عرفت هذا، فنقول: النفس التي تفعل هذه
الأفاعيل قد تكون قوية جدًا، فتستغني في هذه الأفاعيل (14) عن الاستعانة بالآلات
والأدوات، وقد تكون ضعيفة فتحتاج إلى الاستعانة بهذه
__________
(1) في أ: "فرقته".
(2) في جـ، ب، أ، و: "لأن أعظم".
(3) في جـ: "صلى الله عليه وسلم".
(4) في جـ: "مدبرة للعالم".
(5) في جـ، ب، أ: "بعث الله".
(6) في جـ، ط، ب، أ، و: "لمذاهبهم".
(7) في ب: "كما".
(8) وفيات الأعيان (3/ 381).
(9) في جـ، ط: "ويقال".
(10) في جـ، ط، ب: "بل".
(11) في جـ: "المرفوع"، وفي ط: "الموضوع".
(12) في جـ، ط، ب، و: "منطبعة"، وفي أ: "منطبقة".
(13) صحيح مسلم برقم (2188) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
(14) في جـ، ط، ب، أ، و: "هذه الأفعال".
(1/367)
الآلات. وتحقيقه أن النفس إذا كانت مستعلية (1) على البدن
شديدة الانجذاب إلى عالم السماوات، صارت كأنها رُوح من الأرواح السماوية، فكانت
قوية على التأثير في مواد هذا العالم. وإذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه الذات
(2) البدنية، فحينئذ لا يكون لها تصرف البتة إلا في هذا البدن. ثم أرشد إلى مداواة
هذا الداء بتقليل الغذاء، والانقطاع عن الناس والرياء (3) .
قلت: وهذا الذي يشير إليه هو التصرف بالحال، وهو على قسمين: تارة تكون
حالا صحيحة شرعية يتصرف بها فيما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويترك ما
نهى الله عنه ورسوله، وهذه الأحوال مواهب من الله تعالى وكرامات للصالحين من هذه
الأمة، ولا يسمى هذا سحرًا في الشرع. وتارة تكون الحال فاسدة لا يمتثل صاحبها ما أمر
الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولا يتصرف بها في ذلك. فهذه (4) حال الأشقياء
المخالفين للشريعة، ولا يدل إعطاء الله (5) إيَّاهم هذه الأحوال على محبته لهم،
كما أن الدجَّال -لعنه الله-له من الخوارق العادات (6) ما دلت عليه الأحاديث
الكثيرة، مع أنه مذموم شرعًا لعنه الله. وكذلك من شابهه من مخالفي الشريعة
المحمدية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. وبسط هذا يطول جدًا، وليس هذا موضعه.
قال: النوع الثالث من السحر: الاستعانة بالأرواح الأرضية، وهم الجن،
خلافًا للفلاسفة والمعتزلة: وهم على قسمين: مؤمنون، وكفار،
وهم الشياطينُ. قال: واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح
السماوية، لما بينهما من المناسبة (7) والقرب، ثم إن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة
شاهدوا أن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بأعمال سهلة قليلة من الرقى والدخل
(8) والتجريد. وهذا النوع هو المسمى بالعزائم وعمل التسخير (9) .
النوع الرابع من السحر: التخيلات، والأخذ بالعيون والشعبذة، ومبناه
[على] (10) أن البصر قد يخطئ ويشتغل بالشيء المعين دون غيره، ألا ترى أن المشعبذ
الحاذق يظهر عمل شيء يذهل أذهان الناظرين به، ويأخذ عيونهم إليه، حتى إذا استفرغهم
(11) الشغل بذلك الشيء بالتحديق ونحوه، عمل شيئًا آخر عَمَلا بسرعة شديدة، وحينئذ
يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه. فيتعجَّبون منه جدًا، ولو أنه سكت ولم يتكلم بما
(12)
يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله، ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى
غير ما يريد إخراجه، لفطن الناظرون لكل ما يفعله.
قال: وكلما كانت الأحوال تفيد حسن البصر نوعًا من أنواع الخلل (13) أشد،
كان العمل
__________
(1) في جـ، ط، ب، و: "مشتغلة"، وفي أ: "مستقبلة".
(2) في جـ، ط، ب، أ، و: "اللذات".
(3) في جـ، ط، ب، و: "والرياضة".
(4) في جـ: "فهذا".
(5) في جـ: "أعطاهم الله"، وفي أ: "على عطاء الله".
(6) في جـ: "والعادات".
(7) في جـ: "من المناسب".
(8) في جـ، ط، ب، أ، و: "والدخن".
(9) في ط، ب، أ، و: "وعمل تسخير".
(10) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(11) في جـ: "إذا استقر".
(12) في ط: "مما".
(13) في جـ: "الخلال".
(1/368)
أحسنَ، مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جدًا، أو مظلم، فلا تقف القوة
الناظرة (1) على أحوالها بكلالها (2) والحالة هذه.
قلت: وقد قال بعض المفسرين: إن سحر السحرة بين يدي
فرعون إنما كان من باب الشعبذة، ولهذا قال تعالى: { فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا
أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } [الأعراف: 116] وقال تعالى: {
يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [طه: 66] قالوا: ولم تكن
تسعى في نفس الأمر. والله أعلم.
النوع الخامس من السحر: الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات
المركبة من النسب الهندسية، كفارس على فرس في يده بوق، كلما مضت ساعة من النهار
ضرب (3) بالبوق، من غير أن يمسه أحد. ومنها الصور التي
تُصَوِّرها الرومُ والهند، حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان، حتى يصورونها
ضاحكة وباكية.
إلى أن قال: فهذه الوجوه من لطيف أمور المخاييل. قال: وكان سحر سحرة
فرعون من هذا القبيل.
قلت: يعني ما قاله بعض المفسرين: أنهم عمدوا إلى تلك
الحبال والعصي، فحشوها زئبقًا فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق، فيخيل إلى
الرائي أنها تسعى باختيارها.
قال الرازي: ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات، ويندرج في هذا الباب
علم جَرِّ الأثقال بالآلات الخفيفة.
قال: وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر؛ لأن لها أسبابًا
(4) معلومة يقينية (5) من اطلع عليها قدر عليها.
قلت: ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم، بما
يُرُونَهم إياه من الأنوار، كقضية قُمَامة الكنيسة التي لهم ببلد (6) المقدس، وما
يحتالون به من إدخال النار خفية إلى الكنيسة، وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج
على العوام (7) [منهم] (8) وأما الخواص فهم يعترفون بذلك، ولكن
يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم، فيرون ذلك سائغًا لهم. وفيه شبه (9)
للجهلة الأغبياء من متعبدي (10) الكَرّامية الذين يرون جواز وضع الأحاديث في الترغيب
والترهيب، فيدخلون في عداد من قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم (11) :
"من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من
__________
(1) في جـ، ط، ب: "الباصرة".
(2) في جـ، ط، ب: "لكلالها" وفي أ: "بكمالها".
(3) في جـ، ط: "ضرب مرة".
(4) في أ: "أنسابًا".
(5) في ط، أ: "متيقنة".
(6) في جـ: "ببيت" وفي و: "بالبلد".
(7) في جـ، ط، ب: "الطعام".
(8) زيادة من جـ، ط، ب.
(9) في جـ: "وفيه شبهة"، في أ: "وفيهم شبه".
(10) في أ: "متعدي".
(11) في جـ: "من قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(1/369)
النار (1) ". وقوله: "حدثوا عني ولا تكذبوا عَلَيّ فإنه من
يكذب عليّ يلج النار" (2) .
ثم ذكر ههنا حكاية عن بعض الرهبان، وهو أنه سمع صوت طائر حزين (3) الصوت
ضعيف الحركة، فإذا سمعته الطيور تَرِقّ له فتذهب فتلقي في وَكْره من ثمر الزيتون،
ليتبلغ (4) به، فعَمَد هذا الراهبُ إلى صنعة طائر على شكله، وتوصل إلى أن جعله
أجوف، فإذا دخلته الريح يسمع له (5) صوت كصوت ذلك الطائر، وانقطع في صومعة
ابتناها، وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم، وعلق ذلك الطائر في مكان منها، فإذا كان
زمان الزيتون فتح بابًا من ناحيه، فتدخل الريح إلى داخل هذه الصورة، فَيُسْمَعُ
صوتها كذلك الطائر في شكله أيضًا، فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئًا كثيرًا فلا
ترى النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة، ولا يدرون ما سببه؟ ففتنهم بذلك،
وأوهم (6) أن هذا من كرامات صاحب هذا القبر، عليهم لعائن الله المتتابعة (7) إلى
يوم القيامة.
قال الرازي: النوع السادس من السحر: الاستعانة بخواص الأدوية يعني في
الأطعمة والدهانات (8) . قال: واعلم أن لا سبيل إلى إنكار الخواص، فإن أثر المغناطيس
مشاهد.
قلت: يدخل في هذا القبيل كثير ممن يَدّعي الفقر ويتخيل على جهلة الناس
بهذه الخواص، مدعيًا أنها أحوال له (9) من مخالطة النيران ومسك الحيات إلى غير ذلك
من المحالات.
قال: النوع السابع من السحر: تعليق (10)
القلب، وهو أن يدعي الساحرُ أنه عرف الاسم الأعظم، وأن الجن يطيعونه وينقادون له
في أكثر الأمور، فإذا اتفق أن يكون ذلك السامع لذلك ضعيف العقل (11) قليل التمييز
اعتقد أنه حق، وتعلق قلبه بذلك وحصل في نفسه نوع من الرهب والمخافة، فإذا حصل
الخوف ضعفت القوى الحساسة (12) فحينئذ يتمكن الساحر أن يفعل ما يشاء.
قلت: هذا النمط يقال له التنبلة، وإنما يروج على الضعفاء العقول من بني
آدم. وفي علم الفراسة ما يرشد إلى معرفة كامل العقل من ناقصه، فإذا كان
المُتَنْبِلُ حاذقًا في علم الفراسة عرف من ينقاد له مِنَ الناس مِنْ غيره.
قال: النوع الثامن من السحر: السعي بالنميمة والتضريب (13) من وجوه
خفيفة لطيفة، وذلك شائع في الناس.
__________
(1) هذا الحديث رواه جمع من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم عدهم
الإمام الطبراني في جزء له فأوصلهم فوق الستين، وانظره في: صحيح البخاري برقم (107) من حديث الزبير
رضي الله عنه، وفي مقدمة صحيح مسلم برقم (2-4) من حديث أنس وأبي هريرة والمغيرة
رضي الله عنهم".
(2) رواه مسلم في مقدمة صحيحه برقم (1) من حديث علي رضي الله عنه.
(3) في أ، و ك: "حنين".
(4) في جـ، أ: "ليبتلع".
(5) في جـ، ط، ب، أ، و: "يسمع منه".
(6) في جـ: "وأوهمهم".
(7) في جـ، ط، ب: "التابعة"، وفي أ: "البالغة".
(8) في جـ: "في الأطعمة والدهان".
(9) في جـ: "أنها أحواله".
(10) في جـ: "تعلق".
(11) في ب، أ، و: "القلب".
(12) في جـ: "القوى الحسية".
(13) في ب: "التضرب".
(1/370)
قلت: النميمة على قسمين، تارة تكون على وجه التحريش
[بين الناس] (1) وتفريق قلوب المؤمنين، فهذا حرام متفق عليه. فأما إذا (2) كانت
على وجه الإصلاح [بين الناس] (3) وائتلاف كلمة المسلمين، كما جاء
في الحديث: "ليس بالكذاب من يَنمّ خيرًا" أو يكون على وجه التخذيل
والتفريق بين جموع الكفرة" فهذا أمر مطلوب، كما جاء في الحديث: "الحرب
خدعة". وكما فعل نعيم بن مسعود (4) في تفريقه بين
كلمة الأحزاب وبين (5) قريظة، وجاء إلى هؤلاء فنمى إليهم عن هؤلاء كلامًا، ونقل من
هؤلاء إلى أولئك شيئًا آخر، ثم لأم بين ذلك، فتناكرت النفوس وافترقت. وإنما يحذو
على مثل هذا الذكاء والبصيرة النافذة. والله المستعان.
ثم قال الرازي: فهذه جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه.
قلت: وإنما أدخل كثيرًا من هذه الأنواع المذكورة في
فَنّ السحر، للطافة مداركها؛ لأن السحر في اللغة: عبارة عما لطُف وخفي سببه. ولهذا
جاء في الحديث: "إن من البيان لسحرًا (6) . وسمي السحور لكونه يقع خفيًا آخر
الليل (7) والسَّحْر: الرئة، وهي محل الغذاء، وسميت بذلك
لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن وغضونه، كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة:
انتفخ سحرك (8) أي: انتفخت رئته من الخوف. وقالت عائشة، رضي الله
عنها: توفي رسول صلى الله عليه وسلم بين سَحْري ونَحْري. وقال: { سَحَرُوا
أَعْيُنَ النَّاسِ } أي: أخفوا عنهم عملهم، والله أعلم (9) .
[فصل] (10) وقد ذكر الوزير أبو المظفر يحيى بن هَبيرة بن محمد بن هبيرة
في كتابه: "الإشراف على مذاهب الأشراف" بابًا في السحر، فقال: أجمعوا
على أن السحر له حقيقة إلا أبا حنيفة، فإنه قال: لا حقيقة له عنده. واختلفوا فيمن
يتعلم السحر ويستعمله، فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يكفر بذلك. ومن أصحاب أبي
حنيفة من قال: إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فلا يكفر، ومن تعلمه معتقدًا جوازه أو
أنه ينفعه كَفَر. وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر. وقال
الشافعي، رحمه الله: إذا تعلم السحر قلنا له: صف لنا سحرك. فإن وصف ما يوجب الكفر مثل
ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس منها، فهو
كافر. وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر.
قال ابن هبيرة: وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله؟ فقال مالك وأحمد: نعم.
وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا. فأما إن قتل بسحره إنسانا فإنه يُقْتل عند مالك والشافعي
وأحمد. وقال أبو حنيفة: لا
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و:"فأما إن".
(2) في جـ، ط، ب، أ، و.
(3) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(4) في جـ: "ابن الأسود".
(5) في جـ، ط، ب، أ، و: "وبني".
(6) في جـ، ط، ب، أ، و: "سحرًا".
(7) في جـ: "الليلة".
(8) في جـ، ب، أ، و: "سحره".
(9) في جـ: "والله تبارك وتعالى أعلم".
(10) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(1/371)
يقتل حتى يتكرر منه ذلك (1) أو يقر بذلك في حَقّ شخص (2) معين. وإذا
قُتل فإنه يُقْتَل حدًا عندهم إلا الشافعي، فإنه قال: يقتل -والحالة هذه-قصاصًا.
قال: وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته؟ فقال مالك، وأبو
حنيفة وأحمد في المشهور عنهما: لا تقبل. وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى:
تقبل. وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل، كما يقتل الساحر المسلم.
وقال مالك والشافعي وأحمد: لا يقتل. يعني لقصة لبيد بن أعصم (3) .
واختلفوا في المسلمة الساحرة، فعند أبي حنيفة (4) لا تقتل، ولكن تحبس.
وقال الثلاثة: حكمها حكم الرجل، والله أعلم.
وقال أبو بكر الخلال: أخبرنا أبو بكر المروزي، قال: قَرَأ على أبي عبد
الله -يعني أحمد بن حنبل-عُمَرُ بن هارون، حدثنا يونس،
عن الزهري، قال: يقتل ساحر المسلمين ولا يقتل ساحر المشركين؛ لأن رسول الله صلى الله
عليه وسلم سحرته امرأة من اليهود فلم يقتلها.
وقد نقل القرطبي عن مالك، رحمه الله، أنه قال في الذمي إذا سحر يقتل إن
قتل سحره، وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتين في الذمي إذا سحر: إحداهما: أنه
يستتاب فإن أسلم وإلا قتل، والثانية: أنه يقتل وإن أسلم، وأما الساحر المسلم فإن
تضمن سحره كفرًا كفر عند الأئمة الأربعة وغيرهم لقوله تعالى: " وَمَا
يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ
" . لكن قال مالك: إذا ظهر عليه لم تقبل توبته لأنه كالزنديق، فإن
تاب قبل أن يظهر عليه وجاءنا تائبًا قبلناه ولم نقتله، فإن قتل سحره قتل. قال
الشافعي: فإن قال: لم أتعمد القتل فهو مخطئ تجب عليه الدية.
مسألة: وهل يسأل الساحر حل سحره؟ فأجاز سعيد بن المسيب فيما نقله عنه
البخاري، وقال عامر الشعبي: لا بأس بالنشرة، وكره ذلك الحسن البصري، وفي الصحيح عن
عائشة: أنها قالت: يا رسول الله، هلا تنشرت، فقال: "أما الله فقد شفاني،
وخشيت أن أفتح على الناس شرًا" (5) . وحكى القرطبي عن وهب: أنه قال: يؤخذ سبع
ورقات من سدر فتدق بين حجرين ثم تضرب بالماء ويقرأ عليها آية الكرسي ويشرب منها
المسحور ثلاث حسوات ثم يغتسل بباقيه فإنه يذهب ما به، وهو جيد للرجل الذي يؤخذ عن امرأته.
قلت: أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه
وسلم في إذهاب ذلك وهما المعوذتان، وفي الحديث: "لم يتعوذ المتعوذون
بمثلهما" (6) وكذلك قراءة آية الكرسي فإنها مطردة للشيطان. وقال أبو عبد الله
القرطبي: وعندنا أن السحر حق، وله حقيقة يخلق الله عنده ما يشاء.
__________
(1) في جـ: "منه الفعل".
(2) في أ: "في حق رجل".
(3) في أ: "لقضية لبيد بن الأعصم".
(4) في جـ، ط، ب، أ، و: "فعند أبي حنيفة أنها".
(5) صحيح البخاري برقم (5766) وصحيح مسلم برقم (2189).
(6) رواه النسائي في السنن (8/ 251) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
(1/372)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا
انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ
مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
خلافًا للمعتزلة وأبي إسحاق الإسفرايني من الشافعية حيث قالوا: إنه
تمويه وتخيل. قال: ومن السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة
والشعوذي البريد؛ لخفة سيره. قال ابن فارس: هذه الكلمة من كلام أهل البادية.
قال القرطبي: ومنه ما يكون كلامًا يحفظ ورقى من أسماء الله تعالى، وقد يكون من
عهود الشياطين ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك. قال: وقوله، عليه السلام: "إن من
البيان لسحرا" (1) يحتمل أن يكون مدحًا كما تقوله طائفة، ويحتمل أن
يكون ذمًا للبلاغة. قال: وهذا الأصح. قال: لأنها تصوب الباطل حين يوهم
السامع أنه حق كما قال: "فلعل بعضكم أن يكون ألحن لحجته من بعض" فاقتضى
له، الحديث.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا
انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنزلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ
يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) }
نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك
أن اليهود كانوا يُعَانُون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص -عليهم
لعائن الله-فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولون: راعنا. يورون (2) بالرعونة،
كما قال تعالى: { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ
عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ
وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ
قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ
وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا }
[النساء: 46] وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم، بأنهم كانوا إذا سَلَّموا إنما
يقولون: السامُ عليكم. والسام هو: الموت. ولهذا (3) أمرنا أن نرد
عليهم بـ "وعليكم". وإنما يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا.
والغرض: أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا.
فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا
انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت، حدثنا
حسان بن عطية، عن أبي مُنيب الجُرَشي، عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "بعثت بين يدي الساعة بالسيف، حتى يُعبد الله وحده لا
شريك له. وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصَّغارُ على من خالف أمري، ومن
تشبه بقوم فهو منهم".
وروى أبو داود، عن عثمان بن أبي شيبة، عن أبي النضر هاشم بن القاسم به
(4) "من تشبه بقوم فهو منهم"
__________
(1) رواه أبو داود في السنن برقم (5011) والترمذي في السنن برقم (2845) من حديث
ابن عباس رضي الله عنه، ورواه أبو داود في السنن برقم (5012) من حديث بريده رضي
الله عنه.
(2) في جـ، ط، ب: "ويورون"، وفي أ: "ويرون".
(3) في جـ: "ولقد".
(4) المسند (2/92) وسنن أبي دواد برقم (4031).
(1/373)
ففيه دلالة على النهي الشديد والتهديد والوعيد، على التشبه بالكفار في
أقوالهم وأفعالهم، ولباسهم وأعيادهم، وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا
ولا نُقَرر عليها.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا عبد الله بن
المبارك، حدثنا مِسْعَر، عن مَعْن وعَوْن -أو أحدهما-أن رجلا أتى عبد الله بن
مسعود، فقال: اعهد إلي. فقال: إذا سمعت الله يقول { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا } فأرعها سَمْعك، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه (1) .
وقال الأعمش، عن خيثمة، قال: ما تقرؤون في القرآن: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا } فإنه في التوراة: "يا أيها المساكين".
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة،
عن ابن عباس: { راعنا } أي: أرعنا (2) سمعك.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَقُولُوا رَاعِنَا } قال: كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم أرعنا سمعك.
وإنما { راعنا } كقولك: عاطنا.
وقال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي العالية، وأبي مالك، والربيع بن أنس،
وعطية العوفي، وقتادة، نحو ذلك.
وقال مجاهد: { لا تَقُولُوا رَاعِنَا } لا تقولوا خلافا. وفي رواية: لا
تقولوا: اسمع منا ونسمع منك.
وقال عطاء: { لا تَقُولُوا رَاعِنَا } كانت لُغة تقولها الأنصار فنهى
الله عنها.
وقال الحسن: { لا تَقُولُوا رَاعِنَا } قال: الراعن من القول السخري
منه. نهاهم الله أن يسخروا من قول محمد صلى الله عليه وسلم، وما يدعوهم إليه من الإسلام.
وكذا روي عن ابن جُرَيج أنه قال مثله.
وقال أبو صخر: { لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا
وَاسْمَعُوا } قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أدبر ناداه من كانت له
حاجة من المؤمنين، فيقول: أرعنا (3) سمعك. فأعظم الله رسوله صلى الله عليه
وسلم أن يقال ذلك له (4) .
وقال السدي: كان رجل من اليهود من بني قينقاع، يدعى رفاعة بن زيد (5)
يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لقيه فكلمه قال: أرعني سمعك واسمع غير مُسْمع.
وكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تُفَخم بهذا، فكان ناس منهم يقولون: اسمع
غير مسمع: غَيْرَ صاغر. وهي كالتي (6) في سورة النساء. فتقدم الله إلى المؤمنين أن
لا يقولوا: راعنا.
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (1/317).
(2) في أ: "أى راعنا".
(3) في أ: "فيقول راعنا".
(4) في جـ: "أن يقال له ذلك".
(5) في جـ: "بن يزيد".
(6) في جـ: "هي التي".
(1/374)
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، بنحو من هذا.
قال ابن جرير: والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الله نهى المؤمنين أن
يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم: راعنا؛ لأنها كلمة كرهها الله تعالى أن يقولها لنبيه
صلى الله عليه وسلم، نظير الذي ذكر عن النبي قال: "لا تقولوا للعنب الكرم،
ولكن قولوا: الحَبَلَة. ولا تقولوا: عبدي، ولكن قولوا: فتاي". وما أشبه ذلك.
وقوله تعالى: { مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ } يبين
بذلك تعالى شدة عداوة (1) الكافرين من أهل الكتاب والمشركين، الذين حذر تعالى من
مشابهتهم للمؤمنين؛ ليقطع المودة بينهم وبينهم. وينبِّه تعالى على ما أنعم به على
المؤمنين من الشرع التام الكامل، الذي شرعه لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، حيث
يقول تعالى: { وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
__________
(1) في أ: "شدة عداوته".
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا
رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ
بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ
عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا
حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ
هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ
فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
(112)
البقرة - تفسير ابن كثير
مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)
{ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) }
قال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } ما نبدل من
آية.
وقال ابن جُرَيج، عن مجاهد: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } أي: ما نمح من
آية.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } قال: نثبت
خطها ونبدل حكمها. حَدَّث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود.
وقال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي العالية، ومحمد بن كعب القرظي، نحو ذلك.
وقال الضحاك: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } ما نُنْسِكَ. وقال عطاء: أما
{ مَا نَنْسَخْ } فما نترك (1) من القرآن. وقال ابن أبي حاتم: يعني: تُرِكَ فلم ينزل
على محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال السدي: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } نسخها: قبضها. وقال ابن أبي
حاتم: يعني: قبضها: رفعها، مثل قوله: الشيخ والشيخة
إذا زنيا فارجموهما البتة. وقوله: "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى
لهما ثالثًا".
وقال ابن جرير: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } ما ينقل من حكم
آية إلى غيره فنبدله ونغيره، وذلك أن يُحوَّل الحلالُ حرامًا والحرام حلالا
والمباح محظورًا، والمحظور مباحًا. ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر
والإطلاق والمنع والإباحة. فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ. وأصل النسخ
من نسخ الكتاب، وهو نقله من نسخة أخرى إلى غيرها، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره،
__________
(1) في أ: "فما ترك".
(1/375)
إنما هو تحويله ونقل عبَادَة إلى غيرها. وسواء نسخ حكمها أو خطها، إذ هي
في كلتا حالتيها منسوخة. وأما علماء الأصول فاختلفت عباراتهم في حد النسخ، والأمر
في ذلك قريب؛ لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء ولخَّص (1) بعضهم أنه رفع
الحكم بدليل شرعي متأخر. فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل، وعكسه، والنسخ لا إلى
بدل. وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوط في فَنِّ أصول الفقه.
وقال الطبراني: حدثنا أبو شبيل (2) عبيد الله بن عبد الرحمن بن واقد،
حدثنا أبي، حدثنا العباس بن الفضل، عن سليمان بن أرقم، عن الزهري، عن سالم، عن
أبيه، قال: قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانا يقرآن بها،
فقاما ذات ليلة يصليان، فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله صلى
الله عليه وسلم فذكرا ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها مما
نسخ وأنسي، فالهوا عنها". فكان الزهري يقرؤها: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ
أَوْ نُنْسِهَا } (3) بضم النون خفيفة (4) . سليمان بن أرقم ضعيف.
[وقد روى أبو بكر بن الأنباري، عن أبيه، عن نصر بن داود، عن أبي عبيد، عن
عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يونس وعبيد وعقيل، عن ابن شهاب، عن أبي أمامة بن
سهل بن حنيف مثله مرفوعًا، ذكره القرطبي (5) ] (6) .
وقوله تعالى: { أَوْ نُنْسِهَا } (7) فقرئ على وجهين:
"ننسأها ونُنْسها". فأما من قرأها: "نَنسأها" -بفتح النون
والهمزة بعد السين-فمعناه: نؤخرها. قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { مَا
نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسئهَا } يقول: ما نبدل من آية، أو نتركها لا نبدلها.
وقال مجاهد عن أصحاب ابن مسعود: { أَوْ نُنسِئَهَا } نثبت خطها ونبدل
حكمها. وقال (8) عبيد بن عمير، ومجاهد، وعطاء: { أَوْ نُنسِئَهَا } نؤخرها
ونرجئها. وقال عطية العوفي: { أَوْ نُنسِئَهَا } نؤخرها فلا
ننسخها. وقال السدي مثله أيضا، وكذا [قال] (9) الربيع بن أنس. وقال الضحاك: {
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِئَهَا } يعني: الناسخ من المنسوخ. وقال أبو
العالية: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِئَهَا } أي: نؤخرها عندنا.
وقال ابن حاتم: حدثنا عبيد الله بن إسماعيل البغدادي، حدثنا خلف، حدثنا
الخفاف، عن إسماعيل -يعني ابن مسلم-عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن
عباس قال:
__________
(1) في ط: "ويخص".
(2) في هـ: "أبو سنبل" وهو خطأ.
(3) في ط: "أو ننسيها".
(4) المعجم الكبير (12/288).
(5) ورواه الطحاوى في مشكل الآثار برقم (2034) من طريق ابن وهب، عن يونس عن ابن
شهاب، عن أبي أمامة به، وبرقم (2035) من طريق شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن أبي
أمامة به.
(6) زيادة من جـ، ط.
(7) في ط، ب، أ: "أو ننساها".
(8) في جـ، ط، أ: "وكما قال".
(9) زيادة من أ.
(1/376)
خطبنا عمر، رضي الله عنه، فقال: يقول الله عز وجل: { مَا نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } أي: نؤخرها.
وأما على قراءة: { أَوْ نُنْسِهَا } فقال عبد الرزاق، عن قتادة في قوله:
{ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا } قال: كان الله تعالى ينسي نبيه ما يشاء
وينسخ ما يشاء.
وقال ابن جرير: حدثنا سواد (1) بن عبد الله، حدثنا خالد بن الحارث،
حدثنا عوف، عن الحسن أنه قال في قوله: { أَوْ نُنْسِهَا } (2) قال: إن نبيكم
صلى الله عليه وسلم أقرئ قرآنا ثم نسيه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن نُفَيل، حدثنا محمد بن الزبير
الحراني، عن الحجاج -يعني الجزري (3) -عن عِكرمة، عن ابن عباس، قال: كان مما ينزل
على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار، فأنزل الله، عز وجل: {
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا }
قال أبو حاتم: قال لي أبو جعفر بن نفيل: ليس هو الحجاج بن أرطاة، هو شيخ
لنا جَزَري.
وقال عبيد بن عمير: { أَوْ نُنْسِهَا } نرفعها من عندكم.
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هُشَيْم، عن يعلى بن
عطاء، عن القاسم بن ربيعة قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقرأ: " ما نَنْسَخْ
مِنْ آيَةٍ أَو تَنْسَهَا" قال: قلت له: فإن سعيد بن المسيَّب يقرأ:
"أَو تُنْسَأها". قال: فقال (4) سعد: إن القرآن لم ينزل على المسيب
ولا على آل المسيب، قال الله، جل ثناؤه: { سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى } [الأعلى:
6]{ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } [الكهف: 24]. (5) .
وكذا رواه عبد الرزاق، عن هشيم (6) وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث
أبي حاتم الرازي، عن آدم، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء، به. وقال: على شرط الشيخين،
ولم يخرجاه.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن محمد بن كعب، وقتادة وعكرمة، نحو قول سعيد.
وقال الإمام أحمد: أخبرنا يحيى، حدثنا سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي
ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال عمر: عليٌّ أقضانا، وأُبيٌّ أقرؤنا،
وإنا لندع بعض ما يقول أُبيُّ، وأبيّ يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول، فلن أدعه لشيء. والله يقول: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِئَها نَأْتِ
بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } .
قال البخاري: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى، حدثنا سفيان، عن
حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال عمر: أقرؤنا أُبيٌّ، وأقضانا علي،
وإنا لندع من قول أبيّ، وذلك أن
__________
(1) في جـ، ط، ب، أ، و: "حدثنا سوار".
(2) في جـ، ب، أ: "أو ننسئها".
(3) في جـ: "الجوزي".
(4) في جـ: "فقال قال".
(5) تفسير الطبري (2/475).
(6) تفسير عبد الرزاق (1/75).
(1/377)
أبيا يقول: لا أدع شيئًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد
قال الله: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا } (1)
وقوله: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } أي: في
الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } يقول: خير لكم في المنفعة، وأرفق بكم.
وقال أبو العالية: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } فلا نعمل بها، { أَوْ
نُنسئهَا } أي: نرجئها (2) عندنا، نأت بها أو نظيرها.
وقال السدي: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } يقول: نأت بخير
من الذي نسخناه، أو مثل الذي تركناه.
وقال قتادة: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } يقول: آية فيها
تخفيف، فيها رخصة، فيها أمر، فيها نهي.
وقوله: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ* أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } يرشد
تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء، فله الخلق والأمر وهو المتصرف، فكما
خلقهم كما يشاء، ويسعد من يشاء، ويشقي من يشاء، ويصح من يشاء، ويمرض من يشاء،
ويوفق من يشاء، ويخذل من يشاء، كذلك يحكم في عباده بما يشاء، فيحل ما يشاء، ويحرم ما
يشاء، ويبيح ما يشاء، ويحظر ما يشاء، وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه. ولا
يسأل عما يفعل وهم يسألون. ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ، فيأمر بالشيء لما
فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى.. فالطاعة كل
الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله في تصديق ما أخبروا. وامتثال ما أمروا. وترك ما
عنه زجروا. وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر (3) اليهود وتزييف شبهتهم
-لعنهم الله (4) -في دعوى استحالة النسخ إما عقلا كما زعمه بعضهم جهلا وكفرا،ً
وإما نقلا كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكا.
قال الإمام أبو جعفر بن جرير، رحمه الله: فتأويل الآية:
ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السماوات والأرض وسلطانهما دون غيري، أحكم فيهما وفيما
فيهما بما أشاء، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهى عما أشاء، وأنسخ وأبدل
وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي ما أشاء إذا أشاء، وأقر فيهما ما أشاء.
ثم قال: وهذا الخبر وإن كان من الله تعالى خطابا لنبيه صلى الله عليه
وسلم على وجه الخبر عن عظمته، فإنه منه تكذيب لليهود الذين أنكروا نَسْخَ أحكام
التوراة، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد، عليهما الصلاة
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4481).
(2) في جـ: "نؤخرها"، وفي أ: "نركثها".
(3) في أ: "لكفار".
(4) في أ: "لعنة الله عليهم".
(1/378)
والسلام، لمجيئهما (1) بما جاءا به من عند الله بتغير ما غير الله من
حكم التوراة. فأخبرهم الله أن له ملك السماوات والأرض
وسلطانهما، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، وأن له
أمرهم بما يشاء، ونهيهم عما يشاء، ونسخ ما يشاء، وإقرار ما يشاء، وإنشاء ما يشاء
من إقراره وأمره ونهيه.
[وأمر إبراهيم، عليه السلام، بذبح ولده، ثم نسخه قبل الفعل، وأمر جمهور
بنى إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم، ثم رفع عنهم القتل كيلا يستأصلهم القتل (2) ].
قلت: الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ، إنما هو الكفر
والعناد، فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى؛ لأنه
يحكم ما يشاء كما أنه يفعل ما يريد، مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه
الماضية، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه، ثم حرم ذلك، وكما أباح لنوح بعد خروجه
من السفينة أكل جميع الحيوانات، ثم نسخ حِلُّ بعضها، وكان نكاح الأختين مباح
لإسرائيل وبنيه، وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها. وأشياء كثيرة يطول
ذكرها، وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه. وما يجاب به عن هذه الأدلة بأجوبة لفظية،
فلا تصرف الدلالة في المعنى، إذ هو المقصود، وكما في كتبهم مشهورا من البشارة
بمحمد صلى الله عليه وسلم والأمر باتباعه، فإنه يفيد وجوب متابعته، عليه والسلام،
وأنه لا يقبل عمل إلا على شريعته. وسواء قيل إن الشرائع المتقدمة مُغَيَّاة إلى بعثته،
عليه السلام، فلا يسمى ذلك نسخًا كقوله: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى
اللَّيْلِ } [البقرة: 187] ، وقيل: إنها مطلقة، وإن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم
نسختها، فعلى كل تقدير فوجوب اتباعه معين (3) لأنه جاء بكتاب
هو آخر (4) الكتب عهدا بالله تبارك وتعالى.
ففي هذا المقام بين تعالى جواز النسخ، ردا على اليهود، عليهم لعائن
الله، حيث قال تعالى: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } الآية، فكما أن له الملك بلا منازع، فكذلك له
الحكم بما يشاء، { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ } [الأعراف: 54] وقرئ في سورة آل
عمران، التي نزل صدرها خطابًا مع أهل الكتاب، وقوع النسخ عند اليهود في وقوله
تعالى: { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ
إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ } الآية [آل عمران: 93] كما سيأتي تفسيرها، والمسلمون
كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام الله تعالى، لما له في ذلك من الحكم البالغة،
وكلهم قال بوقوعه. وقال أبو مسلم الأصبهاني المفسر: لم يقع شيء من ذلك في القرآن،
وقوله هذا ضعيف مردود مرذول. وقد تعسف في الأجوبة عما وقع من النسخ، فمن ذلك قضية
العدة بأربعة أشهر وعشرا بعد الحول لم يجب على ذلك بكلام مقبول، وقضية تحويل
القبلة إلى الكعبة، عن بيت المقدس لم يجب
__________
(1) في جـ، ط: "بمجيئها".
(2) زيادة من جـ، ط.
(3) في ط، ب: "متعين".
(4) في ط: "هو أحدث".
(1/379)
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ
قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ
(108)
بشيء، ومن ذلك نسخ مصابرة المسلم لعشرة من الكفرة إلى مصابرة الاثنين،
ومن ذلك نسخ وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، والله
أعلم.
{ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ
قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ
(108)
}
نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة، عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه
وسلم عن الأشياء قبل كونها، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا
عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } [المائدة: 101] أي: وإن تسألوا
عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم، ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه؛ فلعله أن يحرم من
أجل تلك المسألة. ولهذا جاء في الصحيح: "إن أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل عن
شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته" (1) . ولما سُئِل رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلا فإن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكتَ سكتَ على مثل
ذلك؛ فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها. ثم أنزل الله حكم
الملاعنة (2) . ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال (3) وفي صحيح
مسلم: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على
أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإن (4) نهيتكم عن شيء فاجتنبوه"
(5) . وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم أن الله كتب عليهم الحج. فقال رجل: أكُل عام
يا رسول الله؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا. ثم قال، عليه
السلام: "لا ولو قلت: نعم لوجَبَتْ، ولو وَجَبَتْ لما استطعتم". ثم قال:
"ذروني ما تركتكم" الحديث. وهكذا قال أنس بن مالك: نُهينا أن نسأل رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يأتي (6) الرجل من أهل البادية
فيسأله ونحن نسمع (7) .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا أبو كُرَيب، حدثنا إسحاق
بن سليمان، عن أبي سنان، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب، قال: إن كان ليأتي
علَيَّ السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فأتهيب منه، وإن
كنا لنتمنى الأعراب.
وقال البزار: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا ابن فضيل، عن عطاء
بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثنْتَي
__________
(1) صحيح البخاري برقم (7289) وصحيح مسلم برقم (2358) من حديث سعد بن أبي
وقاص رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (5308، 5259) ومسلم في صحيحه برقم (1492) من
حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
(3) صحيح البخاري برقم (1477) وصحيح مسلم برقم (593).
(4) في ط، ب، أ، و: "وإذا".
(5) صحيح مسلم برقم (1337) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) في جـ: "أن يجيء".
(7) رواه مسلم في صحيحه برقم (12).
(1/380)
عشرة مسألة، كلها في القرآن: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ } [البقرة:219] ، و { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ
الْحَرَامِ } [البقرة: 217] ،
و { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى } [البقرة: 220] يعني: هذا وأشباهه (1) .
وقوله تعالى: { أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا
سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ } أي: بل تريدون. أو هي (2) على بابها في
الاستفهام، وهو إنكاري، وهو يعم المؤمنين والكافرين، فإنه، عليه السلام، رسول الله
إلى الجميع، كما قال تعالى: { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنزلَ
عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ
فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ }
[النساء: 153] .
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد [بن جبير]
(3) عن ابن عباس، قال: قال رافع بن حُرَيْمَلة -أو وهب بن زيد-: يا محمد، ائتنا
بكتاب تُنزلُه علينا من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك. فأنزل الله من
قولهم: { أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ
قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ }
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله تعالى:
{ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ
وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } (4)
قال: قال رجل: يا رسول الله، لو كانت كَفَّاراتنا كَفَّارات (5) بني إسرائيل! فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا نبغيها -ثلاثًا-ما أعطاكم الله خَيْر
مما أعطى بني إسرائيل، كانت (6) بنو إسرائيل إذا أصاب أحدُهم الخطيئة وجدها مكتوبة
على بابه وكفَّارتها، فإن كفرها كانت له خزْيًا في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له
خزيًا في الآخرة. فما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل". قال: { وَمَنْ يَعْمَلْ
سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ
غَفُورًا رَحِيمًا } [النساء: 110] ، وقال: "الصلوات الخمس من الجمعة إلى
الجمعة كفارات لما بينهن". وقال: "من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه،
وإن عملها كتبت سيئة واحدة، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة، وإن
عملها كتبت له عشر أمثالها، ولا يهلك على الله إلا هالك". فأنزل الله: {
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ }
وقال مجاهد: { أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا
سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ } أن يريهم الله جهرة، قال: سألت قريش محمدا
صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصَّفَا ذهبًا. قال: "نعم وهو لكم كالمائدة
لبني إسرائيل إن كفرتم"، فأبوا ورجعوا.
وعن السدي وقتادة نحو هذا، والله أعلم.
والمراد أن الله ذمَّ من سأل الرسولَ صلى الله عليه وسلم عن شَيء، على
وجه التعنُّت والاقتراح، كما سألت بنو إسرائيل موسى، عليه السلام، تعنتًا وتكذيبًا
وعنادًا، قال الله تعالى: { وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ } أي:
__________
(1) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (11/454) من طريق عبد الله بن عمر بن
أبان، عن محمد بن فضيل به مطولاً.
(2) في جـ: "وقيل بل هي".
(3) زيادة من جـ.
(4) زيادة من جـ، ط.
(5) في أ، و: "ككفارات".
(6) في جـ: "قال: كانت".
(1/381)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ
كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ
الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ
وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
من يَشْتَر الكفر بالإيمان { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } أي: فقد خرج عن
(1) الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء
واتباعهم والانقياد لهم، إلى مخالفتهم وتكذيبهم والاقتراح عليهم بالأسئلة التي لا
يحتاجون إليها، على وجه التعنت والكفر، كما قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ
الْبَوَارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ } [إبراهيم: 28، 29] .
وقال أبو العالية: يتبدل الشدة بالرخاء.
{ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ
كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ
الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا
تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) }
يحذر تعالى (2) عباده المؤمنين عن سلوك طَرَائق الكفار من أهل الكتاب،
ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين،
مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم. ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والاحتمال، حتى
يأتي أمر الله من النصر والفتح. ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. ويحثهم على ذلك
ويرغبهم فيه، كما قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، أو
عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان حُيَيُّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهودَ
للعرب حسدًا، إذْ خَصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم وكانا جَاهدَين في ردِّ
الناس عن الإسلام ما استطاعا، فأنزل الله فيهما: { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ } الآية.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر عن الزهري، في قوله تعالى: { وَدَّ كَثِيرٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } قال: هو كعب بن الأشرف.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن
الزهري، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه: أن كعب بن الأشرف
اليهودي كان شاعرًا، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه (3) أنزل الله: {
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ } إلى قوله: {
فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا }
وقال الضحاك، عن ابن عباس: أن رسولا أميا يخبرهم بما في أيديهم من الكتب
والرسل (4) والآيات، ثم يصدق بذلك كله مثل تصديقهم، ولكنهم جحدوا ذلك كفرًا وحسدًا
وبغيًا؛ ولذلك قال
__________
(1) في أ: "من".
(2) في جـ: "يحذر تبارك وتعالى".
(3) في ط، ب: "وفيهم".
(4) في جـ، ط، ب: "من الرسل والكتب".
(1/382)
الله تعالى: { كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ
مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } يقول: من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه شيئا،
ولكن الحسد حملهم على الجحود، فعيرَّهم ووبخهم ولامهم أشدَّ الملامة، وشرع لنبيه
صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق والإيمان والإقرار بما أنزل
(1) عليهم وما أنزل من قبلهم، بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم.
وقال الربيع بن أنس: { مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } من قبل أنفسهم. وقال
أبو العالية: { مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } من بعد ما تبين
[لهم] (2) أن محمدا رسول الله يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، فكفروا به
حسدا وبغيًا؛ إذ كان من غيرهم. وكذا قال قتادة والربيع والسدي.
وقوله: { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ }
مثل قوله تعالى: { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ } [آل عمران: 186] .
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا
حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } نسخ ذلك قوله: { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وقوله: { قَاتِلُوا
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ } إلى قوله: {
وَهُمْ صَاغِرُونَ } [التوبة: 29] فنسخ هذا عفوه عن المشركين. وكذا قال أبو
العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، والسدي: إنها منسوخة بآية السيف، ويرشد إلى ذلك
أيضًا قوله: { حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ }
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان (3) أخبرنا شعيب، عن
الزهري، أخبرني عُرْوَة بن الزبير: أن أسامة بن زيد أخبره، قال: كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم الله، ويصبرون
على الأذى، قال الله: { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يتأوَّل من العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم بقتل، فقتل الله به من قتل
من صناديد قريش (4) .
وهذا إسناده (5) صحيح، ولم أره في شيء من الكتب الستة [ولكن له أصل في
الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما] (6) .
وقوله تعالى: { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا
تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ } يَحُثُّ (7)
تعالى على الاشتغال بما ينفعهم وتَعُودُ عليهم عاقبتُه يوم القيامة، من إقام الصلاة
وإيتاء الزكاة،
__________
(1) في جـ، ط، أ، و: "أنزل الله".
(2) زيادة من ب، أ، و.
(3) في أ: "أبو الوليد".
(4) تفسير ابن أبي حاتم (1/333).
(5) في ط، ب: "وهذا إسناد".
(6) زيادة من جـ، ط.
(7) في جـ، ط، ب، أ، و: "يحثهم".
(1/383)
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ
نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ
مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ (112)
حتى يمكن لهم الله (1) النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد {
يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ
الدَّارِ } [غافر: 52] ؛ ولهذا قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ } يعني: أنه تعالى لا يغفل عن عمل عامل، ولا يضيع لديه، سواء كان خيرًا أو
شرًا، فإنه سيجازي كل عامل بعمله.
وقال أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } وهذا الخبر من الله للذين خاطبهم بهذه الآيات من
المؤمنين، أنهم مهما فعلوا من خير أو شر، سرا أو علانية، فهو به بصير لا يخفى عليه
منه شيء، فيجزيهم بالإحسان خيرًا، وبالإساءة مثلها. وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج
الخبر، فإن فيه وعدًا ووعيدًا وأمرًا وزجرًا. وذلك أنه أعْلَم القوم أنه بصير
بجميع أعمالهم ليجدوا في طاعته إذ كان ذلك مُدَّخرًا (2) لهم عنده، حتى يثيبهم عليه،
كما قال: { وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ
} وليحذروا معصيته.
قال: وأما قوله: { بصير } فإنه مبصر صرف إلى "بصير" كما صرف
مبدع إلى "بديع"، ومؤلم إلى "أليم"، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا ابن بُكَير، حدثني ابن
لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر، قال: رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يفسر (3) في هذه الآية { سَمِيعٌ بَصِيرٌ } يقول: بكل شيء
بصير (4) .
{ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ
نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ
أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) }
__________
(1) في جـ، ط، ب: "يمكن الله لهم".
(2) في ب، أ، و: "مذخورا".
(3) في جـ، ط، ب، أ: "يقرأ"، وفي و: "يقترئ".
(4) تفسير ابن أبي حاتم (1/336).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق