الجمعة، 18 أغسطس 2023

تفسير سورة البقرة لابن كثير من 246 الي 274.

 تفسير سورة البقرة لابن كثير من 246 الي 274.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)

سورةالبقرة - تفسير ابن كثير من 246.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) }

قال عبد الرزاق عن مَعْمَر عن قتادة: هذا النبي هو يوشع بن نون. قال ابن جرير: يعني ابن أفراثيم (1) بن يوسف بن يعقوب. وهذا القول بعيد؛ لأن هذا كان بعد موسى بدهر طويل، وكان ===

__________

(1) في جـ: "إفراثيم"، وفي أ: "إبراهيم". 

=== ذلك في زمان داود عليه السلام، كما هو مصرح به في القصة وقد كان بين داود وموسى ما ينيف عن ألف سنة والله أعلم.

وقال السدي: هو شمعون (1) وقال مجاهد: هو شمويل عليه السلام. وكذا قال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه وهو: شمويل بن بالي بن علقمة بن يرخام (2) بن إليهو بن تهو بن صوف (3) بن علقمة بن ماحث (4) بن عمرصا بن عزريا بن صفنيه (5) بن علقمة بن أبي ياسف بن قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام.

وقال وهب بن منبه وغيره: كان بنو إسرائيل بعد موسى عليه السلام على طريق (6) الاستقامة مدة الزمان، ثم أحدثوا الأحداث وعبد بعضهم الأصنام، ولم يزل بين أظهرهم من الأنبياء من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويقيمهم على منهج التوراة إلى أن فعلوا ما فعلوا فسلط الله عليهم أعداءهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا خلقًا كثيرا وأخذوا منهم بلادًا كثيرة، ولم يكن أحد يقاتلهم إلا غلبوه وذلك أنهم كان عندهم التوراة والتابوت الذي كان في قديم (7) الزمان وكان ذلك موروثًا لخلفهم عن سلفهم إلى موسى الكليم عليه الصلاة والسلام (8) فلم يزل بهم تماديهم (9) على الضلال حتى استلبه (10) منهم بعض الملوك في بعض الحروب وأخذ التوراة من أيديهم ولم يبق من يحفظها فيهم إلا القليل وانقطعت النبوة من أسباطهم ولم يبق من سبط (11) لاوي الذي يكون فيه الأنبياء إلا امرأة حامل من بعلها وقد قتل فأخذوها فحبسوها في بيت واحتفظوا بها لعل الله يرزقها غلامًا يكون نبيًّا لهم ولم تزل [تلك] (12) المرأة تدعو الله عز وجل أن يرزقها غلامًا فسمع الله لها ووهبها غلامًا، فسمته شمويل: أي: سمع الله. ومنهم من يقول: شمعون وهو بمعناه فشب ذلك الغلام ونشأ فيهم وأنبته (13) الله نباتًا حسنًا فلما بلغ سن الأنبياء أوحى الله إليه وأمره بالدعوة إليه وتوحيده، فدعا بني إسرائيل فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكًا يقاتلون معه أعداءهم وكان الملك أيضًا قد باد فيهم (14) فقال لهم النبي: فهل عسيتم إن أقام الله لكم ملكًا ألا تفوا بما التزمتم من القتال معه { قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا } أي: وقد أخذت منا البلاد وسبيت الأولاد؟ قال الله تعالى: { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } أي: ما وفوا بما وعدوا بل نكل عن الجهاد أكثرهم والله عليم بهم.

__________

(1) في و: "شمويل".

(2) في جـ: "حام" وفي و: "نزخام".

(3) في جـ: "قهوص"، وفي أ: "قهرص"، وفي و: "بهرص".

(4) في أ: "بن ماحب".

(5) في جـ، و: "بن صفيه".

(6) في جـ: "على طريقة".

(7) في و: "في قيد".

(8) في جـ، أ، و: "عليه أفضل الصلاة والسلام".

(9) في جـ: "يردهم"، وفي و: "عادتهم".

(10) في جـ: "حتى أسلبه".

(11) في جـ: "من وسط".

(12) زيادة من جـ، أ.

(13) في جـ، "فأنبته".

(14) في جـ: "منهم". 

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)

{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) }

أي: لما طلبوا من نبيهم أن يعين لهم ملكًا منهم فعين لهم طالوت وكان رجلا من أجنادهم ولم يكن من بيت الملك فيهم؛ لأن الملك فيهم كان في سبط يهوذا، ولم يكن هذا من ذلك السبط فلهذا قالوا: { أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا } أي: كيف يكون ملكًا علينا { وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ } أي: ثم هو مع هذا فقير لا مال له يقوم بالملك، وقد ذكر بعضهم أنه كان سقاء وقيل: دباغًا. وهذا اعتراض منهم على نبيهم وتعنت وكان الأولى بهم طاعة وقول معروف ثم قد أجابهم النبي قائلا { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ } أي: اختاره لكم من بينكم والله أعلم به منكم. يقول: لست أنا الذي عينته من تلقاء نفسي بل الله أمرني به لما طلبتم مني ذلك { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } أي: وهو مع هذا أعلم منكم، وأنبل وأشكل منكم وأشد قوة وصبرًا (1) في الحرب ومعرفة بها أي: أتم علمًا وقامة منكم. ومن هاهنا ينبغي أن يكون الملك ذا علم وشكل حسن وقوة شديدة في بدنه ونفسه ثم قال: { وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ } أي: هو الحاكم الذي ما شاء فعل ولا يُسأل عما يفعل وهم يسألون لعلمه [وحكمته] (2) ورأفته بخلقه؛ ولهذا قال: { وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أي: هو واسع الفضل يختص برحمته من يشاء عليم بمن يستحق الملك ممن لا يستحقه.

{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) }

يقول نبيهم لهم: إن علامة بركة ملك طالوت عليكم أن يرد الله عليكم التابوت الذي كان أخذ منكم.

{ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } قيل: معناه فيه وقار، وجلالة.

قال عبد الرزاق عن مَعْمَر عن قتادة { فِيهِ سَكِينَةٌ } أي: وقار. وقال الربيع: رحمة (3) . وكذا روي عن العوفي عن ابن عباس وقال ابن جريج: سألت عطاء عن قوله: { فِيهِ سَكِينَةٌ [مِنْ رَبِّكُمْ] (4) } قال: ما يعرفون من آيات الله فيسكنون (5) إليه.

وقيل: السكينة طست من ذهب كانت تغسل فيه قلوب الأنبياء، أعطاها الله موسى عليه السلام فوضع فيها الألواح. ورواه السدي عن أبي مالك عن ابن عباس.

وقال سفيان الثوري: عن سلمة بن كُهَيْل عن أبي الأحوص عن علي قال: السكينة لها وجه كوجه الإنسان ثم هي روح هفافة.

وقال ابن جرير: حدثني [ابن] (6) المثنى حدثنا أبو داود حدثنا شعبة وحماد بن سلمة، وأبو الأحوص كلهم عن سِماك عن (7) خالد بن عرعرة عن علي قال: السكينة ريح خجوج ولها

__________

(1) في أ: "وخبرا".

(2) زيادة من جـ، و، وفي أ: "وحلمه".

(3) في جـ: "رحمة الله".

(4) زيادة من جـ، و.

(5) في أ: "تسكنون".

(6) زيادة من تفسير الطبري (5/327).

(7) في جـ: "عن سماك بن".

(1/666)

رأسان.

وقال مجاهد: لها جناحان وذنب. وقال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه: السكينة رأس هرة ميتة إذا صرخت في التابوت بصراخ هر، أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح.

وقال عبد الرزاق: أخبرنا بكار بن عبد الله أنه سمع وهب بن منبه (1) يقول: السكينة روح من الله تتكلم إذا اختلفوا في شيء تكلم فأخبرهم ببيان ما يريدون.

وقوله: { وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ } قال ابن جرير: أخبرنا ابن المثنى حدثنا أبو الوليد حدثنا حماد عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية: { وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ } قال: عصاه ورضاض الألواح. وكذا قال قتادة والسدي والربيع بن أنس وعكرمة وزاد: والتوراة.

وقال أبو صالح { وَبَقِيَّةٌ } يعني: عصا موسى وعصا هارون ولوحين (2) من التوراة والمن.

وقال عطية بن سعد: عصا موسى وعصا هارون وثياب موسى وثياب هارون ورضاض الألواح.

وقال عبد الرزاق: سألت الثوري عن قوله: { وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ } فقال: منهم من يقول قفيز من مَنٍّ، ورضاض الألواح. ومنهم من يقول: العصا والنعلان.

وقوله: { تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ } قال ابن جريج: قال ابن عباس: جاءت الملائكة تحمل التابوت (3) بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدي طالوت، والناس ينظرون.

وقال السدي: أصبح التابوت في دار طالوت فآمنوا بنبوة شمعون وأطاعوا طالوت.

وقال عبد الرزاق عن الثوري عن بعض أشياخه: جاءت به الملائكة تسوقه على عجلة على بقرة وقيل: على بقرتين.

وذكر غيره أن التابوت كان بأريحا (4) وكان المشركون لما أخذوه وضعوه في بيت آلهتهم تحت صنمهم الكبير، فأصبح التابوت على رأس الصنم فأنزلوه فوضعوه تحته فأصبح كذلك فسمروه تحته فأصبح الصنم مكسور القوائم ملقى بعيدا، فعلموا أن هذا أمر من الله لا قبل لهم به فأخرجوا التابوت من بلدهم، فوضعوه في بعض القرى (5) فأصاب أهلها داء في رقابهم (6) فأمرتهم جارية من سبي بني إسرائيل أن يردوه إلى بني إسرائيل حتى يخلصوا من هذا الداء، فحملوه على بقرتين فسارتا به لا يقربه أحد إلا مات، حتى اقتربتا من بلد بني إسرائيل فكسرتا النيرين (7) ورجعتا وجاء بنو إسرائيل فأخذوه فقيل: إنه تسلمه داود عليه السلام وأنه لما قام إليهما (8) حجل من فرحه بذلك. وقيل: شابان منهم فالله أعلم. وقيل: كان التابوت بقرية من قرى فلسطين يقال لها: أزدرد.

وقوله: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ } أي: على صدقي فيما جئتكم به من النبوة، وفيما أمرتكم به من

__________

(1) في أ: "بن منصور".

(2) في جـ: "ولوحان".

(3) في جـ: "وتحمل التوابيت".

(4) في جـ: "كان تاريخا".

(5) في و: "بعض القرايا".

(6) في جـ: "في قلوبهم".

(7) في جـ: "النيرير".

(8) في جـ: "قام إليه" وفي و: "قام إليهما".

(1/667)

طاعة طالوت: { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي: بالله واليوم الآخر.

==============

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

البقرة - تفسير ابن كثير

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)

{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) }

يقول تعالى مخبرًا عن طالوت ملك بني إسرائيل حين خرج في جنوده ومن أطاعه من ملأ بني إسرائيل وكان جيشه يومئذ فيما ذكره السدي ثمانين ألفًا فالله أعلم، أنه قال: { إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم [بِنَهَر] (1) } قال ابن عباس وغيره: وهو نهر بين الأردن وفلسطين يعني: نهر الشريعة المشهور { فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } أي: فلا يصحبني اليوم في هذا الوجه { وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } أي: فلا بأس عليه قال الله تعالى { فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ } قال ابن جريج: قال ابن عباس: من اغترف منه بيده روي، ومن شرب منه لم يرو. وكذا رواه السدي عن أبي مالك، عن ابن عباس. وكذا قال قتادة وابن شوذب.

وقال السدي: كان الجيش ثمانين ألفًا فشرب ستة وسبعون ألفًا وتبقى معه أربعة آلاف كذا قال.

وقد روى ابن جرير من طريق إسرائيل وسفيان الثوري ومِسْعَر (2) بن كدام عن أبي إسحاق السبيعي، عن البراء بن عازب قال: كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر، وما جازه معه إلا مؤمن. ورواه البخاري عن عبد الله بن رجاء عن إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق عن البراء (3) قال: "كنا -أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم-نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت، الذين جازوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا مؤمن بضعة عشر وثلاثمائة" (4) .

ثم رواه من حديث سفيان الثوري وزهير، عن أبي إسحاق عن البراء بنحوه (5) ولهذا قال تعالى: { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ } أي: استقلوا أنفسهم عن لقاء عدوهم لكثرتهم فشجعهم علماؤهم [وهم] (6) العالمون بأن وعد الله حق فإن النصر من عند الله ليس عن (7) كثرة عدد ولا عدد. ولهذا قالوا: { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }

__________

(1) زيادة من أ، و.

(2) في جـ: "ومسعود".

(3) في هـ، أ، و: "عن أبي إسحاق عن جده عن البراء" والمثبت من البخاري.

(4) صحيح البخاري برقم (3958).

(5) صحيح البخاري برقم (3957) من حديث زهير وبرقم (3959) من حديث سفيان.

(6) زيادة من جـ.

(7) في أ: "لا من".

(1/668)

وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

{ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) }

أي: لما واجه حزب الإيمان -وهم قليل-من أصحاب طالوت لعدوهم أصحاب جالوت -وهم عدد كثير-{ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } أي: أنزل علينا صبرًا من عندك { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } أي: في لقاء الأعداء وجنبنا الفرار والعجز { وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }

قال الله تعالى: { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ } أي: غلبوهم وقهروهم بنصر الله لهم { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ } ذكروا في الإسرائيليات: أنه قتله بمقلاع كان في يده رماه به فأصابه فقتله، وكان طالوت قد وعده إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته ويشاطره نعمته ويشركه (1) في أمره فوفى له ثم آل (2) الملك إلى داود عليه السلام مع ما منحه الله به من النبوة العظيمة؛ ولهذا قال تعالى: { وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ } الذي كان بيد طالوت { والحكمة } أي: النبوة بعد شمويل { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ } أي: مما يشاء الله من العلم الذي اختصه به صلى الله عليه وسلم ثم قال تعالى: { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ } أي: لولاه يدفع عن قوم بآخرين، كما دفع عن بني إسرائيل بمقاتلة طالوت وشجاعة داود لهلكوا كما قال: { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } الآية [الحج:40].

وقال ابن جرير، رحمه الله: حدثني أبو حميد الحمصي أحمد بن المغيرة حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا حفص بن سليمان عن محمد بن سوقة عن وبرة بن عبد الرحمن عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء". ثم قرأ ابن عمر: { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ } (3) وهذا إسناد ضعيف فإن يحيى بن سعيد [هذا] (4) هو أبو زكريا العطار الحمصي وهو ضعيف جدًّا.

ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو حميد الحمصي حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا عثمان بن عبد الرحمن عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليصلح بصلاح الرجل المسلم ولده وولد ولده وأهل دويرته ودويرات حوله، ولا يزالون في حفظ الله عز وجل ما دام فيهم" (5) .

وهذا أيضًا غريب ضعيف لما تقدم أيضا. وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم أخبرنا علي بن إسماعيل بن حماد أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد أخبرنا زيد بن الحباب، حدثني حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء (6) عن ثوبان -رفع

__________

(1) في جـ: "ويشاركه".

(2) في جـ: "بما آل".

(3) تفسير الطبري (5/374).

(4) زيادة من أ، و.

(5) تفسير الطبري (5/375).

(6) في جـ: "بن أبي أسامة".

(1/669)

الحديث-قال: "لا يزال فيكم سبعة بهم تنصرون وبهم تمطرون وبهم ترزقون حتى يأتي أمر الله" (1) .

وقال ابن مردويه أيضًا: وحدثنا محمد بن أحمد (2) حدثنا محمد بن جرير بن يزيد، حدثنا أبو معاذ نهار بن عثمان الليثي أخبرنا زيد بن الحباب أخبرني عمر البزار، عن عنبسة الخواص، عن قتادة عن أبي قِلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأبدال في أمتي ثلاثون بهم تقوم الأرض، وبهم تمطرون وبهم تنصرون" قال قتادة: إني لأرجو أن يكون الحسن منهم (3) .

وقوله: { وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } أي: مَنٌّ عليهم ورحمة بهم، يدفع عنهم ببعضهم بعضا وله الحكم والحكمة والحجة على خلقه في جميع أفعاله وأقواله.

ثم قال تعالى: { تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } أي: هذه آيات الله التي قصصناها عليك من (4) أمر الذين ذكرناهم بالحق أي: بالواقع الذي كان عليه الأمر، المطابق لما بأيدي أهل الكتاب من الحق الذي يعلمه علماء بني إسرائيل { وَإِنَّكَ } يا محمد { لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } وهذا توكيد وتوطئة للقسم.

__________

(1) ورواه عبد الرزاق في المصنف برقم (20457) عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة مرسلا.

(2) في جـ: "وحدثنا أحمد بن محمد".

(3) ورواه الطبراني في المعجم الكبير من طريق محمد بن الفرج عن زيد بن الحباب به، وقال الهيثمي في المجمع (10/63): "رواه الطبراني من طريق عمرو البزار عن عنبسة الخواص وكلاهما لم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح".

فائدة: قال الإمام ابن القيم في المنار المنيف (ص136): "أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والاوتاد كلها باطلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرب ما فيها: "لا تسبوا أهل الشام فإن فيهم البدلا، كلما مات رجل منهم أبدل الله مكانه رجلا آخر" ذكره أحمد ولا يصح أيضا، فإنه منقطع".

(4) في جـ: "في".

==================

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)

البقرة - تفسير ابن كثير

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)

{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) }

يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض كما قال: { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا } [الإسراء:55] وقال هاهنا: { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ } يعني: موسى ومحمدا صلى الله عليه وسلم وكذلك آدم، كما ورد به الحديث المروي في صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } كما ثبت في حديث الإسراء حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء في السموات (1) بحسب تفاوت منازلهم عند الله عز وجل.

فإن قيل: فما الجمع بين هذه الآية وبين الحديث الثابت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودي في قسم يقسمه: لا والذي اصطفى موسى

__________

(1) في جـ: "في السماء".

(1/670)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)

على العالمين. فرفع المسلم يده فلطم بها وجه اليهودي فقال: أي خبيث وعلى محمد صلى الله عليه وسلم! فجاء اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتكى على المسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تفضلوني على الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشا بقائمة العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟ فلا تفضلوني على الأنبياء" (1) وفي رواية: "لا تفضلوا بين الأنبياء".

فالجواب من وجوه:

أحدها: أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل وفي هذا نظر.

الثاني: أن هذا قاله من باب الهضم والتواضع.

الثالث: أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر.

الرابع: لا تفضلوا بمجرد الآراء والعصبية.

الخامس: ليس مقام التفضيل إليكم وإنما هو إلى الله عز وجل وعليكم الانقياد والتسليم له والإيمان به.

وقوله: { وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ } أي: الحجج والدلائل القاطعات على صحة ما جاء بني إسرائيل به، من أنه عبد الله ورسوله إليهم { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } يعني: أن الله أيده بجبريل عليه السلام ثم قال تعالى: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا } أي: بل كل ذلك عن قضاء الله وقدره؛ ولهذا قال: { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) }

يأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم في سبيله سبيل الخير ليدخروا ثواب ذلك عند ربهم ومليكهم وليبادروا إلى ذلك في هذه الحياة الدنيا { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ } يعني: يوم القيامة { لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ } أي: لا يباع أحد من نفسه ولا يفادى بمال لو بذله، ولو جاء بملء الأرض ذهبًا ولا تنفعه خلة أحد، يعني: صداقته بل ولا نسابته كما قال: { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } [المؤمنون:101]{ وَلا شَفَاعَةٌ } أي: ولا تنفعهم شفاعة الشافعين.

وقوله: { وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } مبتدأ محصور في خبره أي: ولا ظالم أظلم ممن وافى الله يومئذ كافرا. وقد روى ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار أنه (2) قال: الحمد لله الذي قال: { وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ولم يقل: والظالمون هم الكافرون.

__________

(1) صحيح البخاري برقم (3408) وصحيح مسلم برقم (2373).

(2) في جـ: "به".

(1/671)

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)

{ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) }

هذه آية الكرسي ولها شأن عظيم قد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها أفضل آية في كتاب الله. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا سفيان عن سعيد الجريري عن أبي السليل عن عبد الله بن رباح، عن أبي -هو ابن كعب-أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: "أي آية في كتاب الله أعظم"؟ قال: الله ورسوله أعلم. فرددها مرارًا ثم قال أبى: آية الكرسي. قال: "لِيَهْنك العلم أبا المنذر، والذي نفسي بيده إن لها لسانًا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش" وقد رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن الجريري-به (1) وليس عنده زيادة: "والذي نفسي بيده..." إلخ.

حديث آخر: عن أبي أيضاً في فضل آية الكرسي، قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثنا مبشر عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن عبدة بن أبي لبابة (2) عن عبد الله بن أبي بن كعب: أن أباه أخبره: أنه كان له جرن فيه تمر قال: فكان أبي يتعاهده فوجده ينقص قال: فحرسه (3) ذات ليلة فإذا هو بدابة شبيه الغلام المحتلم قال: فسلمت عليه فرد السلام. قال: فقلت: ما أنت، جني أم إنسي؟ قال: جني. قلت: ناولني يدك. قال: فناولني، فإذا يد (4) كلب وشعر كلب. فقلت: هكذا خَلْقُ الجن؟ قال: لقد علمت الجن ما فيهم أشد مني، قلت: فما حملك على ما صنعت؟ قال: بلغني أنك رجل تحب الصدقة فأحببنا أن نصيب من طعامك. قال: فقال له (5) فما الذي يجيرنا (6) منكم؟ قال: هذه الآية: آية الكرسي. ثم غدا إلى النبي (7) صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق الخبيث".

وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي داود الطيالسي عن حرب بن شداد عن يحيى بن أبي كثير عن الحضرمي بن لاحق، عن محمد بن عمرو بن أبي بن كعب عن جده به (8) . وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

طريق أخرى: قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا عثمان بن غياث (9) قال: سمعت أبا السليل قال: كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحدث الناس حتى يكثروا عليه فيصعد على سطح بيت فيحدث الناس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي آية في القرآن أعظم؟" فقال رجل:

__________

(1) المسند (5/141) وصحيح مسلم برقم (810).

(2) في جـ: "بن أبي كنانة".

(3) في جـ: ""فحرسته".

(4) في جـ، و: "فإذا يده يد".

(5) في أ، و: "فقال له أبي".

(6) في أ: "يحرسنا".

(7) في جـ: "إلى رسول الله".

(8) المستدرك (1/562) وفيه انقطاع، وقد جاء من طريق آخر، فرواه ابن حبان في صحيحه برقم (1724) "موارد" من طريق الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير، عن ابن لأبي بن كعب، عن أبيه كعب أنه أخبره فذكر نحوه.

(9) في أ: "بن عتاب".

(1/672)

{ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } قال: فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي، أو قال: فوضع يده بين ثديي فوجدت بردها بين كتفي وقال: "ليهنك العلم يا أبا المنذر" (1) .

حديث آخر: عن الأسفع (2) البكري. قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أبو يزيد القراطيسي حدثنا يعقوب بن أبي عباد المكي حدثنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج أخبرني عمر بن عطاء أن مولى ابن الأسفع (3) -رجل صدق-أخبره عن الأسفع (4) البكري: أنه سمعه يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم في صفة المهاجرين فسأله إنسان: أي آية في القرآن أعظم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } حتى انقضت الآية. (5) .

حديث آخر: عن أنس قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن الحارث حدثني سلمة بن وردان أن أنس بن مالك حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل رجلا من صحابته فقال: "أي فلان هل تزوجت"؟ قال: لا وليس عندي ما أتزوج به. قال: "أوليس معك: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } " ؟ قال: بلى. قال: "ربع القرآن. أليس معك: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } " ؟ قال: بلى. قال: "ربع القرآن. أليس معك { إِذَا زُلْزِلَتِ } " ؟ قال: بلى. قال: "ربع القرآن أليس معك: { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ[وَالْفَتْحُ] (6) } " ؟ قال: بلى. قال: "ربع القرآن. أليس معك آية الكرسي: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ (7) } " ؟ قال: بلى. قال: "ربع القرآن" (8) .

حديث آخر: عن أبي ذر جُنْدَب بن جنادة قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع بن الجراح حدثنا المسعودي أنبأني أبو عمر الدمشقي عن عبيد بن الخشخاش عن أبي ذر رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست. فقال: "يا أبا ذر هل صليت؟" قلت: لا. قال: "قم فصل" قال: فقمت فصليت ثم جلست فقال: "يا أبا ذر تَعَوَّذ بالله من شر شياطين الإنس والجن" قال: قلت: يا رسول الله أوللإنس شياطين؟ قال: "نعم" قال: قلت: يا رسول الله الصلاة؟ قال: "خير موضوع من شاء أقل ومن شاء أكثر". قال: قلت: يا رسول الله فالصوم؟ قال: "فرض مُجْزِئ وعند الله مزيد" قلت: يا رسول الله فالصدقة؟ قال: "أضعاف مضاعفة". قلت: يا رسول الله فأيها أفضل؟ قال: "جهد من مقل أو سر إلى فقير" قلت: يا رسول الله أي الأنبياء كان أول؟ قال: "آدم" قلت: يا رسول الله ونبي (9) كان؟ قال: "نعم نبي مكلم" قال: قلت: يا رسول الله كم المرسلون؟ قال: "ثلثمائة وبضعة عشر جمًّا غفيرًا" وقال مرة: "وخمسة عشر" قال: قلت: يا رسول الله أيما أنزل عليك أعظم؟ قال: "آية الكرسي: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } " ورواه النسائي (10) .

__________

(1) المسند (5/58).

(2) في جـ، أ: "عن الأسقع".

(3) في جـ: "ابن الأسقع".

(4) في جـ: "عن الأسقع".

(5) المعجم الكبير (1/334) وقال الهيثمي في المجمع (6/321): "فيه راو لم يسم وقد وثق، وبقية رجاله ثقات".

(6) زيادة من و.

(7) في أ: "هو الحي القيوم".

(8) المسند (3/221).

(9) في جـ: "ونبي الله".

(10) المسند (5/178) وسنن الترمذي (8/275).

(1/673)

حديث آخر: عن أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري، رضي الله عنه وأرضاه قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان (1) عن ابن أبي ليلى عن أخيه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي أيوب: أنه كان (2) في سهوة له، وكانت الغول تجيء فتأخذ فشكاها إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فقال: "فإذا رأيتها فقل: باسم الله أجيبي رسول الله". قال: فجاءت فقال لها: فأخذها فقالت: إني لا أعود. فأرسلها فجاء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما فعل أسيرك؟" قال: أخذتها فقالت لي: إني لا أعود، إني لا أعود. فأرسلتها، فقال (3) : "إنها عائدة" فأخذتها مرتين أو ثلاثا كل ذلك تقول: لا أعود. وأجيء (4) إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: "ما فعل أسيرك؟" فأقول: أخذتها فتقول: لا أعود. فيقول: "إنها عائدة" فأخذتها فقالت: أرسلني وأعلمك شيئًا تقوله فلا يقربك شيء: آية الكرسي، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: "صدقت وهي كذوب".

ورواه الترمذي في فضائل القرآن عن بُنْدار عن أبي أحمد الزبيري به (5) ، وقال: حسن غريب.

وقد ذكر البخاري هذه القصة عن أبي هريرة فقال في كتاب "فضائل القرآن" وفي كتاب "الوكالة" وفي "صفة إبليس" من صحيحه: قال عثمان بن الهيثم أبو عمرو حدثنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة. قال: فخليت عنه. فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟" قال: قلت يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فَرحِمْتُه وخليت سبيله. قال: "أما إنه قد كَذَبك وسيعود" فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه سيعود" فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال لا أعود. فرحمته وخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟" قلت (6) : يا رسول الله شكا حاجة وعيالا فرحمته فخليت سبيله. قال: "أما إنه قد كذبك وسيعود" فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا آخر ثلاث مرات أنَّك تزعم أنك لا تعود ثم تعود. فقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها. قلت: ما هن (7) . قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما فعل أسيرك البارحة؟" قلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله. قال: "ما هي؟" قال: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح. وكانوا أحرص شيء على الخير، فقال النبي

__________

(1) في جـ، أ، و: "قال الإمام أحمد: حدثنا أبو أحمد، حدثنا سفيان".

(2) في جـ: "أنه بات".

(3) في جـ: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم".

(4) في جـ: ."وتجيء"

(5) المسند (5/423) وسنن الترمذي برقم (2880).

(6) في جـ: "فقلت".

(7) في أ، و: "ما هي".

(1/674)

صلى الله عليه وسلم: "أما إنه صدقك (1) وهو كذوب تعلم من تخاطب مُذْ (2) ثلاث ليال يا أبا هريرة؟" قلت (3) : لا قال: "ذاك شيطان".

كذا رواه البخاري معلقا بصيغة الجزم (4) وقد رواه النسائي في "اليوم والليلة" عن إبراهيم بن يعقوب عن عثمان بن الهيثم فذكره (5) وقد روي من وجه آخر عن أبي هريرة بسياق آخر قريب من هذا فقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره:

حدثنا محمد بن عبد الله بن عمرويه الصفار، حدثنا أحمد بن زهير بن حرب أخبرنا مسلم بن إبراهيم أخبرنا إسماعيل بن مسلم العبدي أخبرنا أبو المتوكل الناجي: أن أبا هريرة كان معه مفتاح بيت الصدقة وكان فيه تمر فذهب يوما ففتح الباب فوجد التمر قد أخذ منه ملء كف ودخل يوما آخر فإذا قد أخذ منه ملء كف ثم دخل يومًا آخر ثالثًا فإذا قد أخذ منه مثل ذلك. فشكا ذلك أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "تحب أن تأخذ صاحبك هذا؟" قال: نعم. قال: "فإذا فتحت الباب فقل: سبحان من سخرك محمد" (6) فذهب ففتح الباب فقال (7) : سبحان من سخرك محمد (8) . فإذا هو قائم بين يديه قال: يا عدو الله أنت صاحب هذا؟ قال: نعم دعني فإني لا أعود ما كنت آخذا إلا لأهل بيت من الجن فقراء، فخلى عنه ثم عاد الثانية ثم عاد الثالثة. فقلت: أليس قد عاهدتني ألا تعود؟ لا أدعك اليوم حتى أذهب بك إلى النبي (9) صلى الله عليه وسلم قال: لا تفعل فإنك إن تدعني علمتك كلمات إذا أنت قلتها لم يقربك أحد من الجن صغير ولا كبير ذكر ولا أنثى قال له: لتفعلن؟ قال: نعم. قال: ما هن؟ قال: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } قرأ آية الكرسي حتى ختمها فتركه فذهب فأبعد فذكر ذلك أبو هريرة للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما علمت أن ذلك كذلك؟".

وقد رواه النسائي عن أحمد بن محمد بن عبيد الله عن شعيب بن حرب عن إسماعيل بن مسلم عن أبي المتوكل عن أبي هريرة به (10) وقد تقدم لأبي بن كعب كائنة مثل هذه أيضًا فهذه ثلاث وقائع.

قصة أخرى: قال أبو عبيد في كتاب "الغريب": حدثنا أبو معاوية عن أبي عاصم الثقفي عن الشعبي عن عبد الله بن مسعود قال: خرج رجل من الإنس فلقيه رجل من الجن فقال: هل لك أن تصارعني ؟ فإن صرعتني علمتك آية إذا قرأتها حين تدخل بيتك لم يدخل شيطان؟ فصارعه فصرعه (11) فقال: إني أراك ضئيلا شخيتا (12) كأن ذراعيك ذراعا كلب أفهكذا أنتم أيها الجن. كلكم أم أنت من بينهم؟ فقال: إني بينهم (13) لضليع فعاودني فصارعه (14) فصرعه الإنسي. فقال: تقرأ آية الكرسي فإنه لا يقرؤها أحد إذا دخل بيته إلا خرج الشيطان وله خَبَخٌ كخبج (15) الحمار.

__________

(1) في جـ: "صدق".

(2) في و: "من"، وفي أ: "منذ".

(3) في جـ: "قال".

(4) صحيح البخاري برقم (2311 ، 3275).

(5) سنن النسائي الكبرى برقم (10795).

(6) في جـ: "لمحمد".

(7) في جـ: "وقال".

(8) في جـ: "لمحمد".

(9) في جـ: "إلى رسول الله".

(10) سنن النسائي الكبرى برقم (10794).

(11) في جـ، أ، و: "فصرعه عمر".

(12) في جـ: "صحيتا".

(13) في أ، و: "إني منهم".

(14) في جـ: "فصارعن".

(15) في جـ: "وله خنيج كخنيج الحمار".

(1/675)

فقيل لابن مسعود: أهو عمر؟ فقال: من عسى أن يكون إلا عمر.

قال أبو عبيد: الضئيل: النحيف الجسم والخَبَج (1) بالخاء المعجمة ويقال: بالحاء المهملة: الضراط (2) .

حديث آخر عن أبي هريرة: قال الحاكم أبو عبد الله في مستدركه: حدثنا علي بن حمشاذ (3) حدثنا بشر بن موسى حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثني حكيم بن جُبَير الأسدي عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سورة البقرة فيها آية سيدة آي القرآن لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه! آية الكرسي".

وكذا رواه من طريق أخرى عن زائدة عن حكيم بن جبير ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه (4) كذا قال، وقد رواه الترمذي من حديث زائدة [به] (5) ولفظه: "لكل شيء سنام وسنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن: آية الكرسي". ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير، وقد تكلم فيه شعبة وضعفه (6) .

قلت: وكذا ضعفه أحمد ويحيى بن معين وغير واحد من الأئمة وتركه ابن مهدي وكذبه السعدي.

حديث آخر: قال ابن مَرْدُويه: حدثنا عبد الباقي بن نافع أخبرنا عيسى بن محمد المروزي أخبرنا عمر بن محمد البخاري، أخبرنا أبي أخبرنا عيسى بن موسى غُنْجَار عن عبد الله بن كَيْسان، أخبرنا يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر (7) عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب: أنه خرج ذات يوم إلى الناس وهم سماطات فقال: أيكم يخبرني بأعظم آية في القرآن؟ فقال ابن مسعود: على الخبير سَقَطْتَ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أعظم آية في القرآن: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } (8) .

حديث آخر في اشتماله على اسم الله الأعظم: قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر (9) أخبرنا عبيد الله (10) بن أبي زياد حدثنا شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت (11) : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هاتين الآيتين { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } و { الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [آل عمران:1، 2] "إن فيهما اسم الله الأعظم" (12) .

وكذا رواه أبو داود عن مُسدَّد والترمذي عن علي بن خَشْرم (13) وابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة ثلاثتهم عن عيسى بن يونس عن عبيد الله بن أبي زياد به (14) وقال الترمذي: حسن صحيح.

__________

(1) في جـ: "والخنيج".

(2) غريب الحديث لأبي عبيد (3/316).

(3) في أ: "حماد" وفي و: "جمشاذ".

(4) المستدرك (2/259).

(5) زيادة من جـ، أ، و.

(6) المستدرك (2/259).

(7) في أ: "ابن معمر".

(8) ورواه الجورقاني في الأباطيل برقم (712) من طريق عيسى بن موسى غنجار به.

(9) في أ: "بن بكير".

(10) في جـ، أ: "عبد الله".

(11) في جـ: "قال".

(12) المسند (6/461).

(13) في أ، و: "ابن حزم".

(14) سنن أبي داود برقم (1496) وسنن الترمذي برقم (3478) وسنن ابن ماجة برقم (3855).

(1/676)

حديث آخر في معنى هذا عن أبي أمامة رضي الله عنه: قال ابن مَرْدُويه: أخبرنا عبد الرحمن بن نمير أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل أخبرنا هشام بن عمار أخبرنا الوليد بن مسلم، أخبرنا عبد الله بن العلاء بن زيد: أنه سمع القاسم بن عبد الرحمن يحدث عن أبي أمامة يرفعه قال: "اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث: سورة البقرة وآل عمران وطه" وقال هشام -وهو ابن عمار خطيب دمشق-: أما البقرة فـ { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } وفي آل عمران: { الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } وفي طه: { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } [طه:111] (1) .

حديث آخر عن أبي أمامة في فضل قراءتها بعد الصلاة المكتوبة: قال أبو بكر بن مَرْدُويه: حدثنا محمد بن محرز بن مساور الأدمي أخبرنا جعفر بن محمد بن الحسن أخبرنا الحُسَين بن بشر (2) بطَرسُوس أخبرنا محمد بن حمير أخبرنا محمد بن زياد عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ دُبُر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت".

وهكذا رواه النسائي في "اليوم والليلة" عن الحسين بن بشر به (3) وأخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث محمد بن حِمْير وهو الحمصي من رجال البخاري أيضًا فهو إسناد على شرط البخاري، وقد زعم أبو الفرج بن الجوزي أنه حديث موضوع (4) فالله أعلم. وقد روى ابن مردويه من حديث علي (5) والمغيرة بن شعبة (6) وجابر بن عبد الله نحو هذا الحديث. ولكن في إسناد كل منها ضعف.

وقال ابن مردويه أيضا: حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري أخبرنا يحيى بن دُرُسْتُوَيه المروزي (7) أخبرنا زياد بن إبراهيم أخبرنا أبو حمزة السكري عن المثنى عن قتادة عن الحسن عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أوحى الله إلى موسى بن عمران عليه السلام أن اقرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة فإنه من يقرؤها في دبر كل صلاة مكتوبة أجعلْ له (8) قلب الشاكرين ولسان الذاكرين وثواب المنيبين (9) وأعمال الصديقين ولا يواظب على ذلك إلا نبي أو صديق أو عبد امتحنتُ (10) قلبه للإيمان أو أريد قتله في سبيل الله" (11) وهذا حديث منكر جدًّا.

حديث آخر في أنها تحفظ من قرأها أول النهار وأول الليل: قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا يحيى بن المغيرة أبو سلمة المخزومي المديني أخبرنا ابن أبي فديك عن عبد الرحمن المليكي عن

__________

(1) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/282) والطحاوي في مشكل الآثار برقم (176) من طرق عن هشام بن عمار به نحوه.

(2) في أ: "بشير".

(3) سنن النسائي الكبرى برقم (9928).

(4) الموضوعات (1/244).

(5) حديث علي رواه أيضا البيهقي في شعب الإيمان برقم (2395) من طريق نهشل عن أبي إسحاق الهمداني عن حبة العرني عن علي رضي الله عنه.

(6) حديث المغيرة رواه أبو نعيم في الحلية (3/221) من طريق عمر بن إبراهيم عن محمد بن كعب، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

(7) في جـ: "بن ساسويه المروبي".

(8) في جـ: "جعل الله".

(9) في جـ: "وثواب النبيين".

(10) في أ: "متحبب".

(11) وفيه محمد بن الحسن النقاش، قال البرقاني كل حديثه منكر. وقال الخطيب: حديثه مناكير. وروى نحوه من حديث جابر رضي الله عنه لكنه ضعيف.

(1/677)

زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ: { حم } المؤمن إلى: { إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح" ثم قال: هذا حديث غريب وقد تكلم بعض أهل العلم في عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مُلَيْكة المليكي من قبل حفظه (1) .

وقد ورد في فضيلتها (2) أحاديث أخر تركناها اختصارًا لعدم صحتها وضعف أسانيدها كحديث على قراءتها عند الحجامة: أنها تقوم مقام حجامتين وحديث أبي هريرة في كتابتها في اليد اليسرى بالزعفران سبع مرات وتلحس للحفظ وعدم النسيان أوردهما ابن مردويه وغير ذلك. وهذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة.

فقوله: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } إخبار بأنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق { الْحَيُّ الْقَيُّومُ } أي: الحي في نفسه الذي لا يموت أبدًا القيم لغيره وكان عمر يقرأ: "القَيَّام" فجميع الموجودات مفتقرة إليه وهو غني عنها ولا قوام لها بدون أمره كقوله: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ } [الروم:25] وقوله: { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } أي: لا يعتريه نقص ولا غفلة ولا ذهول عن خلقه بل هو قائم على كل نفس بما كسبت شهيد على كل شيء لا يغيب عنه شيء ولا يخفى عليه خافية (3) ، ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سنة ولا نوم، فقوله: { لا تَأْخُذُهُ } أي: لا تغلبه سنة وهي الوسن والنعاس ولهذا قال: { وَلا نَوْمٌ } لأنه أقوى من السنة. وفي الصحيح عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل وعمل الليل قبل عمل النهار حجابه النور -أو النار-لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" (4) .

وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر أخبرني الحكم بن أبان عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله: { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } أن موسى عليه السلام سأل الملائكة هل ينام الله عز وجل؟ فأوحى الله إلى الملائكة وأمرهم أن يؤرقوه ثلاثا (5) فلا يتركوه ينام ففعلوا ثم أعطوه قارورتين فأمسكهما ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما. قال: فجعل ينعس وهما في يده (6) في كل يد واحدة قال: فجعل ينعس وينبه (7) وينعس وينبه (8) حتى نعس نعسة فضرب إحداهما بالأخرى فكسرهما قال معمر: إنما هو مثل ضربه الله عز وجل يقول: فكذلك السموات والأرض في يديه.

وهكذا رواه ابن جرير عن الحسن بن يحيى عن عبد الرزاق فذكره (9) وهو من أخبار بني إسرائيل وهو مما يعلم أن موسى عليه السلام لا يخفى عليه مثل هذا من أمر الله عز وجل وأنه منزه عنه.

__________

(1) سنن الترمذي برقم (2879).

(2) في أ: "في فضلها".

(3) في أ: "عليه شيء".

(4) صحيح مسلم برقم (179).

(5) في أ: "قليلا".

(6) في أ: "يديه".

(7) في أ: "وينتبه".

(8) في أ: "وينتبه".

(9) تفسير الطبري (5/393).

(1/678)

وأغرب من هذا كله الحديث الذي رواه ابن جرير:

حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل حدثنا هشام بن يوسف عن أمية بن شبل عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى عليه السلام على المنبر، قال: "وقع في نفس موسى: هل ينام الله؟ فأرسل الله إليه ملكًا فأرقه ثلاثًا ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما". قال: "فجعل ينام تكاد يداه تلتقيان فيستيقظ فيحبس إحداهما على الأخرى، حتى نام نومة فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان" قال: "ضرب الله له مثلا عز وجل: أن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض" (1) .

وهذا حديث غريب جدا والأظهر أنه إسرائيلي لا مرفوع، والله أعلم.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدَّشْتكي حدثني أبي عن أبيه حدثنا أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن بني إسرائيل قالوا: يا موسى هل ينام ربك؟ قال: اتقوا الله. فناداه ربه عز وجل: يا موسى سألوك: هل ينام ربك فخذ زجاجتين في يديك فقم الليلة ففعل موسى فلما ذهب من الليل ثلث نعس فوقع لركبتيه، ثم انتعش فضبطهما حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقطت الزجاجتان فانكسرتا. فقال: يا موسى، لو كنت أنام لسقطت السموات والأرض فهلكن كما هلكت الزجاجتان في يديك. وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم آية الكرسي.

وقوله: { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه وتحت قهره وسلطانه كقوله:

{ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [مريم: 93-95] .

وقوله: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } كقوله: { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } [النجم:26] وكقوله: { وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى } [الأنبياء:28] وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عز وجل أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع عنده إلا بإذنه له (2) في الشفاعة كما في حديث الشفاعة: "آتي تحت العرش فأخر (3) ساجدًا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال: ارفع رأسك وقل تسمع واشفع تشفع" قال: "فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة" (4) .

وقوله: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات: ماضيها وحاضرها ومستقبلها كقوله إخبارًا عن الملائكة: { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } [مريم:64] .

وقوله: { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ } أي: لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا

__________

(1) تفسير الطبري (5/394) وقال الحافظ ابن حجر في ترجمة أمية بن شبل: "له حديث منكر رواه عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن أبي هريرة مرفوعا قال: "وقع في نفس موسى عليه السلام: هل ينام الله؟" الحديث رواه هشام بن يوسف وخالفه معمر، عن الحكم عن عكرمة فوقفه، وهذا أقرب ولا يسوغ أن يكون هذا وقع في نفس موسى عليه السلام وإنما روى أن بني إسرائيل سألوا موسى عن ذلك".

(2) في أ، و: "إلا أن يأذن له".

(3) في أ، و: "فأخر لله".

(4) حديث الشفاعة مخرج في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه، وسيأتي سياقه وذكر طرقه عند تفسير الآية: 79 من سورة الإسراء.

(1/679)

بما أعلمه الله عز وجل وأطلعه عليه. ويحتمل أن يكون المراد لا يطلعون على شيء من علم ذاته وصفاته إلا بما أطلعهم الله عليه كقوله: { وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } [طه:110] .

وقوله: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ } قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا ابن إدريس عن مطرف بن طريف عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ } قال: علمه، وكذا رواه ابن جرير من حديث عبد الله بن إدريس وهشيم كلاهما عن مطرف بن طريف به.

قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير مثله. ثم قال ابن جرير: وقال آخرون: الكرسي موضع القدمين ثم رواه عن أبي موسى والسدي والضحاك ومسلم البطين.

وقال شجاع بن مخلد في تفسيره: أخبرنا أبو عاصم عن سفيان عن عمار الدُّهْني عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ } قال: "كرسيه موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل".

كذا أورد هذا الحديث الحافظ أبو بكر بن مردويه من طريق شجاع بن مخلد الفلاس، فذكره (1) وهو غلط وقد رواه وَكِيع في تفسيره: حدثنا سفيان عن عمار الدُّهْنِي (2) عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر أحد قدره. وقد رواه الحاكم في مستدركه عن أبي العباس محمد بن أحمد المحبوبي عن محمد بن معاذ عن أبي عاصم عن سفيان -وهو الثوري-بإسناده عن ابن عباس موقوفًا مثله وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (3) وقد رواه ابن مردويه من طريق الحاكم بن ظُهَيْر الفزاري الكوفي -وهو متروك-عن السدي عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا ولا يصح أيضًا.

وقال السدي عن أبي مالك: الكرسي تحت العرش. وقال السدي: السموات والأرض في جوف الكرسي والكرسي بين يدي العرش. وقال الضحاك عن ابن عباس: لو أن السموات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة.

ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم.

وقال ابن جرير: حدثني يونس أخبرني ابن وهب قال: قال ابن زيد: حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في تُرْس". قال: وقال أبو ذر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض" (4) .

وقال أبو بكر بن مردويه: أخبرنا سليمان بن أحمد أخبرنا عبد الله بن وهيب (5) الغزي

__________

(1) ورواه الخطيب في تاريخ دمشق (9/251) من طريق شجاع بن مخلد به.

(2) في أ: "عن علي الذهبي".

(3) المستدرك (2/282) ورواه ابن أبي شيبة في صفة العرش برقم (61) من طريق أبي عاصم عن سفيان به موقوفا.

(4) تفسير الطبري (5/399) وهو منقطع وقد جاء موصولا فرواه ابن أبي شيبة في صفة العرش برقم (58) من طريق المختار بن غسان، عن إسماعيل بن مسلم عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، مرفوعا بنحوه. وسيأتي أيضا موصولا من طريق آخر وهو الذي يليه من رواية ابن مردويه.

(5) في هـ: "بن وهب" والتصويب من الإكمال.

(1/680)

أخبرنا محمد بن أبي السَّرِيّ العسقلاني أخبرنا محمد بن عبد الله (1) التميمي عن القاسم بن محمد الثقفي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر الغفاري، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكرسي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة" (2) .

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا زهير حدثنا ابن أبي بُكَيْر (3) حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة عن عمر، رضي الله عنه قال: أتت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة. قال: فعظم الرب تبارك وتعالى وقال: "إن كرسيه وسع السموات والأرض وإن له أطيطًا كأطيط الرَّحل الجديد من ثقله" (4) .

وقد رواه الحافظ البزار في مسنده المشهور وعبد بن حميد وابن جرير في تفسيريهما والطبراني وابن أبي عاصم في كتابي السنة لهما والحافظ الضياء في كتاب "المختار" من حديث أبي إسحاق (5) السبيعي عن عبد الله بن خليفة وليس بذاك المشهور وفي سماعه من عمر نظر (6) ثم منهم من يرويه عنه عن عمر موقوفًا ومنهم من يرويه عنه مرسلا (7) ومنهم من يزيد في متنه زيادة غريبة ومنهم من يحذفها.

وأغرب من هذا حديث جبير بن مطعم في صفة العرش كما رواه أبو داود في كتابه السنة من سننه (8) ، والله أعلم.

وقد روى ابن مردويه وغيره أحاديث عن بريدة وجابر وغيرهما في وضع الكرسي يوم القيامة لفصل القضاء، والظاهر أن ذلك غير المذكور في هذه الآية.

وقد زعم بعض المتكلمين على علم الهيئة من الإسلاميين: أن الكرسي عندهم هو الفلك الثامن وهو فلك الثوابت الذي فوقه الفلك التاسع وهو الفلك الأثير ويقال له: الأطلس. وقد رد ذلك عليهم آخرون.

وروى ابن جرير من طريق جُويبر عن الحسن البصري أنه كان يقول: الكرسي هو العرش. والصحيح أن الكرسي غير العرش والعرش أكبر منه، كما دلت على ذلك الآثار والأخبار، وقد اعتمد ابن جرير على حديث عبد الله بن خليفة، عن عمر في ذلك وعندي في صحته نظر والله أعلم.

وقوله: { وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا } أي: لا يثقله ولا يُكْرثُهُ حفظ السموات والأرض ومن فيهما ومن

__________

(1) في أ: "بن عبيد الله".

(2) وفي إسناده محمد بن أبي السري العسقلاني، ضعفه أبو حاتم ووثقه ابن معين، وقال ابن عدي: كثير الغلط.

(3) في أ: "ابن أبي بكر".

(4) ورواه من طريقه الضياء في المختارة برقم (151).

(5) في أ: "عن أبي القاسم".

(6) مسند البزار برقم (39) "كشف الأستار" وتفسير الطبري (5/400) والسنة لابن أبي عاصم برقم (574) والمختارة للضياء المقدسي برقم (151- 154).

(7) الرواية المرسلة في تفسير الطبري (5/400).

(8) سنن أبي داود برقم (4726).

(1/681)

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)

بينهما، بل ذلك سهل عليه يسير لديه وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء، فلا يعزب عنه شيء ولا يغيب عنه شيء والأشياء كلها حقيرة بين يديه متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة وهو الغني الحميد الفعال لما يريد، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وهو القاهر لكل شيء الحسيب على كل شيء الرقيب العلي العظيم لا إله غيره ولا رب سواه فقوله: { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } كقوله: { وَهُو [الْعَلِيُّ الْكَبِير } وكقوله] (1) : { الْكَبِيرُ الْمُتَعَال } [الرعد:9] .

وهذه الآيات وما في معناها من الأحاديث الصحاح الأجود فيها طريقة السلف الصالح إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه.

{ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) }

يقول تعالى: { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين } أي: لا تكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورًا. وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار، وإن كان حكمها عامًّا.

وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مِقْلاتًا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا فأنزل الله عز وجل: { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ }

وقد رواه أبو داود والنسائي جميعا عن بُنْدَار به (2) ومن وجوه أخر عن شعبة به نحوه. وقد رواه ابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه من حديث شعبة به (3) ، وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وغيرهم: أنها نزلت في ذلك.

وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد الجرشي عن (4) زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن سعيد [بن جبير] (5) عن ابن عباس قوله: { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } قال: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له: الحصيني كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلا مسلمًا فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله فيه ذلك.

رواه ابن جرير وروى السدي نحو ذلك وزاد: وكانا قد تنصرا على يدي تجار قدموا من الشام يحملون زيتًا فلما عزما على الذهاب معهم أراد أبوهما أن يستكرههما، وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث في آثارهما، فنزلت هذه الآية.

__________

(1) زيادة من أ، و.

(2) تفسير الطبري (5/407، 408) وسنن أبي داود برقم (2682) وسنن النسائي الكبرى برقم (11048).

(3) صحيح ابن حبان برقم (1725) "موارد".

(4) في و: "مولى".

(5) زيادة من جـ، أ.

(1/682)

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عوف أخبرنا شريك عن أبي هلال عن أُسَق قال: كنت في دينهم مملوكًا نصرانيًا لعمر بن الخطاب فكان يعرض علي الإسلام فآبى فيقول: { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ويقول: يا أُسَق لو أسلمت لاستعنا بك على بعض أمور المسلمين.

وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء أن هذه محمولة على أهل الكتاب ومن دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية. وقال آخرون: بل هي منسوخة بآية القتال وأنه يجب أن يدعى جميع الأمم إلى الدخول في الدين الحنيف دين الإسلام فإن أبى أحد منهم الدخول فيه ولم ينقد له أو يبذل الجزية، قوتل حتى يقتل. وهذا معنى الإكراه قال الله تعالى: { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُون } [الفتح:16] وقال تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } [التحريم:9] وقال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [التوبة:123] وفي الصحيح: "عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل" (1) يعني: الأسارى الذين يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثائق والأغلال والقيود والأكبال ثم بعد ذلك يسلمون وتصلح أعمالهم وسرائرهم فيكونون من أهل الجنة.

فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن حميد عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "أسلم" قال: إني أجدني كارها. قال: "وإن كنت كارها" (2) فإنه ثلاثي صحيح، ولكن ليس من هذا القبيل فإنه لم يكرهه النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام بل دعاه إليه فأخبر أن نفسه ليست قابلة له بل هي كارهة فقال له: "أسلم وإن كنت كارهًا فإن الله سيرزقك حسن النية والإخلاص".

وقوله: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي: من خلع الأنداد والأوثان (3) وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله، ووحد الله فعبده وحده وشهد أن لا إله إلا هو { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } أي: فقد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم.

قال أبو القاسم البغوي: حدثنا أبو روح البلدي حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم، عن أبي إسحاق عن حسان -هو ابن فائد العبسي-قال: قال عمر رضي الله عنه: إن الجِبت: السحر والطاغوت: الشيطان، وإن الشجاعة والجبن غرائز تكون في الرجال يقاتل الشجاع عمن لا يعرف ويفر الجبان من (4) أمه، وإن كرم الرجل دينه، وحسبه خلقه، وإن كان فارسيًّا أو نبطيا. وهكذا رواه ابن جرير (5) وابن أبي حاتم من حديث الثوري عن أبي إسحاق عن حسان بن فائد العبسي عن عمر فذكره.

ومعنى قوله في الطاغوت: إنه الشيطان قوي جدًّا فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية، من عبادة الأوثان والتحاكم إليها والاستنصار بها.

وقوله: { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا } أي: فقد استمسك من الدين بأقوى سبب،

__________

(1) صحيح البخاري برقم (3010) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2) المسند (3/181).

(3) في أ: "والأديان".

(4) في جـ، أ، و: "عن".

(5) تفسير الطبري (5/417).

(1/683)

وشبه ذلك بالعروة الوثقى التي لا تنفصم فهي في نفسها محكمة مبرمة قوية وربطها قوي شديد ولهذا قال: { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .

قال مجاهد: { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } يعني: الإيمان. وقال السدي: هو الإسلام وقال سعيد بن جبير والضحاك: يعني لا إله إلا الله. وعن أنس (1) بن مالك: { بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } : القرآن. وعن سالم بن أبي الجعد قال: هو الحب في الله والبغض في الله.

وكل هذه الأقوال صحيحة ولا تنافي بينها.

وقال معاذ بن جبل في قوله: { لا انْفِصَامَ لَهَا } أي: لا انقطاع لها دون دخول الجنة.

وقال مجاهد وسعيد بن جبير: { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا } ثم قرأ: { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد:11].

وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن يوسف حدثنا ابن عون عن محمد عن قيس بن عباد قال: كنت في المسجد فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع، فدخل فصلى ركعتين أوجز فيهما فقال القوم: هذا رجل من أهل الجنة. فلما خرج اتبعته حتى دخل منزله فدخلت معه فحدثته فلما استأنس (2) قلت له: إن القوم لما دخلت قبل المسجد قالوا كذا وكذا. قال: سبحان الله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم وسأحدثك لم: إني رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه: رأيت كأني في روضة خضراء -قال ابن عون: فذكر من خضرتها وسعتها-وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء في أعلاه عروة، فقيل لي: اصعد عليه فقلت: لا أستطيع. فجاءني مِنْصَف -قال ابن عون: هو الوصيف (3) -فرفع ثيابي من خلفي، فقال: اصعد. فصعدت حتى أخذت بالعروة فقال: استمسك بالعروة. فاستيقظت وإنها لفي يدي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه. فقال: "أما الروضة فروضة الإسلام وأما العمود فعمود الإسلام وأما العروة فهي العروة الوثقى، أنت على الإسلام حتى تموت" (4) .

قال: وهو عبد الله بن سلام أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الله بن عون (5) وأخرجه البخاري من وجه آخر، عن محمد بن سيرين به (6) .

طريق أخرى وسياق آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى وعفان قالا حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة عن المسيب بن رافع عن خرشة بن الحُرِّ قال: قدمت المدينة فجلست إلى مشيخة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. فجاء شيخ يتوكأ على عصًا له فقال القوم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا. فقام خلف سارية فصلى ركعتين فقمت إليه، فقلت له: قال بعض القوم: كذا وكذا. فقال: الجنة لله يُدخلها (7) من يشاء وإني رأيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا، رأيت كأن رجلا أتاني فقال: انطلق. فذهبت معه فسلك بي منهجًا عظيمًا فعرضت لي طريق عن يساري، فأردت أن أسلكها. فقال: إنك لست من أهلها. ثم عرضت لي طريق عن

__________

(1) في أ: "وعن يونس".

(2) في جـ: "فلما أنس".

(3) في أ: "هو الوصف".

(4) المسند (5/452).

(5) صحيح البخاري برقم (3813) وصحيح مسلم برقم (2484).

(6) صحيح البخاري برقم (7010).

(7) في جـ: "سيدخلها".

(1/684)

يميني فسلكتها حتى انتهت إلى جبل زلق فأخذ بيدي فزجل (1) فإذا أنا على ذروته، فلم أتقار ولم أتماسك فإذا عمود حديد في ذروته حلقة من ذهب فأخذ بيدي فزجل (2) حتى أخذت بالعروة فقال: استمسك. فقلت: نعم. فضرب العمود برجله فاستمسكت بالعروة، فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "رأيت خيرًا أما المنهج العظيم فالمحشر (3) ، وأما الطريق التي عرضت عن يسارك فطريق أهل النار، ولست من أهلها، وأما الطريق التي عرضت عن يمينك فطريق أهل الجنة، وأما الجبل الزلق فمنزل الشهداء، وأما العروة التي استمسكت بها فعروة الإسلام فاستمسك بها حتى تموت". قال: فإنما أرجو أن أكون من أهل الجنة. قال: وإذا هو عبد الله بن سلام (4) .

وهكذا رواه النسائي عن أحمد بن سليمان عن عفان، وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن الحسن بن موسى الأشيب كلاهما عن حماد بن سلمة به نحوه (5) . وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن سليمان بن مُسْهِر عن خرشة بن الحُرّ الفزاري به (6) .

__________

(1) في جـ، أ، و: "فدحا بي".

(2) في جـ، أ، و: "فدحا بي".

(3) في جـ: "فالمحن".

(4) المسند (5/452، 453).

(5) سنن النسائي الكبرى برقم (7633) وسنن ابن ماجة برقم (3920).

(6) صحيح مسلم برقم (2484).

=====================

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)

البقرة - تفسير ابن كثير

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)

{ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) }

يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سُبُل السلام فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر والشك والريب إلى نور الحق الواضح الجلي المبين السهل المنير، وأن الكافرين إنما وليهم الشياطين تزين لهم ما هم فيه من الجهالات والضلالات، ويخرجونهم ويحيدون بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك { أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

ولهذا وحد تعالى لفظ النور وجمع الظلمات؛ لأن الحق واحد والكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة كما قال: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام:153] وقال تعالى: { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور } [الأنعام:1] وقال تعالى: { عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ } [النحل:48] إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق، وانتشار الباطل وتفرده وتشعبه.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن ميسرة حدثنا عبد العزيز بن أبي عثمان عن موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد قال: يبعث أهل الأهواء (1) -أو قال: يبعث أهل الفتن-فمن كان هواه الإيمان كانت فتنته بيضاء مضيئة، ومن كان هواه الكفر كانت فتنته سوداء مظلمة، ثم قرأ هذه الآية: { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

__________

(1) في أ: "الأسواق".

(1/685)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) }

هذا الذي حاج إبراهيم في ربه وهو ملك بابل: نمروذ بن كنعان بن كُوش بن سام بن نوح. ويقال: نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح والأول قول مجاهد وغيره.

قال مجاهد: وملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة: مؤمنان وكافران فالمؤمنان: سليمان بن داود وذو القرنين. والكافران: نمرود [بن كنعان] (1) وبختنصر. فالله أعلم.

ومعنى قوله: { أَلَمْ تَرَ } أي: بقلبك يا محمد { إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ } أي: [في] (2) وجود ربه. وذلك أنه أنكر أن يكون ثم إله غيره كما قال بعده فرعون لملئه: { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } [القصص:38] وما حمله على هذا الطغيان والكفر الغليظ والمعاندة الشديدة إلا تجبره، وطول مدته في الملك؛ وذلك أنه يقال: إنه مكث أربعمائة سنة في ملكه؛ ولهذا قال: { أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ } وكأنه طلب من إبراهيم دليلا على وجود الرب الذي يدعو إليه فقال إبراهيم: { رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي: الدليل على وجوده حدوث هذه الأشياء المشاهدة بعد عدمها، وعدمها بعد وجودها. وهذا دليل على وجود الفاعل المختار ضرورة؛ لأنها لم تحدث بنفسها فلا بد لها من موجد أوجدها وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له. فعند ذلك قال المحاج (3) -وهو النمروذ-: { أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ }

قال قتادة ومحمد بن إسحاق والسدي وغير واحد: وذلك أني (4) أوتى بالرجلين قد استحقا القتل فآمر بقتل أحدهما فيقتل، وبالعفو عن الآخر فلا يقتل. فذلك معنى الإحياء والإماتة.

والظاهر -والله أعلم-أنه ما أراد هذا؛ لأنه ليس جوابًا لما قال إبراهيم ولا في معناه؛ لأنه غير مانع لوجود الصانع. وإنما أراد أن يَدّعي لنفسه هذا المقام عنادًا ومكابرة ويوهم أنه الفاعل لذلك وأنه هو الذي يحيي ويميت، كما اقتدى به فرعون في قوله: { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } ولهذا قال له إبراهيم لما ادعى هذه المكابرة: { فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ } أي: إذا كنت كما تدعي من أنك [أنت الذي] (5) تحيي وتميت فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق، فإن كنت إلهًا كما ادعيت تحيي وتميت فأت بها من المغرب. فلما علم عجزه وانقطاعه، وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام بهت أي: أخرس فلا يتكلم، وقامت عليه الحجة. قال الله تعالى (6) { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } أي: لا يلهمهم حجة ولا برهانًا بل حجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد.

وهذا التنزيل على هذا المعنى أحسن مما ذكره كثير من المنطقيين: أن عدول إبراهيم عن المقام الأول إلى المقام الثاني انتقال من دليل إلى أوضح منه، ومنهم من قد يطلق عبارة ردية. وليس كما قالوه بل المقام الأول يكون كالمقدمة للثاني ويُبَيّن بطلان ما ادعاه نمروذ في الأول والثاني، ولله الحمد والمنة.

__________

(1) زيادة من جـ.

(2) زيادة من أ، و.

(3) في جـ، أ، و: "الحاج".

(4) في أ: "وذلك أنه".

(5) زيادة من أ، و.

(6) في جـ، أ: "عز شأنه".

(1/686)

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)

وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم ونمروذ بعد خروج إبراهيم من النار ولم يكن اجتمع بالملك إلا في ذلك اليوم فجرت بينهما هذه المناظرة.

وروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم: أن النمروذ كان عنده (1) طعام وكان الناس يغدون (2) إليه للميرة فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة فكان بينهما هذه المناظرة ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس بل خرج وليس معه شيء من الطعام، فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب فملأ منه عدليه وقال: أشغل أهلي عني إذا قدمت عليهم فلما قدم وضع رحاله وجاء فاتكأ فنام. فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملآنين طعامًا طيبًا فعملت منه طعاما. فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه فقال: أنى لكم هذا؟ قالت: من الذي جئت به. فعرف أنه رزق رزقهموه الله عز وجل. قال (3) زيد بن أسلم: وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكا يأمره بالإيمان بالله فأبى عليه ثم دعاه الثانية فأبى ثم الثالثة فأبى وقال: اجمع جموعك وأجمع جموعي. فجمع النمروذ جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس، وأرسل الله عليهم بابا من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظاما بادية، ودخلت واحدة منها في منخري الملك فمكثت في منخريه أربعمائة سنة، عذبه الله بها فكان يضرب رأسه بالمرازب في هذه المدة كلها حتى أهلكه الله بها.

{ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) }

تقدم قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ [أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ] (4) } وهو في قوة قوله: هل رأيت مثل الذي حاج إبراهيم في ربه؟ ولهذا عطف عليه بقوله: { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } اختلفوا في هذا المار من هو؟ فروى ابن أبي حاتم عن عصام بن رَوَّاد عن آدم بن أبي إياس عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن علي بن أبي طالب أنه قال: هو عزير.

ورواه ابن جرير عن ناجية نفسه. وحكاه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وسليمان بن بُرَيْدَة وهذا القول هو المشهور.

وقال وهب بن منبه وعبد الله بن عبيد بن عمير: هو أرميا بن حلقيا. قال محمد بن إسحاق؛ عمن لا يتهم عن وهب بن منبه أنه قال: وهو اسم الخضر عليه السلام.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: سمعت (5) سليمان بن محمد اليساري الجاري -من أهل الجار، ابن عم مطرف-قال: سمعت رجلا من أهل الشام يقول: إن الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه اسمه: حزقيل بن بورا.

وقال مجاهد بن جبر: هو رجل من بني إسرائيل.

__________

(1) في أ: "كان بيده".

(2) في أ: "يبدون" وفي و: "يفدون".

(3) في جـ: "وقال".

(4) زيادة من جـ، أ.

(5) في جـ: "حدثنا".

(1/687)

[وذكر غير واحد أنه مات وهو ابن أربعين سنه؛ فبعثه الله وهو كذلك، وكان له ابن فبلغ من السن مائة وعشرين سنة، وبلغ ابن ابنه تسعين وكان الجد شابا وابنه وابن ابنه شيخان كبيران قد بلغا الهرم، وأنشدني به بعض الشعراء:

واسوَدّ رأس شاب من قبل ابنه ... ومن قبله ابن ابنه فهو أكبر ...

يرى أنه شيخا يدب على عصا ... ولحيته سوداء والرأس أشعر ...

وما لابنه حبل ولا فضل قوة ... يقوم كما يمشي الصغير فيعثر ...

وعمر ابنه أربعون أمرها ... ولابن ابنه في الناس تسعين غبر] (1)

وأما القرية: فالمشهور أنها بيت المقدس مر عليها بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها. { وَهِيَ خَاوِيَة } أي: ليس فيها أحد من قولهم: خوت الدار تخوي خواءً وخُويا.

وقوله: { عَلَى عُرُوشِهَا } أي: ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها، فوقف متفكرا فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة وقال: { أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } وذلك لما رأى من دثورها وشدة خرابها وبعدها عن العود إلى ما كانت عليه قال الله تعالى: { فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَه } قال (2) : وعمرت البلدة بعد مضي سبعين سنة من موته وتكامل ساكنوها وتراجعت بنو إسرائيل إليها. فلما بعثه الله عز وجل بعد موته كان أول شيء أحيا الله فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه كيف يحيي بدنه؟ فلما استقل سويا قال الله له -أي بواسطة الملك-: { كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْم } قالوا: وذلك أنه مات أول النهار ثم بعثه الله في آخر نهار، فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم فقال: { أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } وذلك: أنه كان معه فيما ذكر عنب وتين وعصير فوجده كما فقده لم يتغير منه شيء، لا العصير استحال ولا التين حمض ولا أنتن ولا العنب تعفن { وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِك } أي: كيف يحييه الله عز وجل وأنت تنظر { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ } أي: دليلا على المعاد { وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا } أي: نرفعها فتركب بعضها على بعض.

وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث نافع بن أبي نُعَيْم عن إسماعيل بن أبي حكيم عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: { كَيْفَ نُنشِزُهَا } بالزاي ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه (3) .

وقرئ:(ننشرها) أي: نحييها قاله مجاهد { ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا } .

وقال السدي وغيره: تفرقت عظام حماره حوله يمينًا ويسارًا (4) فنظر إليها وهي تلوح من بياضها فبعث الله ريحًا فجمعتها من كل موضع من تلك المحلة، ثم ركب (5) كل عظم في موضعه حتى صار حمارًا قائمًا من عظام لا لحم عليها ثم كساها الله لحمًا وعصبًا وعروقًا وجلدًا، وبعث الله ملكًا فنفخ في منخري الحمار فنهق كله بإذن الله عز وجل وذلك كله بمرأى من العزير فعند ذلك لما تبين له هذا كله { قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي: أنا عالم بهذا وقد رأيته عيانًا فأنا أعلم أهل زماني بذلك وقرأ آخرون: "قَالْ اعْلَمْ" على أنه أمر له بالعلم.

__________

(1) زيادة من جـ، أ.

(2) في أ، و: "قالوا".

(3) المستدرك (2/234) وتعقبه الذهبي بقوله: "فيه إسماعيل بن قيس من ولد بن ثابت وقد ضعفوه".

(4) في أ، و: "وشمالا".

(5) في جـ، أ: "ثم ركبت".

================

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)

البقرة - تفسير ابن كثير

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) }

(1/688)

ذكروا لسؤال إبراهيم عليه السلام، أسبابا، منها: أنه لما قال لنمروذ: { رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } أحب أن يترقى من علم اليقين في ذلك إلى عين اليقين، وأن يرى ذلك مشاهدة فقال: { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي }

فأما الحديث الذي رواه البخاري عند هذه الآية: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة وسعيد، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك من إبراهيم، إذ قال: رب أرني كيف تحيى الموتى؟ قال: أو لم تؤمن. قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي" وكذا رواه مسلم، عن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب (1) به -فليس المراد هاهنا بالشك ما قد يفهمه من لا علم عنده، بلا خلاف. وقد أجيب عن هذا الحديث بأجوبة، أحدها. . . (2) .

وقوله: { قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } اختلف المفسرون في هذه الأربعة: ما هي؟ وإن كان لا طائل تحت تعيينها، إذ لو كان في ذلك مُتَّهم لنص عليه القرآن، فروي عن ابن عباس أنه قال: هي الغرنوق، والطاوس، والديك، والحمامة. وعنه أيضًا: أنه أخذ وزًّا، ورألا -وهو فرخ النعام -وديكا، وطاووسًا. وقال مجاهد وعكرمة: كانت حمامة، وديكا، وطاووسًا، وغرابًا.

وقوله: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْك } أي: قطعهن. قاله ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبو

__________

(1) صحيح البخاري برقم (4537) وصحيح مسلم برقم (151).

(2) وقع هنا بياض بجميع النسخ، ووقع في نسخة مساعدة من مؤسسة الملك فيصل الخيرية في هذا الموضع، وقد أجيب عن هذا الحديث بأجوبة

أحدها: قول إسماعيل المزني: لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم ولا إبراهيم، عليه السلام، في أن الله سبحانه قادر على إحياء الموتى، وإنما بدأ لجاهل يجيبهما إلى ما سألاه. وقال الخطابي في قوله: "نحن أحق بالشك من إبراهيم": ليس اعتراف بالشك على نفسه ولا على إبراهيم، ولكن فيه نفي الشك عنهما يقول: إذا لم أشك في قدرة الله على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى بألا يشك، قال ذلك على سبيل التواضع والهضم من النفس، وكذلك قوله: "لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي" وفيه الإعلام بأن المسألة من جهة إبراهيم لم تعرض من جهة الشك، لكن من قبل زيادة العلم بالعيان، لأنه يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيد الاستدلال، وقيل: قال هذا صلى الله عليه وسلم تواضعا وتقديما لإبراهيم قوله: "أو لم تؤمن قال: بلى قد آمنت".

وأظن هذا من تصرف الناسخ، لأنه كتب بالجانب بياض في الأصل. قال الشيخ أحمد شاكر عند هذا الموضع من كتابه "العمدة" الذي هو مختصر تفسير ابن-كثير (2/170).

"هنا بياض في المخطوطة الأزهرية والمطبوعة، لعل الحافظ ابن كثير تركه ليكتب الأقوال في ذلك، ثم لم يفعل سهوا أو نسيانا وقد أفاض الحافظ ابن حجر في الفتح (6/294 ، 295) في ذكر أقوال العلماء في ذلك. وأجود ذلك عندي قول ابن عطية: "إن الحديث مبني على نفي الشك، والمراد بالشك فيه: الخواطر التي لا تثبت. وأما الشك المصطلح - وهو التوقف بين الأمرين من غير مزية لأحدهما على الآخر - فهو منفي عن الخليل قطعا؛ لأنه يبعد وقوعه ممن رسخ الإيمان في قلبه، فكيف بمن بلغ رتبة النبوة؟! وأيضا فإن السؤال لما وقع بـ (كيف) دل على حال شيء موجود مقرر عند السائل والمسئول، كما تقول: كيف علم فلان فـ (كيف) في الآية سؤال عن هيئة الإحياء لا عن نفس الإحياء فإنه ثابت مقرر. وقال غيره: معناه: إذا لم نشك نحن، فإبراهيم أولى ألا يشك، أي: لو كان الشك متطرفا إلى الأنبياء؛ لكنت أنا أحق به منه، وقد علمتم أني لم أشك فاعلموا أنه لم يشك وإنما قال ذلك تواضعا منه".

(1/689)

مالك، وأبو الأسود الدؤلي، ووهب بن منبه، والحسن، والسدي، وغيرهم.

وقال العوفي، عن ابن عباس: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْك } أوثقهن، فلما أوثقهن ذبحهن، ثم جعل على كل جبل منهن جزءًا، فذكروا أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن، ثم قطعهن ونتف ريشهن، ومزقهن (1) وخلط بعضهن في ببعض، ثم جزأهن أجزاءً، وجعل على كل جبل منهن جزءًا، قيل: أربعة أجبل (2) . وقيل: سبعة. قال ابن عباس: وأخذ رؤوسهن بيده، ثم أمره الله عز وجل، أن يدعوهن، فدعاهن كما أمره الله عز وجل، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم، والأجزاء من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض، حتى قام كل طائر على حدته، وأتينه يمشين سعيا ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها، وجعل كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم، عليه السلام، فإذا قدم له غير رأسه يأباه، فإذا قدم إليه رأسه تركب مع بقية جثته بحول الله وقوته؛ ولهذا قال: { وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي: عزيز لا يغلبه شيء، ولا يمتنع منه شيء، وما شاء كان بلا ممانع لأنه العظيم القاهر لكل شيء، حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.

قال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن أيوب في قوله: { وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } قال: قال ابن عباس: ما في القرآن آية أرجى عندي منها (3) .

وقال ابن جرير: حدثني محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت زيد بن علي يحدث، عن رجل، عن سعيد بن المسيب قال: اتعد عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص أن يجتمعا. قال: ونحن شببة، فقال أحدهما لصاحبه: أي آية في كتاب الله أرجى لهذه الأمة؟ فقال عبد الله بن عمرو: قول الله تعالى: { يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } الآية [الزمر:53]. فقال ابن عباس: أما إن كنت تقول: إنها، وإن أرجى منها لهذه الأمة قول إبراهيم: { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } (4) .

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن صالح كاتب الليث، حدثني ابن أبي سلمة عن محمد بن المنْكَدِر، أنه قال: التقى عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، فقال ابن عباس لابن عمرو بن العاص: أي آية في القرآن أرجى عندك؟ فقال عبد الله بن عمرو: قول الله عز وجل: { يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا [مِنْ رَحْمَةِ اللَّه] (5) } الآية -فقال ابن عباس: لكن أنا أقول (6) : قول الله: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى } فرضي من إبراهيم قوله: { بَلَى } قال: فهذا لما يعترض (7) في النفوس (8) ويوسوس به الشيطان.

وهكذا رواه الحاكم في المستدرك، عن أبي عبد الله محمد بن يعقوب بن الأخرم، عن إبراهيم بن عبد الله السعدي، عن بشر بن عمر الزهراني، عن عبد العزيز بن أبي سلمة، بإسناده، مثله. ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه (9) .

__________

(1) في أ: "وفرقهن".

(2) في أ: "أربعة أجزاء".

(3) في ج: "أرجى آية منها".

(4) تفسير الطبري (5/489).

(5) زيادة من ج، أ.

(6) في ج، أ: "إن كنت تقول".

(7) في جـ: "لما يعرض".

(8) في أ، و: "في الصدور".

(9) المستدرك (1/60) وتعقبه الذهبي بأن فيه انقطاعا.

(1/690)

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)

{ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) }

هذا مثل ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فقال: { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } قال سعيد بن جبير: في طاعة الله. وقال مكحول: يعني به: الإنفاق في الجهاد، من رباط الخيل وإعداد السلاح وغير ذلك، وقال شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس: الجهاد والحج، يضعف الدرهم فيهما إلى سبعمائة ضعف؛ ولهذا قال الله تعالى: { كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ }

وهذا المثل أبلغ في النفوس، من ذكر عدد السبعمائة، فإن هذا فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عز وجل، لأصحابها، كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة، وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف، قال الإمام أحمد:

حدثنا زياد بن الربيع أبو خِدَاش، حدثنا واصل مولى ابن عيينة، عن بشار بن أبي سيف الجرمي، عن عياض بن غطيف قال: دخلنا على أبي عبيدة [بن الجراح] (1) نعوده من شكوى أصابه -وامرأته تُحَيْفَة قاعدة عند رأسه -قلنا: كيف بات أبو عبيدة؟ قالت: والله لقد بات بأجر، قال أبو عبيدة: ما بت بأجر، وكان مقبلا بوجهه على الحائط، فأقبل على القوم بوجهه، وقال: ألا تسألوني عما قلت؟ قالوا: ما أعجبنا ما قلت فنسألك عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة، ومن أنفق على نفسه وأهله، أو عاد مريضا أو مازَ أذى، فالحسنة بعشر أمثالها، والصوم جنة ما لم يخرقها، ومن ابتلاه الله عز وجل، ببلاء في جسده فهو له حطة".

وقد روى النسائي في الصوم بعضه من حديث واصل به، ومن وجه آخر موقوفا (2) .

حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن سليمان، سمعت أبا عمرو الشيباني، عن ابن مسعود: أن رجلا تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتأتين يوم القيامة بسبعمائة ناقة مخطومة".

ورواه مسلم والنسائي، من حديث سليمان بن مِهْران، عن الأعمش، به (3) . ولفظ مسلم: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: يا رسول الله، هذه في سبيل الله. فقال: "لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة".

حديث آخر: قال أحمد: حدثنا عمرو بن مَجْمَع أبو المنذر الكندي، أخبرنا إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل، جعل حسنة ابن آدم بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم، والصوم لي وأنا أجزي به، وللصائم فرحتان: فرحة عند إفطاره وفرحة يوم القيامة، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" (4) .

__________

(1) زيادة من المسند (1/195).

(2) المسند (1/195) وسنن النسائي (4/167 ، 168).

(3) صحيح مسلم برقم (1892) وسنن النسائي (6/49).

(4) المسند (1/446).

(1/691)

حديث آخر: قال [الإمام] (1) أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء (2) الله، يقول الله: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشهوته من أجلي، وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخُلُوف فِيه (3) أطيب عند الله من ريح المسك. الصوم جنة، الصوم جنة". وكذا رواه مسلم، عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي سعيد الأشج، كلاهما عن وكيع، به (4) .

حديث آخر: قال أحمد: حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن الركين، عن يُسَيْر بن عميلة (5) عن خريم بن فاتك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنفق نفقة في سبيل الله تضاعف بسبعمائة (6) ضعف" (7) .

حديث آخر: قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح، حدثنا ابن وهب، عن يحيى بن أيوب وسعيد بن أبي أيوب، عن زبان بن فائد، عن سهل بن معاذ، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الصلاة والصيام والذكر يضاعف على النفقة في سبيل الله سبعمائة ضعف" (8) .

حديث آخر: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هارون بن عبد الله بن مروان، حدثنا ابن أبي فديك، عن الخليل بن عبد الله، عن الحسن، عن عمران بن حصين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أرسل بنفقة في سبيل الله، وأقام في بيته (9) فله بكل درهم سبعمائة درهم يوم القيامة ومن غزا (10) في سبيل الله، وأنفق في جهة ذلك (11) فله بكل درهم (12) سبعمائة ألف درهم". ثم تلا هذه الآية: { وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } وهذا حديث غريب (13) .

وقد تقدم حديث أبي عثمان النهدي، عن أبي هريرة في تضعيف الحسنة إلى ألفي ألف حسنة، عند قوله: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } [البقرة:245] .

حديث آخر: قال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن عبيد الله بن العسكري البزاز، أخبرنا الحسن بن علي بن شبيب، أخبرنا محمود بن خالد الدمشقي، أخبرنا أبي، عن عيسى بن المسيب، عن نافع، عن ابن عمر قال: لما نزلت هذه الآية: { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه } قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رب زد أمتي" قال: فأنزل الله: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } قال: "رب زد أمتي" قال: فأنزل الله: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر:10 ].

وقد رواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه، عن حاجب بن أركين، عن أبي عمر حفص بن عمر بن عبد العزيز المقرئ، عن أبي إسماعيل المؤدب، عن عيسى بن المسيب، عن نافع، عن ابن عمر، فذكره (14) .

__________

(1) زيادة من أ.

(2) في جـ، أ، و: "إلى ما يشاء".

(3) في جـ: "ولخلوف فمه".

(4) صحيح مسلم برقم (1151).

(5) في أ: "عن الركن بن بشير بن جميلة"، وفي و: "عن الركين، عن بشير بن عميلة".

(6) في جـ، و: "بسبعمائة وهو الصواب.

(7) المسند (4/345).

(8) سنن أبي داود برقم (2498).

(9) في أ: "في بنيته".

(10) في أ، و: "من غزا بنفسه".

(11) في جـ، أ، و: "في وجهه ذلك".

(12) في جـ، أ، و: "درهم يوم القيامة".

(13) ورواه ابن ماجة في السنن برقم (2761) عن هارون بن عبد الله به.

(14) صحيح ابن حبان برقم (1648) "موارده".

(1/692)

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)

وقوله هاهنا: { وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } أي: بحسب إخلاصه في عمله { وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أي: فضله واسع كثير أكثر من خلقه، عليم بمن يستحق ومن لا يستحق.

{ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) }

يمدح تعالى الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، ثم لا يتبعون ما أنفقوا من الخيرات والصدقات منا على من (1) أعطوه، فلا يمنون على أحد، ولا يمنون به لا بقول ولا فعل.

وقوله: { وَلا أَذًى } أي: لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروها يحبطون به ما سلف من الإحسان. ثم وعدهم تعالى الجزاء الجزيل على ذلك، فقال: { لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِم } أي: ثوابهم على الله، لا على أحد سواه { وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِم } أي: فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } أي: [على] (2) ما خلفوه من الأولاد وما فاتهم من الحياة الدنيا وزهرتها (3) لا يأسفون عليها؛ لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك.

ثم قال تعالى: { قَوْلٌ مَعْرُوفٌ } أي: من كلمة طيبة ودعاء لمسلم { وَمَغْفِرَة } أي: غفر (4) عن ظلم قولي أو فعلي { خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى }

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن نفيل قال: قرأت على معقل بن عبيد الله، عن عمرو بن دينار قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من صدقة أحب إلى الله من قول معروف، ألم تسمع قوله: { قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى } " { وَاللَّهُ غَنِيٌّ } [أي] (5) : عن خلقه.

{ حَلِيمٌ } أي: يحلم ويغفر ويصفح ويتجاوز عنهم.

وقد وردت الأحاديث بالنهي عن المن في الصدقة، ففي صحيح مسلم، من حديث شعبة، عن الأعمش عن سليمان بن مُسْهِر، عن خرشة بن الحر، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب" (6) .

وقال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى، أخبرنا عثمان بن محمد الدوري، أخبرنا هشيم (7) بن خارجة، أخبرنا سليمان بن عقبة، عن يونس بن ميسرة، عن أبي إدريس، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة عاق، ولا منان، ولا مدمن خمر، ولا مكذب بقدر"

__________

(1) في ج، أ: "على ما".

(2) زيادة من جـ، أ، و.

(3) في و: "وزينتها".

(4) في جـ، أ، و: "أي عفو".

(5) زيادة من ج.

(6) صحيح مسلم برقم (106).

(7) في و: "الهيثم".

(1/693)

وروى أحمد وابن ماجه، من حديث يونس بن ميسرة نحوه (1) .

ثم روى (2) ابن مردويه، وابن حبان، والحاكم في مستدركه، والنسائي من حديث عبد الله بن يسار الأعرج، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان بما أعطى" (3) .

وقد روى النسائي، عن مالك بن سعد، عن عمه روح بن عبادة، عن عتاب بن بشير، عن خصيف الجزري، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا عاق لوالديه، ولا منان" (4) .

وقد رواه ابن أبي حاتم، عن الحسن بن المنهال (5) عن محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي، عن عتاب، عن خُصَيف، عن مجاهد، عن ابن عباس (6) .

ورواه النسائي من حديث، عبد الكريم بن مالك الجزري، عن مجاهد، قوله. وقد روي عن مجاهد، عن أبي سعيد (7) وعن مجاهد، عن أبي هريرة، نحوه (8) . ولهذا قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى } فأخبر أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى، فما يفي ثواب الصدقة بخطيئة المن والأذى.

ثم قال تعالى: { كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ } أي: لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، كما تبطل صدقة من راءى بها الناس، فأظهر لهم أنه يريد وجه الله وإنما قصده مدح الناس له أو شهرته بالصفات الجميلة، ليشكر بين الناس، أو يقال: إنه كريم ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية، مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه؛ ولهذا قال: { وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر }

ثم ضرب تعالى مثل ذلك المرائي بإنفاقه -قال الضحاك: والذي يتبع نفقته منا أو أذى -فقال: { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ } وهو جمع صَفْوانة، ومنهم من يقول: الصفوان يستعمل مفردا أيضا، وهو الصفا، وهو الصخر الأملس { عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ } وهو المطر الشديد { فَتَرَكَهُ صَلْدًا } أي: فترك الوابل ذلك الصفوان صلدًا، أي (9) : أملس يابسًا، أي: لا شيء عليه من ذلك التراب، بل قد ذهب كله، أي: وكذلك أعمال المرائين تذهب وتضمحل عند الله (10) وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب؛ ولهذا قال: { لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } .

__________

(1) المسند (6/441) وسنن ابن ماجة برقم (3376) وقال البوصيري في الزوائد (3/103): "هذا إسناد حسن، سليمان بن عتبة مختلف فيه، وباقي رجال الإسناد ثقات".

(2) في جـ: "وروي".

(3) المستدرك (4/146) وسنن النسائي (5/80).

(4) سنن النسائي الكبرى برقم (4921).

(5) في جـ: "بن منهال"، وفي أ: "بن منهلل".

(6) في جـ، أ، و: "ابن عباس في قوله".

(7) سنن النسائي الكبرى برقم (4920).

(8) سنن النسائي الكبرى برقم (4922).

(9) في جـ: "هكذا".

(10) في جـ: "عند الله تعالى".

======================************=======

وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)

البقرة - تفسير ابن كثير

وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)

{ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) }

(1/694)

أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)

وهذا مثل المؤمنين المنفقين { أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّه } عنهم في ذلك { وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أي: وهم متحققون مُثَبتون أن الله سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء، ونظير هذا في المعنى، قوله عليه السلام (1) في الحديث المتفق على صحته: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا. . . " أي: يؤمن أن الله شرعه، ويحتسب عند الله ثوابه.

قال الشعبي: { وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أي: تصديقا ويقينا (2) . وكذا قال قتادة، وأبو صالح، وابن زيد. واختاره ابن جرير. وقال مجاهد والحسن: أي: يتثبتون أين يضعون (3) صدقاتهم.

وقوله: { كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ } أي: كمثل بستان بربوة. وهو عند الجمهور: المكان المرتفع المستوي من الأرض. وزاد ابن عباس والضحاك: وتجري فيه الأنهار.

قال ابن جرير: وفي الربوة ثلاث لغات هن ثلاث قراءات: بضم الراء، وبها قرأ عامة أهل المدينة والحجاز والعراق. وفتحها، وهي قراءة بعض أهل الشام والكوفة، ويقال: إنها لغة تميم. وكسر الراء، ويذكر أنها قراءة ابن عباس.

وقوله: { أَصَابَهَا (4) وَابِلٌ } وهو المطر الشديد، كما تقدم، { فَآتَتْ أُكُلَهَا } أي: ثمرتها (5) { ضِعْفَيْن } أي: بالنسبة إلى غيرها من الجنان. { فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ } قال الضحاك: هو الرَّذَاذ، وهو اللين من المطر. أي: هذه الجنة بهذه الربوة لا تمحل أبدًا؛ لأنها إن لم يصبها وابل فطل، وأيا ما كان فهو كفايتها، وكذلك عمل المؤمن لا يبور أبدًا، بل يتقبله الله ويكثره وينميه، كل عامل بحسبه؛ ولهذا قال: { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي: لا يخفى عليه من أعمال عباده شيء.

{ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) }

قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام -هو ابن يوسف -عن ابن جريج: سمعت عبد الله (6) بن أبي مُلَيكة، يحدث عن ابن عباس، وسمعت أخاه أبا بكر بن أبي مليكة يحدث عن عبيد بن عُمَير قال: قال عمر بن الخطاب يوما لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فيمن ترون هذه الآية نزلت: { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } ؟ قالوا: الله أعلم. فغضب عمر فقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم (7) . فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين. فقال عمر: يا ابن أخي، قل ولا تحقر نفسك. فقال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل. قال عمر: أيُّ عملٍ؟ قال ابن عباس: لعمل. قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله. ثم بعث الله له الشيطان فعمِل بالمعاصي

__________

(1) في جـ، أ، و: "صلى الله عليه وسلم".

(2) في و: "وتيقنا".

(3) في ج: "أي يضعوا".

(4) في جـ، أ: "فأصابها" وهو خطأ.

(5) في جـ، أ، و: "أي ثمرها".

(6) في جـ، أ، و: "عبيد الله".

(7) في جـ: "فقالوا أتعلم أو لا تعلم".

(1/695)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)

حتى أغرق (1) أعماله (2) .

ثم رواه البخاري، عن الحسن بن محمد الزعفراني، عن حجاج بن محمد الأعور، عن ابن جريج، فذكره (3) . وهو من أفراد البخاري، رحمه الله.

وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الآية، وتبيين ما فيها من المثل بعمل من أحسن العمل أولا ثم بعد ذلك انعكس سيره، فبدل الحسنات بالسيئات، عياذًا بالله من ذلك، فأبطل بعمله الثاني ما أسلفه فيما تقدم من الصالح (4) واحتاج إلى شيء من الأول في أضيق الأحوال، فلم يحصل له منه شيء، وخانه أحوجَ ما كان إليه، ولهذا قال تعالى: { وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ } وهو الريح الشديد (5) { فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ } أي: أحرق (6) ثمارَها وأباد أشجارها، فأيّ حال يكون حاله.

وقد روى ابن أبي حاتم، من طريق العَوْفي، عن ابن عباس قال: ضرب الله له مثلا حسنًا، وكل أمثاله حسن، قال: { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } يقول: ضيّعَه في شيبته { وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ } وولده وذريته ضعاف عند آخر عمره، فجاءه إعصار فيه نار فأحرق (7) بستانه، فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله، ولم يكن عند نسله خير يعودون به عليه، وكذلك الكافر يوم القيامة، إذ ردّ إلى الله عز وجل، ليس له خير فيُسْتَعْتَب، كما ليس لهذا قوة فيغرس مثل بستانه، ولا يجده قدم لنفسه خيرا يعود عليه، كما لم يُغْن عن هذا ولدُه، وحُرم أجره عند أفقر ما كان إليه، كما حرم هذا جنة الله عند أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته.

وهكذا (8) ، روى الحاكم في مستدركه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: "اللهم اجعل أوسع رزقك علي عند كبر سني وانقضاء عمري" (9) ؛ ولهذا قال تعالى: { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } أي: تعتبرون وتفهمون الأمثال والمعاني، وتنزلونها على المراد منها، كما قال تعالى: { وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ } [العنكبوت:43] .

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ (269) }

__________

(1) في جـ: "حتى أحرق".

(2) صحيح البخاري برقم (4538).

(3) لم أقع على هذا الطريق في صحيح البخاري، ولم يذكره المزي في تحفة الأشراف.

(4) في أ: "من المصالح".

(5) في جـ: "الشديدة".

(6) في جـ: "أي: احترق".

(7) في جـ: "فأحرقت"، وفي أ: " فاحترقت".

(8) في جـ: "ولهذا".

(9) المستدرك (1/542) من طريق سعيد بن سليمان، عن عيسى بن ميمون، عن القاسم، عن عائشة، رضي الله عنها، مرفوعا، وقال الحاكم: "هذا حديث حسن الإسناد والمتن غريب في الدعاء مستحب للمشايخ إلا أن عيسى بن ميمون لم يحتج به الشيخان" قال الذهبي: قلت: "عيسى متهم".

(1/696)

يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإنفاق -والمراد به الصدقة هاهنا؛ قاله ابن عباس -من طيبات ما رزقهم من الأموال التي اكتسبوها. قال مجاهد: يعني التجارة بتيسيره إياها لهم.

وقال علي والسدي: { مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُم } يعني: الذهب والفضة، ومن الثمار والزروع التي أنبتها لهم من الأرض.

قال ابن عباس: أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه، ونهاهم عن التصدق بِرُذَالَةِ المال ودَنيه -وهو خبيثه -فإن الله طَيْب لا يقبل إلا طيبًا، ولهذا قال: { وَلا تَيَمَّمُوا } أي: تقصدوا { الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ } أي: لو أعطيتموه ما أخذتموه، إلا أن تتغاضوا فيه، فالله أغنى عنه منكم، فلا تجعلوا لله ما تكرهون.

وقيل: معناه: { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } أي: لا تعدلوا عن المال الحلال، وتقصدوا إلى الحرام، فتجعلوا نفقتكم منه.

ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا أبان بن إسحاق، عن الصباح بن محمد، عن مُرّة الهَمْداني، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحبَّ، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده، لا يسلم عَبْدٌّ حتى يُسلِمَ قلبُه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جارُه بوائقه". قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟. قال: "غَشَمُه وظلمه، ولا يكسب (1) عبد مالا من حرام فينفقَ منه فيباركَ له فيه، ولا يتصدقُ به فيقبل (2) منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث" (3) .

والصحيح القول الأول؛ قال ابن جرير: حدثني الحسين بن عمرو العَنْقَزيِّ، حدثني أبي، عن أسباط، عن السدّي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب في قول الله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } الآية. قال: نزلت في الأنصار، كانت الأنصار إذا كان أيام جذَاذ النخل، أخرجت من حيطانها أقناء البُسْر، فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل فقراء المهاجرين منه، فيعْمد الرجل منهم إلى الحَشَف، فيدخله مع أقناء البسر، يظن أن ذلك جائز، فأنزل الله فيمن فعل ذلك: { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ }

ثم رواه (4) ابن جرير، وابن ماجه، وابن مَرْدُوَيه، والحاكم في مستدركه، من طريق السدي، عن

__________

(1) في جـ، أ: "ولا يكتسب".

(2) في أ، و: "فيتقبل".

(3) المسند (1/387).

(4) في جـ: "ورواه".

(1/697)

عدي بن ثابت، عن البراء، بنحوه. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه (1) .

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك، عن البراء: { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } قال: نزلت فينا، كنا أصحاب نخل، وكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته، فيأتي الرجل بالقِنْو فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة (2) ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع جاء فضربه بعصاه، فيسقط منه البسر والتمر، فيأكل، وكان أناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقِنْو فيه الحَشَف والشِّيص، ويأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه، فنزلت: { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } قال: لو أنّ أحدكم أهدي له مثل ما أعْطَى ما أخذه إلا على إغماض وحَياء، فكنا بعد ذلك يجيء الرجل منا بصالح ما عنده.

وكذا رواه الترمذي، عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن عبيد الله -هو ابن موسى العبسي -عن إسرائيل، عن السدي -وهو إسماعيل بن عبد الرحمن -عن أبي مالك الغفاري -واسمه غَزْوان -عن البراء، فذكر نحوه (3) .

ثم قال (4) : وهذا حديث حسن غريب.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد، حدثنا سليمان بن كثير، عن الزهري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لونين من التمر: الجُعْرُور ولون الحُبَيق (5) . وكان الناس يَتيمّمون شرار ثمارهم (6) ثم يخرجونها في الصدقة، فنزلت: { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُون } (7) .

ورواه أبو داود من حديث سفيان بن حسين، عن الزهري [به] (8) . ثم قال: أسنده أبو الوليد، عن سليمان بن كثير، عن الزهري، ولفظه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجُعْرُور ولون الحُبيق (9) أن يؤخذا في الصدقة (10) .

وقد روى النسائي هذا الحديث من طريق عبد الجليل بن حُمَيد اليَحْصُبي، عن الزهري، عن أبي أمامة. ولم يقل: عن أبيه، فذكر نحوه (11) . وكذا رواه ابن وهب، عن عبد الجليل.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن المغيرة، حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن مَعْقل (12) في هذه الآية: { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُون } قال: كسب المسلم لا يكون خبيثًا، ولكن لا يصدّق بالحشف، والدرهم الزّيف، وما لا خير فيه.

__________

(1) تفسير الطبري (5/559 ، 560) وسنن ابن ماجة برقم (1822) والمستدرك (2/285) وقال البوصيري في الزوائد (2/58): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وله شاهد من حديث عوف بن مالك رواه أصحاب السنن الأربعة".

(2) في جـ، أ، و: "وكان أهل الصدقة".

(3) سنن الترمذي برقم (2987).

(4) في جـ: "وقال".

(5) في جـ، أ: "ولون الحشف".

(6) في جـ: "شر أثمارها".

(7) ورواه الحاكم في المستدرك (1/402) والطبراني في المعجم الكبير (6/76) من طريق أبي الوليد الطيالسي به، وقال الحاكم: "حديث صحيح على شرط البخاري".

(8) زيادة من جـ، أ.

(9) في جـ: "ولون الحسف".

(10) سنن أبي داود برقم (1607).

(11) سنن النسائي (5/43).

(12) في جـ: "بن مغفل".

(1/698)

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد، حدثنا حماد بن سلمة، عن حماد -هو ابن أبي سليمان -عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: أُتِي رسول الله صلى الله عليه وسلم بضب فلم يأكله ولم ينه عنه. قلت: يا رسول الله، نطعمه (1) المساكين؟ قال: "لا تطعموهم مما لا تأكلون" (2) .

ثم رواه عن عفان (3) عن حماد بن سلمة، به. فقلت: يا رسول الله، ألا أطعمه المساكين؟ قال: "لا تطعموهم ما لا تأكلون".

وقال الثوري: عن السدي، عن أبي مالك، عن البراء { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيه } يقول: لو كان لرجل على رجل، فأعطاه ذلك لم يأخذه؛ إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه رواه ابن جرير.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيه } يقول: لو كان لكم على أحد حق، فجاءكم بحق دون حقكم لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه. قال: فذلك قوله: { إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم، وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسه!!

رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير، وزاد: وهو قوله: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون } [آل عمران:92] . ثم روى من طريق العوفي وغيره، عن ابن عباس نحو ذلك، وكذا ذكر غير واحد.

قوله (4) : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي: وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها فهو غني عنها، وما ذاك إلا ليساوي الغني الفقير، كقوله: { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } [الحج : 37] وهو غني عن جميع خلقه، وجميع خلقه فقراء إليه، وهو واسع الفضل لا ينفد ما لديه، فمن تصدق بصدقة من كسب طيب، فليَعلمْ أن الله غني واسع العطاء، كريم جواد، سيجزيه بها ويضاعفها له أضعافًا كثيرة من يقرض غَيْرَ عديم ولا ظلوم، وهو الحميد، أي: المحمود في جميع أفعاله وأقواله (5) وشرعه وقدره، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.

وقوله: { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا هَنَّاد بن السِّرِي، حدثنا أبو الأحوص، عن عطاء بن السائب، عن مرة الهَمْداني، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن للشيطان لَلَمّة (6) بابن آدم، وللمَلك لَمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك فليعلَمْ أنه من الله، فَلْيحمَد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان". ثم قرأ: { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا } الآية.

وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتابي (7) التفسير من سُنَنَيْهما جميعًا، عن هَنَّاد بن السِّرِي (8) .

__________

(1) في جـ: "ألا نطعمه".

(2) المسند (6/105).

(3) في جـ: "عن عثمان".

(4) في جـ، أ، و: "وقوله".

(5) في جـ: "في جميع أقواله وأفعاله".

(6) في جـ: "لمة".

(7) في جـ: "في كتاب".

(8) سنن الترمذي برقم (2988) وسنن النسائي الكبرى برقم (11051).

(1/699)

وأخرجه ابن حبان في صحيحه، عن أبي يعلى الموصلي، عن هَنَّاد، به (1) . وقال الترمذي: حسن غريب، وهو حديث أبي الأحوص -يعني سلام بن سليم -لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديثه. كذا قال. وقد رواه أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره، عن محمد بن أحمد، عن محمد بن عبد الله بن رُسْتَه، عن هارون الفَرْوِي، عن أبي ضَمْرة (2) عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن مسعود، مرفوعًا نحوه.

ولكن رواه مِسْعر، عن عطاء بن السائب، عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة، عن ابن مسعود. فجعله من قوله، والله أعلم.

ومعنى قوله تعالى: { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ } أي: يخوفكم الفقر، لتمسكوا ما بأيديكم فلا تنفقوه في مرضاة الله، { وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ } أي: مع نهيه إياكم عن الإنفاق خشية الإملاق، يأمركم بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخَلاق، قال [الله] (3) تعالى: { وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ } أي: في مقابلة ما أمركم الشيطان بالفحشاء { وَفَضْلا } أي: في مقابلة ما خوفكم الشيطان من الفقر { وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

وقوله: { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاء } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله.

وروى جُوَيْبر، عن الضحاك، عن ابن عباس مرفوعًا: الحكمة: القرآن (4) . يعني: تفسيره، قال ابن عباس: فإنه [قد] (5) قرأه البر والفاجر. رواه ابن مَرْدُويه.

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: يعني بالحكمة: الإصابة في القول.

وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد: { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاء } ليست بالنبوة، ولكنه العلم والفقه والقرآن.

وقال أبو العالية: الحكمة خشية الله، فإن خشية الله رأس كل حكمة.

وقد روى ابن مَرْدُويه، من طريق بقية، عن عثمان بن زُفَر الجُهَني، عن أبي عمار الأسدي، عن ابن مسعود مرفوعًا: "رأس الحكمة مخافة الله" (6) .

وقال أبو العالية في رواية عنه: الحكمة: الكتاب والفهم. وقال إبراهيم النخَعي: الحكمة: الفهم. وقال أبو مالك: الحكمة: السنة. وقال ابن وهب، عن مالك، قال زيد بن أسلم: الحكمة: العقل. قال مالك: وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين الله، وأمْرٌ يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله، ومما يبين ذلك، أنك تجد الرجل عاقلا في أمر الدنيا ذا نظر فيها، وتجد آخر ضعيفًا في أمر دنياه، عالمًا بأمر دينه، بصيرًا به، يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا، فالحكمة: الفقه في دين الله.

وقال السدي: الحكمة: النبوة.

__________

(1) صحيح ابن حبان برقم (40) "موارد".

(2) في جـ، أ: "عن أبي حمزة".

(3) زيادة من جـ، أ.

(4) عزاه السيوطي في الدر المنثور (2/66) لابن مردويه في تفسيره وإسناده ضعيف جدا.

(5) زيادة من أ، و.

(6) ورواه البيهقي وضعفه في شعب الإيمان برقم (744) من طريق محمد بن وصفى عن بقية به، ورواه البيهقي أيضا من وجه آخر موقوفا على ابن مسعود.

(1/700)

والصحيح أن الحكمة -كما قاله الجمهور -لا تختص بالنبوة، بل هي أعم منها، وأعلاها النبوة، والرسالة أخص، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبَع، كما جاء في بعض الأحاديث: "من حفظ القرآن فقد أدْرِجَت النبوة بين كتفيه (1) غير أنه لا يوحى إليه" (2) . رواه (3) وَكِيع بن الجراح في تفسيره، عن إسماعيل بن رافع (4) عن رجل لم يسمه، عن عبد الله بن عمر (5) وقوله.

وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع ويزيد (6) قالا حدثنا إسماعيل -يعني ابن أبي خالد -عن قيس -وهو ابن أبي حازم -عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلَّطه على هَلَكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها" (7) .

وهكذا رواه البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجة -من طرق متعددة -عن إسماعيل بن أبي خالد، به (8) .

وقوله: { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ } أي: وما ينتفع بالموعظة والتذكار إلا من له لب وعقل يعي به الخطاب ومعنى الكلام.

__________

(1) في جـ، أ، و: "بين جنبيه".

(2) وفي إسناده إسماعيل بن رافع المدني ضعفه أحمد وابن معين والنسائي وقال ابن عدي: أحاديثه كلها مما فيه نظر.

(3) في جـ: "ورواه".

(4) في أ، و: "عن إسماعيل بن رافع أبي رافع".

(5) في أ، و: "بن عمرو".

(6) في أ: "وزيد".

(7) المسند (1/432).

(8) صحيح البخاري برقم (73) وصحيح مسلم برقم (816) وسنن النسائي الكبرى برقم (5840) وسنن ابن ماجة برقم (4208).

*****************************

وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)

البقرة - تفسير ابن كثير

وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)

{ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) }

يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات وتَضَمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك ابتغاء وجهه ورجاء موعوده. وتوعد من لا يعمل بطاعته، بل خالف أمره وكذب خبره وعبد معه غيره، فقال: { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار } أي: يوم القيامة ينقذونهم (1) من عذاب الله ونقمته.

وقوله: { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ } أي: إن أظهرتموها فنعم شيء هي.

وقوله: { وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم } فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها؛ لأنه أبعد عن الرياء، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة، من اقتداء الناس به، فيكون أفضل من هذه الحيثية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمُسِر بالقرآن كالمُسِر بالصدقة" (2) .

والأصل أن الإسرار أفضل، لهذه الآية، ولما ثبت في الصحيحين، عن أبي هريرة قال: قال

__________

(1) في أ، و: "ينقذهم".

(2) رواه أحمد في المسند (4/151) وأبو داود في السنن برقم (1333) والترمذي في السنن برقم (2919) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".

(1/701)

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" (1) .

وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا العوام بن حوشب، عن سليمان بن أبي سليمان، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لما خلق الله الأرض جعلت تميد، فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرت، فتعجبت (2) الملائكة من خلق الجبال، فقالت: يا رب، فهل من (3) خلقك شيء أشد من الجبال؟ قال: نعم، الحديد. قالت: يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الحديد؟ قال: نعم، النار. قالت: يا رب، فهل من (4) خلقك شيء أشد من النار؟ قال: نعم، الماء. قالت: يا رب، فهل من (5) خلقك شيء أشد من الماء؟ قال: نعم، الريح. قالت: يا رب، فهل من (6) خلقك شيء أشد من الريح؟ قال: نعم، ابنُ آدم يتصدق بيمينه فيخفيها من (7) شماله" (8) .

وقد ذكرنا في فضل آية الكرسي، عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال: "سر إلى فقير، أو جهد من مقِل". رواه أحمد (9) .

ورواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن أبي ذر فذكره. وزاد: ثم نزع بهذه الآية: { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم } الآية (10) .

وفي الحديث المروي: "صدقة السر تطفئ غضب الرب، عز وجل" (11) .

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الحسين بن زياد المحاربي مؤدب محارب، أخبرنا موسى بن عمير، عن عامر الشعبي في قوله: { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم } قال: أنزلت (12) في أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، فأما عمر فجاء بنصف ماله حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما خلفت وراءك لأهلك يا عمر؟". قال: خلفت لهم نصف مالي، وأما أبو بكر فجاء بماله كلّه يكاد (13) أن يخفيه من نفسه، حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر؟". فقال: عدة الله وعدةُ رسوله. فبكى عمر، رضي الله عنه، وقال: بأبي أنت يا أبا بكر، والله ما اسْتَبَقْنا إلى باب خير قط إلا كنت سابقا (14) .

__________

(1) صحيح البخاري برقم (660، 1423) وصحيح مسلم برقم (1031).

(2) في أ: "فتعجب".

(3) في جـ: "في".

(4) في جـ: "في".

(5) في جـ: "في".

(6) في جـ: "في".

(7) في جـ: "عن".

(8) المسند (3/124).

(9) المسند (5/178).

(10) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/269) من طريق خالد بن أبي يزيد، عن علي بن يزيد به.

(11) رواه الترمذي في السنن برقم (2386) من حديث أنس، رضي الله عنه، وروي عن جماعة من الصحابة وهو حديث متواتر.

(12) في أ: "نزلت".

(13) في جـ: "وكاد".

(14) ورواه الأصبهاني في الترغيب والترهيب برقم (1643) من طريق محمد بن الصباح بن موسى بن عيسى عن الشعبي به.

(1/702)

لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)

وهذا الحديث مروي من وجه آخر، عن عمر، رضي الله عنه (1) . وإنما أوردناه هاهنا لقول الشعبي: إن الآية نزلت في ذلك، ثم إن الآية عامة في أن إخفاء الصدقة أفضل، سواء كانت مفروضة أو مندوبة. لكن روى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في تفسير هذه الآية، قال: جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها، فقال: بسبعين ضعفًا. وجعل صدقة الفريضة عَلانيتَها أفضلَ من سرها، فقال: بخمسة وعشرين ضعفًا.

وقوله: { وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُم } أي: بدل الصدقات، ولا سيما إذا كانت سرا يحصل لكم الخير في رفع الدرجات ويكفر عنكم السيئات، وقد قرئ: "وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ" بالضم، وقرئ: "وَنُكَفِّرْ" بالجزم، عطفًا على (2) جواب الشرط، وهو قوله: { فَنِعِمَّا هِي } كقوله: "فَأَصَّدَقَ وَأَكُونَ" { وَأَكُنْ } .

وقوله { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي: لا يخفى عليه من ذلك شيء، وسيجزيكم عليه [سبحانه وبحمده] (3) .

{ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) }

قال أبو عبد الرحمن النسائي: أخبرنا محمد بن عبد الله (4) بن عبد الرحيم، أخبرنا (5) الفِرْيَابي، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين فسألوا، فرخص لهم، فنزلت هذه الآية: { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ } (6) .

وكذا رواه أبو حذيفة، وابن المبارك، وأبو أحمد الزبيري، وأبو داود الحَفَري، عن سفيان -وهو الثوري -به.

وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا (7) أحمد بن القاسم بن عطية، حدثني أحمد بن عبد الرحمن -يعني الدَّشْتَكِيّ -حدثني أبي، عن أبيه، حدثنا أشعث بن إسحاق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد

__________

(1) رواه أبو داود في السنن برقم (1678) والترمذي في السنن برقم (3675) من طريق هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".

(2) في جـ، أ، و: "على محل".

(3) زيادة من و.

(4) في جـ، أ، و: "بن عبد السلام".

(5) في جـ: "حدثنا".

(6) سنن النسائي الكبرى برقم (11052).

(7) في جـ: "حدثنا".

(1/703)

بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يأمر بألا يتصَدق إلا على أهل الإسلام، حتى نزلت هذه الآية: { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } إلى آخرها، فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين (1) . وسيأتي عند قوله تعالى: { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُم } الآية [الممتحنة:8] حديث أسماء بنت الصديق في ذلك [إن شاء الله تعالى] (2) .

وقوله: { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُم } كقوله { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِه } [فصلت : 46، الجاثية : 15] ونظائرها في القرآن كثيرة (3) .

وقوله: { وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ } قال الحسن البصري: نفقة المؤمن لنفسه، ولا ينفق المؤمن -إذا أنفق -إلا ابتغاء وجه الله.

وقال عطاء الخراساني: يعني إذا أعطيت لوجه الله، فلا عليك ما كان عملُه وهذا معنى حسن، وحاصله أن المتصدق إذا تصدق ابتغاء وجه الله فقد وقع أجرُه على الله، ولا عليه (4) في نفس الأمر لمن أصاب: ألِبَرّ أو فاجر أو مستحق أو غيره، هو مثاب على قصده، ومستَنَدُ هذا تمام الآية: { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ } والحديث المخرج في الصحيحين، من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قال رجل: لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبح الناس يتحدثون: تُصُدقَ على زانية! فقال: اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تُصُدق الليلة على غَني! فقال: اللهم لك الحمد على غني، لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تُصدق الليلة على سارق! فقال: اللهم لك الحمد على زانية، وعلى غني، وعلى سارق، فأتي فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت؛ وأما الزانية فلعلها أن تستعف بها عن زناها، ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته" (5) .

وقوله: { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } يعني: المهاجرين الذين قد انقطعوا إلى الله وإلى رسوله، وسكنوا المدينة وليس لهم سبب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم (6) و { لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْض } يعني: سفرًا للتسبب في طلب المعاش. والضرب في الأرض: هو السفر؛ قال الله تعالى: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } [النساء : 101] ، وقال تعالى: { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه } الآية [المزمل : 20].

وقوله: { يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ } أي: الجاهلُ بأمْرهم وحالهم يحسبهم أغنياء، من تعففهم في لباسهم وحالهم ومقالهم. وفي هذا المعنى الحديث المتفق على صحته، عن أبي هريرة قال:

__________

(1) وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/86) لابن مردويه والضياء المقدسي.

(2) زيادة من جـ، أ.

(3) في و: "كثير".

(4) في و: "ولا يمكنه".

(5) صحيح البخاري برقم (1421) وصحيح مسلم برقم (1022).

(6) في أ: "بأنفسهم".

(1/704)

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يُفْطَنُ له فَيُتَصَدقَ عليه، ولا يسأل الناس شيئا" (1) . وقد رواه أحمد، من حديث ابن مسعود أيضًا (2) .

وقوله: { تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ } أي: بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم، كما قال [الله] (3) تعالى: { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ } [الفتح : 29] ، وقال: { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْل } [محمد : 30] . وفي الحديث الذي في السنن: "اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله"، ثم قرأ: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } [الحجر : 75] . (4) .

وقوله: { لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } أي: لا يُلحْون في المسألة ويكلفون الناس ما لا يحتاجون إليه، فإن من سأل وله ما يغنيه عن السؤال، فقد ألحف في المسألة؛ قال البخاري:

حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شريك بن أبي نمر: أن عطاء بن يَسَار وعبد الرحمن بن أبي عَمْرَة الأنصاري قالا سمعنا أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكينُ الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفَّفُ؛ اقرؤوا إن شئتم -يعني قوله-: { لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } (5) .

وقد رواه مُسْلِم، من حديث إسماعيل بن جعفر المديني، عن شريك بن عبد الله بن أبي نَمر، عن عطاء بن يسار -وحده -عن أبي هريرة، به (6) .

وقال أبو عبد الرحمن النسائي (7) : أخبرنا علي بن حجر، حدثنا إسماعيل، أخبرنا شريك -وهو ابن أبي نمر -عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، إنما المسكين المتعفف؛ اقرؤوا إن شئتم: { لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } " (8) .

وروى البخاري من حديث شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه (9) .

وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن أبي ذئب، عن أبي الوليد، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس المسكين بالطواف عليكم، فتطعمونه (10) لقمة لقمة، إنما المسكين المتعفف الذي لا يسأل الناس إلحافا".

وقال ابن جرير: حدثني معتمر، عن الحسن بن ماتك (11) عن صالح بن سويد، عن أبي هريرة

__________

(1) صحيح البخاري برقم (4539) وصحيح مسلم برقم (1039).

(2) المسند (1/384).

(3) زيادة من جـ.

(4) رواه الترمذي في السنن برقم (3127) من طريق عمرو بن قيس، عن عطية، عن أبي سعيد، رضي الله عنه، به مرفوعا، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب إنما نعرفه من هذا الوجه، وقد روي عن بعض أهل العلم".

(5) صحيح البخاري برقم (4539).

(6) صحيح مسلم برقم (1039).

(7) في و: "ورواه النسائي ولفظه".

(8) سنن النسائي الكبرى برقم (11053).

(9) صحيح البخاري برقم (1476).

(10) في جـ، أ، و: "فتعطونه".

(11) في جـ، أ: "الحسن بن بابل"، وفي و: "أيمن بن نابل".

(1/705)

قال: ليس المسكين الطواف الذي ترده الأكلة والأكلتان، ولكن المسكين المتعفف في بيته، لا يسأل الناس شيئا تصيبه الحاجة؛ اقرؤوا إن شئتم: { لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا }

وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا أبو بكر الحنفي، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، عن رجل من مزينة، أنه قالت له أمه: ألا تنطلق فتسأل رسول الله صلى الله عليه سلم كما يسأله الناس؟ فانطلقت أسأله، فوجدته قائما يخطب، وهو يقول: "ومن استعف أعفه الله، ومن استغنى أغناه الله، ومن يسأل الناس وله عدل خمس أواق فقد سأل الناس إلحافا". فقلت بيني وبين نفسي: لناقة لي خير من خمس أواق، ولغلامه ناقة أخرى فهي خير من خمس أواق فرجعت ولم أسأل (1) .

وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال، عن عمارة بن غزية، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه قال: سرحتني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسأله، فأتيته فقعدت، قال: فاستقبلني فقال: "من استغنى أغناه الله، ومن استعف أعفَّه الله، ومن استكف كفاه الله، ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف". قال: فقلت: ناقتي الياقوتة خير من أوقية. فرجعت ولم أسأله.

وهكذا رواه أبو داود والنسائي، كلاهما عن قتيبة. زاد أبو داود: وهشام بن عمار كلاهما عن عبد الرحمن بن أبي الرجال بإسناده، نحوه (2) .

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو الجماهير، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال، عن عمارة بن غزية، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد قال: قال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل وله قيمة وقية فهو ملحف" والوقية: أربعون درهما (3) .

وقال أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن رجل من بني أسد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل وله أوقية -أو عدلها -فقد سأل إلحافا" (4) .

وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل وله ما يغنيه، جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا -أو كدوحا -في وجهه". قالوا: يا رسول الله، وما غناه؟ قال: "خمسون درهما، أو حسابها من الذهب".

وقد رواه أهل السنن الأربعة، من حديث حكيم بن جبير الأسدي الكوفي (5) . وقد تركه شعبة بن الحجاج، وضعفه غير واحد من الأئمة من جراء هذا الحديث.

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا أبو حصين (6) عبد الله

__________

(1) المسند (4/138).

(2) المسند (3/9) وسنن أبي داود برقم (1628) وسنن النسائي (5/98).

(3) ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (2447) وابن حبان في صحيحه برقم (846) من طريق عبد الله بن يوسف، عن عبد الرحمن ابن أبي الرجال به.

(4) المسند (4/36).

(5) المسند (1/388) وسنن أبي داود برقم (1626) وسنن الترمذي برقم (650) وسنن النسائي (5/97) وسنن ابن ماجة برقم (1840).

(6) في هـ: "أبو حصن" وهو خطأ.

(1/706)

بن أحمد بن يونس، حدثني أبي، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين قال: بلغ الحارث-رجلا كان بالشام من قريش -أن أبا ذر كان به عوز، فبعث إليه ثلاثمائة دينار، فقال: ما وجد عبد الله رجلا هو أهون عليه مني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سأل وله أربعون فقد ألحف" ولآل أبي ذر أربعون درهما وأربعون شاة وماهنان. قال أبو بكر بن عياش: يعني خادمين (1) .

وقال ابن مَرْدُوَيه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، أخبرنا إبراهيم بن محمد، أنبأنا عبد الجبار، أخبرنا سفيان، عن داود بن سابور، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سأل وله أربعون درهمًا فهو مُلْحِف، وهو مثل سف الملة" يعني: الرمل.

ورواه النسائي، عن أحمد بن سليمان، عن يحيى بن آدم، عن سفيان -وهو ابن عيينة -بإسناده نحوه (2) .

قوله (3) : { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } أي: لا يخفى عليه شيء منه، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه يوم القيامة، أحوج ما يكونون إليه.

وقوله: { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون } هذا مدح منه تعالى للمنفقين (4) في سبيله، وابتغاء مرضاته في جميع الأوقات من ليل أو نهار، والأحوال من سر وجهار، حتى إن النفقة على الأهل تدخل في ذلك أيضًا، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد بن أبي وقاص -حين عاده مريضًا عام الفتح، وفي رواية عام حجة الوداع-: "وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى ما تجعل في في امرأتك" (5) .

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر وبَهْز قالا حدثنا شعبة، عن عدي بن ثابت قال: سمعت عبد الله بن يزيد (6) الأنصاري، يحدث عن أبي مسعود، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له صدقة" أخرجاه من حديث شعبة، به (7) .

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا (8) سليمان بن عبد الرحمن، حدثنا محمد بن شعيب، قال: سمعت سعيد بن يسار، عن يزيد بن عبد الله بن عريب المليكي، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نزلت هذه الآية: { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون] (9) } في أصحاب الخيل" (10) .

__________

(1) المعجم الكبير (2/150) وقال الهيثمي في المجمع (9/331): "رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس وهو ثقة".

(2) سنن النسائي الكبرى برقم (2375).

(3) في جـ: "وقوله".

(4) في جـ، أ: "في حق المنفقين".

(5) صحيح البخاري برقم (4409 ، 6373) وصحيح مسلم برقم (1628).

(6) في جـ: "ابن زيد".

(7) المسند (4/122) وصحيح البخاري برقم (55) وصحيح مسلم برقم (1002).

(8) في أ: "عن".

(9) زيادة من جـ، أ.

(10) ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (1283) من طريق سليمان بن عبد الرحمن به، وفي إسناده سعيد بن سنان متروك.

(1/707)

وقال حنش (1) الصنعاني: عن ابن عباس في هذه الآية، قال: هم الذين يعلفون الخيل في سبيل الله. رواه ابن أبي حاتم، ثم قال: وكذا روي عن أبي أمامة، وسعيد بن المسيب، ومكحول.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، أخبرنا يحيى بن يمان، عن عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر، عن أبيه قال: كان لعلي أربعة دراهم، فأنفق درهمًا ليلا ودرهمًا نهارًا، ودرهمًا سرًا، ودرهما علانية، فنزلت: { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً }

وكذا رواه ابن جرير من طريق عبد الوهاب بن مجاهد، وهو ضعيف. ولكن رواه ابن مردويه من وجه آخر، عن ابن عباس أنها نزلت في علي بن أبي طالب.

وقوله: { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِم } أي: يوم القيامة على ما فعلوا من الإنفاق في الطاعات { وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } تقدم تفسيره.

__________

(1) في ج: "وقال حسن".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حمى قرمزية /Scarlet fever.

حمى قرمزية /Scarlet fever لسان الفراولة الذي يظهر في الحمى القرمزية تسميات أخرى scarlatina, scarletina معلومات عامة=الاختصاص أمرا...