ج1. تفسير القرآن العظيم لأبي
الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير
القرشي الدمشقي [ 700 -774 هـ ]
مقدمة
التحقيق
إنَّ الحَمْدَ لله ، نَحْمَدُه ، ونستعينُه ، ونستغفرُهُ ، ونعوذُ به مِن شُرُورِ
أنفُسِنَا ، وَمِنْ سيئاتِ أعْمَالِنا ، مَنْ يَهْدِه الله فَلا مُضِلَّ لَهُ ،
ومن يُضْلِلْ ، فَلا هَادِي لَهُ.
وأَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، وأشهدُ أنَّ
مُحَمَّدًا عبْدُه ورَسُولُه.
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا
تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران : 102].
{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا
وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [النساء : 1].
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا *
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } [الأحزاب : 70 ، 71].
أما بعد :
فهذا هو كِتَاب تَفْسِير القرآن العظيم ، للإمام العلامة ، المُفَسِّر ، المُؤرِّخ
، الحُجَّةِ الحَافِظِ إسْماعيلَ بْنِ عُمَرَ بْنِ ضَوْءِ بْنِ كَثيرٍ القُرَشِيِّ
الشَّافِعِيِّ الدّمَشْقِيِّ - رَحِمَه اللهُ - أُقَدِّمُه لِقُرَّاء
العَرَبِيَّةِ والعَالَم الإسْلامِيِّ ، بَعْدَ مُضيِّ قَرْنٍ من الزمان على طبعته
الأولَى تقريبًا ، كادتْ - خِلال هذه الفَتْرَةِ - أن تُخْفى مَعَالِمُهُ ،
وتَنمَحِي مُمَيِّزَاتُهُ مِنْ جَرَّاء عَبَثِ الوَرَّاقِين ، ومُمَارسَاتِ
المتأكِّلِين مِنْ صَحفيّينَ وَكَتْبِيين.
أقدِّمُه بَعْد أن قُمْتُ بِأعْبَاءِ تَحْقِيقِهِ وضَبْط نَصِّهِ ، وتَخْرِيجِ
أحَادِيثهِ والتَّعْلِيق عَلَيْهِ ، عَلَى نَحْوٍ يُيَسِّر الفَائِدةَ مِنْهُ ،
ويُحقِّقُ رَغْبَةَ أهْل العِلْم الذين طالما تَمَنَّوْا أنْ يُنْشَرَ هَذَا
الْكِتَابُ نَشْرَةً عِلْمِيَّةً مُوَثَّقةً ، خَالِيةً مِنَ التَّحْريفِ ،
والسَّقْط والتَّصْحِيفِ.
وتَفْسير ابن كثير - رحمه الله - من أعْظَم وأجَلِّ كُتُبِ التفسير ، أمْضَى فيه
مُؤَلِّفهُ - رحمه الله - عُمُراً طويلا وهو يُقلِّبُ فيه بين الفَيْنَةِ والأخرى
، مُحَلِّيًا إيَّاه بِفَائِدةٍ تَخْطُر له ، أو حكاية قولٍ أزْمَعَ تَحْقِيقهُ.
وقد احْتَوَى تَفْسيرُهُ على الكثير من الأحَاديثِ والآثارِ من مصادر شَتَّى ، حتى
أتَى على مُسْنَدِ الإمام أحمد فَكَادَ يَسْتَوْعِبه ، كما نَقَل عن مصادر لا
ذِكْرَ لها في عَالَمِ المخطوطات ، كتفسير الإمام أبي بَكْر بن مَرْدُويه ، وتفسير
الإمام عَبْد بْنِ حُمَيْدٍ ، وتفسير الإمام ابن المنْذِر ، وغيرها كثير.
كما تَضَمَّنَ تفسيرُ ابن كثير - رحمه الله - بَعْضَ المباحِثِ الفِقْهيَّةِ
والمسائل اللُّغَوِيَّةِ ، وقد قال الإمام
(1/7)
السُّيُوطِيُّ
: لم يُؤلَّف على نَمَطٍ مِثْلُه.
والطَّرِيقةُ التي اتَّبَعَها الحافظُ ابنُ كَثِيرٍ في كِتَابِهِ أن يَذْكُرَ
الآيةَ ، ثم يَذْكُر مَعْناها العام ، ثم يُورِدُ تَفْسيرَها من القُرْآنِ أو من
السُّنَّةِ أو من أقوال الصَّحَابِة والتَّابِعينَ ، وأحْيانًا يَذْكُرُ كُلَّ ما
يَتعلَّقُ بالآيةِ من قَضَايا أو أحْكَامٍ ، ويَحْشُد لذلك الأدِلةَ من الكِتَابِ
والسُّنةِ ، وَيذْكرُ أقْوَالَ المذاهبِ الفِقْهِيَّةِ وأدِلتَهَا والتَّرْجِيحَ
بَيْنَها.
وقد أبَانَ الحافظُ ابنُ كَثير عَنْ طَرِيقَتِهِ في مُقدِّمةِ تَفْسِيرِه ، قال :
"فَإنْ قَالَ قَائِلٌ : فمَا أحْسَنُ طُرُقِ التَّفْسِيرِ ؟ فَالْجوابُ :
إنَّ أصَحَّ الطُّرُقِ في ذلك أنْ يُفَسَّرَ القرآنُ بالقرآنِ ، فما أُجْمِلَ في
مكَانٍ فإنه قد بُسِطَ في مَوْضِعٍ آخرَ ، فإن أعْياكَ فَعَلَيْكَ بالسُّنَّة ؛
فإنها شَارِحةٌ للقُرْآنِ وَمُوَضِّحةٌ له ، وحِينَئذٍ إذا لم نَجِدِ التفْسِيرَ
فِي القُرآنِ ولا في السُّنةِ رَجَعْنا في ذلك إلى أَقْوالِ الصَّحابةِ ؛ فإنهم
أدْرَى بذلك لما شَاهَدُوا من القَرائِنِ والأحْوالِ التي اخْتُصُّوا بها ، ولِما
لهم مِنَ الفَهْمِ التَّامِ والعِلْم الصَّحِيح والعَمَلِ الصَّالِحِ ، لاسيَّما عُلَماءَهُم
وكُبَراءَهُمْ كالأئمَّةِ الأربعةِ الخُلَفاءِ الرّاشِدين ، والأئمة المهتدِينَ
الْمهدِيِّينَ ، وعَبْدَ الله بن مَسْعودٍ - رضي الله عنهم أجمعين - وإذا لم
تَجِدِ التفْسِيرَ في القُرآنِ ولا في السُّنةِ ولا وَجَدْتَهُ عنِ الصَّحابةِ فقد
رَجَعَ كَثير من الأئمةِ في ذلك إلى أقوالِ التَّابِعينَ".
طَبَعاتُ الكتابِ :
وقد طُبِعَ هذا التفسيرُ لأوَّلِ مرة في المطْبَعَةِ الأمِيريَّة من سنة 1300 هـ
إلى سنة 1302 هـ بهامش تفسير "فَتْح البَيَان" لِصدّيقِ حَسَن خَان ، ثم
طَبَعهُ الشيخُ رَشِيد رِضَا - رحمه الله - ومعه تَفْسيرُ البَغَوِيِّ في تِسْعَةِ
مُجلَّداتٍ بأمر جَلالِة الملِكِ عبدِ الْعَزيزِ بْنِ عبدِ الرَّحْمنِ آلِ سُعُود
- رحمه الله - من سنة 1343 هـ إلى سنة 1347 هـ ، واجْتَهدَ - رحمه الله - في
تَصحِيحهِ ما اسْتَطَاعَ ، ولكن فَاتَهُ الشَّيْءُ الكَثِيرُ.
ثُمَّ تَدَاولتِ المطَابِعُ طَبْعَهُ طبعاتٍ تِجاريَّة ، ليس فيها تَصْحِيح ولا
تَحْقيقٌ وَلا مُراجَعَةٌ ، وإنما اعْتَمَدُوا طَبْعَة "المنار" ،
فأخذوها بما فيها من أغْلاطٍ ، ثم زادوها ما استطاعوا من غَلَط أو تَحْريفٍ.
فَكَانَ انتفاعُ النَّاسِ بهذا التفْسيرِ انتفاعًا قاصرًا ؛ لما امتلأتْ بِهِ
طَبَعاتُهُ مِنْ غَلَطٍ وَتَحْريفٍ ، يَجِبُ معهما أن يُعادَ طَبْعُهُ طبعةً
عِلْمِيةً مُحَقَّقةً ، ويُرجَعُ فيها إلى النُّسَخِ المخْطُوطةِ منه ما أمْكَنَ ،
ثم الرجوع إلى مصادر السُّنَّةِ الَّتِي يَنْقِلُ عنها الحافظُ ابْنُ كَثيرٍ ، وإلى
كُتُبِ رِجَالِ الحديثِ والتَّراجُمِ لتَصْحِيحِ أسْماءِ الرجالِ في الأسانيدِ ،
وهم شَيءٌ كثيرٌ وعدَدٌ ضَخْمٌ (1).
حتى جاءت سنة 1390 هـ فَخَرجتْ طَبعةٌ جَديدةٌ لهذا التَّفْسير من دار الشَّعْبِ
بتَحْقيقِ الأساتذةِ :
__________
(1) عمدة التفسير للشيخ أحمد شاكر (1/ 6).
(1/8)
عبد
العزيز غُنَيم ، ومُحمَّد أحمد عاشور ، ومحمد إبراهيم البَنَّا.
لكنهم اعْتَمَدوا على نُسخةِ الأزْهرِ ، وهي نسخةٌ قديمةٌ وجَيِّدةٌ ، لكن
بمقارنتها بِبَقِيَّةِ النُّسَخِ فإنَّهَا يَكْثُر فيها السَّقْطُ والتَّصْحِيفُ
(1).
وقد تَعَقَّبَ الدكتورُ إسماعيلُ عبد العالِ هذه الطَّبْعَة في كتابه "ابن
كَثيرٍ ومنْهَجهُ في التَّفْسيرِ" (2) ثُمَّ قَالَ :
"وأرَى مِنْ الواجبِ عَلَى مَنْ يَتصدَّى لتحقيقِ تفسيرِ ابْنِ كثيرِ -
تحقيقًا عِلْميا دَقِيقًا سَلِيمًا مِنَ المآخِذ - ألا يَعْتمِد عَلَى نُسْخَةٍ واحِدَةٍ
، بل عليه أن يَجْمَعَ كُلَّ النُّسَخِ المخطوطةِ والمطبوعةِ ، ويُوازِنَ بينها مع
إثباتِ الزِّيادةِ والنَقْصِ ، والتَّحريفِ والتَّصحيفِ".
وكُنْتُ مُنْذُ خَمْسِ سَنَواتٍ قد بَدَأتُ الْعَمَلَ عَلَى تَحْقِيقِ هَذَا
الْكِتابِ بِجَمْعِ مَخْطوطاتِهِ ، وَتَوْثِيقِ نُصُوصِهِ وإصْلاحِ ما وَقَعَ في
طَبَعاتهِ السَّابقةِ مِنْ تَحْريفٍ ونَقْصٍ ، حتى خَرَجَ في هَيْئةٍ أحْسَبُ أنها
أقْرَبُ ما تَكُونُ إلى ما أرَادَهُ المُصَنِّفُ - رحمه الله.
وقد سَاعَدنِي في كثيرٍ مِنَ مراحلِ الْعَملِ إخْوةٌ أفَاضِلُ ، فَلَهُمْ مِنِّي
خَالصُ الدُّعاءِ وجَزِيلُ الشُّكْرِ.
وبعد :
فقد مَرَّتْ عليَّ أثناء الْعَملِ في هذا الكِتابِ سُنونَ شَديدةٌ ، اللهُ وحدَهُ
بها عَلِيمٌ ، قَاسَيتُ فيها شَدائدَ ، وواجَهْتُ فيها عَقَباتٍ ، إلا أنَّ
هِمَّتِي أَبَتْ إلا إتْمامَهُ ، ونَفْسِي تَاقتْ إلى التَّشَرُّفِ بخِدْمَتِهِ.
وقد كَابدتُ في هَذا الكتابِ جَهْدِي ، وبَذَلْتُ فيه مَالِي ، واسْتنفَقْتُ له
وَقْتِي ، فكَمْ من لَيالٍ أنْفقتُهَا في تَصْويبِ تَحْريفٍ ، أو تَقْويمِ
تَصْحيفٍ.
أقولُ ذلك ملتمِسًا العُذْرَ مِنْ عالِمٍ سَقَط عَلَى زَلَلٍ ، أو قارئٍ وَقَعَ
على خَطَأ ، فَمِثْلُ هذَا العَمَلِ الكبِيرِ لا بُدَّ أنْ تَظْهرَ فيهِ بَعْضُ
الأخطاءِ المطبعيةِ ، والأوْهامِ الْيَسِيرةِ ، وصَدَقَ المُزَنيُّ - رحمه الله -
حين قال : "لَوْ عُورضَ كتابٌ سَبْعينَ مرةً لَوُجِدَ فيه خَطَأ ، أبَى اللهُ
أن يكون صَحِيحًا غَيْر كِتابِهِ" ، فالمرْجُو من أهْلِ العِلْمِ أن
يُرْسِلُوا لِي ما لَدَيْهِم من مُلاحظاتٍ أو اسْتِدْراكٍ أو تَعْقِيبٍ حتى
أتدَاركَ ذلك في الطبعةِ اللاحقةِ إن شَاءَ اللهُ.
ولا أنْسَى في خِتَامِ كَلِمَتي أنْ أرْفَعَ شُكْرِي إلى مَقَامِ والديَّ
الَّلذَيْنِ كان لهما الفَضْلُ في تَنْشِئَتِي ، وإرْشَادِي إلى العِلْمِ وحُبِّهِ
، والاجْتِهادِ فِي طَلَبِهِ : { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ
دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ
الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا } [نوح : 28].
__________
(1) وقد سدت هذه الطبعة فراغًا آنذاك ، ولكن يتعين بعد اليوم عدم اعتمادها في
دراسة أو قراءة لكثرة ما فيها من السقط والأوهام.
(2) ص 128.
(1/9)
وأشْكُرُ
الأستاذَ الفاضِلَ/ سعد بن صالح الطويل ، وكيلَ عِمادةِ شُؤون المكتبات بجَامِعَةِ
الإمامِ محمد بن سعود الإسلامية سَابِقًا ، والأستاذ الفاضل/ صالح الحجي ، مُدِير
قِسْمِ المخطوطات بجامعة الملك سُعُود ، وأشْكُرُ كُلّ أخٍ ساعدنِي أو شَجَّعنِي
لمواصلة طريقِي.
واللهَ أسْألُ أنْ يَنْفعَ به الجميعَ ، وأنْ يجْعَلَهُ خالصًا لِوجْهِهِ
الْكَرِيم ، وأنْ يَكُونَ من الثَّلاث التي يَنْقطِعُ عَمَلُ ابْنِ آدمَ إذا مات
إلا مِنْها ، وأنْ يكْتُبَ لجميع من أسْهَمَ فيه الأجْرَ والمثوبَةَ ، إنه وَلِيُّ
ذلك والقادِرُ عليه ، وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ على نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ وعَلَى
آلِهِ وصَحْبِه أجْمَعينَ. وكتبه :
سامي بن محمد بن عبد الرحمن بن سلامة
الرياض : 5/ 5/ 1417هـ
(1/10)
القسم
الأول
الدراسة
وقد اشتمل على مبحثين :
المبحث الأول : ترجمة الحافظ ابن كثير.
المبحث الثاني : كتاب تفسير القرآن العظيم.
(1/11)
المبحث
الأول
ترجمة الحافظ ابن كثير
1 - نسبه وميلاده :
هو الإمام الحافظ ، المحدث ، المؤرخ ، عماد الدين ، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن
كثير بن ضوء بن كثير بن ضوء بن درع القرشي الدمشقي الشافعي.
ولد بقرية "مِجْدَل" من أعمال بصرى ، وهي قرية أمه ، سنة سبعمائة للهجرة
أو بعدها بقليل.
2 - نشأته :
نشأ الحافظ ابن كثير في بيت علم ودين ، فأبوه عمر بن حفص بن كثير أخذ عن النواوي
والفزاري وكان خطيب قريته ، وتوفى أبوه وعمره ثلاث سنوات أو نحوها ، وانتقلت
الأسرة بعد موت والد ابن كثير إلى دمشق في سنة (707 هـ) ، وخلف والده أخوه عبد
الوهاب ، فقد بذل جهدًا كبيرًا في رعاية هذه الأسرة بعد فقدها لوالدها ، وعنه يقول
الحافظ ابن كثير : "وقد كان لنا شقيقا ، وبنا رفيقًا شفوقًا ، وقد تأخرت
وفاته إلى سنة (750 هـ) فاشتغلت على يديه في العلم فيسر الله منه ما تيسر وسهل منه
ما تعسر" (1)
3 - شيوخه :
1 - شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية ، رحمه الله.
2 - الحافظ أبو الحجاج يوسف المزي ، رحمه الله.
3 - الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهبي ، رحمه الله.
4 - الشيخ أبو العباس أحمد الحجار الشهير بـ "ابن الشحنة".
5 - الشيخ أبو إسحاق إبراهيم الفزاري ، رحمه الله.
6 - الحافظ كمال الدين عبد الوهاب الشهير بـ "ابن قاضي شهبة".
7 - الإمام كمال الدين أبو المعالي محمد بن الزملكاني ، رحمه الله.
8 - الإمام محيي الدين أبو زكريا يحيى الشيباني ، رحمه الله.
9 - الإمام علم الدين محمد القاسم البرزالي ، رحمه الله.
10 - الشيخ شمس الدين أبو نصر محمد الشيرازي ، رحمه الله.
11 - الشيخ شمس الدين محمود الأصبهاني ، رحمه الله.
12 - عفيف الدين إسحاق بن يحيى الآمدي الأصبهاني ، رحمه الله.
__________
(1) البداية والنهاية (14/ 32).
(1/12)
13
- الشيخ بهاء الدين القاسم بن عساكر ، رحمه الله.
14 - أبو محمد عيسى بن المطعم ، رحمه الله.
15 - عفيف الدين محمد بن عمر الصقلي ، رحمه الله.
16 - الشيخ أبو بكر محمد بن الرضى الصالحي ، رحمه الله.
17 - محمد بن السويدي ، بارع في الطب.
18 - الشيخ أبو عبد الله بن محمد بن حسين بن غيلان ، رحمه الله.
19 - الحافظ أبو محمد عبد المؤمن الدمياطي ، رحمه الله.
20 - موسى بن علي الجيلي ، رحمه الله.
21 - جمال الدين سليمان بن الخطيب ، قاضي القضاة.
22 - محمد بن جعفر اللباد ، شيخ القراءات.
23 - شمس الدين محمد بن بركات ، رحمه الله.
24 - شمس الدين أبو محمد عبد الله المقدسي ، رحمه الله.
25 - الشيخ نجم الدين بن العسقلاني.
26 - جمال الدين أبو العباس أحمد بن القلانسي ، رحمه الله.
27 - الشيخ عمر بن أبي بكر البسطي ، رحمه الله.
28 - ضياء الدين عبد الله الزربندي النحوي ، رحمه الله.
29 - أبو الحسن علي بن محمد بن المنتزه ، رحمه الله.
30 - الشيخ محمد بن الزراد ، رحمه الله.
4 - تلاميذه :
1 - الحافظ علاء الدين بن حجي الشافعي ، رحمه الله.
2 - محمد بن محمد بن خضر القرشي ، رحمه الله.
3 - شرف الدين مسعود الأنطاكي النحوي ، رحمه الله.
4 - محمد بن أبي محمد بن الجزري ، شيخ علم القراءات ، رحمه الله.
5 - ابنه محمد بن إسماعيل بن كثير ، رحمه الله.
6 - الإمام ابن أبي العز الحنفي ، رحمه الله.
7 - الحافظ أبو المحاسن الحسَيني ، رحمه الله.
(1/14)
5
- مؤلفاته :
أ - في علوم القرآن :
1 - تفسير القرآن العظيم : وسيأتي الكلام عليه في المبحث الثاني إن شاء الله
تعالى.
2 - فضائل القرآن : وهو ملحق بالتفسير في النسخة البريطانية ، والنسخة المكية ،
وقد اعتمدت إلحاقه بالتفسير لقرب موضوعه من التفسير ؛ ولأن هاتين النسختين هما آخر
عهد ابن كثير لتفسيره.
وقد طبعت مفردة بتحقيق الأستاذ محمد البنا في مؤسسة علوم القرآن ببيروت.
ب - في السنة وعلومها :
3 - أحاديث الأصول.
4 - شرح صحيح البخاري.
5 - التكميل في الجرح والتعديل ومعرفة الثقات والمجاهيل : منه نسخة بدار الكتب
المصرية برقم (24227) في مجلدين ، وهي ناقصة ولديَّ مصورة عنها.
6 - اختصار علوم الحديث : نشر بمكة المكرمة سنة (1353 هـ) بتحقيق الشيخ محمد عبد
الرزاق حمزة ، ثم شرحه الشيخ أحمد شاكر ، رحمه الله ، وطبع بالقاهرة سنة (1355
هـ).
7 - جامع المسانيد والسنن الهادي لأقوم سنن : منه نسخة بدار الكتب المصرية برقم
(184) حديث ، ونشره مؤخرًا الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي ، وطبع بدار الكتب
العلمية ببيروت.
8 - مسند أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه.
9 - مسند عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : نشره الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي ،
وطبع بدار الوفاء بمصر.
10 - الأحكام الصغرى في الحديث.
11 - تخريج أحاديث أدلة التنبيه في فقه الشافعية.
12 - تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب : طبع مؤخرًا بتحقيق الكبيسي ، ونشر في مكة.
13 - مختصر كتاب "المدخل إلى كتاب السنن" للبيهقي.
14 - جزء في حديث الصور.
15 - جزء في الرد على حديث السجل.
16 - جزء في الأحاديث الواردة في فضل أيام العشرة من ذي الحجة.
17 - جزء في الأحاديث الواردة في قتل الكلاب.
18 - جزء في الأحاديث الواردة في كفارة المجلس.
(1/15)
جـ
- في الفقه وأصوله :
19 - الأحكام الكبرى.
20 - كتاب الصيام.
21 - أحكام التنبيه.
22 - جزء في الصلاة الوسطى.
23 - جزء في ميراث الأبوين مع الإخوة.
24 - جزء في الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها.
25 - جزء في الرد على كتاب الجزية.
26 - جزء في فضل يوم عرفة.
27 - المقدمات في أصول الفقه.
د - في التاريخ والمناقب :
28 - البداية والنهاية : مطبوع عدة طبعات في مصر وبيروت ، أحسنها الطبعة التي
حققها الدكتور علي عبد الستار وآخرون.
والنهاية مطبوع في مصر بتحقيق أحمد عبد العزيز.
29 - جزء مفرد في فتح القسطنطينية.
30 - السيرة النبوية : مطبوع باسم الفصول في سيرة الرسول بدمشق.
31 - طبقات الشافعية : منه نسخة في شستربيتى بإيرلندا ، وقد طبع مؤخرًا في مصر.
32 - الواضح النفيس في مناقب محمد بن إدريس : منه نسخة في شستربيتى بإيرلندا.
33 - مناقب ابن تيمية.
34 - مقدمة في الأنساب.
6 - ثناء العلماء عليه :
كان ابن كثير ، رحمه الله ، من أفذاذ العلماء في عصره ، أثنى عليه معاصروه ومن
بعدهم الثناء الجم :
فقد قال الحافظ الذهبي في طبقات شيوخه : "وسمعت مع الفقيه المفتي المحدِّث ،
ذى الفضائل ، عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير البصروي الشافعي.. سمع من ابن
الشحنة وابن الزراد وطائفة ، له عناية بالرجال والمتون والفقه ، خرَّج وناظر وصنف
وفسر وتقدم" (1).
وقال عنه أيضًا في المعجم المختص : "الإمام المفتي المحدِّث البارع ، فقيه
متفنن ، محدث متقن ، مفسر نقال" (2).
__________
(1) طبقات الحفاظ للذهبي (4/ 29) وعمدة التفسير لأحمد شاكر (1/ 25)
(2) المعجم المختص للذهبي.
(1/16)
وقال
تلميذه الحافظ أبو المحاسن الحسيني : "صاهر شيخنا أبا الحجاج المزي فأكثر ،
وأفتى ودرس وناظر ، وبرع في الفقه والتفسير والنحو وأمعن النظر في الرجال
والعلل" (1).
وقال العلامة ابن ناصر الدين : "الشيخ الإمام العلامة الحافظ عماد الدين ،
ثقة المحدثين ، عمدة المؤرخين ، علم المفسرين" (2).
وقال ابن تغري بردي : "لازم الاشتغال ، ودأب وحصل وكتب وبرع في الفقه
والتفسير والفقه والعربية وغير ذلك ، وأفتى ودرس إلى أن توفى" (3).
وقال ابن حجر العسقلاني : "كان كثير الاستحضار ، حسن المفاكهة ، سارت تصانيفه
في البلاد في حياته ، وانتفع الناس بها بعد وفاته" (4).
وقال ابن حبيب : "إمام روى التسبيح والتهليل ، وزعيم أرباب التأويل ، سمع
وجمع وصنف ، وأطرب الأسماع بالفتوى وشنف ، وحدث وأفاد ، وطارت أوراق فتاويه إلى
البلاد ، واشتهر بالضبط والتحرير ، وانتهت إليه رياسة العلم في التاريخ ، والحديث
والتفسير" (5).
وقال العيني : "كان قدوة العلماء والحفاظ ، وعمدة أهل المعاني والألفاظ ،
وسمع وجمع وصنف ، ودرس ، وحدث ، وألف ، وكان له اطلاع عظيم في الحديث والتفسير
والتاريخ ، واشتهر بالضبط والتحرير ، وانتهى إليه رياسة علم التاريخ والحديث
والتفسير وله مصنفات عديدة مفيدة" (6).
وقال تلميذه ابن حجي : "أحفظ من أدركناه لمتون الأحاديث ، وأعرفهم بجرحها
ورجالها وصحيحها وسقيمها ، وكان أقرانه وشيوخه يعترفون له بذلك ، وكان يستحضر شيئا
كثيرا من الفقه والتاريخ ، قليل النسيان ، وكان فقيها جيد الفهم ، ويشارك في
العربية مشاركة جيدة ، ونظم الشعر ، وما أعرف أني اجتمعت به على كثرة ترددي إليه
إلا واستفدت منه" (7).
وقال الداودي : "أقبل على حفظ المتون ، ومعرفة الأسانيد والتعلل والرجال
والتاريخ حتى برع في ذلك وهو شاب" (8).
7 - وفاته ورثاؤه :
في يوم الخميس السادس والعشرين من شهر شعبان سنة أربع وسبعين وسبعمائة توفي الحافظ
ابن كثير بدمشق ، ودفن بمقبرة الصوفية عند شيخه ابن تيمية ، رحمه الله.
وقد ذكر ابن ناصر الدين أنه "كانت له جنازة حافلة مشهودة ، ودفن بوصية منه في
تربة شيخ الإسلام ابن تيمية بمقبرة الصوفية".
وقد قيل في رثائه ، رحمه الله :
لفقدك طلاب العلوم تأسفوا... وجادوا بدمع لا يبير غزير
ولو مزجوا ماء المدامع بالدما... لكان قليلا فيك يا بن كثير
__________
(1) ذيل تذكرة الحفاظ للحسيني ص 58 ، وعمدة التفسير لأحمد شاكر (1/ 26).
(2) الرد الوافر.
(3) النجوم الزاهرة (11/ 123).
(4) الدرر الكامنة.
(5) شذرات الذهب لابن العماد (6/ 232).
(6) النجوم الزاهرة (11/ 123).
(7) شذرات الذهب لابن العماد (6/ 232).
(8) طبقات المفسرين.
(1/17)
المبحث
الثاني
كتاب تفسير القرآن العظيم
1 - تاريخ كتابته :
لم يحدد الحافظ ابن كثير ، رحمه الله ، تاريخ بدايته في كتابة هذا التفسير ولا
تاريخ انتهائه منه ، لكن ثمة دلائل تدل على تاريخ انتهائه منه ، فإنه ذكر عند
تفسير سورة الأنبياء شيخه المزي ودعا له بطول العمر مما يفهم منه أنه قد ألف أكثر
من نصف التفسير في حياة شيخه المزي المتوفى سنة (742 هـ).
واقتبس منه الإمام الزيلعي في كتابه تخريج أحاديث الكشاف (2 - 180) والزيلعي توفي
سنة (762 هـ) ، مما يدل على أن كتاب الحافظ ابن كثير انتشر في هذه الفترة.
هذا وتعتبر النسخة المكية أقدم النسخ التي وقعت بأيدينا ، وقد جاء بآخرها :
"آخر كتاب فضائل القرآن وبه تم التفسير للحافظ العلامة الرحلة الجهبذ مفيد
الطالبين الشيخ عماد الدين إسماعيل الشهير بابن كثير ، على يد أفقر العباد إلى
الله الغني محمد بن أحمد بن معمر المقري البغدادي ، عفا الله عنه ونفعه بالعلم ،
ووفقه للعمل به آمين.... بتاريخه يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة من سنة تسع وخمسين
وسبعمائة هلالية هجرية".
2 - أهميته :
يعد تفسير الحافظ ابن كثير ، رحمه الله ، من الكتب التي كتب الله لها القبول
والانتشار ، فلا تكاد تخلو منه اليوم مكتبة سواء كانت شخصية أو عامة.
وقد نهج الحافظ ابن كثير فيه منهجًا علميًا أصيلا وساقه بعبارة فصيحة وجمل رشيقة ،
وتتجلى لنا أهمية تفسير الحافظ ابن كثير ، رحمه الله ، في النقاط التالية : 1 -
ذكر الحديث بسنده.
2 - حكمه على الحديث في الغالب.
3 - ترجيح ما يرى أنه الحق ، دون التعصب لرأي أو تقليد بغير دليل.
4 - عدم الاعتماد على القصص الإسرائيلية التي لم تثبت في كتاب الله ولا في صحيح
سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وربما ذكرها وسكت عليها ، وهو قليل.
5 - تفسيره ما يتعلق بالأسماء والصفات على طريقة سلف الأمة ، رحمهم الله ، من غير
تحريف ولا تأويل ولا تشبيه ولا تعطيل.
6 - استيعاب الأحاديث التي تتعلق بالآية ، فقد استوعب ، رحمه الله ، الأحاديث
الواردة في عذاب القبر ونعيمه عند قوله تعالى : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ }
(1/18)
وكذا
استوعب أحاديث الإسراء والمعراج عند قوله تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى
بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى
الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } وكذا الأحاديث الواردة في الصلاة على النبي عند قول
الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } وكذا
الأحاديث الواردة في فضل أهل البيت عند تفسير قوله تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ
اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيرًا } وغير هذا كثير (1).
وقد قال السيوطي في ترجمة الحافظ ابن كثير : "له التفسير الذي لم يؤلف على
نمط مثله".
وقال الشوكاني : "وله تصانيف ، منها التفسير المشهور وهو في مجلدات ، وقد جمع
فيه فأوعى ، ونقل المذاهب والأخبار والآثار ، وتكلم بأحسن كلام وأنفسه ، وهو من
أحسن التفاسير إن لم يكن أحسنها".
3 - مصادره :
أما مصادر الحافظ ابن كثير في تفسيره فقد سردها الدكتور إسماعيل عبد العال في
كتابه " ابن كثير ومنهجه في التفسير" أنقلها هنا حسب ترتيب المواضيع :
أولا الكتب السماوية :
1 - القرآن الكريم.
2 - التوراة ، وأشار أنه نقل من نسختين.
3 - الإنجيل.
ثانيا : في التفسير وعلوم القرآن :
أ - في التفسير :
4 - تفسير آدم بن أبي إياس ، المتوفى سنة / 220 هـ أو 221 هـ.
5 - تفسير أبي بكر بن المنذر ، المتوفى سنة / 318 هـ 0
6 - تفسير ابن أبي حاتم ، المتوفى سنة /223 هـ/. (ط) قسم منه.
7 - تفسير أبو مسلم الأصبهاني (محمد بن بحر) ، المتوفى سنة /322 هـ ، واسم كتابه :
"جامع التأويل لمحكم التنزيل".
8 - تفسير ابن أبي نجيح (عبد الله بن يسار الأعرج المكي مولى ابن عمر).
9 - تفسير البغوي (أبو محمد الحسن بن مسعود بن محمد الفراء) ، المتوفى سنة 516 ،
واسم كتابه (معالم التنزيل). (ط).
10 - تفسير ابن تيمية (تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم) ، المتوفى سنة
728 هـ ، وهو جزء في تفسير قوله تعالى : { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ
بِالْغَيْبِ } (ط).
__________
(1) مقدمة الشيخ مقبل الوادعي (ص 5).
(1/19)
11
- تفسير الثعلبي (أحمد بن محمد بن إبراهيم أبو إسحاق النيسابوري) ، المتوفى سنة
427 هـ (مخطوط) في المكتبة المحمودية.
12 - تفسير الجبائي (أبي علي) المتوفى سنة 303 هـ.
13 - تفسير ابن الجوزي (عبد الرحمن بن علي) ، المتوفى سنة 597 هـ ، واسم الكتاب
(زاد المسير في علم التفسير) وهو مخطوط بدار الكتب تحت رقم 123 تفسير في أربعة
مجلدات. (ط).
14 - تفسير ابن دحيم ( أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دحيم) ،
المتوفى سنة 319 هـ.
15 - تفسير الرازي (محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري أبو عبد الله
المشهور بفخر الدين الرازي) ، المتوفى سنة 606 هـ ، وكتابه يسمى "التفسير
الكبير" المشهور بمفاتيح الغيب. (ط).
16 - تفسير الزمخشري (جار الله أبي القاسم محمود بن عمر الخوارزمي) ، المتوفى سنة
538 هـ وكتابه يدعى (الكشاف عن حقائق التنزيل ، وعيون الأقاويل في وجوه التأويل).
(ط).
17 - تفسير السدي الكبير ، المتوفى سنة 137 هـ - 745 م.
18 - تفسير سنيد بن داود ، المتوفى سنة 226 هـ.
19 - تفسير شجاع بن مخلد ، المتوفى سنة 235 هـ.
20 - تفسير الطبري ، المتوفى سنة 310 هـ (ط).
21 - تفسيرعبد بن حميد ، المتوفى سنة 249 هـ.
22 - تفسير عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، المتوفى سنة 182 هـ.
23 - تفسير عبد الرزاق الصنعاني ، المتوفى سنة 211 هـ. (ط).
24 - تفسير ابن عطية العوفي ، المتوفى سنة 111 هـ.
25 - تفسير القرطبي (أبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي) ، المتوفى سنة
671 هـ ، وتفسيره يسمى "الجامع لأحكام القرآن الكريم". (ط).
26 - تفسير مالك بن أنس إمام دار الهجرة ، وهو جزء مجموع له.
27 - تفسير الماوردي (أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب) ، المتوفى سنة 450 هـ ، واسم
تفسيره "النكت والعيون".
28 - تفسير ابن مردويه.
29 - تفسير الواحدي (علي بن أحمد بن محمد بن علي أبي الحسن) ، المتوفى سنة 468 هـ.
(ط) الوسيط.
30 - تفسير وكيع بن الجراح ، المتوفى سنة 197 هـ.
(1/20)
ب
- في علوم القرآن :
31 - "البيان" لأبي عمرو الداني (الحافظ أبي عمرو عثمان بن سعيد بن
عثمان بن سعيد المعروف بالداني (371 - 444 هـ) ، وهو حافظ محدث مفسر ، واسم الكتاب
"جامع البيان في القراءات السبع" وهو من أحسن مصنفاته يشتمل على نيف
وخمسمائة رواية وطريق ، قيل : إنه جمع فيه كل مايعلمه في هذا العلم.
32 - "التبيان" لأبي زكريا النواوي (محيي الدين يحيى بن شرف النووي
المتوفى سنة 677 هـ) ، أما اسم الكتاب فهو "التبيان في آداب حملة
القرآن" ، وقد رتب على عشرة أبواب ثم اختصره ، وسماه "مختار
التبيان" (ط).
33 - جزء فيمن جمع القرآن من المهاجرين للحافظ ابن السمعاني القاضي أبي سعيد عبد
الكريم بن أبي بكر ، محمد بن أبي المظفر المنصور التميمي المروزي ، المتوفى سنة
512 هـ.
34 - جميع مصاحف الأئمة.
35 - شرح الشاطبية للشيخ شهاب الدين أبي شامة (عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي
الدمشقي المتوفى سنة 665 هـ).
36 - فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام ، المتوفى سنة 224 هـ. (ط).
37 - مصحف أبيّ بن كعب ، وهو أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن (زيد بن ثابت ، ومعاذ
بن جبل ، وأبو زيد الأنصاري) ، وقد توفى أبيّ سنة 19 هـ وقيل 20 أو 22 أو 23.
38 - معاني القرآن للزجاج (أبي إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج المتوفى سنة 311
هـ). (ط).
39 - الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد القاسم بن سلام. (ط).
ثالثا : كتب السنة وعلوم الحديث وشروحه :
أ - الكتب الستة مضافًا إليها مسند أحمد بن حنبل :
40 - الجامع الصحيح للإمام البخاري. (ط).
41 - صحيح مسلم للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ، المتوفى
سنة (261 هـ - 875 م). (ط).
42 - سنن أبي داود (سليمان بن الجارود بن الأشعث الأزدي السجستاني) ، المتوفى سنة
( 275 هـ 889 م). (ط).
43 - سنن الترمذي (الجامع) لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سهل الترمذي ، المتوفى (279
هـ - 892 م). (ط).
44 - سنن النسائي (أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي) ، المتوفى سنة 303 هـ ،
915 م. (ط).
45 - سنن ابن ماجه (أبي عبد الله محمد بن يوسف بن ماجه القزويني) ، المتوفى سنة
327 هـ - 886 م. (ط).
(1/21)
46
- مسند الإمام أحمد بن حنبل (أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الذهلي)
، المتوفى 241 هـ - 855 م ، وصاحب المذهب الحنبلي المشهور. (ط).
ب - بقية كتب السنة وعلوم الحديث وشروحه :
47 - أحاديث الأصول للحافظ ابن كثير.
48 - الأحوذي في شرح الترمذي للإمام أبي بكر محمد بن العربي ، المتوفى سنة 543 هـ
، واسم الكتاب (عارضة الأحوذي في شرح الترمذي). (ط).
49 - الأسماء والصفات للبيهقي (أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي) ، المتوفى
سنة 453 هـ ، والكتاب يتضمن الأحاديث الواردة في أسماء الله تعالى وصفاته وهو
مطبوع بمطبعة أنوار أحمدي بالهند سنة 1313 هـ.
50 - الأربعين الطائية لأبي الفتوح محمد بن محمد بن علي الطائي الهمداني ، المتوفى
سنة 555 هـ. وقد ذكر فيه أنه أملى أربعين حديثا من مسموعاته عن أربعين شيخا ، كل
حديث عن واحد من الصحابة ، فذكر ترجمته وفضائله ، وأورد عقيب كل حديث بعض ما اشتمل
عليه من الفوائد ، وشرح غريبه وأتبع بكلمات مستحسنة وسماه (الأربعين في إرشاد
السائرين إلى منازل اليقين).
51 - الأطراف لأبي الحجاج المزي. (ط) باسم تحفة الأشراف.
52 - الأفراد للدارقطني (أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني الشافعي) المولود في دار
قطن من محال بغداد (306 هـ - 918 م) والمتوفى (385 هـ - 995 م) أما اسم الكتاب فهو
: (فوائد الأفراد).
53 - الأمالي لأحمد بن سليمان النجاد (أبي بكر أحمد بن سليمان بن الحسن الحنبلي
المعروف بالنجاد ، فقيه محدث) ، توفى 348 هـ - 960 م ، ويبدو أن كتابه هذا هو ما
أملاه في دروسه التي كان يعقدها بعد صلاة الجمعة (وكانت له حلقتان في جامع المنصور
: حلقة قبل الصلاة للفتوى على مذهب الإمام أحمد ، وبعد الصلاة لإملاء الحديث ،
واتسعت رواياته وانتشرت أحاديثه ومصنفاته ، وكان رأسا في الفقه رأسا في الحديث).
54 - الأنواع والتقاسيم في الحديث لابن حبان (الحافظ محمد بن أحمد بن حبان البستي)
المولود في بست من نواحي سجستان بين هراه وغزنة ، والمتوفى (354 هـ 965 م) (ط)
بترتيب الفارسي.
55 - الثقات لابن حبان. (ط).
56 - جامع الأصول لابن الأثير (المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني
الجزري المتوفى 606 هـ) أما الكتاب فهو (جامع الأصول من أحاديث الرسول) جمع فيه
ابن الأثير الأصول الستة : البخاري ، ومسلم ، والموطأ ، وأبو داود ، والنسائي ،
والترمذي ، وله مختصر يسمى (تيسير الوصول إلى جامع الأصول) لابن الديبع الشيباني ،
المتوفى سنة 944 هـ وهو مطبوع بالمكتبة التجارية بتحقيق الشيخ حامد الفقي ،
وبتحقيق الشيخ عبد القادر الأرناؤوط.
(1/22)
57
- جامع الثوري (سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري) ، المتوفى سنة 161هـ وجامعه يسمى
(الجامع الكبير) يجرى مجرى الحديث رواه عنه جماعة منهم يزيد بن أبي حكيم وعبد الله
بن الوليد ، وله أيضًا (كتاب الجامع الصغير وكتاب الفرائض).
58 - الجامع لآداب الراوي والسامع : للخطيب البغدادي (أبي أحمد بن علي بن ثابت
المعروف بالخطيب) ، البغدادي والمتوفى سنة 463 هـ. (ط).
59 - جامع المسانيد لابن الجوزي.
60 - الجرح والتعديل لابن أبي حاتم. (ط).
61 - جزء في الأحاديث التي تنهى عن إتيان النساء في أدبارهن للذهبي.
62 - جزء في الأحاديث الواردة في الاستغفار للدارقطني.
63 - جزء في الأحاديث الواردة في فضل الأيام العشرة من ذي الحجة لابن كثير.
64 - جزء في الأحاديث الواردة في كفارة المجلس لابن كثير.
65 - جزء في حديث الصور لابن كثير أيضًا.
66 - جزء في الرد على حديث السجل لابن كثيركذلك.
67 - الخلافيات للبيهقي. قال السبكي في طبقات الشافعية : (وأما كتاب الخلافيات فلم
يسبق إلى نوعه ، ولم يصنف مثله ، وهو طريقة مستقلة حديثة لا يقدر عليها إلا مبرز
في الفقه والحديث قيم بالنصوص). (ط).
68 - دلائل النبوة لأبي زرعة الرازي (عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد فروخ الرازي
(أبي زرعة) محدث حافظ ، توفى (264 هـ - 878 م).
69 - دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني (أحمد بن عبد الله الأصبهاني) ، المتوفى
سنة 420 هـ ، صاحب حلية الأولياء ، وكتابه ذاك ثلاثة أجزاء ، ذكر منها مؤلفها
الأحاديث الواردة في شأن النبي صلى الله عليه وسلم وما يتعلق بحياته ونشأته وبعثته
وزواجه وغزواته إلخ. وهو مطبوع بمطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر آباد الدكن بالهند
سنة 1320 هـ.
70 - دلائل النبوة للبيهقي ، وموضوعه كسالفه. (ط).
71 - السنة للطبراني ، (أبي القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني) صاحب المعاجم
الثلاثة (الكبير والأوسط والأصغر) (260 - 360 هـ).
72 - السنن لأبي بكر بن عاصم (الحافظ أحمد بن عمر الشيباني) ، المتوفى 287 هـ.
(ط).
73 - سنن أبي بكر الأثرم ، (من أصحاب أحمد بن حنبل واسمه أحمد بن محمد بن هاني
ويكنى أبا بكر) ، له من الكتب كتاب السنن في الفقه على مذهب أحمد وشواهده من
الحديث ، وكتاب التاريخ وكتاب العلل وكتاب الناسخ والمنسوخ في الحديث.
74 - سنن أبي بكر البيهقي. (ط).
(1/23)
75
- سنن الدارقطني. (ط).
76 - سنن سعيد بن منصور الخراساني ، المتوفى 227 هـ ، وله تفسير كما ذكر الثعلبي
في الكشف (ط) قسم منه.
77 - شرح البخاري للحافظ ابن كثير ، وهو من الكتب المفقودة.
78 - شرح مسلم للنووي. (ط).
79 - صحيح ابن خزيمة (محمد بن إسحاق النيسابوري) ، المتوفى سنة 311 هـ. (ط). قسم
منه.
80 - علل الخلال (أبي بكر أحمد بن محمد بن هارون البغدادي الحنبلي المعروف
بالخلال) ، المتوفى 311 هـ. (ط).
81 - المحدث الفاصل بين الراوي والواعي للرامهرمزي (الحافظ أبي محمد الحسن بن عبد
الرحمن بن خلاد الرامهرمزي) ، المتوفى 0 26 هـ 971 م. (ط).
82 - المختارة للضياء المقدسي ، واسمه "الأحاديث المختارة" يقول ابن
كثير في كتابه (اختصار علوم الحديث) : (وقد جمع الشيخ ضياء الدين محمد بن عبد
الواحد المقدسي في ذلك كتابا سماه (المختارة) ، ولم يتم ، وكان بعض الحفاظ من
مشايخنا يرجحه على مستدرك الحاكم والله أعلم) ، وعلق الشيخ شاكر على هذا فقال :
كأنه يعني شيخه الحافظ ابن تيمية ، رحمه الله ، وقال السيوطي في اللآلئ : (ذكر
الزركشي في تخريج الرافعي أن تصحيحه أعلى مزية من تصحيح الترمذي وابن حبان) وقال
ابن كثير في البداية والنهاية : (وهي أجود من مستدرك الحاكم لو كمل). (ط) قسم منه.
83 - المراسيل لأبي داود. (ط).
84 - المستخرج على البخاري للحافظ أبي بكر البرقاني (أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب
الخوارزمي) ، المتوفى 425 هـ.
85 - المستخرج على الصحيحين للضياء المقدسي.
86 - مستدرك الحاكم للنيسابوري (أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن حمد بن نعيم
الضبي النيسابوري الشهير بالحاكم وبابن البيع) ، المتوفى 404 هـ ، وكتابه يسمى
(المستدرك على الصحيحين) ، وفيه يدافع الحاكم عن كثير من الأحاديث التي لم يدخلها
البخاري ومسلم في صحيحيهما ويبرهن على أنها مستكملة لشروطهما تمامًا وإن عدلا عن
ضمها إلى كتابيهما. (ط).
87 - مسند أبي بكر البزار (أحمد بن عمرو البصري البزار) ، المتوفى 291 هـ أو 292.
(ط). قسم منه.
88 - مسند أبي بكر الحميدي (الحافظ عبد الله بن الزبير المكي) ، المتوفى 219 هـ.
(ط).
89 - مسند أبي بكر الصديق لابن كثير.
(1/24)
90
- مسند أبي داود الطيالسي ، سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي الفارسي مولى بني
الزبير المتوفى 202 هـ ، وقيل 204 هـ ، والكتاب مطبوع بحيدر آباد بالهند سنة
1321هـ.
91 - مسند أبي يعلى الموصلي (الحافظ أحمد بن علي بن المثنى الموصلي) ، المتوفى 307
هـ - 918 م. (ط).
92 - مسند الحارث بن أبي أسامة (أبي محمد الحارث بن محمد بن أبي أسامة التهيمي
البغدادي) 186 - 282 هـ.
93 - مسند الدارمي (عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي السمرقندي ، شيخ مسلم وأبي
داود والترمذي) ، المتوفى 255 هـ - 869 م ، وقد نشر الكتاب في حيدر آباد سنة 1309
هـ ، وفي دلهى سنة 1337 هـ.
94 - مسند الشافعي (الإمام الكبير صاحب المذهب المعروف باسمه محمد بن إدريس
الشافعي) المولود (150 هـ - 767 م) والمتوفى (204 هـ - 820 م) (ط).
95 - مسند ابن عباس رضي الله عنه ، الجزء الثاني منه للحافظ أبي يعلى الموصلي.
96 - مسند عبد بن حميد.
97 ، 98 - مسند عمر بن الخطاب للحافظ ابن كثير. (ط).
99 - المسند الكبير لابن كثير (واسمه جامع المسانيد والسنن الهادي لأقوم سنن).
(ط).
100 - مسند محمد بن يحيى العبدي (الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن
يحيى بن منده بن الوليد العبدي) ، المتوفى 395 هـ - 1005 م.
101 - مسند الهيثم بن كليب (ابن شريح الشاشي أبي سعيد) ، المتوفى 335 هـ - 945 م
وكتابه يسمى (المسند الكبير في الحديث) في مجلدين. (ط) قسم منه.
102 - مشكل الحديث لأبي جعفر الطحاوي (أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي المصري
الطحاوي) ، المتوفي 321 ، وقيل : 322 هـ. (ط).
103 - مشكل الحديث لابن قتيبة (عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري أبي محمد) ،
213 - 276 هـ. (ط).
104 - مصنف عبد الرزاق الصنعاني. (ط).
105 - المطولات للطبراني. (ط).
106 - معجم أبي العباس الدغولي ، المتوفى (325 هـ - 937 م) (أبي العباس محمد بن
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله السرخسي الدغولي).
107 - معجم أبي القاسم البغوي (عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، ويعرف
بابن بنت منيع) المتوفى 317 هـ ، وله المعجم الكبير والمعجم الصغير وكتاب السنن
على مذاهب الفقهاء.
108 - المعجم الكبير للطبراني. (ط).
(1/25)
109
- الموضوعات لأبي الفرج الجوزي. قال ابن كثير عنه : (وقد صنف الشيخ أبو الفرج
الجوزي كتابًا حافلا في الموضوعات غير أنه أدخل فيه ما ليس منه وخرج عنه ما كان
يلزمه ذكره فسقط عليه ولم يهتد إليه). (ط) الصغرى منه.
110 - الموطأ للإمام مالك. (ط).
111 - نوادر الأصول للترمذي واسم الكتاب كاملا (نوادر الأصول في معرفة أحاديث
الرسول) لأبي عبد الله محمد بن علي الحكيم الترمذي. (ط). مجردا عن الأسانيد.
رابعا : مصادره في الفقه وأصوله :
112 - الأحكام الكبرى للحافظ ابن كثير.
113 - الإرشاد في أصول الفقه لإمام الحرمين الجويني أبي المعالى عبد الملك بن عبد
الله بن يوسف المتوفى 478 هـ. (ط).
114 - الاستذكار لأبي عمر بن عبد البر (يوسف بن عبد البر النمري القرطبي الأندلسي)
، المتوفى 643. (ط).
115 - الإملاء للإمام الشافعي.
116 - الأم للإمام الشافعي. (ط).
117 - الأموال الشرعية وبيان جهاتها ومصارفها لأبي عبيد القاسم بن سلام. (ط).
118 - الإيجاز في علم الفرائض لابن اللبان (أبي الحسين محمد بن عبد الله بن اللبان
المصري) ، المتوفى 402 هـ.
119 - الإيضاح لأبي علي الطبري (أبي علي الحسن بن القاسم الطبري الشافعي) ،
المتوفى 305 هـ ، واسم الكتاب (الإيضاح في الفروع).
120 - الحواشي للمنذري (للحافظ عبد العظيم بن عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله
المنذري زكي الدين أبي محمد محدث فقيه).
121 - جزء في تطهير المساجد لابن كثير.
122 - جزء في الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها.
123 - جزء في فضل يوم عرفة لابن كثير.
124 - جزء في الميراث لابن كثير.
125 - الشامل للصباغ (واسمه الشامل في فروع الشافعية) لأبي نصر عبد السيد بن محمد
المعروف بابن الصباغ الشافعي ، المتوفى 477 هـ ، قال ابن خلكان : وهو من أجود كتب
الشافعية وأصحها نقلا.
126 - شرح المهذب للنووي. قال ابن كثير : (اعتنى - النووي - بالتصنيف فجمع شيئًا
كثيرًا ، منها ما أكمله ، ومنها ما لم يكمله ، فما كمل شرح مسلم والروضة ،
والمنهاج ، والرياض ، والأذكار ،
(1/26)
والتبيان
، وتحرير التنبيه وتصحيحه وتهذيب الأسماء واللغات وطبقات الفقهاء وغير ذلك. ومما
لم يتمه - ولو كمل لم يكن له نظير في بيان : شرح المهذب الذي سماه (المجموع) وصل
فيه إلى كتاب الربا فأبدع فيه وأجاد ، وأفاد وأحسن الانتقاء وحرر الفقه فيه في
المذهب وغيره وحرر الحديث على ما ينبغي. (ط).
127 - الشرح الكبير للرافعي ( أبي القاسم عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم
القزويني الرافعي) ، المتوفى سنة 623 هـ ، وكتابه يسمى : (العزيز في شرح الوجيز)
وله أيضًا الشرح الصغير) و (المحرر) و (شرح مسند الشافعي). (ط).
128 - الصلاة للمروزي (أبي عبد الله محمد بن نصر المروزي) كان من أشهر المحدثين في
زمانه) ، توفى 294 هـ - 906 م. (ط).
129 - الصيام لابن كثير.
130 - العبادة للكامل الهذلي (أبي القاسم يوسف بن علي بن جبارة بن محمد الهذلي
المغربي المتوفى 465 هـ - 1074 م).
131 - العدة للرافعي.
132 - فضائل الأوقات للبيهقي.
133 - فضائل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لأحمد بن فارس اللغوي ، أبي
الحسين القزويني ، المتوفى (395 هـ - 1004) م.
134 - فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم للقاضي إسماعيل بن إسحاق بن
إسماعيل الأذري أبي إسحاق ، المتوفى 282 هـ - 896 م. (ط).
135 - كتاب جمعه الذهبي في الكبائر. (ط).
136 - كتاب لابن تيمية في إبطال التحليل تضمن النهي عن تعاطي الوسائل المفضية إلى
كل باطل. (ط). ضمن الفتاوى.
137 - كشف الغطا في تبيين الصلاة الوسطى للحافظ أبي محمد عبد المؤمن بن خلف
الدمياطي.
138 - المحلى لابن حزم ( أبي محمد بن حزم علي الظاهري) ، المتوفى 456 هـ. (ط).
139 - المختصر للإمام الشافعي.
140 - مصنف للإمام أبي عبد الله البخاري في مسألة القراءة خلف الإمام. (ط).
141 - المقدمات لابن كثير.
142 - النهاية للإمام الجويني ، واسم الكتاب (نهاية المطلب في دراية المذهب).
143 - الياسق لجنكيزخان المتوفى (624 هـ) والكتاب عبارة عن أحكام اقتبست من شرائع
شتى من اليهودية والنصرانية والإسلام وغير ذلك وكان دستور التتار.
(1/27)
خامسا
: في التاريخ والسير والتراجم :
144 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر. (ط).
145 - أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير. (ط).
146 - أسماء الصحابة للحافظ أبي نعيم الأصبهاني.
147 - الإكليل للهمذاني (أبي محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمذاني اليمني) ،
المتوفى سنة 334 هـ ، والكتاب يسمى "الأكامل في أنساب حمير وأيام
ملوكها" وهو كتاب عظيم الفائدة يتم في عشر مجلدات ، ويشتمل على عشرة متون.
148 - البداية والنهاية لابن كثير. (ط).
149 - تاريخ الخطيب للبغدادي. ( ط).
150 - تاريخ ابن عساكر (علي بن الحسن) ، المتوفى سنة 571 هـ. (مخطوط).
151 - التاريخ الكبير للإمام البخاري. (ط).
152 - تاريخ مكة للأزرقي (أبي الوليد محمد بن عبد الله الأزرقي) ، توفى بعد سنة
244 هـ بقليل. (ط).
153 - تهذيب الأسماء واللغات للنووي "جمع فيه الأسماء والألفاظ الموجودة في
كتب : مختصر أبي إبراهيم المزني ، والمهذب ، والتنبيه ، والوسيط ، والوجيز ،
والروضة ، وهو الكتاب الذي اختصرته من شرح الوجيز للإمام أبي القاسم
الرافعي". (ط).
154 - التنوير في مولد السراج المنير للحافظ أبي الخطاب عمر بن دحية (عمر بن الحسن
بن علي بن محمد بن دحية الكلبي الأندلسي الظاهري المذهب "مجد الدين - أبي
الخطاب - أبي الفضل - أبي حفص" ، المحدث الحافظ ، المتوفى 632 هـ - 1235 م).
155 - جزء في فتح القسطنطينية للحافظ ابن كثير.
156 - الروض الأنف للسهيلي (عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي) ، المتوفى 581 هـ -
1185م ، وكتابه يدعى "الروض الأنف الباسم" في شرح السيرة. (ط).
157 - سيرة عمر بن الخطاب لابن كثير.
158 ، 159 - السيرة لابن كثير (مطولة وموجزة). (ط).
160 - سيرة الفقهاء للفقيه يحيى بن إبراهيم بن مزين الطليطلي أبي زكريا من أهل
قرطبة بالأندلس.
161 - الشفاء للقاضي عياض اليحصبي ، المتوفى (544 هـ - 1149 م). (ط).
162 - الطبقات الكبرى لابن سعد (أبي عبد الله محمد بن سعد بن منيع) تلميذ الواقدي
ومساعده ، فلقب من أجل ذلك ، كان الواقدي توفي (0 23 هـ 845 م). (ط).
163 - معرفة الصحابة لابن منده (أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد المعروف بابن
منده ، حفيد أبي عبد الله محمد بن يحيى).
(1/28)
164
- معرفة الصحابة للموصلي (الحافظ أبي يعلى الموصلي).
165 - مغازي الأموي سعيد بن يحيى الأموي.
166 - مغازي عبد الله بن لهيعة ، المتوفى (174 هـ 790م).
167 - المغازي لمحمد بن إسحاق بن يسار ، صاحب السيرة ، المتوفى (150 أو ؟ هـ). (ط)
قسم منه.
168 - المغازي لموسى بن عقبة بن أبي العباس الأسدي ، المتوفى سنة 141 هـ.
169 - (نهاية البداية والنهاية) لابن كثير ، وقد ذكره بقوله (كتاب في التحذير من
الفتن). (ط).
سادسا : في علوم اللغة :
170 - الجمل لابن القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي.
171 - الزاهر لابن الأنباري (أبي بكر محمد بن القاسم بن محمد بن بشار المشهور بابن
الأنباري المتوفى 228 هـ). (ط).
172 - الصحاح لأبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري ، المتوفى 393 هـ وقيل : 398 أو
400 هـ. (ط).
173 - الغريب لأبي عبيد القاسم بن سلام. (ط).
هذه أربعة كتب في علوم اللغة ، منها ما ذكر مرة واحدة "كالزاهر" لابن
الأنباري ، ومنها ما ذكر كثيرًا كالغريب والصحاح : أما "الجمل" فكان
يرجع إليه ابن كثير إذا احتاج إليه في مسألة نحوية أو تركيب لغوي.
سابعا : مصادر في موضوعات مختلفة :
174 - إثبات عذاب القبر للبيهقي.
175 - الأذكار للنسائي.
176 - الأذكار للنووي. (ط).
177 - الأذكار للمعري (الحسن بن علي بن شبيب بن المحدثين الفقهاء).
178 - الأذكار وفضائل الأعمال للحافظ ابن كثير.
179 - الأشراف على مذاهب الأشراف للوزير أبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة ،
المتوفى 560 هـ - 1165 م.
180 - الاعتقاد للبيهقي. (ط).
181 - الأنباه على ذكر أصول القبائل الرواة لابن عبد البر.
182 - الأهوال لابن أبي الدنيا (أبي بكر عبد الله أو عبد الله بن محمد بن أبي
الدنيا القرشي بالولاء) ، المتوفى 281 هـ - 894 م. (ط).
183 - التذكرة للقرطبي. (ط).
184 - التفكر والاعتبار لابن أبي الدنيا.
(1/29)
185
- التقوى لابن أبي الدنيا.
186 - التوحيد للإمام ابن إسحاق بن خزيمة.
187 - جزء في الإسراء والمعراج للحسن بن عرفة بن يزيد العبدي البغدادي (أبي علي) ،
المحدث.
188 - جزء في دخول مؤمن الجن الجنة لابن كثير.
189 - جزء مجموع في الجراد لابن عساكر.
190 - خطبة لمروان بن الحكم.
191 - الخمول والتواضع لابن أبي الدنيا. (ط).
192 - ذم الطفيليين للخطيب البغدادي.
193 - ذم المسكر لابن أبي الدنيا. (ط).
194 - الرد على الجهمية للإمام أحمد بن حنبل. (ط).
195 - الرد على الجهمية للدارمي (عثمان بن سعيد بن خالد التميمي الدارمي (أبي
سعيد) المتوفى 280 هـ - 894 م). (ط).
196 - الزهد لعبد الله بن المبارك ، ويكنى أبا عبد الرحمن ، المتوفى سنة 181 هـ.
(ط).
197 - السابق واللاحق للخطيب البغدادي.
198 - السر المكتوم في مخاطبة الشمس والنجوم ، المنسوب لأبي عبد الله الرازي.
199 - صفة أهل الجنة للحافظ أبي عبد الله المقدسي.
200 - صفة العرش لمحمد بن عثمان بن أبي شيبة ، المتوفى سنة 297 هـ.
201 - صفة النار للحافظ ابن كثير.
202 - العجائب الغريبة للحافظ محمد بن المنذر (أبي عبد الرحمن محمد بن المنذر بن
سعيد بن عثمان السلمي المعروف بشكر).
203 - الفكاهة للزبير بن بكار (أبي عبد الله الزبير بن بكار بن أحمد بن مصعب بن
ثابت بن عبد الله بن الزبير) ، المتوفى 256 هـ - 870 م.
204 - القبور لابن أبي الدنيا.
205 - القصد والأمم بمعرفة أصول أنساب العرب لابن عبد البر.
206 - كتاب في الروح للحافظ أبي عبد الله بن منده.
207 - ما قررته المجامع النصرانية سنة 400 هـ نقلا عن سعيد بن بطريق ، يعد من
علماء النصارى.
208 - مسانيد الشعراء لابن مردويه.
209 - مساوئ الأخلاق (الجزء الثاني منه) لأبي بكر الخرائطي (محمد بن جعفر بن سهل
الخرائطي) ، المتوفى 327 هـ - 938 م. (ط).
210 - المستقصى للحافظ البهائي.
(1/30)
211
- المشهور في أسماء الأيام والشهور للشيخ علم الدين السخاوي. (علي بن محمد بن عبد
الرحمن الهمذاني شيخ القراء بدمشق المتوفى 643 هـ).
212 - المعارف لابن قتيبة. (ط).
213 - مقدمة في الأنساب لابن كثير.
214 - مقصورة ابن دريد (أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد المتوفى سنة 321 هـ).
215 - مكارم الأخلاق للخرائطي. (ط).
216 - النسب للزبير بن بكار. (ط).
217 - نوادر الأصول للقرطبي.
هذه مصادر ابن كثير ، رحمه الله ، في تفسيره ، ومن خلال هذا العدد الهائل من
المصادر يتضح لنا الجهد العظيم الذي بذله الحافظ ابن كثير ، رحمه الله ، في إخراج
كتابه.
4 - رأيه في الإسرائيليات :
الحافظ ابن كثير ، رحمه الله له كلمات قوية في شأن الإسرائيليات وروايتها ،
وتفسيره يعد من الكتب الخالية من الإسرائيليات ، اللهم إلا القليل الذي يحكيه ثم
ينبه عليه ، والنادر الذي يسكت عنه ، وقد نبهت عليه في الحاشية.
ومن كلماته في الإسرائيليات (1)
قال في مقدمة تفسيره - بعد أن ذَكر حديثَ "بلّغُوا عنِّي ولو آيةً ، وحدِّثوا
عن بني إسرائيل ولا حَرَجَ ، ومن كذب عليّ متعمدًا فليتبوأْ مقعده من النار"
- : "ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تُذكر للاستشهاد ، لا للاعتضاد. فإنها
على ثلاثة أقسام : أحدها : ما علمنا صحتَه مما بأيدينا مما نشهدُ له بالصدق ، فذاك
صحيح. والثاني : ما علمنا كذبَه بما عندنا مما يخالفه. والثالث : ما هو مسكوت عنه
، لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل ، فلا نؤمِنُ به ولا نكذّبه ، وتجوزُ
حكايتُه لما تقدّم. وغالبُ ذلك مما لا فائدة فيه تعودُ إلى أمرٍ دينيّ. ولهذا
يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيرًا ، ويأتي عن المفسرين خلافٌ بسبب ذلك.
كما يَذكرون في مثل أسماء أصحاب الكهف ولون كلبهم وعِدّتهم ، وعصا موسى من أيِّ
شجر كانت ؟ وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم ، وتعيين البعض الذي ضُرِبَ
به القتيلُ من البقرة ، ونوع الشجرة التي كلَّم الله منها موسى إلى غير ذلك مما
أبهمه الله تعالى في القرآن ، مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم
ولا دينهم. ولكن نقلُ الخلاف عنهم في ذلك جائز. كما قال تعالى : { سَيَقُولُونَ
ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } إلى آخر الآية [الكهف : 22].
وقال عند تفسير الآية : (50) من سورة الكهف - بعد أن ذكر أقوالا في
"إبليس" واسمه ومن أيّ قبيلٍ هو ؟! - : "وقد رُوى في هذا آثار
كثيرة عن السلف ، وغالبُها من الإسرائيليات التي تُنقل ليُنْظَر فيها ، والله أعلم
بحال كثير منها ، ومنها ما قد يُقْطَع بكذبه ، لمخالفته للحقّ الذي بأيدينا.
__________
(1) استفدت هذه الكلمات من عمدة التفسير للشيخ أحمد شاكر (1/14 - 18) ومن كتاب
"ابن كثير وتفسيره" للدكتور إسماعيل عبد العال (ص 228 - 232).
(1/31)
وفي
القرآن غُنْيَةٌ عن كلّ ما عداه من الأخبار المتقدمة ؛ لأنها لا تكاد تخلو من
تبديل وزيادة ونقصان ، وقد وُضِعَ فيها أشياء كثيرة. وليس لهم من الحفّاظ
المُتْقِنين الذين يَنْفُون عنها تحريفَ الغَالِين وانتحال المبطلين ، كما لهذه
الأمة من الأئمة والعلماء ، والسادة والأتقياء ، والبررة والنجباء ، من الجهابذة
النقّاد ، والحُفَّاظ الجياد ، الذين دَوَّنوا الحديث وحَرَّرُوه ، وبيَّنوا
صحيحَه من حَسَنه من ضعيفه ، من منكَره وموضوعه ومتروكه ومكذوبه ، وعرفوا
الوضَّاعِين والكذّابين والمجهولين ، وغير ذلك من أصناف الرجال. كلُّ ذلك صيانةً
للجناب النبويّ والمقام المحمديّ ، خاتم الرسل وسيد البشر ، صلى الله عليه وسلم -
أن يُنْسَب إليه كذبٌ أو يُحَدَّثَ عنه بما ليس منه. فرضي الله عنهم وأرضاهم ،
وجَعَل جنّاتِ الفردوس مأواهم. وقد فَعَلَ".
وقال عند تفسير الآيات (51 - 56) من سورة الأنبياء ، بعد إشارته إلى حال إبراهيم ،
عليه السلام ، مع أبيه ، ونظره إلى الكواكب والمخلوقات - : "وما قَصَّه كثيرٌ
من المفسّرين وغيرهم ، فعَامّتُها أحاديثُ بني إسرائيل. فما وافقَ منها الحقّ مما
بأيدينا عن المعصوم قَبِلْناه ، لموافقته الصحيح ، وما خالف منها شيئًا من ذلك
ردَدْناه ، وما ليس فيه موافقةٌ ولا مخالفةٌ ، لا نصدّقه ولا نكذّبه ، بل نجعله وَقْفًا.
وما كان من هذا الضَّرْبِ منها فقد رخَّص كثير من السلف في روايته. وكثيرٌ من ذلك
مما لا فائدة فيه ، ولا حاصلَ له مما يُنْتَفَع به في الدّين. ولو كانت فائدتُه
تعود على المكلَّفين في دينهم لبيَّنَتْه هذه الشريعةُ الكاملةُ الشاملةُ. والذي
نَسْلُكُه في هذا التفسير الإعراضُ عن كثير من الأحاديث الإسرائيلية ، لما فيها من
تضييع الزمان ، ولما اشتَمل عليه كثيرٌ منها من الكذب المُرَوَّج عليهم. فإنهم لا
تَفْرِقَةَ عندهم بين صحيحها وسقيمها. كما حَرّره الأئمةُ الحُفّاظ المُتْقِنُون
من هذه الأمة".
وقال عند تفسير الآية : (102) من سورة البقرة : "وقد رُوي في قصة هاروتَ
وماروتَ عن جماعة من التابعين ، كمجاهد والسُّدي والحسن البصري وقتادة وأبي
العالية والزهري والرَّبيع بن أنس ومقاتل ابن حيّان وغيرهم ، وقصَّها خلقٌ من
المفسّرين ، من المتقدّمين والمتأخرين. وحاصلُها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني
إسرائيل ، إذ ليس فيها حديثٌ مرفوع صحيح متّصلُ الإسناد إلى الصادق المصدوق
المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى. وظاهرُ سياق القرآن إجمالُ القصة من غير بسْطٍ ولا
إطنابٍ فيها ، فنحن نؤمِن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى ، والله أعلم
بحقيقة الحال".
وقال في أول سورة ق : "وقد رُوي عن بعض السلف أنهم قالوا : ق ، جبل مُحيطٌ
بجميع الأرض ، يقال له جبل قاف!!! وكأنّ هذا - والله أعلم - من خرافات بني إسرائيل
التي أخذها عنهم بعضُ الناس ، لِمَا رأَى من جواز الرواية عنهم مما لا يصدَّق ولا
يُكَذَّب. وعندي أن هذا وأمثالَه وأشباهَه من اختلاقِ بعض زنادقتهم ، يَلْبِسُون
به على الناس أمرَ دينهم. كما افْتُريَ في هذه الأمة - مع جلالة قدر علمائها
وحُفّاظها وأئمتها - أحاديثُ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وما بالعَهْدِ من
قِدَمٍ. فكيف بأمةِ بني إسرائيل ، مع طول المَدَى ، وقلة الحُفَّاظ النُّقَّاد
فيهم ، وشربهم الخمور ، وتحريف علمائِهم الكلمَ عن مَوَاضعه وتبديلِ كُتُب الله
وآياتِه. وإنما أباح الشارعُ الروايةَ عنهم في قوله : "وحدثوا عن بني إسرائيل
ولا حرج" فيما قد يُجَوِّزُه العقل. فأما فيما تحِيلُه العقول ، ويُحْكَم فيه
بالبُطلان ، ويَغْلبُ على الظنون كذبُه ، فليس من هذا القبيل".
(1/32)
وقال
عند تفسير الآيات (41 - 44) من سورة النمل - وقد ذكر في قصة ملكة سبأ أثرًا طويلا
عن ابن عباس ، وَصَفَه بأنه "منكر غريب جدًا" - ثم قال : "والأقربُ
في مثل هذه السياقات أنها متلقَّاةٌ عن أهل الكتاب ، مما وُجد في صُحُفهم ،
كروايات كعب ووَهْب ، سامحهما الله فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل
، من الأوابد والغرائب والعجائب ، مما كان وما لم يكن ، ومما حُرِف وبدِّل
ونُسِخَ. وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصحُّ منه وأنفعُ وأوضحُ وأبلغُ.
ولله الحمد والمنة".
وقال عند تفسير الآية : (46) من سورة العنكبوت - بعد أن رَوَى الحديث : "إذا
حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم" - قال : "ثم ليُعلم أن أكثر
ما يتحدثون به غالبه كذب وبهتان لأنه قد دخله تحريف وتبديل وتغيير وتأويل وما أقل
الصدق فيه ، ثم ما أقل فائدته".
وقال عند تفسير قوله تعالى : { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى } [طه : 18] :
"أي مصالح ومنافع وحاجات أخرى غير ذلك ، وقد تكلف بعضهم لذكر شيء من تلك
المآرب التي أبهمته ، فقيل : كانت تضيء له بالليل ، وتحرس له الغنم إذا نام ، ويغرسها
فتصير شجرة تظله ، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة ، والظاهر أنها لم تكن كذلك
، ولو كانت كذلك لما استنكر موسى ، عليه الصلاة والسلام ، صيرورتها ثعبانًا ، فما
كان يفر منها هاربًا ، ولكن كل ذلك من الأخبار الإسرائيلية".
5 - العنوان والتوثيق :
إن صحة نسبة كتاب التفسير للحافظ ابن كثير أمر مقطوع به ، ولولا أن الباحثين
اعتادوا ذكر هذا الفصل وإلا لما ذكرته لشهرة هذا التفسير.
وممن ذكر هذا التفسير وعزاه لمؤلفه :
1 - الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف.
2 - الحافظ ابن حجر في فتح الباري.
3 - ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية.
4 - السيوطي في الدر المنثور.
5 - الشوكاني في فتح القدير.
6 - الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تيسير العزيز
الحميد.
7 - الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في فتح المجيد.
وأما عنوانه ، فالمشهور "تفسير القرآن العظيم" ، وجاء ذلك على طرة
النسخة "ط" ، وبعض النسخ تسميه : "تفسيرابن كثير".
6 - نسخ الكتاب :
يعتبر تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير من الكتب التي انتشرت في خزائن
المكتبات الإسلامية ، فقد وجدت نسخه في مكة والرياض ومصر واسطنبول والهند والمغرب
وإيرلندا وباريس.
(1/33)
والاختلاف
بين هذه النسخ اختلاف كبير ، فالنسخ التي في الرياض مثلا يغلب عليها الاختصار وحذف
الأسانيد والتصرف في الكتاب ، هذا في الغالب فلا يستغرب ، أو أقول : لا يعتمد أن
توجد نسخة ليس فيها قصة العتبي المذكورة في سورة النساء ؛ لأن هذه النسخة حديثة
جدًا مع ما ذكرت من المنهج في النسخ الموجودة في نجد وغيرها من النسخ المعتمدة ذكر
هذه القصة ، وقد نبهت عليها في موضعها.
وكم يجد الباحث نفسه متحيرًا أمام إثبات نص ثبت في نسخة ولم يثبت في الأخرى ، لذلك
فقد حاولت قدر المستطاع جمع مخطوطات الكتاب لكي تزول هذه العقبة فوقع لي - والحمد
لله - قدر منها ، وإليك وصفها :
1 - النسخة الأزهرية (هـ) :
وأحيانًا أطلق عليها الأصل.
وهي نسخة محفوظة بمكتبة الأزهر برقم (168) تفسير ، وتحتوي على الكتاب كاملا في
سبعة مجلدات ، وفي المجلد الثالث منها خروم.
وصفها الشيخ أحمد شاكر بأنها : نسخة يغلب عليها الصحة ، والخطأ فيها قليل.
وطبعت بدار الشعب سنة (1390 هـ) بتحقيق عبد العزيز غنيم ، ومحمد أحمد عاشور ،
ومحمد إبراهيم البنا.
وبالتتبع فإنها نسخة جيدة ، لكنها لا توصف بأنها أصح النسخ ، بل غيرها أفضل منها
لو كمل. وقد اعتمدت على طبعة دار الشعب المأخوذة عن هذه النسخة لأمرين :
الأول : أني حاولت الحصول على مصورة لهذه النسخة فلم أستطع ، فأرسلت إلى المكتبة
طلبًا للتصوير ، ثم أرسلت الطلب بصورة رسمية عن طريق جامعة الإمام محمد بن سعود
الإسلامية ، ثم علمت بعد ذلك أن هذا دأب هذه المكتبة ، وأخبرت عن طرق لاستخراج
المخطوطة من هذه المكتبة لكن هذه الطرق ليست موافقة لعملي.
الثاني : أن عمل الأخوة في طبعة الشعب عمل جيد في إخراج النص حسب ما ورد في
المخطوطة ، ولهم اجتهادات أصابوا في بعضها وأخطؤوا في بعضها ، فأقررتهم على ما
أصابوا فيه ، ولم أوافقهم على ما +أخطئوا فيه ، وقد اعتمدت إشاراتهم إلى المخطوطة
في الهامش ، فاستفدت منها وسلكت في ذلك مسلكًا جيدًا حتى كأن العمل على المخطوطة
لا المطبوعة.
الناسخ : محمد بن علي الصوفي.
تاريخ النسخ : فرغ الكاتب من نسخها في العاشر من جمادى الأولى سنة (825 هـ).
عدد الأوراق : 2195.
2 - نسخة تشستربتي (ط) :
وهي نسخة محفوظة بمكتبة تشستربتي بإيرلندا برقم (3430) ، وتحتوي على الجزء الأول
ويبدأ
(1/34)
من
أول التفسير وينتهي بتفسير الآية { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا
وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } الآية : [البقرة : 218] ، وهو آخر الجزء التاسع
من أجزاء المؤلف ، وفيها سقط وبها حواش من خط المؤلف وعليها تصحيحات ، وهي من
مصورات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، وهي في غاية الدقة والحسن لو كملت.
الناسخ : أحمد بن محمد بن المحب ، المتوفى سنة (776 هـ) ، وله ترجمة في الدرر الكامنة
(1\ 244).
تاريخ النسخ : يظهر أنها كتبت في عهد المؤلف ، فيها حواش بخطه ، وكاتبها توفى سنة
(776 هـ) أي بعد وفاة الحافظ ابن كثير بعامين.
عدد الأوراق : 224 مقاس 18.3 × 26.7 سم.
عدد الأسطر : 27 سطرا.
الخط : نسخ معتاد ممتاز.
3 - نسخة تشستربتي (ب) :
وهي نسخة محفوظة بمكتبة تشستربتي بإيرلندا برقم (4052) ، وتحتوي على الجزء الأول -
ناقص بشيء يسير من المقدمة - ويبدأ بـ "فإن قال قائل : فما أحسن طرق التفسير
؟ " وينتهي بتفسير الآية : (47) من سورة البقرة وهي قوله تعالى { يَابَنِي
إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ }
بها حواش كثيرة وتصحيحات ، والحبر منتشر على بعض الصفحات.
وهي من مصورات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
الناسخ : لم يعرف ، والظاهر أنه معاصر للمؤلف.
تاريخ النسخ : كتبت في القرن الثامن تقديرًا ، أي : في عهد المؤلف ، رحمه الله.
عدد الأوراق : 177 مقاس 15.5 × 22 سم.
عدد الأسطر : 19 سطرا.
الخط : نسخ معتاد جيد.
4 - نسخة الحرم المكي (جـ) :
وهي نسخة محفوظة بمكتبة الحرم المكى بمكة المكرمة برقم (91) وتحتوي على الجزء
الأول ، ويبدأ بأول التفسير ، وينتهي عند قوله تعالى { إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } الآية [النساء : 31].
وكأن النسخة ملفقة من نسختين ، فإن الخط يستمر نسخًا معتادًا إلى الآية (255) من
سورة البقرة ثم خط مغاير وهو أقدم من الأول ويستمر إلى الآية المذكورة.
وعلى النسخ أثر البلل في كثير من أوراقه.
الناسخ : لم يعرف.
(1/35)
تاريخ
النسخ : جاء بعد تفسير الآية (255) من سورة البقرة وهو نهاية الخط الأول :
"وكان الفراغ من نسخ هذا الجزء يوم السبت المبارك في ثمانية وعشرين مضين من
شهر جمادى الآخر من شهور سنة ستة وعشرين ومائتين وألف من الهجرة النبوية" ،
والخط الآخر لعله من خطوط القرن العاشر.
عدد الاوراق : 411 مقاس 29 ×20 سم.
عدد الأسطر : 20 - 25 سطرًا.
5 - نسخة الحميدية (أ) :
وهي نسخة محفوظة بالمكتبة الحميدية بتركيا ، وتحتوي على الكتاب كاملا وخطها دقيق
ومزينة بالذهب ، وهي حديثة ومنقولة عن نسخة معتمدة.
الناسخ : لم يعرف.
تاريخ النسخ : كتبت سنة ( ؟).
عدد الأسطر : 35 - 40 سطرا.
6 - نسخة الحرم المكي (ف) :
وهي نسخة محفوظة بمكتبة الحرم المكي بمكة المكرمة برقم (91) وتحتوي على تفسير أول
سورة النمل إلى نهاية تفسير سورة الأحزاب.
وهي نسخة رديئة وخطها متحد مع خط القسم الثاني من النسخة (ج) ، وبها أثر الرطوبة.
الناسخ : لم يعرف.
تاريخ النسخ : لعله من خطوط القرن العاشر.
عدد الأوراق : 236 مقاس 29 × 20 سم.
عدد الأسطر : 37 سطرًا.
7 - نسخة الحرم المكي (ك) :
وهي نسخة محفوظة بمكتبة الحرم المكي بمكة برقم (91) ، وتبدأ من أول سورة الأعراف ،
وتنتهي بنهاية تفسير سورة التوبة.
والنسخة جيدة ، وعليها تصويبات وتقييدات بالهامش وفيها أثر رطوبة.
الناسخ : لم يعرف.
تاريخ النسخ : كتبت سنة (780 هـ).
عدد الأوراق : 228 مقاس 27× 18 سم.
عدد الأسطر : 26 سطرًا.
الخط : نسخ معتاد قديم.
(1/36)
8
- نسخة جامعة الرياض (د) :
وهي نسخة محفوظة بجامعة الملك سعود بالرياض برقم (4052) وتبدأ من تفسير الآية : 31
من سورة النساء ، وتنتهي بتفسير الآية 36 من سورة التوبة.
وهي نسخة حديثة وخطها مقروء ، لكن يغلب عليها الاختصار وحذف الأسانيد.
الناسخ : لم يعرف.
تاريخ النسخ : كتبت في حدود سنة ( 1155 هـ) أو بعدها بقليل.
عدد الأوراق : 218.
عدد الأسطر : 23 سطرًا.
9 - نسخة الحرم المكي (س) :
وهي نسخة محفوظة بمكتبة الحرم المكي برقم (91) ، وتبدأ بتفسير سورة سبأ وتنتهي
بتفسير سورة فصلت.
وهي نسخة مقابلة على أصل المؤلف ، كما جاء في آخر ورقة ، وعليها أثر البلل في كثير
من أوراقها.
الناسخ : محمد بن بهاء الدين عبد الله الشجاعي.
تاريخ النسخ : سنة (769 هـ).
عدد الأوراق : 178 مقاس : 26 × 18 سم.
عدد الأسطر : 24 سطرًا.
الخط : نسخ معتاد.
10 - نسخة مكتبة الأوقاف ببغداد (م) :
وهي نسخة قديمة ، وهي أقدم نسخ التفسير ، والموجود منها ثلاثة أجزاء ، الجزء
الرابع في مكتبة تشستربتي برقم (3143) ، ويبدأ بتفسير سورة الأنعام ، وينتهي
بتفسير الآية (60) من سورة الأنفال. والجزآن التاسع والعاشر محفوظان بمكتبة الحرم
المكي برقم (91) ويبدأ الجزء التاسع بتفسير سورة الشورى وينتهي العاشر بآخر الكتاب
، وبذيله كتاب فضائل القرآن ، وطرة الجزآن مزخرفة بشكل بديع بالذهب ، ومكتوب فيها
عنوان الكتاب ، وعلى النسخة أثر البلل في كثير من أوراقه.
الناسخ : محمد بن أحمد بن معمر المقري البغدادي.
تاريخ النسخ : سنة (759 هـ).
عدد الأوراق : المجلد الرابع : 229 ، والمجلد التاسع : 275 ، المجلد العاشر : 238
مقاس : 29 × 19 سم.
عدد الأسطر : 21 سطرًا.
(1/37)
الخط
: نسخ معتاد واضح.
11 - نسخة آيا صوفيا (و) :
وهي نسخة محفوظة بمكتبة آياصوفيا بتركيا برقم (122) ، وتبدأ بأول الكتاب ، وتنتهي
بنهاية تفسير سورة آل عمران ، وهي نسخة بديعة وقديمة ولو كملت لكانت أصح النسخ.
وقد ذكر بروكلمان في تاريخ الأدب العربي أنها موجودة بعدة أرقام ، ففرحت بذلك ،
وكلفت أحد الأخوة بالبحث عن هذه الأرقام ، فزار المكتبة ووجد أن تلك الأرقام هي
أرقام لتفسير معالم التنزيل للبغوي ، رحمه الله.
وهذه النسخة مقابلة بنسخة مقروءة على المؤلف ، رحمه الله.
الناسخ : لم يعرف.
تاريخ النسخ : سنة (806 هـ).
عدد الأوراق : 418.
عدد الأسطر : 17 سطرًا.
12 - نسخة ولي الدين جار الله (ر) :
وهي نسخة محفوظة بمكتبة ولي الدين جار الله بتركيا ، وتبدأ بتفسير سورة آل عمران
وتنتهي بتفسير الآية : 95 من سورة المائدة. وهذا هو الجزء الثاني من هذه النسخة.
الناسخ : لم يعرف.
تاريخ النسخ : سنة (837 هـ).
عدد الأوراق : 330.
عدد الأسطر : 23 سطرًا.
13 - نسخة ولي الدين جار الله (ت) :
وهي نسخة محفوظة بمكتبة ولي الدين جار الله بتركيا ، وهي مجلدان : المجلد الرابع :
ويبدأ من تفسير سورة التوبة ، وينتهي بنهاية تفسير سورة الحج.
المجلد الخامس - هكذا وأظن صوابه السادس - : ويبدأ من تفسير أول القصص حتى آخر
سورة الحجرات.
الناسخ : علي بن يعقوب الشهير بابن المخلص.
تاريخ النسخ : سنة (799 هـ).
عدد الأوراق : المجلد الرابع : 327 والمجلد الخامس : 284.
عدد الأسطر : 25 - 27 سطرًا.
(1/38)
النسخ
المساعدة :
14 - نسخة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية :
وهي محفوظة برقم (3613) ، وتحتوي على أول الكتاب إلى نهاية تفسير سورة آل عمران ،
وعدد أوراقها : 205.
الناسخ : سعد بن كسران.
تاريخ النسخ : النسخة حديثة وتاريخها قريب فيما أظن وهي وقف على أهل بلدة الحريق ،
قرب الرياض.
15 - نسخة مؤسسة الملك فيصل الخيرية :
وهي نسخة حديثة كتبت سنة 1294 هـ ، وتحتوي على أول الكتاب إلى نهاية تفسير سورة آل
عمران ، وهي مهداة للمؤسسة ، وعليها وقف باسم إبراهيم بن عبد اللطيف سنة 1306 هـ.
وعدد أوراقها : 398.
16 - طبعة دار الراية بتحقيق الشيخ مقبل الوادعي ، حفظه الله :
وهي طبعة معتمدة على ما سبقها من الطبعات ، والأخطاء فيها كثيرة جدًا.
(1/39)
توزيع
النسخ على السور المفسرة السورة النسخ المخطوطة النسخ المساعدة البقرة أ هـ طـ ب ج
و جامعة الإمام
جامعة الإمام
ط - الوادعي مؤسسة فيصل
مؤسسة فيصل آل عمران أ هـ ر ج و النساء أ هـ ر د جـ المائدة أ هـ ر د الأنعام أ هـ
م د الأعراف أ هـ م د ك الأنفال أ هـ م د ك التوبة أ هـ ت د ك يونس أ هـ ت هود أ
هـ ت يوسف أ هـ ت الرعد أ هـ ت إبراهيم أ هـ ت الحجر أ هـ ت النحل أ هـ ت ف
الإسراء أ هـ ت ف الكهف أ هـ ت ف مريم أ هـ ت ف طه أ هـ ت ف الأنبياء أ هـ ت ف
الحج أ هـ ت ف المؤمنون أ هـ ف النور أ هـ ف الفرقان أ هـ ف الشعراء أ هـ ف النمل
أ هـ ف القصص أ هـ ف ت العنكبوت أ هـ ف ت الروم أ هـ ف ت لقمان أ هـ ف ت السجدة أ
هـ ف ت
(1/40)
تابع توزيع النسخ على السور المفسرة السورة النسخ المخطوطة الأحزاب أ هـ ف ت سبأ أ هـ ت س فاطر أ هـ ت س يس أ هـ ت س الصافات أ هـ ت س ص أ هـ ت س الزمر أ هـ ت س غافر أ هـ ت س فصلت أ هـ ت س الشورى أ هـ ت م الزخرف أ هـ ت م الدخان أ هـ ت م الجاثية أ هـ ت م الأحقاف أ هـ ت م محمد أ هـ ت م الفتح أ هـ ت م الحجرات أ هـ ت م سور المفصل "من ق إلى الناس" أ هـ م فضائل القرآن ط م ج
(1/41)
7
- منهج التحقيق :
1 - إخراج نص التفسير على ما يغلب على الظن أنه نص المؤلف ، وذلك بمقابلة النسخ
المخطوطة ، وإثبات الصحيح من الفروق عند الاختلاف.
2 - بذلت جهدي في تقويم النص بالرجوع إلى مصادر الحديث وكتب الرجال المطبوعة
والمخطوطة.
3 - وضعت الزيادات التي تزيد بها نسخة على النسخ الأخرى بين قوسين هكذا [ ] إذا
كان ذلك مستقيمًا مع سلامة النص.
4 - تجنبت ذكر السقط في النسخ إلا عند الحاجة لأن ذلك يحتاج إلى إطالة في الهوامش
لكثرة السقط في بعض النسخ.
5 - عزوت الآيات القرآنية الكريمة التي يستشهد بها المؤلف في التفسير بجانبها مع
مراعاة ضبطها بالشكل.
6 - خرجت الأحاديث التي ذكرها الحافظ ابن كثير في تفسيره بعزوها إلى أماكنها إن
كان الحافظ ذكر مصادرها.
وما كان في الصحيحين أو أحدهما فأكتفي بالعزو إليه ، وإن كان في غيرهما ذكرت مواضع
ما أشار إليه الحافظ من مصادر وأزيد في ذلك أحيانًا ، وقد سلكت طريقة الاختصار في
التخريج ما أمكن وموضعه إن شاء الله كتاب في تخريج أحاديث التفسير ، كما هي عادة
الأئمة ، رحمهم الله.
7 - ضبطت بالشكل النصوص النبوية.
8 - ضبطت الأسماء والكنى والأنساب التي يحتاج إلى ضبطها.
9 - شرح بعض المفردات الغريبة.
10 - أحيانًا تدعو الحاجة إلى تعليق أو تعقيب على بعض المواطن في التفسير لبيان
خطأ ، أو بطلان قصة ، أو الإشارة إلى بعض الإسرائيليات ونقدها.
11 - إعادة توزيع النص وإخراجه بشكل يعين القارئ ويسهل عليه المراجعة والقراءة ،
مع العناية بعلامات الترقيم كالفاصلة والأقواس والخطين للجمل الاعتراضية.
12 - وضع اسم السورة ورقم الآية في أعلى كل صفحة تيسيرًا للقارئ.
13 - قمت بوضع ترجمة مختصرة للمؤلف ، ونبذة مختصرة عن الكتاب (1).
14 - قمت بوضع فهارس عامة للكتاب.
وقد ساعدني في كثير من مراحل هذا العمل أخوة أفاضل سواء في مقابلة النسخ أو في شكل
النص أو في تصحيح الملازم ، فالله أسأل أن يثيبنا وإياهم ويجزينا وإياهم خير
الجزاء. }
__________
(1) وكنت قد وعدت أثناء الكتاب بوضع مبحث يتعلق بالنسخ التفسيرية ودراسة أسانيدها
وأعتذر عن هذا الآن ، لكني رأيت إخراجه مستقلا لتعلقه بالتفسير المأثور عموما ،
والله الموفق.
(1/42)
اللوحة الأولى نسخة من "أ"
(1/43)
اللوحة الأولى من نسخة "ف"
(1/44)
اللوحة الأولى من نسخة "ر"
(1/45)
اللوحة الأولى نسخة من "س"
(1/46)
اللوحة الأخيرة من نسخة "س"
(1/47)
اللوحة الأولى من نسخة "ك"
(1/48)
عنوان الجزء الرابع من نسخة "م" المحفوظة بشستربتي
(1/49)
لوحة من نسخة "ت"
(1/50)
لوحة من المجلد الرابع من نسخة "ت"
(1/51)
اللوحة الأولى من المجلد الخامس من نسخة "ت"
(1/52)
لوحة من المجلد الخامس من نسخة "ت"
(1/53)
لوحة من نسخة "د"
(1/54)
عنوان نسخة "ب"
(1/55)
اللوحة الأولى من نسخة "ب"
(1/56)
اللوحة الأولى من نسخة "جـ"
(1/57)
لوحة من نسخة "جـ"
(1/58)
لوحة من نسخة "جـ" وهي بداية اختلاف الخط
(1/59)
إسنادي
إلى المصنف
وأسانيدى إلى ابن كثير كثيرة ، وهي تمر بعدد من تلاميذه ، منها :
ما أرويه عن الشيخ عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي ، والشيخ عبد الوهاب بن عبد
العزيز بن زيد الزيد ، كلاهما عن الشيخين : محمد الشاذلي النيفر ، وعبد القادر بن
كرامة الله النجاري ، كلاهما عن الشيخ عمر بن حمدان المحرسي ، عن محمد المكي بن
مصطفى - المعروف بابن عزوز - عن الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى النجدي ، عن الشيخ
عبد الرحمن ابن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ، عن جده شيخ الإسلام ، عن
عبد الله بن إبراهيم بن سيف الفَرضِي النجدي ، عن أبي المواهب بن تقي الدين
الحنبلي ، عن النجم الغزي ، عن أبيه البدر محمد بن الرضي محمد الغزي الدمشقي ، عن
الحافظ السيوطي ، عن بهاء الدين أبي البقاء البلقيني ، عن ابن الحسباني ، عن ابن
كثير - رحمه الله.
وأروي عن الفريوائي ، والزيد ، كلاهما عن الشيخين : حماد بن محمد الأنصاري ، وأبي
تراب الظاهري ، كلاهما عن والد الثاني : الشيخ عبد الحق الهاشمي ، عن أحمد بن عبد
الله بن سالم البغدادي ، عن عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب
، عن جده شيخ الإسلام ، عن عبد الله بن إبراهيم بن سيف النجدي ، عن أبي المواهب
محمد بن عبد الباقي بن عبد الباقي الحنبلي ، عن أبيه ، عن المعمر عبد الرحمن
البهوتي الحنبلي ، عن الجمال يوسف بن زكريا ، عن أبيه القاضي زكريا الأنصاري ، عن
الحافظ ابن حجر ، عن ابن الجزري ، عن ابن كثير - رحمه الله.
وأروي عن عبد الوهاب الزيد ، عن الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الزهراني ، عن الشيخ
سليمان بن حمدان ، عن الشيخ عبد الستار الدهلوي ، عن أبي بكر خوقير ، عن أحمد بن
إبراهيم بن عيسى ، عن عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ، عن
جده شيخ الإسلام ، عن محمد حياة السندي ، عن عبد الله بن سالم البصري ، عن المسند
زين العابدين الطبري ، عن أبيه ، عن الشمس الرملى ، عن الحافظ السخاوي ، عن الحافظ
ابن حجر ، عن ابن عنقة البسكري ، عن ابن كثير - رحمه الله.
وأروي عن عبد الوهاب الزيد ، عن الشيخ أبى تراب الظاهري ، عن الشيخ أحمد شاكر ، عن
عبد الستار الدهلوي ، عن أبي بكر خوقير ، عن أحمد بن إبراهيم بن عيسى ، عن عبد
الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ، عن عبد الرحمن الجبرتي المصري
، عن مرتضى الزبيدي ، عن عمر بن عقيل الحسيني ، عن عبد الله بن سالم البصري ، عن
عبد الله بن محمد الديري الدمياطي ، عن سلطان المزاحي ، عن نور الدين علي الزيادي
، عن الجمال يوسف بن عبد الله الأرموني ، عن الحافظ السيوطي ، عن المحب أبي
المعالى الطبري ، والرضي أبي حامد المخزومي ، وأبي بكر المرشدي ، كلهم عن الشهاب
بن حجي ، عن ابن كثير - رحمه الله.
وأروي عن عبد الوهاب الزيد ، عن الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن السعد ، عن الشيخ
حمود
(1/73)
التويجري
، عن الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري ، عن الشيخ سعد بن حمد بن عتيق ، عن
ابن عيسى ، عن عبد الرحمن بن حسن ، عن حسن القويسيني ، عن داود القلعي ، عن أحمد
الجوهري ، عن عبد الله بن سالم البصري ، عن المسند زين العابدين بن عبد القادر
الطبري ، عن أبيه ، عن المعمر عبد الواحد بن إبراهيم الحصاري ، عن الحافظ السخاوي
، عن الحافظ ابن حجر ، عن سعد الدين النواوي ، عن ابن كثير - رحمه الله.
وأروي عن عبد الرحمن الفريوائي ، وعبد الوهاب الزيد ، كلاهما عن الشيخ محمد بن عبد
الله ابن آدُّ الشنقيطي ، عن الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ، عن الشيخ علي بن
ناصر أبي وادى ، عن السيد نذير حسين الدهلوي ، عن محمد إسحاق ، عن عبد العزيز بن
ولي الله الدهلوي ، عن أبيه ، عن أبي الطاهر الكردي ، عن الصفي أحمد بن محمد بن
العجل اليمني ، عن يحيى بن مكرم الطبري ، عن الحافظ السيوطي ، عن ابن مقبل الحلبي
، عن ابن اليونانية ، عن ابن كثير - رحمه الله.
وأروي عن عبد الرحمن الفريوائي ، وعبد الوهاب الزيد ، كلاهما عن الشيخ بديع الدين
الراشدي السندي ، وأبى تراب الظاهري ، كلاهما عن أبي الوفاء ثناء الله الأفرتسري ،
عن السيد نذير حسين ، عن محمد إسحاق ، عن عبد العزيز بن ولي الله الدهلوي ، عن
أبيه ، عن أبي الطاهر محمد ابن إبراهيم الكردي ، عن أبيه ، عن الصفي القشاشي ، عن
أبي المواهب الشناوي ، عن الشمس الرملي ، عن الحافظ زكريا الأنصاري ، عن الحافظ
ابن حجر ، عن ابن الحريري ، عن ابن كثير - رحمه الله.
وأروي عن عبد الوهاب الزيد ، عن الشيخ أحمد بن يحيى النجمي ، عن الشيخ عبد الله بن
محمد القرعاوي ، عن الشيخ أحمد الله القرشي ، عن السيد نذير حسين ، عن عبد الرحمن
الكزبري ، عن الشيخ مصطفى الرحمتي ، عن الشيخ عبد الغني النابلسي ، عن النجم الغزي
، عن أبيه ، عن الحافظ زكريا الأنصاري ، عن الحافظ ابن حجر ، عن محمد بن سلمان
البغدادي - نزيل القاهرة - عن ابن كثير - رحمه الله.
وأروي عن عبد الوهاب الزيد ، عن الشيخ عبد المنان بن عبد الحق النورفوري ، عن أبي
الخير السلفي ، عن الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ، عن
السيد نذير حسين عن محمد عابد السندي ، عن عبد الله ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد
الوهاب ، عن أبيه شيخ الإسلام ، عن محمد حياة السندي ، عن حسن العجيحي ، عن أحمد
بن محمد بن العجل اليمني ، عن يحيى بن مكرم الطبري ، عن الحافظ السيوطي ، عن الشمس
محمد بن محمد العقبي ، والنجم أبي القاسم بن عمر بن محمد بن محمد بن محمد بن فهد
المكي ، كلاهما عن ابن الجزري ، عن ابن كثير - رحمه الله.
وأروي عن عبد الوهاب الزيد ، عن الشيخ محمد حياة السندي السلفي ، عن السيد نذير
حسين - بالإجازة العامة - عن عبد الرحمن الكزبري ، عن الزبيدى ، عن المعمر السابق
بن عرام ، عن البابلي ، عن محمد حجازي ، عن المعمر محمد بن أركماس الحنفي ، عن
الحافظ ابن حجر عن محمد الحبتي عن ابن كثير - رحمه الله.
(1/74)
(وهذا
من أعلى الأسانيد إلى الحافظ ابن كثير - رحمه الله).
وأروي عن عبد الوهاب الزيد ، عن الشيخ شمس الدين بن محمد أشرف الأفغاني ، والشيخ
أحمد الله الفيروزفوري ، كلاهما عن الحافظ محمد الجوندلوي ، عن الحافظ عبد المنان
الوزير آبادى ، عن حسين بن محسن الأنصاري ، عن محمد بن ناصر الحازمي وأحمد بن محمد
علي الشوكاني ، كلاهما عن والد الثاني الإمام الشوكاني ، عن السيد عبد القادر بن
أحمد ، عن السيد سليمان بن يحيى بن عمر بن مقبول الأهدل ، عن أحمد بن محمد الأهدل
، عن أحمد النخلي ، عن البابلي ، عن إبراهيم اللقاني ، عن الرملي ، عن الحافظ
زكريا الأنصاري ، عن الحافظ ابن حجر ، عن ابن الحسباني عن ابن كثير - رحمه الله.
وأروي عن عبد الوهاب الزيد ، عن الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي بكر الإحسائي
، عن عبد الحي الكتاني ، عن حسين بن محسن الأنصاري ، عن محمد بن ناصر الحازمي ،
وأحمد بن محمد بن علي الشوكاني ، كلاهما عن والد الثاني الإمام الشوكاني ، عن يوسف
بن محمد بن علاء الدين المزجاجي ، عن أبيه ، عن جده عن إبراهيم الكردي ، عن أحمد
بن محمد المدني ، عن الشمس الرملي ، عن الحافظ زكريا الأنصاري ، عن الحافظ ابن حجر
، عن الشهاب بن حجي ، عن ابن كثير - رحمه الله.
وأروي عن عبد الوهاب الزيد ، عن الشيخ القاضي محمد إسماعيل العمراني اليماني ، عن
القاضي عبد الله حميد عن الشيخ علي السدمي ، عن جدِّ العمراني القاضي محمد بن محمد
العمراني ، عن الإمام الشوكاني ، عن السيد عبد القادر الكوكباني ، عن عبد الخالق
بن أبي بكر المزجاجي ، عن أبي طاهر الكردي ، عن عبد الله بن سالم البصري ، عن
الشمس محمد بن علي المكتبي ، عن النجم محمد بن البدر الغزي ، عن أبيه ، عن الحافظ
السيوطي ، عن ناصر الدين أبي الفتح محمد بن شهاب الدين أحمد بن أبي بكر البوصيري ،
عن محمد الحبتي ، عن ابن كثير - رحمه الله.
(1/75)
مقدمة
ابن كثير (1)
قال الشيخ الإمام الأوحد ، البارع الحافظ المتقن ، عماد الدين أبو الفداء (2)
إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كَثير البصروي الشافعي ، رحمه الله تعالى ، ورضي
عنه :
الحمد لله الذي افتتح كتابه بالحمد فقال : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } [الفاتحة : 2
- 4] ، وقال تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ
الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا
مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ
أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ
قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ
كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا }
[الكهف : 1 - ه] ، وافتتح خَلْقه بالحمد ، فقال تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [الأنعام : 1] ، واختتمه بالحمد ،
فقال بعد ذكر مآل أهل الجنة وأهل النار : { وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ
حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ
وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الزمر : 75] ؛ ولهذا قال [الله]
(3) تعالى : { وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى
وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [القصص : 70] ، كما قال :
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَهُ
الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } [سبأ : 1].
فله الحمد في الأولى والآخرة ، أي في جميع ما خلق وما هو خالق ، هو المحمود في ذلك
كله ، كما يقول المصلى : "اللهم ربنا لك الحمد ، ملء السماوات وملء الأرض ،
وملء ما شئت من شيء بعد" (4) ؛ ولهذا يُلْهَم أهل الجنة تسبيحه وتحميده كما
يُلْهَمون النَّفَس ، أي يسبحونه ويحمدونه عدد أنفاسهم ؛ لما يرون من عظيم نعمه
عليهم ، وكمال قدرته وعظيم سلطانه ، وتوالى مِنَنه ودوام إحسانه ، كما قال تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ
بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ *
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ
دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ يونس : 9 ، 10].
والحمد لله الذي أرسل رسله { مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [النساء : 165] ، وختمهم بالنبي الأمي
العربي المكي الهادي لأوضح السبل ، أرسله إلى جميع خلقه من الإنس والجن ، من لدن
بعثته إلى قيام الساعة ، كما قال تعالى :
__________
(1) بعدها في جـ : "رب يسر ولا تعسر" وفي ط : "رب يسر وأعن يا
كريم".
(2) في جـ : "قال الشيخ العالم العلامة الأوحد الحافظ ، المجتهد القدوة ،
علامة العلماء ، وارث الأنبياء ، بركة الإسلام ، حجة الأعلام ، محيي السنة ، ومن
عظم الله به علينا المنة عماد الدين أبو الفضل".
(3) زيادة من جـ.
(4) هذا اقتباس من حديث رواه مسلم في صحيحه برقم (771) من حديث البراء بن عازب ،
رضي الله عنه.
(1/5)
{
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [الأعراف : 158] ، وقال
تعالى : { لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [الأنعام : 19].
فمن بلغه هذا القرآن من عرب وعَجَم ، وأسودَ وأحمرَ ، وإنس وجان ، فهو نذير له ؛
ولهذا قال تعالى : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ
} [هود : 17]. فمن كفر بالقرآن ممن ذكرنا (1) فالنار موعده ، بنص الله تعالى ، وكما
قال تعالى : { فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ
مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ } [القلم : 44 ، 45].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بُعِثتُ إلى الأحمر والأسود" (2).
قال مجاهد : يعني : الإنس والجن. فهو - صلوات الله وسلامه عليه - رسول الله إلى
جميع الثقلين : الإنس والجن ، مُبَلِّغًا لهم عن الله ما أوحاه إليه من هذا الكتاب
العزيز الذي { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ
تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت : 42].
وقد أعلمهم فيه عن الله تعالى أنه نَدَبهم إلى تَفَهُّمه ، فقال تعالى : { أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا
فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا } [ النساء : 82] ، وقال تعالى : { كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ
إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ }
[ص : 29] ، وقال تعالى : { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ
أَقْفَالُهَا } [محمد : 24].
فالواجب على العلماء الكشف عن معاني كلام الله ، وتفسير ذلك ، وطلبه من مظانه ،
وتَعلُّم ذلك وتعليمه ، كما قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ
فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا
يَشْتَرُونَ } [آل عمران : 187] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ
بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي
الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [آل عمران : 77].
فذم الله تعالى أهل الكتاب قبلنا بإعراضهم عن كتاب الله إليهم ، وإقبالهم على
الدنيا وجمعها ، واشتغالهم بغير ما أمروا به من اتباع كتاب الله.
فعلينا - أيها المسلمون - أن ننتهي عما ذمَّهم الله تعالى به ، وأن نأتمر بما
أمرنا به ، من تَعَلُّم كتاب الله المنزل إلينا وتعليمه ، وتفهمه وتفهيمه ، قال
الله تعالى : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ
لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نزلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [الحديد : 16
، 17]. ففي ذكره تعالى لهذه الآية بعد التي قبلها تنبيه على أنه تعالى كما يحيي
الأرض بعد موتها ، كذلك يلين القلوب بالإيمان بعد قسوتها من الذنوب والمعاصي ،
والله المؤمل المسؤول أن يفعل بنا ذلك ، إنه
__________
(1) في جـ : "ذكرناه".
(2) رواه مسلم في صحيحه برقم (521) من حديث جابر ، رضي الله عنه.
(1/6)
جواد
كريم.
فإن قال قائل : فما أحسن طرق التفسير ؟
فالجواب : إن أصح الطرق في ذلك أن يُفَسَّر القرآن بالقرآن ، فما أُجْمِل في مكان
فإنه قد فُسِّر في موضع آخر ، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن
وموضحة له ، بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ، رحمه الله :
كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن. قال الله
تعالى : { إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } [ النساء :
105] ، وقال تعالى : { وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا
نزلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ النحل : 44] ، وقال تعالى : {
وَمَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا
فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [النحل : 64].
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا إني أوتيت القرآن ومثله
معه" (1) يعني : السنة. والسنة أيضًا تنزل عليه بالوحي ، كما ينزل (2) القرآن
؛ إلا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن ، وقد استدل الإمام الشافعي ، رحمه الله (3)
وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك.
والغرض أنك تطلب تفسيرَ القرآن منه ، فإن لم تجدْه فمن السنة ، كما قال رسولُ الله
صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : "بم تحكم ؟ ". قال :
بكتاب الله. قال : "فإن لم تجد ؟". قال : بسنة رسول الله. قال :
"فإن لم تجد ؟ ". قال : أجتهد برأيى. قال : فضرب رسول الله صلى الله
عليه وسلم في صدره ، وقال : "الحمد لله الذي وفَّق رَسُولَ رسولِ الله لما
يرضى رسول الله" (4) وهذا الحديث في المساند (5) والسنن بإسناد جيد ، كما هو
مقرر في موضعه.
وحينئذ ، إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة ، رجعنا في ذلك إلى أقوال
الصحابة ، فإنهم أدرى بذلك ، لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ،
ولما لهم من الفهم التام ، والعلم الصحيح ، والعمل الصالح ، لا سيما علماؤهم
وكبراؤهم ، كالأئمة الأربعة والخلفاء الراشدين ، والأئمة المهديين ، وعبد الله بن
مسعود ، رضي الله عنه (6).
قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير (7) حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا جابر بن نوح ،
حدثنا الأعمش ، عن أبي الضُّحَى ، عن مسروق ، قال : قال عبد الله - يعني ابن مسعود
- : والذي لا إله غيره ، ما نزلت آية من (8) كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت ؟
وأين نزلت ؟ ولو أعلم مكان أحد أعلم
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند (4/ 131) وأبو داود في السنن برقم (4604) من حديث
المقدام بن معدى كرب ، رضي الله عنه.
(2) في ب : "كما ينزله عليه".
(3) في ب : "رحمة الله عليه".
(4) رواه الإمام أحمد في المسند (5/ 230) وأبو داود في السنن برقم (3592) والترمذي
في السنن برقم (1328) من طرق عن شعبة عن أبي عون عن الحارث بن عمرو عن ناس من
أصحاب معاذ عن معاذ به ، وقال الترمذي : "هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه
، وليس إسناده عندي بمتصل ، وأبو عون الثقفي اسمه محمد بن عبيد الله". وللشيخ
ناصر الألباني مبحث ماتع بين فيه كلام العلماء في نقد الحديث. انظر : السلسلة
الضعيفة برقم (881).
(5) في جـ : "المسانيد".
(6) في ب : "عنهم".
(7) في ب : "جرير الطبري".
(8) في ب : "في".
(1/7)
بكتاب
الله منى تناله المطايا لأتيته (1). وقال الأعمش أيضًا ، عن أبي وائل ، عن ابن
مسعود قال : كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن ،
والعمل بهن (2).
وقال أبو عبد الرحمن السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من
النبي صلى الله عليه وسلم ، فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما
فيها من العمل ، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا (3).
ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس ، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وترجمان القرآن وببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له حيث قال :
"اللهم فقهه في الدين ، وعلمه التأويل" (4).
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ،
عن مُسْلم قال (5) قال عبد الله - يعني ابن مسعود - : نعْم ترجمان القرآن ابنُ
عباس (6). ثم رواه عن يحيى بن داود ، عن إسحاق الأزرق ، عن سفيانَ ، عن الأعمش ،
عن مسلم بن صُبَيْح أبي الضحى ، عن مسروق ، عن ابن مسعود أنه قال : نعم الترجمان
للقرآن ابن عباس (7). ثم رواه عن بُنْدَار ، عن جعفر بن عَوْن ، عن الأعمش (8) به
كذلك.
فهذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود : أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة. وقد مات ابن
مسعود ، رضي الله عنه ، في سنة اثنتين وثلاثين على الصحيح ، وعُمِّر بعده ابن عباس
ستًا وثلاثين سنة ، فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود ؟.
وقال الأعمش عن أبي وائل : استخلف علِيّ عبد الله بن عباس على الموسم ، فخطب الناس
، فقرأ في خطبته سورة البقرة ، وفي رواية : سورة النور ، ففسرها تفسيرًا لو سمعته
الروم والترك والديلم لأسلموا (9).
ولهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في تفسيره ، عن هذين
الرجلين : عبد الله بن مسعود وابن عباس ، ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه
من أقاويل أهل الكتاب ، التي أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال :
"بَلِّغوا عني ولو آية ، وحَدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حَرَج ، ومن كذب
عَلَىَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" رواه البخاري عن عبد الله (10) ؛
ولهذا كان عبد الله بن عمرو يوم اليرموك قد أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب ، فكان
يحدث منهما بما فهمه
__________
(1) تفسير الطبري (1/ 80) وجابر بن نوح ضعيف لكنه توبع ، فرواه البخاري في صحيحه
برقم (5002) عن عمر بن حفص عن أبيه عن الأعمش به.
(2) رواه الطبري في تفسيره (1/ 80) من طريق الحسين بن واقد عن الأعمش به.
(3) رواه الطبري في تفسيره (1/ 80) من طريق جرير عن عطاء عن أبي عبد الرحمن السلمي.
(4) رواه الإمام أحمد في المسند (1/ 266 ، 314 ، 327) وأصله في صحيح البخاري برقم
(75).
(5) في ب : "كذا قال".
(6) تفسير الطبري (1/ 90).
(7) تفسير الطبري (1/ 90) ورواه الحاكم في المستدرك (3/ 537) من طريق سفيان به.
(8) تفسير الطبري (1/ 90) ورواه أبو خثيمة في العلم برقم (48) من طريق جعفر بن عون
به.
(9) رواه الطبري في تفسيره (1/ 81) والفسوي في تاريخه (1/ 495) من طريق الأعمش به.
(10) صحيح البخاري برقم (3461).
(1/8)
من
هذا الحديث من الإذن في ذلك.
ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد ، لا للاعتضاد ، فإنها على ثلاثة
أقسام :
أحدها : ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق ، فذاك صحيح (1).
والثاني : ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.
والثالث : ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل ، فلا نؤمن به ولا
نكذبه ، وتجوز حكايته لما تقدم ، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني ؛
ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في هذا كثيرًا ، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك ،
كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف ، ولون كلبهم ، وعدّتهم ، وعصا موسى من
أي الشجر كانت ؟ وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم ، وتعيين البعض الذي ضرب
به القتيل من البقرة ، ونوع الشجرة التي كلَّم الله منها موسى ، إلى غير ذلك مما
أبهمه الله تعالى في القرآن ، مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم
ولا دينهم. ولكن نَقْلُ الخلاف عنهم في ذلك جائز ، كما قال تعالى : { سَيَقُولُونَ
ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ
رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي
أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا
مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا } [الكهف : 22] ، فقد
اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام وتعليم ما ينبغي في مثل هذا ،
فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال ، ضعف القولين الأولين وسكت عن الثالث ، فدل
على صحته إذ لو كان باطلا لرده كما ردهما ، ثم أرشد على أن الاطلاع على عدتهم لا
طائل تحته ، فقال في مثل هذا : { قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ } فإنه ما
يعلم بذلك إلا قليل من الناس ، ممن أطلعه الله عليه ؛ فلهذا قال : { فَلا تُمَارِ
فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا } أي : لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته ، ولا
تسألهم عن ذلك فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب. فهذا أحسن ما يكون في حكاية
الخلاف : أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام ، وأن تنبه على الصحيح منها وتبطل
الباطل ، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته ؛ لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة
تحته ، فتشتغل به عن الأهم فالأهم. فأما من حكى خلافًا في مسألة ولم يستوعب أقوال
الناس فيها فهو ناقص ، إذ قد يكون الصواب في الذي تركه. أو يحكي الخلاف ويطلقه ولا
ينبه على الصحيح من الأقوال ، فهو ناقص أيضًا. فإن صحح غير الصحيح عامدا فقد تعمد
الكذب ، أو جاهلا فقد أخطأ ، وكذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته ، أو حكى
أقوالا متعددة لفظًا ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى ، فقد ضيع الزمان ، وتكثر
بما ليس بصحيح ، فهو كلابس ثوبي زور ، والله الموفق للصواب.
[قال سفيان بن عيينة عن عبد الله بن أبي يزيد : كان ابن عباس إذا سئل عن الآية في
القرآن قال به ، فإن لم يكن وكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر به ، فإن
لم يكن فعن أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، فإن لم يكن اجتهد برأيه] (2).
__________
(1) في جـ : "صحيح للاعتقاد".
(2) زيادة من ط ، ب.
(1/9)
فصل
إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة ، فقد رجع كثير
من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين ، كمجاهد بن جَبْر (1) فإنه كان آية في
التفسير ، كما قال محمد بن إسحاق : حدثنا أبان بن صالح ، عن مجاهد ، قال : عَرضْتُ
المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات ، من فاتحته إلى خاتمته ، أوقفه عند كل آية منه ،
وأسأله عنها (2).
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا طَلْق بن غنام ، عن عثمان المكي ، عن
ابن أبي مُلَيْكَة قال : رأيت مجاهدًا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ، ومعه ألواحه
، قال : فيقول له ابن عباس : اكتب ، حتى سأله عن التفسير كله (3). ولهذا كان سفيان
الثوري يقول : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به (4).
وكسعيد بن جُبَيْر ، وعِكْرِمة مولى ابن عباس ، وعطاء بن أبي رباح ، والحسن البصري
، ومسروق ابن الأجدع ، وسعيد بن المسيب ، وأبي العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة
، والضحاك بن مُزاحم ، وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم ، فتذكر أقوالهم في
الآية فيقع في عباراتهم تباين في الألفاظ ، يحسبها من لا علم عنده اختلافًا
فيحكيها أقوالا وليس كذلك ، فإن منهم من يعبّر عن الشيء بلازمه أو بنظيره ، ومنهم
من ينص على الشيء بعينه ، والكل بمعنى واحد في كثير من الأماكن ، فليتفطن اللبيب
لذلك ، والله الهادي.
وقال شعبة بن الحجاج وغيره : أقوال التابعين في الفروع ليست حجة ؟ فكيف تكون حجة
في التفسير ؟ يعني : أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم ، وهذا صحيح ، أما إذا
أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة ، فإن اختلفوا فلا يكون بعضهم حجة على بعض
، ولا على من بعدهم ، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب ،
أو أقوال الصحابة في ذلك.
فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام ، لما رواه محمد بن جرير ، رحمه الله ، حيث
قال : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا سفيان ، حدثني عبد الأعلى
، هو ابن عامر الثعلبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : " من قال في القرآن برأيه ، أو بما لا يعلم ، فليتبوأ مقعده من
النار " (5).
وهكذا أخرجه الترمذي والنسائي ، من طرق ، عن سفيان الثوري ، به. ورواه أبو داود ،
عن مُسَدَّد ، عن أبي عَوَانة ، عن عبد الأعلى ، به (6). وقال الترمذي : هذا حديث
حسن.
__________
(1) في جـ ، ط : "جبير".
(2) رواه الطبري في تفسيره (1/ 90).
(3) تفسير الطبري (1/90).
(4) رواه الطبري في تفسيره (1/ 91) من طريق أبي بكر الحنفي سمعت سفيان فذكره.
(5) تفسير الطبري (1/ 77).
(6) سنن الترمذي برقم (2952) وسنن النسائي الكبرى برقم (84 80) وسنن أبي داود برقم
(3652) ، والحديث مداره على عبد الأعلى بن عامر قال أبو زرعة : ضعيف ، وتركه ابن
مهدي.
(1/10)
وهكذا
رواه ابن جرير - أيضًا - عن يحيى بن طلحة اليربوعي ، عن شريك ، عن عبد الأعلى ، به
مرفوعا (1). ولكن رواه محمد بن حميد ، عن الحكم بن بشير ، عن عمرو بن قيس
المُلائِي ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، فوقفه (2). وعن محمد بن حميد
، عن جرير ، عن ليث ، عن بكر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس من قوله (3) فالله
أعلم.
وقال ابن جرير : حدثنا العباس بن عبد العظيم العَنْبَرِي ، حدثنا حَبَّان بن هلال
، حدثنا سهيل أخو حزم ، حدثنا أبو عمران الجَوْني ، عن جُنْدب ؛ أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : " من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ " (4).
وقد روى هذا الحديث أبو داود ، والترمذي ، والنسائي من حديث سهيل بن أبي حزم
القُطعي ، وقال الترمذي : غريب ، وقد تكلم بعض أهل العلم في سهيل (5).
وفي لفظ لهم : "من قال في كتاب الله برأيه ، فأصاب ، فقد أخطأ" أي :
لأنه قد تكلف ما لا علم له به ، وسلك غير ما أمر به ، فلو أنه أصاب المعنى في نفس
الأمر لكان قد أخطأ ؛ لأنه لم يأت الأمر من بابه ، كمن حكم بين الناس على جهل فهو
في النار ، وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر ، لكن يكون أخف جرمًا ممن أخطأ ،
والله أعلم ، وهكذا سمى الله القَذَفة كاذبين ، فقال : { فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا
بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [النور : 13] ،
فالقاذف كاذب ، ولو كان قد قذف من زنى في نفس الأمر ؛ لأنه أخبر بما لا يحل له
الإخبار به ، ولو كان أخبر بما يعلم ؛ لأنه تكلف ما لا علم له به ، والله أعلم.
ولهذا تَحَرَّج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به ، كما روى شعبة ، عن
سليمان ، عن عبد الله بن مرة ، عن أبي مَعْمَر ، قال : قال أبو بكر الصديق ، رضي
الله عنه : أيّ أرض تقلّني وأي سماء تظلني ؟ إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم (6).
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : حدثنا محمد (7) بن يزيد ، عن العَوَّام بن حَوْشَب
، عن إبراهيم التَّيْمِي ؛ أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله : { وَفَاكِهَةً
وَأَبًّا } [عبس : 31] ، فقال : أي سماء تظلني ، وأي أرض تقلني ؟ إذا أنا قلت في
كتاب الله ما لا أعلم. منقطع (8).
وقال أبو عبيد أيضًا : حدثنا يزيد ، عن حميد ، عن أنس ؛ أن عمر بن الخطاب قرأ على
المنبر :
__________
(1) تفسير الطبري (1/ 77).
(2) تفسير الطبري (1/ 78) ورواه وكيع عن عبد الأعلى فوقفه ، رواه ابن أبي شيبة في
المصنف (10/ 512).
(3) تفسير الطبري (1/ 78).
(4) تفسير الطبري (1/ 79).
(5) سنن أبي داود برقم (3652) وسنن الترمذي برقم (2953) وسنن النسائي الكبرى برقم
(8086)
(6) رواه الطبري في تفسيره (1/ 78).
(7) في ب : "محمود".
(8) فضائل القرآن (ص 227) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (10/ 513) عن محمد بن عبيد
عن العوام بن حوشب به.
(1/11)
{
وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } [عبس : 31] ، فقال : هذه الفاكهة قد عرفناها ، فما الأبّ ؟
ثم رجع إلى نفسه فقال : إن هذا لهو التكلف يا عمر (1).
وقال عَبْد بن حُمَيْد : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن ثابت ، عن
أنس ، قال : كنا عند عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، وفي ظهر قميصه أربع رقاع ،
فقرأ : { وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } فقال : ما الأب ؟ ثم قال : إن هذا لهو التكلف (2)
فما عليك ألا تدريه (3).
وهذا كله محمول على أنهما ، رضي الله عنهما ، إنما أرادا استكشاف علم كيفية الأب ،
وإلا فكونه نبتا من الأرض ظاهر لا يجهل ، لقوله : { فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا
وَعِنَبًا } الآية [عبس : 27 ، 28].
وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن أيوب ، عن ابن
أبي مُلَيْكَة : أن ابن عباس سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها ، فأبى أن
يقول فيها (4). إسناده (5) صحيح.
وقال أبو عبيد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن أيوب ، عن ابن أبي مليكة ، قال :
سأل رجل ابن عباس عن { يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ } [ السجدة : 5] ،
فقال له ابن عباس : فما { يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [
المعارج : 4] ؟ فقال له الرجل : إنما سألتك لتحدثني. فقال ابن عباس : هما يومان
ذكرهما الله تعالى في كتابه ، الله أعلم بهما. فكره أن يقول في كتاب الله ما لا
يعلم (6).
وقال - أيضًا - ابن جرير : حدثني يعقوب - يعني ابن إبراهيم - حدثنا ابن عُلَيَّة ،
عن مَهْدي بن ميمون ، عن الوليد بن مسلم ، قال : جاء طَلْق بن حبيب إلى جُنْدُب بن
عبد الله ، فسأله عن آية من القرآن ؟ فقال : أحرِّج عليك إن كنت مسلمًا إلا ما
قمتَ عني ، أو قال : أن تجالسني (7).
وقال مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب : إنه كان إذا سئل عن تفسير آية
من القرآن ، قال : إنا لا نقول في القرآن شيئًا (8).
وقال الليث ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب : إنه كان لا يتكلم إلا في
المعلوم من القرآن (9).
وقال شعبة ، عن عمرو بن مُرَّة ، قال : سأل رجل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن
فقال : لا
__________
(1) فضائل القرآن (ص 227) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (10/ 512) عن يزيد به ،
ورواه الحاكم في المستدرك (2/ 514) من طريق يزيد عن حميد به ، وقال : "صحيح
على شرط الشيخين ولم يخرجاه".
(2) في جـ : "التكلف يا عمر".
(3) ورواه ابن سعد في الطبقات (3/ 327) ، ورواه البخاري في صحيحه برقم (7293) عن
سليمان بن حرب به مختصرًا ولفظه : "نهينا عن التكلف".
(4) تفسير الطبري (1/ 86).
(5) في ب : "إسناد".
(6) فضائل القرآن (ص 228).
(7) تفسير الطبري (1/ 86).
(8) رواه الطبري في تفسيره (1/ 85) من طريق ابن وهب عن مالك به.
(9) رواه الطبري في تفسيره (1/ 86) من طريق ابن وهب عن مالك به.
(1/12)
تسألني
عن القرآن ، وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه منه شيء ، يعني : عكرمة (1).
وقال ابن شَوْذَب : حدثني يزيد بن أبي يزيد ، قال : كنا نسأل سعيد بن المسيب عن
الحلال والحرام ، وكان أعلم الناس ، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت ، كأن
لم يسمع (2).
وقال ابن جرير : حدثني أحمد بن عبدة الضَّبِّىُّ ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا عبيد
الله بن عمر ، قال : لقد أدركتُ فقهاء المدينة ، وإنهم ليعظِّمون القول في التفسير
، منهم : سالم بن عبد الله ، والقاسم بن محمد ، وسعيد بن المسيب ، ونافع (3).
وقال أبو عبيد : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن الليث ، عن هشام بن عُرْوَة ، قال :
ما سمعت أبي تَأوَّل آية من كتاب الله قط (4).
وقال أيوب ، وابن عَوْن ، وهشام الدَّسْتوائِي ، عن محمد بن سيرين : سألت عبَيدة
السلماني ، عن آية من القرآن فقال : ذهب الذين كانوا يعلمون فيم أنزل (5) القرآن ؟
فاتَّق الله ، وعليك بالسداد (6).
وقال أبو عبيد : حدثنا معاذ ، عن ابن عون ، عن عبد الله بن مسلم بن يسار ، عن أبيه
، قال : إذا حدثت عن الله فقف ، حتى تنظر ما قبله وما بعده (7).
حدثنا هُشَيْم ، عن مُغيرة ، عن إبراهيم ، قال : كان أصحابنا يتقون التفسير
ويهابونه (8).
وقال شعبة عن عبد الله بن أبي السَّفْر ، قال : قال الشعبي : والله ما من آية إلا
وقد سألت عنها ، ولكنها الرواية عن الله عز وجل (9).
وقال أبو عبيد : حدثنا هشيم ، حدثنا عمر بن أبي زائدة ، عن الشعبي ، عن مسروق ،
قال : اتقوا التفسير ، فإنما هو الرواية عن الله (10).
فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في
التفسير بما لا علم لهم به ؛ فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعًا ، فلا حرج
عليه ؛ ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير ، ولا منافاة ؛ لأنهم تكلموا
فيما علموه ، وسكتوا عما جهلوه ، وهذا هو الواجب على كل أحد ؛ فإنه كما يجب السكوت
عما لا علم له به ، فكذلك يجب القول فيما
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره (1/ 87) وابن أبي شيبة في المصنف (10/ 511) من طريق
محمد بن جعفر عن شعبة به.
(2) رواه الطبري في تفسيره (1/ 86) عن العباس بن الوليد عن أبيه عن ابن شوذب به.
(3) تفسير الطبري (1/ 85).
(4) فضائل القرآن (ص 229).
(5) في جـ : "نزل".
(6) رواه الطبري في تفسيره (1/ 86) من طريق ابن علية عن أيوب وابن عون به.
(7) فضائل القرآن (ص 229).
(8) فضائل القرآن (ص 229) ورواه أبو نعيم (4/ 222) من طريق جرير عن المغيرة به.
(9) رواه الطبري في تفسيره (1/ 87) من طريق سعيد بن عامر عن شعبة به.
(10) فضائل القرآن (ص 229).
(1/13)
سئل
عنه مما يعلمه ، لقوله تعالى : { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ }
[آل عمران : 187] ، ولما جاء في الحديث المروى من طرق : "من سئل عن علم فكتمه
، ألْجِم يوم القيامة بلجام من نار" (1).
فأما الحديث الذي رواه أبو جعفر بن جرير :
حدثنا عباس بن عبد العظيم ، حدثنا محمد بن خالد بن عَثْمة ، حدثنا جعفر بن محمد بن
الزبيري ، حدثني هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : ما كان النبي صلى
الله عليه وسلم يفسر شيئًا من القرآن إلا آيا تُعد ، علمهن إيَّاه جبريل ، عليه
السلام. ثم رواه عن أبي بكر محمد بن يزيد الطرسوسي ، عن مَعْن بن عيسى ، عن جعفر
بن خالد ، عن هشام ، به. (2).
فإنه حديث منكر غريب ، وجعفر هذا هو ابن محمد بن خالد بن الزبير بن العوام القرشي
الزبيري ، قال البخاري : لا يتابع في حديثه ، وقال الحافظ أبو الفتح الأزدي : منكر
الحديث.
وتكلَّم عليه الإمام أبو جعفر بما حاصله أن هذه الآيات مما لا يعلم إلا بالتوقيف
عن الله تعالى ، مما وقفه عليها جبريل. وهذا تأويل صحيح لو صح الحديث ؛ فإن من
القرآن ما استأثر الله تعالى بعلمه ، ومنه ما يعلمه العلماء ، ومنه ما تعلمه العرب
من لغاتها ، ومنه ما لا يعذر أحد في جهله ، كما صرح بذلك ابن عباس ، فيما قال ابن
جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا مُؤَمَّل ، حدثنا سفيان ، عن أبي الزناد [عن
الأعرج] (3) قال : قال ابن عباس : التفسير على أربعة أوجه : وجه تعرفه العرب من
كلامها ، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه
إلا الله (4).
قال ابن جرير : وقد روى نحوه في حديث في إسناده نظر :
حدثني يونس بن عبد الأعلى الصدفي ، أنبأنا ابن وهب قال : سمعت عمرو بن الحارث يحدث
عن الكلبي ، عن أبي صالح ، مولى أم هانئ ، عن عبد الله بن عباس : أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : "أنزل القرآن على أربعة (5) أحرف : حلال وحرام ، لا
يعذر أحد بالجهالة به. وتفسير تفسره [العرب ، وتفسير
__________
(1) جاء من حديث أبي هريرة ، ومن حديث أنس ، وأبي سعيد الخدري ، رضي الله عنهم.
أما حديث أبي هريرة ، فرواه أحمد في المسند (2/ 263) وأبو داود في السنن برقم
(3658) والترمذي في السنن برقم (2649) وابن ماجة في السنن برقم (261) من طريق علي
ابن الحكم عن عطاء عن أبي هريرة ، وقال الترمذي : "حديث حسن". وأما حديث
أنس ، فرواه ابن ماجة في السنن برقم (264) من طريق يوسف بن إبراهيم عن أنس ، وقال
البوصيري في الزوائد (1/ 117) : "هذا إسناد ضعيف". وأما حديث أبي سعيد ،
فرواه ابن ماجة في السنن برقم (265) من طريق محمد بن داب عن صفوان بن سليم عن عبد
الرحمن بن أبي سعيد عن أبي سعيد ، وقال البوصيري في الزوائد (1/ 118) : "هذا
إسناد ضعيف".
(2) تفسير الطبري (1/ 84) ورواه أبو يعلى في مسنده (8/ 23) من طريق معن القزاز عن
فلان بن محمد بن خالد ، عن هشام بن عروة به ، ورواه البزار في مسنده برقم (2185)
"كشف الأستار" عن محمد بن المثنى ، عن محمد بن خالد بن عثمة ، عن حفص -
أظنه ابن عبد الله - عن هشام عن أبيه به.
(3) زيادة من نسخة مساعدة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
(4) تفسير الطبري (1/ 75).
(5) في هـ ، ب : "سبعة" والمثبت من جـ ، والطبري.
(1/14)
تفسره]
(1) العلماء. ومتشابه لا يعلمه إلا الله عز وجل ، ومن ادعى علمه سوى الله فهو
كاذب" (2).
والنظر الذي أشار إليه في إسناده هو من جهة محمد بن السائب الكلبي ؛ فإنه متروك
الحديث ؛ لكن قد يكون إنما وهم في رفعه. ولعله من كلام ابن عباس ، كما تقدم ،
والله أعلم بالصواب.
__________
(1) زيادة من جـ ، والطبري.
(2) تفسير الطبري (1/ 76).
(1/15)
كتاب
فضائل القرآن
قال البخاري ، رحمه الله :
كيف نزول الوحي وأول ما نزل :
قال ابن عباس : المهيمن الأمين القرآن ، أمين على كل كتاب قبله : حدثنا عبيد الله
بن موسى عن شيبان عن يحيى عن أبي سلمة قال : أخبرتني عائشة وابن عباس قالا لبث
النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن ، وبالمدينة عشرا (1).
ذكر البخاري ، رحمه الله ، كتاب "فضائل القرآن" بعد كتاب التفسير ؛ لأن
التفسير أهم ولهذا بدأ به ، [ونحن قدمنا الفضائل قبل التفسير وذكرنا فضل كل سورة
قبل تفسيرها ليكون ذلك باعثا على حفظ القرآن وفهمه والعمل بما فيه والله المستعان]
(2).
وقول ابن عباس في تفسير المهيمن إنما يريد به البخاري قوله تعالى في المائدة بعد
ذكر التوراة والإنجيل : { وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا
لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } [المائدة : 48].
قال الإمام أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله :
حدثنا المثنى ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني معاوية عن علي - يعني ابن أبي طلحة
- عن ابن عباس في قوله : { وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } قال : المهيمن : الأمين. قال
: القرآن أمين على كل كتاب قبله (3). وفي رواية : شهيدا عليه (4). وقال سفيان
الثوري وغير واحد من الأئمة عن أبي إسحاق السبيعي ، عن التميمي ، عن ابن عباس : {
وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } قال : مؤتمنا (5). وبنحو ذلك قال مجاهد والسدي وقتادة
وابن جريج والحسن البصري وغير واحد من أئمة السلف. وأصل الهيمنة : الحفظ والارتقاب
، يقال إذا رَقَب الرجل الشيء وحفظه وشهده : قد هيمن فلان عليه ، فهو يهيمن هيمنة
وهو عليه مهيمن ، وفي أسماء الله تعالى : المهيمن ، وهو الشهيد على كل شيء ، والرقيب
: الحفيظ بكل شيء.
وأما الحديث الذي أسنده البخاري : أنه ، عليه السلام ، أقام بمكة عشر سنين ينزل
عليه القرآن ، وبالمدينة عشرا ، فهو مما انفرد به البخاري دون مسلم ، وإنما رواه
النسائي من حديث شيبان وهو ابن عبد الرحمن ، عن يحيى وهو ابن أبي كثير ، عن أبي
سلمة عنها (6).
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : حدثنا يزيد عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن
ابن عباس قال : أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ، ثم نزل
بعد ذلك في عشرين سنة ، ثم
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4978 ، 4979).
(2) جاء في م : "فجرينا على منواله وسننه مقتدين به" وما أثبته من ط ،
جـ.
(3) تفسير الطبري (10/ 379) ط. المعارف.
(4) تفسير الطبري (10/ 377) ط. المعارف.
(5) رواه الطبري في تفسيره (10/ 378) ط. المعارف.
(6) سنن النسائي الكبرى برقم (7977).
(1/17)
قرأ
{ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ
تَنزيلا } [الإسراء : 106]. هذا إسناد صحيح (1). أما إقامته بالمدينة عشرا فهذا ما
لا خلاف فيه ، وأما إقامته بمكة بعد النبوة فالمشهور ثلاث عشرة سنة ؛ لأنه ، عليه
الصلاة والسلام ، أوحى إليه وهو ابن أربعين سنة ، وتوفى وهو ابن ثلاث وستين سنة
على الصحيح ، ويحتمل أنه حذف ما زاد على العشرة اختصارا في الكلام ؛ لأن العرب
كثيرا ما يحذفون الكسور في كلامهم ، أو أنهما إنما اعتبرا قرن جبريل ، عليه السلام
، به عليه السلام. فإنه (2) قد روى الإمام أحمد أنه قرن به ، عليه السلام ،
ميكائيل في ابتداء الأمر ، يلقى إليه الكلمة والشيء ، ثم قرن به جبريل.
ووجه مناسبة هذا الحديث بفضائل القرآن : أنه ابتدئ بنزوله في مكان شريف ، وهو
البلد الحرام ، كما أنه كان في زمن شريف وهو شهر رمضان ، فاجتمع له شرف الزمان
والمكان ؛ ولهذا يستحب إكثار تلاوة القرآن في شهر رمضان ؛ لأنه ابتدئ نزوله فيه ؛
ولهذا كان جبريل يعارض به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل سنة في شهر رمضان ،
فلما كان في السنة التي توفى فيها عارضه به مرتين تأكيدا وتثبيتًا.
وأيضا في هذا الحديث بيان أنه من القرآن مَكِّي ومنه مدني ، فالمكي : ما نزل قبل
الهجرة ، والمدني : ما نزل بعد الهجرة ، سواء كان بالمدينة أو بغيرها من أي البلاد
كان ، حتى ولو كان بمكة أو عرفة. وقد أجمعوا على سور أنها من المكي وأخر أنها من
المدني ، واختلفوا في أخر ، وأراد بعضهم ضبط ذلك بضوابط في تقييدها عسر ونظر ، ولكن
قال بعضهم : كل سورة في أولها شيء من الحروف المقطعة فهي مكية إلا البقرة وآل
عمران ، كما أن كل سورة فيها : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فهي مدنية وما
فيها : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ } فيحتمل أن يكون من هذا ومن هذا ، والغالب أنه
مكي. وقد يكون مدنيا كما في البقرة { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (3)
[البقرة : 20] ، { يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأرْضِ حَلالا
طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ
} [البقرة : 168].
قال أبو عبيد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا من سمع الأعمش يحدث عن إبراهيم بن علقمة
: كل شيء في القرآن : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فإنه أنزل بالمدينة ، وما
كان { يَاأَيُّهَا النَّاسُ } فإنه أنزل بمكة (4). ثم قال : حدثنا علي بن معبد ،
عن أبي الملَيْح ، عن ميمون بن مِهْران ، قال : ما كان في القرآن : { يَاأَيُّهَا
النَّاسُ } و { يَابَنِي آدَمَ } فإنه مكي ، وما كان : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا } فإنه مدني (5).
ومنهم من يقول : إن بعض السور نزل مرتين ، مرة بالمدينة ومرة بمكة ، والله أعلم.
ومنهم من يستثني من المكي آيات يدعي أنها من المدني ، كما في سورة الحج وغيرها.
والحق في ذلك ما دل عليه الدليل الصحيح ، فالله أعلم. وقال أبو عبيد : حدثنا عبد
الله بن
__________
(1) فضائل القرآن (ص 222) ورواه الحاكم في المستدرك (2/ 222) من طريق يزيد بن
هارون به ، وقال : "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
(2) في ط : "فكأنه".
(3) في م : "اتقوا" وهو خطأ.
(4) فضائل القرآن (ص 222).
(5) فضائل القرآن (ص 222).
(1/18)
صالح
، عن معاوية بن صالح بن علي بن أبي طلحة ، قال : نزلت بالمدينة سورة البقرة ، وآل
عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنفال ، والتوبة ، والحج ، والنور ، والأحزاب ،
والذين كفروا ، والفتح ، والحديد ، والمجادلة ، والحشر ، والممتحنة ، والحواريون ،
والتغابن ، و { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ } و {
يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ } والفجر ، { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى }
و { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } و { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ
كَفَرُوا } و { إِذَا زُلْزِلَتِ } و { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ } وسائر ذلك
بمكة (1).
وهذا إسناد صحيح عن ابن أبي طلحة مشهور ، وهو أحد أصحاب ابن عباس الذين رووا عنه
التفسير ، وقد ذكر في المدني سورا في كونها مدنية نظر ، وفاته الحجرات والمعوذات.
الحديث الثاني : وقال البخاري : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا معتمر قال : سمعت
أبي عن أبي عثمان قال : أنبئت أن جبريل ، عليه السلام ، أتى النبي صلى الله عليه
وسلم وعنده أم سلمة ، فجعل يتحدث ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "من هذا
؟" أو كما قال ، قالت : هذا دحية الكلبي ، فلما قام قلت : والله ما حسبته إلا
إياه ، حتى سمعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يُخبر خَبر جبريل. أو كما قال ، قال
أبي : فقلت لأبي عثمان : ممن سمعت هذا ؟ فقال : من أسامة بن زيد. وهكذا رواه أيضا
في علامات النبوة عن عباس بن الوليد النرسي ، ومسلم في فضائل أم سلمة عن عبد
الأعلى بن حماد [ومحمد بن عبد الأعلى] (2) كلهم عن معتمر بن سليمان به (3).
والغرض من إيراد هذا الحديث هاهنا أن السفير بين الله وبين محمد صلى الله عليه
وسلم جبريل عليه السلام وهو ملك كريم ذو وجاهة وجلالة ومكانة كما قال : { نزلَ
بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ }
[الشعراء : 193 ، 194] ، وقال تعالى : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي
قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا
صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } الآيات [التكوير : 19 - 22]. فمدح الرب تبارك وتعالى
عبديه ورسوليه جبريل ومحمدًا صلى الله عليه وسلم وسنستقصي الكلام على تفسير هذا
الكتاب (4) في موضعه إذا وصلنا إليه إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
وفي الحديث فضيلة عظيمة لأم سلمة ، رضي الله عنها - كما بينه مسلم رحمه الله -
لرؤيتها لهذا الملك العظيم ، وفضيلة أيضا لدحية بن خليفة الكلبي ، وذلك أن جبريل ،
عليه السلام ، كان كثيرا ما يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم على صورة دحية وكان
جميل الصورة ، رضي الله عنه ، وكان من قبيلة أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي ، كلهم
ينسبون إلى كلب بن وبرة وهم قبيلة من قضاعة ، وقضاعة قيل : إنهم من عدنان ، وقيل :
من قحطان ، وقيل : بطن مستقل بنفسه ، والله أعلم.
__________
(1) فضائل القرآن (ص 221).
(2) زيادة من جـ ، م.
(3) صحيح البخاري برقم (4980) ، (3634) ، وصحيح مسلم برقم (2451).
(4) في جـ. "المكان".
(1/19)
الحديث
الثالث : حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا الليث بن سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن
أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال النبي (1) صلى الله عليه وسلم : "ما من
الأنبياء نبي إلا أعطى ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه
الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" (2).
ورواه أيضا في [كتاب] (3) الاعتصام عن عبد العزيز بن عبد الله ومسلم والنسائي عن
قتيبة جميعا ، عن الليث بن سعد ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبيه - واسمه كيسان
المقبري - به.
وفي هذا الحديث فضيلة عظيمة للقرآن المجيد على كل معجزة أعطيها نبي من الأنبياء ،
وعلى كل كتاب أنزله ، وذلك أن معنى الحديث : ما من نبي إلا أعطى من المعجزات ما
آمن عليه البشر ، أي : ما كان دليلا على تصديقه فيما جاءهم به واتبعه من اتبعه من
البشر ، ثم لما مات الأنبياء لم يبق لهم معجزة بعدهم إلا ما يحكيه أتباعهم عما
شاهده في زمانه ، فأما الرسول الخاتم للرسالة محمد صلى الله عليه وسلم فإنما كان
معظم ما آتاه الله وحيا منه إليه منقولا إلى الناس بالتواتر ، ففي كل حين هو كما
أنزل ، فلهذا قال : "فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا" ، وكذلك وقع ، فإن
أتباعه أكثر من أتباع الأنبياء لعموم رسالته ودوامها إلى قيام الساعة ، واستمرار
معجزته ؛ ولهذا قال الله : { تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ
لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } [الفرقان : 1] ، وقال تعالى : { قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [الإسراء : 88]
، ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه فقال : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ
فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [هود : 13] ثم تحداهم إلى أن يأتوا
بسورة من مثله فعجزوا ، فقال : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا
بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [يونس : 38] ، وقصر التحدي على هذا المقام في السور (4)
المكية كما ذكرنا وفي المدنية أيضا كما في سورة البقرة ، حيث يقول تعالى : {
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ
الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [البقرة :
23 ، 24] فأخبرهم بأنهم عاجزون عن معارضته بمثله ، وأنهم لا يفعلون ذلك في
المستقبل أيضا ، وهذا وهم أفصح الخلق وأعلمهم بالبلاغة والشعر وقريض الكلام وضروبه
، لكن جاءهم من الله مالا قبل لأحد من البشرية من الكلام الفصيح البليغ ، الوجيز ،
المحتوي على العلوم الكثيرة الصحيحة النافعة ، والأخبار الصادقة عن الغيوب الماضية
والآتية ، والأحكام العادلة والمحكمة ، كما قال تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا } [الأنعام : 115].
وقال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن
إسحاق قال : ذكر محمد بن كعب القرظي عن الحارث بن عبد الله الأعور قال : قلت :
لآتين أمير المؤمنين ، فلأسألنه عما سمعت العشية [قال] (5) فجئته بعد العشاء ،
فدخلت عليه ، فذكر الحديث. قال : ثم
__________
(1) في جـ : "رسول الله".
(2) صحيح البخاري برقم (4981) ، (7274).
(3) زيادة من جـ.
(4) في جـ ، ط : "السورة".
(5) زيادة من جـ ، ط
(1/20)
قال
: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " "أتاني جبريل فقال : يا
محمد ، أمتك مختلفة بعدك". قال : "فقلت له : فأين المَخْرَج يا جبريل
؟" قال : فقال : "كتاب الله به يَقْصِم الله كلَّ جبار ، من اعتصم به
نجا ، ومن تركه هلك ، مرتين ، قول فَصْل وليس بالهزل ، لا تخلقه الألسن ، ولا تفنى
عجائبه ، فيه نبأ من كان قبلكم ، وفصل ما بينكم ، وخبر ما هو كائن بعدكم"
" هكذا رواه الإمام أحمد (1). وقال أبو عيسى الترمذي : حدثنا عبد بن حميد ،
حدثنا حسين بن علي الجعفي ، حدثنا حمزة الزيات ، عن أبي المختار الطائي ، عن ابن
أخي الحارث الأعور ، عن الحارث الأعور ، قال : مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون
في الأحاديث فدخلت علَى علِيّ فقلت : يا أمير المؤمنين ، ألا ترى الناس قد خاضوا
في الأحاديث ؟ قال : أو قد فعلوها ؟ قلت : نعم. قال : أما إني سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول : "إنها ستكون فتنة" فقلت : ما المَخْرج منها يا
رسول الله ؟ قال : "كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحُكْم ما
بينكم ، هو الفصل ليس بالهَزْل ، من تركه من جبار قَصَمه الله ، ومن ابتغى الهدى
في غيره أضله الله ، هو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم
، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تَلْتَبِس به الألسنة ، ولا يشبع منه العلماء
، ولا يَخْلَق عن كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، هو الذي لم تنته الجن إذْ سمعته
حتى قالوا : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ
فَآمَنَّا بِهِ } [الجن : 1 ، 2] ، من قال به صَدق ، ومن عمل به أجِر ، ومن حكم به
عَدَل ، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم". خذها إليك يا أعور ، ثم قال :
هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حمزة الزيات ، وإسناده مجهول وفي حديث الحارث
مقال (2).
قلت : لم ينفرد بروايته حمزة بن حبيب الزيات ، بل قد رواه محمد بن إسحاق ، عن محمد
بن كعب القرظي ، عن الحارث الأعور ، فبرئ حمزة من عهدته ، على أنه وإن كان ضعيف
الحديث إلا أنه إمام في القراءة والحديث ، مشهور من رواية الحارث الأعور وقد
تكلموا فيه ، بل قد كذبه بعضهم من جهة رأيه واعتقاده ، أما إنه تعمد الكذب في
الحديث فلا والله أعلم.
وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي ، رضي الله عنه ، وقد وَهِم بعضهم
في رفعه ، وهو كلام حسن صحيح على أنه قد روي له شاهد عن عبد الله بن مسعود عن
النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام العلم أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه فضائل القرآن : حدثنا أبو
اليقظان ، حدثنا عمار بن محمد الثوري أو غيره عن أبي إسحاق الهجري ، عن أبي الأحوص
، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن هذا القرآن
مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم ، إن هذا القرآن حبل الله عز وجل ،
وهو النور المبين ، والشفاء النافع ، عِصْمَة لمن تمسك به ، ونجاة لمن تبعه ، لا
يعوج فيقوم ، لا يزيغ فيستعتب ، ولا تنقضي عجائبه ، ولا يَخْلَق عن كثرة الرد ،
فاتلوه ، فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات ، أما إني لا أقول لكم الم
حرف ، ولكن ألف عشر ، ولام عشر ، وميم عشر" (3). وهذا غريب من هذا الوجه ،
وقد رواه محمد بن فضيل عن أبي إسحاق
__________
(1) المسند (1/ 91).
(2) سنن الترمذي برقم (2906).
(3) فضائل القرآن (ص 21) ورواه الحاكم في المستدرك (1/ 555) من طريق الهجري به.
(1/21)
الهجري
، واسمه إبراهيم بن مسلم ، وهو أحد التابعين ، ولكن تكلموا فيه كثيرا.
وقال أبو حاتم الرازي : لين ليس بالقوي. وقال أبو الفتح الأزدي : رفَّاع كثير
الوهم. قلت : فيحتمل ، والله أعلم ، أن يكون وهم في رفع هذا الحديث ، وإنما هو من
كلام ابن مسعود ، ولكن له شاهد من وجه آخر ، والله أعلم.
وقال أبو عبيد أيضا : حدثنا حجاج عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد
عن عبد الله بن مسعود قال : لا يسأل عبد عن نفسه إلا القرآن ، فإن كان يحب القرآن
فإنه يحب الله ورسوله (1).
الحديث الرابع : قال البخاري : حدثنا عمرو بن محمد ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ،
حدثنا أبي ، عن صالح بن كيسان ، عن ابن (2) شهاب ، قال : أخبرني أنس بن مالك أن
الله تابع الوحي على رسوله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته حتى توفاه أكثر ما كان
الوحي ، ثم توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد. وهكذا رواه مسلم عن عمرو بن
محمد هذا - وهو الناقد - وحسن الحلواني وعبد بن حميد والنسائي عن إسحاق ابن منصور
الكوسج ، أربعتهم عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهري به (3).
ومعناه : أن الله تعالى تابع نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا
بعد شيء كل وقت بما يحتاج إليه ، ولم تقع فترة بعد الفترة الأولى التي كانت بعد
نزول الملك أول مرة بقوله : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } [العلق : 1] فإنه استلبث
الوحي بعدها حينا يقال : قريبا من سنتين أو أكثر ، ثم حمي الوحي وتتابع ، وكان أول
شيء نزل بعد تلك الفترة { يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ } [المدثر
: 1 ، 2].
الحديث الخامس : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان عن الأسود بن قيس قال : سمعت جندبا
يقول : اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين ، فأتته امرأة
فقالت : يا محمد ، ما أرى شيطانك إلا تركك ، فأنزل الله تعالى : { وَالضُّحَى *
وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } [ الضحى : 1 - 3]
(4).
وقد رواه البخاري في غير موضع أيضا ، ومسلم والترمذي والنسائي من طرق أخر (5) عن
سفيان - وهو الثوري - وشعبة بن الحجاج كلاهما عن الأسود بن قيس العبدي ، عن جندب
بن عبد الله البجلي ، به. وسيأتي الكلام على هذا الحديث في تفسير سورة الضحى إن
شاء الله تعالى.
والمناسبة في ذكر هذا الحديث والذي قبله في فضائل القرآن : أن الله تعالى له
برسوله عناية
__________
(1) فضائل القرآن (ص 21).
(2) في ط ، جـ : "أبى".
(3) صحيح البخاري برقم (4982) وصحيح مسلم برقم (3016).
(4) صحيح البخاري برقم (4983).
(5) صحيح البخاري برقم (1152 ، 4950 ، 4951) وصحيح مسلم برقم (1797) وسنن الترمذي
برقم (3345) وسنن النسائي الكبرى برقم (11681).
(1/22)
عظيمة
ومحبة شديدة ، حيث جعل الوحي متتابعا عليه ولم يقطعه عنه ؛ ولهذا إنما أنزل عليه
القرآن مفرقا ليكون ذلك في أبلغ العناية والإكرام.
قال البخاري ، رحمه الله : نزل القرآن بلسان قريش والعرب ، قرآنا عربيا ، بلسان
عربي مبين ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب (1) عن الزهري : أخبرني أنس بن مالك
قال : فأمر عثمان بن عفان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبد الله بن الزبير وعبد
الرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف ، وقال لهم : إذا اختلفتم أنتم
وزيد في عربية من عربية القرآن ، فاكتبوها بلسان قريش ، فإن القرآن نزل بلسانهم ،
ففعلوا (2).
هذا الحديث قطعة من حديث سيأتي قريبا والكلام عليه ومقصود البخاري منه ظاهر ، وهو
أن القرآن نزل بلغة قريش ، وقريش خلاصة العرب ؛ ولهذا قال أبو بكر بن أبي داود :
حدثنا عبد الله بن محمد بن خلاد ، حدثنا يزيد ، حدثنا شيبان ، عن عبد الملك بن
عمير ، عن جابر بن سمرة ، قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : لا يملى في مصاحفنا هذه
إلا غلمان قريش أو غلمان ثقيف. وهذا إسناد صحيح (3). وقال أيضا : حدثنا إسماعيل بن
أسد ، حدثنا هوذة ، حدثنا عوف ، عن عبد الله بن فضالة ، قال : لما أراد عمر أن
يكتب الإمام أقعد له نفرا من أصحابه وقال : إذا اختلفتم في اللغة فاكتبوها بلغة
مضر ، فإن القرآن نزل بلغة رجل من مضر صلى الله عليه وسلم (4) وقد قال الله تعالى
: { قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [الزمر :
28] ، وقال تعالى : { وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نزلَ بِهِ
الرُّوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ
عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } [الشعراء : 192 - 195] ، وقال تعالى : { وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ
مُبِينٌ } [النحل : 103] ، وقال تعالى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا
أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَاْعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ }
الآية [فصلت : 44] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك.
ثم ذكر البخاري ، رحمه الله ، حديث يعلى بن أمية أنه كان يقول : ليتني أرى رسول
الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي. فذكر الحديث الذي سأل عمن أحرم
بعمرة وهو متمطخ بطيب وعليه جبة ، وقال : فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة
ثم فجأه الوحي ، فأشار عمر إلى يعلى أي : تعال ، فجاء يعلى ، فأدخل رأسه فإذا هو
محمر الوجه يغط كذلك ساعة ، ثم سرى عنه ، فقال : "أين الذي سألني عن العمرة
آنفا ؟ " فذكر أمره بنزع الجبة وغسل الطيب.
وهذا الحديث رواه جماعة (5) من طرق عديدة (6) والكلام عليه في كتاب الحج ، ولا
تظهر مناسبة ما بينه وبين هذه الترجمة ، ولا يكاد ، ولو ذكر في الترجمة التي قبلها
لكان أظهر وأبين ، والله أعلم.
__________
(1) في جـ : "سفيان".
(2) صحيح البخاري برقم (4984).
(3) المصاحف (ص 17).
(4) المصاحف (ص 17).
(5) ط ، جـ : "الجماعة".
(6) صحيح البخاري برقم (4985) ، وبرقم (1847 ، 1789) وصحيح مسلم برقم (1180) وسنن
أبي داود برقم (1819 ، 1820) وسنن الترمذي برقم (836) وسنن النسائي (5/ 130).
(1/23)
جمع
القرآن
قال المؤلف ، رحمه الله (1) فائدة جليلة حسنة : ثبت في الصحيحين عن أنس قال : جمع
القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعة ، كلهم من الأنصار ؛ أبي بن كعب ،
ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد. فقيل له : من أبو زيد ؟ قال : أحد
عمومتي. وفي لفظ للبخاري عن أنس قال : مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع
القرآن غير أربعة ؛ أبو الدرداء ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد ، ونحن
ورثناه.
قلت : أبو زيد هذا ليس بمشهور ؛ لأنه مات قديما ، وقد ذكروه في أهل بدر ، وقال
بعضهم : سعيد بن عبيد. ومعنى قول أنس : "ولم يجمع القرآن". يعني من
الأنصار سوى هؤلاء ، وإلا فمن المهاجرين جماعة كانوا يجمعون القرآن كالصديق ، وابن
مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم.
قال الشيخ أبو الحسن الأشعري ، رحمه الله : قد علم بالاضطرار أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قدم أبا بكر في مرض الموت ليصلي بالناس ، وقد ثبت في الخبر
المتواتر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ليؤم القوم
أقرؤهم" " (2) فلو لم يكن الصديق أقرأ القوم لما قدمه عليهم. نقله أبو
بكر بن زنجويه في كتاب فضائل الصديق عن الأشعري.
وحكى القرطبي في أوائل تفسيره عن القاضي أبي بكر الباقلاني أنه قال - بعد ذكره
حديث أنس بن مالك هذا - : فقد ثبت بالطرق المتواترة أنه جمع القرآن عثمان ، وعلي ،
وتميم الداري ، وعبادة بن الصامت ، وعبد الله بن عمرو بن العاص. فقول أنس :
"لم يجمعه غير أربعة" يحتمل لم يأخذه تلقيا من فِي رسول الله صلى الله
عليه وسلم غير هؤلاء الأربعة ، وأن بعضهم تلقى بعضه عن بعض. قال : وقد تظاهرت
الروايات بأن الأئمة الأربعة جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأجل
سبقهم إلى الإسلام ، وإعظام الرسول لهم (3).
قال القرطبي : لم يذكر القاضي ابن مسعود وسالما مولى أبي حذيفة ، وهما ممن جمع
القرآن (4). [نقلت هذه من على ظهر الجزء الأول من أجزاء المؤلف] (5).أ. هـ.
حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، حدثنا ابن شهاب ، عن عبيد بن السباق
، أن زيد بن ثابت قال : أرسل إلىّ أبو بكر - مقتل أهل اليمامة - فإذا عمر بن
الخطاب عنده ، فقال أبو بكر : إن عمر بن الخطاب أتاني ، فقال : إن القتل قد
استَحَرَّ بقُرَّاء القرآن ، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب
كثير من القرآن ، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. فقلت لعمر : كيف نفعل شيئا لم
يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال عمر : هذا والله خير ، فلم يزل عمر
يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد : قال أبو بكر
: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك ، وقد
__________
(1) في م : "قال المؤلف ، رحمه الله ، فيما وجد على ظهر الجزء الأول من
تفسيره" وسيأتي هذا في ط في آخر الفائدة.
(2) رواه مسلم في صحيحه برقم (672) من حديث عقبة بن عمرو ، رضي الله عنه.
(3) تفسير القرطبي (1/ 57).
(4) تفسير القرطبي (1/ 57).
(5) زيادة من ط.
(1/24)
كنت
تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتتبع القرآن فاجمعه ، فوالله لو
كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن. قلت : كيف
تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : هو والله خير. فلم يزل
أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر ، رضي الله
عنهما. فتتبعت القرآن أجمعه من العُسُب واللِّخَاف وصدور الرجال ، ووجدت آخر سورة
التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ } [التوبة : 128] حتى خاتمة براءة ، فكانت الصحف عند أبي بكر
حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حياته ، ثم عند حفصة بنت عمر ، رضي الله عنهم (1).
وقد روى البخاري هذا [الحديث] (2) في غير موضع من كتابه ، ورواه الإمام أحمد
والترمذي والنسائي من طرق عن الزهري به (3).
وهذا من أحسن وأجل وأعظم ما فعله الصديق ، رضي الله عنه ، فإنه أقامه الله بعد
النبي صلى الله عليه وسلم مقاما لا ينبغي لأحد بعده ، قاتل الأعداء من مانعي
الزكاة ، والمرتدين ، والفرس والروم ، ونفذ الجيوش ، وبعث البعوث والسرايا ، ورد
الأمر إلى نصابه بعد الخوف من تفرقه وذهابه ، وجمع القرآن العظيم من أماكنه
المتفرقة حتى تمكن القارئ من حفظه كله ، وكان هذا من سر قوله تعالى : { إِنَّا
نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر : 9] فجمع الصديق
الخير وكف الشرور ، رضي الله عنه وأرضاه. ولهذا روى غير واحد من الأئمة منهم وَكِيع
وابن زيد وقبيصة عن سفيان الثوري عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير عن عبد
خير ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، أنه قال : أعظم الناس أجرا في المصاحف
أبو بكر ، إن أبا بكر كان أول من جمع القرآن بين اللوحين (4). إسناده صحيح.
وقال أبو بكر بن أبي داود في كتاب المصاحف : حدثنا هارون بن إسحاق ، حدثنا عبدة ،
عن هشام ، عن أبيه ، أن أبا بكر هو الذي جمع القرآن بعد النبي صلى الله عليه وسلم
، يقول : ختمه (5). صحيح أيضا. وكان عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، هو الذي تنبه
لذلك لما استحر القتل بالقراء ، أي اشتد القتل وكثر في قراء القرآن يوم اليمامة ،
يعني : يوم اليمامة ، يعني يوم قتال مسيلمة الكذاب وأصحابه ومن بني حنيفة بأرض
اليمامة في حديقة الموت ، وذلك أن مسيلمة التف معه من المرتدين قريب من مائة ألف ،
فجهز الصديق لقتاله خالد بن الوليد في قريب من ثلاثة عشر ألفًا ، فالتقوا معهم (6)
فانكشف الجيش الإسلامي لكثرة من فيه من الأعراب ، فنادى القراء من كبار الصحابة :
يا خالد ، يقولون : ميزنا من هؤلاء الأعراب فتميزوا (7) منهم ، وانفردوا ، فكانوا
قريبا من ثلاثة آلاف ، ثم صدقوا الحملة ، وقاتلوا قتالا شديدا ، وجعلوا يتنادون :
يا أصحاب سورة البقرة ، فلم يزل ذلك دأبهم حتى فتح الله
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4986).
(2) زيادة من جـ.
(3) صحيح البخاري برقم (4679 ، 4989) والمسند (1/ 10) وسنن الترمذي برقم (3103)
وسنن النسائي الكبرى برقم (7995).
(4) رواه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص 156) وابن أبي داود في المصاحف (ص 11).
(5) المصاحف (ص 12).
(6) في جـ : "بهم".
(7) في جـ : "فميزوا".
(1/25)
عليهم
ووَلَّى جيش الكفار (1) فارا ، وأتبعتهم السيوف المسلمة في [أقنيتهم] (2) قتلا
وأسرا ، وقتل الله مسيلمة ، وفرق شمل أصحابه ، ثم رجعوا إلى الإسلام ، ولكن قتل من
القراء يومئذ قريب من خمسمائة ، رضي الله عنهم ، فلهذا أشار عمر على الصِّديق بأن
يجمع القرآن ؛ لئلا يذهب منه شيء بسبب موت من يكون يحفظه من الصحابة بعد ذلك في
مواطن القتال ، فإذا كتب وحفظ صار ذلك محفوظا فلا فرق بين حياة من بلغه أو موته ،
فراجعه الصديق قليلا ليثبت في الأمر ، ثم وافقه ، وكذلك راجعهما زيد بن ثابت في
ذلك ثم صارا (3) إلى ما رأياه ، رضي الله عنهم أجمعين ، وهذا المقام من أعظم فضائل
زيد بن ثابت الأنصاري ؛ ولهذا قال أبو بكر بن أبي داود : حدثنا عبد الله بن محمد
بن خَلاد ، حدثنا يزيد ، حدثنا مبارك بن فضالة ، عن الحسن ؛ أن عمر بن الخطاب سأل
عن آية من كتاب الله فقيل : كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة ، فقال : إنا لله ،
فأمر بالقرآن فجمع فكان أول من جمعه في المصحف (4).
هذا منقطع ، فإن الحسن لم يدرك عمر ، ومعناه : أشار بجمعه فجمع ؛ ولهذا كان مهيمنا
على حفظه وجمعه كما رواه ابن أبي داود حيث قال : حدثنا أبو الطاهر (5) حدثنا ابن
وهب ، حدثنا عمر بن طلحة الليثي ، عن محمد بن عمرو بن علقمة ، عن يحيى بن عبد
الرحمن بن حاطب ، أن عمر لما جمع القرآن كان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شاهدان
(6).
وذلك عن أمر الصديق له في ذلك ، كما قال أبو بكر بن أبي داود : حدثنا أبو الطاهر ،
حدثنا ابن وهب ، أخبرني ابن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : لما
استحر القتل بالقراء يومئذ فرق أبو بكر ، رضي الله عنه ، أن يضيع ، فقال لعمر بن
الخطاب ولزيد بن ثابت : فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه (7).
منقطع حسن.
ولهذا قال زيد بن ثابت : وجدت آخر سورة التوبة ، يعني قوله تعالى : { لَقَدْ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ } إلى آخر الآيتين [التوبة : 128 ، 129] ، مع
أبي خزيمة الأنصاري ، وفي رواية : مع خزيمة بن ثابت الذي جعل رسول الله صلى الله
عليه وسلم شهادته بشهادتين لم أجدها مع غيره فكتبوها عنه لأنه جعل رسول الله صلى
الله عليه وسلم شهادته بشهادتين في قصة الفرس التي ابتاعها رسول الله صلى الله
عليه وسلم من الأعرابي ، فأنكر الأعرابي البيع ، فشهد خزيمة هذا بتصديق رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، فأمضى شهادته وقبض الفرس من الأعرابي. والحديث رواه أهل السنن
(8) وهو مشهور ، وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية أن أبيّ بن كعب
أملاها عليهم مع خزيمة بن ثابت (9).
وقد روى ابن وهب عن عمرو (10) بن طلحة الليثي ، عن محمد بن عمرو بن علقمة ، عن
يحيى
__________
(1) في جـ : "الكفر".
(2) في ط : "أخفيتهم".
(3) في ط : "صاروا".
(4) المصاحف (ص 16).
(5) في جـ : "الظاهر".
(6) المصاحف (ص 17).
(7) المصاحف (ص 12).
(8) سنن أبي داود برقم (3607) وسنن النسائي (7/ 302).
(9) رواه أحمد في المسند (5/ 134) من طريق عمر بن شقيق عن أبي جعفر به.
(10) في ط : "عمر".
(1/26)
ابن
عبد الرحمن بن حاطب ؛ أن عثمان شهد بذلك أيضًا (1).
وأما قول زيد [بن ثابت] (2) "فتتبعت القرآن أجمعه من العُسُب واللِّخاف وصدور
الرجال" وفي رواية : "من العسب والرِّقَاع والأضلاع ، وفي رواية :
"من الأكتاف والأقتاب وصدور الرجال".
أما العُسُب فجمع عسيب. قال أبو النصر إسماعيل بن حماد الجوهري : وهو من السعف
فويق الكَرَب لم ينبت عليه الخوص ، وما نبت عليه الخوص فهو السعف.
واللِّخاف : جمع لَخْفَة وهي القطعة من الحجارة مستدقة ، كانوا يكتبون عليها وعلى
العسب وغير ذلك ، مما يمكنهم الكتابة عليه مما يناسب ما يسمعونه من القرآن من رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من لم يكن يحسن الكتابة أو يثق بحفظه ، فكان يحفظه ، فتلقاه زيد بن ثابت من
هذا من عسيبه ، ومن هذا من لخافه ، ومن صدر هذا ، أي من حفظه ، وكانوا أحرص شيء
على أداء الأمانات وهذا من أعظم الأمانة ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أودعهم ذلك ليبلغوه إلى من بعده كما قال [الله] (3) تعالى : { يَاأَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } [المائدة : 67] ، ففعل ،
صلوات الله وسلامه عليه ، ما أمر به ؛ ولهذا سألهم في حجة الوداع يوم عرفة على
رؤوس الأشهاد ، والصحابة أوفر ما كانوا مجتمعين ، فقال : "إنكم مسؤولون عني
فما أنتم قائلون (4) ؟ ". فقالوا : نشهد أنك قد بَلَّغت وأدَّيت ونصحت ، فجعل
يشير بأصبعه إلى السماء ، وينكبها عليهم ويقول : "اللهم اشهد ، اللهم اشهد ،
اللهم اشهد". رواه مسلم عن جابر (5). وقد أمر أمته أن يبلغ الشاهد الغائب
وقال : "بَلِّغوا عني ولو آية" (6) يعني : ولو لم يكن مع أحدكم سوى آية
واحدة فليؤدها إلى من وراءه ، فبلَّغوا عنه ما أمرهم به ، فأدوا القرآن قرآنا ،
والسنة سنة ، لم يلبسوا هذا بهذا ؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : "من كتب
عني سوى القرآن فليمحه" (7) أي : لئلا يختلط بالقرآن ، وليس معناه : ألا
يحفظوا السنة ويرووها ، والله أعلم.
فلهذا نعلم بالضرورة أنه لم يبق من القرآن مما أداه الرسول صلى الله عليه وسلم
إليهم إلا وقد بلغوه إلينا ، ولله الحمد والمنة ، فكان الذي فعله الشيخان أبو بكر
وعمر ، رضي الله عنهما ، من أكبر المصالح الدينية وأعظمها ، من حفظهما كتاب الله
في الصحف ؛ لئلا يذهب منه شيء بموت من تلقاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم
كانت تلك الصحف عند الصديق أيام حياته ، ثم أخذها عمر بعده محروسة معظمة مكرمة ،
فلما مات كانت عند حفصة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، حتى أخذها منها أمير
المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
قال البخاري ، رحمه الله : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا إبراهيم ، حدثنا ابن شهاب
، عن
__________
(1) رواه ابن أبي داود في المصاحف (ص 17).
(2) زيادة من م.
(3) زيادة من م.
(4) في ط ، جـ : "مجيبون".
(5) صحيح مسلم برقم (1218).
(6) رواه البخاري في صحيحه برقم (3461) من حديث عبد الله بن عمرو ، رضي الله
عنهما.
(7) رواه مسلم في صحيحه برقم (2299) من حديث أبي سعيد ، رضي الله عنه.
(1/27)
أنس
بن مالك ، حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان بن عفان رضي الله عنهما وكان
يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ، فأفزع حذيفة اختلافهم
في القراءة. فقال حذيفة لعثمان : يا أمير المؤمنين ، أدرك هذه الأمة قبل أن
يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلى إلينا
بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك ، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ، فأمر زيد
بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها
في المصاحف ، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت
في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ، فإنما أنزل بلسانهم. ففعلوا ، حتى إذا
نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا
، وأمر بما سواه من القرآن في محل صحيفة أو مصحف أن يحرق. قال ابن شهاب الزهري :
فأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت : سمع زيد بن ثابت قال : فقدت آية من الأحزاب حين
نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها ، التمسناها
فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا
عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } [الأحزاب : 23] ، فألحقناها في سورتها في المصحف
(1).
وهذا - أيضا - من أكبر مناقب أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، فإن
الشيخين سبقاه إلى حفظ القرآن أن يذهب منه شيء وهو جمع الناس على قراءة واحدة ؛
لئلا يختلفوا في القرآن ، ووافقه على ذلك جميع الصحابة ، وإنما روي عن عبد الله
(2) بن مسعود شيء من التغضب بسبب أنه لم يكن ممن كتب المصاحف وأمر أصحابه بغل
مصاحفهم لما أمر عثمان بحرقه ماعدا المصحف الإمام ، ثم رجع ابن مسعود إلى الوفاق
حتى قال علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه : لو لم يفعل ذلك عثمان لفعلته أنا. فاتفق
الأئمة (3) أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، رضي الله عنهم ، على أن ذلك من مصالح الدين
، وهم الخلفاء الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي وسنة
الخلفاء الراشدين من بعدي " (4). وكان السبب في هذا حذيفة بن اليمان ، رضي
الله عنه لما (5) كان غازيا في فتح أرمينية وأذربيجان ، وكان قد اجتمع هناك أهل
الشام والعراق وجعل حذيفة يسمع منهم قراءات على حروف شتى ، ورأى منهم اختلافا
وافتراقا ، فلما رجع إلى عثمان أعلمه وقال لعثمان : أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا
في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى.
وذلك أن اليهود والنصارى مختلفون فيما بأيديهم من الكتب ، فاليهود بأيديهم نسخة من
التوراة ، والسامرة يخالفونهم في ألفاظ كثيرة ومعان أيضا ، وليس في توراة السامرة
حرف الهمزة ولا حرف الياء ، والنصارى - أيضا - بأيديهم توراة يسمونها العتيقة وهي
مخالفة لنسختي اليهود والسامرة ، وأما
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4987 ، 4988).
(2) في ط ، جـ : "عبد الرحمن".
(3) في ط ، جـ : "الأربعة".
(4) رواه أحمد في المسند (4/ 126) وأبو داود في السنن برقم (07 46) والترمذي في
السنن برقم (2676) وقال الترمذي : "حديث حسن صحيح".
(5) في ط ، جـ : "فإنه".
(1/28)
الأناجيل
التي بأيدي النصارى فأربعة : إنجيل مرقس ، وإنجيل لوقا وإنجيل متى ، وإنجيل يوحنا
، وهي مختلفة - أيضا - اختلافا كثيرا ، وهذه الأناجيل الأربعة كل منها لطيف الحجم
منها ما هو قريب من أربع عشرة ورقة بخط متوسط ، ومنها ما هو أكثر من ذلك إما
بالنصف أو بالضعف ، ومضمونها سيرة عيسى وأيامه وأحكامه وكلامه وفيه شيء قليل مما
يدعون أنه كلام الله ، وهي مع هذا مختلفة ، كما قلنا ، وكذلك التوراة مع ما فيها
من التبديل والتحريف ، ثم هما منسوخان بعد ذلك بهذه الشريعة المحمدية المطهرة.
فلما قال حذيفة لعثمان ذلك أفزعه وأرسل إلى حفصة أم المؤمنين أن ترسل إليه بالصحف
التي عندها مما جمعه الشيخان ليكتب ذلك في مصحف واحد ، وينفذه إلى الآفاق ، ويجمع
الناس على القراءة به وترك ما سواه ، ففعلت حفصة وأمر عثمان هؤلاء الأربعة وهم زيد
بن ثابت الأنصاري ، أحد كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعبد الله بن
الزبير بن العوام القرشي الأسدي ، أحد فقهاء الصحابة ونجبائهم علما وعملا وأصلا
وفضلا وسعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية القرشي الأموي ، وكان كريما جوادا ممدحا
، وكان أشبه الناس لهجة برسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الرحمن بن الحارث بن
هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي ، فجلس هؤلاء النفر
يكتبون القرآن نسخا ، وإذا اختلفوا في وضع الكتابة على أي لغة رجعوا إلى عثمان ،
كما اختلفوا في التابوت أيكتبونه بالتاء والهاء ، فقال زيد بن ثابت : إنما هو
التابوه وقال الثلاثة القرشيون : إنما هو التابوت فتراجعوا (1) إلى عثمان فقال :
اكتبوه بلغة قريش ، فإن القرآن نزل بلغتهم.
وكان عثمان - والله أعلم - رتب السور في المصحف ، وقدم السبع الطوال وثنى بالمئين
؛ ولهذا روى ابن جرير وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث غير واحد من الأئمة
الكبار ، عن عوف الأعرابي ، عن يزيد الفارسي ، عن ابن عباس قال : قلت لعثمان بن
عفان : ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين ،
فقرنتم بينها ولم تكتبوا بينها سطر "بسم الله الرحمن الرحيم" ،
ووضعتموها في السبع الطوال ؟ ما حملكم على ذلك ؟ فقال عثمان : كان رسول الله مما
يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا
بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ،
فإذا أنزلت عليه الآية فيقول : ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا
، وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر القرآن ، وكانت
قصتها شبيهة بقصتها ، وحسبت أنها منها وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين
لنا أنها منها ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر "بسم الله
الرحمن الرحيم" فوضعتها في السبع الطوال (2).
__________
(1) في ط : "فترافعوا".
(2) تفسير الطبري (1/ 102) وسنن أبي داود برقم (786) وسنن الترمذي برقم (3086)
وسنن النسائي الكبرى برقم (8007) ويزيد الفارسي مجهول وقد انفرد بهذا الحديث.
(1/29)
ففهم
من هذا الحديث أن ترتيب الآيات والسور أمر توقيفي متلقى عن الرسول صلى الله عليه
وسلم ، وأما ترتيب السور فمن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ؛ ولهذا
ليس لأحد أن يقرأ القرآن إلا مرتبا ؛ فإن نكسه أخطأ خطأ كبيرا. وأما ترتيب السور
فمستحب اقتداء بعثمان ، رضي الله عنه ، والأولى إذا قرأ أن يقرأ متواليا كما قرأ ،
عليه الصلاة والسلام ، في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين وتارة بسبح وهل
أتاك حديث الغاشية ، فإن فرق جاز ، كما صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في
العيد بقاف واقتربت الساعة ، رواه مسلم عن أبي واقد (1) في الصحيحين عن أبي هريرة
، رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم
الجمعة : الم السجدة ، وهل أتى على الإنسان (2).
وإن قدم بعض السور على بعض جاز أيضا ، فقد روى حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قرأ البقرة ثم النساء ثم آل عمران. أخرجه مسلم (3).
وقرأ عمر في الفجر بسورة النحل ثم بيوسف. ثم إن عثمان رد الصحف إلى حفصة ، فلم تزل
عندها حتى أرسل إليها مروان بن الحكم يطلبها فلم تعطه حتى ماتت ، فأخذها من عبد
الله بن عمر فحرقها لئلا يكون فيها شيء يخالف المصاحف التي نفذها عثمان إلى الآفاق
، مصحفا إلى أهل مكة ، ومصحفا إلى البصرة ، وآخر إلى الكوفة ، وآخر إلى الشام ،
وآخر إلى اليمن ، وآخر إلى البحرين ، وترك عند أهل المدينة مصحفا ، رواه أبو بكر
بن أبي داود عن أبي حاتم السجستاني ، سمعه يقوله (4). وصحح القرطبي أنه إنما نفذ
إلى الآفاق أربعة مصاحف. وهذا غريب ، وأمر بما عدا ذلك من مصاحف الناس أن يحرق
لئلا تختلف قراءات الناس في الآفاق ، وقد وافقه الصحابة في عصره على ذلك ولم ينكره
أحد منهم ، وإنما نقم عليه ذلك أولئك الرهط الذين تمالؤوا عليه وقتلوه ، قاتلهم
الله ، وفي ذلك جملة ما أنكروه مما لا أصل له ، وأما سادات المسلمين من الصحابة ،
ومن نشأ في عصرهم ذلك من التابعين ، فكلهم وافقوه.
قال أبو داود الطيالسي وابن مهدي وغُنْدَر عن شعبة ، عن عَلْقَمة بن مَرْثَد ، عن
رجل ، عن سُوَيد بن غفلة ، قال عليّ حين حرق عثمان المصاحف : لو لم يصنعه هو
لصنعته (5).
وقال أبو بكر بن أبي داود : حدثنا أحمد بن سِنَان ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا شعبة
عن أبي إسحاق (6) عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص ، قال : أدركت الناس متوافرين حين
حرق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك ، أو قال : لم ينكر ذلك منهم أحد (7). وهذا إسناد
صحيح.
وقال أيضا : حدثنا إسحاق بن إبراهيم الصواف ، حدثنا يحيى بن كثير ، حدثنا ثابت بن
عمارة
__________
(1) صحيح مسلم برقم (891).
(2) صحيح البخاري برقم (891) وصحيح مسلم برقم (880).
(3) صحيح مسلم برقم (772).
(4) المصاحف لابن أبي داود (ص 43).
(5) رواه ابن أبي داود في المصاحف (ص19).
(6) في جـ : "أبي مصعب".
(7) المصاحف (ص19).
(1/30)
الحنفي
، قال : سمعت غنيم بن قيس المازني قال : قرأت القرآن على الحرفين جميعا ، والله ما
يسرني أن عثمان لم يكتب المصحف ، وأنه ولد لكل مسلم كلما أصبح غلام ، فأصبح له مثل
ماله. قال : قلنا له : يا أبا العنبر ، ولم ؟ قال : لو لم يكتب عثمان المصحف لطفق
الناس يقرؤون الشعر (1).
حدثنا يعقوب بن سفيان ، حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثني عمران بن حدير ، عن أبي
مِجْلَز قال : لولا أن عثمان كتب القرآن لألفيت الناس يقرؤون الشعر. حدثنا أحمد بن
سنان قال : سمعت ابن مهدي يقول : خصلتان لعثمان بن عفان ليستا لأبي بكر ولا لعمر :
صبره نفسه حتى قتل مظلومًا ، وجمعه الناس على المصحف (2).
وأما عبد الله بن مسعود فقد قال إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن حميد (3) بن مالك قال
: لما أمر عثمان بالمصاحف - يعني بتحريقها - ساء ذلك عبد الله بن مسعود وقال : من
استطاع منكم أن يغلَّ مصحفًا فليغلل ، فإنه من غلَّ شيئًا جاء بما غل يوم القيامة.
ثم قال عبد الله : لقد قرأت القرآن من فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين
سورة وزيد صبي ، أفأترك ما أخذت من فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم (4).
وقال أبو بكر : حدثنا عبد الله بن محمد بن النعمان ، حدثنا سعيد بن سليمان (5)
حدثتا ابن (6) شهاب ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، قال : خطبنا ابن مسعود على المنبر
فقال : { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [آل عمران :
161] ، غلوا مصاحفكم ، وكيف تأمروني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت ، وقد قرأت
القرآن من فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة ، وإن زيد بن ثابت
ليأتي مع الغلمان له ذؤابتان ، والله ما نزل من القرآن شيء إلا وأنا أعلم في أي
شيء نزل ، وما أحد أعلم بكتاب الله مني ، وما أنا بخيركم ، ولو أعلم مكانا تبلغه
الإبل أعلم بكتاب الله مني لأتيته. قال أبو وائل : فلما نزل عن (7) المنبر جلست في
الحلق ، فما أحد ينكر ما قال (8). أصل هذا مخرج في الصحيحين (9) وعندهما : ولقد
علم أصحاب محمد أني أعلمهم بكتاب الله. وقول أبي وائل : "فما أحد ينكر ما
قال" ، يعني : من فضله وعلمه وحفظه ، والله أعلم.
وأما أمره بغَلّ المصاحف وكتمانها ، فقد أنكره عليه غير واحد. قال الأعمش عن
إبراهيم ، عن علقمة ، قال : قدمت الشام فلقيت أبا الدرداء ، فقال : كنا نعد عبد
الله جبانا (10) فما باله يواثب الأمراء (11). وقال أبو بكر بن أبي داود : باب رضا
عبد الله بن مسعود بجمع عثمان المصاحف بعد ذلك : حدثنا عبد الله بن سعيد ومحمد بن
عثمان العجلي قالا حدثنا أبو أسامة ، حدثني الوليد بن قيس ، عن عثمان بن حسان
العامري ، عن فُلفُلة الجعفي قال : فزعت فيمن فزع إلى عبد الله في
__________
(1) المصاحف (ص 19).
(2) المصاحف (ص 19).
(3) في جـ : "عمير".
(4) المصاحف (ص 21).
(5) في جـ : "سلمان".
(6) في ط ، جـ : "أبو".
(7) في جـ : "من".
(8) المصاحف (ص 23).
(9) صحيح البخاري برقم (5000) وصحيح مسلم برقم (2462).
(10) في المصاحف : "حنانا".
(11) المصاحف (ص 25).
(1/31)
المصاحف
، فدخلنا عليه ، فقال رجل من القوم : إنا لم نأتك زائرين ، ولكنا جئنا حين راعنا
هذا الخبر ، فقال : إن القرآن أنزل على نبيكم من سبعة أبواب ، على سبعة أحرف - أو
حروف - وإن الكتاب قبلكم كان ينزل - أو نزل - من باب واحد على حرف واحد (1). وهذا
الذي استدل به أبو بكر ، رحمه الله ، على رجوع ابن مسعود فيه نظر ، من جهة أنه لا
يظهر من هذا اللفظ رجوع عما كان يذهب إليه ، والله أعلم.
وقال أبو بكر أيضا : حدثنا عمي ، حدثنا أبو رجاء ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ،
عن مصعب بن سعد قال : قام عثمان فخطب الناس فقال : [يا] (2) أيها الناس عهدكم
بنبيكم منذ ثلاث عشرة وأنتم تمترون في القرآن ، وتقولون : قراءة أبي وقراءة عبد
الله ، يقول الرجل : والله ما تقيم قراءتك ، وأعزم على كل رجل منكم ما كان معه من
كتاب الله لما جاء به ، فكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن حتى جمع من
ذلك كثرة ، ثم دخل عثمان فدعاهم رجلا رجلا فناشدهم : لسمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم أمله عليك فيقول : نعم ، فلما فرغ من ذلك عثمان قال : من أكتَبُ الناس ؟
قالوا : كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت. قال : فأي الناس أعرب ؟
قالوا : سعيد بن العاص. قال عثمان : فليمْل سعيد ، وليكتب زيد. فكتب زيد مصاحف
ففرقها في الناس ، فسمعت بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون (3) قد
أحسن (4). إسناده (5) صحيح.
وقال أيضا : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد ، حدثنا أبو بكر ، حدثنا هشام بن حسان
، عن محمد بن سيرين ، عن كثير بن أفلح قال : لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع
له اثني عشر رجلا من قريش والأنصار ، فيهم أبيّ بن كعب وزيد بن ثابت ، قال :
فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر فجيء بها ، قال : وكان عثمان يتعاهدهم ، وكانوا
إذا تدارؤوا في شيء أخره. قال محمد : فقلت لكثير - وكان فيهم فيمن يكتب - : هل
تدرون لم كانوا يؤخرونه ؟ قال : لا. قال محمد : فظننت ظنا إنما كانوا يؤخرونها
لينظروا أحدثهم عهدا بالعرضة الأخيرة فيكتبونها على قوله (6). صحيح أيضا.
قلت : الربعة هي الكتب المجتمعة ، وكانت عند حفصة ، رضي الله عنها ، فلما جمعها
عثمان ، رضي الله عنه ، في المصحف ، ردها إليها ، ولم يحرقها في جملة ما حرقه مما
سواها ، إلا أنها هي بعينها الذي كتبه ، وإنما رتبه ، ثم إنه كان قد عاهدها على أن
يردها إليها ، فما زالت عندها حتى ماتت ، ثم أخذها مروان بن الحكم فحرقها وتأول في
ذلك ما تأول (7) عثمان ، كما رواه أبو بكر بن أبي داود :
حدثنا محمد بن عوف ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني سالم بن
عبد الله :
__________
(1) المصاحف (ص 25).
(2) زيادة من جـ ، ط.
(3) في ط ، جـ : "يقول".
(4) المصاحف (ص 31).
(5) في جـ ، ط : "إسناد".
(6) المصاحف (ص 33).
(7) في ط : "أول".
(1/32)
أن
مروان كان يرسل إلى حفصة يسألها الصحف التي كتب منها القرآن ، فتأبى حفصة أن تعطيه
إياها. قال سالم : فلما توفيت حفصة ورجعنا من دفنها أرسل مروان بالعزيمة إلى عبد الله
بن عمر ليرسلن إليه بتلك الصحف ، فأرسل بها إليه عبد الله بن عمر فأمر بها مروان
فشققت ، وقال مروان : إنما فعلت هذا لأن ما فيها قد كتب وحفظ بالمصحف ، فخشيت إن
طال بالناس زمان (1) أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب أو يقول : إنه كان شيء منها
لم يكتب (2). إسناد صحيح.
وأما ما رواه الزهري (3) عن خارجة عن أبيه في شأن آية الأحزاب وإلحاقهم إياها في
سورتها ، فذكره (4) لهذا بعد جمع عثمان فيه نظر ، وإنما هذا كان حال جمع الصديق
الصحف كما جاء مصرحًا به في غير هذه الرواية عن الزهري ، عن عبيد بن السباق ، عن
زيد بن ثابت ، والدليل على ذلك أنه قال : "فألحقناها (5) في سورتها من
المصحف" وليست هذه الآية ملحقة في الحاشية في المصاحف العثمانية. فهذه
الأفعال (6) من أكبر القربات التي بادر إليها الأئمة الراشدون أبو بكر وعمر ، رضي
الله عنهما ، حفظا على الناس القرآن ، جمعاه لئلا يذهب منه شيء ، وعثمان ، رضي
الله عنه ، جمع قراءات الناس على مصحف واحد ووضعه على العرضة الأخيرة التي عارض
بها جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر رمضان من عمره ، عليه الصلاة
والسلام ، فإنه عارضه به عامئذ مرتين ؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لفاطمة ابنته لما مرض : "وما أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي". أخرجاه في
الصحيحين (7).
وقد روي أن عليًا ، رضي الله عنه ، أراد أن يجمع القرآن بعد رسول الله صلى الله
عليه وسلم مرتبا بحسب نزوله أولا فأولا كما رواه (8) ابن أبي داود حيث قال : حدثنا
محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا ابن فضيل ، عن أشعث ، عن محمد بن سيرين قال : لما
توفي النبي صلى الله عليه وسلم أقسم علي ألا يرتدي برداء إلا لجمعة حتى يجمع
القرآن في مصحف ففعل ، فأرسل ، إليه أبو بكر ، رضي الله عنه ، بعد أيام : أكرهت
إمارتي يا أبا الحسن ؟ فقال : لا والله إلا أني أقسمت ألا أرتدي برداء إلا لجمعة.
فبايعه ثم رجع (9). هكذا رواه وفيه انقطاع ، ثم قال : لم يذكر المصحف أحد إلا أشعث
(10) وهو لين الحديث (11) وإنما رووا (12) حتى أجمع القرآن ، يعني أتم حفظه ، فإنه
يقال للذي يحفظ القرآن : قد جمع القرآن.
قلت : وهذا الذي قاله أبو بكر أظهر ، والله أعلم ، فإن عليا لم ينقل عنه مصحف على
ما قيل ولا غير ذلك ، ولكن قد توجد مصاحف على الوضع العثماني ، يقال : إنها بخط
علي ، رضي الله عنه ، وفي ذلك نظر ، فإنه في بعضها : كتبه علي بن أبي طالب ، وهذا
لحن من الكلام (13) ؛ وعلي ،
__________
(1) في جـ : "الزمان".
(2) المصاحف (ص 32).
(3) رواه ابن أبي داود في المصاحف (ص 37) عن الزهري.
(4) في جـ : "فذكر".
(5) في طـ ، جـ : "وألحقناها".
(6) في جـ : "الآيات".
(7) صحيح البخاري برقم (6285 ، 6286) وصحيح مسلم برقم (2450).
(8) في جـ : "روى".
(9) المصاحف (ص 16).
(10) في جـ : "الأشعث".
(11) في جـ ، طـ : "وهو ابن الحرث".
(12) في جـ ، طـ : "رواه".
(13) وقد ذكر "كوركيس عواد" في كتابه "أقدم مخطوطات في
العالم" بعض هذه المصاحف وأماكنها وأرقامها في إيران وطاشقند ، ولا يشك عاقل
أنها ليست من خط علي ، رضي الله عنه.
(1/33)
رضي
الله عنه ، من أبعد الناس عن ذلك فإنه كما هو المشهور عنه هو أول من وضع علم النحو
، فيما رواه عنه أبو الأسود ظالم بن عمرو الدؤلي ، وأنه قسم الكلام إلى اسم وفعل
وحرف ، وذكر أشياء أخر تممها أبو الأسود بعده ، ثم أخذه الناس عن أبي الأسود
فوسعوه ووضحوه ، وصار علما مستقلا.
وأما المصاحف العثمانية الأئمة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن
شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله ، وقد كانت قديمًا بمدينة طبرية ثم نقل منها إلى
دمشق في حدود ثمان عشرة وخمسمائة ، وقد رأيته كتابا عزيزا جليلا عظيما ضخما بخط
حسن مبين قوي بحبر محكم في رق أظنه من جلود الإبل ، والله أعلم ، زاده الله تشريفا
وتكريما وتعظيما (1).
فأما عثمان ، رضي الله عنه ، فما يعرف أنه كتب بخطه هذه المصاحف ، وإنما كتبها زيد
بن ثابت في أيامه ، ربما وغيره ، فنسبت إلى عثمان لأنها بأمره وإشارته ، ثم قرئت
على الصحابة بين يدي عثمان ، ثم نفذت إلى الآفاق ، رضي الله عنه ، وقد قال أبو بكر
بن أبي داود :
حدثنا علي بن حرب الطائي ، حدثنا قريش (2) بن أنس ، حدثنا سليمان التيمي ، عن أبي
نضرة ، عن أبي سعيد مولى بني (3) أسيد ، قال : لما دخل المصريون على عثمان ضربوه
بالسيف على يده فوقعت على : { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ } [البقرة : 137] ، فمد يده فوقعت : والله إنها لأول يد خطت المفصل
(4).
وقال أيضا : حدثنا أبو طاهر ، حدثنا ابن وهب قال : سألت مالكا عن مصحف عثمان ،
فقال لي : ذَهَب. يحتمل أنه سأله عن المصحف الذي كتبه بيده ، ويحتمل أن يكون سأله
عن المصحف الذي تركه في المدينة ، والله أعلم.
قلت : وقد كانت الكتابة في العرب قليلة جدًا ، وإنما أول ما تعلموا ذلك ما (5)
ذكره هشام بن محمد بن السائب الكلبي وغيره : أن بشر بن عبد الملك أكيدر دومة تعلم
الخط من الأنبار ، ثم قدم مكة فتزوج الصهباء بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان صخر بن
حرب بن أمية فعلمه حرب بن أمية وابنه سفيان ، وتعلمه عمر بن الخطاب من حرب بن أمية
، وتعلمه معاوية من عمه سفيان بن حرب ، وقيل : إن أول من تعلمه من الأنبار قوم من
طيئ من قرية هناك يقال لها : بقة ، ثم هذبوه ونشروه في جزيرة العرب فتعلمه الناس.
ولهذا قال أبو بكر بن أبي داود : حدثنا عبد الله بن محمد الزهري ، حدثنا سفيان عن
مجاهد عن الشعبي قال : سألنا المهاجرين من أين تعلمتم الكتابة ؟ قالوا : من أهل
الحيرة. وسألنا أهل الحيرة : من أين تعلمتم الكتابة ؟ قالوا : من أهل الأنبار (6).
قلت : والذي كان يغلب على زمان السلف الكتابة المكتوفة ثم هذبها أبو علي مقلة
الوزير ، وصار
__________
(1) ذكر "كوركيس عواد" في كتابه المتقدم ذكره (ص 34) أن مصحفا في متحف
الآثار الإسلامية بتركيا مكتوب على الرق كتب في آخره ، أنه مصحف عثمان ، رضي الله
عنه ، وهو في هذا المتحف برقم (457).
(2) في جـ : "يونس".
(3) في طـ ، جـ : "أبى".
(4) لم أجد هذا الأثر والذي بعده في المصاحف.
(5) في ط ، جـ : "كما".
(6) المصاحف (ص 9).
(1/34)
له
في ذلك منهج وأسلوب في الكتابة ، ثم قربها علي بن هلال البغدادي المعروف بابن
البواب وسلك الناس وراءه. وطريقته في ذلك واضحة جيدة. والغرض أن الكتابة لما كانت
في ذلك الزمان لم تحكم جيدا ، وقع في كتابة المصاحف اختلاف في وضع الكلمات من حيث
صناعة الكتابة لا من حيث المعنى ، وصنف الناس في ذلك ، واعتنى بذلك الإمام الكبير أبو
عبيد القاسم بن سلام ، رحمه الله ، في كتابه فضائل القرآن (1) والحافظ أبو بكر بن
أبي داود ، رحمه الله ، فبوبا على ذلك (2) وذكر قطعة صالحة هي من صناعة القرآن ،
ليست مقصدنا هاهنا ؛ ولهذا نص الإمام مالك ، رحمه الله ، على أنه لا توضع المصاحف
إلا على وضع كتابة الإمام ، ورخص في ذلك غيره ، واختلفوا في الشكل والنقط فمن مرخص
ومن مانع ، فأما كتابة السور وآياتها والتعشير والأجزاء والأحزاب فكثير (3) في
مصاحف زماننا ، والأولى اتباع السلف الصالح.
ثم قال البخاري : ذكر كُتَّاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأورد فيه من حديث الزهري
، عن ابن السباق ، عن زيد ابن ثابت ، أن أبا بكر الصديق قال له : وكنت تكتب الوحي
لرسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر نحو ما تقدم في (4) جمعه للقرآن (5) وقد تقدم
، وأورد حديث زيد بن ثابت في نزول : { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } [النساء : 95] (6) وسيأتي الكلام عليه
في سورة النساء إن شاء الله تعالى ، ولم يذكر البخاري أحدًا من الكتّاب في هذا
الباب سوى زيد بن ثابت ، وهذا عجب ، وكأنه لم يقع له حديث يورده سوى هذا ، والله
أعلم.
وموضع هذا في كتاب السيرة عند ذكر كتَّابه عليه السلام.
ثم قال البخاري ، رحمه الله :
__________
(1) فضائل القرآن (ص 237 - 243).
(2) المصاحف (ص 145 - 176).
(3) في ط ، جـ : "فكثر".
(4) في جـ : "من".
(5) صحيح البخاري برقم (4989).
(6) صحيح البخاري برقم (4990).
(1/35)
أنزل
القرآن على سبعة أحرف
حدثنا سعيد بن عفير ، حدثنا الليث ، حدثني عقيل عن ابن شهاب قال : حدثني عبيد الله
بن عبد الله ؛ أن عبد الله بن عباس حدثه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" أقرأني جبريل على حرف فراجعته ، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى
سبعة أحرف " (1).
وقد رواه - أيضًا - في بدء الخلق ، ومسلم من حديث يونس ، ومسلم - أيضا - من حديث
معمر ، كلاهما عن الزهري بنحوه (2) ورواه ابن جرير من حديث الزهري به (3) ثم قال
الزهري : بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي في الأمر الذي يكون واحدا لا تختلف
في حلال ولا في حرام.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4991).
(2) في جـ : "نحوه".
(3) صحيح البخاري برقم (3219) وصحيح مسلم برقم (819) وتفسير الطبري (1/ 29).
(1/35)
وهذا
مبسوط في الحديث الذي رواه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام حيث قال :
حدثنا يزيد ويحيى بن سعيد كلاهما عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، عن أبيّ بن
كعب قال : ما حاك في صدري شيء منذ أسلمت ، إلا أنني قرأت آية وقرأها آخر غير
قراءتي فقلت : أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أقرأنيها رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فأمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ،
أقرأتني آية كذا وكذا ؟ قال : "نعم" ، وقال الآخر : أليس تقرأني آية كذا
وكذا ؟ قال : "نعم". فقال : "إن جبريل وميكائيل أتياني فقعد جبريل
عن يميني وميكائيل عن يساري ، فقال جبريل : اقرأ القرآن على حرف ، فقال ميكائيل :
استزده ، حتى بلغ سبعة أحرف وكل حرف شاف كاف" (1).
وقد رواه النسائي من حديث يزيد - وهو ابن هارون - ويحيى بن سعيد القطان كلاهما عن
حميد الطويل ، عن أنس ، عن أبيّ بن كعب بنحوه (2). وكذا رواه ابن أبي عدي ومحمود
(3) بن ميمون الزعفراني ويحيى بن أيوب كلهم عن حميد به (4). وقال ابن جرير : حدثنا
محمد بن مرزوق ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن أنس ، عن
عبادة بن الصامت ، عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"أنزل القرآن على سبعة أحرف" فأدخل بينهما عبادة بن الصامت (5).
وقال الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله : حدثنا يحيى بن سعيد عن إسماعيل بن أبي
خالد ، حدثني عبد الله بن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن أبيّ بن كعب ، قال
: كنت في المسجد فدخل رجل فقرأ قراءة أنكرتها عليه ، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى
قراءة صاحبه ، فقمنا جميعا ، فدخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا
رسول الله ، إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ، ثم دخل هذا فقرأ قراءة غير قراءة
صاحبه ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : "اقرآ" ، فقرآ ، فقال :
"أصبتما". فلما قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال ، كَبُر
عليّ ولا إذا كنت في الجاهلية ، فلما رأى الذي غشينى ضرب في صدري ففضضت عرقًا ،
وكأنما أنظر إلى [رسول] (6) الله فرقا فقال : "يا أبيّ ، إن ربي أرسل إليّ أن
اقرأ القرآن على حرف ، فرددت إليه أن هون على أمتي ، فأرسل إليّ أن اقرأه على
حرفين ، فرددت إليه أن هوّن على أمتي ، فأرسل إليّ أن اقرأه على سبعة أحرف ، ولك
بكل ردة مسألة تسألنيها". قال : "قلت : اللهم اغفر لأمتي ، اللهم اغفر
لأمتي ، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليّ فيه الخلق حتى إبراهيم عليه السلام".
وهكذا رواه مسلم من حديث إسماعيل بن أبي خالد به (7).
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن إسماعيل بن أبي خالد
، عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن أبيه ، عن جده ، عن أبي بن
كعب ، قال : قال
__________
(1) فضائل القرآن (ص201).
(2) سنن النسائي الكبرى برقم (7986).
(3) في ط ، جـ : "محمد".
(4) رواه الطبري في تفسيره (1/ 33).
(5) تفسير الطبري (1/ 34).
(6) زيادة من جـ.
(7) المسند (5/ 127) وصحيح مسلم برقم (820).
(1/36)
رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله أمرني أن أقرأ القرآن على حرف واحد ،
فقلت : خفف عن أمتي ، فقال (1) اقرأه على حرفين ، فقلت : اللهم ربّ خفف عن أمتي ،
فأمرني أن أقرأه على سبعة أحرف من سبعة أبواب الجنة كلها شافٍ كافٍ" (2).
وقال ابن جرير : حدثنا يونس عن ابن وهب : أخبرني هشام بن سعد ، عن عبيد الله بن
عمر ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن أبيّ بن كعب ، أنه قال : سمعت رجلا يقرأ في
سورة النحل قراءة تخالف قراءتي ، ثم سمعت آخر يقرؤها بخلاف ذلك ، فانطلقت بهما إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إني سمعت هذين يقرآن في سورة النحل فسألتهما
: من أقرأكما (3) ؟ فقالا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : لأذهبن بكما إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ خالفتما ما أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم
، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحدهما : "اقرأ". فقرأ ، فقال :
"أحسنت" ثم قال للآخر : "اقرأ". فقرأ ، فقال :
"أحسنت". قال أبيّ : فوجدت في نفسي وسوسة الشيطان حتى احمر وجهي ، فعرف
ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهي ، فضرب يده في صدري ثم قال :
"اللهم أخسئ (4) الشيطان عنه ، يا أبيّ ، أتاني آت من ربي فقال : إن الله
يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد ، فقلت : رب ، خفف عني ، ثم أتاني الثانية فقال
: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرفين (5) فقلت : رب ، خفف عن أمتي ، ثم أتاني
الثالثة ، فقال : مثل ذلك وقلت له مثل ذلك ، ثم أتاني الرابعة فقال : إن الله
يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف ، ولك بكل ردة مسألة ، فقلت : يارب ، اللهم
اغفر لأمتي ، يارب ، اغفر لأمتي ، واختبأت الثالثة شفاعة لأمتي يوم القيامة"
(6). إسناده صحيح.
قلت : وهذا الشك الذي حصل لأبيّ في تلك الساعة هو ، والله أعلم ، السبب الذي لأجله
قرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة إبلاغ وإعلام ودواء لما كان حصل له
سورة { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا } إلى آخرها لاشتمالها على قوله تعالى : {
رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ }
[البينة : 2 ، 3] ، وهذا نظير تلاوته سورة الفتح حين أنزلت مرجعه ، عليه السلام ،
من الحديبية على عمر بن الخطاب ، وذلك لما كان تقدم له من الأسئلة لرسول الله صلى
الله عليه وسلم ولأبي (7) بكر الصديق ، رضي الله عنهما ، في قوله تعالى : { لَقَدْ
صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } [الفتح : 27].
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن
الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن أبي ليلى ، عن أبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان عند أخباة بني غفار ، فأتاه جبريل فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك
القرآن على حرف ، قال : "أسأل الله معافاته ومغفرته ، فإن أمتي لا تطيق
ذلك". ثم أتاه الثانية فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين.
قال :
__________
(1) في ط ، جـ : "قال".
(2) تفسير الطبري (1/ 37).
(3) في ط ، جـ : "أقرأهما".
(4) في جـ : "أذهب".
(5) في طـ ، جـ : "حرف واحد".
(6) تفسير الطبري (1/ 41).
(7) في ط ، جـ : "ثم لأبى".
(1/37)
"أسأل
الله معافاته ومغفرته ، فإن أمتي لا تطيق ذلك". ثم جاءه الثالثة قال : إن
الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف قال : "أسأل الله معافاته
ومغفرته ، وإن أمتي لا تطيق ذلك". ثم جاءه الرابعة فقال : إن الله يأمرك أن
تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا (1).
وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من رواية شعبة به ، وفي لفظٍ لأبي داود عن أبيّ بن
كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أبيّ ، إني أقرئت القرآن
فقيل لي : على حرف أو حرفين ؟ فقال الملك الذي معي : قل على حرفين. قلت : على
حرفين. فقيل لي : على حرفين أو ثلاثة ؟ فقال الملك الذي معي : قل على ثلاثة. قلت :
على ثلاثة. حتى بلغ سبعة أحرف ثم قال : ليس منها إلا شاف كاف إن قلت : سميعا عليما
، عزيزا حكيما ، ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب" (2).
وقد روى ثابت بن قاسم نحوا من هذا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (3)
ومن كلام ابن مسعود ، رضي الله عنه ، نحو ذلك.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن علي الجعفي ، عن زائدة ، عن عاصم ، عن زر ، عن
أبي قال : لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عند أحجار المراء ، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم لجبريل : "إني بعثت إلى أمة أميين فيهم الشيخ العاسي
، والعجوز الكبيرة ، والغلام ، فقال : مرهم فليقرؤوا القرآن على سبعة أحرف"
(4).
وأخرجه الترمذي من حديث عاصم بن أبي النَّجُود ، عن زر ، عن أبيّ بن كعب ، به (5)
وقال : حسن صحيح.
وقد رواه أبو عبيد عن أبي النضر ، عن شيبان ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن زر ، عن
حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي جبريل عند أحجار المراء ، فذكر الحديث
(6) والله أعلم.
وهكذا رواه الإمام أحمد عن عفان ، عن حماد ، عن عاصم ، عن زر ، عن حذيفة ؟ أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال : "لقيت جبريل عند أحجار المراء ، فقلت : يا
جبريل ، إني أرسلت إلى أمة أمية ؛ الرجل ، والمرأة ، والغلام ، والجارية ، والشيخ
الفاني ، الذي لم يقرأ كتابا قط فقال : إن القرآن أنزل على سبعة أحرف" (7).
وقال أحمد أيضا : حدثنا وَكِيع وعبد الرحمن ، عن سفيان ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن
رِبْعى بن حِراش : حدثني من لم يكذبني - يعني حذيفة - قال : لقي النبي صلى الله
عليه وسلم جبريل عند أحجار المراء
__________
(1) تفسير الطبري (1/ 40).
(2) صحيح مسلم برقم (820) وسنن أبي داود برقم (1478) وسنن النسائي (2/ 153).
(3) ورواه أحمد في المسند (2/ 232 ، 440) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي
هريرة ، رضي الله عنه.
(4) المسند (5/ 132) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (739) "موارد" من
طريق زائدة به مثله.
(5) سنن الترمذي برقم (2944).
(6) فضائل القرآن لأبي عبيد (ص 202).
(7) المسند (5/ 391 ، 400).
(1/38)
فقال
: إن أمتك +يقرؤون القرآن على سبعة أحرف ، فمن قرأ منهم على حرف فليقرأ كما علم ،
ولا يرجع عنه. وقال عبد الرحمن : إن في أمتك الضعيف ، فمن قرأ على حرف فلا يتحول
منه إلى غيره رغبة عنه (1). وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه.
حديث آخر في معناه عن سليمان بن صرد : قال ابن جرير : حدثنا إسماعيل بن موسى
السديّ ، حدثنا شريك عن أبي إسحاق ، عن سليمان بن صرد - يرفعه - قال : "أتاني
ملكان ، فقال أحدهما : اقرأ. قال : على كم ؟ قال : على حرف. قال : زده ، حتى انتهى
إلى سبعة أحرف" (2). ورواه النسائي في اليوم والليلة عن عبد الرحمن بن محمد
بن سلام عن إسحاق الأزرق عن العَوَّام بن حَوْشَب ، عن أبي إسحاق ، عن سليمان بن
صرد قال : أتى أبيّ بن كعب رسول الله صلى الله عليه وسلم برجلين اختلفا في القراءة
، فذكر الحديث (3).
وهكذا رواه أحمد بن مَنِيع عن يزيد بن هارون ، عن العوام بن حوشب به ، ورواه أبو
عبيد عن يزيد بن هارون ، عن العوام ، عن أبي إسحاق ، عن سليمان بن صرد ، عن أبيّ
أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجلين ، فذكره (4).
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا إسرائيل عن أبي
إسحاق ، عن فلان العبدي - قال ابن جرير : ذهب عني اسمه - عن سليمان بن صرد ، عن
أبيّ بن كعب قال : رحت إلى المسجد ، فسمعت رجلا يقرأ فقلت : من أقرأك ؟ قال : رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت :
استقرئ هذا. قال : فقرأ ، فقال : "أحسنت". قال : قلت : إنك أقرأتني كذا
وكذا! فقال : "وأنت قد أحسنت". فقلت : قد أحسنت قد أحسنت. قال : فضرب
بيده على صدري ثم قال : "اللهم أذهب عن أبيٍّ الشك". قال : ففضت عرقا ،
وامتلأ جوفي فرقا. قال : ثم قال : "إن الملكين أتياني ، فقال أحدهما : اقرأ
القرآن على حرف ، وقال الآخر : زده. قال : قلت : زدني. فقال (5) اقرأه على حرفين ،
حتى بلغ سبعة أحرف فقال : اقرأه على سبعة أحرف" (6).
وقد رواه أبو عبيد عن حجاج ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن شتير (7) العبدي ، عن
سليمان بن صرد (8) عن أبيّ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك (9) ورواه أبو
داود عن أبي داود الطيالسي ، عن همام ، عن قتادة ، عن يحيى بن يَعْمَر ، عن سليمان
بن صرد ، عن أبيّ بن كعب بنحوه (10).
__________
(1) المسند (5/ 385 ، 401).
(2) تفسير الطبري (1/ 30).
(3) سنن النسائي الكبرى برقم (10506).
(4) فضائل القرآن لأبي عبيد (ص 201).
(5) في ط ، جـ : "قال".
(6) تفسير الطبري (1/ 32).
(7) في فضائل أبي عبيد : "صقير".
(8) في ط ، جـ : "حدد".
(9) فضائل القرآن (ص 202).
(10) سنن أبي داود برقم (1477).
(1/39)
فهذا
الحديث محفوظ من حيث الجملة عن أبي بن كعب ، والظاهر أن سليمان بن صرد الخزاعي
شاهد على ذلك ، والله أعلم.
حديث آخر عن أبي بكرة : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن حماد بن
سلمة ، عن علي بن زيد ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : " أتاني جبريل وميكائيل ، عليهما السلام ، فقال جبريل : اقرأ
القرآن على حرف واحد ، فقال ميكائيل : استزده ، فقال : اقرأ على سبعة أحرف ، كلها
شاف كاف ، ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب (1) أو آية عذاب برحمة " (2).
وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كُرَيب ، عن زيد بن الحباب ، عن حماد بن سلمة به ،
وزاد في آخره كقولك : هلم وتعال (3).
حديث آخر عن سمرة : قال الإمام أحمد : حدثنا بَهْز وعفان كلاهما عن حماد بن سلمة ،
حدثنا قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "
أنزل القرآن على سبعة أحرف ". إسناد صحيح ، ولم يخرجوه (4).
حديث آخر عن أبي هريرة : قال الإمام أحمد : حدثنا أنس بن عياض ، حدثني أبو حازم ،
عن أبي سلمة - لا أعلمه إلا عن أبي هريرة - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" نزل القرآن على سبعة أحرف ، مراء في القرآن كفر - ثلاث مرات - فما علمتم
منه فاعملوا وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه ". ورواه النسائي عن قتيبة عن أبي
ضمرة أنس بن عياض به (5).
حديث آخر عن أم أيوب : قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن عبيد الله وهو ابن أبي
يزيد - عن أبيه ، عن أم أيوب - يعني امرأة أبي أيوب الأنصارية - أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : " أنزل القرآن على سبعة أحرف ، أيها قرأت جزاك (6)
" (7). وهذا إسناد صحيح ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة.
حديث آخر عن أبي جهيم : قال أبو عبيد : حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن يزيد بن خصيفة
، عن مسلم بن سعيد مولى الحضرمي (8) وقال غيره : عن بسر بن سعيد ، عن أبي جهيم
الأنصاري ؛ أن رجلين اختلفا في آية من القرآن ، كلاهما يزعم أنه تلاقاها من رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فمشيا جميعا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فذكر أبو جهيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن هذا القرآن نزل
على سبعة أحرف ، فلا
__________
(1) في ط ، جـ : "ما لم تختم آية رحمة بعذاب".
(2) المسند (5/ 41).
(3) تفسير الطبري (1/ 42).
(4) المسند (5/ 16).
(5) المسند (2/ 300) وسنن النسائي الكبرى برقم (8093).
(6) في ط : "أجزأه".
(7) المسند (6/ 433 ، 462).
(8) في فضائل أبي عبيد : "مولى ابن الحضرمي".
(1/40)
تماروا
، فإن مراء فيه كفر" (1). هكذا رواه أبو عبيد على الشك (2) وقد رواه الإمام
أحمد على الصواب ، فقال : حدثنا أبو سلمة الخزاعي ، حدثنا سليمان بن بلال ، حدثني
يزيد بن خصيفة ، أخبرني بسر بن سعيد ، حدثني أبو جهيم ؛ أن رجلين اختلفا في آية من
القرآن فقال هذا : تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال هذا : تلقيتها من
رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألا النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "
القرآن يقرأ على سبعة أحرف ، فلا تماروا في القرآن ، فإن مراء في القرآن كفر
" (3). وهذا إسناد صحيح - أيضا - ولم يخرجوه.
ثم قال أبو عبيد : حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث ، عن يزيد بن الهاد ، عن محمد
بن إبراهيم ، عن بسر (4) بن سعيد ، عن أبي قيس - مولى عمرو بن العاص - أن رجلا قرأ
آية من القرآن ، فقال له عمرو - يعني ابن العاص - : إنما هي كذا وكذا ، بغير ما
قرأ الرجل ، فقال الرجل : هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم [فخرجا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم] (5) حتى أتياه ، فذكرا ذلك له ، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : " إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف ، فأي ذلك قرأتم أصبتم ، فلا
تماروا في القرآن ، فإن مراء فيه كفر " (6). ورواه الإمام أحمد عن أبي سلمة
الخزاعي ، عن عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة ، عن يزيد بن عبد
الله بن أسامة بن الهاد ، عن بسر (7) بن سعيد ، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص به
نحوه ، وفيه : "فإن المراء فيه كفر أو إنه الكفر به (8) ". وهذا - أيضا
- حديث جيد (9).
حديث آخر عن ابن مسعود : قال ابن جرير : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب
، أخبرني حيوة بن شريح ، عن عقيل بن خالد ، عن سلمة بن أبي سلمة بن عبد الرحمن ،
عن أبيه ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كان
الكتاب الأول نزل من باب واحد وعلى حرف واحد ، ونزل القرآن من سبعة أبواب وعلى
سبعة أحرف : زاجر ، وآمر ، وحلال ، وحرام ، ومحكم ، ومتشابه ، وأمثال ، فأحلوا
حلاله ، وحرّموا حرامه ، وافعلوا ما أمرتم به ، وانتهوا عما نهيتم عنه ، واعتبروا
بأمثاله ، واعملوا بمحكمه ، وآمنوا بمتشابهه ، وقولوا : آمنا به كل من عند
ربنا" (10). ثم رواه عن أبي كُرَيْب عن المحاربي ، عن ضمرة بن حبيب ، عن
القاسم بن عبد الرحمن ، عن ابن مسعود من كلامه (11) وهو أشبه (12). والله أعلم.
__________
(1) فضائل القرآن (ص 202).
(2) قال الشيخ أحمد شاكر في حاشيته على الطبري (1/ 44) : "قوله : على الشك ،
إنما للحديث طريقان : الأول : إسماعيل بن جعفر يرويه عن يزيد عن مسلم بن سعيد ،
وسليمان يرويه عن يزيد عن بسر - أخو مسلم ، فأشار أبو عبيد أثناء الإسناد إلى
الرواية الأخرى دون أن يذكر إسنادهما".
(3) المسند (4/ 170).
(4) في جـ : "بشر".
(5) زيادة من جـ ، طـ.
(6) فضائل القرآن (ص 202).
(7) في جـ : "بشر".
(8) في ط : "آية الكفر".
(9) المسند (4/ 204).
(10) تفسير الطبري (1/ 68).
(11) تفسير الطبري (1/ 69).
(12) قال الشيخ أحمد شاكر : "وهو الصحيح ، حيث صرح بذلك الطبري بقوله : وروى
عن ابن مسعود من قبله ، أما الإسناد السابق فقد قال ابن عبد البر : حديث لا يثبت ؛
لأنه من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن مسعود ، ولم يلق ابن مسعود".
(1/41)
فصل
قال أبو عبيد : قد تواترت (1) هذه الأحاديث كلها عن الأحرف السبعة إلا ما حدثني
عفان ، عن حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة بن جندب ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : "نزل القرآن على ثلاثة أحرف" (2).
قال أبو عبيد : ولا نرى المحفوظ إلا السبعة لأنها المشهورة ، وليس معنى تلك السبعة
أن يكون الحرف الواحد يقرأ على سبعة أوجه ، وهذا شيء غير موجود ، ولكنه عندنا أنه
نزل سبع لغات متفرقة في جميع القرآن من لغات العرب ، فيكون الحرف الواحد منها بلغة
قبيلة والثاني بلغة أخرى سوى الأولى ، والثالث بلغة أخرى سواهما ، كذلك إلى السبعة
، وبعض الأحياء أسعد بها وأكثر حظا فيها من بعض ، وذلك بين في أحاديث تترى ، قال :
وقد روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : نزل القرآن على سبع لغات ، منها خمس
بلغة العجز من هوازن (3).
قال أبو عبيد : والعجز هم بنو أسعد (4) بن بكر ، وجشم بن بكر ، ونصر بن معاوية ،
وثقيف هم عليا (5) هوازن الذين قال أبو عمرو بن العلاء : أفصح العرب عليا هوازن
وسفلى تميم يعني دارم. ولهذا قال عمر : لا يملي في مصاحفنا إلا غلمان قريش أو ثقيف
(6).
قال ابن جرير : واللغتان الأخريان : قريش وخزاعة رواه قتادة عن ابن عباس ، ولكن لم
يلقه (7).
قال أبو عبيد : وحدثنا هُشَيْم عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عبيد الله بن عبد الله
بن عتبة ، عن ابن عباس ؛ أنه كان يسأل عن القرآن فينشد فيه الشعر. قال أبو عبيد :
يعني : أنه كان يستشهد به على التفسير (8). حدثنا هُشَيْم عن أبي بشر ، عن سعيد أو
مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : { وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ } [الانشقاق : 17] ،
قال : ما جمع وأنشد : قد اتسقن لو يجدن سائقا (9)
حدثنا هُشَيْم ، أنبأنا (10) حصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { فَإِذَا
هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } [النازعات : 14] ، قال : الأرض ، قال : وقال ابن عباس : قال
أمية بن أبي الصلت : عندهم لحم بحرٍ ولحم ساهرة (11)
__________
(1) في جـ : "تواردت".
(2) فضائل القرآن (ص 203) ورواه من طريق البيهقي في السنن الكبرى (2/ 385).
(3) فضائل القرآن ( ص 204).
(4) في ط : "سعد".
(5) في ط : "علياء".
(6) فضائل القرآن (ص 204).
(7) تفسير الطبري (1/ 66).
(8) فضائل القرآن (ص 205).
(9) فضائل القرآن (ص 206).
(10) في ط ، جـ : "عن".
(11) فضائل القرآن (ص 206) ، وكتب بين قوسين : وفيها لحم ساهر وبحر وما فاهوا به
لهم مقيم
(1/42)
حدثنا
يحيى بن سعيد عن سفيان ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال :
كنت لا أدري ما { فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } [فاطر : 1] ، حتى أتاني
أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها. يقول : أنا ابتدأتها (1).
إسناد جيد أيضا.
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري ، رحمه الله ، بعد ما أورد طرفا مما تقدم :
وصح وثبت أن الذي نزل به القرآن من ألسن العرب البعض منها دون الجمع (2) إذا كان
معلوما أن ألسنتها ولغاتها أكثر من سبع بما يعجز عن إحصائه ثم قال : وما برهانك
على ما قلته دون أن يكون معناه ما قاله مخالفوك ، من أنه نزل بأمر وزجر ، وترغيب
وترهيب ، وقصص ومثل ، ونحو ذلك من الأقوال فقد علمت قائل ذلك من سلف الأمة وخيار
الأئمة ؟ قيل له : إن الذين قالوا ذلك لم يدعوا أن تأويل الأخبار التي تقدم ذكرها
، هو ما زعمت أنهم قالوه في الأحرف السبعة ، التي نزل بها القرآن دون غيره فيكون
ذلك لقولنا مخالفا ، وإنما أخبروا أن القرآن نزل على سبعة أحرف ، يعنون بذلك أنه
نزل على (3) سبعة أوجه ، والذي قالوا من ذلك كما قالوا ، وقد روينا بمثل الذي
قالوا من ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من الصحابة ، من أنه نزل
من سبعة أبواب الجنة ، كما تقدم. يعني كما تقدم في رواية عن أبي بن كعب وعبد الله
بن مسعود : أن القرآن نزل من سبعة أبواب الجنة (4).
قال ابن جرير : والأبواب السبعة من الجنة هي المعاني التي فيها من الأمر والنهي ،
والترغيب والترهيب ، والقصص والمثل ، التي إذا عمل بها العامل وانتهى إلى حدودها
المنتهي ، استوجب بها الجنة.
ثم بسط القول في هذا بما حاصله : أن الشارع رخص للأمة التلاوة على سبعة أحرف ، ثم
لما رأى الإمام أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، اختلاف الناس في
القراءة ، وخاف من تفرق كلمتهم - جمعهم على حرف واحد ، وهو هذا المصحف الإمام ،
قال : واستوثقت له الأمة على ذلك بالطاعة ، ورأت أن فيما فعله من ذلك الرشد
والهداية ، وتركت القراءة الأحرف الستة التي عزم عليها إمامها العادل في تركها طاعة
منها له ، ونظر منها لأنفسها وعن بعدها من سائر أهل ملتها ، حتى درست من الأمة
معرفتها ، وتعفت آثارها ، فلا سبيل اليوم لأحد إلى القراءة بها لدثورها وعفو
آثارها. إلى أن قال : فإن قال من ضعفت معرفته : وكيف جاز لهم ترك قراءة اقرأهموها
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم بقراءتها ؟ قيل : إن أمره إياهم بذلك لم يكن
أمر إيجاب وفرض ، وإنما كان أمر إباحة ورخصة ؛ لأن القراءة بها لو كانت فرضا عليهم
لوجب أن يكون العلم بكل حرف من تلك الأحرف السبعة عند من يقوم بنقله الحجة ، ويقطع
خبره العذر ، ويزيل الشك من قراءة الأمة ، وفي تركهم نقل ذلك كذلك أوضح الدليل على
أنهم كانوا في القراءة بها مخيرين. إلى أن قال : فأما ما كان من اختلاف القراءة في
رفع حرف ونصبه وجره وتسكين حرف وتحريكه ، ونقل حرف إلى آخر مع اتفاق
__________
(1) فضائل القرآن (ص 206).
(2) في ط : "الجميع".
(3) في طـ ، جـ : "من".
(4) تفسير الطبري (1/ 47).
(1/43)
الصورة
في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف
" بعزل ؛ لأن المراء في مثل هذا ليس بكفر ، في قول أحد من علماء الأمة ، وقد
أوجب صلى الله عليه وسلم بالمراء في الأحرف السبعة الكفر ، كما تقدم (1).
الحديث الثاني : قال البخاري ، رحمه الله : حدثنا سعيد بن عفير ، حدثنا الليث ،
حدثنا عقيل ، عن ابن شهاب قال : أخبرني عروة بن الزبير : أن المسور بن مخرمة وعبد
الرحمن بن عبدٍ القارئ حدثاه (2) " أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول : سمعت
هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستمعت
لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فكدت أساوره في الصلاة ، فتبصرت حتى سلم فلببته بردائه فقلت : من أقرأك هذه السورة
التي سمعتك تقرأ ؟ قال : أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت : كذبت ،
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت ، فانطلقت به أقوده
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف
لم تقرئنيها! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أرسله ، اقرأ يا
هشام" ، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ ، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "كذلك أنزلت" ، ثم قال : "اقرأ يا عمر" ، فقرأت
القراءة التي أقرأني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كذلك أنزلت. إن
القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرؤوا ما تيسر منه " (3).
وقد رواه الإمام أحمد والبخاري - أيضا - ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي من طرق
عن الزهري (4) ورواه الإمام أحمد - أيضا - عن ابن مهدي ، عن مالك ، عن الزهري ، عن
عروة ، عن عبد الرحمن بن عبد ، عن عمر ، فذكر الحديث بنحوه (5).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حرب بن ثابت ، حدثنا إسحاق بن عبد
الله بن أبي طلحة ، عن أبيه ، عن جده قال : " قرأ رجل عند عمر فغير عليه فقال
: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يغير عليّ قال : فاجتمعا عند النبي
صلى الله عليه وسلم ، فقرأ الرجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : "قد
أحسنت". قال : فكأن عمر وجد من ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"يا عمر ، إن القرآن كله صواب ، ما لم يجعل عذاب مغفرة أو مغفرة عذابا "
(6).
وهذا إسناد حسن. وحرب بن ثابت هذا يكنى بأبي ثابت ، لا نعرف أحدا جرحه.
وقد اختلف العلماء في معنى هذه السبعة الأحرف وما أريد منها على أقوال : قال أبو
عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري القرطبي المالكي في مقدمات
تفسيره : وقد اختلف العلماء في المراء بالأحرف السبعة على خمسة وثلاثين قولا ذكرها
أبو حاتم محمد بن حبان البستي ، ونحن نذكر منها خمسة أقوال.
__________
(1) تفسير الطبري (1/ 49).
(2) في ط ، جـ : "أخبراه".
(3) صحيح البخاري برقم (4992).
(4) المسند (1/ 24) وصحيح البخاري برقم (2419) وصحيح مسلم برقم (818) وسنن أبي
داود برقم (1475) وسنن النسائي (2/ 150) وسنن الترمذي برقم (2943).
(5) المسند (1/ 40).
(6) المسند (4/ 30).
(1/44)
قلت
: ثم سردها القرطبي ، وحاصلها ما أنا مورده ملخصا :
فالأول - وهو قول أكثر أهل العلم ، منهم سفيان بن عيينة ، وعبد الله بن وهب ، وأبو
جعفر بن جرير ، والطحاوي - : أن المراد سبعة أوجه من المعاني المتقاربة بألفاظ
مختلفة نحو : أقبل وتعال وهلم. وقال الطحاوي : وأبين ما ذكر في ذلك حديث أبي بكرة
قال : جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اقرأ على حرف ، فقال
ميكائيل : استزده فقال : اقرأ على حرفين ، فقال ميكائيل : استزده ، حتى بلغ سبعة
أحرف ، فقال : اقرأ فكل شاف كاف إلا أن تخلط آية رحمة بآية عذاب ، أو آية عذاب
بآية رحمة ، على نحو هلم وتعال وأقبل واذهب واسرع وعجل.
وروى عن ورقاء عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب : أنه
كان يقرأ : { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ
آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } [الحديد : 13] : "للذين
آمنوا أمهلونا" "للذين آمنوا أخرونا" "للذين آمنوا
ارقبونا" ، وكان يقرأ : { كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ } [البقرة :
20] : "مروا فيه " "سعوا فيه". قال الطحاوي. وغيره : وإنما
كان ذلك رخصة أن يقرأ الناس القرآن على سبع لغات ، وذلك لما كان يتعسر على كثير من
الناس التلاوة على لغة قريش ، وقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدم علمهم
بالكتابة والضبط وإتقان الحفظ وقد ادعى الطحاوي والقاضي الباقلاني والشيخ أبو عمرو
بن عبد البر أن ذلك كان رخصة في أول الأمر ، ثم نسخ بزوال العذر وتيسير الحفظ
وكثرة الضبط وتعلم الكتابة.
قلت : وقال بعضهم : إنما كان الذي جمعهم على قراءة واحدة أمير المؤمنين عثمان بن
عفان ، رضي الله عنه ، أحد الخلفاء الراشدين المهديين المأمور باتباعهم ، وإنما
جمعهم عليها لما رأى من اختلافهم في القراءة المفضية إلى تفرق الأمة وتكفير بعضهم
بعضًا ، فرتب لهم المصاحف الأئمة على العرضة الأخيرة التي عارض بها جبريل رسول
الله صلى الله عليه وسلم في آخر رمضان من عمره ، عليه الصلاة والسلام ، وعزم عليهم
ألا يقرؤوا بغيرها ، وألا يتعاطوا الرخصة التي كانت لهم فيها سعة ، ولكنها أفضت
إلى الفرقة والاختلاف ، كما ألزم عمر بن الخطاب الناس بالطلاق الثلاثة المجموعة
حين تتابعوا فيها وأكثروا منها ، قال : فلو أنا أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم.
وكان كذلك ينهى عن المتعة في أشهر الحج لئلا ينقطع زيارة البيت في غير أشهر الحج.
وقد كان أبو موسى يفتي بالتمتع فترك فتياه اتباعا لأمير المؤمنين وسمعا وطاعة
لأئمة المهديين.
القول الثاني : أن القرآن نزل على سبعة أحرف ، وليس المراد أن جميعه يقرأ على سبعة
أحرف ، ولكن بعضه على حرف وبعضه على حرف آخر. قال الخطابي : وقد يقرأ بعضه بالسبع
لغات كما في قوله : { وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } [المائدة : 60] و { يَرْتَعْ
وَيَلْعَبْ } [يوسف : 12]. قال القرطبي : ذهب إلى هذا القول أبو عبيد ، واختاره
ابن عطية. قال أبو عبيد : وبعض اللغات أسعدُ به من بعض ، وقال القاضي الباقلاني :
ومعنى قول عثمان : إنه نزل بلسان قريش ، أي : معظمه ، ولم يقم دليل على أن جميعه
بلغة قريش كله ، قال الله تعالى : { قُرْآنًا عَرَبِيًّا } [يوسف : 2] ، ولم يقل :
قرشيا. قال : واسم العرب يتناول جميع القبائل تناولا واحدا ، يعني حجازها ويمنها ،
وكذلك قال الشيخ أبو عمر بن
(1/45)
عبد
البر ، قال : لأن غير لغة قريش موجودة في صحيح القراءات بتحقيق الهمزات ، فإن
قريشا لا تهمز. وقال ابن عطية : قال ابن عباس : ما كنت أدري ما معنى : { فَاطِرِ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } [فاطر : 1] ، حتى سمعت أعربيا يقول لبئر ابتدأ حفرها :
أنا فطرتها.
القول الثالث : أن لغات القرآن السبع منحصرة في مضر على اختلاف قبائلها خاصة ؛
لقول عثمان : إن القرآن نزل بلغة (1) قريش ، وقريش هم بنو النضر بن الحارث على
الصحيح من أقوال أهل النسب ، كما نطق به الحديث في سنن ابن ماجه وغيره.
القول الرابع - وحكاه الباقلاني عن بعض العلماء - : أن وجوه القراءات ترجع إلى
سبعة أشياء ، منها ما تتغير حركته ولا تتغير صورته ولا معناه مثل : { وَيَضِيقُ
صَدْرِي } [الشعراء : 13] و "يضيقَ" ، ومنها ما لا تتغير صورته ويختلف
معناه مثل : { فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } [سبأ : 19] و
"باعَدَ بين أسفارنا" ، وقد يكون الاختلاف في الصورة والمعنى بالحرف مثل
: { نُنْشِزُهَا } [البقرة : 259] ، و"نَنشُرُها" (2) أو بالكلمة مع
بقاء المعنى [مثل] (3) { كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ } [القارعة : 5] ، أو
"كالصوف المنفوش" أو باختلاف الكلمة بالتقدم والتأخر مثل : { وَجَاءَتْ
سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ } [ق : 19] ، أو "سكرة الحق بالموت" ، أو
بالزيادة مثل "تسع وتسعون نعجة أنثى" ، "وأما الغلام فكان كافرًا
وكان أبواه مؤمنين" (4). "فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور".
القول الخامس : أن المراد بالأحرف السبعة معاني القرآن وهي : أمر ، ونهي ، ووعد ،
ووعيد ، وقصص ، ومجادلة ، وأمثال. قال ابن عطية : وهذا ضعيف ؛ لأن هذه لا تسمى
حروفا ، وأيضا فالإجماع أن التوسعة لم تقع في تحليل حلال (5) ولا في تغيير شيء من
المعاني ، وقد أورد القاضي الباقلاني في هذا حديثًا ، ثم قال : وليست هذه هي التي
أجاز لهم القراء (6) بها (7).
__________
(1) في جـ : "بلسان".
(2) في جـ : "ينشرها".
(3) زيادة من ط.
(4) كذا في جـ ، ط.
(5) في جـ : "حرام".
(6) في جـ : "القراءة".
(7) تفسير القرطبي (1/ 42 - 47).
(1/46)
فصل
قال القرطبي : قال كثير من علمائنا كالداودي وابن أبي صفرة وغيرهما : هذه القراءات
السبع التي تنسب لهؤلاء القراء السبعة ليست هي الأحرف السبعة التي اتسعت الصحابة
في القراءة بها ، وإنما هي راجعة إلى حرف واحد من السبعة وهو الذي جمع عليه عثمان
المصحف. ذكره ابن النحاس وغيره.
قال القرطبي : وقد سوغ كل واحد من القراء السبعة قراءة الآخر وأجازها ، وإنما
اختار القراءة المنسوبة إليه لأنه رآها أحسن والأولى (1) عنده. قال : وقد أجمع
المسلمون في هذه الأمصار على الاعتماد على ما صح عن هؤلاء الأئمة فيما رووه ورأوه
من القراءات ، وكتبوا في ذلك مصنفات واستمر الإجماع على الصواب وحصل ما وعد الله
به من حفظ الكتاب (2).
قال البخاري ، رحمه الله :
__________
(1) في م : "وأولى".
(2) تفسير القرطبي (1/ 46).
(1/46)
تأليف
القرآن
حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام بن يوسف : أن ابن جريج أخبرهم قال : وأخبرني
يوسف ابن ماهك قال : إني لعند عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، إذ جاءها عراقي
فقال : أي الكفن خير ؟ قالت : ويحك! وما يضرك ، قال : يا أم المؤمنين ، أريني
مصحفك ، قالت : لم ؟ قال : لعلي أؤلف القرآن عليه ، فإنه يقرأ غير مؤلف ، قالت :
وما يضرك أيه قرأت قبل ، إنما أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة
والنار ، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام ، نزل الحلال والحرام ولو نزل أول شيء :
ولا تشربوا الخمر ، لقالوا : لا ندع الخمر أبدًا ، ولو نزل : لا تزنوا ، لقالوا :
لا ندع الزنا أبدا ، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب :
{ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } [القمر : 46] ،
وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده ، قال : فأخرجت له المصحف فأملت عليه
آي السور (1). وهكذا رواه النسائي من حديث ابن جريج به (2) والمراد من التأليف
هاهنا ترتيب سوره. وهذا العراقي سأل أولا عن أي الكفن خير ، أي : أفضل ، فأخبرته
عائشة ، رضي الله عنها ، أن هذا لا ينبغي أن يعتني بالسؤال عنه ولا القصد له ولا
الاستعداد ، فإن في هذا تكلفا لا طائل تحته ، وكانوا في ذلك الزمان يصفون أهل
العراق بالتعنت في الأسئلة ، كما سأل بعضهم عبد الله بن عمر عن دم البعوض يصيب
الثوب فقال عبد الله بن عمر : انظروا أهل العراق ، يسألون عن دم البعوضة ، وقد
قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ! (3). ولهذا لم تبالغ معه عائشة ،
رضي الله عنها ، في الكلام لئلا يظن أن ذلك أمر مهم ، وإلا فقد روى أحمد وأهل
السنن من حديث سمرة وابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "
البسوا من ثيابكم البياض ، وكفنوا فيها موتاكم ، فإنها أطهر وأطيب " (4)
وصححه الترمذي من الوجهين.
وفي الصحيحين عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : كفن رسول الله صلى الله عليه
وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية ، ليس فيها قميص ولا عمامة (5). وهذا محرر في باب
الكفن من كتاب الجنائز.
ثم سألها عن ترتيب القرآن فانتقل إلى سؤال كبير ، وأخبرها أنه يقرأ غير مؤلف ، أي
: غير مرتب السور. وكأن هذا قبل أن يبعث أمير المؤمنين عثمان ، رضي الله عنه ، إلى
الآفاق بالمصاحف الأئمة المؤلفة على هذا الترتيب المشهور اليوم ، وقبل الإلزام به
، والله أعلم.
ولهذا أخبرته : أنك لا يضرك بأي سورة بدأت ، وأن أول سورة نزلت فيها ذكر الجنة
والنار ،
__________
(1) صحيح البخاري برقم (3993).
(2) سنن النسائي الكبرى برقم (7987).
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (3753).
(4) حديث ابن عباس في المسند (1/ 231 ، 247) وسنن أبي داود برقم (3878) وسنن
النسائي (8/ 149) وسنن الترمذي برقم (994) وسنن ابن ماجة برقم (1472) ، وحديث سمرة
في المسند (5/ 20) وسنن الترمذي برقم (2811) وسنن النسائي (8/ 205).
(5) صحيح البخاري برقم (1264) وصحيح مسلم برقم (941).
(1/47)
وهذه
إن لم تكن "اقرأ" فقد يحتمل أنها أرادت اسم جنس لسور المفصل التي فيها
الوعد والوعيد ، ثم لما انقاد الناس إلى التصديق أمروا ونهوا بالتدريج أولا فأولا
وهذا من حكمة الله ورحمته ، ومعنى هذا الكلام : أن هذه السورة أو السور التي فيها
ذكر الجنة والنار ليس البداءة بها في أوائل المصاحف ، مع أنها من أول ما نزل ،
وهذه البقرة والنساء من أوائل ما في المصحف ، وقد نزلت عليه في المدينة وأنا عنده.
فأما ترتيب الآيات في السور فليس في ذلك رخصة ، بل هو أمر توقيفي عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، كما تقدم تقرير ذلك ؛ ولهذا لم ترخص له في ذلك ، بل أخرجت له
مصحفها ، فأملت عليه آي السور ، والله أعلم. وقول عائشة : لا يضرك بأي سورة بدأت ،
يدل على أنه لو قدم بعض السور أو أخر ، كما دل عليه حديث حذيفة وابن مسعود ، وهو في
الصحيح أنه ، عليه السلام ، قرأ في قيام الليل بالبقرة ثم النساء (1) ثم آل عمران
(2). وقد حكى القرطبي عن أبي بكر بن الأنباري في كتاب الرد أنه قال : فمن أخّر
سورة مقدمة أو قدم أخرى مؤخرة كمن أفسد نظم الآيات وغير الحروف والآيات (3) وكان
مستنده اتباع مصحف عثمان ، رضي الله عنه ، فإنه مرتب على هذا النحو المشهور ،
والظاهر أن ترتيب السور فيه منه ما هو رجع إلى رأي عثمان ، وذلك ظاهر في سؤال ابن
عباس له في ترك البسملة في أول براءة ، وذكره الأنفال من الطول ، والحديث في
الترمذي وغيره بإسناد جيد وقوي. وقد ذكرنا عن علي أنه كان قد عزم على ترتيب القرآن
بحسب نزوله.
ولقد حكى القاضي الباقلاني : أن أول مصحفه كان : "اقرأ باسم ربك الأكرم"
وأول مصحف ابن مسعود : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } ثم البقرة ، ثم النساء على
ترتب مختلف ، وأول مصحف أبيّ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } ثم النساء ، ثم آل عمران ،
ثم الأنعام ، ثم المائدة ، ثم كذا على اختلاف شديد ، ثم قال القاضي : ويحتمل أن
ترتيب السور في المصحف على ما هو عليه اليوم من اجتهاد الصحابة ، رضي الله عنهم ،
وكذا ذكره مكي في تفسير سورة براءة قال : فأما ترتيب الآيات والبسملة في الأوائل
فهو من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن وهب في جامعه : سمعت سليمان بن بلال يقول : سئل ربيعة : لم قدمت البقرة
وآل عمران ، وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة ؟ فقال : قدمتا وألف القرآن على علم
ممن ألفه ، وقد أجمعوا على العلم بذلك ، فهذا مما ينتهى إليه ولا يسأل عنه. قال
ابن وهب : وسمعت مالكا يقول : إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي صلى
الله عليه وسلم (4).
قال أبو الحسن بن بطال : إنا نجد (5) تأليف سوره في الرسم والخط خاصة ولا يعلم أن
أحدًا منهم
__________
(1) في جـ : "بالنساء".
(2) رواه مسلم في صحيحه برقم (772).
(3) تفسير القرطبي (1/ 60).
(4) ذكره القرطبي في تفسيره (1/ 59 ، 60).
(5) في ط ، جـ : "إنما يجب".
(1/48)
قال
: إن ترتيب ذلك واجب في الصلاة وفي قراءة القرآن ودرسه ، وأنه لا يحل لأحد أن يقرأ
الكهف قبل البقرة ، ولا الحج قبل (1) الكهف ، ألا ترى إلى قول عائشة : ولا يضرك
أيه قرأت قبل. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة السورة في ركعة ،
ثم يقرأ في الركعة الأخرى بغير السورة التي تليها.
وأما ما روي عن ابن مسعود وابن عمر أنهما كرها أن يقرأ القرآن منكوسا (2). وقالا
إنما ذلك منكوس القلب ، فإنما عنيا بذلك من يقرأ السورة منكوسةً فيبتدئ بآخرها إلى
أولها ، فإن ذلك حرام محذور.
ثم قال البخاري : حدثنا آدم ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق قال : سمعت عبد الرحمن بن
يزيد قال : سمعت ابن مسعود يقول في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء : إنهن
من العتاق الأول ، وهن من تلادى (3). انفرد البخاري بإخراجه والمراد منه ذكر ترتيب
هذه السور في مصحف ابن مسعود كالمصاحف العثمانية ، وقوله : "من العتاق
الأول" أي : من قديم ما نزل ، وقوله : "وهن من تلادى" أي : من قديم
ما قنيت وحفظت. والتالد في لغتهم : قديم المال والمتاع ، والطارف حديثه وجديده ،
والله أعلم.
وحدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، حدثنا أبو إسحاق : سمع البراء بن عازب يقول :
تعلمت { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى } قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم
(4). وهذا متفق عليه ، وهو قطعة من حديث الهجرة ، والمراد منه أن { سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الأعْلَى } مكية نزلت قبل الهجرة ، والله أعلم.
ثم قال : حدثنا عبْدَان ، عن أبي حمزة ، عن الأعمش ، عن شقيق قال : قال عبد الله :
لقد علمت النظائر التي (5) كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأهن اثنين اثنين في كل
ركعة ، فقام عبد الله ودخل معه علقمة ، وخرج علقمة فسألناه فقال : عشرون سورة من
أول المفصل على تأليف ابن مسعود ، آخرهن من الحواميم حم الدخان وعم يتساءلون.
وهذا التأليف الذي عن ابن مسعود غريب مخالف لتأليف عثمان ، رضي الله عنه ، فإن
المفصل في مصحف عثمان ، رضي الله عنه ، من سورة الحجرات إلى آخره وسورة الدخان ،
لا تدخل فيه بوجه ، والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد :
حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي ، عن عثمان بن
عبد الله ابن أوس الثقفي عن جده أوس بن حذيفة قال : كنت في الوفد الذين أتوا النبي
صلى الله عليه وسلم فذكر حديثا فيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسمر
معهم بعد العشاء فمكث عنا ليلة لم يأتنا ، حتى طال ذلك علينا بعد العشاء. قال :
قلنا : ما أمكثك عنا يا رسول الله ؟ قال : "طرأ على حزب من القرآن ، فأردت
ألا أخرج حتى أقضيه ". قال : فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
أصبحنا ، قال : قلنا : كيف تحزبون القرآن ؟
__________
(1) في ط ، جـ : "بعد".
(2) في جـ : "مقلوبا".
(3) صحيح البخاري برقم (4994).
(4) صحيح البخاري برقم (4995).
(5) في ط : "الذي".
(1/49)
قالوا
: نحزبه ثلاث سور ، وخمس سور ، وسبع سور ، وتسع سور ، وإحدى عشرة سورة ، وثلاث
عشرة سورة ، وحزب المفصل من قاف حتى يختم (1).
ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى الطائفي به (2)
وهذا إسناد حسن.
__________
(1) المسند (4/ 9).
(2) سنن أبي داود برقم (1393) وسنن ابن ماجة برقم (1345).
(1/50)
فصل
فأما نقط المصحف وشكله ، فيقال : إن أول من أمر به عبد الملك بن مروان ، فتصدى
لذلك الحجاج وهو بواسط ، فأمر الحسن البصري ويحيى بن يعمر ففعلا ذلك ، ويقال : إن
أول من نقط المصحف أبو الأسود الدؤلي ، وذكروا أنه كان لمحمد بن سيرين مصحف قد
نقطه له يحيى بن يعمر (1) والله أعلم.
وأما كتابة الأعشار على الحواشي فينسب إلى الحجاج أيضا ، وقيل : بل أول من فعله
المأمون ، وحكى أبو عمرو الداني عن ابن مسعود أنه كره التعشير في المصحف ، وكان
يحكه (2) وكره مجاهد ذلك أيضا.
وقال مالك : لا بأس به بالحبر ، فأما بالألوان المصبغة فلا. وأكره تعداد آي السور
في أولها في المصاحف الأمهات ، فأما ما يتعلم فيه الغلمان فلا أرى به بأسا.
وقال قتادة : بدؤوا فنقطوا ، ثم خمسوا ، ثم عشروا. وقال يحيى بن أبي كثير : أول ما
أحدثوا النقط على الباء والتاء والثاء ، وقالوا : لا بأس به ، هو نور له ، أحدثوا نقطًا
عند آخر الآي ، ثم أحدثوا الفواتح والخواتم.
ورأى إبراهيم النخعي فاتحة سورة كذا ، فأمر بمحوها وقال : قال ابن مسعود : لا
تخلطوا بكتاب الله ما ليس فيه. قال أبو عمرو الداني : ثم قد أطبق المسلمون في ذلك
في سائر الآفاق على جواز ذلك في الأمهات وغيرها.
ثم قال البخاري ، رحمه الله : كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم
قال مسروق عن عائشة ، عن فاطمة ، رضي الله عنها ، أسر إليّ رسول الله صلى الله
عليه وسلم : أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة وأنه عارضني العام مرتين ولا
أراه إلا حضر أجلي. هكذا ذكره معلقا وقد أسنده في موضع آخر (3).
ثم قال : حدثنا يحيى بن قزعة ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن الزهري ، عن عبد الله بن
عبيد الله ،
__________
(1) رواه ابن أبي داود في المصاحف (ص 160).
(2) رواه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص 240).
(3) صحيح البخاري (9/ 43) "فتح".
(1/50)
عن
ابن عباس قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير ، وأجود ما
يكون في شهر رمضان ؛ لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ يعرض
عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من
الريح المرسلة " ، وهذا الحديث متفق عليه (1) وقد تقدم الكلام عليه في أول
الصحيح وما فيه من الحكم والفوائد ، والله أعلم.
ثم قال : حدثنا خالد بن يزيد ، حدثنا أبو بكر ، عن أبي حصين ، عن أبي صالح ، عن
أبي هريرة قال : " كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة
، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه ، وكان يعتكف كل عام عشرا فاعتكف عشرين
في العام الذي قبض ".
ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة من غير وجه عن أبي بكر - وهو ابن عياش - عن أبي
حصين ، واسمه عثمان بن عاصم ، به (2). والمراد من معارضته له بالقرآن كل سنة : مقابلته
على ما أوحاه إليه عن الله تعالى ، ليبقى ما بقي ، ويذهب ما نسخ توكيدًا ، أو
استثباتًا وحفظًا ؛ ولهذا عرضه في السنة الأخيرة من عمره ، عليه السلام ، على
جبريل مرتين ، وعارضه به جبريل كذلك ؛ ولهذا فهم ، عليه السلام ، اقتراب أجله ،
وعثمان ، رضي الله عنه ، جمع المصحف الإمام على العرضة الأخيرة ، وخصّ بذلك رمضان
من بين الشهور ؛ لأن ابتداء الإيحاء كان فيه ؛ ولهذا يستحب دراسة القرآن وتكراره
فيه ، ومن ثم اجتهاد الأئمة فيه في تلاوة القرآن ، كما تقدم ذكرنا لذلك.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4997) وصحيح مسلم برقم (2308).
(2) صحيح البخاري برقم (4998) وسنن أبي داود برقم (2466) وسنن النسائي الكبرى برقم
(7992) وسنن ابن ماجة برقم (1769).
(1/51)
القراء
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
حدثنا حفص بن عمر ، حدثنا شعبة ، عن عمرو ، عن إبراهيم ، عن مسروق : ذكر عبد الله
بن عمر وعبد الله بن مسعود ، فقال : لا أزال أحبه ، سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول : " خذوا القرآن من أربعة : من عبد الله ، وسالم ، ومعاذ بن جبل ،
وأبي بن كعب " ، رضي الله عنهم (1).
وقد أخرجه البخاري في المناقب في غير موضع ، ومسلم والنسائي من حديث شعبة ، عن
عمرو بن مرة به (2).
وأخرجاه والترمذي والنسائي - أيضا - من حديث الأعمش عن أبي وائلٍ ، عن مسروق به
(3). فهؤلاء الأربعة اثنان من المهاجرين الأولين عبد الله بن مسعود وسالم مولى أبي
حذيفة ، وقد كان سالم هذا من سادات المسلمين وكان يؤم الناس قبل مقدم النبي صلى
الله عليه وسلم في المدينة ، واثنان من الأنصار معاذ بن جبل ، وأبيّ بن كعب ، وهما
سيدان كبيران ، رضي الله عنهم أجمعين.
ثم قال : حدثنا عمر بن حفص ، حدثنا أبي ، حدثنا الأعمش ، حدثنا شقيق بن سلمة قال :
خطبنا
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4999).
(2) صحيح البخاري برقم (3806 ، 3758) وصحيح مسلم برقم (2464) وسنن النسائي الكبرى
برقم (7996).
(3) صحيح البخاري برقم (3760) وصحيح مسلم برقم (2464) وسنن الترمذي برقم (3810)
وسنن النسائي الكبرى برقم (7997).
(1/51)
عبد
الله فقال : والله لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة
، والله لقد علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله وما أنا
بخيرهم. قال شقيق : فجلست في الحلق أسمع ما يقولون ، فما سمعت رادًا يقول غير ذلك
(1).
حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال : كنا
بحمص ، فقرأ ابن مسعود سورة يوسف فقال رجل : ما هكذا أنزلت ، فقال : قرأت على رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال : "أحسنت" ووجد منه ريح الخمر ، فقال :
أتجترئ أن تكذب بكتاب الله وتشرب الخمر ؟! فجلده الحد (2).
حدثنا عمر بن حفص ، حدثنا أبي ، حدثنا الأعمش ، حدثنا مسلم ، عن مسروق قال : قال
عبد الله : والله الذي لا إله غيره ، ما أنزلت (3) سورة من كتاب الله إلا وأنا
أعلم أين نزلت ، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت ، ولو أعلم
أحدا أعلم منى تبلغه الإبل لركبت إليه (4).
وهذا كله حق وصدق ، وهو من إخبار الرجل بما يعلم عن نفسه ما قد يجهله غيره ، فيجوز
ذلك للحاجة ، كما قال تعالى إخبارا عن يوسف لما قال لصاحب مصر : { اجْعَلْنِي
عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [يوسف : 55] ، ويكفيه مدحا
وثناء قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "استقرئوا القرآن من أربعة" ،
فبدأ به.
وقال أبو عبيد : حدثنا مصعب بن المقدام عن سفيان عن الأعمش عن إبراهيم ، عن علقمة
، عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أحب أن يقرأ القرآن غضًا
كما أنزل فليقرأه على حرف ابن أم عبد " (5). وهكذا رواه الإمام أحمد ، عن أبي
معاوية ، عن الأعمش به مطولا وفيه قصة (6) وأخرجه الترمذي والنسائي من حديث أبي
معاوية وصححه الدارقطني (7) وقد ذكرته في مسند عمر (8) وفي مسند الإمام أحمد -
أيضا - عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ومن أحب أن
يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد " (9) وابن أم عبد هو
عبد الله بن مسعود ، وكان يعرف بذلك.
ثم قال البخاري : حدثنا حفص بن عمر ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة قال : سألت أنس بن
مالك : من جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أربعة ، كلهم
من الأنصار : أبيّ بن كعب ، ومعاذ بن
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5000).
(2) صحيح البخاري برقم (5001).
(3) في جـ : "ما نزلت".
(4) صحيح البخاري برقم (5002).
(5) فضائل القرآن (ص 225).
(6) المسند (1/ 25 ، 26).
(7) سنن الترمذي برقم (169) وسنن النسائي الكبرى برقم (8256).
(8) مسند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للمؤلف (ص 171 - 173) وقال : "وهذا
الحديث لا يشك أنه محفوظ ، وهذا الاضطراب لا يضر صحته ، والله أعلم".
(9) المسند (2/ 446).
(1/52)
جبل
، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد. ورواه مسلم من حديث همام (1).
ثم قال البخاري : تابعه الفضل ، عن حسين بن واقد ، عن ثمامة ، عن أنس (2).
حدثنا معلى بن أسد ، حدثنا عبد الله بن المثنى قال : حدثني ثابت البناني وثمامة عن
أنس بن مالك قال : مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة : أبو
الدرداء ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد. قال : ونحن ورثناه (3).
فهذا الحديث ظاهره أنه لم يجمع القرآن من الصحابة سوى هؤلاء الأربعة فقط ، وليس
هذا هكذا ، بل الذي لا شك فيه أنه جمعه غير واحد من المهاجرين أيضا ، ولعل مراده :
لم يجمع القرآن من الأنصار ؛ ولهذا ذكر الأربعة من الأنصار ، وهم أبي بن كعب في
الرواية الأولى المتفق عليها وفي الثانية من أفراد البخاري : أبو الدرداء ، ومعاذ
بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد ، وكلهم مشهورون إلا أبا زيد هذا ، فإنه غير
معروف إلا في هذا الحديث ، وقد اختلف في اسمه فقال الواقدي : اسمه قيس بن السكن بن
قيس بن زعواء بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدى بن النجار (4).
وقال ابن نمير : اسمه سعد بن عبيد بن النعمان بن قيس بن عمرو بن زيد بن أمية من
الأوس. وقيل : هما اثنان جمعا القرآن ، حكاه أبو عمر بن عبد البر ، وهذا بعيد وقول
الواقدي أصح لأنه خزرجي ؛ لأن أنسًا قال : ونحن ورثناه ، وهم من الخزرج ، وفي بعض
ألفاظه (5) وكان أحد عمومتي. وقال قتادة عن أنس : افتخر الحيان الأوس والخزرج ،
فقالت الأوس : منا غسيل الملائكة حنظلة بن أبي عامر ، ومنا الذي حمته الدبُرُ عاصم
بن ثابت ، ومنا الذي اهتز لموته العرش سعد بن معاذ ، ومنا من أجيزت شهادته بشهادة
رجلين خزيمة بن ثابت.
فقالت الخزرج : منا أربعة جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم :
أبيّ بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد.
فهذا كله يدل على صحة قول الواقدي ، وقد شهد أبو زيد هذا بدرا ، فيما ذكره غير
واحد. وقال موسى بن عقبة عن الزهري : قتل أبو زيد قيس بن السكن يوم جسر (6) أبي
عبيدة على رأس خمس عشرة (7) من الهجرة ، والدليل على أن (8) من المهاجرين من جمع
القرآن أن الصديق ، رضي الله عنه ، قدّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه
(9) إماما على المهاجرين والأنصار ، مع أنه صلى الله عليه وسلم قال : " يؤم
القوم أقرؤهم لكتاب الله " (10) فلولا أنه كان أقرؤهم لكتاب الله لما قدّمه
عليهم. هذا مضمون ما قرره
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5003) وصحيح مسلم برقم (2465).
(2) في جـ : "أنس بن مالك".
(3) صحيح البخاري برقم (5004).
(4) انظر : الإصابة (3/ 240).
(5) في ط : "الألفاظ".
(6) في ط : "خيبر".
(7) في ط : "عشرة سنة".
(8) في ط : "أنه".
(9) في جـ ، ط : "زمنه".
(10) رواه مسلم في صحيحه برقم (672) من حديث أبي مسعود الأنصاري.
(1/53)
الشيخ
أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ، وهذا التقرير لا يُدفع ولاشك (1) فيه ، وقد
جمع الحافظ ابن السمعاني في ذلك جزءًا ، وقد بسطت تقرير ذلك في كتاب مسند الشيخين
، رضي الله عنهما. ومنهم عثمان بن عفان وقد قرأه في ركعة - كما سنذكره - وعلي بن
أبي طالب يقال : إنه جمعه على ترتيب ما أنزل ، وقد قدمنا هذا. ومنهم عبد الله بن
مسعود ، وقد تقدم عنه أنه قال : ما من آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت
(2) ؟ وفيم نزلت ؟ ولو علمت أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه المطي لذهبت إليه.
ومنهم سالم مولى أبي حذيفة ، كان من السادات النجباء والأئمة الأتقياء وقد قتل يوم
اليمامة شهيدا. ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم رسول
الله (3) صلى الله عليه وسلم وترجمان القرآن ، وقد تقدم عن مجاهد أنه قال : قرأت
القرآن على ابن عباس مرتين ، أقفه عند كل آية وأسأله عنها. ومنهم عبد الله بن عمرو
، كما رواه النسائي وابن ماجة من حديث ابن جريج عن عبد الله بن أبي مُلَيْكة ، عن
يحيى بن حكيم بن صفوان ، عن عبد الله بن عمرو قال : جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة
، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "اقرأه في شهر". وذكر
تمام الحديث (4).
ثم قال البخاري : حدثنا صدقة بن الفضل ، حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي
ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال عمر : عليٌّ أقضانا ، وأُبيّ
أقرأنا ، وإنا لَنَدع من لحنِ أُبيٍّ ، وأُبيّ يقول : أخذته من في رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، فلا أتركه لشيء قال الله تعالى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ
نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [البقرة : 106] (5).
وهذا يدل على أن الرجل الكبير قد يقول الشيء يظنه صوابا وهو خطأ في نفس الأمر ؛
ولهذا قال الإمام مالك : ما من أحد إلا يؤخذ من قوله ويرد إلا قول صاحب هذا القبر
، أي : فكله مقبول ، صلوات الله وسلامه عليه. ثم ذكر البخاري فضل فاتحة الكتاب
وغيرها ، وسنذكر فضل كل سورة عندها ليكون ذلك أنسب. ثم قال :
__________
(1) في ط : "ولا يشك".
(2) في طـ : "أنزلت".
(3) في ط : "الرسول".
(4) سنن النسائي الكبرى برقم (64 80) وسنن ابن ماجة برقم (1346).
(5) صحيح البخاري برقم (5005).
(1/54)
نزول
السكينة والملائكة عند القراءة
وقال الليث : حدثني يزيد بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أسيد بن الحضير قال :
بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة ، وفرسه مربوطة عنده ، إذ جالت الفرس ، فسكت
فسكنت ، ثم قرأ فجالت (1) فسكت فسكنت ، ثم قرأ فجالت الفرس ، فانصرف ، وكان ابنه
يحيى قريبا منها ، فأشفق أن تصيبه ، فلما اجتره رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها
، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " اقرأ يا بن حضير ، اقرأ
يا بن حضير". قال : فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى وكان منها قريبا ، فرفعت
رأسي وانصرفت إليه ، فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظُّلَّة ، فيها أمثال
المصابيح ، فخرجت حتى لا أراها قال : "أو تدري (2) ما ذاك ؟ ". قال : لا
قال : "الملائكة دَنَتْ لصوتك ، ولو قرأت لأصبحت
__________
(1) في جـ ، ط : "فجالت الفرس".
(2) في ط : "وتدري".
(1/54)
ينظر
الناس إليها لا تتوارى منهم ". قال ابن الهاد : وحدثني هذا الحديث عبد الله
بن خباب عن أبي سعيد الخدري عن أسيد بن الحضير (1).
هكذا أورد البخاري هذا الحديث معلقا ، وفيه انقطاع في الرواية الأولى ، فإن محمد
بن إبراهيم بن الحارث التيمي المدني تابعي صغير لم يدرك أسيدا لأنه مات سنة عشرين
، وصلى عليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنهما. ثم فيه غرابة من حيث
إنه قال : وقال الليث : حدثني يزيد بن الهاد ولم أره بسند متصل عن الليث بذلك ،
إلا ما ذكره الحافظ أبو القاسم بن عساكر في الأطراف أن يحيى بن عبد الله بن بكير
رواه عن الليث كذلك (2).
وقد رواه الإمام أبو عبيد في فضائل القرآن فقال : حدثنا عبد الله بن صالح ويحيى بن
بُكيْر ، عن الليث ، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم
بن الحارث التيمي ، عن أسيد بن حضير ، فذكر الحديث إلى آخره ، ثم قال : [قال] (3)
ابن الهاد : وحدثني عبد الله بن خباب ، عن أبي سعيد ، عن أسيد بن حضير بهذا (4).
وقد رواه النسائي في فضائل القرآن ، عن محمد بن عبد الله بن [عبد] (5) الحكم عن
شعيب بن الليث ، وعن علي بن محمد بن علي ، عن داود بن منصور ، كلاهما عن الليث ،
عن خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن يزيد بن عبد الله ، وهو ابن الهاد ،
عن عبد الله بن خباب ، عن أبي سعيد ، عن أسيد ، به (6). ورواه يحيى بن بكير ، عن
الليث كذلك أيضا ، فجمع بين الإسنادين. ورواه في المناقب عن أحمد بن سعيد الرباطي
، عن يعقوب بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن يزيد بن الهاد ، عن عبد الله بن خباب ، عن
أبي سعيد ، أن أسيد بن حضير بينما هو ليلة يقرأ في مربده ، الحديث. ولم يقل : عن
أسيد ، ولكن ظاهره أنه عنه ، والله أعلم (7).
وقال أبو عبيد : حدثني عبد الله بن صالح ، عن الليث ، عن ابن شهاب ، عن ابن كعب بن
مالك ، عن أسيد بن حضير : أنه كان على ظهر بيته يقرأ القرآن وهو حسن الصوت ، ثم
ذكر مثل هذا الحديث أو نحوه (8)
حدثنا قبيصة ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ،
عن أسيد بن حضير قال : " قلت : يا رسول الله ، بينما أنا أقرأ البارحة بسورة
، فلما انتهيت إلى آخرها سمعت
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5018).
(2) انظر : تحفة الأشراف للمزي (1/ 72).
(3) زيادة من ط.
(4) فضائل القرآن (ص 26).
(5) زيادة من ط.
(6) سنن النسائي الكبرى برقم (8074).
(7) سنن النسائي الكبرى برقم (8244).
(8) فضائل القرآن (ص 27).
(1/55)
وجبة
من خلفي ، حتى ظننت أن فرسي تطلق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"اقرأ أبا عتيك" [مرتين] (1) قال : فالتفت إلى أمثال المصابيح ملء بين
السماء والأرض ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اقرأ أبا عتيك".
فقال : والله ما استطعت أن أمضي فقال : "تلك الملائكة نزلت لقراءة القرآن ،
أما إنك لو مضيت لرأيت الأعاجيب" " (2).
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق سمع البراء يقول : بينما رجل
يقرأ سورة الكهف ليلة إذ رأى دابته تركض ، أو قال : فرسه يركض ، فنظر فإذا مثل
الضبابة أو مثل الغمامة ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "
تلك السكينة نزلت للقرآن ، أو تنزلت على القرآن " (3). وقد أخرجه صاحبا
الصحيح من حديث شعبة (4). والظاهر أن هذا هو أسيد بن الحضير ، رضي الله عنه ، فهذا
ما يتعلق بصناعة الإسناد ، وهذا من أغرب تعليقات البخاري ، رحمه الله ، ثم سياق
ظاهر فيما ترجم عليه من نزول السكينة والملائكة عند القراءة.
وقد اتفق نحو هذا الذي وقع لأسيد بن الحضير لثابت بن قيس بن شماس كما قال أبو عبيد
:
حدثنا عباد بن عباد عن جرير بن حازم ، عن عمه جرير بن زيد (5) أن أشياخ أهل
المدينة حدثوه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له : ألم تر ثابت بن قيس بن
شماس لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح ؟ قال : "فلعله قرأ سورة البقرة".
قال : فسئل ثابت فقال : قرأت سورة البقرة (6).
وفي الحديث المشهور الصحيح : " ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله ، يتلون
كتاب الله ، ويتدارسونه فيما بينهم ، إلا نزلت عليهم السكينة ، وغشيتهم الرحمة ،
وحَفَّتْهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن عنده " رواه مسلم عن أبي هريرة (7).
ولهذا قال الله تبارك وتعالى : { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ
كَانَ مَشْهُودًا } [الإسراء : 78] ، وجاء في بعض التفاسير : أن الملائكة تشهده.
وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : " قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ،
ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ، فيعرج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو
أعلم بهم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون ، وتركناهم وهم يصلون
" (8).
__________
(1) زيادة من ط.
(2) فضائل القرآن (ص227).
(3) مسند الطيالسي برقم (714).
(4) صحيح البخاري برقم (3614) وصحيح مسلم برقم (795).
(5) في ط ، م : "يزيد".
(6) فضائل القرآن (ص 27).
(7) صحيح مسلم برقم (2699).
(8) صحيح البخاري برقم (555) وصحيح مسلم برقم (632).
(1/56)
من
قال : لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما بين الدفتين
حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا سفيان ، عن عبد العزيز بن رفيع قال : دخلت أنا وشداد
بن معقل على ابن عباس ، فقال له شداد بن معقل : أترك النبي صلى الله عليه وسلم من
شيء ؟ قال : ما ترك إلا ما بين الدفتين. قال : ودخلنا على محمد بن الحنفية فسألناه
فقال : ما ترك إلا ما بين الدفتين.
تفرد به البخاري (1) ومعناه : أنه ، عليه السلام ، ما ترك مالا ولا شيئا يورث عنه
، كما قال عمرو بن الحارث أخو جويرية بنت الحارث : ما ترك رسول الله صلى الله عليه
وسلم دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا (2). وفي حديث أبي الدرداء :
" إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ
بحظ وافر " (3). ولهذا قال ابن عباس : وإنما ترك ما بين الدفتين يعني :
القرآن ، والسنة مفسرة له ومبينة وموضحة له ، فهي تابعة له ، والمقصود الأعظم كتاب
الله تعالى ، كما قال تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } الآية [فاطر : 32] ، فالأنبياء ، عليهم السلام ،
لم يخلقوا للدنيا يجمعونها ويورثونها ، إنما خلقوا للآخرة يدعون إليها ويرغبون
فيها ؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا نورث ما تركنا فهو
صدقة " (4) وكان أول من أظهر هذه المحاسن من هذا الوجه أبو بكر الصديق ، رضي
الله عنه ، لما سئل عن ميراث النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبر عنه بذلك ، ووافقه
على نقله عنه ، عليه السلام ، غير واحد من الصحابة ؛ منهم عمر وعثمان وعلي والعباس
وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وأبو هريرة وعائشة وغيرهم ، وهذا ابن عباس يقول
- أيضا - عنه عليه السلام ؟ رضي الله عنهم أجمعين.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5019).
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (2739 ، 4461).
(3) رواه أبو داود في السنن برقم (3641) وابن ماجة في السنن برقم (223) وابن حبان
في صحيحه برقم (80) "موارد".
(4) رواه البخاري في صحيحه برقم (3093) ومسلم في صحيحه برقم (1758).
(1/57)
فضل
القرآن على سائر الكلام
حدثنا هُدْبة بن خالد أبو خالد ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، حدثنا أنس بن مالك ،
عن أبي موسى ، رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " مثل الذي
يقرأ القرآن كمثل الأتْرُجة ، طعمها طيب وريحها طيب. والذي لا يقرأ القرآن كالتمرة
، طعمها طيب ولا ريح لها ، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ، ريحها
طيب وطعمها مر ، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح
لها " (1). وهكذا رواه في مواضع أخر مع بقية الجماعة من طرق عن قتادة به (2).
ووجه مناسبة الباب لهذا الحديث : أن طيب الرائحة دار مع القرآن وجودا وعدما ، فدل
على شرفه على ما سواه من الكلام الصادر من البر والفاجر. ثم قال : حدثنا مُسَدَّد
، حدثنا يحيى ، عن سفيان ، حدثني عبد الله بن دينار ، قال : سمعت ابن عمر عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال : " إنما أجلكم في أجل من خلا
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5020).
(2) صحيح البخاري برقم (5059 ، 5427 ) وصحيح مسلم برقم (797) وسنن أبي داود برقم
(4830) وسنن الترمذي برقم (2865) وسنن النسائي (8/ 124 ، 125) وسنن ابن ماجة برقم (214).
(1/57)
من
الأمم كما بين صلاة العصر ومغرب الشمس ، ومثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل
استعمل عمالا فقال : من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط ؟ فعملت اليهود فقال :
من يعمل لي من نصف النهار إلى العصر ؟ فعملت النصارى ، ثم أنتم تعملون من العصر
إلى المغرب بقيراطين قيراطين ، قالوا : نحن أكثر عملا وأقل عطاءً! قال : هل ظلمتكم
من حقكم ؟ قالوا : لا. قال : فذلك فضلي أوتيه من شئت " (1).
تفرد به من هذا الوجه ، ومناسبته للترجمة : أن هذه الأمة مع قصر مدتها فضلَتْ
الأمم الماضية مع طول مدتها ، كما قال تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران : 110].
وفي المسند والسنن عن بَهْزِ بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : " أنتم توفون سبعين أمة ، أنتم خيرها وأكرمها على الله
" (2). وإنما فازوا بهذا ببركة الكتاب العظيم الذي شرفه الله تعالى على كل
كتاب أنزله ، جعله مهيمنا عليه ، وناسخا له ، وخاتما له ؛ لأن كل الكتب المتقدمة
نزلت إلى الأرض جملة واحدة ، وهذا القرآن نزل منجما بحسب الوقائع لشدة الاعتناء به
وبمن أنزله عليه ، فكل مرة كنزول كتاب من الكتب المتقدمة ، وأعظم الأمم المتقدمة
هم اليهود والنصارى ، فاليهود استعملهم الله من لدن موسى إلى زمان عيسى ، والنصارى
من ثمّ إلى أن بعث محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم استعمل أمته إلى قيام الساعة ،
وهو المشبه بآخر النهار ، وأعطى الله المتقدمين قيراطا قيراطا ، وأعطى هؤلاء
قيراطين قيراطين ، ضعفى ما أعطى أولئك ، فقالوا : أي ربنا ، ما لنا أكثر عملا وأقل
أجرا ؟ فقال : هل ظلمتكم شيئا ؟ قالوا : لا قال : فذلك فضلى أي : الزائد على ما
أعطيتكم أؤتيه من أشاء كما قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ
لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *
لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ
اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [الحديد : 28 ، 29].
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5021).
(2) المسند (5/ 3) وسنن الترمذي برقم (3001) وسنن ابن ماجة برقم (4287 ، 4288)
وقال الترمذي : "حديث حسن".
(1/58)
الوصايا
بكتاب الله
حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا مالك بن مِغْول ، حدثنا طلحة بن مُصَرِّف قال : "
سألت عبد الله بن أبي أوفى : أوصى النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لا. فقلت :
كيف كتب على الناس الوصية ، أمروا بها ولم يوص ؟ قال : أوصى بكتاب الله ، عز وجل
" (1).
وقد رواه في مواضع أخر مع بقية الجماعة ، إلا أبا داود من طرق عن مالك بن مغول به
(2) وهذا نظير ما تقدم عن ابن عباس : " ما ترك إلا ما بين الدفتين " ،
وذلك أن الناس كتب عليهم الوصية في أموالهم كما قال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ
إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ
وَالأقْرَبِينَ } [البقرة : 180]. وأما هو صلى الله عليه وسلم فلم يترك شيئا يورث
عنه ، وإنما ترك ماله صدقة جارية من
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5022).
(2) صحيح البخاري برقم (2740 ، 4460) وصحيح مسلم برقم (1634) وسنن الترمذي برقم
(2119) وسنن النسائي (6/ 0 24) وسنن ابن ماجة برقم (2696).
(1/58)
بعده
، فلم يحتج إلى وصية في ذلك ولم يوصِ إلى خليفة يكون بعده على التنصيص ؛ لأن الأمر
كان ظاهرا من إشارته وإيمائه إلى الصديق ؛ ولهذا لما هم بالوصية إلى أبي بكر ثم
عدل عن ذلك فقال : "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " (1) وكان كذلك ،
وإنما أوصى الناس باتباع كتاب الله تعالى. من لم يتغن بالقرآن وقول الله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ }
[العنكبوت : 51].
حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، حدثنا عقيل ، عن ابن شهاب قال : أخبرني أبو
سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أنه كان يقول : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : " لم يأذن الله لشيء ، ما أذن لنبي أن يتغنى بالقرآن
" ، وقال صاحب له : يريد يجهر به فرد من هذا الوجه. ثم رواه عن علي بن عبد
الله بن المديني ، عن سفيان بن عيينة ، عن الزهري به (2). قال سفيان : تفسيره :
يستغنى به ، وقد أخرجه مسلم والنسائي من حديث سفيان بن عيينة (3) ومعناه : أن الله
ما استمع لشيء كاستماعه لقراءة نبي يجهر بقراءته ويحسنها ، وذلك أنه يجتمع في
قراءة الأنبياء طيب الصوت لكمال خلقهم وتمام الخشية ، وذلك هو الغاية في ذلك.
وهو ، سبحانه وتعالى ، يسمع أصوات العباد كلهم برهم وفاجرهم ، كما قالت عائشة ،
رضي الله عنها : سبحان الله الذي وسع سمعه الأصوات (4). ولكن استماعه لقراءة عباده
المؤمنين أعظم ، كما قال تعالى : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ
مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ
تُفِيضُونَ فِيهِ } الآية [يونس : 61] ، ثم استماعه لقراءة أنبيائه أبلغ كما دل
عليه هذا الحديث العظيم ، ومنهم من فسر الأذن هاهنا بالأمر ، والأول أولى لقوله : "ما
أذن الله لشيء ما أذن لنبي أن يتغنى بالقرآن" أي : يجهر به ، والأذن :
الاستماع ؛ لدلالة السياق عليه ، وكما قال تعالى : { إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ
* وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الأرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا
فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } [الانشقاق : 1 - 5] أي :
وحق لها أن تستمع أمره وتطيعه ، فالأذن هو الاستماع ؛ ولهذا جاء في حديث رواه ابن
ماجة بسند جيد عن فضالة بن عبيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
لله أشد أذنا إلى الرجل (5) الحسن الصوت بالقرآن [يجهر به] (6) من صاحب القينة إلى
قينته " (7).
وقال سفيان بن عيينة : إن المراد بالتغني : يستغنى به ، فإن أراد : أنه يستغنى عن
الدنيا ، وهو الظاهر من كلامه الذي تابعه عليه أبو عبيد القاسم بن سلام وغيره ،
فخلاف الظاهر من مراد الحديث ؛ لأنه قد فسره بعض رواته بالجهر ، وهو تحسين القراءة
والتحزين بها (8).
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (7217) ومسلم في صحيحه برقم (2387) من حديث عائشة
، رضي الله عنها.
(2) صحيح البخاري برقم (5023 ، 5024).
(3) صحيح مسلم برقم (792) وسنن النسائي (2/ 180).
(4) رواه النسائي في السنن (6/ 168) ورواه البخاري في صحيحه برقم (7385) معلقا.
(5) في ط ، جـ : "أذنا الرجل".
(6) زيادة من ابن ماجة.
(7) سنن ابن ماجة برقم (1340).
(8) نقل الحافظ ابن حجر في الفتح (9/ 70) عن ابن الجوزي أربعة أقوال في معنى يتغنى
: تحسين الصوت ، الاستغناء ، التحزن كما قال الشافعي ، التشاغل به. قال : وحكى ابن
الأنباري قولا خامسا وهو التلذذ والاستحلاء.
(1/59)
قال
حرملة : سمعت ابن عيينة يقول : معناه : يستغنى به ، فقال لي الشافعي : ليس هو هكذا
، ولو كان هكذا لكان يتغانى به ، وإنما هو يتحزن ويترنم به ، ثم قال حرملة : وسمعت
ابن وهب يقول : يترنم به ، وهكذا نقل المزني والربيع عن الشافعي ، رحمه الله.
وعلى هذا فتصدير البخاري الباب بقوله تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا
أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً
وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [العنكبوت : 51] ، فيه نظر ؛ لأن هذه الآية
الكريمة ذكرت ردا على الذين سألوا عن آيات تدل على صدقه ، حيث قال : { وَقَالُوا
لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ
اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزلْنَا
عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } الآية [العنكبوت : 50 ، 51]. ومعنى ذلك
: أو لم يكفهم آية دالة على صدقك إنزالنا القرآن عليك وأنت رجل أمي { وَمَا كُنْتَ
تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ
} [العنكبوت : 48] أي : وقد جئت فيه بخبر الأولين والآخرين فأين هذا من التغني
بالقرآن وهو تحسين الصوت به أو الاستغناء به عما عداه من أمور الدنيا ، فعلى كل
تقدير ، تصدير الباب بهذه الآية الكريمة فيه نظر (1).
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (9/ 68) : "أشار بهذه الآية إلى ترجيح تفسير
ابن عيينة : يتغنى : يستغني كما سيأتي في هذا الباب عنه ، وأخرجه أبو داود عن ابن
عيينة ووكيع جميعًا ، وقد بين إسحاق بن راهويه عن ابن عيينة أنه استغناء خاص ،
وكذا قال أحمد عن وكيع : يستغني به عن أخبار الأمم الماضية ، وقد أخرج الطبري
وغيره من طريق عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة قال : جاء ناس من المسلمين بكتب وقد
كتبوا فيها بعض ما سمعوه من اليهود ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "كفى
بقوم ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم"
فنزل : ( أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ). وقد خفى وجه مناسبة
تلاوة هذه الآية على كثير من الناس كابن كثير ، فنفى أن يكون لذكرها وجه ، على أن
ابن بطال مع تقدمه قد أشار إلى المناسبة فقال : قال أهل التأويل في هذه الآية ،
فذكر أثر يحيى بن جعدة مختصرًا قال : فالمراد بالآية : الاستغناء عن أخبار الأمم
الماضية ، وليس المراد الاستغناء الذي هو ضد الفقر ، قال : وإتباع البخاري الترجمة
بالآية يدل على أنه يذهب إلى ذلك. وقال ابن التين : يفهم من الترجمة : أن المراد
بالتغني الاستغناء ؛ لكونه أتبعه الآية التي تضمن الإنكار على من لم يستغن بالقرآن
على غيره ، فحمله على الاكتفاء به وعدم الافتقار إلى غيره ، وحمله على ضد الفقر من
جملة ذلك".
(1/60)
فصل
في إيراد أحاديث في معنى الباب وذكر
أحكام التلاوة بالأصوات
قال أبو عبيد : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن قباث بن رزين ، عن علي بن رباح اللخمي
، عن عقبة بن عامر قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ونحن في
المسجد نتدارس القرآن ، فقال : " تعلموا كتاب الله واقتنوه ". قال :
وحسبت أنه قال : "وتغنوا به ، فوالذي نفسي بيده ، لهو أشد تفلتا من المخاض من
العقل" (1).
وحدثنا عبد الله بن صالح ، عن موسى بن علي ، عن أبيه ، عن عقبة بن عامر عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك إلا أنه قال : "واقتنوه وتغنوا به" (2)
ولم يشك ، وهكذا رواه أحمد والنسائي في فضائل
__________
(1) فضائل القرآن (ص 29).
(2) فضائل القرآن (ص 29).
(1/60)
القرآن
، من حديث موسى بن علي ، عن أبيه به (1) ومن حديث عبد الله بن المبارك ، عن قباث
بن رزين ، عن علي بن رباح ، عن عقبة ، وفي بعض ألفاظه : خرج علينا ونحن نقرأ
القرآن فسلم علينا ، وذكر الحديث. ففيه دلالة على السلام على القارئ.
ثم قال أبو عبيد : حدثنا أبو اليمان ، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم ، عن
المهاصر بن حبيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أهل القرآن ،
لا توسدوا القرآن ، واتلوه حق تلاوته آناء الليل والنهار ، وتغنوه واقتنوه ،
واذكروا ما فيه لعلكم تفلحون" (2) وهذا مرسل.
ثم قال أبو عبيد : قوله : "تغنوه" : يعني : اجعلوه غناءكم من الفقر ،
ولا تعدوا الإقلال منه فقرا. وقوله : "واقتنوه" ، يقول : اقتنوه ، كما
تقتنون الأموال : اجعلوه مالكم.
وقال أبو عبيد : حدثني هشام بن عمار ، عن يحيى بن حمزة ، عن الأوزاعي ، حدثني
إسماعيل ابن عبيد الله بن أبي المهاجر ، عن فضالة بن عبيد ، عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : " لله أشد أذنًا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب
القينة إلى قينته" (3).
قال أبو عبيد : هذا الحديث بعضهم يزيد في إسناده يقول : عن إسماعيل بن عبيد الله
عن مولى فضالة عن فضالة ، وهكذا رواه ابن ماجة ، عن راشد بن سعيد بن أبي راشد ، عن
الوليد ، عن الأوزاعي عن إسماعيل بن عبيد الله عن ميسرة مولى فضالة عن فضالة عن
النبي صلى الله عليه وسلم : "لله أشد أذنًا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن [
يجهر به] (4) من صاحب القينة إلى قينته " (5). قال أبو عبيد : يعني : الاستماع.
وقوله في الحديث الآخر : " ما أذن الله لشيء " أي : ما استمع.
وقال أبو القاسم البغوي : حدثنا محمد بن حميد ، حدثنا سلمة بن الفضل ، حدثنا عبد
الله بن عبد الرحمن ، عن ابن أبي مُلَيْكة ، حدثنا القاسم بن محمد ، حدثنا السائب
قال : قال لي سعد : يا بن أخي ، هل قرأت القرآن ؟ قلت : نعم. قال : غَنِّ به ،
فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " غنوا بالقرآن ، ليس منا من
لم يغن بالقرآن ، وابكوا ، فإن لم تقدروا على البكاء فتباكوا " (6).
وقد روى أبو داود من حديث الليث وعمرو بن دينار كلاهما عن عبد الله بن أبي مُلَيْكة
، عن عبيد الله بن أبي نَهِيك ، عن سعد بن أبي وقاص قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " (7).
ورواه ابن ماجة من حديث ابن أبي مليكة ، عن عبد الرحمن بن السائب ، عن سعد بن أبي
__________
(1) المسند (4/ 146) وسنن النسائي الكبرى برقم (8034).
(2) فضائل القرآن (ص 29).
(3) فضائل القرآن (ص 77 ، 78).
(4) زيادة من ابن ماجة.
(5) سنن ابن ماجة برقم (1340).
(6) وفي إسناده محمد بن حميد الرازي وهو متروك.
(7) سنن أبي داود برقم (1469 ، 1470).
(1/61)
وقاص
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن هذا القرآن نزل بحرف ، فإذا
قرأتموه فابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا ، وتغنوا به ، فمن لم يتغن به فليس منا
" (1).
وقال أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا سعيد (2) بن حسان المخزومي ، عن ابن أبي
مُلَيْكة ، عن عبد الله بن أبي نهيك ، عن سعد بن أبي وقاص قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " (3). [قال وكيع : يعني
: يستغنى به] (4).
ورواه (5) أيضا عن الحجاج وأبي النضر ، كلاهما عن الليث بن سعد ، وعن سفيان بن
عيينة ، عن عمرو بن دينار ، كلاهما عن عبد الله بن أبي مليكة به (6). وفي هذا
الحديث كلام طويل يتعلق بسنده ليس هذا موضعه ، والله أعلم.
وقال أبو داود : حدثنا عبد الأعلى بن حماد ، حدثنا عبد الجبار بن الورد ، سمعت ابن
أبي مُلَيْكة ، يقول : قال عبيد الله بن أبي يزيد : مرّ بنا أبو لُبَابة
فاتَّبعناه حتى دخل بيته فدخلنا عليه ، فإذا رجل رَثُّ البيت ، رَثُّ الهيئة ،
فانتسبنا له ، فقال : تجار كسبة ، فسمعته يقول : " سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول : " ليس منا من لم يتغن بالقرآن ". قال : فقلت لابن أبي
مليكة : يا أبا محمد ، أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت قال : يحسنه ما استطاع. تفرد به
أبو داود (7).
فقد فهم من هذا أن السلف ، رضي الله عنهم ، إنما فهموا من التغني بالقرآن : إنما
هو تحسين الصوت به ، وتحزينه ، كما قاله الأئمة ، رحمهم الله ، ويدل على ذلك -
أيضا - ما رواه أبو داود حيث قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ، عن
الأعمش ، عن طلحة ، عن عبد الرحمن بن عَوْسَجة ، عن البراء بن عازب قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : " زينوا القرآن بأصواتكم " (8).
وأخرجه النسائي وابن ماجة من حديث شعبة ، عن طلحة وهو ابن مصرف به (9).
وأخرجه النسائي من طرق أخر عن طلحة (10) وهذا إسناد جيد.
وقد وثق النسائي ، وابن حبان عبد الرحمن بن عوسجة هذا ، ونقل الأزدي عن يحيى بن
سعيد القطان أنه قال : سألت عنه بالمدينة ، فلم أرهم يحمدونه (11).
__________
(1) سنن ابن ماجة برقم (1337) وقال البوصيري في الزوائد (1/ 434) : "هذا
إسناد فيه أبو رافع واسمه إسماعيل بن رافع ، ضعيف متروك".
(2) في ط ، م : "سفيان".
(3) المسند (5/ 172).
(4) زيادة من جـ ، ط.
(5) في ط : "ورواه أحمد".
(6) المسند (1/ 175 ، 179).
(7) سنن أبي داود برقم (1471).
(8) سنن أبي داود برقم (1468).
(9) سنن النسائي (2/ 179) وسنن ابن ماجة برقم (1342).
(10) سنن النسائي (2/ 179).
(11) وانظر : تهذيب الكمال للمزي (17/ 322) وابن حجر - رحمه الله - اختار توثيقه
في التقريب.
(1/62)
وقال
أبو عبيد القاسم بن سلام : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة قال : نهاني أيوب أن أحدث
بهذا الحديث : "زينوا القرآن بأصواتكم". قال أبو عبيد : وإنما كره أيوب
فيما نرى ، أن يتأول الناس بهذا الحديث الرخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الألحان المبتدعة ، فلهذا أنهاه أن يحدث به (1).
قلت : ثم إن شعبة روى الحديث متوكلا على الله ، كما رُوي له ، ولو ترك كل حديث
بتأول مبطل لترك من السنة شيء كثير ، بل قد تطرقوا إلى تأويل آيات كثيرة وحملوها
على غير محاملها الشرعية المرادة ، والله المستعان ، وعليه التكلان ، ولا حول ولا
قوة إلا بالله.
والمراد من تحسين الصوت بالقرآن : تطريبه وتحزينه والتخشع به ، كما رواه الحافظ
الكبير بَقِيّ بن مَخْلَد ، حيث قال : حدثنا أحمد بن إبراهيم ، حدثنا يحيى بن سعيد
الأموي ، حدثنا طلحة بن يحيى بن طلحة ، عن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو رأيتني وأنا أستمع قراءتك
البارحة". قلت : أما والله لو علمت أنك تستمع قراءتي لحبرتها لك تحبيرا. ورواه
مسلم من حديث طلحة به وزاد : " لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود "
(2). وسيأتي هذا في بابه حيث يذكره البخاري ، والغرض أن أبا موسى قال : لو أعلم
أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا ، فدل على جواز تعاطي ذلك وتكلفه ، وقد كان أبو موسى
كما قال ، عليه السلام ، قد أعطى صوتا حسنا كما سنذكره إن شاء الله ، مع خشية تامة
ورقة أهل اليمن الموصوفة ، فدل على أن هذا من الأمور الشرعية.
قال أبو عبيد : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن
أبي سلمة قال : كان عمر إذا رأى أبا موسى قال : ذكرنا ربنا يا أبا موسى ، فيقرأ عنده
(3).
وقال أبو عبيد : وحدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا سليمان التيمي ، أنبئت عنه ،
حدثنا أبو عثمان النهدي قال : كان أبو موسى يصلي بنا ، فلو قلت : إني لم أسمع صوت
صنجٍ قط ، ولا بربطٍ قط ، ولا شيئًا قط أحسن من صوته (4).
وقال ابن ماجة : حدثنا العباس بن عبد الرحمن (5) الدمشقي ، حدثنا الوليد بن مسلم ،
حدثني حنظلة بن أبي سفيان أنه سمع عبد الرحمن بن سابط الجمحي يحدث عن عائشة قالت :
" أبطأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بعد العشاء ، ثم جئت فقال :
"أين كنت ؟". قلت : كنت أستمع قراءة رجل من أصحابك لم أسمع مثل قراءته
وصوته من أحد ، قالت : فقام فقمت معه حتى استمع له ، ثم التفت إلي فقال :
"هذا سالم مولى أبي حذيفة ، الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا" "
(6). إسناد جيد.
وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في
المغرب بالطور ، فما
__________
(1) فضائل القرآن (ص 81).
(2) صحيح مسلم برقم (793).
(3) فضائل القرآن (ص 79).
(4) فضائل القرآن (ص 79). وقال الحافظ ابن حجر : "سنده صحيح".
(5) في جـ : "عثمان".
(6) سنن ابن ماجة برقم (1338).
(1/63)
سمعت
أحدا أحسن صوتًا أو قال : قراءة منه. وفي بعض ألفاظه : فلما سمعته قرأ : { أَمْ
خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } [الطور : 35] ، خلت أن
فؤادي قد انصدع (1). وكان جبير لما سمع هذا بعدُ مشركا على دين قومه ، وإنما قدم
في فداء الأساري بعد بدر ، وناهيك بمن تؤثر قراءته في المشرك المصر على الكفر!
وكان هذا سبب هدايته ولهذا كان أحسن القراءة ما كان عن خشوع القلب ، كما قال أبو
عبيد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن ليث ، عن طاوس قال : أحسن الناس صوتًا
بالقرآن أخشاهم لله (2).
حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، وعن الحسن بن
مسلم ، عن طاوس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أي الناس أحسن
صوتًا بالقرآن ؟ فقال : "الذي إذا سمعته رأيته يخشى الله" " (3).
وقد روى هذا متصلا من وجه آخر ، فقال ابن ماجة : حدثنا بشر بن معاذ الضرير ، حدثنا
عبد الله بن جعفر المديني ، حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع ، عن أبي الزبير ،
عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من أحسن الناس صوتا
بالقرآن الذي إذا سمعتوه يقرأ حسبتموه يخشى الله " (4) ولكن عبد الله بن جعفر
هذا ، وهو والد علي بن المديني ، وشيخه ضعيفان ، والله أعلم.
والغرض أن المطلوب شرعًا إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه
والخشوع والخضوع والانقياد للطاعة ، فأما الأصوات بالنغمات المحدثة المركبة على
الأوزان والأوضاع الملهية والقانون الموسيقائي ، فالقرآن ينزه عن هذا ويجل ويعظم
أن يسلك في أدائه هذا المذهب ، وقد جاءت السنة بالزجر عن ذلك ، كما قال الإمام
العلم أبو عبيد القاسم بن سلام ، رحمه الله :
حدثنا نعيم بن حماد ، عن بَقِيَّة بن الوليد ، عن حصين بن مالك الفزاري : سمعت
شيخًا يكنى أبا محمد يحدث عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها ، وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل
الكتابيين ، ويجيء قوم من بعدي يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنوح ،
لا يجاوز حناجرهم ، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم " (5).
حدثنا يزيد ، عن شريك ، عن أبي اليقظان عثمان بن عمير ، عن زاذان أبي عمر ، عن
عليم قال : " كنا على سطح ومعنا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال
يزيد : لا أعلمه إلا قال : عابس الغفاري ، فرأى الناس يخرجون في الطاعون فقال : ما
هؤلاء ؟ قالوا : يفرون من الطاعون ، فقال : يا طاعون خذني ، فقالوا : تتمنى الموت
وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا يتمنين أحدكم الموت"
؟ فقال : إني أبادر خصالا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوفهن على أمته :
"بيع الحكم ، والاستخفاف بالدم ، وقطيعة الرحم ، وقوم يتخذون القرآن مزامير
يقدمون أحدهم ليس بأفقههم ولا أفضلهم إلا ليغنيهم
__________
(1) صحيح البخاري برقم (765 ، 4854) وصحيح مسلم برقم (463).
(2) فضائل القرآن (ص 80).
(3) فضائل القرآن (ص 80).
(4) سنن ابن ماجة برقم (1339).
(5) فضائل القرآن (ص 80) وقال الذهبي في ترجمة حصين بن مالك في الميزان (1/ 553) :
"تفرد عنه بقية ، ليس بمعتمد ، والخبر منكر".
(1/64)
[به]
(1) غناءً " وذكر خصلتين أخريين (2).
وحدثنا إبراهيم بن يعقوب ، عن ليث بن أبي سليم ، عن عثمان بن عمير ، عن زاذان ، عن
عابس الغفاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك أو نحوه. وحدثنا يعقوب بن
إبراهيم ، عن الأعمش ، عن رجل ، عن أنس بن مالك : أنه سمع رجلا يقرأ القرآن بهذه
الألحان التي أحدث الناس ، فأنكر ذلك ونهى عنه (3).
هذه طرق حسنة في باب الترهيب ، وهذا يدل على أنه محذور كبير ، وهو قراءة القرآن
بالألحان التي يسلك بها مذاهب الغناء ، وقد نص الأئمة ، رحمهم الله ، على النهي
عنه ، فأما إن خرج به إلى التمطيط الفاحش الذي يزيد بسببه حرفا أو ينقص حرفا ، فقد
اتفق العلماء على تحريمه ، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن معمر ، حدثنا روح ، حدثنا عبيد الله
بن الأخنس ، عن ابن أبي مُلَيْكة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : " ليس منا من لم يَتَغَنَّ بالقرآن " (4).
ثم قال : وإنما ذكرناه لأنهم اختلفوا على ابن أبي مليكة فيه ، فرواه ابن عبد
الجبار بن الورد عنه عن أبي لبابة ، ورواه عمرو بن دينار والليث عنه عن أبي نَهِيك
عن سعد ، ورواه عَسْل بن سفيان عنه ، عن عائشة (5) ورواه نافع مولى ابن عمر عنه ،
عن ابن الزبير (6).
__________
(1) زيادة من ط.
(2) فضائل القرآن (ص 81) والخصلتين هما : إمرة السفهاء ، وكثرة الشرط.
(3) فضائل القرآن (ص 81).
(4) مسند البزار برقم (2332) "كشف الأستار".
(5) رواه البزار في مسنده برقم (2334) "كشف الأستار" والحاكم في
المستدرك (1/ 570) وقال الحاكم : "إسناده شاذ".
(6) رواه البزار في مسنده برقم (2335) "كشف الأستار".
(1/65)
اغتباط
صاحب القرآن
حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، حدثني سالم بن عبد الله : أن عبد
الله بن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا حسد إلا في
(1) اثنتين : رجل آتاه الله الكتاب فقام به آناء الليل ، ورجل أعطاه الله مالا فهو
يتصدق به آناء الليل والنهار " (2).
انفرد به البخاري من هذا الوجه ، واتفقا على إخراجه من رواية سفيان عن الزهري (3)
ثم قال البخاري : حدثنا علي بن إبراهيم ، حدثنا روح ، حدثنا شعبة ، عن سليمان :
سمعت ذَكْوان ، عن أبي هريرة ؛ " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"لا حسد إلا في اثنتين : رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء
النهار" ، فسمعه جار له فقال : ليتني أوتيت مثل ما أوتى فلان فعملت مثل ما
يعمل ، "ورجل آتاه الله مالا فهو يهلكه في الحق" ، فقال رجل : ليتني
أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل" (4).
ومضمون هذين الحديثين : أن صاحب القرآن في غبطة وهو حسن الحال ، فينبغي أن يكون
شديد
__________
(1) في جـ ، ط : "على".
(2) صحيح البخاري برقم (5025).
(3) صحيح البخاري برقم (7529) وصحيح مسلم برقم (815).
(4) صحيح البخاري برقم (5026).
(1/65)
الاغتباط
بما هو فيه ، ويستحب تغبيطه بذلك ، يقال : غبطه يغبِطه غبطًا : إذا تمنى ما هو فيه
من النعمة ، وهذا بخلاف الحسد المذموم وهو تمني زوال نعمة المحسود عنه ، سواء حصلت
لذلك الحاسد أو لا وهذا مذموم شرعًا ، مهلكٌ ، وهو أول معاصي إبليس حين حسد آدم ،
عليه السلام ، على ما منحه الله تعالى من الكرامة والاحترام والإعظام. والحسد
الشرعي الممدوح هو تمني مثل حال ذلك الذي هو على حالة سارة ؛ ولهذا قال عليه
السلام : "لا حسد إلا في اثنتين " ، فذكر النعمة القاصرة وهي تلاوة
القرآن آناء الليل والنهار ، والنعمة المتعدية وهي إنفاق المال بالليل والنهار
" ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ
وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً
يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ } [فاطر : 29] ، وقد روي نحو هذا من وجه آخر ،
فقال عبد الله بن الإمام أحمد : وجدت في كتاب أبي بخط يده : كتب إليّ أبو توبة
الربيع بن نافع ، فكان في كتابه : حدثنا الهيثم بن حميد ، عن زيد بن واقد ، عن
سليمان بن موسى ، عن كثير بن مرة ، عن يزيد بن الأخنس ، أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : "لا تنافس بينكم إلا في اثنتين : رجل أعطاه الله القرآن فهو
يقوم به آناء الليل والنهار ، ويتبع ما فيه ، فيقول رجل : لو أن الله أعطاني مثل
ما أعطى فلانا فأقوم (1) كما يقوم به ، ورجل أعطاه الله مالا فهو ينفقه ويتصدق ،
فيقول رجل : لو أن الله أعطاني مثل ما أعطى فلانا فأتصدق به" (2). وقريب من
هذا ما قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن نمير ، حدثنا عبادة بن مسلم ، حدثني
يونس بن خباب ، عن أبي سعيد البختري الطائي ، عن أبي كبشة قال : سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول : "ثلاث أقسم عليهن ، وأحدثكم حديثا فاحفظوه ، فأما
الثلاث التي أقسم عليهن : فإنه ما نقص مال عبد من صدقة ، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر
عليها إلا زاده الله بها عزا ، ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله له باب فقر ،
وأما الذي أحدثكم حديثا فاحفظوه ، فإنه قال : إنما الدنيا لأربعة نفر : عبد رزقه
الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل رحمه ، ويعمل لله فيه حقه" ، قال :
"فهذا بأفضل المنازل ، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو يقول : لو كان
لي مال عملت بعمل فلان" قال : "فأجرهما سواء ، وعبد رزقه الله مالا ولم
يرزقه علما فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ، ولا يصل فيه رحمه ، ولا
يعمل لله فيه حقه ، فهذا بأخبث المنازل ، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو
يقول : لو كان لي مال لفعلت بعمل فلان". قال : "هي نيته فوزرهما فيه
سواء " (3).
وقال أيضا : حدثنا وَكِيع ، حدثنا الأعمش ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن أبي كبشة
الأنماري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل هذه الأمة مثل
أربعة نفر : رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يعمل به في ماله ينفقه في حقه ، ورجل
آتاه الله علما ولم يؤته مالا فهو يقول : لو كان لي مثل مال هذا عملت فيه مثل الذي
يعمل". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فهما في الأجر سواء ، ورجل
آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو يخبط فيه ينفقه في غير حقه ، ورجل لم يؤته الله
مالا ولا علما فهو يقول : لو كان لي مثل
__________
(1) في ط ، م : "فيقوم به".
(2) المسند (4/ 105).
(3) المسند (4/ 231).
(1/66)
هذا
عملت فيه مثل الذي يعمل". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فهما في
الوزر سواء". إسناد صحيح (1)
__________
(1) المسند (4/ 230).
(1/67)
خيركم
من تعلم القرآن وعلمه
حدثنا حجاج بن مِنْهال ، حدثنا شعبة ، أخبرني علقمة بن مَرْثَد ، سمعت سعد بن
عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن ، عن عثمان بن عفان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه". وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان ،
رضي الله عنه ، حتى كان الحجاج قال :
وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا (1).
وقد أخرج الجماعة هذا الحديث سوى مسلم من رواية شعبة عن عَلْقَمة بن مرثد عن سعد
بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن وهو عبد الله بن حبيب السلمي - رحمه الله (2).
وحدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ،
عن عثمان بن عفان قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن أفضلكم من تعلم
القرآن وعلمه " (3).
وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من طرقٍ عن سفيان ، عن علقمة ، عن أبي عبد
الرحمن ، من غير ذكر سعد بن عبيدة (4) كما رواه شعبة ولم يختلف عليه فيه ، وهذا
المقام مما حكم لسفيان الثوري فيه على شعبة ، وخطأ بُنْدَار يحيى بن سعيد في
روايته ذلك عن سفيان ، عن علقمة ، عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن وقال :
رواه الجماعة من أصحاب سفيان عنه ، بإسقاط سعد بن عبيدة ، ورواية سفيان أصحُ في
هذا المقام المتعلق بصناعة الإسناد ، وفي ذكره طول لولا الملالة لذكرناه ، وفيما
ذكر كفاية وإرشاد إلى ما ترك ، والله أعلم.
والغرض أنه ، عليه الصلاة والسلام ، قال : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه
" وهذه من صفات المؤمنين المتبعين للرسل ، وهم الكُمل في أنفسهم ، المكملون
لغيرهم ، وذلك جمع بين النفع القاصر والمتعدي ، وهذا بخلاف صفة الكفار الجبارين
الذين لا ينفعون ، ولا يتركون أحدا ممن أمكنهم أن ينتفع ، كما قال تعالى : {
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ
الْعَذَابِ } [النحل : 88] ، وكما قال تعالى : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ
وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } [الأنعام : 26] ، في أصح قولي (5) المفسرين في هذا ، وهو
أنهم ينهون الناس عن اتباع القرآن مع نأيهم وبعدهم عنه ، فجمعوا بين التكذيب والصد
، كما قال تعالى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ
عَنْهَا } [الأنعام : 157] ، فهذا شأن (6) الكفار ، كما أن شأن خيار الأبرار أن
يكمل في نفسه وأن يسعى في تكميل غيره كما قال عليه السلام : " خيركم من تعلم
القرآن وعلمه " ، وكما قال [الله] (7) تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا
مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ } [ فصلت : 33] ،
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5027).
(2) سنن أبي داود برقم (1452) وسنن الترمذي برقم (2907) وسنن النسائي الكبرى برقم
(8037) وسنن ابن ماجة برقم (311).
(3) صحيح البخاري برقم (5028).
(4) سنن الترمذي برقم (2908) وسنن النسائي الكبرى برقم (8038) وسنن ابن ماجة برقم
(312).
(5) في جـ : "قول".
(6) في ط ، جـ : "شأن شرار".
(7) زيادة من ط.
(1/67)
فجمع
بين الدعوة إلى الله سواء كان بالأذان أو بغيره من أنواع الدعوة من تعليم القرآن
والحديث والفقه وغير ذلك ، مما يُبتغى به وجه الله ، وعمل هو في نفسه صالحا ، وقال
قولا صالحا ، فلا أحد أحسن حالا من هذا. وقد كان أبو عبد الرحمن السلمي الكوفي -
أحد أئمة الإسلام ومشايخهم - من رغب في هذا المقام ، فقعد يعلم الناس في (1) إمارة
عثمان إلى أيام الحجاج قالوا : وكان مقدار ذلك الذي مكث فيه يعلم القرآن سبعين سنة
، رحمه الله ، وآتاه الله ما طلبه ودامه. آمين.
قال (2) البخاري ، رحمه الله : حدثنا عمرو بن عون ، حدثنا حماد عن أبي حازم ، عن
سهل بن سعد قال : " أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت : إنها قد وهبت
نفسها لله ورسوله ، فقال : "ما لي في النساء من حاجة". فقال رجل :
زوّجنيها قال : ["أعطها ثوبًا" ، قال : لا أجد ، قال : "أعطها ولو
خاتما من حديد" ، فاعتل له ، فقال] (3) "ما معك من القرآن". قال :
كذا وكذا. فقال : "قد زوجتكها بما معك من القرآن " (4).
وهذا الحديث متفق على إخراجه من طرق عديدة ، والغرض منه أن الذي قصده البخاري أن
هذا الرجل تعلم (5) الذي تعلمه من القرآن ، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن
يعلمه تلك المرأة ، ويكون ذلك صداقا لها على ذلك ، وهذا فيه نزاع بين العلماء ،
وهل يجوز أن يجعل مثل هذا صداقًا ؟ أو هل يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن ؟ وهل
هذا كان خاصًا بذلك الرجل ؟ وما معنى قوله عليه الصلاة والسلام : "زوجتكها
بما معك من القرآن" ؟ أبسبب ما معك من القرآن ؟ كما قاله أحمد بن حنبل :
نكرمك بذلك أو بعوض ما معك ، وهذا أقوى ، لقوله في صحيح مسلم : "فعلمها"
(6) وهذا هو الذي أراده البخاري هاهنا وتحرير باقي الخلاف مذكور في كتاب النكاح
والإجارة ، والله المستعان.
__________
(1) في جـ : "من".
(2) في جـ : "ثم قال".
(3) زيادة من جـ.
(4) صحيح البخاري برقم (5029).
(5) في جـ : "يعلمها".
(6) في جـ : "فتعلمها".
(1/68)
القراءة
عن ظهر قلب
إنما أفرد البخاري في هذه الترجمة (1) حديث أبي حازم عن سهل بن سعد ، الحديث الذي
تقدم الآن ، وفيه أنه ، عليه السلام ، قال لرجل : "فما معك من القرآن
؟". قال : معي سورة كذا وكذا ، لسور عددها. قال : "أتقرؤهن (2) عن ظهر
قلبك ؟". قال : نعم. قال : "اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن"
(3).
وهذه الترجمة من البخاري ، رحمه الله ، مشعرة بأن قراءة القرآن عن ظهر قلب أفضل ،
والله أعلم. ولكن الذي صرح به كثيرون من العلماء أن قراءة القرآن من المصحف أفضل ؛
لأنه يشتمل على التلاوة والنظر في المصحف وهو عبادة ، كما صرح به غير واحد من
السلف ، وكرهوا أن يمضي على الرجل يوم لا ينظر في مصحفه ، واستدلوا على فضيلة
التلاوة في المصحف بما رواه الإمام العلم (4)
__________
(1) في جـ : "هذا الوجه".
(2) في جـ : "أتقرأ".
(3) صحيح البخاري برقم (5030).
(4) في جـ : "العالم".
(1/68)
أبو
عبيد في كتاب (1) فضائل القرآن حيث قال :
حدثنا نعيم بن حماد ، عن بقية بن الوليد ، عن معاوية بن يحيى ، عن سليم بن مسلم ،
عن عبد الله بن عبد الرحمن ، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال
النبي صلى الله عليه وسلم : "فضل قراءة القرآن نظرا على من يقرأه ظهرا ، كفضل
الفريضة على النافلة" (2) وهذا الإسناد ضعيف (3) فإن معاوية بن يحيى هو
الصدفي أو الأطرابلسي ، وأيهما كان فهو ضعيف.
وقال الثوري عن عاصم ، عن زر ، عن ابن مسعود قال : أديموا النظر في المصحف (4).
وقال حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن ماهك ، عن ابن عباس ، عن عمر :
أنه كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ فيه (5).
وقال حماد أيضا : عن ثابت ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن ابن مسعود : أنه كان
إذا اجتمع إليه إخوانه نشروا المصحف ، فقرؤوا ، وفسر لهم (6). إسناد صحيح.
وقال حماد بن سلمة : عن حجاج بن أرطاة ، عن ثوير بن أبي فاختة ، عن ابن عمر قال :
إذا رجع أحدكم من سوقه فلينشر المصحف وليقرأ (7). وقال الأعمش عن خَيْثَمة : دخلت
على ابن عمر وهو يقرأ في المصحف فقال : هذا جزئي الذي أقرأ به الليلة (8).
فهذه الآثار تدل على أن هذا أمر مطلوب لئلا يعطل المصحف فلا يقرأ منه ، ولعله قد
يقع لبعض الحفظة نسيان فيتذكر منه ، أو تحريف كلمة أو آية أو تقديم أو تأخير ،
فالاستثبات أولى ، والرجوع إلى المصحف أثبت من أفواه الرجال ، فأما تلقين القرآن
فمن فم الملقن أحسن ؛ لأن الكتابة لا تدل على كمال الأداء ، كما أن المشاهد من
كثير ممن يحفظ من الكتابة فقط يكثر تصحيفه وغلطه ، وإذا أدى الحال إلى هذا منع منه
إذا وجد شيخا يوقفه على لفظ (9) القرآن ، فأما عند العجز عمن يلقن فلا يكلف الله
نفسا إلا وسعها ، فيجوز عند الضرورة ما لا يجوز عند الرفاهية ، فإذا قرأ في المصحف
- والحالة هذه - فلا حرج عليه ، ولو فرض أنه قد يحرف بعض الكلمات عن لفظها على
لغته ولفظه ، فقد قال الإمام أبو عبيد :
حدثني هشام بن إسماعيل الدمشقي ، عن محمد بن شعيب ، عن الأوزاعي ؛ أن رجلا صحبهم
في سفر قال : فحدثنا حديثا ما أعلمه إلا رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : " إن العبد إذا قرأ فحرف أو أخطأ كتبه الملك كما أنزل " (10).
__________
(1) في ط : "كتابه".
(2) فضائل القرآن (ص 46).
(3) في ط : "وهذا الإسناد فيه ضعف".
(4) فضائل القرآن (ص 46) وقال ابن حجر : "إسناده صحيح".
(5) فضائل القرآن (ص 46).
(6) فضائل القرآن (ص 47).
(7) فضائل القرآن (ص 46).
(8) فضائل القرآن (ص 47).
(9) في طـ : "ألفاظ".
(10) فضائل القرآن (ص 47).
(1/69)
وحدثنا
حفص بن غياث ، عن الشيباني (1) عن بكير (2) بن الأخنس قال : كان يقال : إذا قرأ
الأعجمي والذي لا يقيم القرآن كتبه الملك كما أنزل. وقال بعض العلماء : المدار في
هذه المسألة على الخشوع في القراءة ، فإن كان الخشوع عند القراءة على ظهر القلب
فهو أفضل ، وإن كان عند النظر في المصحف (3) فهو أفضل فإن استويا فالقراءة نظرا
أولى ؛ لأنها أثبت وتمتاز بالنظر في المصحف قال الشيخ أبو زكريا النووي (4) رحمه
الله ، في التبيان : والظاهر أن كلام السلف وفعلهم محمول على هذا التفصيل.
تنبيه :
إن كان البخاري ، رحمه الله ، أراد بذكر (5) حديث سهل للدلالة على أن تلاوة القرآن
عن ظهر قلب أفضل منها في المصحف ، ففيه نظر ؛ لأنها قضية عين ، فيحتمل أن ذلك
الرجل كان لا يحسن الكتابة ويعلم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ، فلا يدل
على أن التلاوة عن ظهر قلب أفضل مطلقا في حق من يحسن ومن لا يحسن ، إذ لو دل هذا
لكان ذكر حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلاوته عن ظهر قلب - لأنه أمي لا يدري
الكتابة - أولى من ذكر هذا الحديث بمفرده.
الثاني : أن سياق الحديث إنما هو لأجل استثبات أنه يحفظ تلك السور عن ظهر قلب ؛
ليمكنه تعليمها لزوجته ، وليس المراد هاهنا : أن هذا أفضل من التلاوة نظرا ، ولا
عدمه (6) والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) في جـ : "النسائي".
(2) في جـ : "بكر".
(3) في ط : "المصحف أكثر".
(4) في ط : "النواوي".
(5) في ط : "بذكره".
(6) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (9/ 78) بعد أن ذكر كلام الحافظ ابن كثير هنا :
"ولا يرد على البخاري شيء مما ذكر ؛ لأن المراد بقوله : باب القراءة عن ظهر
قلب ، مشروعيتها أو استحبابها ، والحديث مطابق لما ترجم به ، ولم يتعرض لكونها
أفضل من القراءة نظرا ، وقد صرح كثير من العلماء أن القراءة من المصحف نظرا أفضل
من القراءة عن ظهر قلب".
(1/70)
استذكار
القرآن وتعاهده
حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : " إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقَّلة ، إن
عاهد عليها أمسكها ، وإن أطلقها ذهبت " هكذا رواه مسلم والنسائي من حديث مالك
[به] (1). وقال الإمام أحمد (2) حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا (3) معمر ، عن أيوب ، عن
نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل القرآن
إذا عاهد عليه صاحبه فقرأه بالليل والنهار ، كمثل رجل له إبل ، فإن عقلها حفظها ،
وإن أطلق عقالها ذهبت ، فكذلك صاحب القرآن ". أخرجاه ، قاله (4) ابن الجوزي
في جامع المسانيد ، وإنما هو من أفراد مسلم من حديث عبد الرزاق به (5) وحدثنا محمد
بن عرعرة ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن أبي وائل ،
__________
(1) صحيح البخاري برقم (031 5) وصحيح مسلم برقم (789) وسنن النسائي (2/ 154).
(2) المسند (2/ 35).
(3) في ط : "أخبرنا".
(4) في جـ : "قال".
(5) صحيح مسلم برقم (789).
(1/70)
عن
عبد الله قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " بئس ما لأحدهم أن يقول :
نسيت آية كيت وكيت ، بل نُسِيَ ، واستذكروا القرآن فإنه أشد تفصِّيًا من صدور
الرجال من النَّعم " (1).
تابعه بشر. هو ابن محمد السختياني ، عن ابن المبارك ، عن شعبة.
وقد رواه الترمذي عن محمود بن غيلان ، عن أبي داود الطيالسي ، عن شعبة به (2) وقال
: حسن صحيح. وأخرجه النسائي من رواية شعبة (3).
وحدثنا عثمان ، حدثنا جرير ، عن منصور مثله. وتابعه ابن جريج عن عبدة ، عن شقيق :
سمعت عبد الله قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم (4) وهكذا أسنده مسلم من حديث
ابن جريج به (5) ورواه النسائي في اليوم والليلة من حديث محمد بن جحادة ، عن عبدة
(6) وهو ابن أبي لُبَابة به (7). وهكذا رواه مسلم عن عثمان وزهير بن حرب وإسحاق بن
إبراهيم عن جرير به (8) وستأتي رواية البخاري له عن أبي نعيم ، عن سفيان الثوري ،
عن منصور به ، والنسائي من رواية ابن عيينة عن منصور به ، فقد رواه هؤلاء عن منصور
به مرفوعا في رواية هؤلاء كلهم (9) وقد رواه النسائي عن قتيبة ، عن حماد بن زيد ،
عن منصور ، عن أبي وائل ، عن عبد الله موقوفا (10) وهذا غريب وفي مسند أبي يعلى
(11) فإنما هو نَسِي بالتخفيف (12).
حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا أبو أسامة ، عن بريد ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تعاهدوا القرآن ، فوالذي نفسي بيده ،
لهو أشد تَفصِّيا من الإبل في عقلها ". وهكذا رواه مسلم عن أبي كريب محمد بن
العلاء وعبد الله بن برادٍ (13) الأشعري ، كلاهما عن أبي أسامة حماد بن أسامة به
(14).
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا موسى
بن علي :
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5032).
(2) سنن الترمذي برقم (4922).
(3) سنن النسائي (2/ 154).
(4) صحيح البخاري (9/ 79) "فتح".
(5) صحيح مسلم برقم (790).
(6) في جـ : "عبيدة".
(7) سنن النسائي الكبرى برقم (10560).
(8) صحيح مسلم برقم (790).
(9) صحيح البخاري برقم (5039) وسنن النسائي الكبرى برقم (8042).
(10) سنن النسائي الكبرى برقم (10564).
(11) مسند أبي يعلى (9/ 69).
(12) قال القرطبي : معنى التثقيل : أنه عوقب بوقوع النسيان عليه التفريط في
معاهدته واستذكاره. ومعنى التخفيف : أن الرجل ترك غير ملتفت إليه ، وهو كقوله
تعالى : (نسوا الله فنسيهم) [التوبة : 67] أي : تركهم في العذاب أو تركهم من
الرحمة.
(13) في جـ : "بردة".
(14) صحيح البخاري برقم (5033) وصحيح مسلم برقم (791).
(1/71)
سمعت
أبي يقول : سمعت عقبة بن عامر يقول : [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم] (1)
" تعلموا كتاب الله ، وتعاهدوه وتغنوا به ، فوالذي نفسي بيده ، لهو أشد تفلتا
من المخاض في العقل " (2).
ومضمون هذه الأحاديث الترغيب في كثرة تلاوة القرآن واستذكاره وتعاهده ؛ لئلا يعرضه
حافظه للنسيان (3) فإن ذلك خطر كبير ، نسأل الله العافية منه ، فإنه قال الإمام
أحمد :
حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا خالد ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عيسى بن فائد ، عن
رجل ، عن سعد بن عبادة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من
أمير عشرة إلا ويؤتى به يوم القيامة مغلولا لا يفكه عن ذلك الغل إلا العدل ، وما
من رجل قرأ القرآن فنسيه إلا لقي الله يوم القيامة يلقاه وهو أجذم " (4).
هكذا رواه جرير بن عبد الحميد ، ومحمد بن فضيل ، عن يزيد بن أبي زياد ، كما رواه
خالد بن عبد الله (5). وقد أخرجه أبو داود عن محمد بن العلاء عن ابن إدريس ، عن
يزيد بن أبي زياد ، عن عيسى بن فائد ، عن سعد بن عبادة عن النبي صلى الله عليه
وسلم بقصة نسيان القرآن ، ولم يذكر الرجل المبهم (6).
وكذا رواه أبو بكر بن عياش ، عن يزيد بن أبي زياد ، وقد رواه شعبة عن يزيد فوهم في
إسناده ، ورواه وكيع عن أصحابه ، عن يزيد ، عن عيسى بن فائد ، عن النبي صلى الله
عليه وسلم مرسلا. وقد رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبادة بن الصامت فقال :
حدثنا عبد الصمد ، حدثنا عبد العزيز بن مسلم ، حدثنا يزيد بن أبي زياد ، عن عيسى
بن فائد ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما
من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا لا يفكه منها إلا عدله ، وما من رجل
تعلم القرآن ثم نسيه إلا لقى الله يوم القيامة أجذم " (7).
وكذا رواه أبو عوانة ، عن يزيد بن أبي زياد ، ففيه اختلاف ، لكن هذا في باب
الترهيب مقبول - والله أعلم - لاسيما إذا كان له شاهد من وجه آخر ، كما قال أبو
عبيد.
حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال : حُدثت عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : " عرضت على أجور أمتي حتى القذاة والبعرة يخرجها الرجل من
المسجد ، وعرضت عليّ ذنوب أمتي فلم أر ذنبًا أكبر من آية أو سورة من كتاب الله
أوتيها رجل فنسيها ". قال ابن جريج : وحُدّثت عن سلمان الفارسي قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أكبر ذنب توافى به أمتي يوم القيامة
سورة من كتاب الله أوتيها رجل فنسيها " (8).
__________
(1) زيادة من ط ، والمسند.
(2) المسند (4/ 146).
(3) في ط : "إلى النسيان".
(4) المسند (5/ 385).
(5) رواه أبو عبيد في الفضائل (ص 103) من طريق جرير ، ورواه ابن أبي شيبة في
المصنف (10/ 478) من طريق ابن فضيل.
(6) سنن أبي داود برقم (1474).
(7) المسند (5/ 323).
(8) فضائل القرآن (ص 103).
(1/72)
وقد
روى أبو داود والترمذي وأبو يعلى والبزار وغيرهم من حديث ابن أبي رواد ، عن ابن
جريج ، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : " عرضت عليّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد ،
وعرضت عليّ ذنوب أمتي ، فلم أر ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم
نسيها " (1).
قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وذاكرت به البخاري فاستغربه ،
وحكى البخاري عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي أنه أنكر سماع المطلب من أنس بن
مالك.
قلت : وقد رواه محمد بن يزيد الآدمي (2) عن ابن أبي رواد ، عن ابن جريج عن الزهري
، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم به. والله أعلم.
وقد أدخل بعض المفسرين هذا المعنى في قوله تعالى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي
فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ
رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ
آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } [طه : 124 - 126] ، وهذا
الذي قاله هذا - وإن لم يكن هو المراد جميعه - فهو بعضه ، فإن الإعراض عن تلاوة
القرآن وتعريضه للنسيان وعدم الاعتناء به فيه تهاون كثير وتفريط شديد ، نعوذ بالله
منه ؛ ولهذا قال عليه السلام : "تعاهدوا القرآن" ، وفي لفظ : "
استذكروا القرآن ، فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم ".
التَّفَصِّي : التخلص يقال : تَفَصَّى فلان من البلية : إذا تخلص منها ، ومنه :
تفصى النوى من التمرة : إذا تخلص منها ، أي : إن القرآن أشد تفلتا من الصدور من
النعم إذا أرسلت من غير عقال.
وقال أبو عبيد : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال : قال عبد الله -
يعني ابن مسعود - : إني لأمقت القارئ أن أراه سمينا نسيا للقرآن (3).
حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن عبد العزيز بن أبي رواد قال : سمعت الضحاك بن
مزاحم يقول : ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا بذنب يحدثه ؛ لأن الله تعالى يقول
: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [الشورى :
30] ، وإن نسيان القرآن من أعظم المصائب (4).
ولهذا قال إسحاق بن راهويه وغيره : يُكره لرجل أن يمر عليه أربعون يوما لا يقرأ
فيها القرآن ، كما أنه يُكره له أن يقرأ في أقل من ثلاثة أيام ، كما سيأتي هذا ،
حيث يذكره البخاري بعد هذا ، وكان الأليق أن يتبعه هذا الباب ، ولكن ذكر بعد هذا
قوله :
__________
(1) سنن أبي داود برقم (461) وسنن الترمذي برقم (2916) ومسند أبي يعلى (7/ 253).
(2) في جـ : "الأموى".
(3) فضائل القرآن (ص 104) وفيه انقطاع بين النخعي وابن مسعود.
(4) فضائل القرآن (ص 104).
(1/73)
القراءة
على الدابة
حدثنا حجاج ، حدثنا شعبة ، أخبرني أبو إياس قال : سمعت عبد الله بن مغفل ، رضي
الله عنه ،
(1/73)
قال
: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وهو يقرأ على راحلته سورة
الفتح " (1).
وهذا الحديث قد أخرجه الجماعة سوى ابن ماجة من طرق ، عن شعبة ، عن أبي إياس ، وهو
معاوية بن قرة به (2) وهذا - أيضا - له تعلق بما تقدم من تعاهد القرآن وتلاوته
سفرا وحضرا ، ولا يكره ذلك عند أكثر العلماء إذا لم يتله القارئ في الطريق ، وقد
نقله ابن أبي داود عن أبي الدرداء أنه كان يقرأ في الطريق ، وقد روي عن عمر بن عبد
العزيز أنه أذن في ذلك ، وعن الإمام مالك أنه كره ذلك ، كما قال ابن أبي داود :
وحدثني أبو الربيع ، أخبرنا ابن وهب [قال] (3) سألت مالكا عن الرجل يصلي في آخر
الليل ، فيخرج إلى المسجد ، وقد بقي من السورة التي كان يقرأ فيها شيء ، فقال : ما
أعلم القراءة تكون في الطريق.
وقال الشعبي : تكره قراءة القرآن في ثلاثة مواطن : في الحمام ، وفي الحشوش ، وفي
الرحى وهي تدور. وخالفه في القراءة في الحمام كثير من السلف : أنها لا تكره ، وهو
مذهب مالك والشافعي وإبراهيم النخعي وغيرهم ، وروى ابن أبي داود عن علي بن أبي
طالب : أنه كره ذلك ، ونقله ابن المنذر عن أبي وائل شقيق بن سلمة ، والشعبي والحسن
البصري ومكحول وقبيصة بن ذؤيب ، وهو رواية عن إبراهيم النخعي ، ومحكيّ عن أبي
حنيفة ، رحمهم الله ، أن القراءة في الحمام تكره وأما القراءة في الحشوش فكراهتها
ظاهرة ، ولو قيل بتحريم ذلك صيانة لشرف القرآن لكان مذهبا ، وأما القراءة في بيت
الرحى وهي تدور فلئلا يعلو غير القرآن عليه ، والحق يعلو ولا يُعلى ، والله أعلم.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5034).
(2) صحيح مسلم برقم (794) وسنن أبي داود برقم (1467) والشمائل للترمذي برقم (302) وسنن
النسائي الكبرى برقم (8062).
(3) زيادة من ط.
(1/74)
تعليم
الصبيان القرآن
حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير قال : إن
الذي تدعونه المفصل هو المحكم ، قال : وقال ابن عباس : توفي رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين وقد قرأت المحكم (1).
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس قال : جمعت المحكم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له : وما المحكم
؟ قال : "المفصل" (2).
انفرد بإخراجه البخاري ، وفيه دلالة على جواز تعلم الصبيان القرآن ؛ لأن ابن عباس
أخبر عن سنه حين موت الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد كان جمع المفصل ، وهو من
الحجرات ، كما تقدم ذلك ، وعمره آنذاك عشر سنين. وقد روى البخاري أنه قال : توفى
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مختون (3). وكانوا لا يختنون الغلام حتى يحتلم
، فيحتمل أنه تجوز في هذه الرواية بذكر العشر ، وترك ما زاد عليها من
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5035).
(2) صحيح البخاري برقم (5036).
(3) صحيح البخاري برقم (6299).
(1/74)
الكسر
، والله أعلم.
وعلى كل تقدير ، ففيه دلالة على جواز تعليمهم القرآن في الصبا ، وهو ظاهر ، بل قد
يكون مستحبا أو واجبا ؛ لأن الصبي إذا تعلم القرآن بلغ وهو يعرف ما يصلي به ،
وحفظه في الصغر أولى من حفظه كبيرا ، وأشد علوقا بخاطره وأرسخ وأثبت ، كما هو
المعهود من حال الناس ، وقد استحب بعض السلف أن يترك الصبي في ابتداء عمره قليلا
للعب ، ثم توفر همته على القراءة ، لئلا يلزم أولا بالقراءة فيملها ويعدل عنها إلى
اللعب ، وكره بعضهم تعليمهم القرآن وهو لا يعقل ما يقال له ، ولكن يترك حتى إذا
عقل وميز علم قليلا قليلا بحسب همته ونهمته وحفظه وجودة ذهنه ، واستحب عمر بن
الخطاب ، رضي الله عنه ، أن يلقن خمس آيات خمس آيات ، رويناه عنه بسند جيد (1).
__________
(1) مسند الفاروق للمؤلف (1/ 170).
(1/75)
نسيان
القرآن
وهل يقول : نسيت آية كذا وكذا ، وقول الله تعالى :
{ سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى * إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ } [الأعلى : 6 ، 7]
حدثنا الربيع بن يحيى ، حدثنا زائدة ، حدثنا هشام ، عن عروة ، عن عائشة قالت : لقد
سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ في المسجد فقال : " يرحمه الله ، لقد
أذكرني كذا وكذا من سورة كذا ".
وحدثني محمد بن عبيد بن ميمون ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن هشام وقال : أسقطتهن من
سورة كذا وكذا. انفرد به أيضا. تابعه علي بن مسهر وعبدة عن هشام (1).
وقد أسندهما البخاري في موضع آخر ، ومسلم معه في عبدة (2).
وحدثنا أحمد بن أبي رجاء ، حدثنا أبو أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن
عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : " سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا
يقرأ في سورة بالليل فقال : "يرحمه الله ، فقد (3) أذكرني آية كذا وكذا كنت
أنسيتها من سورة كذا وكذا ". ورواه مسلم من حديث أبي أسامة حماد بن أسامة (4)
.
الحديث الثاني : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن أبي وائل ، عن عبد
الله ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بئس ما
لأحدهم أن يقول : نسيت آية كيت وكيت ، بل هو نُسِّى " ورواه مسلم والنسائي ،
من حديث منصور به (5). وقد تقدم. وفي مسند أبي يعلى : "فإنما هو نُسِيَ
" ، بالتخفيف ، هذا لفظه.
وفي هذا الحديث - والذي قبله - دليل على أن حصول النسيان للشخص ليس بنقصٍ له إذا
كان
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5037).
(2) صحيح البخاري برقم (6335) وصحيح مسلم برقم (788).
(3) في جـ ، ط : "قد".
(4) صحيح البخاري برقم (5038) وصحيح مسلم برقم (788).
(5) صحيح البخاري برقم (5039) وصحيح مسلم برقم (790) وسنن النسائي الكبرى برقم
(8042).
(1/75)
بعد الاجتهاد والحرص ، وفي حديث ابن مسعود أدب في التعبير عن حصول ذلك ، فلا يقول : نسيت آية كذا ، فإن النسيان ليس من فعل العبد ، وقد يصدر عنه أسبابه من التناسي والتغافل والتهاون المفضي إلى ذلك ، فأما النسيان نفسه فليس بفعله ؛ ولهذا قال : "بل هو نُسِيَ" ، مبني لما لم يسم فاعله ، وأدب - أيضا - في ترك إضافة ذلك إلى الله تعالى ، وقد أسند النسيان إلى العبد في قوله : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } [الكهف : 24] وهو ، والله أعلم ، من باب المجاز السائغ بذكر المسبب وإرادة السبب ؛ لأن النسيان إنما يكون عن سبب قد يكون ذنبا ، كما تقدم عن الضحاك بن مزاحم ، فأمر الله تعالى بذكره ليذهب الشيطان عن القلب كما يذهب عند النداء بالأذان ، والحسنة تذهب السيئة ، فإذا زال السبب للنسيان انزاح ، فحصل الذكر لشيء بسبب ذكر الله تعالى ، والله أعلم.
(1/76)
من
لم ير بأسا أن يقول :
سورة البقرة ، وسورة كذا وكذا
حدثنا عمر بن حفص بن غياث (1) حدثنا أبي ، حدثنا الأعمش ، حدثني إبراهيم ، عن
علقمة وعبد الرحمن بن يزيد ، عن أبي مسعود الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : " الآيتان من آخر سورة البقرة ، من قرأ بهما في ليلة كفتاه
" (2).
وهذا الحديث قد أخرجه الجماعة من حديث عبد الرحمن بن يزيد وصاحبا الصحيح والنسائي
وابن ماجة من حديث علقمة ، كلاهما عن أبي مسعود عقبة بن عامر الأنصاري البكري (3).
الحديث الثاني : ما رواه من حديث الزهري ، عن عروة ، عن المِسْوَر وعبد الرحمن بن
عبدٍ القارئ ، كلاهما عن عمر قال : سمعت هشام بن حكيم [بن حزام] (4) يقرأ سورة
الفرقان... وذكر الحديث بطوله ، كما تقدم ، وكما سيأتي (5).
الحديث الثالث : ما رواه من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : "
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قارئا يقرأ من الليل في المسجد ، فقال :
"يرحمه الله ، لقد أذكرني كذا وكذا آية ، كنت أسقطتهن من سورة كذا وكذا
" (6).
وهكذا في الصحيحين عن ابن مسعود : أنه كان يرمي الجمرة من الوادي ويقول : هذا مقام
الذي أنزلت عليه سورة البقرة (7). وكره بعض السلف ذلك ، ولم يروا إلا أن يقال :
السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، كما تقدم من رواية يزيد الفارسي عن ابن عباس ،
عن عثمان أنه قال : إذا نزل شيء من
__________
(1) في جـ : "عتاب".
(2) صحيح البخاري برقم (5040).
(3) صحيح البخاري برقم (4008 ، 5051 ، 5008) وصحيح مسلم برقم (807 ، 808) وسنن أبي
داود برقم (1397) وسنن الترمذي برقم (2881) وسنن النسائي الكبرى برقم (8018 ،
8019) وسنن ابن ماجة برقم (1368 ، 1369).
(4) زيادة من ط ، جـ.
(5) صحيح البخاري برقم (5041).
(6) صحيح البخاري برقم (5042).
(7) صحيح البخاري برقم (1747) وصحيح مسلم برقم (1296).
(1/76)
القرآن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجعلوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا " ، ولا شك أن هذا أحوط وأولى ، ولكن قد صحت الأحاديث بالرخصة في الآخر ، وعليه عملُ الناس اليوم في ترجمة السور في مصاحفهم ، وبالله التوفيق.
(1/77)
الترتيل
في القراءة
وقول الله (1) عز وجل : { وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا } [المزمل : 4] ، وقوله
: { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ } [الإسراء
: 106] ، يكره أن يهذ كهذ الشعر ، يفرق : يفصل ، قال ابن عباس : { فَرَقْنَاهُ }
فصلناه.
حدثنا أبو النعمان ، حدثنا مهدي بن ميمون ، حدثنا واصل [وهو ابن حيان الأحدب] (2)
عن أبي وائل ، عن عبد الله قال : غدونا على عبد الله ، فقال رجل : قرأت المفصل
البارحة ، فقال : هذا كهذِّ الشعر ، إنا قد سمعنا القراءة ، وإني لأحفظ القراءات التي
كان يقرأ بهن النبي صلى الله عليه وسلم ثمان عشرة سورة من المفصل ، وسورتين من آل
حم (3).
ورواه مسلم عن شيبان بن فَرُّوخ ، عن مهدي بن ميمون ، عن واصل - وهو ابن حيان
الأحدب - عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن ابن مسعود به (4).
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن الحارث بن يزيد ، عن
زياد بن نعيم ، عن مسلم بن مِخْراق ، عن عائشة أنه ذكر لها أن ناسا يقرؤون القرآن
في الليل مرة أو مرتين ، فقالت : أولئك قرؤوا ولم يقرؤوا ، كنت أقوم مع النبي صلى
الله عليه وسلم ليلة التمام ، فكان يقرأ سورة البقرة وآل عمران والنساء ، فلا يمر
بآية فيها تخوف إلا دعا الله واستعاذ ، ولا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله
ورغب إليه (5).
الحديث الثاني : حدثنا قتيبة ، حدثنا جرير ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن سعيد بن
جبير ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ
بِهِ } [القيامة : 16] : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل جبريل بالوحي ،
وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه. وذكر تمام الحديث كما سيأتي ، وهو متفق
عليه ، وفيه والذي قبله دليل على استحباب ترتيل القراءة والترسل فيها من غير
هَذْرَمة ولا سرعة مفرطة ، بل بتأمل وتفكر ، قال الله تعالى : { كِتَابٌ
أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ } [ص : 29].
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن (6) سفيان ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد
الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " يقال لصاحب القرآن : اقرأ
وارْقَ ، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها " (7).
__________
(1) في جـ ، ط : "وقوله".
(2) زيادة من جـ.
(3) صحيح البخاري برقم (5043).
(4) صحيح مسلم برقم (822).
(5) المسند (6/ 92).
(6) في ط : "عن".
(7) المسند (2/ 192).
(1/77)
وقال
أبو عبيد : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : قرأ علقمة على عبد الله ،
فكأنه عجل ، فقال عبد الله : فداك أبي وأمي ، رتل فإنه زين القرآن. قال : وكان
علقمة حسن الصوت بالقرآن (1).
وحدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن أيوب ، عن أبي جمرة قال : قلت لابن عباس : إني
سريع القراءة وإني أقرأ القرآن في ثلاث فقال : لأن أقرأ البقرة (2) في ليلة
فأدبرها وأرتلها أحب إليَّ من أن أقرأ كما تقول (3).
وحدثنا حجاج ، عن شعبة وحماد بن سلمة ، عن أبي جمرة ، عن ابن عباس نحو ذلك ، إلا
أن في حديث حماد : أحب إليّ من أن أقرأ القرآن أجمع هذرمة (4).
ثم قال البخاري ، رحمه الله :
__________
(1) فضائل القرآن (ص 74).
(2) في جـ : "القرآن".
(3) فضائل القرآن (ص 74).
(4) فضائل القرآن (ص 74).
(1/78)
مد
القراءة
حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا جرير بن حازم الأزدي ، حدثنا قتادة قال : سألت أنس
بن مالك عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال : كان يمد مدا (1).
وهكذا رواه أهل السنن ، من حديث جرير بن حازم به (2) وحدثنا عمرو بن عاصم ، حدثنا
همام ، عن قتادة قال : سئل أنس بن مالك : كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم
؟ فقال : كانت مدًا ، ثم قرأ : بسم الله الرحمن الرحيم. يمد بسم الله ، ويمد
بالرحمن ، ويمد بالرحيم. انفرد به البخاري من هذا الوجه (3) وفي معناه الحديث الذي
رواه الإمام أبو عبيد : حدثنا أحمد بن عثمان ، عن عبد الله بن المبارك ، عن الليث
بن سعد ، عن ابن أبي مُلَيْكَة ، عن يعلى بن مَملك ، عن أم سلمة : أنها نعتت قراءة
رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة مفسرة حرفًا حرفًا (4).
وهكذا رواه الإمام أحمد بن حنبل ، عن يحيى بن إسحاق ، وأبو داود عن يزيد بن خالد
الرملي ، والترمذي والنسائي ، كلاهما عن قتيبة ، كلهم عن الليث بن سعد به (5).
وقال الترمذي : حسن صحيح.
ثم قال أبو عبيد : وحدثنا يحيى بن سعيد الأموي ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي
مُلَيْكة ، عن أم سلمة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته ؛ بسم
الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين.
وهكذا.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5045).
(2) سنن أبي داود برقم (1465) وسنن النسائي (2/ 179) والشمائل للترمذي برقم (308)
وسنن ابن ماجة برقم (1353).
(3) صحيح البخاري برقم (5046).
(4) فضائل القرآن (ص 74).
(5) المسند (6/ 300) وسنن أبي داود برقم (1466) وسنن النسائي (2/ 181) وسنن
الترمذي برقم (2923).
(1/78)
رواه
أبو داود والترمذي من حديث ابن جريج (1). وقال الترمذي : غريب وليس إسناده بمتصل ،
يعني : أن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مُلَيْكة لم يسمعه من أم سلمة ، وإنما
رواه عن يعلى بن مَمْلَك ، كما تقدم ، والله أعلم. الترجيع
حدثنا آدم بن أبي إياس ، حدثنا شعبة ، حدثنا أبو إياس قال : سمعت عبد الله بن مغفل
قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته - أو جمله - وهي تسير به ، وهو
يقرأ سورة الفتح قراءة لينة وهو يرجع (2).
وقد تقدم هذا الحديث في القراءة على الدابة وأنه من المتفق عليه ، وفيه أن ذلك كان
يوم الفتح ، وأما الترجيع : فهو الترديد في الصوت كما جاء - أيضا - في البخاري أنه
جعل يقول : (آ آ آ) ، وكان ذلك صدر من حركة الدابة تحته ، فدل على جواز التلاوة
عليها ، وإن أفضى إلى ذلك ولا يكون ذلك من باب الزيادة في الحروف ، بل ذلك مغتفر
للحاجة ، كما يصلي على الدابة حيث توجهت به ، مع إمكان تأخير ذلك الصلاة إلى
القبلة ، والله أعلم. حسن الصوت بالقراءة
حدثنا محمد بن خلف أبو بكر ، حدثنا أبو يحيى الحمّاني ، حدثنا بريد بن عبد الله بن
أبي بردة ، عن جده أبي بردة ، عن أبي موسى الأشعري ، عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : " يا أبا موسى ، لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود " (3)
وهذا رواه الترمذي عن موسى بن عبد الرحمن الكندي ، عن أبي يحيى الحمّاني (4) -
واسمه عبد الحميد بن عبد الرحمن - وقال : حسن صحيح. وقد رواه مسلم من حديث طلحة بن
يحيى بن طلحة ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى (5) وفيه قصة ، وقد تقدم الكلام على
تحسين الصوت عند قول البخاري : من لم يتغن بالقرآن ، وذكرنا هنا أحكاما كافية عن
إعادتها هاهنا ، والله أعلم. من أحب أن يسمع القرآن من غيره
حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، حدثنا أبي ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم بن عبيدة ، عن
عبد الله قال : " قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : "اقرأ عليّ
القرآن". قلت : عليك أقرأ وعليك أنزل ؟! قال : "إني أحب أن أسمعه من
غيري" ".
وقد رواه الجماعة إلا ابن ماجه ، من طرق عن الأعمش (6) وله طرق يطول ذكرها وبسطها
، وقد
__________
(1) فضائل القرآن (ص 75) وسنن أبي داود برقم (4001) وسنن الترمذي برقم (2927).
(2) صحيح البخاري برقم (5047).
(3) صحيح البخاري برقم (5048).
(4) سنن الترمذي برقم (3855).
(5) صحيح مسلم برقم (793).
(6) صحيح البخاري برقم (5049) وصحيح مسلم برقم (800) وسنن أبي داود برقم (3668)
وسنن النسائي الكبرى برقم (8075) وسنن الترمذي برقم (3025).
(1/79)
تقدم
فيما رواه مسلم من حديث طلحة بن يحيى بن طلحة ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى : أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : "يا أبا موسى ، لو رأيتني وأنا أستمع
لقراءتك البارحة". فقال : أما والله لو أعلم أنك تستمع قراءتي لحَبَّرْتها لك
تحبيرا.
وقال الزهري ، عن أبي سلمة : كان عمر إذا رأى أبا موسى قال : ذكرنا ربنا يا أبا
موسى. فيقرأ عنده.
وقال أبو عثمان النهدي : كان أبو موسى يصلي بنا ، فلو قلت : إني لم أسمع صوت صنج
قط ولا بربط قط ، ولا شيئا قط أحسن من صوته. قول المقريء للقارئ : حسبك
حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبيدة ، عن عبد
الله قال : " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اقرأ عليّ".
فقلت : يا رسول الله ، آقرأ عليك وعليك أنزل ؟! قال : "نعم" ، فقرأت
عليه سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ
أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } [النساء : 41] ، قال
: "حسبك الآن" [فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان] (1) (2).
أخرجه الجماعة إلا ابن ماجه ، من رواية الأعمش به (3) ووجه الدلالة ظاهر ، وكذا
الحديث الآخر : " اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم ، فإذا اختلفتم فقوموا
". في كم يقرأ القرآن وقول الله تعالى : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ
} [المزمل : 20]
حدثنا علي ، حدثنا سفيان ، قال : قال لي ابن شبرمة : نظرت كم يكفي الرجل من القرآن
فلم أجد سورة أقل من ثلاث آيات. فقلت : لا ينبغي لأحد أن يقرأ أقل من ثلاث آيات.
قال سفيان : أخبرنا منصور ، عن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، أخبره علقمة عن
أبي مسعود ، فلقيته وهو يطوف بالبيت ، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن من قرأ
بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه (4).
وقد تقدم أن هذا الحديث متفق عليه ، وقد جمع البخاري فيما بين عبد الرحمن بن يزيد
وعلقمة عن أبي مسعود وهو صحيح ؛ لأن عبد الرحمن سمعه أولا من علقمة ، ثم لقي أبا
مسعود وهو يطوف فسمعه منه ، وعليّ هذا هو ابن المديني وشيخه هو سفيان بن عيينة ،
وما قاله عبد الله بن شبرمة - فقيه الكوفة في زمانه - استنباط حسن ، وقد جاء في
حديث في السنن : " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وثلاث آيات " (5) ولكن هذا
الحديث - أعني حديث أبي مسعود - أصح وأشهر وأخص ، ولكن وجه مناسبته
__________
(1) زيادة من ط.
(2) صحيح البخاري برقم (5050).
(3) صحيح مسلم برقم (800) وسنن أبي داود برقم (3668) وسنن النسائي الكبرى برقم
(8078) والشمائل للترمذي برقم (306).
(4) صحيح البخاري برقم (5051).
(5) كذا قال الحافظ ابن كثير ، ولم أقع عليه في السنن الأربعة ، وقد رواه ابن عدي
في الكامل (5/ 29) من طريق عمر بن يزيد المدائني عن عطاء عن ابن عمر ، رضي الله
عنه ، مرفوعا بلفظ : "لا تجزئ في المكتوبة إلا بفاتحة الكتاب وثلاث آيات
فصاعدا". والمدائني منكر الحديث كما قال ابن عدي.
(1/80)
للترجمة
التي ذكرها البخاري فيه نظر ، والله أعلم (1).
والحديث الثاني أظهر في المناسبة وهو قوله : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو
عَوَانة ، عن مغيرة ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو قال : أنكحني أبي امرأة ذات
حسب ، فكان يتعاهد كِنّتَه فيسألها عن بعلها فتقول : نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا
فراشا ، ولم يفتش لنا كنفا منذ أتيناه ، فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي صلى الله
عليه وسلم ، فقال : " "ألقنى به" ، فلقيته بعد ، فقال : "كيف
تصوم ؟". قلت : كل يوم. قال : "وكيف تختم ؟ ". قلت : كل ليلة. قال
: "صم كل شهر ثلاثة ، واقرأ القرآن في كل شهر" : قال : قلت : إني أطيق أكثر
من ذلك. قال : "صم ثلاثة أيام في الجمعة". قلت : أطيق أكثر من ذلك. قال
: "أفطر يومين وصوم يوما". قلت : أطيق أكثر من ذلك. قال : "صم أفضل
الصوم صوم داود ، صيام يوم وإفطار يوم ، واقرأ في كل سبع ليال مرةً" ، فليتني
قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم! وذلك أني كبرت وضعفت ، فكان يقرأ على بعض
أهله السبع من القرآن بالنهار والذي يقرأ يعرضه بالنهار ليكون أخف عليه بالليل ،
وإذا أراد أن يتقوى أفطر أياما وأحصى وصام مثلهن ، كراهية أن يترك شيئا فارق عليه
النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم : في ثلاث وفي خمس وأكثرهم على سبع "
(2).
وقد رواه في الصوم ، والنسائي - أيضا - عن بُنْدَار عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن
مغيرة ، والنسائي من حديث حصين ، كلاهما عن مجاهد به (3).
ثم روى البخاري ومسلم وأبو داود من حديث يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن عبد الرحمن
- مولى بني زهرة (4) - عن أبي سلمة : قال : وأحسبني قال : سمعت أنا من أبي سلمة ،
عن عبد الله بن عمرو قال : " قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : "اقرأ
القرآن في شهر". قلت : إني أجد قوة. قال : "فاقرأه في سبع ولا تزد على
ذلك" " (5). فهذا السياق ظاهره يقتضي المنع من قراءة القرآن في أقل من سبع
، وهكذا الحديث الذي رواه أبو عبيد :
حدثنا حجاج وعمر بن طارق ويحيى بن بكير ، كلهم عن ابن لَهِيعة ، عن حبان بن واسع ،
عن أبيه ، عن قيس بن أبي صعصعة ؛ أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : " يا
رسول الله ، في كم أقرأ القرآن ؟ فقال : "في كل خمس عشرة". قال : إني
أجد في أقوى من ذلك ، قال : "ففي كل جمعة" (6).
وحدثنا حجاج عن شعبة ، عن محمد بن ذكوان - رجل من أهل الكوفة - قال : سمعت عبد
الرحمن بن عبد الله بن مسعود يقول : كان عبد الله بن مسعود يقرأ القرآن في غير
رمضان من
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (9/ 95) : "وقد خفيت مناسبة حديث أبي مسعود
بالترجمة على ابن كثير ، والذي يظهر أنها من جهة أن الآية المترجم بها تناسب ما
استدل به ابن عيينة من حديث أبي مسعود ، والجامع بينهما أن كلا من الآية والحديث
يدل على الاكتفاء بخلاف ما قال ابن شبرمة".
(2) صحيح البخاري برقم (5052).
(3) صحيح البخاري برقم (1978) وسنن النسائي (4/ 209 ، 210).
(4) في ط : "أبي هريرة".
(5) صحيح البخاري برقم (5053) وصحيح مسلم برقم (1159) : وسنن أبي داود برقم (1388)
لكنه عند أبي داود من طريق أبان العطار عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن إبراهيم عن
أبي سلمة ، والله أعلم.
(6) فضائل القرآن (ص 87).
(1/81)
الجمعة
إلى الجمعة (1).
وعن حجاج ، عن شعبة ، عن أيوب : سمعت أبا قِلابة ، عن أبي المهلب قال : كان أبيّ
بن كعب يختم القرآن في كل ثمان.
وحدثنا علي بن عاصم ، عن خالد ، عن أبي قلابة قال : كان أبيّ بن كعب يختم القرآن
في كل ثمان.
وكان تميم الداري يختمه في كل سبع ، وحدثنا هُشَيْم ، عن الأعمش ، عن إبراهيم :
أنه كان يختم القرآن في كل سبع (2).
وحدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم قال : كان الأسود يختم القرآن في كل ست ،
وكان علقمة يختمه في كل خمس (3).
فلو تركنا ومجرد هذا لكان الأمر في ذلك جليا ، ولكن دلت أحاديث أخرجوها (4) على
جواز قراءته فيما دون ذلك ، كما رواه الإمام أحمد في مسنده : حدثنا حسن ، حدثنا
ابن لَهِيعة ، حدثنا حبان ابن واسع ، عن أبيه ، عن سعد بن المنذر الأنصاري ؛ أنه
قال : يا رسول الله ، أقرأ القرآن في ثلاث ؟ قال : "نعم". قال : فكان
يقرؤه حتى توفي (5).
وهذا إسناد جيد قوي حسن ، فإن حسن بن موسى الأشيب ثقة متفق على جلالته روى له
الجماعة وابن لَهِيعة ، إنما يخشى من تدليسه وسوء حفظه ، وقد صرح هاهنا بالسماع ،
وهو من الأئمة العلماء بالديار المصرية في زمانه ، وشيخه حبان بن واسع بن حبان
وأبوه ، كلاهما من رجال مسلم ، والصحابي لم يخرج له أحد من أهل الكتب الستة ، وهذا
على شرط كثير منهم ، والله أعلم.
وقد رواه أبو عبيد ، رحمه الله ، عن ابن كثير (6) عن ابن لَهِيعة ، عن حبان بن
واسع ، عن أبيه ، عن سعد بن المنذر الأنصاري أنه قال : " يا رسول الله ، أقرأ
القرآن في ثلاث ؟ قال : "نعم ، إن استطعت" ". قال : فكان يقرؤه
كذلك حتى توفي (7).
حديث آخر : قال أبو عبيد : حدثنا يزيد ، عن همام ، عن قتادة ، عن يزيد بن عبد الله
بن الشخير ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث ".
وهكذا أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة من حديث قتادة به (8). وقال الترمذي : حسن
صحيح.
حديث آخر : قال أبو عبيد : حدثنا يوسف بن الغرق ، عن الطيب بن سليمان ، حدثتنا
عمرة بنت
__________
(1) فضائل القرآن (ص 87).
(2) فضائل القرآن (ص 88).
(3) فضائل القرآن (ص 88).
(4) في ط : "أخر".
(5) لم أقع عليه في المطبوع من المسند ، وقد ذكره الحافظ ابن حجر في أطراف المسند
(2/ 465).
(6) في طـ : "بكير".
(7) فضائل القرآن (ص 88).
(8) فضائل القرآن (ص 89) والمسند (2/ 165 ، 189) وسنن أبي داود برقم (1394) وسنن
الترمذي برقم (2949) وسنن النسائي الكبرى برقم (8067) وسنن ابن ماجة برقم (1347).
(1/82)
عبد
الرحمن : أنها سمعت عائشة تقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختم القرآن
في أقل من ثلاث (1).
هذا حديث غريب وفيه ضعف ، فإن الطيب بن سليمان هذا بصري ، ضعفه الدارقطني ، وليس
هو بذاك المشهور ، والله أعلم.
وقد كره غير واحد من السلف قراءة القرآن في أقل من ثلاث ، كما هو مذهب أبي عبيد
وإسحاق وابن راهويه وغيرهما من الخلف - أيضا - قال أبو عبيد : حدثنا يزيد ، عن
هشام بن حسان ، عن حفصة ، عن أبي العالية ، عن معاذ بن جبل أنه كان يكره أن يقرأ
القرآن في أقل من ثلاث (2). صحيح.
وحدثنا يزيد ، عن سفيان ، عن علي بن بَذِيمة ، عن أبي عبيدة قال : [قال] (3) عبد
الله : من قرأ القرآن في أقل من ثلاث فهو راجز. وحدثنا حجاج ، عن شعبة ، عن علي بن
بذيمة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله مثله سواء (4).
وحدثنا حجاج ، عن شعبة ، عن محمد بن ذَكْوَان ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن
مسعود ، عن أبيه ؛ أنه كان يقرأ القرآن في رمضان في ثلاث (5). إسناده صحيح.
وفي المسند عن عبد الرحمن بن شبل مرفوعا : "اقرؤوا القرآن ، ولا تغلوا فيه ،
ولا تجفوا عنه ، ولا تأكلوا به ، ولا تستكثروا به" (6).
فقوله : "لا تغلوا فيه" أي : لا تبالغوا في تلاوته بسرعة في أقصر مدة ،
فإن ذلك ينافي التدبر غالبا ؛ ولهذا قابله بقوله : "ولا تجفوا عنه" أي :
لا تتركوا تلاوته.
__________
(1) فضائل القرآن (ص 88 ، 89).
(2) فضائل القرآن (ص 89).
(3) زيادة من ط.
(4) فضائل القرآن (ص 89).
(5) فضائل القرآن (ص 90).
(6) المسند (3/ 428) من طريق زيد بن سلام عن جده عن أبي راشد عن عبد الرحمن بن شبل
به مرفوعا ، وقال الحافظ ابن حجر : "سنده قوي".
(1/83)
فصل
وقد ترخص جماعة (1) من السلف في تلاوة القرآن في أقل من ذلك ؛ منهم أمير المؤمنين
عثمان بن عفان ، رضي الله عنه.
قال أبو عبيد : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، أخبرني ابن خَصيفة ، عن السائب بن يزيد
: أن رجلا سأل عبد الرحمن بن عثمان التيمي عن صلاة طلحة بن عبيد (2) فقال : إن شئت
أخبرتك عن صلاة عثمان ، رضي الله عنه ، فقال : نعم. قال : قلت : لأعلين الليلة على
الحجر ، فقمت ، فلما قمت إذا أنا برجل مقنع يزحمني ، فنظرت فإذا عثمان بن عفان ،
فتأخرت عنه ، فصلى فإذا هو يسجد سجود القرآن ، حتى إذا قلت : هذه هوادي الفجر ،
أوتر بركعة لم يصل غيرها (3). وهذا إسناد
__________
(1) في ط : "جماعات".
(2) في ط : "عبيد الله".
(3) فضائل القرآن (ص 90).
(1/83)
صحيح.
قال (1) وحدثنا هُشَيْم ، عن منصور ، عن ابن سيرين قال : قالت نائلة بنت الفرافصة
الكلبية حيث دخلوا على عثمان ليقتلوه : إن يقتلوه أو يدعوه ، فقد كان يحيى الليل
كله بركعة يجمع فيها القرآن. وهذا حسن أيضا (2).
وقال - أيضا - : حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم بن سليمان ، عن ابن سيرين : إن تميما
الداري قرأ القرآن في ركعة (3).
حدثنا حجاج بن شعبة ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير : أنه قال : قرأت القرآن في ركعة
في البيت - يعني الكعبة (4).
وحدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة أنه قرأ القرآن في ليلة ، طاف
بالبيت أسبوعا ، ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بالطول ، ثم طاف بالبيت أسبوعا ، ثم
أتى المقام فصلى عنده فقرأ بالمئين ، ثم طاف أسبوعا ، ثم أتى المقام فصلى عنده
فقرأ بالمثانى ، ثم طاف بالبيت أسبوعا ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بقية القرآن
(5).
وهذه كلها أسانيد صحيحة ، ومن أغرب ما هاهنا : ما رواه أبو عبيد : حدثنا سعيد بن
عُفَيْر ، عن بكر بن مضر ، أن سليم بن عتر التجيبي كان يختم القرآن في ليلة ثلاث
مرات ، ويجامع ثلاث مرات. قال : فلما مات قالت امرأته : رحمك الله ، إن كنت لترضى
ربك وترضى أهلك ، قالوا : وكيف ذلك ؟ قالت : كان يقوم من الليل فيختم القرآن ، ثم
يلم بأهله ثم يغتسل ، ويعود فيقرأ حتى يختم ثم يلم بأهله ، ثم يغتسل ، ويعود فيقرأ
حتى يختم ، ثم يلم بأهله ثم يغتسل ، ويخرج إلى صلاة الصبح (6).
قلت : كان سليم بن عتر تابعيا جليلا ثقة نبيلا وكان قاضيا بمصر أيام معاوية
وقاصّها ، ثم قال أبو حاتم : روى عن أبي الدرداء ، وعنه ابن زحر ، ثم قال : حدثني
محمد بن عوف ، عن أبي صالح كاتب الليث ، حدثني حرملة بن عمران ، عن كعب بن علقمة
قال : كان سليم بن عتر من خير التابعين (7).
وذكره ابن يونس في تاريخ مصر.
وقد روى ابن أبي داود عن مجاهد أنه كان يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء.
وعن منصور قال : كان علي الأزدي يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء كل ليلة من
رمضان.
وعن إبراهيم بن سعد قال : كان أبي يحتبي فما يحل حبوته حتى يختم القرآن.
قلت : وروي عن منصور بن زاذان : أنه كان يختم فيما بين الظهر والعصر ، ويختم أخرى
فيما
__________
(1) في ط : "ثم قال".
(2) فضائل القرآن (ص 91).
(3) فضائل القرآن (ص 91).
(4) فضائل القرآن (ص 91).
(5) فضائل القرآن (ص 91).
(6) فضائل القرآن (ص 91).
(7) الجرح والتعديل (4/ 211 ، 212).
(1/84)
بين
المغرب والعشاء ، وكانوا يؤخرونها قليلا.
وعن الإمام الشافعي ، رحمه الله : أنه كان يختم في اليوم والليلة من شهر رمضان
ختمتين ، وفي غيره ختمة.
وعن أبي عبد الله البخاري - صاحب الصحيح - : أنه كان يختم في الليلة ويومها من
رمضان ختمة.
ومن غريب هذا وبديعه ما ذكره الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي قال : سمعت الشيخ
أبا عثمان المغربي يقول : كان ابن الكاتب يختم بالنهار أربع ختمات ، وبالليل أربع
ختمات.
وهذا نادر جدا. فهذا وأمثالة من الصحيح عن السلف محمول إما على أنه ما بلغهم في
ذلك حديث مما تقدم ، أو أنهم كانوا يفهمون ويتفكرون فيما يقرؤونه مع هذه السرعة ،
والله أعلم.
قال الشيخ أبو زكريا النووي في كتابه التبيان بعد ذكر طرف مما تقدم : (والاختيار
أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص ، فمن كان له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على
قدر يحصل له كمال فهم ما يقرؤه ، وكذا من كان مشغولا بنشر العلم أو غيره من مهمات
الدين ومصالح المسلمين العامة فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له
، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل
والهَذْرَمة) (1).
ثم قال البخاري ، رحمه الله :
__________
(1) التبيان (ص 76).
(1/85)
البكاء
عند القراءة
وأورد فيه من رواية الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبيدة ، عن عبد الله - هو ابن مسعود
- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اقرأ عليّ". قلت : أقرأ
عليك وعليك أنزل ؟ قال : "إني أشتهي أن أسمعه من غيري". قال : فقرأت
النساء ، حتى إذا بلغت : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ
وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } [النساء : 41] ، قال لي : "كفّ أو
أمسك" ، فرأيت عيناه تذرفان " (1).
وهذا من المتفق عليه كما تقدم ، وكما سيأتي إن شاء الله. من راءى بقراءة القرآن
أو تَأكَّل به أو فجر به
حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا سفيان ، حدثنا الأعمش ، عن خَيْثَمة ، عن سُوَيد بن
غفلة ، قال (2) علي ، رضي الله عنه : " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
"يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان ، سفهاء الأحلام ، يقولون من خير قول
البرية ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّميَّة ، لا يجاوز إيمانهم
حناجرهم ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة"
(3).
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5055).
(2) في ط : "عن".
(3) صحيح البخاري برقم (5057).
(1/85)
وقد
روى في موضعين آخرين ، ومسلم وأبو داود والنسائي ، من طرق عن الأعمش به (1) حدثنا
عبد الله بن يوسف ، حدثنا مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث
التيمي ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول : " يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم ،
وصيامكم مع صيامهم ، وعملكم مع عملهم ، ويقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون
من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، ينظر في النصل (2) فلا يرى شيئًا ، وينظر في
القدح فلا يرى شيئا ، وينظر في الريش فلا يرى شيئا ، ويتمارى في الفوق " (3).
ورواه في موضع آخر ، ومسلم - أيضا - والنسائي من طرق عن الزهري ، عن أبي سلمة به
(4).
حدثنا مُسَدَّد بن مسرهد ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن أنس بن
مالك ، عن أبي موسى ، رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "
مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب ، والمؤمن
الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالتمرة طعمها طيب ولا ريح لها ، ومثل المنافق الذي
يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيب وطعمها مر ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن
كالحنظلة طعمها مر أو خبيث وريحها مرّ " (5).
ورواه في موضع آخر مع بقية الجماعة من طرق ، عن قتادة به (6).
ومضمون هذه الأحاديث التحذير من المراءاة بتلاوة القرآن التي هي من أعظم القرب ،
كما جاء في الحديث : " واعلم أنك لن تتقرب إلى الله بأعظم مما خرج منه "
(7) يعني : القرآن.
والمذكورون في حديث علي وأبي سعيد هم الخوارج ، وهم الذين لا يجاوز إيمانهم
حناجرهم ، وقد قال في الرواية الأخرى : " يحقر أحدكم قراءته مع قراءتهم ،
وصلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ". ومع هذا أمر بقتلهم لأنهم مراؤون في
أعمالهم في نفس الأمر ، وإن كان بعضهم قد لا يقصد ذلك ، إلا أنهم أسسوا أعمالهم
على اعتقاد غير صالح ، فكانوا في ذلك كالمذمومين في قوله : { أَفَمَنْ أَسَّسَ
بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ
بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ
وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [التوبة : 109] ، وقد اختلف
العلماء في تكفير الخوارج وتفسيقهم ورد روايتهم ، كما سيأتي [تفصيله] (8) في موضعه
إن شاء الله.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (3611 ، 6930) وصحيح مسلم برقم (1066) وسنن أبي داود برقم
(4767) وسنن النسائي (7/ 119).
(2) في ط : "السهم".
(3) صحيح البخاري برقم (5058).
(4) صحيح البخاري برقم (3610 ، 6933) وصحيح مسلم برقم (1064) وسنن النسائي الكبرى
برقم (8560).
(5) صحيح البخاري برقم (5059).
(6) صحيح البخاري برقم (5427 ، 7560) وصحيح مسلم برقم (797) وسنن أبي داو د برقم
(4830) وسنن الترمذي برقم (2865) وسنن النسائي (8/ 124) وسنن ابن ماجة برقم (214).
(7) رواه أحمد في المسند (5/ 268) والترمذي في السنن برقم (2911) من طريق ليث بن
أبي سليم عن زيد بن أرطأة عن أبي أمامة به مرفوعا ، وقال الترمذي : "هذا حديث
غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
(8) زيادة من ط.
(1/86)
والمنافق
المشبه بالريحانة التي لها الريح ظاهر وطعمها مر هو المرائي بتلاوته ، كما قال
تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا
قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ
اللَّهَ إِلا قَلِيلا } [النساء : 142].
ثم قال البخاري : اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم
حدثنا أبو النعمان محمد بن الفضل عارم ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أبي عمران الجوني
، عن جندب بن عبد الله ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "
اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم ، فإذا اختلفتم فقوموا [عنه] (1) " (2).
حدثنا عمرو بن علي بن بحر الفلاس ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سلام بن أبي
مطيع ، عن أبي عمران الجوني ، عن جُنْدُب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: " اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم ، فإذا اختلفتم فقوموا [عنه] (3)
" (4).
تابعه الحارث بن عُبَيْد وسعيد بن زيد ، عن أبي عمران ، ولم يرفعه حماد بن سلمة
وأبان.
وقال غُنْدَر : عن شعبة ، عن أبي عمران قال : سمعت جُنْدُبا. قوله : وقال ابن عون
، عن أبي عمران ، عن عبد الله بن الصامت ، عن عمر قوله. وجندب أصح وأكثر (5) (6).
وقد رواه في موضع آخر ، ومسلم كلاهما عن إسحاق بن منصور ، عن عبد الصمد ، عن همام
، عن أبي عمران به (7) ومسلم - أيضا - عن يحيى بن يحيى ، عن الحارث بن عبيد أبي
قدامة ، عن أبي عمران به ، ورواه مسلم - أيضا - عن أحمد بن سعيد ، عن حبان بن هلال
، عن أبان العطار ، عن أبي عمران به مرفوعا (8).
وقد حكى البخاري : أن أبان وحماد بن سلمة لم يرفعاه ، فالله أعلم.
ورواه النسائي والطبراني من حديث مسلم بن إبراهيم ، عن هارون بن موسى الأعور
النحوي ، عن أبي عمران به.
__________
(1) زيادة من ط والبخاري.
(2) صحيح البخاري برقم (5060).
(3) زيادة من البخاري.
(4) صحيح البخاري برقم (5061).
(5) في النسخ : "أكثر وأصح" والتصويب من البخاري.
(6) قال الحافظ ابن حجر : "أي أصح سندًا وأكثر طرقًا وهو كما قال ، فإن الجم
الغفير رواه عن أبي عمران عن جندب إلا أنهم اختلفوا عليه في رفعه ووقفه ، والذين
رفعوه ثقات حفاظ فالحكم لهم ، وأما رواية ابن عون فشاذة لم يتابع عليها".
(7) صحيح البخاري برقم (7365) وصحيح مسلم برقم (2667).
(8) صحيح مسلم برقم (2667).
(1/87)
ورواه
النسائي - أيضا - من طرق عن سفيان ، عن حجاج بن فرافصة ، عن أبي عمران به مرفوعا
(1) وفي رواية عن هارون بن زيد بن أبي الزرقاء ، عن أبيه ، عن سفيان عن حجاج ، عن
أبي عمران ، عن جُنْدُب موقوفا ، ورواه محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ، عن إسحاق
الأزرق ، عن عبد الله بن عون ، عن أبي عمران ، عن عبد الله بن الصامت ، عن عمر
قوله.
قال أبو بكر بن أبي داود : لم يخطئ ابن عون في حديث قط إلا في هذا ، والصواب عن
جندب. [ورواه الطبراني عن علي بن عبد العزيز عن مسلم بن إبراهيم وسعيد بن منصور
قالا حدثنا الحارث بن عبيد ، عن أبي عمران ، عن جندب مرفوعا] (2) (3).
فهذا مما تيسر من ذكر طرق هذا الحديث على سبيل الاختصار ، والصحيح منها ما أرشد
إليه شيخ هذه الصناعة (4) أبو عبد الله البخاري ، رحمه الله ، من أن الأكثر والأصح
: أنه عن جندب بن عبد الله مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعنى الحديث أنه ، عليه السلام ، أرشد وحض أمته على تلاوة القرآن إذا كانت القلوب
مجتمعة على تلاوته ، متفكرة فيه ، متدبرة له ، لا في حال شغلها وملالها ، فإنه لا
يحصل المقصود من التلاوة بذلك كما ثبت في الحديث أنه قال عليه الصلاة والسلام : "
اكلفوا من العمل ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا (5) وقال : " أحب
الأعمال إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل " ، وفي اللفظ الآخر : "
أحب الأعمال إلى الله أدومها [وإن قل] (6) " (7).
ثم قال البخاري : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا شعبة ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن
النزال ابن سبرة ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - " أنه سمع رجلا يقرأ آية سمع
النبي صلى الله عليه وسلم خلافها ، فأخذت بيده فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فقال : "كلاكما محسن فاقرآ" أكبر علمي قال : "فإن من كان
قبلكم اختلفوا فأهلكهم الله عز وجل" ".
وأخرجه النسائي من رواية شعبة به (8) وهذا في معنى الحديث الذي تقدمه ، وأنه ينهى
عن الاختلاف في القراءة والمنازعة في ذلك والمراء فيه كما تقدم النهي عن ذلك ،
والله أعلم.
وقريب من هذا ما رواه عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه : حدثنا أبو محمد سعيد
بن محمد الجرمي ، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي ، عن الأعمش ، عن عاصم ، عن زر بن
حبيش قال : قال عبد الله بن مسعود : تمارينا في سورة من القرآن فقلنا : خمس
وثلاثون آية ، ست وثلاثون آية قال : فانطلقنا
__________
(1) سنن النسائي الكبرى برقم (8096).
(2) زيادة من ط.
(3) المعجم الكبير (2/ 163).
(4) في ط : "البضاعة".
(5) رواه البخاري في صحيحه برقم (43) ومسلم في صحيحه برقم (785) من حديث عائشة رضي
الله عنها.
(6) زيادة من ط ، م.
(7) رواه مسلم في صحيحه برقم (782) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(8) صحيح البخاري برقم (5062) وسنن النسائي الكبرى برقم (8095).
(1/88)
إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدنا عليا بناصية فقلنا له : اختلفنا في القراءة ،
فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال علي : إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم يأمركم أن تقرؤوا كما قد علمتم (1).
وهذا آخر ما أورده البخاري ، رحمه الله ، في كتاب (2) فضائل القرآن ، جل منزله ،
وتعالى قائله ، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) زوائد المسند (1/ 105 ، 106).
(2) في ط : "كتابه".
(1/89)
كتاب
الجامع
لأحاديث شتى تتعلق بتلاوة القرآن
وفضائله وفضل أهله
فصل
قال أحمد : حدثنا معاوية بن هشام ، حدثنا شيبان ، عن فراس ، عن عطية ، عن أبي سعيد
قال : قال نبي الله عليه الصلاة والسلام (1) " يقال لصاحب القرآن إذا دخل
الجنة : اقرأ واصعد ، فيقرأ ويصعد بكل آية درجة ، حتى يقرأ آخر شيء معه "
(2).
وقال أحمد : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا حَيْوَة ، حدثنا بشير بن أبي عمرو
الخولاني ؛ أن الوليد بن قيس التجيبي حدثه أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول : سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يكون خلف من بعد الستين سنة ، أضاعوا
الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ، ثم يكون خلف يقرؤون القرآن لا يعدو تراقيهم
، ويقرأ القرآن ثلاثة : مؤمن ومنافق وفاجر ".
قال بشير : فقلت للوليد : ما هؤلاء الثلاثة ؟ قال : المنافق كافر به ، والفاجر
يَتَأكَّل به ، والمؤمن يؤمن به (3).
وقال أحمد : حدثنا حجاج ، حدثنا الليث ، حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ،
عن أبي الخطاب ، عن أبي سعيد أنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك
خطب الناس وهو مسند ظهره إلى نخلة فقال : " ألا أخبركم بخير الناس وشر الناس
؛ إن من خير الناس رجلا عمل في سبيل الله على ظهر فرسه أو على ظهر بعيره أو على
قدميه حتى يأتيه الموت ، وإن من شر الناس رجلا فاجرا جريئا يقرأ كتاب الله ، لا
يرعوي إلى شيء منه " (4).
قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عمر بن هياج الكوفي ، حدثنا الحسين بن
عبد الأول ، حدثنا محمد بن الحسن الهمداني ، عن عمرو بن قيس ، عن عطية ، عن أبي
سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله تعالى : من شغله
قراءة القرآن عن دعائي أعطيته أفضل ثواب السائلين ".
__________
(1) في طـ : "صلى الله عليه وسلم".
(2) المسند (3/ 40).
(3) المسند (3/ 38).
(4) المسند (3/ 37 ، 58).
(1/89)
وقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل
الله على خلقه " ، ثم قال : تفرد به محمد بن الحسن ولم يتابع عليه (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عبيدة الحداد ، حدثني عبد الرحمن بن بُدَيْل بن
ميسرة ، حدثني أبي ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إن لله أهْلِين من الناس". قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال :
"أهْل القرآن هم أهل الله وخاصته" " (2).
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن علي بن شعيب السمسار ، حدثنا خالد بن
خِدَاش ، حدثنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه : كان
إذا ختم القرآن جمع أهله وولده فدعا لهم (3).
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا محمد
بن عباد المكي ، حدثنا حاتم بن إسماعيل عن شريك ، عن الأعمش ، عن يزيد بن أبان ،
عن الحسن ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " القرآن غنى لا
فقر بعده ولا غنى دونه " (4).
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا عبد
الله بن المحرر ، عن قتادة ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" لكل شيء حلية ، وحلية القرآن الصوت الحسن " (5). ابن المحرر ضعيف.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا بكر بن سوادة ، عن وفاء
الخولاني ، عن أنس بن مالك قال : بينما نحن نقرأ فينا العربي والعجمي والأسود
والأبيض ، إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أنتم في خير
تقرؤون كتاب الله وفيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسيأتي على الناس زمان
يثقفونه كما يثقف القدح ، يتعجلون أجورهم ولا يتأجلونها " (6).
وقد رواه الإمام أحمد - أيضا - عن حسن ، عن ابن لَهِيعة ، عن بكر ، عن وفاء ، عن
سهل بن سعد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره (7).
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا عبد الله بن الجهم ،
حدثنا عمرو بن أبي قيس ، عن عبد ربه بن عبد الله ، عن عمر بن نبهان ، عن الحسن ،
عن أنس ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن البيت الذي يقرأ فيه القرآن
يكثر خيره ، والبيت الذي لا يقرأ فيه القرآن يقل خيره " (8).
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا الفضل بن الصباح ، حدثنا أبو عبيدة ، عن محتسب ،
حدثني يزيد
__________
(1) ورواه الترمذي في السنن برقم (2926) من طريق محمد بن الحسن الهمداني به ، وقال
الترمذي : "هذا حديث حسن غريب".
(2) المسند (3/ 128).
(3) المعجم الكبير (1/ 242) وقال الهيثمي في المجمع (7/ 172) : "رجاله
ثقات".
(4) المعجم الكبير (1/ 255) وقال الهيثمي في المجمع (7/ 158) : "رواه أبو
يعلى وفيه يزيد بن أبان الرقاشي وهو ضعيف".
(5) مسند البزار برقم (2330) "كشف الأستار".
(6) المسند (3/ 146).
(7) المسند (5/ 338).
(8) مسند البزار برقم (2321) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/
171) : "فيه عمر بن نبهان ضعيف".
(1/90)
الرقاشي
، عن أنس قال : قعد أبو موسى في بيت واجتمع إليه ناس ، فأنشأ يقرأ عليهم القرآن ،
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أفتستطيع أن تقعدني حيث لا
يراني منهم أحد ؟". قال : نعم. قال : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأقعده الرجل حيث لا يراه منهم أحد ، فسمع قراءة أبي موسى فقال : " إنه ليقرأ
على مزمار من مزامير داود ، عليه السلام " (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا مصعب بن سلام ، حدثنا جعفر - هو ابن محمد بن علي بن
الحسين - عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله قال : " خطبنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ، ثم قال : "أما بعد ، فإن
أصدق الحديث كتاب الله ، وإن أفضل الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة
ضلالة" ثم يرفع صوته وتحمر وجنتاه ، ويشتد غضبه إذا ذكر الساعة ، كأنه منذر
جيش. قال : ثم يقول : "أتتكم الساعة هكذا - وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى -
صبحتكم الساعة ومستكم ، من ترك مالا فلأهله ، ومن ترك دَيْنًا أو ضياعًا فإليّ
وعليّ " (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الوهاب - يعني ابن عطاء - أنبأنا أسامة بن زيد
الليثي ، عن محمد بن المنْكَدِر ، عن جابر بن عبد الله قال : " دخل رسول الله
صلى الله عليه وسلم المسجد ، فإذا قوم يقرؤون القرآن فقال : "اقرؤوا القرآن
وابتغوا به وجه الله - عز وجل - من قبل أن يأتي بقوم يقيمونه إقامة القدح ،
يتعجلونه ولا يتأجلونه" (3).
قال أحمد - أيضا - : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا خالد ، حدثنا حميد الأعرج ، عن
محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله قال : " خرج علينا رسول الله صلى الله
عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن ، وفينا العجمي والأعرابي قال : فاستمع فقال :
"اقرؤوا فكل حسن ، وسيأتي قوم يقيمونه كما يقام القدح ، يتعجلونه ولا
يتأجلونه" (4).
وقال أبو بكر البزار : حدثنا أبو كُرَيْب محمد بن العلاء ، حدثنا عبد الله بن
الأجلح ، عن الأعمش ، عن المعلى الكندي ، عن عبد الله بن مسعود قال : " إن
هذا القرآن شافع مشفع ، من اتبعه قاده إلى الجنة ، ومن تركه أو أعرض عنه - أو كلمة
نحوها - زج في قفاه إلى النار " (5). وحدثنا أبو كريب ، حدثنا عبد الله بن
الأجلح ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه
(6).
قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أحمد بن عبد العزيز بن مروان أبو صخر ، حدثني بكر بن
يونس ، عن موسى بن علي ، عن أبيه ، عن يحيى بن أبي كثير اليمامي ، عن جابر بن عبد
الله ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ ألف آية كتب الله له
قنطارا ، والقنطار مائة رطل ، والرطل اثنتا عشرة أوقية ،
__________
(1) مسند أبي يعلى (7/ 133 - 135) وفيه يزيد الرقاشي ضعيف.
(2) المسند (3/ 310).
(3) المسند (3/ 357)
(4) المسند (3/ 397).
(5) مسند البزار برقم (121) "كشف الأستار".
(6) مسند البزار برقم (122) "كشف الأستار".
(1/91)
والوقية
ستة دنانير ، والدينار أربعة وعشرون قيراطا ، والقيراط مثل أحُد ، ومن قرأ
ثلاثمائة آية قال الله لملائكته : نصب عبدي لي ، أشهدكم يا ملائكتي أنِّي قد غفرت
له ، ومن بلغه عن الله فضيلة فعمل بها إيمانا به ورجاء ثوابه ، أعطاه الله ذلك وإن
لم يكن ذلك كذلك " (1).
وقال أحمد : حدثنا جرير ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت
الخرب " (2).
قال البزار : لا نعلمه يروى عن ابن عباس إلا من هذا الوجه.
وقال الطبراني : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثني أبي قال : وجدت في كتاب
أبي بخطه عن عمران بن أبي عمران ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : " من اتبع كتاب الله هداه الله من الضلالة ، ووقاه
سوء الحساب يوم القيامة ، وذلك أن الله عز وجل يقول : { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ
فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } [طه : 123] " (3).
وقال الطبراني : حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح ، حدثنا أبي ، حدثنا ابن لَهِيعة ،
عن عمرو بن دينار ، عن طاووس ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
: " إن أحسن الناس قراءة من قرأ القرآن يتحزن به " (4).
وقال - أيضا - : حدثنا أبو يزيد القراطيسي ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا عبدة بن
سليمان ، عن سعيد أبي سعد البقال ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : " أحسنوا الأصوات بالقرآن " (5).
وروى - أيضا - بسنده إلى الضحاك عن ابن عباس مرفوعا : " أشرف أمتي حملة
القرآن " (6).
وقال الطبراني : حدثنا معاذ بن المثنى ، حدثنا إبراهيم بن أبي سويد الذارع (7)
حدثنا صالح المرى ، عن قتادة ، عن زرارة بن أوفى عن ابن عباس قال : " سأل رجل
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أي الأعمال أحب إلى الله ؟ فقال :
"الحال المرتحل". قال : يا رسول الله ، ما الحال المرتحل ؟ قال :
"صاحب القرآن يضرب في أوله حتى يبلغ آخره ، وفي آخره حتى يبلغ أوله"
" (8).
__________
(1) معجم الشيوخ لأبي يعلى (74) وإسناده ضعيف لعلتين : العلة الأولى : ضعف بكر بن
يونس ، والعلة الثانية : الانقطاع بين يحيى ابن أبي كثير وجابر.
(2) المسند (1/ 223).
(3) المعجم الكبير (12/ 48) وقال الهيثمي في المجمع (1/ 169) : "فيه أبو شيبة
وهو ضعيف جدآ".
(4) المعجم الكبير (11/ 7).
(5) المعجم الكبير (12/ 18) وأبو سعد البقال ضعيف ، والضحاك لم يسمع من ابن عباس.
(6) المعجم الكبير (12/ 125) من طريق سعد الجرجاني عن نهشل - وكلاهما ضعيف - عن
الضحاك به.
(7) فى ط : "الزرع".
(8) المعجم الكبير (12/ 168) ورواه الحاكم في المستدرك (1/ 568) من طريق صالح
المري به ، وقال : "تفرد به صالح المري ، وهو من زهاد أهل البصرة".
وتعقبه الذهبي فقال : "صالح متروك".
(1/92)
ذكر
الدعاء المأثور
لحفظ القرآن وطرد النسيان
قال [الحافظ] (1) أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير : حدثنا الحسين بن إسحاق
التستري ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا محمد بن إبراهيم القرشي ، حدثنى أبو صالح
وعكرمة ، عن ابن عباس قال : " قال علي بن أبي طالب : يا رسول الله ، القرآن
يتفلت من صدري ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أعلِّمك كلمات ينفعك الله
بهن وينفع من علمته". قال : قال : نعم بأبي وأمي ، قال : "صلِّ ليلة
الجمعة أربع ركعات تقرأ في الأولى بفاتحة الكتاب ويس ، وفي الثانية بفاتحة الكتاب
وحم الدخان ، وفي الثالثة بفاتحة الكتاب والم تنزيل السجدة ، وفي الرابعة بفاتحة
الكتاب وتبارك المفصل ، فإذا فرغت من التشهد فاحمد الله واثن عليه ، وصل على
النبيين ، واستغفر للمؤمنين ، ثم قل : اللهم ارحمني بترك المعاصي أبدا ما أبقيتني
، وارحمني من أن أتكلف ما لا يعنيني ، وارزقني حسن النظر فيما يرضيك عني ، اللهم
بديع السماوات والأرض ، ذا الجلال والإكرام والعزة التي لا ترام ، أسألك يا الله
يا رحمن بجلالك ونور وجهك أن تلزم قلبي حفظ (2) كتابك كما علمتني ، وارزقني أن
أتلوه على النحو الذي يرضيك عني ، وأسألك أن تنور بالكتاب بصري ، وتطلق به لساني ،
وتفرج به عن قلبي ، وتشرح به صدري ، وتستعمل به بدني ، وتقويني على ذلك وتعينني
على ذلك (3) فإنه لا يعينني على الخير غيرك ، ولا يوفق له إلا أنت ، فافعل ذلك
ثلاث جمع أو خمسا أو سبعا تحفظه بإذن الله وما أخطأ مؤمنا قط". فأتى النبي صلى
الله عليه وسلم بعد ذلك بسبع فأخبره بحفظ القرآن والحديث ، فقال النبي صلى الله
عليه وسلم : "مؤمن ورب الكعبة" ، علم أبو الحسن (4) علم أبو الحسن (5)
" هذا سياق الطبراني (6).
وقال أبو عيسى الترمذي في كتاب الدعوات : حدثنا أحمد بن الحسن ، حدثنا سليمان بن
عبد الرحمن الدمشقي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا ابن جريج ، عن عطاء بن أبي
رباح وعكرمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس أنه قال : " بينما نحن عند رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه علي بن أبي طالب فقال : بأبي أنت وأمي ، تفلت هذا
القرآن من صدري فما أجدني أقدر عليه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"يا أبا الحسن ، أفلا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن ، وينفع بهن من علمته ،
ويثبت ما تعلمت في صدرك ؟" قال : أجل يا رسول الله ، فعلمني ، قال :
"إذا كان ليلة الجمعة فإن استطعت أن تقوم في ثلث الليل الآخر فإنها ساعة
مشهودة ، والدعاء فيها مستجاب ، وقد قال أخي يعقوب لبنيه : { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ
لَكُمْ رَبِّي } [يوسف : 98] ، يقول : حتى تأتي ليلة الجمعة ، فإن لم تستطع فقم في
وسطها ، فإن لم تستطع فقم في أولها فصل أربع ركعات ، تقرأ في الركعة الأولى بفاتحة
الكتاب وسورة يس ، وفي الركعة الثانية بفاتحة الكتاب وحم الدخان ، وفي الركعة
الثالثة بفاتحة الكتاب والم تنزيل السجدة ، وفي الركعة
__________
(1) زيادة من ط.
(2) في المعجم الكبير : "حب".
(3) في المعجم الكبير : "عليه".
(4) في المعجم الكبير : "أبا حسن".
(5) في المعجم الكبير : "أبا حسن".
(6) المعجم الكبير (11/ 367) ورواه من طريق ابن الجوزي في الموضوعات (2/ 138) وقال
: "هذا حديث لا يصح ، ومحمد بن إبراهيم مجروح ، وأبو صالح لا نعلمه إلا إسحاق
بن نجيح وهو متروك".
(1/93)
الرابعة
بفاتحة الكتاب وتبارك المفصل ، فإذا فرغت من التشهد ، فاحمد الله وأحسن الثناء على
الله ، وصل عليّ وأحسن وعلى سائر النبيين ، واستغفر للمؤمنين والمؤمنات ، ولإخوانك
الذين سبقوك بالإيمان ، ثم قل في آخر ذلك : اللهم ارحمني بترك المعاصي أبدا ما
أبقيتني ، وارحمني أن أتكلف ما لا يعنيني ، وارزقني حسن النظر فيما يرضيك عني ،
اللهم بديع السماوات والأرض ، ذا الجلال والإكرام والعزة التي لا ترام ، أسألك يا
ألله يا رحمن بجلالك ونور وجهك أن تلزم قلبي حفظ كتابك كما علمتني ، وارزقني أن
أتلوه على النحو الذي يرضيك عني ، اللهم بديع السماوات والأرض ذا الجلال والإكرام
والعزة التي لا ترام ، أسألك يا الله يا رحمن بجلالك ونور وجهك ، أن تنور بكتابك
بصري ، وأن تطلق به لساني ، وأن تفرج به عن قلبي ، وأن تشرح به صدري ، وأن تغسل به
بدني ، فإنه لا يعينني على الحق غيرك ولا يؤتيه إلا أنت ، ولا حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم ، يا أبا الحسن ، تفعل ذلك ثلاث جمع أو خمسا أو سبعا تجاب بإذن
الله تعالى ، والذي بعثني بالحق ما أخطأ مؤمنا قط". قال ابن عباس : فوالله ما
لبث عليٌّ إلا خمسا أو سبعا حتى جاء [عليٌّ] (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم في
مثل ذلك المجلس ، فقال : يا رسول الله ، والله إني كنت فيما خلا لا آخذ إلا أربع
آيات أو نحوهن ، فإذا قرأتُهُن على نفسي تَفَلَّتْنَ وأنا أتعلَّم اليوم أربعين
آية أو نحوها ، فإذا قرأتها على نفسي فكأنما كتاب الله بين عَيْنِي ، ولقد كنت
أسمع الحديث ، فإذا رَدَّدْتُه تَفَلَّت ، وأنا اليوم أسمع الأحاديث ، فإذا تحدثتُ
بها لم أخْرِم منها حرفا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك :
"مؤمن ورب الكعبة يا أبا الحسن".
ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم. كذا قال
، وقد تقدم من غير طريقه. ورواه الحاكم في مستدركه من طريق الوليد ، ثم قال : على
شرط الشيخين حيث صرح الوليد بالسماع من ابن جريج ، فالله أعلم - فإنه في المتن
غرابة بل نكارة (2) والله أعلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل القرآن مثل الإبل المعقلة إن تعاهدها
صاحبها أمسكها ، وإن تركها ذهبت ".
ورواه - أيضا - عن محمد بن عبيد ويحيى بن سعيد ، عن عبيد الله العمري به (3).
ورواه - أيضا - عن عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر
مرفوعًا نحوه (4).
وقال البزار : حدثنا محمد بن معمر ، حدثنا حميد بن حماد بن أبي الحوار ، حدثنا
مِسْعر ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر قال : سئل رسول الله صلى الله عليه
وسلم : أي الناس أحسن قراءة ؟ قال : "من إذا سمعته يقرأ رؤيت أنه يخشى الله ،
عز وجل" (5).
__________
(1) زيادة من الترمذي.
(2) سنن الترمذي برقم (3570) والمستدرك (1/ 316 ، 317) وأعل بثلاث علل : الأولى :
عنعنة ابن جريج. الثانية : تدليس بقية فإنه يدلس تدليس التسوية. الثالثة : سليمان
الدمشقي تكلم فيه من جهة حفظه.
(3) المسند (2/ 23) ، (2/ 17 ، 30).
(4) المسند (2/ 35).
(5) مسند البزار برقم (2336) "كشف الأستار" وفيه حماد بن حميد ضعيف.
(1/94)
وقال
الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله بن
عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقال لصاحب القرآن : اقرأ وارْقَ
ورَتِّل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها " (1).
وقال أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثني حيي بن عبد الله ، عن أبي عبد
الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو قال : جاء رجل إلى النبي (2) صلى الله عليه
وسلم فقال : يا رسول الله ، إني أقرأ القرآن فلا أجد قلبي يعقل عليه ؟ فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : " إن قلبك حُثِيَ الإيمان ، وإن العبد يعطى
الإيمان قبل القرآن " (3).
وبهذا الإسناد : أن رجلا جاء بابن له فقال : يا رسول الله ، إن ابني هذا يقرأ
المصحف بالنهار ويبيت بالليل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما
تنقم أن ابنك يظل ذاكرا ويبيت سالما " (4).
وقال أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن حيي ، عن أبي عبد الرحمن
، عن عبد الله بن عمرو ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الصيام والقرآن
يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام : أي رب ، منعته الطعام والشهوات بالنهار
فشفعني فيه ، ويقول القرآن : منعته النوم بالليل فشفعني فيه " ، قال :
"فيشفعان" (5).
وقال أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا دراج ، عن عبد الرحمن بن جبير
، عن عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "
أكثر منافقي أمتي قراؤها " (6).
وقال أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثني همام ، عن قتادة ، عن يزيد بن عبد الله بن
الشخير ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من
قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقه ".
ورواه - أيضا - عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن قتادة به (7). وقال الترمذي : حسن صحيح.
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن إسحاق بن راهويه ، حدثنا أبي ، حدثنا
عيسى بن يونس ، ويحيى بن أبي الحجاج التميمي ، عن إسماعيل بن رافع ، عن إسماعيل بن
عبيد الله بن أبي المهاجر ، عن عبد الله بن عمرو ، عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : " من قرأ القرآن فكأنما استُدْرِجَت النبوَّةُ بين جنبيهِ ، غير
أنه لا يُوحَى إليه ، ومن قرأ القرآن فرأى أن أحدًا أُعْطِىَ أفضلَ مما أُعْطِىَ
فقد عَظَّم ما صَغَّر الله ، وصَغَّر ما عظّم الله ، وليس ينبغي لحامل القرآن أن
يَسْفَه فيمن يسفه ، أو يَغْضَب فيمن يَغْضَب ، أو يَحْتَدَّ فيمن يَحْتَدُّ ،
ولكن يعفو ويصفح ، لِفضل القرآن " (8).
__________
(1) المسند ( 2/ 192).
(2) في مسند أحمد : "رسول الله".
(3) المسند (2/ 172).
(4) المسند (2/ 173).
(5) المسند (2/ 174).
(6) المسند (2/ 175).
(7) المسند (2/ 164 ، 193 ، 195).
(8) قال الهيثمي في المجمع (7/ 159) : "فيه إسماعيل بن رافع وهو متروك".
(1/95)
وقال
الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا عباد بن ميسرة ، عن الحَسَن ،
عن أبي هُرَيرةَ ؛ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من استمع إلى
آية من كتاب الله كُتِبَتْ له حسنةٌ مضاعفةٌ ، ومن تلاها كانت له نورًا يوم
القيامة " (1).
وقال البزار : حدثنا محمد بن حرب ، حدثنا يحيى بن المتوكل ، حدثنا عَنْبَسة بن
مهْران عن الزهري ، عن سَعِيدٍ وأبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : " مراءٌ في القرآن كفرٌ ". ثم قال : عنبسة : هذا ليس
بالقويّ. وعنده فيه إسناد آخر (2).
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو بكر ، حدثنا ابن إدريس ، حدثنا المقبري ، عن
جدِّه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعربوا
القرآن والتمسوا غرائبه (3) " (4).
وقال الطبراني : حدثنا موسى بن حازم الأصبهاني ، حدثنا محمد بن بكير الحضرمي ،
حدثنا إسماعيل بن عَيَّاشٍ ، عن يحيى بن الحارث الذِّماري ، عن القاسم أبي عبد
الرحمن ، عن فضالة بن عُبَيد ، وتَمِيمٍ الداريِّ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال : " من قرأ عشر آيات في ليلة كُتِب له قنطار ، والقنطار خير من الدنيا
وما فيها ، فإذا كان يوم القيامة يقول ربك ، عز وجل : اقرأ وارق بكل آية درجة حتى
ينتهي إلى آخر آية معه ، يقول ربك : اقبض ، فيقول العبد بيده : يا رب أنت أعلم.
فيقول : بهذه الخلد وبهذه النعيم " (5).
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة معقس بن عمران بن حطان قال : قال : دخلت مع أبي
على أم الدرداء ، رضي الله عنها ، فسألها أبي : ما فضل من قرأ القرآن على من لم
يقرأ ؟ قالت : حدثتني عائشة قالت : جُعِلت دَرَجُ الجنة على عدد آي القرآن ، فمن
(6) قرأ ثلث القرآن ثم دخل الجنة كان على الثلث من دَرَجها ، ومن قرأ نصف القرآن
كان على النصف من درَجها ، ومن قرأ كُلَّه كان في عِلِّيِّين ، لم يكن فوقه إلا
نبي أو صديق أو شهيد (7).
وقال الطبراني : حدثنا مَسْعَدَةُ (8) بن سَعْد العطارُ المكي ، حدثنا إبراهيم بن
المنذر الحِزَامي ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم مولى جميع بن حارثة الأنصاري ، حدثنا
عبد الله بن ماهان الأزدي ، حدثني فائد مولى عُبَيد الله بن أبي رافع ، حدثتني
سُكينة بنت الحُسَين بن علي ، عن أبيها قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" حملة القرآن عُرَفاء أهل الجنة يوم القيامة " (9).
وروى الطبراني من حديث بقيَّة ، عن أبي بكر بن أبي مريم ، عن المهاصر بن حبيب ، عن
عبيدة
__________
(1) المسند (2/ 341).
(2) ورواه أبو نعيم في الحلية (5/ 192) من طريق محمد بن حرب الواسطي به ، وقال :
"غريب من حديث مكحول ، لم نكتبه إلا من حديث ابن حرب".
(3) في ط : "غرابته".
(4) مسند أبي يعلى (11/ 436) وقال الهيثمي في المجمع (7/ 163) : "فيه عبد
الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري وهو متروك".
(5) المعجم الكبير (2/ 50).
(6) في ط : "من".
(7) تاريخ دمشق (17/ 10 "المخطوط").
(8) في ط : "مسورة".
(9) المعجم الكبير (3/ 132) وقال الهيثمي في المجمع (7/ 161) : "فيه إسحاق
المدني وهو ضعيف".
(1/96)
المليكي
، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : " يا أهل القرآن ، لا
توسَّدوا القرآن ، واتلوه حَقّ تلاوته من آناء الليل والنهار ، وتغنوه وتَقَنَّوه
، واذكروا ما فيه لعلكم تفلحون ، ولا تستعجلوا ثوابه ، فإن له ثَوابَيْن (1)
" (2).
وفي حديث عقبة بن عامر نحوه ، كما تقدم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، عن مِشْرَحٍ ، عن عقبة
بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو أن القرآن جُعِل في
إهابٍ ثم ألقي في النار ما احترق " (3).
تفرد به. قيل : معناه : أن الجسد الذي يقرأ القرآن [لا تمسه النار] (4).
وفي سُنَن ابن ماجة من طريق المغيرة بن نَهِيكٍ ، عن عقبة بن عامر مرفوعًا :
" من تعلم القرآن (5) ثم تركه فقد عصاني" (6).
وفي حديث رواه أبو يعلى من طريق ليث ، عن مجاهد ، عن أبي سعيد مرفوعًا : "
عليك بتقوى الله ، فإنها رأس كل خير ، وعليك بالجهاد ، فإنه رهبانية الإسلام ،
وعليك بِذِكْرِ الله وتلاوة القرآن ، فإنَّه نورٌ لك في الأرض وذكرٌ لك في السماء
، واخْزُنْ لسانَكَ إلا من خيرٍ ، فإنَّك بذلك تَغْلِب الشيطان " (7).
وهكذا أذكُرُ آثارًا مرويّةً عن ابن أمِّ عَبْد (8) أحدِ قُرَّاء القرآن مِنَ
الصَّحَابةِ المأمورِ بالتلاوة على نحوهم (9)
روى الطبراني ، عن الدَّبَرِيّ ، عن عبد الرزاق ، عن مَعْمَرٍ ، عن أبي إسحاق ،
قال ابن مسعود : كل آية في كتاب الله خيرٌ مما في السماء والأرض (10).
ومن طريق شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن مرَّة قال ابن مسعود : من أراد العلم
فلْيَتَبوَّأْ من القرآن ، فإن فيه علم الأولين والآخرين (11).
ومن طريق سُفيان وشعبة ، عن ساعد (12) بن كُهَيل ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله
قال : إنّ هذا القرآن ليس فيه حرف إلا له حدٌّ ، ولكلِّ حد مَطْلَعٌ (13).
ومن حديث الثوري ، عن إسماعيل بن أبي خالد (14) عن سيار أبي الحكم ، عن ابن مسعودٍ
أنه قال : أعربوا هذا القرآن فإنه عربيٌّ ، وسيجيءُ قوم يَثْقَفُونه وليسوا
بخياركم (15).
__________
(1) في ط : "ثوابا".
(2) قال الهيثمي في المجمع (2/ 252) : "رواه الطبراني في الكبير وفيه أبو بكر
بن أبي مريم وهو ضعيف".
(3) المسند (4/ 151).
(4) زيادة من ط.
(5) في سنن ابن ماجة : "الرمى".
(6) سنن ابن ماجة برقم (2814).
(7) مسند أبي يعلى (2/ 284) وليث بن أبي سليم ضعيف.
(8) في ط : "عن ابن أم عبد عبد الله بن مسعود".
(9) في طـ : "حرفهم".
(10) المعجم الكبير (9/ 145).
(11) المعجم الكبير (9/ 146).
(12) في ط : "سلمة".
(13) المعجم الكبير (9/ 146).
(14) في ط : "إسماعيل بن خالد".
(15) المعجم الكبير (9/ 150).
(1/97)
والثوري
، عن عاصمٍ ، عن زِرٍّ ، عن ابن مسعود قال : أديموا النظر في المصحف ، وإذا
اختلفتم في ياءٍ أو تاءٍ فاجعلوها ياء ، ذكّروا القرآن فإنه مذكَّر (1).
وقال عبد الرزاق ، عن إسرائيل ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن شَدَّاد (2) بن
مَعْقِل ، سَمعْتُ ابن مسعود يقول : أول ما تفقدونَ من دينكم الأمانة ، وآخر ما
يبقى من دينكم الصلاة ، وَلَيُصَلِّيَنَّ قومٌ لا خَلاقَ لهم ، ولينزعنَّ قومٌ من
بين أظهركم. قالوا : يا أبا عبد الرحمن ، ألسنا نقرأُ القرآن وقد أثبتناه في
مصاحفنا ؟ قال : يُسْرَى على القرآن ليلا فَيُذْهَبُ به من أجواف الرجال فلا يبقى
في الأرض منه شيء - وفي رواية : لا يبقى في مصحف منه شيءٌ - ويصبح الناسُ فُقَراءَ
كالبهائم. ثم قرأ عبد الله : { وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلا } [الإسراء :
86] (3).
وقال الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا أبو نعيم ، حدثني شعبة ، عن علي
بن بذيمةَ (4) عن أبي عبيدة بن عبد الله ، عن أبيه قال : من قرأ القرآن في أقَلَّ
من ثلاثٍ فهو راجز (5).
قال هشام عن الحسَنِ : إنه بلغه عن ابن مسعود مثلُ ذلك.
ومن طريق الأعمش ، عن أبي وائلٍ قال : كان عبد الله بن مسعود يقل الصوم ، فيقال له
في ذلك ، فيقول : إني إذا صُمْتُ ضَعُفْتُ عن القراءةِ والصلاة ، والقراءة والصلاة
أحبُّ إليَّ (6).
__________
(1) المعجم الكبير (9/ 152).
(2) في ط : "مقداد".
(3) المعجم الكبير (9/ 152) والمصنف لعبد الرزاق (5980).
(4) في ط : "علي بن زيد".
(5) المعجم الكبير (9/ 154).
(6) المعجم الكبير (9/ 195).
(1/98)
مقدمة
مفيدة
قال أبو بكر بن الأنباري : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي ، عن حجاج بن مِنْهال ،
عن همام ، عن قتادة قال : نزل في المدينة من القرآن البقرة ، وآل عمرانَ ، والنساء
، والمائدة ، والأنفال ، وبراءة ، والرعد ، والنحل ، والحج ، والنُّور ، والأحزاب
، ومحمد ، والفتح ، والحجرات ، والحديد ، والرحمن ، والمجادلة ، والحشر ،
والممتحنة ، والصف ، والمنافقون ، والتغابن ، والطلاق ، ويا أيها النبي لمَ
تُحَرِّم ، وإلى رأس العشر ، وإذا زلزلت ، وإذا جاء نصرُ الله. هؤلاء السور نزلت
بالمدينة ، وسائر القرآن نزل بمكة.
فأما عدد آيات القرآن فستة آلاف آية ، ثم اختلف فيما زاد على ذلك على أقوال ،
فمنهم من لم يزد على ذلك ، ومنهم من قال : ومائتا آية وأربع آيات ، وقيل : وأربع
عشرة آية ، وقيل : ومائتان وتسع عشرة ، وقيل : ومائتان وخمس وعشرون آية ، وست
وعشرون آية ، وقيل : ومائتا آية ، وست وثلاثون آية. حكى ذلك أبو عمرو الداني في
كتاب البيان (1).
وأما كلماته ، فقال الفضل بن شاذان ، عن عطاءِ بن يسار : سبع وسبعون ألف كلمة
وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة.
وأما حروفُه ، فقال عبد الله بن كثير ، عن مجاهد : هذا ما أحصينا من القرآن وهو
ثلاثُمائِة ألفِ
__________
(1) تفسير القرطبي (1/ 65).
(1/98)
حرف
وواحدٌ وعشرون ألفَ حَرْفٍ ومائَةٌ وثمانونَ حرفًا.
وقال الفضل ، عن عطاء بن يسار : ثلاثمائة ألف حرف وثلاثة وعشرون ألفًا وخمسة عشر
حرفًا.
وقال سَلام أبو محمد الحمانيّ : إنّ الحجاج جمع القراء والحفاظ والكُتَّاب فقال :
أخبروني عن القرآن كُلِّه كم من حرفٍ هو ؟ قال : فحسبناه فأجمعوا أنه ثلاثُمائة
ألفِ حَرْف وأربعون ألفًا وسبعمائة وأربعون حرفًا. قال : فأخبروني عن نصفه. فإذا
هو إلى الفاء من قوله في الكهف : { وَلْيَتَلَطَّفْ } [الكهف : 19] ، وثُلثه الأول
عند رأس مائة آية من براءة ، والثاني على رأس مائة أو إحدى ومائة من الشعراء ،
والثالث إلى آخره. وسُبُعُه الأول إلى الدال من قوله : { فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ
بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ } [النساء : 55]. والسُّبُع الثاني إلى الباء
من قوله في الأعراف : { حَبِطَتْ } [الأعراف : 147] ، والثالث إلى الألف الثانية
من : { أُكُلَهَا } في الرعد [الرعد : 35] ، والرابع إلى الألف من قوله في الحج :
{ جَعَلْنَا مَنْسَكًا } [الحج : 67] ، والخامس إلى الهاء من قوله في الأحزاب : {
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ } [الأحزاب : 36] ، والسادس إلى الواو من
قوله في الفتح : { الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ } [الفتح : 6] ،
والسابع إلى آخر القرآن. قال سلام أبو محمد : عملنا ذلك في أربعة أشهر.
قالوا : وكان الحجاج يقرأ في كلِّ ليلةٍ ربع القرآن ، فالأول إلى آخر الأنعام ،
والثاني إلى { وَلْيَتَلَطَّفْ } [الكهف : 19] ، والثالث إلى آخر الزمر ، والرابع
إلى آخر القرآن. وقد ذكر الشيخ أبو عمرو الداني في كتابه البيان خلافًا في هذا كله
، والله أعلم (1).
وأما التحزيب والتجزئة فقد اشتهرت الأجزاء من ثلاثين كما في الربعات في المدارس
وغيرها ، وقد ذكرنا فيما تقدم الحديث الوارد في تحزيب الصحابة للقرآن ، والحديث في
مسند أحمدَ وسُنَن أبي داودَ وابن ماجَهْ وغيرهما (2) عن أوس بن حُذَيفة أَنَّه
سَأَلَ أصحابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في حياته : كيف يُحَزِّبون القرآن ؟
قالوا : ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرَةَ وثلاثَ عَشْرَةَ ، وحزْبُ المُفَصَّل من
قاف حتى يختم (3).
قال القرطبي : أجمعوا أنه ليس في القرآن شيء من التراكيب الأعجمية ؟ وأجمعوا أن
فيه أعلامًا من الأعجمية كإبراهيم ونوح ، ولوط ، واختلفوا : هل فيه شيء من غير ذلك
بالأعجمية ؟ فأنكر ذلك الباقلاني والطبري وقالا ما وقع فيه ما يوافق الأعجمية ،
فهو من باب ما توافقت فيه اللغات (4).
__________
(1) انظر : تفسير القرطبي (1/ 64).
(2) في ط : "غيرهما".
(3) المسند (4/ 9) وسنن أبي داود برقم (1393) وسنن ابن ماجة برقم (438).
(4) تفسير القرطبي (1/ 68).
(1/99)
فصل
واختلفوا (1) في معنى السورة : مِمَّ هي مشتقة ؟ فقيل : من الإبانة والارتفاع. قال
النابغة :
ألم تر أنَّ الله أعطاكَ سورَةً... تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونها يَتَذَبْذَبُ (2)
فكأن القارئ يتنقل بها من منزلة إلى منزلة. وقيل : لشرفها وارتفاعها كسور البلد.
وقيل : سميت
__________
(1) في ط : "واختلف".
(2) البيت في تفسير الطبري (1/ 105).
(1/99)
سُورَةً
لكونها قِطْعةً من القرآن وجزءًا منه ، مأخوذ من أسآر الإناء وهو البقية ، وعلى
هذا فيكون أصلها مهموزًا ، وإنما خففت فأبدلت الهمزة واوًا لانضمام ما قبلها. وقيل
: لتمامها وكمالها لأن العرب يسمون الناقة التامة سُورَةً.
قلت : ويحتمل أن يكون من الجمع والإحاطة لآياتها كما سُمِّي سورُ البلد لإحاطته
بمنازِلِه ودُورِه ، والله أعلم.
وجمع السورة سُوَرٌ بفتح الواو ، وقد تُجمع (1) على سُورَاتٍ وسُوْرَات.
وأما الآية فمن العلامَةِ على انقطاع الكلام الذي قبلها عن الذي بعدها وانفصاله ،
أي : هي بائنة من أختها. قال (2) الله تعالى : { إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ } [البقرة :
248] ، وقال النابغة :
تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرفْتُها... لستَّةِ أعوامٍ وذا العامُ سابعُ
(3)
وقيل : لأنها جماعةُ حروفٍ من القرآن وطائفة منه ، كما يقال : خرج القوم بآيتهم ،
أي : بجماعتهم. قال الشاعر (4)
خَرَجْنَا من النَّقبين لا حَىَّ مِثلُنا... بآيتنا نزجِي اللقاحَ المَطَافِلا
وقيل : سُمِّيت آيةً لأنها عَجَبٌ يَعْجِز البشر عن التكلّم بمثلها.
قال سيبويه : وأصلها أَيَيَة مثل أَكَمَة وشَجَرَة ، تحرَّكت الياءُ وافتتح ما
قبلها فقلبت ألفًا فصارت آية ، بهمزة بعدها مدة. وقال الكسائي : آيِيَة على وزن
آمِنة ، فَقُلِبت ألفًا ، ثم حُذفت لالتباسها.
وقال الفَرَّاء : أصلها أَيَّة - بتشديد الياء - فَقُلِبَت الأولى ألفًا ، كراهيةَ
التشديد فصارت آية ، وجمعُها : آىٌ وآياىٌ وآياتٌ.
وأما الكلمة فهي اللفظ الواحد ، وقد تكون على حرفين مثل : ما ولا وله ولك ، وقد
يكون أكثر. وأكثر ما يكون (5) عشرة أحرف : { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ } [النور : 55]
، و { أَنُلْزِمُكُمُوهَا } [هود : 28] ، { فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } [الحجر : 22] ،
وقد تكون الكلمة آية ، مثل : والفجر ، والضحى ، والعَصْر ، وكذلك : الم ، وطه ،
ويس ، وحم - في قول الكوفيين - و { حم عسق } عندهم كلمتان. وغيرهم لا يسمى هذه
آيات بل يقول : هي فواتح السُّوَرِ. وقال أبو عَمْرو الدانيّ : لا أعلم كلمةً هي
وحدها آيةٌ إلا قوله : { مُدْهَامَّتَانِ } في سورة الرحمن [الرحمن : 64]. آخر
المقدمة
__________
(1) في ط : "يجمع".
(2) في ط : "ومنه قول".
(3) البيت في تفسير القرطبي (1/ 66).
(4) البيت لبرج بن مسهر الطائي ، وهو في تفسير القرطبي (1/ 66).
(5) في ط : "تكون".
(1/100)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
بسم
الله الرحمن الرحيم
فاتحة الكتاب
يقال لها : الفاتحة ، أي فاتحة الكتاب خطا ، وبها تفتح (1) القراءة في الصلاة (2)
ويقال لها أيضا : أم الكتاب عند الجمهور ، وكره أنس ، والحسن وابن سيرين كرها
تسميتها بذلك ، قال الحسن وابن سيرين : إنما ذلك اللوح المحفوظ ، وقال الحسن :
الآيات المحكمات : هن أم الكتاب ، ولذا كرها (3) - أيضا - أن يقال لها أم القرآن
وقد ثبت في[الحديث] (4) الصحيح عند الترمذي وصححه عن أبي هريرة قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : " الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني
والقرآن العظيم " ويقال لها : الحمد ، ويقال لها : الصلاة ، لقوله عليه
السلام (5) عن ربه : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فإذا قال العبد :
الحمد لله رب العالمين ، قال الله : حمدني عبدي " الحديث. فسميت الفاتحة :
صلاة ؛ لأنها شرط فيها. ويقال لها : الشفاء ؛ لما رواه الدارمي عن أبي سعيد مرفوعا
: " فاتحة الكتاب شفاء من كل سم (6) ". ويقال لها : الرقية ؛ لحديث أبي
سعيد في الصحيح حين رقى بها الرجل السليم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم
: " وما يدريك أنها رقية ؟ ". وروى الشعبي عن ابن عباس أنه سماها : أساس
القرآن ، قال : فأساسها (7) بسم الله الرحمن الرحيم ، وسماها سفيان بن عيينة :
الواقية. وسماها يحيى بن أبي كثير : الكافية ؛ لأنها تكفي عما عداها ولا يكفي ما
سواها عنها ، كما جاء في بعض الأحاديث المرسلة : " أم القرآن عوض من غيرها ،
وليس غيرها عوضا عنها " (8). ويقال لها : سورة الصلاة والكنز ذكرهما الزمخشري
في كشافه. وهي مكية ، قاله (9) ابن عباس وقتادة وأبو العالية ، وقيل مدنية ، قاله
(10) أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري. ويقال : نزلت مرتين : مرة بمكة ،
ومرة بالمدينة ، والأول أشبه لقوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ
الْمَثَانِي } [الحجر : 87] ، والله أعلم (11). وحكى أبو الليث السمرقندي أن نصفها
نزل بمكة ونصفها الآخر نزل بالمدينة ، وهو غريب جدًا ، نقله القرطبي عنه. وهي سبع
آيات بلا خلاف ، [وقال عمرو بن عبيد : ثمان ، وقال حسين الجعفي : ستة (12) وهذان
شاذان] (13). وإنما اختلفوا في البسملة : هل هي آية مستقلة من أولها كما هو عند
جمهور قراء الكوفة وقول الجماعة من الصحابة والتابعين وخلق من الخلف ، أو بعض آية
أو لا تعد من أولها بالكلية ، كما هو قول أهل المدينة من القراء والفقهاء ؟ على
ثلاثة أقوال ، سيأتي تقريره (14) في موضعه إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة.
__________
(1) زيادة من جـ ، ط.
(2) المسند (5/26).
(3) في جـ : "التميمي".
(4) المسند (5/26) وأبو عثمان لم يوثقه سوى ابن حبان وأبوه لا يعرف ، وقد اتضح أن
الحديث مضطرب ، اختلف فيه على سليمان التميمي.
(5) سنن أبي داود برقم (3121) وسنن النسائي الكبرى برقم (10913) وسنن ابن ماجة
برقم (1448).
(6) سنن الترمذي برقم (2878) ورواه الحاكم في المستدرك (2/259) من طريق حكيم بن
جبير به.
(7) في أ : "سهل".
(8) المسند (2/284) وصحيح مسلم برقم (780) وسنن الترمذي برقم (2877) وسنن النسائي
الكبرى برقم (8015).
(9) في جـ : "أبي".
(10) فضائل القرآن (ص121).
(11) فضائل القرآن لأبي عبيد (ص121) وسنن النسائي الكبرى برقم (10800) والمستدرك
(2/260).
(12) سنن النسائي الكبرى برقم (10799) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم
(3292) "مجمع البحرين" من طريق حلو بن السري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي
الأحوص ، عن عبد الله به مرفوعا وخالفهما - أي ابن عجلان وحلو بن السري - شعبة ،
فرواه عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله فوقفه ، أخرجه ابن الضريس في
فضائل القرآن برقم (176) وشعبة أوثق الناس في أبي إسحاق ، ورواه ابن الضريس في
فضائل القرآن برقم (165) من طريق إبراهيم ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله موقوفا.
(13) سنن الدارمي برقم (3375).
(14) سنن الدارمي برقم (3377).
(1/101)
قالوا
: وكلماتها خمس وعشرون كلمة ، وحروفها مائة وثلاثة عشر حرفًا. قال البخاري في أول
كتاب التفسير : وسميت أم الكتب ، أنه يبدأ بكتابتها في المصاحف ، ويبدأ بقراءتها
في الصلاة (1) وقيل : إنما (2) سميت بذلك لرجوع معاني القرآن كله (3) إلى ما
تضمنته. قال ابن جرير : والعرب تسمي كل جامع أمر (4) أو مقدم لأمر - إذا كانت له
توابع تتبعه هو لها إمام جامع - أُمًّا ، فتقول (5) للجلدة التي تجمع الدماغ ، أمّ
الرأس ، ويسمون لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها أُمًّا ، واستشهد (6) بقول
ذي الرمة :
على رأسه أم لنا نقتدي بها... جماع أمور ليس (7) نعصي لها أمرا (8)
يعني : الرمح. قال : وسميت مكة : أم القرى لتقدمها أمام جميعها وجمعها ما سواها ،
وقيل : لأن الأرض دحيت منها.
ويقال لها أيضًا : الفاتحة ؛ لأنها تفتتح بها القراءة ، وافتتحت الصحابة بها كتابة
المصحف الإمام ، وصح تسميتها بالسبع المثاني ، قالوا : لأنها تثنى في الصلاة ، فتقرأ
في كل ركعة ، وإن كان للمثاني معنى آخر غير هذا ، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء
الله (9).قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا ابن أبي ذئب وهاشم بن
هاشم عن ابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال لأم القرآن : " هي أم القرآن ، وهي السبع المثاني ، وهي القرآن
العظيم (10) " (11). ثم رواه عن إسماعيل بن عمر عن ابن أبي ذئب به ، وقال أبو
جعفر محمد بن جرير الطبري : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، أنا ابن وهب ، أخبرني ابن
أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : " هي أم القرآن ، وهي فاتحة الكتاب ، وهي السبع المثاني
" (12).وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في تفسيره : حدثنا أحمد
بن محمد بن زياد ، ثنا محمد بن غالب بن حارث ، ثنا إسحاق بن عبد الواحد الموصلي ،
ثنا المعافى بن عمران ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن نوح بن أبي بلال ، عن المقبري
، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الحمد لله رب
العالمين سبع آيات : بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن ، وهي السبع المثاني والقرآن
العظيم ، وهي أم الكتاب (13) " (14).
__________
(1) سنن الدارمي برقم (3383).
(2) في أ : "ليلا".
(3) في ط ، ب : "شيطان".
(4) في ط ، ب : "شيطان".
(5) المعجم الكبير (6/163) وصحيح ابن حبان برقم (1727) "موارد".
(6) في أ : "سورة البقرة".
(7) سنن الترمذي برقم (2876) وسنن النسائي الكبرى برقم (8749).
(8) في جـ : "فالله تبارك وتعالى أعلم".
(9) في ب : "وقال".
(10) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "الحضير".
(11) في جـ ، ط : "في".
(12) في ط : "ثم قرأ".
(13) في جـ ، أ : "الحضير".
(14) في أ : "لأصبح".
(1/102)
وقد
رواه الدارقطني أيضا عن أبي هريرة مرفوعا بنحوه (1) أو مثله ، وقال : كلهم ثقات
(2).وروى البيهقي عن علي (3) وابن عباس (4) وأبي هريرة (5) أنهم فسروا قوله تعالى
: { سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي } [الحجر : 87] بالفاتحة ، وأن البسملة هي الآية
السابعة منها ، وسيأتي تمام هذا عند البسملة.
وقد روى الأعمش عن إبراهيم قال : قيل لابن مسعود : لِمَ لَمْ تكتب الفاتحة في
مصحفك ؟ قال : لو كتبتها لكتبتها في أول كل سورة. قال أبو بكر بن أبي داود : يعني
حيث يقرأ في الصلاة ، قال : واكتفيت بحفظ المسلمين لها عن كتابتها.
وقد قيل : إن الفاتحة أول شيء نزل من القرآن ، كما ورد في حديث رواه البيهقي في
دلائل النبوة (6) ونقله الباقلاني أحد أقوال ثلاثة هذا [أحدها] (7) وقيل : { يَا
أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } كما في حديث جابر في الصحيح (8). وقيل : { اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [العلق : 1] وهذا هو الصحيح ، كما سيأتي تقريره
في موضعه ، والله (9) المستعان. ذكر ما ورد في فضل الفاتحة
قال الإمام أحمد بن محمد بن حنبل ، رحمه الله ، في مسنده : حدثنا يحيى بن سعيد ،
عن شعبة ، حدثني خبيب بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي سعيد بن المُعَلَّى
، رضي الله عنه ، قال : كنت أصلي فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم أجبه
حتى صلَّيت وأتيته ، فقال : " ما منعك أن تأتيني ؟ ". قال : قلت : يا
رسول الله ، إني كنت أصلي. قال : " ألم يقل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ }
[الأنفال : 24] ثم قال : " لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من
المسجد ". قال : فأخذ بيدي ، فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت : يا رسول الله
إنك قلت : " لأعلمنك أعظم سورة في القرآن ". قال : " نعم ، الحمد
لله رب العالمين هي : السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ".
وهكذا رواه البخاري عن مسدد ، وعلي بن المديني ، كلاهما عن يحيى بن سعيد القطان ،
به (10).ورواه في موضع آخر من التفسير ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه من طرق
عن شعبة ، به (11).ورواه الواقدي عن محمد بن معاذ الأنصاريّ ، عن خبيب بن عبد
الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي سعيد بن المُعَلَّى ، عن أبي بن كعب ، فذكر
نحوه.
وقد وقع في الموطأ للإمام مالك بن أنس ، ما ينبغي التنبيه عليه ، فإنه رواه مالك
عن العلاء بن عبد
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5018).
(2) فضائل القرآن (ص26).
(3) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "وجوه أخر".
(4) سبق تخريجه في فضائل القرآن.
(5) في ط ، ب : "الشماس".
(6) زيادة من ط.
(7) في جـ ، ب : "عن عمه جرير".
(8) فضائل القرآن لأبي عبيد (ص27) وتقدم تخريجه في فضائل القرآن أيضا.
(9) زيادة من أ ، و.
(10) في جـ ، ط : "وقال".
(11) في ط ، ب : "المهاجر".
(1/103)
الرحمن
بن يعقوب الحُرَقي : أن أبا سعيد مولى عامر بن كريز أخبرهم ، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب ، وهو يصلي في المسجد ، فلما فرغ من صلاته لحقه ،
قال : فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على يدي ، وهو يريد أن يخرج من باب
المسجد ، ثم قال : " إني لأرجو ألا تخرج من باب المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل
(1) في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان (2) مثلها ". قال أبيّ : فجعلت
أبطئ في المشي رجاء ذلك ، ثم قلت : يا رسول الله ، ما السورة التي وعدتني ؟ قال :
" كيف تقرأ إذا افتتحت (3) الصلاة ؟ قال : فقرأت عليه : { الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ } حتى أتيت على (4) آخرها ، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : " هي هذه السورة ، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيت
" (5).فأبو سعيد هذا ليس بأبي سعيد بن المُعَلّى ، كما اعتقده ابن الأثير في
جامع الأصول ومن تبعه (6) ، فإن ابن المعلى صحابي أنصاري ، وهذا تابعي من موالي
خزاعة ، وذاك الحديث متصل صحيح ، وهذا ظاهره أنه منقطع ، إن لم يكن سمعه أبو سعيد
هذا من أبيّ بن كعب ، فإن كان قد سمعه منه فهو على شرط مسلم ، والله أعلم. على أنه
قد روي عن أبيّ بن كعب من غير وجه كما قال الإمام أحمد :
حدثنا عفَّان ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ، حدثنا العلاء بن عبد الرحمن ، عن
أبيه ، عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب ، وهو
يصلي ، فقال : " يا أبي " ، فالتفت ثم لم يجبه ، ثم قال : أبي ، فخفف. ثم
انصرف إلى رسول الل ه صلى الله عليه وسلم ، فقال : السلام عليك أيْ رسول الله.
فقال : " وعليك السلام " [قال] (7) " ما منعك أيْ أبيّ إذ (8)
دعوتك أن تجيبني ؟ ". قال : أيْ رسول الله ، كنت في الصلاة ، قال : "
أولست تجد فيما أوحى الله إلي (9) { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا
دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } [الأنفال : 24] ". قال : بلى يا رسول الله ،
لا أعود ، قال : " أتحب أن أعلمك سورة لم تنزل لا في التوراة ولا في الإنجيل
ولا في الزبور ولا في الفرقان (10) مثلها ؟ " قلت : نعم ، أي رسول الله ، قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأرجو ألا أخرج من هذا الباب حتى
تعلمها " قال : فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي يحدثني ، وأنا أتبطأ
(11) ، مخافة أن يبلغ قبل أن يقضي الحديث ، فلما دنونا من الباب قلت : أيْ رسول
الله ، ما السورة التي وعدتني (12) قال : " ما تقرأ في الصلاة ؟ ". قال
: فقرأت عليه أم القرآن ، قال : " والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة
ولا في الإنجيل ولا في الزبور ، ولا في الفرقان مثلها ؛ إنها السبع المثاني
".
__________
(1) في أ ، و : "عليهما".
(2) في جـ : "المهاجر به".
(3) المسند (5/348) وسنن ابن ماجة برقم (3781).
(4) في جـ : "جيد".
(5) في جـ : "عن أهلهما يوم القيامة".
(6) في أ : "حسنة".
(7) المسند (5/249).
(8) زيادة من جـ ، ب ، أ ، و.
(9) صحيح مسلم برقم (804).
(10) في جـ : "المتصلة".
(11) في جـ : "نواس".
(12) في جـ ، ط : "من طير صاف".
(1/104)
ورواه
الترمذي ، عن قتيبة ، عن الدَّرَاوَرْدِي ، عن العلاء ، عن (1) أبيه ، عن أبي
هريرة ، فذكره (2) ، وعنده : إنها من السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته ،
ثم قال : هذا حديث حسن صحيح.
وفي الباب ، عن أنس بن مالك ، ورواه عبد الله بن [الإمام] (3) أحمد ، عن إسماعيل
بن أبي مَعْمَر ، عن أبي أسامة ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن العلاء ، عن أبيه ،
عن أبي هريرة ، عن أبي بن كعب ، فذكره مطولا بنحوه ، أو قريبا منه (4).وقد رواه
الترمذي والنسائي جميعا عن أبي عمار حسين بن حريث ، عن الفضل بن موسى ، عن عبد
الحميد بن جعفر ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن أبيّ بن كعب ، قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أنزل الله في التوراة ولا في
الإنجيل مثل أم القرآن ، وهي السبع المثاني ، وهي مقسومة بيني وبين عبدي " ،
هذا لفظ النسائي. وقال الترمذي : حسن غريب.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا هاشم ، يعني ابن البريد (5) حدثنا
عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن ابن جابر ، قال : انتهيت إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم وقد أهراق الماء ، فقلت : السلام عليك يا رسول الله. فلم يرد عليّ ، قال
: فقلت : السلام عليك يا رسول الله. فلم يرد عليّ ، قال : فقلت : السلام عليك يا
رسول الله ، فلم يرد عليّ. قال : فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي ، وأنا
خلفه حتى دخل رحله ، ودخلت أنا المسجد ، فجلست كئيبًا حزينًا ، فخرج عليّ رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقد تطهر ، فقال : " عليك (6) السلام ورحمة الله ،
وعليك السلام ورحمة الله ، وعليك السلام ورحمة الله " ثم قال : " ألا
أخبرك يا عبد الله بن جابر بأَخْير سورة في القرآن ؟ " قلت : بلى يا رسول
الله. قال : " اقرأ : الحمد لله رب العالمين ، حتى تختمها " (7).هذا
إسناد جيد ، وابن عقيل تحتج (8) به الأئمة الكبار ، وعبد الله بن جابر هذا هو
الصحابي ، ذكر ابن الجوزي أنه هو العبديّ ، والله أعلم. ويقال : إنه عبد الله بن
جابر الأنصاري البياضي ، فيما ذكره الحافظ ابن عساكر (9).واستدلوا بهذا الحديث
وأمثاله على تفاضل بعض الآيات والسور على بعض ، كما هو المحكي عن كثير من العلماء
، منهم : إسحاق بن راهويه ، وأبو بكر بن العربي ، وابن الحصار من المالكية. وذهبت
طائفة أخرى إلى أنه لا تفاضل في ذلك ؛ لأن الجميع كلام الله ، ولئلا يوهم التفضيل
نقص
__________
(1) في أ : "صاحب لهما".
(2) المسند (4/183) وصحيح مسلم برقم (805).
(3) سنن الترمذي برقم (2883).
(4) في ط : "أجاب".
(5) فضائل القرآن (ص126).
(6) زيادة من ب.
(7) في جـ : "أخاكم".
(8) فضائل القرآن (ص126).
(9) زيادة من و.
(1/105)
المفضل
عليه ، وإن كان الجميع فاضلا نقله القُرطُبي عن الأشعريّ ، وأبي بكر الباقلاني ، وأبي
حاتم بن حبان البستي ، ويحيى بن يحيى ، ورواية عن الإمام مالك [أيضا] (1).
حديث آخر : قال البخاري في فضائل القرآن : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا وهب ،
حدثنا هشام ، عن محمد ، بن معبد ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : كنا في مسير لنا ،
فنزلنا ، فجاءت جارية فقالت : إن سيد الحي سليم ، وإن نَفَرَنَا غُيَّب ، فهل منكم
(2) راق ؟ فقام معها رجل ما كنا نَأبِنُه برقية ، فرقاه ، فبرأ ، فأمر له بثلاثين
شاة ، وسقانا لبنا ، فلما رجع (3) قلنا له : أكنت تحسن رقية ، أو كنت ترقي ؟ قال :
لا ما رقيت إلا بأم الكتاب ، قلنا : لا تحدثوا شيئا حتى نأتي ، أو نسأل رسول الله
(4) صلى الله عليه وسلم ، فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صلى الله عليه وسلم
فقال : " وما كان يُدْريه أنها رقية ، أقسموا واضربوا لي بسهم ".
وقال أبو معمر : حدثنا عبد الوارث ، حدثنا هشام ، حدثنا محمد بن سيرين ، حدثني
معبد بن سيرين ، عن أبي سعيد الخدري بهذا.
وهكذا رواه مسلم ، وأبو داود من رواية هشام ، وهو ابن حسان ، عن ابن سيرين ، به
(5). وفي بعض روايات مسلم لهذا الحديث : أن أبا سعيد هو الذي رقى ذلك السليم ،
يعني : اللديغ يسمونه بذلك تفاؤلا.
حديث آخر : روى مسلم في صحيحه ، والنسائي في سننه ، من حديث أبي الأحوص سلام بن
سليم ، عن عمار بن رُزَيق ، عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن
سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده
جبريل ، إذ سمع نقيضًا فوقه ، فرفع جبريل بصره إلى السماء ، فقال : هذا باب قد فتح
من السماء ، ما فتح قط. قال : فنزل منه ملك ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال
: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة
البقرة ، ولن تقرأ حرفًا منهما إلا أوتيته. وهذا لفظ النسائي.
ولمسلم نحوه حديث آخر : قال مسلم : حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، هو ابن
راهويه ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن العلاء ، يعني ابن عبد الرحمن بن يعقوب
الحُرَقي (6) عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " من صلى
صلاة لم يقرأ فيها أم (7) القرآن فهي خِداج - ثلاثًا - غير تمام ". فقيل لأبي
هريرة : إنا نكون وراء الإمام ، قال : اقرأ بها في نفسك ؛ فإني سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول : " قال الله عز وجل : قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي
نصفين ، ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
} [الفاتحة : 2] ، قال الله : حمدني عبدي ، وإذا قال : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
__________
(1) في جـ ، ط ، ب : "منه".
(2) فضائل القرآن (ص126 ، 127].
(3) في جـ : "يحدثه".
(4) فضائل القرآن (127).
(5) زيادة من ب ، و.
(6) في هـ : "ورقاء".
(7) فضائل القرآن (ص127).
(1/106)
[الفاتحة
: 3] ، قال الله : أثنى علي عبدي ، فإذا قال : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ }
[الفاتحة : 4] ، قال (1) مجدني عبدي " - وقال مرة : " فوض إلي عبدي -
فإذا قال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة : 5] ، قال :
هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : { اهدنا الصِّرَاطَ
الْمُسْتَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } [الفاتحة : 6 ، 7] ، قال (2) هذا لعبدي ولعبدي ما
سأل ".
وهكذا رواه النسائي ، عن إسحاق بن راهويه (3). وقد روياه - أيضًا - عن قتيبة ، عن
مالك ، عن العلاء ، عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة ، عن أبي هريرة ، به (4) وفي
هذا السياق : " فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل ".
وكذا رواه ابن إسحاق ، عن العلاء ، وقد رواه مسلم من حديث ابن جُرَيْج ، عن العلاء
، عن أبي السائب هكذا (5).
ورواه - أيضًا - من حديث ابن أبي أويس ، عن العلاء ، عن أبيه وأبي السائب ، كلاهما
عن أبي هريرة (6).
وقال الترمذي : هذا حديث حسن ، وسألت أبا زُرْعَة عنه فقال : كلا الحديثين صحيح ،
من قال : عن العلاء ، عن أبيه ، وعن العلاء عن أبي السائب (7).
وقد روى هذا الحديث عبد الله ابن الإمام أحمد ، من حديث العلاء ، عن أبيه ، عن أبي
هريرة ، عن أبيّ بن كعب مطولا (8).
قال (9) ابن جرير : حدثنا صالح بن مسمار المروزي ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا
عَنْبسة بن سعيد ، عن مُطَرَّف بن طريف ، عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرَة ، عن
جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله
تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، وله ما سأل ، فإذا قال العبد : {
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قال : حمدني عبدي ، وإذا قال : {
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قال : أثنى علي عبدي. ثم قال : هذا لي وله ما بقي "
(10)
وهذا غريب من هذا الوجه.
__________
(1) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "والصحيح".
(2) في جـ ، ط ، ب ، و : "قرأ بهن" ، وفي أ : "قرأهن".
(3) الحديث وقع لي في سنن النسائي (2/177) من حديث حذيفة ، رضي الله عنه.
(4) زيادة من أ ، و.
(5) في أ : "وأعطيت السبع المثاني".
(6) فضائل القرآن (ص120) ورواه الطبري في تفسيره (1/100) من طريق رواد بن الجراح
عن سعيد بن بشير به ، ورواه الطبري في تفسيره (1/100) من طريق الطيالسي عن عمران -
أبي العوام - عن قتادة به ، ورواه الطبري في تفسيره (1/101) من طريق ليث بن أبي
سليم عن أبي بردة عن أبي المليح به نحوه.
(7) زيادة من ب.
(8) في ب : "قال أيضا".
(9) في جـ : "عمر".
(10) فضائل القرآن (ص120).
(1/107)
ثم
الكلام على ما يتعلق بهذا الحديث مما يختص بالفاتحة (1) من وجوه :
أحدها : أنه قد أطلق فيه لفظ الصلاة ، والمراد القراءة كقوله تعالى : { وَلا
تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا }
[الإسراء : 110] ، أي : بقراءتك كما جاء مصرحًا به في الصحيح ، عن ابن عباس (2)
وهكذا قال في هذا الحديث : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فنصفها لي
ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل " ثم بيّن تفصيل هذه القسمة في قراءة الفاتحة
فدل على عظم (3) القراءة في الصلاة ، وأنها من أكبر أركانها ، إذ أطلقت العبادة
وأريد بها (4) جزء واحد منها وهو القراءة ؛ كما أطلق لفظ القراءة والمراد به الصلاة
في قوله : { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا }
[الإسراء : 78] ، والمراد صلاة الفجر ، كما جاء مصرحا به في الصحيحين : من أنه
يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار ، فدل هذا كله على أنه لا بد من القراءة في
الصلاة ، وهو اتفاق من العلماء.
ولكن اختلفوا في مسألة نذكرها في الوجه الثاني ، وذلك أنه هل يتعين للقراءة في
الصلاة فاتحة الكتاب ، أم تجزئ هي أو غيرها ؟ على قولين مشهورين ، فعند أبي حنيفة
ومن وافقه من أصحابه وغيرهم أنها لا تتعين ، بل مهما قرأ به من القرآن أجزأه في
الصلاة ، واحتجوا بعموم قوله تعالى : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ
} [المزمل : 20] ، وبما ثبت في الصحيحين ، من حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته
(5) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " إذا قمت إلى الصلاة فكبر ،
ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " (6) قالوا : فأمره بقراءة ما تيسر ، ولم
يعين له الفاتحة ولا غيرها ، فدل على ما قلناه.
والقول الثاني : أنه تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة ، ولا تجزئ الصلاة بدونها ،
وهو قول بقية الأئمة : مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم وجمهور العلماء ؛
واحتجوا على ذلك بهذا الحديث المذكور ، حيث قال صلوات الله وسلامه عليه : "
من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِدَاج " والخداج هو : الناقص كما
فسَّر به في الحديث : " غير تمام ". واحتجوا - أيضًا - بما ثبت في
الصحيحين من حديث الزهريّ ، عن محمود بن الربيع ، عن عبادة بن الصّامت ، قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "
(7). وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبان ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : " لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن " (8) والأحاديث في
هذا الباب كثيرة ، ووجه المناظرة هاهنا يطول ذكره ، وقد أشرنا إلى مأخذهم في ذلك ،
رحمهم الله.
ثم إن مذهب الشافعيّ وجماعة من أهل العلم : أنه تجب قراءتها في كل ركعة. وقال
آخرون : إنما تجب قراءتها في معظم الركعات ، وقال الحسن وأكثر البصريين : إنما تجب
قراءتها في ركعة واحدة من
__________
(1) المسند (6/73).
(2) المسند (6/82).
(3) المسند (6/73).
(4) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "فلا أدري".
(5) في جـ ، ط ، ب : "القارئ".
(6) في جـ : "خمس".
(7) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(8) في هـ : "عيسى".
(1/108)
الصلوات
، أخذا بمطلق الحديث : " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ".
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي : لا تتعين (1) قراءتها ، بل لو قرأ
بغيرها أجزأه لقوله : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } [المزمل :
20] ، [كما تقدم] (2) والله أعلم.
وقد روى ابن ماجه من حديث أبي سفيان السعدي ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد مرفوعًا :
" لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها "
(3). وفي صحة هذا نظر ، وموضح (4) تحرير هذا كله في كتاب الأحكام الكبير ، والله
أعلم.
الوجه الثالث : هل تجب قراءة الفاتحة على المأموم ؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء :
أحدها : أنه تجب عليه قراءتها ، كما تجب على إمامه ؛ لعموم الأحاديث المتقدمة.
والثاني : لا تجب على المأموم قراءة بالكلية لا الفاتحة ولا غيرها ، لا في الصلاة
الجهرية ولا السرية ، لما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ، عن جابر بن عبد
الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من كان له إمام فقراءة
الإمام له قراءة " ولكن في إسناده ضعف (5). ورواه مالك ، عن وهب بن كَيْسَان
، عن جابر من كلامه (6). وقد روي هذا الحديث من طرق ، ولا يصح شيء منها عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم.
والقول الثالث : أنه تجب القراءة على المأموم في السرية ، لما (7) تقدم ، ولا تجب
(8) في الجهرية لما ثبت في صحيح مسلم ، عن أبي موسى الأشعري ، قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : " إنما جعل الإمام ليؤتم به ؛ فإذا كبَّر فكبّروا ،
وإذا قرأ فأنصتوا " وذكر بقية الحديث (9).
وهكذا رواه أهل السنن ؛ أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ، عن أبي هريرة ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " وإذا قرأ فأنصتوا " (10). وقد
صححه مسلم بن الحجاج أيضا ، فدل هذان الحديثان على صحة هذا القول وهو قول قديم
للشافعي ، رحمه الله ، ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل (11).
__________
(1) رواه الطبراني في الأوسط برقم (3450) "مجمع البحرين" والبيهقي في
شعب الإيمان برقم (2582) من طريق عُبيس بن ميمون ، عن موسى بن أنس به ، وقال
البيهقي : "عُبيس بن ميمون منكر الحديث : وهذا لا يصح ، وإنما روى عن ابن عمر
من قوله".
(2) ف جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "الصحيح".
(3) في و : "يقول".
(4) صحيح البخاري برقم (1747) وصحيح مسلم برقم (1296).
(5) في هـ : "مربد" وهو خطأ.
(6) في جـ : "تأخرا في أصحابه".
(7) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (17/133) من طريق علي بن قتيبة عن شعبة عن
عقيل بن أبي طلحة به ، وجاء من حديث أنس ، رواه أبو يعلى في مسنده (6/289) من طريق
عمرو بن عاصم عن أبي العوام عن معمر عن الزهري عن أنس رضي الله عنه.
(8) في ب : "سورة البقرة".
(9) جاء من حديث العباس ، رواه مسلم في صحيحه برقم (1775) من طريق الزهري ، عن
كثير بن عباس عن أبيه العباس رضي الله عنه.
(10) في جـ ، ط ، ب ، و : "حبيش".
(11) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (12/502) من طريق هشام بن عروة ، عن أبيه قال :
"كان شعار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم مسيلمة : "يا أصحاب سورة
البقرة".
(1/109)
والغرض
من ذكر هذه المسائل هاهنا بيان اختصاص سورة الفاتحة بأحكام لا تتعلق بغيرها من
السور ، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إبراهيم بن سعيد (1) الجوهريّ ، حدثنا غسان بن
عبيد ، عن أبي عمران الجَوْني ، عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: " إذا وضعت جنبك على الفراش ، وقرأت فاتحة الكتاب و { قُلْ هُوَ اللَّهُ
أَحَدٌ } فقد أمنت من كل شيء إلا الموت " (2)
الكلام على تفسير الاستعاذة (3) قال الله تعالى : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ
بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ
الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الأعراف :
199 ، 200] ، وقال تعالى : { ادفع بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ
أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ
الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } [المؤمنون : 96 - 98]
وقال تعالى : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ
وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا
الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا
يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [فصلت : 34 - 36].
فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعة في معناها ، وهو أن الله يأمر بمصانعة العدو الإنسي
والإحسان إليه ، ليرده عنه طبعُهُ الطَّيب الأصل (4) إلى الموادة (5) والمصافاة ،
ويأمر بالاستعاذة به من العدو الشيطاني لا محالة ؛ إذ لا يقبل مصانعة ولا إحسانا
ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم ، لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل ؛ كما قال
تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ
أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ } [الأعراف : 27] وقال : { إِنَّ الشَّيْطَانَ
لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا
مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [فاطر : 6] وقال { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ
أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا }
[الكهف : 50] ، وقد أقسم للوالد إنه لمن الناصحين ، وكذب ، فكيف معاملته لنا وقد
قال : { فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ } [ص : 82 ، 83] ، وقال (6) تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ
سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [النحل :
98 ، 99]
قالت طائفة من القراء وغيرهم : نتعوذ بعد القراءة ، واعتمدوا على ظاهر سياق الآية
، ولدفع الإعجاب بعد فراغ العبادة ؛ وممن ذهب إلى ذلك حمزة فيما ذكره (7) ابن
قلوقا عنه ، وأبو حاتم السجستاني ، حكى ذلك أبو القاسم يوسف بن علي بن جُبارة
الهذلي المغربي في كتاب " الكامل ".
وروي عن أبي هريرة - أيضا - وهو غريب.
__________
(1) تفسير القرطبي (1/154).
(2) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(3) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(4) صحيح البخاري برقم (891) وصحيح مسلم برقم (880).
(5) في ط ، ب ، أ ، و : "السورة".
(6) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(7) في جـ : "وروي".
(1/110)
[ونقله
فخر الدين محمد بن عمر الرازي (1) في تفسيره عن ابن سيرين في رواية عنه قال : وهو
قول إبراهيم النخعي وداود بن علي الأصبهاني الظاهري ، وحكى القرطبي عن أبي بكر بن
العربي عن المجموعة عن مالك ، رحمه الله تعالى ، أن القارئ يتعوذ بعد الفاتحة ،
واستغربه ابن العربي. وحكى قول ثالث وهو الاستعاذة أولا وآخرا جمعا بين الدليلين
نقله فخر الدين (2) ] (3).
والمشهور الذي عليه الجمهور أن الاستعاذة لدفع الوسواس فيها ، إنما تكون قبل
التلاوة ، ومعنى الآية عندهم : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ
بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } [النحل : 98] أي : إذا أردت القراءة
كقوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
} الآية [المائدة : 6] أي : إذا أردتم القيام. والدليل على ذلك الأحاديث عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم بذلك ؛ قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله :
حدثنا محمد بن الحسن بن آتش (4) حدثنا جعفر بن سليمان ، عن علي بن علي الرفاعي
اليشكري ، عن أبي المتوكل الناجي ، عن أبي سعيد الخدريّ ، قال : كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا قام من الليل فاستفتح صلاته وكبَّر قال : " سبحانك اللهم
وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك ". ويقول : " لا إله
إلا (5) الله " ثلاثًا ، ثم يقول : " أعوذ بالله السميع العليم ، من
الشيطان الرجيم ، من هَمْزه ونَفْخِه ونَفْثه ".
وقد رواه أهل السنن الأربعة من رواية جعفر بن سليمان ، عن علي بن علي ، وهو
الرّفاعي (6) ، وقال الترمذي : هو أشهر حديث في هذا الباب. وقد فسَر الهمز بالموتة
وهي الخنق ، والنَّفخ بالكبر ، والنفث بالشعر. كما رواه أبو داود وابن ماجه من
حديث شعبة ، عن عمرو بن مُرّة ، عن عاصم العَنزيّ ، عن نافع بن جبير بن مطعم ، عن
أبيه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل في الصلاة ، قال : "
الله أكبر كبيرًا ، ثلاثًا ، الحمد لله كثيرا ، ثلاثًا ، سبحان الله بكرة وأصيلا
ثلاثا ، اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من هَمْزه ونَفْخه ونفْثه ".
قال عمرو : وهمزه الموتة ، ونفخه الكبر ، ونفثه الشعر (7).
وقال ابن ماجه : حدثنا علي بن المنذر ، حدثنا ابن فُضيل ، حدثنا عطاء بن السائب ،
عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :
" اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم ، وهَمْزه ونفخه ونفثه ".
قال : همزه : الموتة ، ونَفْثُه : الشعر ، ونفخه : الكِبْر (8).
__________
(1) في جـ : "اسمه اللطيف" ، وفي أ : "اسم لطيف".
(2) في جـ : "المجيد".
(3) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "فالألف".
(4) زيادة من جـ ، ط ، ب.
(5) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "وما أشبهه".
(6) في أ : "هنا".
(7) في ط ، ب : "كل من".
(8) البيت في تفسير الطبري (1/212).
(1/111)
وقال
الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن يوسف ، حدثنا شريك ، عن يعلى بن عطاء ، عن رجل حدثه
: أنه سمع أبا أمامة الباهلي يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى
الصلاة كبَّر ثلاثًا ، ثم قال : " لا إله إلا الله " ثلاث مرات ، وسبحان
الله وبحمده " ، ثلاث مرات. ثم قال : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ،
من همزه ونفخه ونفثه (1).وقال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في
مسنده : حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان الكوفي ، حدثنا علي بن هشام بن البريد عن
يزيد بن زياد ، عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن أبي بن كعب
، قال : تلاحى رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فَتَمزّع أنف أحدهما غضبا ،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأعلم شيئا لو قاله ذهب عنه ما
يجد : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ".
وكذا رواه النسائي في اليوم والليلة ، عن يوسف بن عيسى المروزي ، عن الفضل بن موسى
، عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد (2) ، به (3).
وقد روى هذا الحديث أحمد بن حنبل ، عن أبي سعيد ، عن زائدة ، وأبو داود عن يوسف بن
موسى ، عن جرير بن عبد الحميد ، والترمذي ، والنسائي في اليوم والليلة عن بُنْدَار
، عن ابن مهدي ، عن الثوري ، والنسائي - أيضًا - من حديث زائدة بن قدامة ، ثلاثتهم
عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن معاذ بن جبل ، قال : استَب
رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فغضب أحدهما غضبًا شديدًا حتى خُيّل إليّ أن
أحدهما يَتَمزّع أنفه من شدة غضبه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إني لأعلم
كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد من الغضب " قال : ما هي يا رسول الله ؟ قال :
" يقول : اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم ". قال : فجعل معاذ يأمره
، فأبى [ومحك] (4) ، وجعل يزداد غضبًا. وهذا لفظ أبي داود (5).وقال الترمذي : مرسل
، يعني أن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يلق معاذ بن جبل ، فإنه مات قبل سنة عشرين.
قلت : وقد يكون عبد الرحمن بن أبي ليلى سمعه من أبيّ بن كعب ، كما تقدم وبلغه عن
معاذ بن جبل ، فإن هذه القصة شهدها غير واحد من الصحابة ، رضي الله عنهم. قال
البخاري : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن عدي بن ثابت ،
قال : قال سليمان بن صُرَد : استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ، ونحن عنده
جلوس ، فأحدهما يسب صاحبه مغضَبًا قد احمر وجهه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
" إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد ،
__________
(1) البيت في تفسير الطبري (1/213).
(2) تفسير القرطبي (1/156) والحديث رواه ابن ماجة في السنن برقم (2620) من طريق
يزيد بن أبي زياد ، عن الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة رضي الله عنه به مرفوعا ،
وقال البوصيري في الزوائد (2/334) : "هذا إسناد ضعيف ، يزيد بن أبي زياد
الدمشقي قال فيه البخاري وأبو حاتم : منكر الحديث".
تنبيه : وقع في بعض النسخ المساعدة : قال سفيان ، بدل شقيق ، والذي في تفسير
القرطبي موافق لما هاهنا ، وقد روي هذا القول عن سفيان الأصبهاني في الترغيب
والترهيب برقم (2329).
(3) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(4) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(5) في ب ، و : "لخص" ، وفي جـ ، ط : "يخص".
(1/112)
لو
قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " فقالوا للرجل : ألا تسمع ما يقول رسول
الله (1) صلى الله عليه وسلم قال : إني لست بمجنون (2).
وقد رواه - أيضًا - مع مسلم ، وأبي داود ، والنسائي ، من طرق متعددة ، عن الأعمش ،
به (3).
وقد جاء في الاستعاذة أحاديث كثيرة يطول ذكرها هاهنا ، وموطنها كتاب الأذكار
وفضائل الأعمال ، والله أعلم. وقد رُوِيَ أن جبريل عليه السلام ، أوّل ما نزل
بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالاستعاذة ، كما قال الإمام أبو
جعفر بن جرير :
حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا عثمان بن سعيد ، حدثنا بشر بن عمارة ، حدثنا أبو روق ،
عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه
وسلم قال : يا محمد ، استعذ. قال : " أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان
الرجيم " ثم قال : قل : بسم الله الرحمن الرحيم. ثم قال : { اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } قال عبد الله : وهي أول سورة أنزلها الله على محمد صلى
الله عليه وسلم ، بلسان جبريل (4).وهذا الأثر غريب ، وإنما ذكرناه ليعرف ، فإن في
إسناده ضعفًا وانقطاعًا ، والله أعلم.
مسألة : وجمهور العلماء على أن الاستعاذة مستحبة ليست بمتحتمة يأثم تاركها ، وحكى
فخر الدين عن عطاء بن أبي رباح وجوبها في الصلاة وخارجها كلما أراد القراءة قال :
وقال ابن سيرين : إذا تعوذ مرة واحدة في عمره فقد كفى في إسقاط الوجوب ، واحتج فخر
الدين لعطاء بظاهر الآية : { فَاسْتَعِذْ } وهو أمر ظاهره الوجوب وبمواظبة النبي
صلى الله عليه وسلم عليها ، ولأنها تدرأ شر الشيطان وما لا يتم الواجب إلا به فهو
واجب ، ولأن الاستعاذة أحوط وهو أحد مسالك الوجوب. وقال بعضهم : كانت واجبة على
النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته ، وحكي عن مالك أنه لا يتعوذ في المكتوبة
ويتعوذ لقيام شهر رمضان في أول ليلة منه.
مسألة : وقال الشافعي في الإملاء ، يجهر بالتعوذ ، وإن أسر فلا يضر ، وقال في الأم
بالتخيير لأنه أسر ابن عمر وجهر أبو هريرة ، واختلف قول الشافعي فيما عدا الركعة
الأولى : هل يستحب التعوذ فيها ؟ على قولين ، ورجح عدم الاستحباب ، والله أعلم.
فإذا قال المستعيذ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كفى ذلك عند الشافعي وأبي حنيفة
وزاد (5) بعضهم : أعوذ بالله السميع العليم ، وقال آخرون : بل يقول : أعوذ بالله
من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم ، قاله الثوري والأوزاعي وحكي عن
بعضهم أنه يقول : أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم لمطابقة أمر الآية ولحديث الضحاك
عن ابن عباس المذكور ، والأحاديث الصحيحة ، كما تقدم ، أولى بالاتباع من هذا ،
والله أعلم.
مسألة : ثم الاستعاذة في الصلاة إنما هي للتلاوة وهو قول أبي حنيفة ومحمد. وقال
أبو يوسف :
__________
(1) في ط : "وما".
(2) في ط : "إذا".
(3) في ب : "ولا".
(4) في جـ ، ط : "لا ينبغي".
(5) زيادة من جـ ، ط ، ب.
(1/113)
بل
للصلاة ، فعلى هذا يتعوذ المأموم وإن كان لا يقرأ ، ويتعوذ في العيد بعد الإحرام
وقبل تكبيرات العيد ، والجمهور بعدها قبل القراءة.
ومن لطائف الاستعاذة أنها طهارة للفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفث ، وتطييب له
وتهيؤ لتلاوة كلام الله وهي استعانة بالله واعتراف له بالقدرة وللعبد بالضعف
والعجز عن مقاومة هذا العدو المبين الباطني الذي لا يقدر على منعه ودفعه إلا الله
الذي خلقه ، ولا يقبل مصانعة ، ولا يدارى بالإحسان ، بخلاف العدو من نوع الإنسان
كما دلت على ذلك آيات القرآن في ثلاث من المثاني ، وقال تعالى : { إِنَّ عِبَادِي
لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا } [الإسراء : 65] ، وقد
نزلت الملائكة لمقاتلة العدو البشري يوم بدر ، ومن قتله العدو البشري كان شهيدًا ،
ومن قتله العدو الباطني كان طرِيدًا ، ومن غلبه العدو الظاهر كان مأجورًا ، ومن
قهره العدو الباطن كان مفتونا أو موزورًا ، ولما كان الشيطان يرى الإنسان من حيث
لا يراه استعاذ منه بالذي يراه ولا يراه الشيطان.
فصل : والاستعاذة هي الالتجاء إلى الله والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر ،
والعياذة تكون لدفع الشر ، واللياذ يكون لطلب جلب الخير كما قال المتنبي :
يا من ألوذ به فيما أؤمله... ومن أعوذ به ممن أحاذره
لا يجبر الناس عظما أنت كاسره... ولا يهيضون عظما أنت جابره (1)
فصل معنى الاستعاذة
ومعنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، أي : أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم
أن يضرني في ديني أو دنياي ، أو يصدني عن فعل ما أمرت به ، أو يحثني على فعل ما
نهيت عنه ؛ فإن الشيطان لا يكفُّه عن الإنسان إلا الله ؛ ولهذا أمر الله تعالى
بمصانعة شيطان الإنس ومداراته (2) بإسداء الجميل إليه ، ليرده طبعه عمَّا هو فيه
من الأذى ، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجن لأنه لا يقبل رشوة ولا يؤثر فيه جميل
؛ لأنه شرير بالطبع ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه ، وهذا المعنى في ثلاث آيات من
القرآن لا أعلم لهن رابعة ، قوله في الأعراف : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ
بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين } [الأعراف : 199] ، فهذا فيما يتعلق
بمعاملة الأعداء من البشر ، ثم قال : { وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ
نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الأعراف : 200] ، وقال
تعالى في سورة " قد أفلح المؤمنون " : { ادفع بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ
هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } [المؤمنون :
96 - 98] ، وقال تعالى في سورة " حم السجدة " : { وَلا تَسْتَوِي
الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا
إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا
يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [فصلت : 34 - 36].
__________
(1) في ط : "أنعم".
(2) في جـ : "أبو إياس".
(1/114)
والشيطان
في لغة العرب مشتق من شَطَن إذا بعد ، فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر ، وبعيد بفسقه
عن كل خير ، وقيل : مشتق من شاط لأنه مخلوق من نار ، ومنهم من يقول : كلاهما صحيح
في المعنى ، ولكن الأول أصح ، وعليه يدل كلام العرب ؛ قال أمية بن أبي الصلت في
ذكر ما أوتي سليمان ، عليه (1) السلام :
أيما شاطِنٍ عصاه عكاه... ثمّ يُلْقى في السِّجْن والأغلال (2)
فقال : أيما شاطن ، ولم يقل : أيما شائط.
وقال النابغة الذبياني - وهو : زياد بن عمرو بن معاوية بن جابر بن ضباب بن يربوع
بن مرة بن سعد بن ذُبْيان - :
نأت بسعاد عنك نَوًى شَطُونُ... فبانت والفؤادُ بها رَهِينُ (3)
يقول : بعدت بها طريق بعيدة.
[وقال سيبويه : العرب تقول : تشيطن فلان إذا فَعَل فِعْل الشيطان ولو كان من شاط
لقالوا : تشيط] (4).والشيطان (5) مشتق من البعد على (6) الصحيح ؛ ولهذا يسمون كل
ما (7) تمرد من جني وإنسي وحيوان شيطانًا ، قال الله تعالى : { وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي
بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } [الأنعام : 112]. وفي مسند
الإمام أحمد ، عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: " يا أبا ذر ، تعوّذ بالله من شياطين الإنس والجن " ، فقلت : أو للإنس
شياطين ؟ قال : " نعم " (8).وفي صحيح مسلم عن أبي ذر - أيضًا - قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب
الأسود ". فقلت : يا رسول الله ، ما بال الكلب الأسود من الأحمر والأصفر (9)
فقال : " الكلب الأسود شيطان " (10).وقال ابن وهب : أخبرني هشام بن سعد
، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، أن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، ركب برْذونًا ،
فجعل يتبخْتر به ، فجعل لا يضربه فلا يزداد إلا تبخترًا ، فنزل عنه ، وقال : ما حملتموني
(11) إلا على شيطان ، ما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي. إسناده (12) صحيح (13).
__________
(1) في جـ ، ط : "من يهود".
(2) زيادة من ب.
(3) في جـ ، ط : "أجاءك".
(4) في جـ : "ما نعلمهم".
(5) في أ : "فقال".
(6) في جـ : "تسعون" ، وفي ط ، ب ، أ ، و : "ستون".
(7) في جـ : "إحدى وستون".
(8) في جـ ، أ ، و : "هل مع هذا غيره يا محمد".
(9) في جـ ، ط ، ب ، و : "ماذا".
(10) في جـ ، ط ، ب : "هذه".
(11) في جـ : "أبو إياس".
(12) في جـ : "إحدى وستون".
(13) في جـ : "أربع وثلاثين سنة".
(1/115)
والرّجيم
: فعيل بمعنى مفعول ، أي : إنه مرجوم مطرود عن الخير كله ، كما قال تعالى : {
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا
لِلشَّيَاطِينِ } [الملك : 5] ، وقال تعالى : { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ
الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا
يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ *
دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ
شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [الصافات : 6 - 10] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي
السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ
شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ
} [الحجر : 16 - 18] ، إلى غير ذلك من الآيات.
[وقيل : رجيم بمعنى راجم ؛ لأنه يرجم الناس بالوساوس والربائث والأول أشهر] (1).
{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) }.
افتتح بها الصحابةُ كتاب الله ، واتّفق العلماء على أنها بعض آية من سورَة النمل ،
ثمّ اختلفوا : هل هي آية مستقلة في أوّل كل سورة ، أو من أول كل سورة كتبت في
أوّلها ، أو أنها بعض آية من أوّل كل سورة ، أو أنها كذلك في الفاتحة دون غيرها ،
أو أنها [إنما] (2) كتبت للفصل ، لا أنها (3) آية ؟ على أقوال للعلماء سلفًا
وخلفًا ، وذلك مبسوط في غير هذا الموضع.
وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه { بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } وأخرجه الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في مستدركه أيضًا
(4) ، وروي مرسلا عن سعيد بن جُبَير. وفي صحيح ابن خزيمة ، عن أم سلمة : أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة وعدّها آية ، لكنه
من رواية عمر بن هارون البلخي ، وفيه ضعف ، عن ابن جُرَيْج ، عن ابن أبي مُلَيْكَة
، عنها (5).وروى له الدارقطني متابعًا ، عن أبي هريرة مرفوعًا (6). وروى مثله عن
علي وابن عباس وغيرهما (7).وممن حكي عنه أنها آية من كل سورة إلا براءة : ابن عباس
، وابن عمر ، وابن الزبير ، وأبو هريرة ، وعليّ. ومن التابعين : عطاء ، وطاوس ،
وسعيد بن جبير ، ومكحول ، والزهري ، وبه يقول عبد الله بن المبارك ، والشافعي ،
وأحمد بن حنبل ، في رواية عنه ، وإسحاق بن رَاهوَيه ، وأبو عبيد القاسم بن سلام ،
رحمهم الله.
__________
(1) ورواه البخاري في التاريخ الكبير (2/208) والطبري في تفسيره (1/217) من طريق
ابن إسحاق ، وأطنب العلامة أحمد شاكر في الكلام عليه في حاشية تفسير الطبري.
(2) في و : "أطم وأعظم" ، وفي أ : "أعظم وأعظم".
(3) في جـ ، : "أغرب".
(4) في جـ ، ط : "ناس".
(5) هو كعب بن مالك ، والبيت في اللسان ، مادة "ريب".
(6) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(7) في جـ ، ط ، ب : "منزل".
(1/116)
وقال
مالك وأبو حنيفة وأصحابهما : ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور ، وقال
الشافعي في قول ، في بعض طرق مذهبه : هي آية من الفاتحة وليست من غيرها ، وعنه
أنها بعض آية من أول كل سورة ، وهما غريبان.
وقال داود : هي آية مستقلة في أول كل سورة لا منها ، وهذه رواية عن الإمام أحمد بن
حنبل. وحكاه أبو بكر الرازي ، عن أبي الحسن الكرخي ، وهما من أكابر أصحاب أبي
حنيفة ، رحمهم الله (1).هذا ما يتعلق بكونها من الفاتحة أم لا. فأمَّا ما يتعلق
بالجهر بها ، فمفرّع على هذا ؛ فمن رأى أنها ليست من الفاتحة فلا يجهر بها ، وكذا
من قال : إنها آية من (2) أوّلها ، وأمَّا من قال بأنها من أوائل السور فاختلفوا ؛
فذهب الشافعي ، رحمه الله ، إلى أنه يجهر بها مع الفاتحة والسورة ، وهو مذهب طوائف
من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين سلفًا وخلفًا (3) ، فجهر بها من الصحابة أبو
هريرة ، وابن عمر ، وابن عباس ، ومعاوية ، وحكاه ابن عبد البر ، والبيهقي عن عمر
وعليّ ، ونقله الخطيب عن الخلفاء الأربعة ، وهم : أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ ، وهو
غريب. ومن التابعين عن سعيد بن جبير ، وعِكْرِمة ، وأبي قِلابة ، والزهري ، وعليّ
بن الحسين ، وابنه محمد ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، وسالم ،
ومحمد بن كعب القرظي ، وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وأبي وائل ، وابن سيرين
، ومحمد بن المنْكَدِر ، وعلي بن عبد الله بن عباس ، وابنه محمد ، ونافع مولى ابن
عمر ، وزيد بن أسلم ، وعمر بن عبد العزيز ، والأزرق بن قيس ، وحبيب بن أبي ثابت ،
وأبي الشعثاء ، ومكحول ، وعبد الله بن مَعْقِل بن مُقَرِّن. زاد البيهقيّ : وعبد
الله بن صفوان ، ومحمد بن الحنفية. زاد ابن عبد البر : وعمرو بن دينار.
والحُجَّة في ذلك أنها بعض الفاتحة ، فيجهر بها كسائر أبعاضها ، وأيضًا فقد روى
النسائي في سننه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما ، والحاكم في مستدركه ، عن أبي
هريرة أنه صلى فجهر في قراءته بالبسملة ، وقال بعد أن فرغ : إني لأشبهكم صلاة برسول
الله صلى الله عليه وسلم. وصححه الدارقطني والخطيب والبيهقي وغيرهم (4).
وروى أبو داود والترمذي ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يفتتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم. ثم قال الترمذي : وليس إسناده بذاك (5).
وقد رواه الحاكم في مستدركه ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، ثم قال : صحيح (6) وفي صحيح البخاري ، عن أنس بن
مالك أنه سئل عن قراءة
__________
(1) زيادة من جـ ، ط.
(2) في جـ ، ب : "نور".
(3) في جـ : "يعني نورا للمؤمنين".
(4) في جـ : "يتعوذون".
(5) زيادة من جـ ، ط ، ب.
(6) في ب : "البأس".
(1/117)
رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال : كانت قراءته مدا ، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم
، يمد بسم الله ، ويمد الرحمن ، ويمد الرحيم (1).
وفي مسند الإمام أحمد ، وسنن أبي داود ، وصحيح ابن خزيمة ، ومستدرك الحاكم ، عن أم
سلمة ، قالت (2) : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته : بسم الله
الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين. وقال
الدارقطني : إسناده صحيح (3).
وروى الشافعي ، رحمه الله ، والحاكم في مستدركه ، عن أنس : أن معاوية صلى بالمدينة
، فترك البسملة ، فأنكر عليه من حضره من المهاجرين ذلك ، فلما صلى المرّة الثانية
بسمل (4).
وفي هذه الأحاديث ، والآثار التي أوردناها كفاية ومقنع في الاحتجاج لهذا القول عما
عداها ، فأما المعارضات والروايات الغريبة ، وتطريقها ، وتعليلها وتضعيفها ،
وتقريرها ، فله موضع آخر.
وذهب آخرون إلى أنه لا يجهر بالبسملة في الصلاة ، وهذا هو الثابت عن الخلفاء
الأربعة وعبد الله بن مغفل ، وطوائف من سلف التابعين والخلف ، وهو مذهب أبي حنيفة
، والثوري ، وأحمد بن حنبل.
وعند الإمام مالك : أنه لا يقرأ البسملة بالكلية ، لا جهرًا ولا سرًا ، واحتجوا
بما في صحيح مسلم ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير ، والقراءة بالحمد لله رب العالمين (5). وبما في
الصحيحين ، عن أنس بن مالك ، قال : صلَّيْتُ خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأبي
بكر وعمر وعثمان ، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين. ولمسلم : لا يذكرون
بسم الله الرحمن الرحيم في أوّل قراءة ولا في آخرها (6). ونحوه في السنن عن عبد
الله بن مُغَفَّل ، رضي الله عنه (7).
فهذه مآخذ الأئمة ، رحمهم الله ، في هذه المسألة وهي قريبة ؛ لأنهم أجمعوا على صحة
صلاة من جهر بالبسملة ومن أسر ، ولله الحمد والمنة (8). فصل
في فضلها
قال الإمام العالم الحبر العابد أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم ، رحمه الله ، في
تفسيره :
__________
(1) سنن الترمذي برقم (2451) وسنن ابن ماجه برقم (4215).
(2) تفسير ابن أبي حاتم (1/33) وفي إسناده ميمون القصاب ضعيف.
(3) سنن ابن ماجة برقم (1857) من طريق عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن زيد عن
القاسم ، عن أبي أمامة رضي الله عنه ، وقال البوصيري في الزوائد (2/70) :
"هذا إسناد فيه علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف ، وعثمان بن أبي العاتكة مختلف
فيه".
(4) في جـ ، ط : "وأفردنا".
(5) في جـ ، ط : "رسول الله".
(6) في أ : "بأن".
(7) في أ : "زيد".
(8) سنن سعيد بن منصور برقم (180) تحقيق د. الحميد.
(1/118)
حدثنا
أبي ، حدثنا جعفر بن مسافر ، حدثنا زيد بن المبارك الصنعاني ، حدثنا سلام بن وهب
الجَنَديّ ، حدثنا أبي ، عن طاوس ، عن ابن عباس ؛ أن عثمان بن عفان سأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن بسم الله الرحمن الرحيم. فقال : "هو اسم من أسماء الله
، وما بينه وبين اسم الله الأكبر ، إلا كما بين سواد العينين وبياضهما (1) من
القرب".
وهكذا رواه أبو بكر بن مَرْدُويه ، عن سليمان بن أحمد ، عن عليّ بن المبارك ، عن
زيد بن المبارك ، به (2).
وقد روى الحافظ ابن مَرْدُويه من طريقين ، عن إسماعيل بن عياش ، عن إسماعيل بن
يحيى ، عن مِسْعَر ، عن عطية ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "إن عيسى ابن مريم أسلمته أمه إلى الكتَّاب ليعلمه ، فقال المعلم :
اكتب ، قال (3) ما أكتب ؟ قال : بسم الله ، قال له عيسى : وما باسم الله ؟ قال
المعلم : ما أدري (4). قال له عيسى : الباء بَهاءُ الله ، والسين سناؤه ، والميم
مملكته ، والله إله الآلهة ، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة ، والرحيم رحيم
الآخرة".
وقد رواه ابن جرير من حديث إبراهيم بن العلاء الملقب : زِبْرِيق ، عن إسماعيل بن
عياش ، عن إسماعيل بن يحيى ، عن ابن أبي مُلَيْكة ، عمن حدثه ، عن ابن مسعود ،
ومسعر ، عن عطية ، عن أبي سعيد ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكره (5). وهذا
غريب جدًا ، وقد يكون صحيحًا إلى من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويكون من
الإسرائيليات لا من المرفوعات ، والله أعلم.
وقد روى جُوَيبر (6) ، عن الضحَّاك ، نحوه من قبله.
وقد روى ابن مَرْدُويه ، من حديث يزيد بن خالد ، عن سليمان بن بريدة ، وفي رواية
عن عبد الكريم أبي (7) أمية ، عن ابن بريدة ، عن أبيه ؛ أن رسول الله (8) صلى الله
عليه وسلم قال : "أنزلت عليّ آية لم تنزل على نبي غير سليمان بن داود وغيري ،
وهي بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" (9).
وروي بإسناده عن عبد الكبير (10) بن المعافى بن عمران ، عن أبيه ، عن عمر بن ذَرّ
، عن عطاء بن أبي رباح ، عن جابر بن عبد الله ، قال : لما نزل { بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } هرب الغيم إلى المشرق ، وسكنت الرياح ، وهاج البحر ،
وأصغت البهائم بآذانها ، ورُجِمت الشياطين من السماء ،
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (1/34) والمستدرك (2/260).
(2) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(3) في هـ : "أسد".
(4) في جـ : "فعدنا".
(5) في جـ : "أأحد".
(6) المسند (4/106) قال الحافظ ابن حجر في الإصابة (4/33) : "واختلف فيه على
الأوزاعي ، فقال الأكثر : عن أسيد عن خالد بن دريك عن ابن محيريز. وقال ابن شماسة
: عن الأوزاعي عن أسيد عن صالح بن محمد حدثني أبو جمعة به" وقال في فتح
الباري (7/6) : "إسناده حسن".
(7) في جـ : "انصرفنا".
(8) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (4/23) عن بكر بن سهل عن عبد الله بن صالح
به.
(9) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (4/23) من طريق ضمرة بن ربيعة به.
(10) جزء الحسن بن عرفة برقم (19).
(1/119)
وحلف
الله تعالى بعزته وجلاله (1) ألا يسمى اسمه على شيء إلا بارك فيه (2).
[وقال وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قال : من أراد أن ينجيه الله من
الزبانية التسعة عشر فليقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم ، ليجعل الله له من كل حرف
منها جنة من كل واحد ، ذكره ابن عطية والقرطبي (3) ووجهه ابن عطية ونصره بحديث :
"فقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها" (4) لقول الرجل : ربنا ولك
الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، من أجل أنها بضعة وثلاثون حرفا وغير ذلك] (5).
وقال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عاصم ،
قال : سمعت أبا تميمة يحدث ، عن رديف النبي صلى الله عليه وسلم قال : عثر بالنبي
صلى الله عليه وسلم ، فقلت : تَعِس الشيطان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
"لا تقل تعس الشيطان. فإنك إذا قلت : تعس الشيطان تعاظم ، وقال : بقوتي صرعته
، وإذا قلت : باسم الله ، تصاغر حتى يصير مثل الذباب".
هكذا وقع في رواية الإمام أحمد (6) وقد روى (7) النسائي في اليوم والليلة ، وابن
مَرْدُويه في تفسيره ، من حديث خالد الحذاء ، عن أبي تميمة هو الهجيمي ، عن أبي
المليح بن أسامة بن عمير ، عن أبيه ، قال : كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم
فذكره وقال : "لا تقل هكذا ، فإنه يتعاظم حتى يكون كالبيت ، ولكن قل : بسم
الله ، فإنه يصغر حتى يكون كالذبابة" (8).فهذا من تأثير بركة بسم الله ؛
ولهذا تستحب في أوّل كل عمل وقول. فتستحب في أوّل الخطبة لما جاء : "كل أمر
(9) لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم ، فهو أجذم" (10) ، [وتستحب البسملة
عند دخول الخلاء ولما ورد من الحديث في ذلك (11) ] (12) ، وتستحب في أوّل الوضوء
لما جاء في مسند الإمام أحمد والسنن ، من رواية أبي هريرة ، وسعيد بن زيد ، وأبي
سعيد مرفوعًا : "لا وضوء لمن لم
__________
(1) مسند أبي يعلى (1/147) والمستدرك (4/85) وتعقب الذهبي الحاكم فقال : "بل
ضعفوه".
(2) رواه البزار في مسنده (2840) "كشف الأستار" من طريق سعيد بن بشير ،
عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه ، وقال : "غريب من حديث أنس".
(3) في هـ : "نويلة".
(4) في جـ : "المسجد الأقصى".
(5) في جـ ، ط : "بيت الله".
(6) في طـ ، ب ، أ ، و : "مستقبلوا".
(7) تفسير ابن أبي حاتم (1/36) وفي إسناده إسحاق بن إدريس قال البخاري :
"تركه الناس". وقال ابن معين : "يضع الحديث". ورواه الطبراني
في المعجم الكبير (24/207) من طريق إبراهيم بن حمزة الزبيري ، عن إبراهيم بن جعفر
عن أبيه به نحوه.
(8) في جـ ، ط : "إقام".
(9) في جـ ، ط ، ب : "تمام".
(10) في طـ : "إقام".
(11) في جـ : "لها".
(12) في جـ : "وإتمام الركوع والسجود".
(1/120)
يذكر
اسم الله عليه" (1) ، وهو حديث حسن. ومن العلماء من أوجبها عند الذكر هاهنا ،
ومنهم من قال بوجوبها مطلقًا ، وكذا تستحب عند الذبيحة في مذهب الشافعي وجماعة ،
وأوجبها آخرون عند الذكر ، ومطلقا في قول بعضهم ، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء
الله ، وقد ذكر الرازي في تفسيره في فضل البسملة أحاديث منها : عن أبي هريرة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا أتيت أهلك فسم الله ؛ فإنه إن ولد
لك ولد كتب لك بعدد أنفاسه وأنفاس ذريته حسنات" وهذا لا أصل له ، ولا رأيته
في شيء من الكتب المعتمد عليها ولا غيرها.
وهكذا تستحب عند الأكل لما في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
لربيبه عمر بن أبي سلمة : "قل : باسم الله ، وكل بيمينك ، وكل مما يليك"
(2). ومن العلماء من أوجبها والحالة هذه ، وكذلك تستحب عند الجماع لما في الصحيحين
، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لو أن أحدكم إذا أتى
أهله قال : باسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان ، وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن
يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدًا" (3).
ومن هاهنا ينكشف لك أن القولين عند النحاة في تقدير المتعلق بالباء في قولك : باسم
الله ، هل هو اسم أو فعل متقاربان وكل قد ورد به القرآن ؛ أما من قدره باسم ،
تقديره : باسم الله ابتدائي ، فلقوله تعالى : { وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ
اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [هود : 41] ،
ومن قدره بالفعل [أمرًا وخبرًا نحو : أبدَأ ببسم الله أو ابتدأت ببسم الله] (4) ،
فلقوله : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [العلق : 1] وكلاهما صحيح ،
فإن الفعل لا بُدّ له من مصدر ، فلك أن تقدر الفعل ومصدره ، وذلك بحسب الفعل الذي
سميت قبله ، إن كان قيامًا أو قعودًا أو أكلا أو شربًا أو قراءة أو وضوءًا أو صلاة
، فالمشروع ذكر [اسم] (5) الله في الشروع في ذلك كله ، تبركًا وتيمنًا واستعانة
على الإتمام والتقبل ، والله أعلم ؛ ولهذا روى ابن جرير وابن أبي حاتم ، من حديث
بشر بن عُمَارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : إن أوّل ما نزل به
جبريل على محمد (6) صلى الله عليه وسلم قال : "يا محمد قل : أستعيذ بالسميع
العليم من الشيطان الرجيم ، ثم قال : قل : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ } قال : قال له جبريل : قل : باسم الله يا محمد ، يقول : اقرأ بذكر
الله ربك ، وقم ، واقعد بذكر الله. [هذا] (7) لفظ ابن جرير (8).
وأما مسألة الاسم : هل هو المسمى أو غيره ؟ ففيها للناس ثلاثة أقوال :
[أحدها : أن الاسم هو المسمى ، وهو قول أبي عبيدة وسيبويه ، واختاره الباقلاني
وابن فورك ، وقال فخر الدين الرازي - وهو محمد بن عمر المعروف بابن خطيب الري - في
مقدمات تفسيره :
__________
(1) في جـ : "النبي".
(2) في جـ ، ط ، ب : "قربانا".
(3) صحيح البخاري برقم (8) وصحيح مسلم برقم (16).
(4) البيت في تفسير الطبري (1/242).
(5) في ب : "الآخر".
(6) البيت في تفسير الطبري (1/242).
(7) زيادة من ط.
(8) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "فيها".
(1/121)
قالت
الحشوية والكرامية والأشعرية : الاسم نفس المسمى وغير التسمية ، وقالت المعتزلة :
الاسم غير المسمى ونفس التسمية ، والمختار عندنا : أن الاسم غير المسمى وغير
التسمية ، ثم نقول : إن كان المراد بالاسم هذا اللفظ الذي هو أصوات مقطعة وحروف
مؤلفة ، فالعلم الضروري حاصل أنه غير المسمى ، وإن كان المراد بالاسم ذات المسمى ،
فهذا يكون من باب إيضاح الواضحات وهو عبث ، فثبت أن الخوض في هذا البحث على جميع
التقديرات يجري مجرى العبث.
ثم شرع يستدل على مغايرة الاسم للمسمى ، بأنه قد يكون الاسم موجودًا والمسمى مفقودًا
كلفظة المعدوم ، وبأنه قد يكون للشيء أسماء متعددة كالمترادفة وقد يكون الاسم
واحدًا والمسميات متعددة كالمشترك ، وذلك دال على تغاير الاسم والمسمى ، وأيضا
فالاسم لفظ وهو عرض والمسمى قد يكون ذاتا ممكنة أو واجبة بذاتها ، وأيضًا فلفظ
النار والثلج لو كان هو المسمى لوجد اللافظ بذلك حر النار أو برد الثلج ونحو ذلك ،
ولا يقوله عاقل ، وأيضا فقد قال الله تعالى : { وللهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى
فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف : 180] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن
لله تسعة وتسعين اسمًا" (1) ، فهذه أسماء كثيرة والمسمى واحد وهو الله تعالى
، وأيضا فقوله : { وللهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى } أضافها إليه ، كما قال : {
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [الواقعة : 74 ، 96] ونحو ذلك. والإضافة
تقتضي المغايرة وقوله : { فَادْعُوهُ بِهَا } أي : فادعوا الله بأسمائه ، وذلك
دليل على أنها غيره ، واحتج من قال : الاسم هو المسمى ، بقوله تعالى : { تَبَارَكَ
اسْمُ رَبِّكَ } [الرحمن : 78] والمتبارك هو الله. والجواب : أن الاسم معظم لتعظيم
الذات المقدسة ، وأيضا فإذا قال الرجل : زينب طالق ، يعني امرأته طالق ، طلقت ،
ولو كان الاسم غير المسمى لما وقع الطلاق ، والجواب : أن المراد أن الذات المسماة
بهذا الاسم طالق. قال الرازي : وأما التسمية فإنها جعل الاسم معينا لهذه الذات فهي
غير الاسم أيضا ، والله أعلم] (2).
{ الله } عَلَمٌ على الرب تبارك وتعالى ، يقال : إنه الاسم الأعظم ؛ لأنه يوصف
بجميع الصفات ، كما قال تعالى : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ
الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ
الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا
يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ
الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ } [الحشر : 22 - 24] ، فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات له ، كما قال
تعالى : { وللهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } وقال تعالى : { قُلْ
ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ
الْحُسْنَى } [الإسراء : 110] وفي الصحيحين ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : "إن لله تسعة وتسعين اسما ، مائة إلا واحدًا من أحصاها
دخل الجنة" (3) ، وجاء تعدادها في رواية الترمذي ، [وابن
__________
(1) في أ ، و : "حاجاته".
(2) في أ : "في".
(3) في أ : "يكشفا".
(1/122)
ماجه
(1) وبين (2) الروايتين اختلاف زيادات ونقصان ، وقد ذكر فخر الدين الرازي في
تفسيره عن بعضهم أن لله خمسة آلاف اسم : ألف في الكتاب والسنة الصحيحة ، وألف في
التوراة ، وألف في الإنجيل ، وألف في الزبور ، وألف في اللوح المحفوظ] (3).
وهو اسم لم يسم به غيره تبارك وتعالى ؛ ولهذا لا يعرف في كلام العرب له اشتقاق من
فعل ويفعل ، فذهب من ذهب من النحاة إلى أنه اسم جامد لا اشتقاق له. وقد نقل
القرطبي عن جماعة من العلماء منهم الشافعي والخطابي وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم
، وروي عن الخليل وسيبويه أن الألف واللام فيه لازمة. قال الخطابي : ألا ترى أنك
تقول : يا الله ، ولا تقول : يا الرحمن ، فلولا أنه من أصل الكلمة لما جاز إدخال
حرف النداء على الألف واللام (4).وقيل : إنه مشتق ، واستدلوا عليه بقول رؤْبَة بن
العَجّاج :
لله در الغانيات المُدّه... سبحن واسترجعن من تألهي (5)
فقد صرح الشاعر بلفظ المصدر ، وهو التأله ، من أله يأله إلاهة وتألهًا ، كما روي
أن ابن عباس قرأ : "ويذرك وَإلاهَتَك" قال : عبادتك ، أي : أنه كان
يُعْبَد ولا يَعْبُد ، وكذا قال مجاهد وغيره.
وقد استدل بعضهم على كونه مشتقا بقوله : { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي
الأرْضِ } [الأنعام : 3] أي : المعبود في السماوات والأرض ، كما قال : { وَهُوَ
الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ } [الزخرف : 84] ، ونقل
سيبويه عن الخليل : أن أصله : إلاه ، مثل فعال ، فأدخلت الألف واللام بدلا من
الهمزة ، قال سيبويه : مثل الناس ، أصله : أناس ، وقيل : أصل الكلمة : لاه ، فدخلت
الألف واللام للتعظيم وهذا اختيار سيبويه. قال الشاعر :
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب... عني ولا أنت دياني فتخزوني (6)
قال القرطبي : بالخاء المعجمة ، أي : فتسوسني ، وقال الكسائي والفراء : أصله :
الإله حذفوا الهمزة وأدغموا اللام الأولى في الثانية ، كما قال : { لَكِنَّا هُوَ
اللَّهُ رَبِّي } [الكهف : 38] أي : لكن أنا ، وقد قرأها كذلك الحسن ، قال القرطبي
: ثم قيل : هو مشتق من وله : إذا تحير ، والوله ذهاب العقل ؛ يقال : رجل واله ،
وامرأة ولهى ، وماء موله : إذا أرسل في الصحاري ، فالله تعالى تتحير أولو الألباب
والفكر في حقائق صفاته ، فعلى هذا يكون أصله : ولاه ، فأبدلت الواو همزة ، كما
قالوا في وشاح : أشاح ، ووسادة : أسادة ، وقال فخر الدين الرازي : وقيل : إنه مشتق
من ألهت إلى فلان ، أي : سكنت إليه ، فالعقول لا تسكن إلا إلى ذكره ، والأرواح لا
تفرح إلا بمعرفته ؛ لأنه الكامل على الإطلاق دون
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(2) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "أحدها".
(3) في جـ ، ط ، ب : "لمؤمني".
(4) صحيح البخاري برقم (97) وصحيح مسلم برقم (154).
(5) زيادة من جـ ، ط.
(6) زيادة من جـ ، ط.
(1/123)
غيره
قال الله تعالى : { أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [الرعد : 28]
قال : وقيل : من لاه يلوه : إذا احتجب. وقيل : اشتقاقه من أله الفصيل ، إذ ولع
بأمه ، والمعنى : أن العباد مألوهون مولعون بالتضرع إليه في كل الأحوال ، قال :
وقيل : مشتق من أله الرجل يأله : إذا فزع من أمر نزل به فألهه ، أي : أجاره ،
فالمجير لجميع الخلائق من كل المضار هو الله سبحانه ؛ لقوله تعالى : " {
وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ } [المؤمنون : 88] ، وهو المنعم لقوله : {
وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } [النحل : 53] وهو المطعم لقوله : { وَهُوَ
يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ } [الأنعام : 14] وهو الموجد لقوله : { قُلْ كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ } [النساء : 78].
وقد اختار فخر الدين أنه اسم علم غير مشتق البتة ، قال : وهو قول الخليل وسيبويه
وأكثر الأصوليين والفقهاء ، ثم أخذ يستدل على ذلك بوجوه :
منها : أنه لو كان مشتقًا لاشترك في معناه كثيرون ، ومنها : أن بقية الأسماء تذكر
صفات له ، فتقول : الله الرحمن الرحيم الملك القدوس ، فدل أنه ليس بمشتق ، قال :
فأما قوله تعالى : { الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ } [إبراهيم : 1 ، 2] على قراءة
الجر فجعل ذلك من باب عطف البيان ، ومنها قوله تعالى : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ
سَمِيًّا } [مريم : 65] ، وفي الاستدلال بهذه على كون هذا الاسم جامدًا غير مشتق
نظر ، والله أعلم.
وحكى فخر الدين عن بعضهم أنه ذهب إلى أن اسم الله تعالى عبراني لا عربي ، ثم ضعفه
، وهو حقيق بالتضعيف كما قال ، وقد حكى فخر الدين هذا القول ثم قال : واعلم أن
الخلق قسمان : واصلون إلى ساحل بحر المعرفة ، ومحرومون قد بقوا في ظلمات الحيرة
وتيه الجهالة ؛ فكأنهم قد فقدوا عقولهم وأرواحهم ، وأما الواجدون فقد وصلوا إلى
عرصة النور وفسحة الكبرياء والجلال ، فتاهوا في ميادين الصمدية ، وبادوا في عرصة
الفردانية ، فثبت أن الخلق كلهم والهون في معرفته ، وروي عن الخليل بن أحمد أنه
قال : لأن الخلق يألهون إليه بنصب اللام وجرها لغتان ، وقيل : إنه مشتق من
الارتفاع ، فكانت العرب تقول لكل شيء مرتفع : لاها ، وكانوا يقولون إذا طلعت الشمس
: لاهت.
وأصل ذلك الإله ، فحذفت الهمزة التي هي فاء الكلمة ، فالتقت اللام التي هي عينها
مع اللام الزائدة في أوّلها للتعريف فأدغمت إحداهما في الأخرى ، فصارتا في اللفظ
لامًا واحدة مشددة ، وفخمت تعظيما ، فقيل : الله.
{ الرحمن الرحيم } اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة ، ورحمن أشد مبالغة من
رحيم ، وفي كلام ابن جرير ما يُفْهِم حكاية الاتفاق على هذا ، وفي تفسير بعض السلف
ما يدل على ذلك ، كما تقدم في الأثر ، عن عيسى عليه السلام ، أنه قال : والرحمن
رحمن الدنيا والآخرة ، والرحيم رحيم الآخرة.
(1/124)
وقد
زعم بعضهم أنه غير مشتق إذ لو كان كذلك لاتصل بذكر المرحوم وقد قال : { وَكَانَ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } [الأحزاب : 43] ، وحكى ابن الأنباري في الزاهر عن
المبرد : أن الرحمن اسم عبراني ليس بعربي ، وقال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن
: وقال أحمد بن يحيى : الرحيم عربي ، والرحمن عبراني ، فلهذا جمع بينهما. قال أبو
إسحاق : وهذا القول مرغوب عنه (1). وقال القرطبي : والدليل على أنه مشتق ما خرجه
الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
: "قال الله تعالى : أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسمًا من اسمي ، فمن
وصلها وصلته ومن قطعها قطعته" (2). قال : وهذا نص في الاشتقاق فلا معنى
للمخالفة والشقاق.
قال : وإنكار العرب لاسم الرحمن لجهلهم بالله وبما وجب له ، قال القرطبي : هما
بمعنى واحد كندمان ونديم قاله أبو عبيد ، وقيل : ليس بناء فعلان كفعيل ، فإن فعلان
لا يقع إلا على مبالغة الفعل نحو قولك : رجل غضبان ، وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل
والمفعول ، قال أبو علي الفارسي : الرحمن : اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به
الله تعالى ، والرحيم إنما هو من جهة المؤمنين ، قال الله تعالى : { وَكَانَ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } [الأحزاب : 43] ، وقال ابن عباس : هما اسمان رقيقان ،
أحدهما أرق من الآخر ، أي أكثر رحمة ، ثم حكي عن الخطابي وغيره : أنهم استشكلوا
هذه الصفة ، وقالوا : لعله أرفق كما جاء في الحديث : "إن الله رفيق يحب الرفق
في الأمر كله وإنه يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف" (3). وقال ابن
المبارك : الرحمن إذا سئل أعطى ، والرحيم إذا لم يسأل يغضب ، وهذا كما جاء في
الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي صالح الفارسي الخوزي عن أبي هريرة
، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من لم يسأل الله
يغضب عليه" (4) ، وقال بعض الشعراء :
لا تطلبن بني آدم حاجة... وسل الذي أبوابه لا تغلق (5)
الله يغضب إن تركت سؤاله... وبني آدم حين يسأل يغضب
__________
(1) في جـ : "بما في أيديهم".
(2) في طـ ، ب ، أ ، و : "بما".
(3) صحيح البخاري برقم (4485 ، 7362) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) زيادة من طـ ، ب.
(5) تفسير الطبري (1/249).
(1/125)
قال
(1) ابن جرير : حدثنا السري بن يحيى التميمي ، حدثنا عثمان بن زُفَر ، سمعت
العَرْزَميّ يقول : الرحمن الرحيم ، قال : الرحمن لجميع الخلق ، الرحيم ، قال :
بالمؤمنين. قالوا : ولهذا قال : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ }
[الفرقان : 59] وقال : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه : 5] فذكر
الاستواء باسمه الرحمن ليعم جميع خلقه برحمته ، وقال : { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ
رَحِيمًا } [الأحزاب : 43] فخصهم باسمه الرحيم ، قالوا : فدل على أن الرحمن أشد
مبالغة في الرحمة لعمومها في الدارين لجميع خلقه ، والرحيم خاصة بالمؤمنين ، لكن
جاء في الدعاء المأثور : رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.
واسمه تعالى الرحمن خاص به لم يُسم به غيره كما قال تعالى : { قُلِ ادْعُوا
اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ
الْحُسْنَى } وقال تعالى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } ولما تجهرم
مسيلمة الكذاب وتسمى برحمن اليمامة كساه الله جلباب الكذب وشهر به ؛ فلا يقال إلا
مسيلمة الكذاب ، فصار يُضرب به المثل في الكذب بين أهل الحضر من أهل المدر ، وأهل
الوبر من أهل البادية والأعراب.
وقد زعم بعضهم أن الرحيم أشد مبالغة من الرحمن ؛ لأنه أكد به ، والتأكيد (2) لا
يكون إلا أقوى من المؤكَّد ، والجواب أن هذا ليس من باب التوكيد (3) ، وإنما هو من
باب النعت [بعد النعت] (4) ولا يلزم فيه ما ذكروه ، وعلى هذا فيكون تقدير اسم الله
الذي لم يسم به أحد غيره ، ووصفه أولا بالرحمن الذي منع من التسمية به لغيره ، كما
قال تعالى : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا
فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الإسراء : 110]. وإنما تجهرم مسيلمة اليمامة في
التسمي به ولم يتابعه على ذلك إلا من كان معه في الضلالة. وأما الرحيم فإنه تعالى
وصف به غيره حيث قال : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ
مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [التوبة :
128] كما وصف غيره بذلك من أسمائه في قوله : { إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ
نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } [الإنسان : 2].
والحاصل : أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره ، ومنها ما لا يسمى به غيره ، كاسم
الله والرحمن والخالق والرزاق ونحو ذلك ؛ فلهذا بدأ باسم الله ، ووصفه بالرحمن ؛
لأنه أخص وأعرف من الرحيم ؛ لأن التسمية أولا إنما تكون بأشرف (5) الأسماء ، فلهذا
ابتدأ بالأخص فالأخص.
فإن قيل : فإذا كان الرحمن أشد مبالغة ؛ فهلا اكتفى به عن الرحيم ؟ فقد روي عن
عطاء الخراساني ما معناه : أنه لما تسمى غيره تعالى بالرحمن ، جيء بلفظ الرحيم
ليقطع التوهم بذلك ، فإنه لا يوصف بالرحمن الرحيم إلا الله تعالى. كذا رواه ابن
جرير عن عطاء. ووجهه بذلك ، والله أعلم.
وقد زعم بعضهم أن العرب لا تعرف الرحمن ، حتى رد الله عليهم ذلك بقوله : { قُلِ
ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ
الْحُسْنَى } [الإسراء : 110] ؛ ولهذا قال كفار قريش يوم الحديبية لما قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم لعَلي : "اكتب { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ } " ، فقالوا : لا نعرف الرحمن ولا الرحيم. رواه البخاري (6) ،
وفي بعض الروايات : لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة. وقال تعالى : { وَإِذَا
قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا
تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا } [الفرقان : 60].
__________
(1) زيادة من جـ ، ب ، أ ، و.
(2) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "مقتطعا".
(3) زيادة من جـ ، ط ، ب.
(4) تفسير ابن أبي حاتم (1/40).
(5) في جـ : "إلا أنه من".
(6) في جـ ، ط ، ب : "وقد".
(1/126)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
والظاهر
أن إنكارهم هذا إنما هو جُحود وعناد وتعنت في كفرهم ؛ فإنه قد وجد في أشعارهم في
الجاهلية (1) تسمية الله تعالى بالرحمن ، قال ابن جرير : وقد أنشد لبعض الجاهلية
الجُهَّال (2) ألا ضَرَبَتْ تلك الفتاةُ هَجِينَها... ألا قَضَبَ الرحمنُ رَبى
يمينها (3)
وقال سلامة بن جندب الطهوي :
عَجِلتم علينا عَجْلَتينَا عليكُمُ... وما يَشَأ الرّحْمَن يَعْقِد ويُطْلِقِ (4)
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا عثمان بن سعيد ، حدثنا بشر بن عمارة ،
حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : الرحمن : الفعلان من
الرحمة ، وهو من كلام العرب ، وقال : { الرحمن الرحيم } [الفاتحة : 3] الرقيق
الرفيق بمن أحب أن يرحمه ، والبعيد الشديد على من أحب أن يعنف عليه ، وكذلك أسماؤه
كلها.
وقال ابن جرير أيضًا : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا حماد بن مَسْعَدة ، عن عوف ، عن
الحسن ، قال : الرحمن اسم ممنوع (5).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد [بن] (6) يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا زيد بن
الحباب ، حدثني أبو الأشهب ، عن الحسن ، قال : الرحمن : اسم لا يستطيع الناس أن
ينتحلوه ، تسمى به تبارك وتعالى (7).
وقد جاء في حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقطع قرآنه حرفًا
حرفًا { بسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } (8) ، فقرأ
بعضهم كذلك وهم طائفة من الكوفيين ومنهم من وصلها بقوله : { الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ } وكسرت الميم لالتقاء الساكنين وهم الجمهور. وحكى الكسائي عن
بعض العرب أنها تقرأ بفتح الميم وصلة الهمزة فيقولون : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فنقلوا حركة الهمزة إلى
الميم بعد تسكينها كما قرئ (9) قوله تعالى : { الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ }
قال ابن عطية : ولم ترد بهذه قراءة عن أحد فيما علمت (10). { الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) }.
القراء السبعة على ضم الدال من قوله : { الحمدُ لِله } وهو مبتدأ وخبر. وروي عن
سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج أنهما قالا "الحمدَ لِله" بالنصب وهو
على إضمار فعل ، وقرأ ابن أبي
__________
(1) في جـ : "وتفسيره" ، وفي طـ ، ب : "ويفسره".
(2) في جـ : "القسم".
(3) تفسير ابن أبي حاتم (1/42).
(4) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(5) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "وقال : الطبع ينبت الذنوب على القلب فحفت
به".
(6) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "هذا".
(7) في طـ ، ب : "قال : ثم".
(8) في جـ ، ط ، ب : "وكانوا".
(9) في جـ : "يرفع".
(10) في جـ ، ط : "قال ابن جرير"
(1/127)
عبلة
: "الحمدُ لُله" بضم الدال واللام إتباعًا للثاني الأول وله شواهد لكنه
شاذ ، وعن الحسن وزيد بن علي : "الحمدِ لِله" بكسر الدال إتباعًا للأول
الثاني.
قال أبو جعفر بن جرير : معنى { الحمد لله } الشكر لله خالصًا دون سائر ما يعبد من
دونه ، ودون كل ما برأ من خلقه ، بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها
العدد ، ولا يحيط بعددها غيره أحد ، في تصحيح الآلات لطاعته ، وتمكين جوارح أجسام
المكلفين لأداء فرائضه ، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق ، وغذَّاهم به من نعيم
العيش ، من غير استحقاق منهم ذلك عليه ، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه ، من
الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم ، فلربنا الحمد
على ذلك كله أولا وآخرًا.
[وقال ابن جرير : { الحمد لله } ثناء أثنى به على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن
يثنوا عليه فكأنه قال : قولوا : { الحمد لله } ] (1).
قال : وقد قيل : إن قول القائل : الحمد لله ، "ثناء عليه بأسمائه وصفاته
الحسنى (2) ، وقوله : الشكر لله ثناء عليه بنعمه وأياديه ، ثم شرع في رد ذلك بما
حاصله أن جميع أهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلا من الحمد والشكر مكان (3)
الآخر.
[وقد نقل السلمي هذا المذهب أنهما سواء عن جعفر الصادق وابن عطاء من الصوفية. وقال
ابن عباس : { الحمد لله } كلمة كل شاكر ، وقد استدل القرطبي لابن جرير بصحة قول
القائل : { الحمد لله } شكرًا (4) ] (5).
وهذا الذي ادعاه ابن جرير فيه نظر ؛ لأنه اشتهر عند كثير من العلماء من المتأخرين
أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية ، والشكر لا يكون
إلا على المتعدية ، ويكون بالجنان واللسان والأركان ، كما قال الشاعر :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة... يدي ولساني والضمير المحجبا
ولكنهم (6) اختلفوا : أيهما أعم ، الحمد أو الشكر ؟ على قولين ، والتحقيق أن
بينهما عمومًا وخصوصًا ، فالحمد أعم من الشكر من حيث ما يقعان عليه ؛ لأنه يكون
على الصفات اللازمة والمتعدية ، تقول : حَمدته لفروسيته وحمدته لكرمه. وهو أخص
لأنه لا يكون إلا بالقول ، والشكر أعم من حيث ما يقعان عليه (7) ، لأنه يكون
بالقول والعمل (8) والنية ، كما تقدم ، وهو أخص لأنه لا يكون إلا على الصفات
المتعدية ، لا يقال : شكرته لفروسيته ، وتقول : شكرته على كرمه وإحسانه إليّ. هذا
حاصل ما حرره بعض المتأخرين ، والله أعلم.
وقال أبو نصر إسماعيل بن حَمَّاد الجوهري : الحمد نقيض الذم ، تقول : حَمِدت الرجل
أحمده حمدًا
__________
(1) في جـ : "ما صح به بنظره".
(2) تفسير الطبري (1/260).
(3) سنن الترمذي برقم (3334) وسنن النسائي الكبرى برقم (11658) وسنن ابن ماجة برقم
(4244).
(4) في أ ، و : "منها".
(5) في جـ : "فلذلك".
(6) في و : "ذكره الله".
(7) في جـ : "إلى نقض".
(8) في جـ : "فلذلك".
(1/128)
ومحمدة
(1) ، فهو حميد ومحمود ، والتحميد أبلغ من الحمد ، والحمد أعم من الشكر. وقال في
الشكر : هو الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف ، يقال : شكرته ، وشكرت له.
وباللام أفصح (2).
[وأما المدح فهو أعم من الحمد ؛ لأنه يكون للحي وللميت وللجماد - أيضا - كما يمدح
الطعام والمال ونحو ذلك ، ويكون قبل الإحسان وبعده ، وعلى الصفات المتعدية
واللازمة أيضًا فهو أعم] (3).
ذكر أقوال السلف في الحمد
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو معمر القطيعي ، حدثنا حفص ، عن حجاج ، عن ابن أبي
مُلَيْكة ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قال عمر : قد عَلِمْنا سبحان
الله ، ولا إله إلا الله ، فما الحمد لله ؟ فقال علي : كلمة رضيها الله لنفسه (4).
ورواه غير أبي مَعْمَر ، عن حفص ، فقال : قال عمر لعلي ، وأصحابه عنده : لا إله
إلا الله ، وسبحان الله ، والله أكبر ، قد عرفناها ، فما الحمد لله ؟ قال (5) علي
: كلمة أحبها [الله] (6) لنفسه ، ورضيها لنفسه ، وأحب أن تقال (7).
وقال علي بن زيد بن جُدْعَان ، عن يوسف بن مِهْرَان ، قال : قال ابن عباس : الحمد
لله كلمة الشكر ، وإذا قال العبد : الحمد لله ، قال : شكرني عبدي. رواه ابن أبي
حاتم.
وروى - أيضًا - هو وابن جرير ، من حديث بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ،
عن ابن عباس : أنه قال : الحمد لله هو الشكر لله والاستخذاء له ، والإقرار له
بنعمه وهدايته وابتدائه وغير ذلك.
وقال كعب الأحبار : الحمد لله ثناء الله. وقال الضحاك : الحمد لله رداء الرحمن.
وقد ورد الحديث بنحو ذلك.
قال ابن جرير : حدثني سعيد بن عمرو السَّكوني ، حدثنا بقية بن الوليد ، حدثني عيسى
بن إبراهيم ، عن موسى بن أبي حبيب ، عن الحكم بن عمير ، وكانت له صحبة قال : قال
النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا
__________
(1) زيادة من جـ ، ط.
(2) في جـ ، ط : "النبي".
(3) في جـ ، ط : "وقال".
(4) في أ : "سفيان".
(5) تفسير الطبري (1/265).
(6) في جـ : "وقال".
(7) في جـ ، ط : "فيحتمل".
(1/129)
قلت
: الحمد لله رب العالمين ، فقد شكرت الله ، فزادك" (1).
وقد روى الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا روح ، حدثنا عوف ، عن الحسن ، عن الأسود بن
سريع ، قال : قلت : يا رسول الله ، ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي ، تبارك وتعالى ؟
فقال : "أما إن ربك يحب الحمد" (2).
ورواه النسائي ، عن علي بن حجر ، عن ابن علية ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، عن
الأسود بن سريع ، به (3).
وروى الترمذي ، والنسائي وابن ماجه ، من حديث موسى بن إبراهيم بن كثير ، عن طلحة
بن خراش ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"أفضل الذكر لا إله إلا الله ، وأفضل الدعاء الحمد لله" (4). وقال
الترمذي : حسن غريب.
وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما
أنعم الله على عبد نعمة فقال : الحمد لله إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ"
(5). وقال القرطبي في تفسيره ، وفي نوادر الأصول عن أنس عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : "لو أن الدنيا بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال : الحمد لله ،
لكان الحمد لله أفضل من ذلك" (6). قال القرطبي وغيره : أي لكان إلهامه الحمد
لله أكبر نعمة عليه من نعم الدنيا ؛ لأن ثواب الحمد لا يفنى ونعيم الدنيا لا يبقى
، قال الله تعالى : { المال وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا }
[الكهف : 46]. وفي سنن ابن ماجه عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
حدثهم : "أن عبدًا من عباد الله قال : يا رب ، لك الحمد كما ينبغي
__________
(1) البيت في تفسير الطبري (1/264).
(2) البيت في تفسير الطبري (1/265) وهو للحارث المخزومي.
(3) في جـ : "كما أنزلت".
(4) في جـ : "يتلبس".
(5) في جـ : "تفسيره".
(6) في جـ ، ط ، ب : "يخدعون".
(1/130)
لجلال
وجهك وعظيم سلطانك ، فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها ، فصعدا إلى السماء
فقالا يا رب ، إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها ، قال الله - وهو أعلم بما
قال عبده - : ماذا قال عبدي ؟ قالا يا رب إنه قد قال : يا رب لك الحمد كما ينبغي
لجلال وجهك وعظيم سلطانك. فقال الله لهما : اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني
فأجزيه بها" (1). وحكى القرطبي عن طائفة أنهم قالوا : قول العبد : الحمد لله
رب العالمين ، أفضل من قول : لا إله إلا الله ؛ لاشتمال الحمد لله رب العالمين على
التوحيد مع الحمد ، وقال آخرون : لا إله إلا الله أفضل لأنها الفصل بين الإيمان والكفر
، وعليها يقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله كما ثبت في الحديث المتفق عليه
وفي الحديث الآخر في السنن : "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي : "لا
إله إلا الله وحده لا شريك له" (2). وقد تقدم عن جابر مرفوعا : "أفضل
الذكر لا إله إلا الله ، وأفضل الدعاء الحمد لله". وحسنه الترمذي.
والألف واللام في الحمد لاستغراق جميع أجناس الحمد ، وصنوفه لله تعالى كما جاء في
الحديث : "اللهم لك الحمد كله ، ولك الملك كله ، وبيدك الخير كله ، وإليك
يرجع الأمر كله" الحديث (3).
{ رَبِّ الْعَالَمِينَ } والرب هو : المالك المتصرف ، ويطلق في اللغة على السيد ،
وعلى المتصرف للإصلاح ، وكل ذلك صحيح في حق الله تعالى.
[ولا يستعمل الرب لغير الله ، بل بالإضافة تقول : رب الدار رب كذا ، وأما الرب فلا
يقال إلا لله عز وجل ، وقد قيل : إنه الاسم الأعظم] (4).والعالمين : جمع عالم ،
[وهو كل موجود سوى الله عز وجل] (5) ، والعالم جمع لا واحد له من لفظه ، والعوالم
أصناف المخلوقات [في السماوات والأرض] (6) في البر والبحر ، وكل قرن منها وجيل
يسمى عالمًا أيضًا.
قال بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الفاتحة : 2] الحمد لله الذي له الخلق كله ، السماوات
والأرضون ، ومن فيهن وما بينهن ، مما نعلم ، وما لا نعلم.
وفي رواية سعيد بن جبير ، وعكرمة ، عن ابن عباس : رب الجن والإنس. وكذلك قال سعيد
بن
__________
(1) في جـ : "لا تمنع".
(2) في أ ، و : "ما أظهره".
(3) في أ : "السبي".
(4) في جـ : "بكأس".
(5) في أ : "ويزيدها".
(6) في جـ : "بإسخاطهم".
(1/131)
جبير
، ومجاهد وابن جريج ، وروي عن علي [نحوه] (1). وقال (2) ابن أبي حاتم : بإسناد لا
يعتمد عليه.
واستدل القرطبي لهذا القول بقوله : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } [الفرقان
: 1] وهم الجن والإنس. وقال الفراء وأبو عبيدة : العالم عبارة عما يعقل وهم الإنس
والجن والملائكة والشياطين ولا يقال للبهائم : عالم ، وعن زيد بن أسلم وأبي عمرو
بن العلاء (3) كل ما له روح يرتزق. وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة مروان بن محمد
بن مروان بن الحكم - وهو آخر خلفاء بني أمية ويعرف بالجعد ويلقب بالحمار - أنه قال
: خلق الله سبعة عشر ألف عالم أهل السماوات وأهل الأرض عالم واحد وسائر ذلك لا
يعلمه (4) إلا الله ، عز وجل.
وقال قتادة : رب العالمين ، كل صنف عالم. وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس
، عن أبي العالية في قوله تعالى { رب العالمين } قال : الإنس عالم ، والجن عالم ،
وما سوى (5) ذلك ثمانية عشر ألف عالم ، أو أربعة عشر ألف عالم ، هو يشك ، من
الملائكة على الأرض ، وللأرض أربع زوايا ، في كل زاوية ثلاثة آلاف عالم ، وخمسمائة
عالم ، خلقهم [الله] (6) لعبادته. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
[وهذا كلام غريب يحتاج مثله إلى دليل صحيح] (7).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن خالد ، حدثنا الوليد بن مسلم ،
حدثنا الفرات ، يعني ابن الوليد ، عن معتب (8) بن سمي ، عن تُبَيع ، يعني الحميري
، في قوله : { رب العالمين } قال : العالمين ألف أمة فستمائة في البحر ، وأربعمائة
في البر.
[وحكي مثله عن سعيد بن المسيب] (9).
وقد روي نحو هذا مرفوعا كما قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى في مسنده :
حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبيد بن واقد القيسي ، أبو عباد ، حدثني محمد بن
عيسى بن كيسان ، حدثنا محمد بن المنْكَدِر ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قلّ
الجراد في سنة من سني عمر التي ولي فيها فسأل عنه ، فلم يخبر بشيء ، فاغتم لذلك ،
فأرسل راكبا يضرب إلى اليمن ، وآخر إلى الشام ، وآخر إلى العراق ، يسأل : هل رئي
من الجراد شيء أم لا ؟ قال : فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد ،
فألقاها بين يديه ، فلما رآها كبر ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول :
__________
(1) تفسير الطبري (1/273).
(2) تفسير ابن أبي حاتم (1/46).
(3) زيادة من و.
(4) زيادة من جـ.
(5) صحيح البخاري برقم (4902) وصحيح مسلم برقم (3314).
(6) صحيح البخاري برقم (25) وصحيح مسلم برقم (22) من حديث ابن عمرو رضي الله
عنهما.
(7) في طـ ، ب : "ناس".
(8) في أ : "النبي".
(9) تفسير الطبري (1/288).
(1/132)
"خلق
الله ألف أمة ، ستمائة في البحر وأربعمائة في البر ، فأول شيء يهلك من هذه الأمم
الجراد ، فإذا هلك (1) تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه" (2).محمد بن عيسى هذا
- وهو الهلالي - ضعيف.
وحكى البغوي عن سعيد بن المسيب أنه قال : لله ألف عالَم ؛ ستمائة في البحر
وأربعمائة في البر ، وقال وهب بن منبه : لله ثمانية عشر ألف عالَم ؛ الدنيا عالم
منها. وقال مقاتل : العوالم ثمانون ألفًا. وقال كعب الأحبار : لا يعلم عدد العوالم
إلا الله عز وجل. نقله كله البغوي ، وحكى القرطبي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : إن
لله أربعين ألف عالم ؛ الدنيا من شرقها إلى مغربها عالم واحد منها ، وقال الزجاج :
العالم كل ما خلق الله في الدنيا والآخرة. قال القرطبي : وهذا هو الصحيح أنه شامل
لكل العالمين ؛ كقوله : { قال فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ } والعالم
مشتق من العلامة(قلت) : لأنه علم دال على وجود خالقه وصانعه ووحدانيته كما قال ابن
المعتز :
فيا عجبا كيف يعصى الإله... أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
{ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) }.
وقوله : { الرحمن الرحيم } تقدم الكلام عليه في البسملة بما أغنى عن إعادته.
{ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) }
قرأ بعض القراء : { مَلِك يَوْمِ الدِّينِ } وقرأ آخرون : { مَالِكِ } (3).وكلاهما
صحيح متواتر في السبع.
[ويقال : مليك أيضًا ، وأشبع نافع كسرة الكاف فقرأ : "ملكي يوم الدين"
وقد رجح كلا من القراءتين مرجحون من حيث المعنى ، وكلاهما صحيحة حسنة ، ورجح
الزمخشري ملك ؛ لأنها قراءة أهل الحرمين ولقوله : { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ }
وقوله : { قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ } وحكي عن أبي حنيفة أنه قرأ
"مَلَكَ يومَ الدين" على أنه فعل وفاعل ومفعول ، وهذا شاذ غريب جدا]
(4).وقد روى أبو بكر بن أبي داود في ذلك شيئًا غريبًا حيث قال : حدثنا أبو عبد
الرحمن الأذْرَمِيُّ ، حدثنا عبد الوهاب عن عدي (5) بن الفضل ، عن أبي المطرف ، عن
ابن شهاب : أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان
ومعاوية وابنه يزيد بن معاوية كانوا يقرءون : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } وأول من
أحدث "مَلِكِ" مروان (6).قلت : مروان عنده علم بصحة ما قرأه ، لم يطلع
عليه ابن شهاب ، والله أعلم.
وقد روي من طرق متعددة أوردها ابن مَرْدُويه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يقرؤها : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } (7) ومالك مأخوذ من الملْك ، كما قال : {
إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [مريم :
40] وقال : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ } [الناس : 1 ، 2]
وملك : مأخوذ من الملك كما قال تعالى : { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ
الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [غافر : 16] وقال : { قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ
الْمُلْكُ } [الأنعام : 73] وقال : { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ
وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا } [الفرقان : 26].
__________
(1) تفسير الطبري (1/289).
(2) تفسير الطبري (1/289).
(3) في أ ، و : "لحاله".
(4) زيادة من (أ).
(5) زيادة من طـ ، ب ، و.
(6) في أ : "كما قال".
(7) زيادة من أ.
(1/133)
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
وتخصيص
الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه ، لأنه قد تقدم الإخبار بأنه رب العالمين ،
وذلك عام في الدنيا والآخرة ، وإنما أضيف إلى يوم الدين لأنه لا يدعي أحد هنالك
شيئا ، ولا يتكلم أحد إلا بإذنه ، كما قال : { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ
وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ
وَقَالَ صَوَابًا } [النبأ : 38] وقال تعالى : { وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ
لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا } [طه : 108] ، وقال : { يَوْمَ يَأْتِ
لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [هود : 105].
وقال الضحاك عن ابن عباس : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } يقول : لا يملك أحد في ذلك
اليوم معه حكما ، كملكهم في الدنيا. قال : ويوم الدين يوم الحساب للخلائق ، وهو
يوم القيامة يدينهم بأعمالهم إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر ، إلا من عفا عنه. وكذلك
قال غيره من الصحابة والتابعين والسلف ، وهو ظاهر.
وحكى ابن جرير عن بعضهم أنه ذهب إلى تفسير { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } أنه القادر
على إقامته ، ثم شرع يضعفه.
والظاهر أنه لا منافاة بين هذا القول وما تقدم (1) ، وأن كلا من القائلين بهذا
وبما قبله يعترف بصحة القول الآخر ، ولا ينكره ، ولكن السياق أدل على المعنى الأول
من هذا ، كما قال : { المْلُكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ } [الفرقان : 26]
والقول الثاني يشبه قوله : { وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ } ، [الأنعام : 73]
والله أعلم.
والمَلِك في الحقيقة هو الله عز وجل ؛ قال الله تعالى : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا
إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ } وفي الصحيحين عن أبي هريرة
رضي الله عنه مرفوعًا أخنع اسم عند الله رجل تسمى بملك الأملاك ولا مالك إلا الله
، وفيهما عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يقبض الله الأرض ويطوي
السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض ؟ أين الجبارون ؟ أين المتكبرون
؟" وفي القرآن العظيم : { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ
الْقَهَّارِ } فأما تسمية غيره في الدنيا بملك فعلى سبيل المجاز كما قال تعالى : {
إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا } ، { وَكَانَ وَرَاءَهُمْ
مَلِكٌ } { إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا } وفي الصحيحين
: (مثل الملوك على الأسرة).
والدين الجزاء والحساب ؛ كما قال تعالى : { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ
دِينَهُمُ الْحَقَّ } ، وقال : { أئنا لمدينون } أي مجزيون محاسبون ، وفي الحديث :
"الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت" أي حاسب نفسه لنفسه ؛ كما قال
عمر رضي الله عنه : "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أنفسكم قبل أن
توزنوا ، وتأهبوا للعرض الأكبر على من لا تخفى عليه أعمالكم : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ
لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ } ".
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) }.
[قرأ السبعة والجمهور بتشديد الياء من { إياك } وقرأ عمرو بن فايد بتخفيفها مع
الكسر وهي قراءة شاذة مردودة ؛ لأن "إيا" ضوء الشمس. وقرأ بعضهم :
"أياك" بفتح الهمزة وتشديد الياء ، وقرأ بعضهم : "هياك"
بالهاء بدل الهمزة ، كما قال الشاعر :
فهياك والأمر الذي إن تراحبت... موارده ضاقت عليك مصادره
و { نستعين } بفتح النون أول الكلمة في قراءة الجميع سوى يحيى بن وثاب والأعمش
فإنهما كسراها وهي لغة بني أسد وربيعة وبني تميم وقيس] (2).العبادة في اللغة من
الذلة ، يقال : طريق مُعَبّد ، وبعير مُعَبّد ، أي : مذلل ، وفي الشرع : عبارة عما
يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف.
وقدم المفعول وهو { إياك } ، وكرر ؛ للاهتمام والحصر ، أي : لا نعبد إلا إياك ،
ولا نتوكل إلا عليك ، وهذا هو كمال الطاعة. والدين يرجع كله (3) إلى هذين المعنيين
، وهذا كما قال بعض السلف : الفاتحة سر القرآن ، وسرها هذه الكلمة : { إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة : 5] فالأول تبرؤ من الشرك ، والثاني
تبرؤ من الحول والقوة ، والتفويض
__________
(1) في أ ، و : "أو ذهبوا أو خلصوا".
(2) في طـ ، ب ، أ ، و : "الملفوظ".
(3) المسند (5/178).
(1/134)
إلى
الله عز وجل. وهذا المعنى في غير آية من القرآن ، كما قال تعالى : { فَاعْبُدْهُ
وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [هود : 123] {
قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } [الملك : 29] {
رَبَّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا }
[المزمل : 9] ، وكذلك هذه الآية الكريمة : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ }.
وتحول الكلام من الغيبة إلى المواجهة بكاف الخطاب ، وهو مناسبة (1) ، لأنه لما
أثنى على الله فكأنه اقترب وحضر بين يدي الله تعالى ؛ فلهذا قال : { إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وفي هذا دليل على أن أول السورة خبر من الله
تعالى بالثناء على نفسه الكريمة بجميل صفاته الحسنى ، وإرشاد لعباده بأن يثنوا عليه
بذلك ؛ ولهذا لا تصح صلاة من لم يقل ذلك ، وهو قادر عليه ، كما جاء في الصحيحين ،
عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا صلاة لمن لم
يقرأ بفاتحة الكتاب" (2). وفي صحيح مسلم ، من حديث العلاء بن عبد الرحمن ،
مولى الحُرَقَة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"يقول الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فنصفها لي ونصفها
لعبدي ، ولعبدي ما سأل ، إذا قال العبد : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
} [الفاتحة : 2] قال : حمدني عبدي ، وإذا قال : { الرحمن الرحيم } [الفاتحة : 3]
قال : أثنى علي عبدي ، فإذا قال : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } [الفاتحة : 4] قال
الله : مجدني عبدي ، وإذا قال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }
[الفاتحة : 5] قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : { اهْدِنَا
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } [الفاتحة : 6 ، 7] قال : هذا لعبدي
ولعبدي ما سأل" (3).وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { إياك نعبد } يعني : إياك
نوحد ونخاف ونرجو يا ربنا لا غيرك { وإياك نستعين } على طاعتك وعلى أمورنا كلها.
وقال قتادة : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } يأمركم أن تخلصوا له
العبادة وأن تستعينوه على أمركم.
وإنما قدم : { إياك نعبد } على { وإياك نستعين } لأن العبادة له هي المقصودة ،
والاستعانة وسيلة إليها ، والاهتمام والحزم هو أن يقدم (4) ما هو الأهم فالأهم ،
والله أعلم.
فإن قيل : فما معنى النون في قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }
فإن كانت للجمع فالداعي واحد ، وإن كانت للتعظيم فلا تناسب هذا المقام ؟ وقد أجيب
: بأن المراد من ذلك الإخبار عن جنس العباد والمصلي فرد منهم ، ولا سيما إن كان في
جماعة أو إمامهم ، فأخبر عن نفسه وعن إخوانه (5) المؤمنين بالعبادة التي خلقوا
لأجلها (6) ، وتوسط لهم بخير ، ومنهم من قال : يجوز أن تكون للتعظيم ، كأن العبد
قيل له : إذا كنت في العبادة فأنت شريف وجاهك عريض فقل : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، وإذا كنت خارج العبادة فلا تقل : نحن ولا فعلنا ، ولو
كنت في مائة ألف أو ألف ألف لافتقار الجميع إلى الله عز وجل. ومنهم من قال : ألطف
في التواضع من إياك أعبد ، لما في الثاني من تعظيمه نفسه
__________
(1) في طـ ، ب : "وقال".
(2) في طـ ، أ ، و : "مجازيهم".
(3) في طـ ، ب ، أ ، و : "ومعاقبهم".
(4) تفسير الطبري (1/303).
(5) في جـ ، ط ، ب : "ناس".
(6) زيادة من ب ، و.
(1/135)
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
من
جعله نفسه وحده أهلا لعبادة الله تعالى الذي لا يستطيع أحد أن يعبده حق عبادته ،
ولا يثني عليه كما يليق به ، والعبادة مقام عظيم (1) يشرف به العبد لانتسابه إلى
جناب الله تعالى ، كما قال بعضهم :
لا تدعني إلا بيا عبدها... فإنه أشرف أسمائي
وقد سمى الله رسوله بعبده في أشرف مقاماته [فقال] (2) { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ } [الكهف : 1] { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ
اللَّهِ يَدْعُوهُ } [الجن : 19] { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا }
[الإسراء : 1] فسماه عبدًا عند إنزاله عليه وقيامه في الدعوة وإسرائه به ، وأرشده
إلى القيام بالعبادة في أوقات يضيق صدره من تكذيب المخالفين له ، حيث يقول : {
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى
يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [الحجر : 97 - 99].
وقد حكى فخر الدين في تفسيره عن بعضهم : أن مقام العبودية أشرف من مقام الرسالة ؛
لكون العبادة تصدر (3) من الخلق إلى الحق والرسالة من الحق إلى الخلق ؛ قال : ولأن
الله متولي مصالح عبده ، والرسول متولي مصالح أمته (4) وهذا القول خطأ ، والتوجيه
أيضًا ضعيف لا حاصل له ، ولم يتعرض له فخر الدين بتضعيف ولا رده. وقال بعض الصوفية
: العبادة إما لتحصيل ثواب ورد عقاب ؛ قالوا : وهذا ليس بطائل إذ مقصوده تحصيل
مقصوده ، وإما للتشريف بتكاليف الله تعالى ، وهذا - أيضًا - عندهم ضعيف ، بل
العالي أن يعبد الله لذاته المقدسة الموصوفة بالكمال ، قالوا : ولهذا يقول المصلي
: أصلي لله ، ولو كان لتحصيل الثواب ودرء (5) العذاب لبطلت صلاته. وقد رد ذلك
عليهم آخرون وقالوا : كون العبادة لله عز وجل ، لا ينافي أن يطلب معها ثوابا ، ولا
أن يدفع عذابًا ، كما قال ذلك الأعرابي : أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ
إنما أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
"حولها ندندن" (6).
{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) }
قراءة الجمهور بالصاد. وقرئ : "السراط" وقرئ بالزاي ، قال الفراء : وهي
لغة بني عذرة وبلقين (7) وبني كلب.
لما تقدم الثناء على المسؤول ، تبارك وتعالى ، ناسب أن يعقب بالسؤال ؛ كما قال :
"فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل" وهذا أكمل أحوال السائل ، أن
يمدح مسؤوله ، ثم يسأل حاجته [وحاجة إخوانه المؤمنين بقوله : { اهدنا } ] (8) ،
لأنه أنجح للحاجة وأنجع للإجابة ، ولهذا أرشد الله تعالى إليه لأنه الأكمل ، وقد
يكون السؤال بالإخبار عن حال السائل واحتياجه ، كما قال موسى عليه السلام : {
رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [القصص : 24] وقد
يتقدمه مع ذلك وصف المسؤول ، كقول ذي النون : { لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ
إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [الأنبياء : 87] وقد يكون بمجرد الثناء
__________
(1) في ب ، أ ، و : "ضلالتهم".
(2) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(3) في جـ : "ضلال".
(4) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(5) زيادة من جـ.
(6) زيادة من طـ.
(7) في هـ : "فأما" وهو خطأ.
(8) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "كما قد يكون".
(1/136)
على
المسؤول ، كقول الشاعر :
أأذكر حاجتي أم قد كفاني... حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما... كفاه من تعرضه الثناء
والهداية هاهنا : الإرشاد والتوفيق ، وقد تعدى الهداية بنفسها كما هنا (1) {
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } فتضمن معنى ألهمنا ، أو وفقنا ، أو ارزقنا ،
أو اعطنا ؛ { وهديناه النجدين } [البلد : 10] أي : بينا له الخير والشر ، وقد تعدى
بإلى ، كقوله تعالى : { اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [النحل
: 121] { فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } [الصافات : 23] وذلك بمعنى
الإرشاد والدلالة ، وكذلك قوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ } [الشورى : 52] وقد تعدى باللام ، كقول أهل الجنة : { الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا } [الأعراف : 43] أي وفقنا لهذا وجعلنا له أهلا
(2).وأما الصراط المستقيم ، فقال الإمام أبو جعفر بن جرير : أجمعت الأمة من أهل
التأويل جميعًا على أن "الصراط المستقيم" هو الطريق الواضح الذي لا
اعوجاج فيه.
وكذلك ذلك في لغة جميع العرب ، فمن ذلك قول جرير بن عطية الخَطَفي :
أميرُ المؤمنين على صِراطٍ... إذا اعوج الموارِدُ مُسْتَقيمِ
قال : والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصر ، قال : ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله
في كل قول وعمل ، وصف باستقامة أو اعوجاج ، فتصف المستقيم باستقامته ، والمعوج
باعوجاجه.
ثم اختلفت عبارات المفسرين من السلف والخلف في تفسير الصراط ، وإن كان يرجع حاصلها
إلى شيء واحد ، وهو المتابعة لله وللرسول ؛ فروي أنه كتاب الله ، قال ابن أبي حاتم
: حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثني يحيى بن يمان ، عن حمزة الزيات ، عن سعد ، وهو أبو
(3) المختار الطائي ، عن ابن أخي الحارث الأعور ، عن الحارث الأعور ، عن علي بن
أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الصراط
المستقيم كتاب الله" (4).وكذلك رواه ابن جرير ، من حديث حمزة بن حبيب الزيات
، وقد [تقدم في فضائل القرآن فيما] (5) رواه أحمد والترمذي من رواية الحارث الأعور
، عن علي مرفوعا : "وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط
المستقيم" (6).
__________
(1) في ط : "وقال".
(2) زيادة من جـ ، ط.
(3) في جـ : "هم".
(4) زيادة من و.
(5) البيت للأشهب بن رميلة ، كما في اللسان ، مادة "فلج".
(6) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "الوحدة".
(1/137)
وقد
روي هذا موقوفا عن علي ، وهو أشبه (1) ، والله أعلم.
وقال الثوري ، عن منصور ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، قال : الصراط المستقيم.
كتاب الله ، وقيل : هو الإسلام. وقال الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : قال جبريل
لمحمد ، عليهما السلام : قل : يا محمد ، اهدنا الصراط المستقيم. يقول : اهدنا (2)
الطريق الهادي ، وهو دين الله الذي لا عوج فيه.
وقال ميمون بن مِهْرَان ، عن ابن عباس ، في قوله : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ
الْمُسْتَقِيمَ } قال : ذاك الإسلام. وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير ،
عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ،
وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ
الْمُسْتَقِيمَ } قالوا : هو الإسلام. وقال عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر :
{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } قال : الإسلام ، قال : هو أوسع مما بين
السماء والأرض. وقال ابن الحنفية في قوله تعالى : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ
الْمُسْتَقِيمَ } قال هو دين الله ، الذي لا يقبل من العباد غيره. وقال عبد الرحمن
بن زيد بن أسلم : اهدنا الصراط المستقيم ، قال : هو الإسلام.
وفي [معنى] (3) هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده ، حيث قال : حدثنا
الحسن بن سوار أبو العلاء ، حدثنا ليث يعني ابن سعد ، عن معاوية بن صالح : أن عبد
الرحمن بن جبير بن نفير ، حدثه عن أبيه ، عن النواس بن سمعان ، عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : "ضرب الله مثلا صراطًا مستقيما ، وعلى جنبتي الصراط
سوران فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول :
يا أيها الناس ، ادخلوا الصراط جميعا ولا تعوجوا ، وداع يدعو من فوق الصراط ، فإذا
أراد الإنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب ، قال : ويحك ، لا تفتحه ؛ فإنك إن
تفتحه تلجه. فالصراط الإسلام ، والسوران حدود الله ، والأبواب المفتحة محارم الله
، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله ، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب
كل مسلم".
وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير من حديث الليث بن سعد به (4).ورواه الترمذي والنسائي
جميعا ، عن علي بن حجر عن بقية ، عن بُجَيْر (5) بن سعد ، عن خالد بن مَعْدَان ،
عن جبير بن نفير ، عن النواس بن سمعان ، به (6).
__________
(1) في طـ ، ب : "سبيل".
(2) في جـ ، ط ، ب : "منها".
(3) في أ ، و : "فبينما".
(4) زيادة من جـ.
(5) في أ ، و : "فبينما".
(6) في جـ : "ما حوله ذهب الله بنورهم".
(1/138)
وهو
إسناد صحيح ، والله أعلم.
وقال مجاهد : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } ، قال : الحق. وهذا أشمل ،
ولا منافاة بينه وبين ما تقدم.
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير ، من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم ؛ حدثنا حمزة بن
المغيرة ، عن عاصم الأحول ، عن أبي العالية : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ
الْمُسْتَقِيمَ } قال : هو النبي صلى الله عليه وسلم ، وصاحباه من بعده ، قال عاصم
: فذكرنا ذلك للحسن ، فقال : صدق أبو العالية ونصح.
وكل هذه الأقوال صحيحة ، وهي متلازمة ، فإن من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم ،
واقتدى باللذين من بعده أبي بكر وعمر ، فقد اتبع الحق ، ومن اتبع الحق فقد اتبع
الإسلام ، ومن اتبع الإسلام فقد اتبع القرآن ، وهو كتاب الله وحبله المتين ،
وصراطه المستقيم ، فكلها صحيحة يصدق بعضها بعضا ، ولله الحمد.
وقال الطبراني : حدثنا محمد بن الفضل السقطي ، حدثنا إبراهيم بن مهدي المِصِّيصي ،
حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، قال
: الصراط المستقيم الذي تركنا عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (1). ولهذا قال
الإمام أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله : والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي -
أعني { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } - أن يكون معنيًا به : وفقنا للثبات
على ما ارتضيته ووفقت له مَنْ أنعمت عليه مِنْ عبادك ، من قول وعمل ، وذلك هو
الصراط المستقيم ؛ لأن مَن وفق لما وُفق له من أنعم الله عليهم (2) مِن النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين ، فقد وُفق للإسلام ، وتصديق الرسل ، والتمسك
بالكتاب ، والعمل بما أمره الله به ، والانزجار عما زجره عنه ، واتباع منهاج النبي
صلى الله عليه وسلم ، ومنهاج الخلفاء الأربعة ، وكل عبد صالح ، وكل ذلك من الصراط المستقيم.
فإن قيل : كيف (3) يسأل المؤمن الهداية في كل وقت من صلاة وغيرها ، وهو متصف بذلك
؟ فهل (4) هذا من باب تحصيل الحاصل أم لا ؟
فالجواب : أن لا ولولا احتياجه ليلا ونهارًا إلى سؤال الهداية لما أرشده الله إلى
ذلك ؛ فإن العبد مفتقر في كل ساعة وحالة إلى الله تعالى في تثبيته على الهداية ،
ورسوخه فيها ، وتبصره ، وازدياده منها ، واستمراره عليها ، فإن العبد لا يملك
لنفسه نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ، فأرشده تعالى إلى أن يسأله في كل وقت أن
يمده بالمعونة والثبات والتوفيق ، فالسعيد من وفقه الله تعالى لسؤاله ؛ فإنه تعالى
قد تكفل بإجابة الداعي إذا دعاه ، ولا سيما المضطر المحتاج المفتقر إليه آناء
الليل وأطراف النهار ، وقد قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نزلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ
الَّذِي أَنزلَ مِنْ قَبْلُ } الآية [النساء : 136] ، فقد أمر الذين آمنوا
بالإيمان ، وليس في ذلك تحصيل الحاصل ؛ لأن المراد الثبات والاستمرار والمداومة
على الأعمال المعينة على ذلك ، والله أعلم.
وقال تعالى آمرا لعباده المؤمنين أن يقولوا : { رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا
بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ
الْوَهَّابُ } وقد كان الصدِّيق رضي الله عنه يقرأ بهذه الآية في الركعة الثالثة
من صلاة المغرب بعد الفاتحة سرًا. فمعنى قوله تعالى : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ
الْمُسْتَقِيمَ } استمر بنا عليه ولا تعدل بنا إلى غيره.
__________
(1) في جـ ، ط ، ب : "فإقباله".
(2) في جـ : "استوقد نارا".
(3) زيادة من جـ ، ط ، ب.
(4) في جـ : "فهو".
(1/139)
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
{
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا
الضَّالِّينَ (7) }
قد تقدم الحديث فيما إذا قال العبد : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } إلى
آخرها أن الله يقول : "هذا لعبدي ولعبدي ما سأل". وقوله : { صِرَاطَ
الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } مفسر للصراط المستقيم. وهو بدل منه عند النحاة
، ويجوز أن يكون عطف بيان ، والله أعلم.
و { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } (1) هم المذكورون في سورة النساء ، حيث قال
: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ
وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا } [النساء : 69 ، 70].
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : صراط الذين أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك ، من ملائكتك
، وأنبيائك ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين ؛ وذلك نظير ما قال ربنا تعالى : {
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ } الآية [النساء : 69].
وقال أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }
قال : هم النبيون. وقال ابن جُرَيْج ، عن ابن عباس : هم المؤمنون. وكذا قال مجاهد.
وقال وَكِيع : هم المسلمون. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم النبي صلى الله
عليه وسلم ومن معه. والتفسير المتقدم ، عن ابن عباس أعم ، وأشمل ، والله أعلم.
وقوله تعالى : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } [قرأ الجمهور
: "غير" بالجر على النعت ، قال الزمخشري : وقرئ بالنصب على الحال ، وهي
قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب ، ورويت عن ابن كثير ، وذو
الحال الضمير في { عليهم } والعامل : { أنعمت } والمعنى] (2) اهدنا الصراط
المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم ، وهم أهل الهداية
والاستقامة والطاعة لله ورسله ، وامتثال أوامره وترك نواهيه وزواجره ، غير صراط
المغضوب عليهم ، [وهم] (3) الذين فسدت إرادتهم ، فعلموا الحق وعدلوا عنه ، ولا
صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق ،
وأكد الكلام بلا ليدل على أن ثَمّ مسلكين فاسدين ، وهما طريقتا اليهود والنصارى.
وقد زعم بعض النحاة أن { غير } هاهنا استثنائية ، فيكون على هذا منقطعًا
لاستثنائهم من المنعم عليهم وليسوا منهم ، وما أوردناه أولى ، لقول الشاعر (4)
كأنَّك من جِمال بني أقَيش... يُقَعْقَعُ عند (5) رِجْلَيْه بشَنِّ
أي : كأنك جمل من جمال بني أقيش ، فحذف الموصوف واكتفى بالصفة (6) ، وهكذا ، {
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ }
__________
(1) في جـ : "لأنها".
(2) في جـ : "علمه".
(3) في جـ : "طعنوا بكفرهم به".
(4) في جـ : "فبذلك".
(5) في جـ : "يصدقه".
(6) في طـ ، ب ، و : "إلا هو".
(1/140)
أي
: غير صراط المغضوب عليهم.
اكتفى بالمضاف إليه عن ذكر المضاف ، وقد دل عليه سياق الكلام ، وهو قوله تعالى : {
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }
ثم قال تعالى : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } ومنهم من زعم أن(لا) في قوله :
{ ولا الضالين } زائدة ، وأن تقدير الكلام عنده : غير المغضوب عليهم والضالين ،
واستشهد ببيت العجاج : في بئْر لا حُورٍ سرى (1) وما شَعَر (2)
أي في بئر حور. والصحيح ما قدمناه. ولهذا روى أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب
فضائل القرآن ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عمر بن
الخطاب ، رضي الله عنه : أنه كان يقرأ : " غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَغَيْر
الضَّالّين". وهذا إسناد صحيح (3) ، [وكذا حكي عن أبي بن كعب أنه قرأ كذلك]
(4) وهو محمول على أنه صدر منه على وجه التفسير ، فيدل على ما قلناه من أنه إنما
جيء بها لتأكيد النفي ، [لئلا يتوهم أنه معطوف على { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ
عَلَيْهِمْ } ] (5) ، وللفرق بين الطريقتين ، لتجتنب كل منهما ؛ فإن طريقة أهل
الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به ، واليهود فقدوا العمل ، والنصارى فقدوا
العلم ؛ ولهذا كان الغضب لليهود ، والضلال للنصارى ، لأن من علم وترك استحق الغضب
، بخلاف من لم يعلم. والنصارى لما كانوا قاصدين شيئًا لكنهم لا يهتدون إلى طريقه ،
لأنهم لم يأتوا الأمر من بابه ، وهو اتباع الرسول الحق ، ضلوا ، وكل من اليهود
والنصارى ضال مغضوب عليه ، لكن أخص أوصاف اليهود الغضب [كما قال فيهم : { مَنْ
لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } ] (6) [المائدة : 60] وأخص أوصاف النصارى
الضلال [كما قال : { قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا
عَنْ سَوَاءِ السَّبِيل"] (7) } [المائدة : 77] ، وبهذا جاءت الأحاديث
والآثار. [وذلك واضح بين] (8).قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة
، قال : سمعت سِماك بن حرب ، يقول : سمعت عبَّاد بن حُبَيش ، يحدث عن عدي بن حاتم
، قال : جاءت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذوا عمتي وناسًا ، فلما أتوا
بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صُفُّوا له ، فقالت : يا رسول الله ، ناء
الوافد وانقطع الولد ، وأنا عجوز كبيرة ، ما بي من خدمة ، فمُنّ علي مَنّ الله
عليك ، قال : "من وافدك ؟" قالت : عدي بن حاتم ، قال : "الذي فر من
الله ورسوله!" قالت : فمنَّ علي ، فلما رجع ، ورجل إلى جنبه (9) ، ترى أنه
علي ، قال : سليه حُمْلانا ، فسألته ، فأمر لها ، قال : فأتتني فقالت : لقد فعل
فعلة ما كان أبوك يفعلها ، فإنه قد أتاه فلان فأصاب منه ، وأتاه فلان فأصاب منه ،
فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيان أو صبي ، وذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وسلم ،
قال : فعرفت أنه ليس بملك كسرى ولا قيصر ، فقال :
__________
(1) في جـ : "عمي خرس".
(2) في جـ ، ط ، ب ، أ : "وكذا".
(3) في جـ : "لا يؤمنون".
(4) زيادة من جـ ، ط.
(5) زيادة من جـ ، ط ، ب.
(6) البيت في اللسان ، مادة "صقع" وهو فيه : يحكون بالمصقولة القواطع...
تشقق البرق عن الصواقع
(7) زيادة من جـ ، ط.
(8) في أ : "استضاءوا".
(9) زيادة من جـ.
(1/141)
"يا
عدي ، ما أفرك (1) أن يقال (2) لا إله إلا الله ؟ فهل من إله إلا الله ؟ قال : ما
أفرك (3) أن يقال : الله أكبر ، فهل شيء أكبر (4) من الله ، عز وجل ؟". قال :
فأسلمت ، فرأيت وجهه استبشر ، وقال : "المغضوب (5) عليهم اليهود ، وإن
الضالين النصارى" (6).وذكر الحديث ، ورواه الترمذي ، من حديث سماك بن حرب (7)
، وقال : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه. قلت : وقد رواه حماد بن سلمة ، عن سماك
، عن مُرِّيّ بن قَطَريّ ، عن عدي بن حاتم ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن قول الله : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } قال : "هم اليهود"
{ ولا الضالين } قال : "النصارى هم الضالون". وهكذا رواه سفيان بن عيينة
، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم به (8).وقد روي حديث عدي
هذا من طرق ، وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن بُدَيْل العُقَيْلي ، أخبرني عبد الله بن
شَقِيق ، أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القُرَى ، وهو على
فرسه ، وسأله رجل من بني القين ، فقال : يا رسول الله ، من هؤلاء ؟ قال : "
المغضوب عليهم - وأشار إلى اليهود - والضالون هم النصارى" (9).وقد رواه
الجُرَيري وعروة ، وخالد الحَذَّاء ، عن عبد الله بن شقيق ، فأرسلوه (10) ، ولم
يذكروا من سمع النبي صلى الله عليه وسلم. ووقع في رواية عروة تسمية عبد الله بن
عمر ، فالله أعلم.
وقد روى ابن مَرْدُويه ، من حديث إبراهيم بن طَهْمان ، عن بديل بن ميسرة ، عن عبد
الله بن شقيق ، عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المغضوب
عليهم قال : "اليهود" ، [قال] (11) قلت : الضالين ، قال :
"النصارى" (12).وقال السُّدِّي ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن
عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } هم اليهود ، { ولا الضالين } هم
النصارى.
وقال الضحاك ، وابن جُرَيْج ، عن ابن عباس : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ }
اليهود ، { ولا الضالين }
__________
(1) في أ : "فيه".
(2) في جـ : "يكذبون" ، وفي أ : "يكون".
(3) في أ ، و : "ومنهم من يمشي".
(4) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "الله".
(5) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "أن نبي الله".
(6) في جـ ، ط ، ب ، "أبين و".
(7) في أ : "داود".
(8) في و : "يؤتى".
(9) في أ ، و : "يؤتى".
(10) في جـ : "ويتقد".
(11) في جـ : "الطيالسي".
(12) في جـ : "عتيبة".
(1/142)
[هم]
(1) النصارى.
وكذلك قال الربيع بن أنس ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغير واحد ، وقال ابن أبي
حاتم : ولا أعلم بين المفسرين في هذا اختلافًا.
وشاهد ما قاله هؤلاء الأئمة من أن اليهود مغضوب عليهم ، والنصارى ضالون ، الحديث
المتقدم ، وقوله تعالى في خطابه مع بني إسرائيل في سورة البقرة : { بِئْسَمَا
اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ
يُنزلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا
بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ } [البقرة : 90] ، وقال
في المائدة (2) { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ
اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ
وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ
سَوَاءِ السَّبِيلِ } [المائدة : 60] ، وقال تعالى : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ
بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ
فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [المائدة : 78 ، 79].
وفي السيرة (3) (4) عن زيد بن عمرو بن نفيل ؛ أنه لما خرج هو وجماعة من أصحابه إلى
الشام يطلبون الدين الحنيف ، قالت له اليهود : إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ
بنصيبك من غضب الله. فقال : أنا من غضب الله أفر. وقالت له النصارى : إنك لن
تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من سَخَط الله فقال : لا أستطيعه. فاستمر على
فطرته ، وجانب عبادة الأوثان ودين المشركين ، ولم يدخل مع أحد من اليهود ولا
النصارى ، وأما أصحابه فتنصروا ودخلوا في دين النصرانية ؛ لأنهم وجدوه أقرب من دين
اليهود إذ ذاك ، وكان منهم ورقة بن نوفل ، حتى هداه الله بنبيه لما بعثه آمن بما
وجد من الوحي ، رضي الله عنه.
(مسألة) : والصحيح من مذاهب العلماء أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء
لقرب مخرجيهما ؛ وذلك أن الضاد مخرجها من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس ،
ومخرج الظاء من طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا ، ولأن كلا من الحرفين من الحروف
المجهورة ومن الحروف الرخوة ومن الحروف المطبقة ، فلهذا كله اغتفر استعمال أحدهما
مكان الآخر لمن لا يميز ذلك والله أعلم. وأما حديث : "أنا أفصح من نطق بالضاد"
فلا أصل له والله أعلم. فصل
اشتملت هذه السورة الكريمة وهي سبع آيات ، على حمد الله وتمجيده والثناء عليه ،
بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا (5) ، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين
، وعلى إرشاده عبيده (6) إلى سؤاله والتضرع إليه ، والتبرؤ من حولهم وقوتهم ، وإلى
إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية تبارك وتعالى ، وتنزيهه أن يكون له شريك أو
نظير أو مماثل ، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم ، وهو الدين القويم
، وتثبيتهم عليه حتى يُفضي بهم ذلك إلى جواز الصراط الحسي يوم القيامة ، المفضي
بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين.
واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ، ليكونوا مع أهلها يوم القيامة ،
والتحذير من مسالك الباطل ؛ لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة ، وهم المغضوب
عليهم والضالون. وما أحسن ما جاء إسناد الإنعام إليه في قوله تعالى : { صِرَاطَ
الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وحذف الفاعل في الغضب في قوله تعالى : { غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } وإن كان هو الفاعل لذلك في الحقيقة ، كما قال تعالى : {
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } الآية
[المجادلة : 14] ،
__________
(1) في أ : "تحير".
(2) في جـ : "وهذا شبه".
(3) في جـ : "المؤمنين".
(4) في جـ : "بالمصباح الذي".
(5) زيادة من جـ ، ط.
(6) في جـ ، ب : قدم الآية الثامنة على الآية الثالثة من سورة الحج.
(1/143)
وكذلك
إسناد الضلال إلى من قام به ، وإن كان هو الذي أضلهم بقدَره ، كما قال تعالى : {
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ
وَلِيًّا مُرْشِدًا } [الكهف : 17]. وقال : { مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ
لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الأعراف : 186]. إلى غير ذلك
من الآيات الدالة على أنه سبحانه هو المنفرد بالهداية والإضلال ، لا كما تقوله
الفرقة القدرية ومن حذا حذوهم ، من أن العباد هم الذين يختارون ذلك ويفعلونه (1) ،
ويحتجون على بدعتهم (2) بمتشابه من القرآن ، ويتركون ما يكون فيه صريحا في الرد
عليهم ، وهذا حال أهل الضلال والغي ، وقد ورد في الحديث الصحيح : "إذا رأيتم
الذين يتبعون ما تشابه منه ، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم" (3). يعني في
قوله تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا
تَشَابَهَ مِنْهُ } [آل عمران : 7] ، فليس - بحمد الله - لمبتدع في القرآن حجة
صحيحة ؛ لأن القرآن جاء ليفصل الحق من الباطل مفرقًا بين الهدى والضلال ، وليس فيه
تناقض ولا اختلاف ؛ لأنه من عند الله ، تنزيل من حكيم حميد (4).
فصل
يستحب لمن قرأ الفاتحة أن يقول بعدها : آمين [مثل : يس] (5) ، ويقال : أمين.
بالقصر أيضًا [مثل : يمين] (6) ، ومعناه : اللهم استجب ، والدليل على ذلك (7) ما
رواه الإمام أحمد وأبو داود ، والترمذي ، عن وائل بن حجر ، قال : سمعت النبي صلى
الله عليه وسلم قرأ : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } فقال
: "آمين" ، مد (8) بها صوته ، ولأبي داود : رفع بها صوته (9) ، وقال
الترمذي : هذا حديث حسن. وروي عن علي ، وابن مسعود وغيرهم.
وعن أبي هريرة ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا { غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } قال : "آمين" حتى يسمع من
يليه من الصف الأول ، رواه أبو داود ، وابن ماجه ، وزاد : يرتج (10) بها المسجد
(11) ، والدارقطني وقال : هذا إسناد حسن.
وعن بلال أنه قال : يا رسول الله ، لا تسبقني بآمين. رواه أبو داود (12).
__________
(1) في جـ ، ب ، أ ، و : "تعالى".
(2) في أ : "في أول البقرة وآخرها" ، وفي جـ : "في أول سورة
الواقعة وفي آخرها".
(3) في جـ : "فلخص".
(4) صحيح البخاري برقم (34) وصحيح مسلم برقم (58) ولفظه : "أربع من كن فيه
كان منافقا خالصا - والرابعة - وإذا خاصم فجر".
(5) في جـ : "المددين".
(6) المسند (3/17).
(7) في جـ ، ط ، ب ، و : "ابن إسحاق".
(8) زيادة من جـ.
(9) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(10) في جـ : "غير هذا الموضع".
(11) في جـ : "فراشا" وهو خطأ.
(12) صحيح البخاري برقم (4761) وصحيح مسلم برقم (68).
(1/144)
ونقل
أبو نصر القشيري (1) عن الحسن وجعفر الصادق أنهما شددا الميم من آمين مثل : {
آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } [المائدة : 2].
قال أصحابنا وغيرهم : ويستحب ذلك لمن هو خارج الصلاة ، ويتأكد في حق المصلي ،
وسواء كان منفردًا أو إمامًا أو مأمومًا ، وفي جميع الأحوال ، لما جاء في الصحيحين
، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا
أمن الإمام فأمنوا ، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة ، غفر له ما تقدم من
ذنبه" ولمسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا قال أحدكم
في الصلاة : آمين ، والملائكة (2) في السماء : آمين ، فوافقت إحداهما الأخرى ، غفر
له ما تقدم من ذنبه" (3).[قيل : بمعنى من وافق تأمينه تأمين الملائكة في
الزمان ، وقيل : في الإجابة ، وقيل : في صفة الإخلاص] (4).وفي صحيح مسلم عن أبي
موسى مرفوعا : "إذا (5) قال ، يعني الإمام : { ولا الضالين } ، فقولوا :
آمين. يجبكم الله" (6).وقال جُوَيبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : قلت :
يا رسول الله ، ما معنى آمين ؟ قال : "رب افعل" (7).وقال الجوهري : معنى
آمين : كذلك فليكن ، وقال الترمذي : معناه : لا تخيب رجاءنا ، وقال الأكثرون :
معناه : اللهم استجب لنا ، وحكى القرطبي عن مجاهد وجعفر الصادق وهلال بن كيسان :
أن آمين اسم من أسماء الله تعالى وروي عن ابن عباس مرفوعًا ولا يصح ، قاله أبو بكر
بن العربي المالكي (8).وقال أصحاب مالك : لا يؤمن الإمام ويؤمن المأموم ، لما رواه
مالك عن سُمَيّ ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : "وإذا قال ، يعني الإمام : { ولا الضالين } ، فقولوا : آمين".
الحديث (9). واستأنسوا - أيضا - بحديث أبي موسى : "وإذا قرأ : { ولا الضالين
} ، فقولوا : "آمين".
وقد قدمنا في المتفق عليه : "إذا أمن الإمام فأمنوا" وأنه عليه الصلاة
والسلام كان يؤمن إذا قرأ (10) { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا
الضَّالِّينَ }
__________
(1) في جـ : "ولا".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (7373) ومسلم في صحيحه برقم (30).
(3) في جـ : "ليقول".
(4) رواه أبو داود في السنن برقم (4980) من حديث حذيفة رضي الله عنه.
(5) ورواه الإمام أحمد في المسند (5/72) من طريق بهز وعفان عن حماد بن سلمة به.
(6) رواه ابن ماجة في السنن برقم (2118) عن هشام بن عمار ، عن سفيان ، عن عبد
الملك بن عمير به ، وقال البوصيري في الزوائد (2/151) : "هذا إسناد رجاله
ثقات على شرط البخاري لكنه منقطع بين سفيان وبين عبد الملك بن عمير".
(7) في جـ : "أندادا".
(8) سنن النسائي الكبرى برقم (10825) وسنن ابن ماجة برقم (2117) وقال البوصيري في
الزوائد (1/150) : "هذا فيه الأجلح بن عبد الله ، مختلف فيه".
(9) في جـ : "تعالى".
(10) زيادة من جـ ، ط.
(1/145)
وقد
اختلف أصحابنا في الجهر بالتأمين للمأموم في الجهرية ، وحاصل الخلاف أن الإمام إن
نسي التأمين جهر المأموم به قولا واحدًا ، وإن أمَّن الإمام جهرًا فالجديد أنه لا
يجهر المأموم وهو مذهب أبي حنيفة ، ورواية عن مالك ؛ لأنه ذكر من الأذكار فلا يجهر
به كسائر أذكار الصلاة. والقديم أنه يجهر به ، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل ،
والرواية الأخرى عن مالك ، لما (1) تقدم : "حتى يرتج المسجد".
ولنا قول آخر ثالث : أنه إن كان المسجد صغيرًا لم يجهر المأموم (2) ، لأنهم يسمعون
قراءة الإمام ، وإن كان كبيرا جهر ليبلغ التأمين مَنْ في أرجاء المسجد ، والله
أعلم.
وقد روى الإمام أحمد في مسنده ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم ذكرت عنده اليهود ، فقال : "إنهم لن يحسدونا (3) على شيء كما
يحسدونا (4) على الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها ، وعلى القبلة التي هدانا
الله لها وضلوا عنها ، وعلى قولنا خلف الإمام : آمين" (5) ، ورواه ابن ماجه ،
ولفظه : "ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين" (6)
، وله عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ما حسدتكم اليهود
على شيء ما حسدتكم على قول : آمين ، فأكثروا من قول : "آمين" (7) وفي
إسناده طلحة بن عمرو ، وهو ضعيف.
وروى ابن مَرْدُويه ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"آمين : خاتم رب العالمين على عباده المؤمنين" (8).وعن أنس ، قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أعطيت آمين في الصلاة وعند الدعاء ، لم يعط
أحد قبلي إلا أن يكون موسى ، كان موسى يدعو ، وهارون يؤمن ، فاختموا الدعاء بآمين
، فإن الله يستجيبه لكم" (9).
قلت : ومن هنا نزع بعضهم في الدلالة بهذه الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : {
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالا
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ
عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا
الْعَذَابَ الألِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا
تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } [يونس : 88 ، 89] ، فذكر الدعاء
عن موسى وحده ، ومن سياق الكلام ما يدل على أن
__________
(1) في جـ : "لأن هذا".
(2) في جـ : "وقال".
(3) في جـ : "الله وحده".
(4) في جـ ، أ : "عمله".
(5) في جـ : "سره".
(6) في ب : "أطيب عند الله".
(7) في جـ ، ب ، أ ، و : "نفسي منكم".
(8) في جـ : "وصلى وزعم أنه مسلم".
(9) في أ : "وإن صلى وإن صام".
(1/146)
هارون
أمَّن ، فنزل منزلة من دعا ، لقوله تعالى : { قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا }
[يونس : 89] ، فدلّ ذلك على أن من أمَّن على دعاء فكأنما قاله ؛ فلهذا قال من قال
: إن المأموم لا يقرأ لأن تأمينه على قراءة الفاتحة بمنزلة قراءتها ؛ ولهذا جاء في
الحديث : "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" ، وكان بلال يقول :
لا تسبقني بآمين. فدل هذا المنزع على أن المأموم لا قراءة عليه في الجهرية ، والله
أعلم.
ولهذا قال ابن مَرْدُويه : حدثنا أحمد بن الحسن ، حدثنا عبد الله بن محمد بن سلام
، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا جرير ، عن ليث بن أبي سليم ، عن كعب ، عن أبي
هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا قال الإمام : {
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } فقال : آمين ، فتوافق (1)
آمين أهل الأرض آمين أهل السماء ، غفر الله للعبد ما تقدم من ذنبه ، ومثل من لا
يقول : آمين ، كمثل رجل غزا مع قوم ، فاقترعوا ، فخرجت سهامهم ، ولم يخرج سهمه ،
فقال : لِمَ لَمْ يخرج سهمي ؟ فقيل : إنك لم تقل : آمين" (2).
__________
(1) في جـ ، ط : "بل بما سماهم".
(2) المسند (4/130).
(1/147)
[بسم
الله الرحمن الرحيم] (1)
تفسير سورة البقرة
خمسة وعشرون ألفًا وخمسمائة حرف ، وستة آلاف ومائة وعشرون كلمة ، ومائتان وستة
وثمانون آية في عدد الكوفي وعدد علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ذكر ما ورد في فضلها
قال الإمام أحمد : حدثنا عارم ، حدثنا معتمر ، عن أبيه ، عن رجل ، عن أبيه ، عن
معقل بن يسار ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " البقرة سَنَام
القرآن وذروته ، نزل مع كل آية منها ثمانون مَلَكًا ، واستخرجت : "اللَّهُ لا
إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" [البقرة : 255] من تحت العرش ، فوصلت
بها ، أو فوصلت بسورة البقرة ، ويس : قلب القرآن ، لا يقرؤها رجل يريد الله ،
والدار الآخرة إلا غفر له ، واقرؤوها على موتاكم " انفرد به أحمد (2).
وقد رواه أحمد - أيضًا - عن عارم ، عن عبد الله بن المبارك ، عن سليمان التيمي (3)
عن أبي عثمان - وليس بالنَّهْدي - عن أبيه ، عن مَعْقِل بن يَسَار ، قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرؤوها على موتاكم " يعني : يس (4).
فقد بَيَّنَّا بهذا الإسناد معرفة المبهم في الرواية الأولى. وقد أخرج هذا الحديث
على هذه الصفة في الرواية الثانية أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه (5).
وقد روى الترمذي من حديث حكيم بن جبير ، وفيه ضعف ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ،
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لكل شيء سنام ، وإن سَنَام
القرآن البقرة ، وفيها آية هي سيدة آي القرآن : آية الكرسي " (6).
وفي مسند أحمد وصحيح مسلم والترمذي والنسائي ، من حديث سهيل (7) بن أبي صالح ، عن
أبيه ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تجعلوا
بيوتكم قبورًا ، فإن البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان " (8)
وقال الترمذي : حسن صحيح.
__________
(1) زيادة من جـ ، ط.
(2) المسند (5/26).
(3) في جـ : "التميمي".
(4) المسند (5/26) وأبو عثمان لم يوثقه سوى ابن حبان وأبوه لا يعرف ، وقد اتضح أن
الحديث مضطرب ، اختلف فيه على سليمان التميمي.
(5) سنن أبي داود برقم (3121) وسنن النسائي الكبرى برقم (10913) وسنن ابن ماجة
برقم (1448).
(6) سنن الترمذي برقم (2878) ورواه الحاكم في المستدرك (2/259) من طريق حكيم بن
جبير به.
(7) في أ : "سهل".
(8) المسند (2/284) وصحيح مسلم برقم (780) وسنن الترمذي برقم (2877) وسنن النسائي
الكبرى برقم (8015).
(1/149)
وقال
أبو عبيد القاسم بن سلام : حدثني ابن أبي مريم ، عن ابن (1) لهيعة ، عن يزيد بن
أبي حبيب ، عن سِنان بن سعد ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : " إن الشيطان يخرج من البيت إذا سمع سورة البقرة تقرأ فيه " (2).
سنان بن سعد ، ويقال بالعكس ، وثقه ابن معين واستنكر حديثه أحمد بن حنبل وغيره.
وقال أبو عبيد : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن سلمة بن كُهَيْل ، عن أبي
الأحوص ، عن عبد الله ، يعني ابن مسعود ، قال : إن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع
فيه سورة البقرة. ورواه النسائي في اليوم والليلة ، وأخرجه الحاكم في مستدركه من
حديث شعبة (3) ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه.
وقال ابن مَرْدُويه : حدثنا أحمد بن كامل ، حدثنا أبو إسماعيل الترمذي ، حدثنا
أيوب بن سليمان بن بلال ، حدثني أبو بكر بن أبي أويس ، عن سليمان بن بلال ، عن
محمد بن عجلان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا ألْفَيَنَّ أحَدَكم ، يَضَع إحدى رجليه
على الأخرى يتغنى ، ويدع سورة البقرة يقرؤها ، فإن الشيطان يفرّ من البيت تقرأ فيه
سورة البقرة ، وإن أصفْرَ البيوت ، الجَوْفُ الصِّفْر من كتاب الله ".
وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة ، عن محمد بن نصر ، عن أيوب بن سليمان ، به
(4).
وروى الدارمي في مسنده عن ابن مسعود قال : ما من بيت تقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج
منه الشيطان وله ضراط (5). وقال : إن لكل شيء سناما ، وإن سنام القرآن سورة البقرة
، وإن لكل شيء لبابًا ، وإن لباب القرآن المفصل (6). وروى - أيضا - من طريق الشعبي
قال : قال عبد الله بن مسعود : من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل
ذلك البيت شيطان تلك الليلة أربع من أولها وآية الكرسي وآيتان بعدها وثلاث آيات من
آخرها (7) وفي رواية : لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ولا شيء يكرهه ولا يقرأن على
مجنون إلا أفاق.
وعن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لكل شيء سناما
، وإن سنام القرآن البقرة ، من قرأها في بيته ليلة (8) لم يدخله الشيطان (9) ثلاث
ليال ، ومن قرأها في بيته نهارًا لم يدخله
__________
(1) في جـ : "أبي".
(2) فضائل القرآن (ص121).
(3) فضائل القرآن لأبي عبيد (ص121) وسنن النسائي الكبرى برقم (10800) والمستدرك
(2/260).
(4) سنن النسائي الكبرى برقم (10799) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3292)
"مجمع البحرين" من طريق حلو بن السري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ،
عن عبد الله به مرفوعا وخالفهما - أي ابن عجلان وحلو بن السري - شعبة ، فرواه عن
أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله فوقفه ، أخرجه ابن الضريس في فضائل
القرآن برقم (176) وشعبة أوثق الناس في أبي إسحاق ، ورواه ابن الضريس في فضائل
القرآن برقم (165) من طريق إبراهيم ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله موقوفا.
(5) سنن الدارمي برقم (3375).
(6) سنن الدارمي برقم (3377).
(7) سنن الدارمي برقم (3383).
(8) في أ : "ليلا".
(9) في ط ، ب : "شيطان".
(1/150)
الشيطان
(1) ثلاثة أيام ".
رواه أبو القاسم الطبراني ، وأبو حاتم ، وابن حبان في صحيحه (2).
وقد روى الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه من حديث عبد الحميد بن جعفر ، عن سعيد
المقبري ، عن عطاء مولى أبي أحمد ، عن أبي هريرة ، قال : بعث رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعثا وهم ذوو عدد ، فاستقرأهم فاستقرأ كُلّ واحد منهم ، يعني ما معه من
القرآن ، فأتى على رجل من أحدثهم سنًا ، فقال : " ما معك يا فلان ؟ "
قال : معي كذا وكذا وسورة البقرة ، فقال : " أمعك سورة البقرة ؟" قال :
نعم. قال : " اذهب فأنت أميرهم " فقال رجل من أشرافهم : والله ما منعني
أن أتعلم البقرة (3) إلا أني خشيت ألا أقوم بها. فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : " تعلموا القرآن واقرؤوه ، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأ وقام به
كمثل جراب محشو مسْكًا يفوح ريحه في كل مكان ، ومثل من تعلمه ، فيرقد وهو في جوفه
، كمثل جراب أوكِي على مسك " (4).
هذا لفظ رواية الترمذي ، ثم قال : هذا حديث حسن. ثم رواه من حديث الليث ، عن سعيد
، عن عطاء مولى أبي أحمد مرسلا فالله أعلم (5).
قال (6) البخاري : وقال الليث : حدثني يزيد بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم ، عن
أسَيد بن حُضَير (7) قال : بينما هو يقرأ من الليل (8) سورة البقرة ، وفرسه مربوطة
عنده ، إذ جالت الفرس ، فسكت ، فسكَنتْ ، فقرأ (9) فجالت الفرس ، فسكت ، فسكنت ،
ثم قرأ فجالت الفرس ، فانصرف ، وكان ابنه يحيى قريبًا منها. فأشفق أن تصيبه ، فلما
أخذه رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها ، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم
فقال : " اقرأ يا ابن حُضَير (10) ". قال : فأشفقت يا رسول الله أن تطأ
يحيى ، وكان منها قريبًا ، فرفعت رأسي وانصرفت إليه ، فرفعت رأسي إلى السماء ،
فإذا مثل الظُّلَّة فيها أمثال المصابيح ، فخرجت حتى لا أراها ، قال : "
وتدري ما ذاك ؟ ". قال : لا. قال : " تلك الملائكة دنت لصوتك ولو قرأت
لأصبحت (11) ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم (12).
وهكذا رواه الإمام العَالم أبو عبيد القاسم بن سلام ، في كتاب فضائل القرآن ، عن
عبد الله بن صالح ، ويحيى بن بكير ، عن الليث به (13).
وقد روي من وجه آخر (14) عن أسيد بن حضير ، كما تقدم (15) ، والله أعلم.
__________
(1) في ط ، ب : "شيطان".
(2) المعجم الكبير (6/163) وصحيح ابن حبان برقم (1727) "موارد".
(3) في أ : "سورة البقرة".
(4) سنن الترمذي برقم (2876) وسنن النسائي الكبرى برقم (8749).
(5) في جـ : "فالله تبارك وتعالى أعلم".
(6) في ب : "وقال".
(7) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "الحضير".
(8) في جـ ، ط : "في".
(9) في ط : "ثم قرأ".
(10) في جـ ، أ : "الحضير".
(11) في أ : "لأصبح".
(12) صحيح البخاري برقم (5018).
(13) فضائل القرآن (ص26).
(14) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "وجوه أخر".
(15) سبق تخريجه في فضائل القرآن.
(1/151)
وقد
وقع نحو من هذا لثابت بن قيس بن شماس ، (1) رضي الله عنه ، وذلك فيما رواه أبو
عبيد [القاسم] (2) : حدثنا عباد بن عباد ، عن جرير بن حازم ، عن جرير (3) بن يزيد
: أن أشياخ أهل المدينة حدثوه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قيل له : ألم
تر ثابت بن قيس بن شماس ؟ لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح ، قال : " فلعله
قرأ سورة البقرة ". قال : فسئل ثابت ، فقال : قرأت سورة البقرة (4).
وهذا إسناد جيد ، إلا أن فيه إبهاما ، ثم هو مرسل ، والله أعلم. [ذكر] (5) ما ورد
في فضلها مع آل عمران
قال (6) الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا بشير بن مهاجر (7) حدثني عبد الله
بن بريدة ، عن أبيه ، قال : كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول
: " تعلموا سورة البقرة ، فإن أخذها بركة ، وتركها حسرة ، ولا تستطيعها
البطلة ". قال : ثم سكت ساعة ، ثم قال : " تعلموا سورة البقرة ، وآل
عمران ، فإنهما الزهراوان ، يُظلان صاحبهما يوم القيامة ، كأنهما غمامتان أو
غيايتان ، أو فرْقان من طير صَوافّ ، وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق
عنه قبره كالرجل الشاحب ، فيقول له : هل تعرفني ؟ فيقول : ما أعرفك. فيقول : أنا
صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر ، وأسهرت ليلك ، وإن كل تاجر من وراء تجارته
، وإنك اليوم من وراء كل تجارة. فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله ، ويوضع على
رأسه تاج الوقار ، ويكسى والداه حلتين ، لا يقوم لهما (8) أهل الدنيا ، فيقولان :
بم كسينا هذا ؟ فيقال : بأخذ ولدكما القرآن ، ثم يقال : اقرأ واصعد في دَرَج الجنة
وغرفها ، فهو في صعود ما دام يقرأ هَذًّا كان أو ترتيلا ".
وروى ابن ماجه من حديث بشير بن المهاجر (9) بعضه (10) ، وهذا إسناد حسن (11) على
شرط مسلم ، فإن بشيرا هذا أخرج له مسلم ، ووثقه ابن معين ، وقال النسائي : ليس به
بأس ، إلا أن الإمام أحمد قال فيه : هو منكر الحديث ، قد اعتبرت أحاديثه فإذا هي
تجيء بالعجب. وقال البخاري : يخالف في بعض حديثه. وقال أبو حاتم الرازي : يكتب
حديثه ولا يحتج به. وقال ابن عدي : روى ما لا يتابع عليه. وقال الدارقطني : ليس بالقوي.
قلت : ولكن لبعضه شواهد ؛ فمن ذلك حديث أبي أمامة الباهلي ؛ قال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا هشام ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلام ، عن أبي
أمامة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اقرؤوا القرآن
فإنه شافع لأهله يوم القيامة ، اقرؤوا الزهراوين : البقرة وآل عمران ، فإنهما
يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان ، أو كأنهما غيايتان ، أو كأنهما فِرْقان من
طير صوافّ يحاجان عن أهلهما " (12) ثم قال : " اقرؤوا البقرة فإن أخذها
بركة (13) ، وتركها حسرة ، ولا تستطيعها
__________
(1) في ط ، ب : "الشماس".
(2) زيادة من ط.
(3) في جـ ، ب : "عن عمه جرير".
(4) فضائل القرآن لأبي عبيد (ص27) وتقدم تخريجه في فضائل القرآن أيضا.
(5) زيادة من أ ، و.
(6) في جـ ، ط : "وقال".
(7) في ط ، ب : "المهاجر".
(8) في أ ، و : "عليهما".
(9) في جـ : "المهاجر به".
(10) المسند (5/348) وسنن ابن ماجة برقم (3781).
(11) في جـ : "جيد".
(12) في جـ : "عن أهلهما يوم القيامة".
(13) في أ : "حسنة".
(1/152)
البطلة
" (1).
وقد رواه مسلم في الصلاة من حديث معاوية بن سلام ، عن أخيه زيد بن سلام ، عن جده
أبي سلام مَمْطور الحَبَشِيّ ، عن أبي أمامة صُدَيّ بن عجلان [الباهلي] (2) ، به
(3).
الزهراوان : المنيران ، والغياية : ما أظلك من فوقك. والفِرْقُ : القطعة من الشيء
، والصواف : المصطفة المتضامة (4). والبطلة السحرة ، ومعنى " لا تستطيعها
" أي : لا يمكنهم حفظها ، وقيل : لا تستطيع النفوذ في قارئها ، والله أعلم.
ومن ذلك حديث النَّوّاس (5) بن سِمْعان. قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه
، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن محمد بن مهاجر ، عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرَشي ،
عن جُبَير بن نُفَير ، قال : سمعت النواس بن سمعان الكلابي ، يقول : سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين
كانوا يعملون به ، تقدمهم سورة البقرة وآل عمران ". وضرب لهما رسول الله صلى
الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد ، قال : " كأنهما غمامتان أو ظلتان
سوداوان بينهما شَرْق ، أو كأنهما فرْقَان من طير صَوَاف (6) يُحَاجَّان عن
صاحبهما " (7).
ورواه مسلم ، عن إسحاق بن منصور ، عن يزيد بن عبد ربه ، به (8).
والترمذي ، من حديث الوليد بن عبد الرحمن الجرشي ، به (9). وقال : حسن غريب.
وقال أبو عبيد : حدثنا حجاج ، عن حماد بن سلمة ، عن عبد الملك بن عمير ، قال : قال
حماد : أحسبه عن أبي منيب ، عن عمه ؛ أن رجلا قرأ البقرة وآل عمران ، فلما قضى
صلاته قال له كعب : أقرأت البقرة وآل عمران ؟ قال : نعم. قال : فوالذي نفسي بيده ،
إن فيهما اسم الله الذي إذا دعي به استجاب (10). قال : فأخبرني به. قال : لا والله
لا أخبرك ، ولو أخبرتك لأوشكت أن تدعوه بدعوة أهلك فيها أنا وأنت (11).
[قال أبو عبيد] (12) : وحدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن سليم بن
عامر : أنه سمع أبا أمامة يقول : إن أخًا لكم (13) أرِي في المنام أن الناس يسلكون
في صدع جبل وعر طويل ، وعلى رأس الجبل شجرتان خضراوان تهتفان : هل فيكم من يقرأ
سورة البقرة ؟ وهل فيكم من يقرأ سورة آل عمران ؟ قال : فإذا قال الرجل : نعم. دنتا
منه بأعذاقهما ، حتى يتعلق بهما فتُخطران به
__________
(1) المسند (5/249).
(2) زيادة من جـ ، ب ، أ ، و.
(3) صحيح مسلم برقم (804).
(4) في جـ : "المتصلة".
(5) في جـ : "نواس".
(6) في جـ ، ط : "من طير صاف".
(7) في أ : "صاحب لهما".
(8) المسند (4/183) وصحيح مسلم برقم (805).
(9) سنن الترمذي برقم (2883).
(10) في ط : "أجاب".
(11) فضائل القرآن (ص126).
(12) زيادة من ب.
(13) في جـ : "أخاكم".
(1/153)
الجبل
(1).
[قال أبو عبيد] (2) وحدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن أبي عمران :
أنه سمع أم الدرداء تقول : إن رجلا ممن قرأ القرآن أغار على جار له ، فقتله ، وإنه
أقيدَ به (3) ، فقتل ، فما زال القرآن ينسل منه سورة سورة ، حتى بقيت البقرة وآل
عمران جمعة ، ثم إن آل عمران انسلت منه ، وأقامت البقرة جمعة ، فقيل لها : { مَا
يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ } [ق : 29] قال :
فخرجت كأنها السحابة العظيمة (4).
قال أبو عبيد : أراه ، يعني : أنهما كانتا معه في قبره تدفعان عنه وتؤنسانه ،
فكانتا من آخر ما بقي معه من القرآن.
وقال - أيضًا - : حدثنا أبو مُسْهِر الغساني ، عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي : أن
يزيد بن الأسود الجُرَشي كان يحدث (5) : أنه من قرأ البقرة وآل عمران في يوم ، برئ
من النفاق حتى يمسي ، ومن قرأهما من ليلة برئ من النفاق حتى يصبح ، قال : فكان
يقرؤهما كل يوم وليلة سوى جزئه (6).
[قال أيضًا] (7) : وحدثنا يزيد ، عن وقاء (8) بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، قال :
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : من قرأ البقرة وآل عمران في ليلة كان - أو كتب -
من القانتين (9).
فيه انقطاع ، ولكن ثبت في الصحيحين (10) : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ
بهما (11) في ركعة واحدة (12). [ذكر] (13) ما ورد في فضل السبع الطول
قال أبو عبيد : حدثنا هشام بن إسماعيل الدمشقي ، عن محمد بن شعيب ، عن سعيد بن
بشير ، عن قتادة ، عن أبي المليح ، عن واثلة بن الأسقع ، عن النبي صلى الله عليه
وسلم ، قال : " أعطيت السبع الطُّوال مكان التوراة ، وأعطيت المئين مكان
الإنجيل ، وأعطيت المثاني (14) مكان الزبور ، وفضلت بالمفصّل " (15).
هذا حديث غريب ، وسعيد بن بشير ، فيه لين.
وقد رواه أبو عبيد [أيضا] (16) ، عن عبد الله بن صالح ، عن الليث ، عن سعيد بن أبي
هلال ، قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال... فذكره ، والله أعلم.
ثم قال (17) حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن عمرو (18) بن أبي عمرو ، مولى المطلب بن
عبد الله بن حنطب ، عن حبيب بن هند الأسلمي ،
__________
(1) فضائل القرآن (ص126).
(2) زيادة من و.
(3) في جـ ، ط ، ب : "منه".
(4) فضائل القرآن (ص126 ، 127].
(5) في جـ : "يحدثه".
(6) فضائل القرآن (127).
(7) زيادة من ب ، و.
(8) في هـ : "ورقاء".
(9) فضائل القرآن (ص127).
(10) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "والصحيح".
(11) في جـ ، ط ، ب ، و : "قرأ بهن" ، وفي أ : "قرأهن".
(12) الحديث وقع لي في سنن النسائي (2/177) من حديث حذيفة ، رضي الله عنه.
(13) زيادة من أ ، و.
(14) في أ : "وأعطيت السبع المثاني".
(15) فضائل القرآن (ص120) ورواه الطبري في تفسيره (1/100) من طريق رواد بن الجراح
عن سعيد بن بشير به ، ورواه الطبري في تفسيره (1/100) من طريق الطيالسي عن عمران -
أبي العوام - عن قتادة به ، ورواه الطبري في تفسيره (1/101) من طريق ليث بن أبي
سليم عن أبي بردة عن أبي المليح به نحوه.
(16) زيادة من ب.
(17) في ب : "قال أيضا".
(18) في جـ : "عمر".
(1/154)
عن
عروة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أخذ السبع فهو
حَبْر" (1).
وهذا أيضًا غريب ، وحبيب بن هند بن أسماء بن هند بن حارثة الأسلمي ، روى عنه عمرو
بن أبي عمرو وعبد الله بن أبي بكرة ، وذكره أبو حاتم الرازي ولم يذكر فيه جرحا ،
فالله أعلم.
وقد رواه الإمام أحمد ، عن سليمان بن داود ، وحسين ، كلاهما عن إسماعيل بن جعفر ،
به (2).
ورواه - أيضًا - عن أبي سعيد ، عن سليمان بن بلال ، عن حبيب بن هند ، عن عروة ، عن
عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أخذ السبع الأوَل من
القرآن فهو حَبْر " (3).
قال أحمد : وحدثنا حسين ، حدثنا ابن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم مثله (4).
قال عبد الله بن أحمد : وهذا أرى فيه ، عن أبيه ، عن الأعرج ، ولكن كذا كان في
الكتاب بلا " أبي " (5) ، أغفله أبي ، أو كذا هو مرسل ، ثم قال أبو عبيد
: حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله تعالى : { وَلَقَدْ
آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي } [الحجر : 87] ، قال : هي السبع الطول :
البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، ويونس. قال :
وقال مجاهد : هي السبع الطول. وهكذا قال مكحول ، وعطية بن قيس ، وأبو محمد الفارسي
(6) ، وشَداد بن عبيد الله ، ويحيى بن الحارث الذماري في تفسير الآية بذلك ، وفي
تعدادها ، وأن يونس هي السابعة. فصل
والبقرة جميعها مدنية بلا خلاف ، قال بعض العلماء : وهي مشتملة على ألف خبر ، وألف
أمر ، وألف نهي.
وقال العادون : آياتها مائتان وثمانون وسبع آيات ، وكلماتها ستة آلاف كلمة ومائة
وإحدى وعشرون كلمة ، وحروفها خمسة (7) وعشرون ألفًا وخمسمائة حرف ، فالله أعلم.
قال ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : أنزل بالمدينة سورة البقرة.
وقال خَصيف : عن مجاهد ، عن عبد الله بن الزبير ، قال : أنزل بالمدينة سورة
البقرة.
وقال الواقدي : حدثني الضحاك بن عثمان ، عن أبي الزِّناد ، عن خارجة بن زيد بن
ثابت ، عن أبيه ، قال : نزلت البقرة بالمدينة.
وهكذا قال غير واحد من الأئمة والعلماء ، والمفسرين ، ولا خلاف فيه.
__________
(1) فضائل القرآن (ص120).
(2) المسند (6/73).
(3) المسند (6/82).
(4) المسند (6/73).
(5) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "فلا أدري".
(6) في جـ ، ط ، ب : "القارئ".
(7) في جـ : "خمس".
(1/155)
الم (1)
وقال
ابن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن مَعْمَر ، حدثنا الحسن بن علي بن الوليد [الفارسي]
(1) حدثنا خلف بن هشام ، حدثنا عُبيس (2) بن ميمون ، عن موسى بن أنس بن مالك ، عن
أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقولوا : سورة البقرة
، ولا سورة آل عمران ، ولا سورة النساء ، وكذا القرآن كله ، ولكن قولوا : السورة
التي يذكر فيها البقرة ، والتي يذكر فيها آل عمران ، وكذا القرآن كله " (3).
هذا حديث غريب لا يصح رفعه ، وعيسى بن ميمون هذا هو أبو سلمة الخواص ، وهو ضعيف
الرواية ، لا يحتج به. وقد ثبت في الصحيحين (4) ، عن ابن مسعود : أنه رمى الجمرة
من بطن الوادي ، فجعل البيت عن يساره ، ومنى عن يمينه ، ثم قال (5) : هذا مقام
الذي أنزلت عليه سورة البقرة. أخرجاه (6).
وروى ابن مَرْدُويه ، من حديث شعبة ، عن عقيل بن طلحة ، عن عتبة بن فرقد (7) قال :
رأى النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه تأخرًا (8) ، فقال : " يا أصحاب سورة
البقرة " (9). وأظن هذا كان يوم حنين ، حين ولوا مدبرين أمر العباس فناداهم :
" يا أصحاب الشجرة " ، يعني أهل بيعة الرضوان. وفي رواية : " يا
أصحاب البقرة (10) " ؛ لينشطهم بذلك ، فجعلوا يقبلون من كل وجه (11). وكذلك
يوم اليمامة مع أصحاب مسيلمة ، جعل الصحابة يفرون لكثافة حَشْر (12) بني حنيفة ،
فجعل المهاجرون والأنصار يتنادون : يا أصحاب سورة البقرة ، حتى فتح الله عليهم
(13). رضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين.
{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم الم 1 }
قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور ، فمنهم من قال : هي مما
استأثر الله بعلمه ، فردوا علمها إلى الله ، ولم يفسروها [حكاه القرطبي في تفسيره
عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم به ، وقاله عامر الشعبي
وسفيان الثوري والربيع بن خثيم ، واختاره
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(2) في هـ : "عيسى".
(3) رواه الطبراني في الأوسط برقم (3450) "مجمع البحرين" والبيهقي في
شعب الإيمان برقم (2582) من طريق عُبيس بن ميمون ، عن موسى بن أنس به ، وقال
البيهقي : "عُبيس بن ميمون منكر الحديث : وهذا لا يصح ، وإنما روى عن ابن عمر
من قوله".
(4) ف جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "الصحيح".
(5) في و : "يقول".
(6) صحيح البخاري برقم (1747) وصحيح مسلم برقم (1296).
(7) في هـ : "مربد" وهو خطأ.
(8) في جـ : "تأخرا في أصحابه".
(9) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (17/133) من طريق علي بن قتيبة عن شعبة عن
عقيل بن أبي طلحة به ، وجاء من حديث أنس ، رواه أبو يعلى في مسنده (6/289) من طريق
عمرو بن عاصم عن أبي العوام عن معمر عن الزهري عن أنس رضي الله عنه.
(10) في ب : "سورة البقرة".
(11) جاء من حديث العباس ، رواه مسلم في صحيحه برقم (1775) من طريق الزهري ، عن
كثير بن عباس عن أبيه العباس رضي الله عنه.
(12) في جـ ، ط ، ب ، و : "حبيش".
(13) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (12/502) من طريق هشام بن عروة ، عن أبيه قال :
"كان شعار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم مسيلمة : "يا أصحاب سورة
البقرة".
(1/156)
أبو
حاتم بن حبان (1) ] (2).
ومنهم من فسَّرها ، واختلف هؤلاء في معناها ، فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم :
إنما هي أسماء السور [قال العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره :
وعليه إطباق الأكثر ، ونقله عن سيبويه أنه نص عليه] (3) ، ويعتضد هذا بما ورد في
الصحيحين ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة
الصبح يوم الجمعة : الم السجدة ، وهل أتى على الإنسان (4).
وقال سفيان الثوري ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : أنه قال : الم ، وحم ، والمص
، وص ، فواتح افتتح الله بها القرآن.
وكذا قال غيره : عن مجاهد. وقال مجاهد في رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود ، عن شبل
، عن ابن أبي نجيح ، عنه ، أنه قال : الم ، اسم من أسماء القرآن.
وهكذا قال قتادة ، وزيد بن أسلم ، ولعل هذا يرجع إلى معنى قول عبد الرحمن بن زيد :
أنه اسم من أسماء السور (5) ، فإن كل سورة يطلق عليها اسم القرآن ، فإنه يبعد أن
يكون "المص" اسما للقرآن كله ؛ لأن المتبادر إلى فهم سامع من يقول :
قرأت "المص" ، إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف ، لا لمجموع القرآن.
والله أعلم.
وقيل : هي اسم من أسماء الله تعالى. فقال الشعبي : فواتح السور من أسماء الله
تعالى ، وكذلك قال سالم بن عبد الله ، وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير ، وقال
شعبة عن السدي : بلغني أن ابن عباس قال : الم اسم من أسماء الله الأعظم. هكذا رواه
ابن أبي حاتم من حديث شعبة.
ورواه ابن جرير عن بُنْدَار ، عن ابن مَهْدِي ، عن شعبة ، قال : سألت السدي عن حم
وطس والم ، فقال : قال ابن عباس : هي اسم الله الأعظم.
وقال ابن جرير : وحدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا أبو النعمان ، حدثنا شعبة ، عن
إسماعيل السدي ، عن مُرَّة الهمداني قال : قال عبد الله ، فذكر نحوه [وحكي مثله عن
علي وابن عباس] (6).
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو قسم أقسم الله به ، وهو من أسماء الله
تعالى.
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث ابن عُلية ، عن خالد الحذاء ، عن عكرمة أنه
قال : الم ، قسم.
ورويا (7) - أيضًا - من حديث شريك بن عبد الله ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي
الضُّحَى ، عن ابن عباس : الم ، قال : أنا الله أعلم.
وكذا قال سعيد بن جبير ، وقال السُّدِّي عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس
- وعن
__________
(1) تفسير القرطبي (1/154).
(2) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(3) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(4) صحيح البخاري برقم (891) وصحيح مسلم برقم (880).
(5) في ط ، ب ، أ ، و : "السورة".
(6) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(7) في جـ : "وروي".
(1/157)
مرّة
الهمذاني عن ابن مسعود. وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : الم. قال :
أما الم فهي حروف استفتحت من حروف هجاء أسماء الله تعالى.
وقال أبو جعفر الرّازي ، عن الرّبيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله تعالى : {
الم } قال : هذه الأحرف الثلاثة من التسعة والعشرين حرفًا دارت فيها الألسن كلها ،
ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه ، وليس منها حرف إلا وهو من آلائه
وبلائه ، وليس منها حرف إلا وهو في مدة أقوام وآجالهم. قال عيسى ابن مريم ، عليه
السلام ، وعَجب ، فقال : وأعْجَب أنهم ينطقون بأسمائه ويعيشون في رزقه ، فكيف
يكفرون به ؛ فالألف مفتاح اسم الله ، واللام مفتاح اسمه لطيف (1) والميم مفتاح
اسمه مجيد (2) فالألف آلاء الله ، واللام لطف الله ، والميم مجد الله ، والألف (3)
سنة ، واللام ثلاثون سنة ، والميم أربعون [سنة] (4). هذا لفظ ابن أبي حاتم. ونحوه
رواه ابن جرير ، ثم شرع يوجه كل واحد من هذه الأقوال ويوفق بينها ، وأنه لا منافاة
بين كل واحد منها وبين الآخر ، وأن الجمع ممكن ، فهي أسماء السور ، ومن أسماء الله
تعالى يفتتح بها السور ، فكل حرف منها دَلّ على اسم من أسمائه وصفة من صفاته ، كما
افتتح سورا كثيرة بتحميده وتسبيحه وتعظيمه. قال : ولا مانع من دلالة الحرف منها
على اسم من أسماء الله ، وعلى صفة من صفاته ، وعلى مدة وغير ذلك ، كما ذكره
الرّبيع بن أنس عن أبي العالية ؛ لأن الكلمة الواحدة تطلق على معان كثيرة ، كلفظة
الأمة فإنها تطلق ويراد به الدين ، كقوله تعالى : { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا
عَلَى أُمَّةٍ } [الزخرف : 22 ، 23]. وتطلق ويراد بها الرجل المطيع لله ، كقوله :
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ } [النحل : 120] وتطلق ويراد بها الجماعة ، كقوله : { وَجَدَ
عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ } [القصص : 23] ، وقوله : { وَلَقَدْ
بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا} [النحل : 36] وتطلق ويراد بها الحين من
الدهر كقوله : { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ }
[يوسف : 45] أي : بعد حين على أصح القولين ، قال : فكذلك هذا.
هذا حاصل كلامه موجهًا ، ولكن هذا ليس كما ذكره أبو العالية ، فإن أبا العالية زعم
أن الحرف دل على هذا ، وعلى هذا ، وعلى هذا معًا ، ولفظة الأمة وما أشبهها (5) من
الألفاظ المشتركة في الاصطلاح ، إنما دل في القرآن في كل موطن على معنى واحد دل
عليه سياق الكلام ، فأما حمله على مجموع محامله إذا أمكن فمسألة مختلف فيها بين
علماء الأصول ، ليس هذا (6) موضع البحث فيها ، والله أعلم ؛ ثم إن لفظ الأمة تدل
على كل (7) معانيه في سياق الكلام بدلالة الوضع ، فأما دلالة الحرف الواحد على اسم
يمكن أن يدل على اسم آخر من غير أن يكون أحدهما أولى من الآخر في التقدير أو
الإضمار بوضع ولا بغيره ، فهذا مما لا يفهم إلا بتوقيف ، والمسألة مختلف فيها ،
وليس فيها إجماع حتى يحكم به.
__________
(1) في جـ : "اسمه اللطيف" ، وفي أ : "اسم لطيف".
(2) في جـ : "المجيد".
(3) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "فالألف".
(4) زيادة من جـ ، ط ، ب.
(5) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "وما أشبهه".
(6) في أ : "هنا".
(7) في ط ، ب : "كل من".
(1/158)
وما
أنشدوه من الشواهد على صحة إطلاق الحرف الواحد على بقية الكلمة ، فإن في السياق ما
يدل على ما حذف بخلاف هذا ، كما قال الشاعر :
قلنا قفي لنا فقالت قاف... لا تَحْسَبِي أنا نَسينا الإيجاف (1)
تعني : وقفت. وقال الآخر :
ما للظليم عَالَ كَيْفَ لا يا... ينقَدُّ عنه جلده إذا يا (2)
قال ابن جرير : كأنه أراد أن يقول : إذا يفعل كذا وكذا ، فاكتفى بالياء من يفعل ،
وقال الآخر :
بالخير خيرات وإن شرًا فا... ولا أريد الشر إلا أن تا (3)
يقول : وإن شرًا فشر ، ولا أريد الشر إلا أن تشاء ، فاكتفى بالفاء والتاء من
الكلمتين عن بقيتهما ، ولكن هذا ظاهر من سياق الكلام ، والله أعلم.
[قال القرطبي : وفي الحديث : "من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة" (4)
الحديث. قال شقيق : هو أن يقول في اقتل : اق] (5).
وقال خصيف ، عن مجاهد ، أنه قال : فواتح السور كلها "ق وص وحم وطسم
والر" وغير ذلك هجاء موضوع. وقال بعض أهل العربية : هي حروف من حروف المعجم ،
استغنى بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها ، التي هي تتمة الثمانية
والعشرين حرفًا ، كما يقول القائل : ابني يكتب في : ا ب ت ث ، أي : في حروف المعجم
الثمانية والعشرين فيستغني بذكر بعضها عن مجموعها. حكاه ابن جرير.
قلت : مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفًا ،
وهي : ا ل م ص ر ك ي ع ط س ح ق ن ، يجمعها قولك : نص حكيم قاطع له سر. وهي نصف
الحروف عددًا ، والمذكور منها أشرف من المتروك ، وبيان ذلك من صناعة التصريف.
[قال الزمخشري : وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أنصاف أجناس الحروف يعني من
المهموسة والمجهورة ، ومن الرخوة والشديدة ، ومن المطبقة والمفتوحة ، ومن
المستعلية والمنخفضة ومن حروف القلقلة. وقد سردها مفصلة ثم قال : فسبحان الذي دقت
في كل شيء حكمته ، وهذه الأجناس المعدودة ثلاثون بالمذكورة منها ، وقد علمت أن
معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله] (6).
__________
(1) البيت في تفسير الطبري (1/212).
(2) البيت في تفسير الطبري (1/213).
(3) البيت في تفسير الطبري (1/213) وينسب إلى القيم بن أوس كما ذكره المحقق
الفاضل.
(4) تفسير القرطبي (1/156) والحديث رواه ابن ماجة في السنن برقم (2620) من طريق
يزيد بن أبي زياد ، عن الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة رضي الله عنه به مرفوعا ،
وقال البوصيري في الزوائد (2/334) : "هذا إسناد ضعيف ، يزيد بن أبي زياد
الدمشقي قال فيه البخاري وأبو حاتم : منكر الحديث".
تنبيه : وقع في بعض النسخ المساعدة : قال سفيان ، بدل شقيق ، والذي في تفسير
القرطبي موافق لما هاهنا ، وقد روي هذا القول عن سفيان الأصبهاني في الترغيب
والترهيب برقم (2329).
(5) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(6) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(1/159)
ومن
هاهنا لحظ (1) بعضهم في هذا المقام كلامًا ، فقال : لا شك أن هذه الحروف لم ينزلها
سبحانه وتعالى عبثًا ولا سدى ؛ ومن قال من الجهلة : إنَّه في القرآن ما هو تعبد لا
معنى له بالكلية ، فقد أخطأ خطأ كبيرًا ، فتعين أن لها معنى في نفس الأمر ، فإن صح
لنا فيها عن المعصوم شيء قلنا به ، وإلا وقفنا حيث وقفنا ، وقلنا : { آمَنَّا بِهِ
كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } [آل عمران : 7].
ولم يجمع العلماء فيها على شيء معين ، وإنما اختلفوا ، فمن ظهر له بعض الأقوال
بدليل فعليه اتباعه ، وإلا فالوقف حتى يتبين. هذا مقام.
المقام الآخر في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور ، ما (2) هي ؟
مع قطع النظر عن معانيها في أنفسها. فقال بعضهم : إنما ذكرت لنعرف بها أوائل
السور. حكاه ابن جرير ، وهذا ضعيف ؛ لأن الفصل حاصل بدونها فيما لم تذكر فيه ،
وفيما ذكرت فيه بالبسملة تلاوة وكتابة.
وقال آخرون : بل ابتدئ بها لتُفْتَحَ لاستماعها أسماعُ المشركين - إذ (3) تواصوا
بالإعراض عن القرآن - حتى إذا استمعوا له تُلي عليهم المؤلَّف منه. حكاه ابن جرير
- أيضًا - ، وهو ضعيف أيضًا ؛ لأنه لو كان كذلك لكان ذلك في جميع السور لا (4)
يكون في بعضها ، بل غالبها ليس كذلك ، ولو كان كذلك - أيضًا - لانبغى (5) الابتداء
بها في أوائل الكلام معهم ، سواء كان افتتاح سورة أو غير ذلك. ثم إن هذه السورة
والتي تليها أعني البقرة وآل عمران مدنيتان ليستا خطابًا للمشركين ، فانتقض ما
ذكروه بهذه الوجوه.
وقال آخرون : بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانًا
لإعجاز القرآن ، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله ، هذا مع أنه [تركب] (6) من
هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها.
ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه
وعظمته ، وهذا معلوم بالاستقراء ، وهو الواقع في تسع وعشرين سورة ، ولهذا يقول
تعالى : { الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ } [البقرة : 1 ، 2]. { الم *
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } [آل عمران : 1 - 3]. { المص *
كِتَابٌ أُنزلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ } [الأعراف : 1 ،
2]. { الر كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ
إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } [إبراهيم : 1]{ الم * تَنزيلُ الْكِتَابِ لا
رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [السجدة : 1 ، 2]. { حم * تَنزيلٌ مِنَ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [فصلت : 1 ، 2]. { حم * عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ
وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [الشورى : 1 -
3] ، وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن (7) النظر ،
والله أعلم.
__________
(1) في ب ، و : "لخص" ، وفي جـ ، ط : "يخص".
(2) في ط : "وما".
(3) في ط : "إذا".
(4) في ب : "ولا".
(5) في جـ ، ط : "لا ينبغي".
(6) زيادة من جـ ، ط ، ب.
(7) في ط : "أنعم".
(1/160)
وأما
من زعم أنها دالة على معرفة المدد ، وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن
والملاحم ، فقد ادعى ما ليس له ، وطار في غير مطاره ، وقد ورد في ذلك حديث ضعيف ،
وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته. وهو ما رواه محمد بن
إسحاق بن يسار ، صاحب المغازي ، حدثني الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، عن جابر
بن عبد الله بن رئاب ، قال : مر أبو ياسر (1) بن أخطب ، في رجال من يهود ، برسول
الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يتلو فاتحة سورة البقرة : { الم * ذَلِكَ
الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [ هدى للمتقين] (2) } [البقرة : 1 ، 2 ] فأتى أخاه حيي
بن أخطب في رجال من اليهود ، فقال : تعلمون - والله - لقد سمعت محمدا يتلو فيما
أنزل الله عليه : { الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ } فقال : أنت سمعته ؟
قال : نعم. قال : فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من اليهود (3) إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم : فقالوا : يا محمد ، ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل الله عليك :
{ الم * ذلك الكتاب لا [ريب] } (4) ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"بلى". فقالوا : جاءك (5) بهذا جبريل من عند الله ؟ فقال :
"نعم". قالوا : لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه (6) بين لنبي منهم ما
مدة ملكه وما أجل أمته غيرك. فقام (7) حيي بن أخطب ، وأقبل على من كان معه ، فقال
لهم : الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فهذه إحدى وسبعون سنة ،
أفتدخلون في دين نبي ، إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة ؟ ثم أقبل على
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ، هل مع هذا غيره ؟ فقال :
"نعم" ، قال : ما ذاك ؟ قال : "المص" ، قال : هذا أثقل وأطول
، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد سبعون (8) ، فهذه إحدى
وثلاثون (9) ومائة سنة. هل مع هذا يا محمد غيره (10) ؟ قال : "نعم" قال
: ما ذاك (11) ؟ قال : "الر". قال : هذا (12) أثقل وأطول ، الألف واحدة
، واللام ثلاثون ، والراء مائتان. فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة. فهل مع هذا يا
محمد غيره ؟ قال : "نعم" ، قال : ماذا ؟ قال : "المر". قال :
فهذه أثقل وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والراء مائتان ،
فهذه إحدى وسبعون ومائتان ، ثم قال : لقد لبس علينا أمرك يا محمد ، حتى ما ندري
أقليلا أعطيت أم كثيرا. ثم قال : قوموا عنه. ثم قال أبو ياسر (13) لأخيه حيي بن
أخطب ، ولمن معه من الأحبار : ما يدريكم ؟ لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون
وإحدى وثلاثون (14) ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان ، فذلك
سبعمائة وأربع سنين (15). فقالوا : لقد تشابه علينا أمره ، فيزعمون أن هؤلاء
الآيات نزلت فيهم : { هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ
مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } [آل عمران : 7]
(16).
__________
(1) في جـ : "أبو إياس".
(2) زيادة من جـ.
(3) في جـ ، ط : "من يهود".
(4) زيادة من ب.
(5) في جـ ، ط : "أجاءك".
(6) في جـ : "ما نعلمهم".
(7) في أ : "فقال".
(8) في جـ : "تسعون" ، وفي ط ، ب ، أ ، و : "ستون".
(9) في جـ : "إحدى وستون".
(10) في جـ ، أ ، و : "هل مع هذا غيره يا محمد".
(11) في جـ ، ط ، ب ، و : "ماذا".
(12) في جـ ، ط ، ب : "هذه".
(13) في جـ : "أبو إياس".
(14) في جـ : "إحدى وستون".
(15) في جـ : "أربع وثلاثين سنة".
(16) ورواه البخاري في التاريخ الكبير (2/208) والطبري في تفسيره (1/217) من طريق
ابن إسحاق ، وأطنب العلامة أحمد شاكر في الكلام عليه في حاشية تفسير الطبري.
(1/161)
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
فهذا
مداره على محمد بن السائب الكلبي ، وهو ممن لا يحتج بما انفرد به ، ثم كان مقتضى
هذا المسلك إن كان صحيحًا أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها
، وذلك يبلغ منه جملة كثيرة ، وإن حسبت مع التكرر فأتم وأعظم (1) والله أعلم.
{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) }
قال ابن جُرَيج : قال ابن عباس : "ذَلِكَ الْكِتَابُ" : هذا الكتاب.
وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والسديّ ومقاتل بن حيان ، وزيد بن أسلم
، وابن جريج : أن ذلك بمعنى هذا ، والعرب تقارض بين هذين الاسمين من أسماء الإشارة
فيستعملون كلا منهما مكان الآخر ، وهذا معروف في كلامهم.
و { الْكِتَابُ } القرآن. ومن قال : إن المراد بذلك الكتاب الإشارة إلى التوراة
والإنجيل ، كما حكاه ابن جرير وغيره ، فقد أبعد النَّجْعَة وأغْرق (2) في النزع ،
وتكلف ما لا علم له به.
والرّيب : الشك ، قال السدي عن أبي مالك ، وعن أبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرة
الهَمْدانيّ عن ابن مسعود ، وعن أناس (3) من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم :
{ لا رَيْبَ فِيهِ } لا شك فيه.
وقاله أبو الدرداء وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك ونافع مولى ابن عمر
وعطاء وأبو العالية والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان والسدي وقتادة وإسماعيل بن أبي
خالد. وقال ابن أبي حاتم : لا أعلم في هذا خلافًا.
[وقد يستعمل الريب في التهمة قال جميل :
بثينة قالت يا جميل أربتني... فقلت كلانا يا بثين مريب...
واستعمل - أيضًا - في الحاجة كما قال بعضهم (4) :
قضينا من تهامة كل ريب... وخيبر ثم أجمعنا السيوفا] (5)
ومعنى الكلام : أن هذا الكتاب - وهو القرآن - لا شك فيه أنه نزل (6) من عند الله ،
كما قال تعالى في السجدة : { الم * تَنزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ } [السجدة : 1 ، 2]. [وقال بعضهم : هذا خبر ومعناه النهي ، أي : لا
ترتابوا فيه] (7).
ومن القراء من يقف على قوله : { لا رَيْبَ } ويبتدئ بقوله : { فِيهِ هُدًى
لِلْمُتَّقِينَ } والوقف على قوله تعالى : { لا رَيْبَ فِيهِ } أولى للآية التي
ذكرنا ، ولأنه يصير قوله : { هُدًى } صفة للقرآن ، وذلك أبلغ من كون : { فِيهِ
هُدًى }.
و { هُدًى } يحتمل من حيث العربية أن يكون مرفوعًا على النعت ، ومنصوبًا على
الحال.
__________
(1) في و : "أطم وأعظم" ، وفي أ : "أعظم وأعظم".
(2) في جـ ، : "أغرب".
(3) في جـ ، ط : "ناس".
(4) هو كعب بن مالك ، والبيت في اللسان ، مادة "ريب".
(5) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(6) في جـ ، ط ، ب : "منزل".
(7) زيادة من جـ ، ط.
(1/162)
وخصّت
الهداية للمتَّقين. كما قال : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ
وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى
أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [فصلت : 44]. { وَنُنزلُ مِنَ
الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ
الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } [الإسراء : 82] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على
اختصاص المؤمنين بالنفع بالقرآن ؛ لأنه هو في نفسه هدى ، ولكن لا يناله إلا
الأبرار ، كما قال : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ }
[يونس : 57].
وقد قال السدي عن أبي مالك ، وعن أبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن
ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : { هُدًى
لِلْمُتَّقِينَ } يعني : نورًا (1) للمتقين.
وقال الشعبي : هدى من الضلالة. وقال سعيد بن جبير : تبيان للمتَّقين. وكل ذلك
صحيح.
وقال السدي : عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن
ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : { هُدًى
لِلْمُتَّقِينَ } قال : هم المؤمنون (2).
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة أو سعيد بن
جبير ، عن ابن عباس : { لِلْمُتَّقِينَ } أي : الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك
ما يعرفون من الهدى ، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به.
وقال أبو رَوْق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { لِلْمُتَّقِينَ } قال : المؤمنين
الذين يتَّقون (3) الشرك بي ، ويعملون بطاعتي.
وقال سفيان الثوري ، عن رجل ، عن الحسن البصري ، قوله : { لِلْمُتَّقِينَ } قال :
اتَّقوا ما حرّم الله عليهم ، وأدوا ما افترض عليهم.
وقال أبو بكر بن عياش : سألني الأعمش عن المتَّقين ، قال : فأجبته. فقال [لي] (4)
سل عنها الكلبي ، فسألته فقال : الذين يجتنبون كبائر الإثم. قال : فرجعت إلى
الأعمش ، فقال : نرى أنه كذلك. ولم ينكره.
وقال قتادة { لِلْمُتَّقِينَ } هم الذين نعتهم الله بقوله : { الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ } الآية والتي بعدها [البقرة : 3
، 4].
واختار ابن جرير : أن الآية تَعُمّ ذلك كله ، وهو كما قال.
وقد روى الترمذي وابن ماجه ، من رواية أبي عقيل عبد الله بن عقيل ، عن عبد الله بن
يزيد ، عن ربيعة بن يزيد ، وعطية بن قيس ، عن عطية السعدي ، قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "لا يبلغ العبد أن يكون من المتَّقين حتى يدع ما لا بأس
به حذرًا مما به بأس (5). ثم قال الترمذي : حسن غريب (6).
__________
(1) في جـ ، ب : "نور".
(2) في جـ : "يعني نورا للمؤمنين".
(3) في جـ : "يتعوذون".
(4) زيادة من جـ ، ط ، ب.
(5) في ب : "البأس".
(6) سنن الترمذي برقم (2451) وسنن ابن ماجه برقم (4215).
(1/163)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
وقال
ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن عمران ، حدثنا إسحاق بن سليمان ،
يعني الرازي ، عن المغيرة بن مسلم ، عن ميمون أبي حمزة ، قال : كنت جالسًا عند أبي
وائل ، فدخل علينا رجل ، يقال له : أبو عفيف ، من أصحاب معاذ ، فقال له شقيق بن
سلمة : يا أبا عفيف ، ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل ؟ قال : بلى سمعته يقول : يحبس
الناس يوم القيامة في بقيع واحد ، فينادي مناد : أين المتَّقون ؟ فيقومون في
كَنَفٍ من الرّحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر. قلت : من المتَّقون ؟ قال : قوم
اتَّقوا الشرك وعبادة الأوثان ، وأخلصوا لله العبادة ، فيمرون إلى الجنة (1).
وأصل التقوى : التوقي مما يكره لأن أصلها وقوى من الوقاية. قال النابغة :
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه... فتناولته واتقتنا باليد...
وقال الآخر :
فألقت قناعا دونه الشمس واتقت... بأحسن موصولين كف ومعصم...
وقد قيل : إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، سأل أبيّ بن كعب عن التقوى ، فقال له :
أما سلكت طريقًا ذا شوك ؟ قال : بلى قال : فما عملت ؟ قال : شمرت واجتهدت ، قال :
فذلك التقوى.
وقد أخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال :
خل الذنوب صغيرها... وكبيرها ذاك التقى...
واصنع كماش فوق أر... ض الشوك يحذر ما يرى...
لا تحقرن صغيرة... إن الجبال من الحصى...
وأنشد أبو الدرداء يومًا :
يريد المرء أن يؤتى مناه... ويأبى الله إلا ما أرادا...
يقول المرء فائدتي ومالي... وتقوى الله أفضل ما استفادا...
وفي سنن ابن ماجه عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما
استفاد المرء بعد تقوى الله خيرًا من زوجة صالحة ، إن نظر إليها سرته ، وإن أمرها
أطاعته ، وإن أقسم عليها أبرته ، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله" (2).
{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ (3) }
قال أبو جعفر الرازي ، عن العلاء بن المسيب بن رافع ، عن أبي إسحاق ، عن أبي
الأحوص ، عن عبد الله ، قال : الإيمان التصديق.
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (1/33) وفي إسناده ميمون القصاب ضعيف.
(2) سنن ابن ماجة برقم (1857) من طريق عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن زيد عن
القاسم ، عن أبي أمامة رضي الله عنه ، وقال البوصيري في الزوائد (2/70) :
"هذا إسناد فيه علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف ، وعثمان بن أبي العاتكة مختلف
فيه".
(1/164)
وقال
علي بن أبي طلحة وغيره ، عن ابن عباس ، { يُؤْمِنُونَ } يصدقون.
وقال مَعْمَر عن الزهري : الإيمان العمل.
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس : { يُؤْمِنُونَ } يخشون.
قال ابن جرير وغيره : والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولا واعتقادًا
وعملا قال : وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان ، الذي هو تصديق القول بالعمل ،
والإيمان كلمة جامعةٌ للإقرار بالله وكتبه ورسله ، وتصديق الإقرار بالفعل. قلت :
أما الإيمان في اللغة فيطلق على التصديق المحض ، وقد يستعمل في القرآن ، والمراد
به ذلك ، كما قال تعالى : { يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ }
[التوبة : 61] ، وكما قال إخوة يوسف لأبيهم : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ
كُنَّا صَادِقِينَ } [يوسف : 17] ، وكذلك إذا استعمل مقرونا مع الأعمال ؛ كقوله :
{ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [الإنشقاق : 25 ، والتين :
6] ، فأما إذا استعمل مطلقًا فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادًا وقولا
وعملا.
هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة ، بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عُبَيد وغير
واحد إجماعًا : أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. وقد ورد فيه آثار كثيرة وأحاديث
أوردنا (1) الكلام فيها في أول شرح البخاري ، ولله الحمد والمنة.
ومنهم من فسره بالخشية ، لقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ
بِالْغَيْبِ } [الملك : 12] ، وقوله : { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ
وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } [ق : 33] ، والخشية خلاصة الإيمان والعلم ، كما قال
تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [فاطر : 28].
وأما الغيب المراد هاهنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه ، وكلها صحيحة ترجع إلى أن
الجميع مراد.
قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : {
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } قال : يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر
، وجنته وناره ولقائه ، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث ، فهذا غيب كله.
وكذا قال قتادة بن دعامة.
وقال السدي ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني عن ابن
مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي (2) صلى الله عليه وسلم : أما الغَيب فما غاب عن
العباد من أمر الجنة ، وأمر النار ، وما ذكر في القرآن.
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرِمة ، أو عن سعيد بن جبير ،
عن ابن عباس : { بِالْغَيْبِ } قال : بما جاء منه ، يعني : مِنَ الله تعالى.
وقال سفيان الثوري ، عن عاصم ، عن زِرّ ، قال : الْغَيْب القرآن.
__________
(1) في جـ ، ط : "وأفردنا".
(2) في جـ ، ط : "رسول الله".
(1/165)
وقال
عطاء بن أبي رباح : من آمن بالله فقد آمن بالغيب.
وقال إسماعيل بن أبي خالد : { يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } قال : بغيب الإسلام.
وقال زيد بن أسلم : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } قال : بالقدر. فكل هذه
متقاربة في معنى واحد ؛ لأن جميع هذه المذكورات من الغيب الذي يجب الإيمان به.
وقال سعيد بن منصور : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن عبد
الرحمن بن يزيد (1) قال : كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا ، فذكرنا أصحَاب النبي
صلى الله عليه وسلم وما سبقوا به ، قال : فقال عبد الله : إن أمر محمد صلى الله
عليه وسلم كان بينا لمن رآه ، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيمانا أفضل من
إيمان بغيب ، ثم قرأ : { الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى
لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } إلى قوله : {
الْمُفْلِحُونَ } [البقرة : 1 - 5] (2).
وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، وابن مَرْدُويه ، والحاكم في مستدركه ، من طرق ، عن
الأعمش ، به (3).
وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه.
وفي معنى هذا الحديث الذي رواه [الإمام] (4) أحمد ، حدثنا أبو المغيرة ، أخبرنا
الأوزاعي ، حدثني أسيد (5) بن عبد الرحمن ، عن خالد بن دُرَيك ، عن ابن مُحَيريز ،
قال : قلت لأبي جمعة : حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
نعم ، أحدثك حديثًا جيدًا : تغدينا (6) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو
عبيدة بن الجراح ، فقال : يا رسول الله ، هل أحد (7) خير منا ؟ أسلمنا معك وجاهدنا
معك. قال : "نعم" ، قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني" (8).
طريق أخرى : قال أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا
إسماعيل عن عبد الله بن مسعود ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا معاوية بن صالح ،
عن صالح بن جُبَيْر ، قال : قدم علينا أبو جمعة الأنصاري ، صاحب رسول الله صلى
الله عليه وسلم ببيت المقدس ، ليصلي فيه ، ومعنا يومئذ رجاء بن حيوة ، فلما انصرف
(9) خرجنا نشيعه ، فلما أراد الانصراف قال : إن لكم جائزة وحقا ؛ أحدثكم بحديث
سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلنا : هات رحمك الله قال : كنا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة ، فقلنا : يا رسول الله ، هل
من قوم أعظم أجرًا منا ؟ آمنا بك واتبعناك ، قال :
__________
(1) في أ : "زيد".
(2) سنن سعيد بن منصور برقم (180) تحقيق د. الحميد.
(3) تفسير ابن أبي حاتم (1/34) والمستدرك (2/260).
(4) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(5) في هـ : "أسد".
(6) في جـ : "فعدنا".
(7) في جـ : "أأحد".
(8) المسند (4/106) قال الحافظ ابن حجر في الإصابة (4/33) : "واختلف فيه على
الأوزاعي ، فقال الأكثر : عن أسيد عن خالد بن دريك عن ابن محيريز. وقال ابن شماسة
: عن الأوزاعي عن أسيد عن صالح بن محمد حدثني أبو جمعة به" وقال في فتح
الباري (7/6) : "إسناده حسن".
(9) في جـ : "انصرفنا".
(1/166)
"ما
يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء ، بل قوم من بعدكم
يأتيهم كتاب بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه ، أولئك أعظم منكم أجرا"
مرتين (1).
ثم رواه من حديث ضَمْرَة بن ربيعة ، عن مرزوق بن نافع ، عن صالح بن جبير ، عن أبي
جمعة ، بنحوه (2).
وهذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوِجَادة التي اختلف فيها أهل الحديث ، كما
قررته في أول شرح البخاري ؛ لأنه مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجرًا من هذه
الحيثية لا مطلقا.
وكذا الحديث الآخر الذي رواه الحسن بن عرفة العبدي : حدثنا إسماعيل بن عياش الحمصي
، عن المغيرة بن قيس التميمي ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أي الخلق أعجب إليكم إيمانا ؟". قالوا
: الملائكة. قال : "وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم ؟". قالوا :
فالنبيون. قال : "وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم ؟". قالوا : فنحن.
قال : "وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم ؟". قال : فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "ألا إن أعجب الخلق إليّ إيمانا لَقَوْمٌ يكونون من بعدكم
يَجدونَ صحفا فيها كتاب يؤمنون بما فيها" (3).
قال أبو حاتم الرازي : المغيرة بن قيس البصري منكر الحديث.
قلت : ولكن قد روى أبو يعلى في مسنده ، وابن مردويه في تفسيره ، والحاكم في
مستدركه ، من حديث محمد بن أبي حميد ، وفيه ضعف ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن
عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثله أو نحوه. وقال الحاكم : صحيح الإسناد ،
ولم يخرجاه (4) وقد روي نحوه عن أنس بن مالك مرفوعًا (5) ، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن محمد المسندي ، حدثنا إسحاق بن
إدريس ، أخبرني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن سلمة الأنصاري ، أخبرني جعفر بن محمود
، عن جدته تويلة (6) بنت أسلم ، قالت : صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة ،
فاستقبلنا مسجد إيلياء (7) ، فصلينا سجدتين ، ثم جاءنا من يخبرنا : أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت (8) الحرام ، فتحول النساء مكان الرجال ،
والرجال مكان النساء ، فصلينا السجدتين الباقيتين ، ونحن مستقبلون (9) البيت
الحرام.
قال إبراهيم : فحدثني رجال من بني حارثة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
بلغه ذلك قال : "أولئك قوم
__________
(1) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (4/23) عن بكر بن سهل عن عبد الله بن صالح
به.
(2) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (4/23) من طريق ضمرة بن ربيعة به.
(3) جزء الحسن بن عرفة برقم (19).
(4) مسند أبي يعلى (1/147) والمستدرك (4/85) وتعقب الذهبي الحاكم فقال : "بل
ضعفوه".
(5) رواه البزار في مسنده (2840) "كشف الأستار" من طريق سعيد بن بشير ،
عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه ، وقال : "غريب من حديث أنس".
(6) في هـ : "نويلة".
(7) في جـ : "المسجد الأقصى".
(8) في جـ ، ط : "بيت الله".
(9) في طـ ، ب ، أ ، و : "مستقبلوا".
(1/167)
آمنوا
بالغيب" (1).
هذا حديث غريب من هذا الوجه.
{ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومما رزقناهم ينفقون 3 }
قال ابن عباس : أي : يقيمون الصلاة بفروضها.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : إقامة (2) الصلاة إتمام (3) الركوع والسجود والتلاوة
والخشوع والإقبال عليها فيها.
وقال قتادة : إقامة (4) الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها ، وركوعها وسجودها.
وقال مقاتل بن حيان : إقامتها : المحافظة على مواقيتها ، وإسباغ الطهور فيها (5)
وتمام ركوعها وسجودها (6) وتلاوة القرآن فيها ، والتشهد والصلاة على النبي صلى
الله عليه وسلم ، فهذا إقامتها.
وقال علي بن أبي طلحة ، وغيره عن ابن عباس : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
} قال : زكاة أموالهم.
وقال السدي ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة عن ابن مسعود ،
وعن أناس من أصحاب رسول الله (7) صلى الله عليه وسلم { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ } قال : هي نفقة الرجل على أهله ، وهذا قبل أن تنزل الزكاة.
وقال جُوَيْبر ، عن الضحاك : كانت النفقات قربات (8) يتقربون بها إلى الله على قدر
ميسرتهم وجهدهم ، حتى نزلت فرائض الصدقات : سبعُ آيات في سورة براءة ، مما يذكر
فيهن الصدقات ، هن الناسخات المُثْبَتَات.
وقال قتادة : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } فأنفقوا مما أعطاكم الله ،
هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم ، يوشك أن تفارقها.
واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات ، فإنه قال : وأولى التأويلات
وأحقها بصفة القوم : أن يكونوا لجميع اللازم لهم في أموالهم مُؤَدّين ، زكاة كان
ذلك أو نفقة مَنْ لزمته نفقته ، من أهل أو عيال وغيرهم ، ممن تجب عليهم نفقته
بالقرابة والملك وغير ذلك ؛ لأن الله تعالى عم وصفهم ومدحهم بذلك ، وكل من الإنفاق
والزكاة ممدوح به محمود عليه.
قلت : كثيرًا ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال ، فإن الصلاة حق
الله وعبادته ، وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه ، وتمجيده والابتهال إليه ، ودعائه
والتوكل عليه ؛ والإنفاق هو
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (1/36) وفي إسناده إسحاق بن إدريس قال البخاري :
"تركه الناس". وقال ابن معين : "يضع الحديث". ورواه الطبراني
في المعجم الكبير (24/207) من طريق إبراهيم بن حمزة الزبيري ، عن إبراهيم بن جعفر
عن أبيه به نحوه.
(2) في جـ ، ط : "إقام".
(3) في جـ ، ط ، ب : "تمام".
(4) في طـ : "إقام".
(5) في جـ : "لها".
(6) في جـ : "وإتمام الركوع والسجود".
(7) في جـ : "النبي".
(8) في جـ ، ط ، ب : "قربانا".
(1/168)
الإحسان
إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم ، وأولى الناس بذلك القرابات والأهلون
والمماليك ، ثم الأجانب ، فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في قوله
تعالى : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن عمر
: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "بُنِيَ الإسلام على خمس : شهادة أن
لا إله إلا الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت"
(1). والأحاديث في هذا كثيرة.
وأصل الصلاة في كلام العرب الدعاء ، قال الأعشى :
لها حارس لا يبرحُ الدهرَ بَيْتَها... وإن ذُبحَتْ صلى عليها وزَمْزَما (2)
وقال أيضًا (3) وقابلها الريح في دَنّها... وصلى على دَنّها وارتسم (4)
أنشدهما ابن جرير مستشهدا على ذلك.
وقال الآخر - وهو الأعشى أيضًا - :
تقول بنتي وقد قَرَّبتُ مرتحلا... يا رب جنب أبي الأوصابَ والوَجَعَا...
عليكِ مثلُ الذي صليتِ فاغتمضي... نوما فإن لِجَنب المرء مُضْطجعا...
يقول : عليك من الدعاء مثل الذي دعيته لي. وهذا ظاهر ، ثم استعملت الصلاة في الشرع
في ذات الركوع والسجود والأفعال المخصوصة في الأوقات المخصوصة ، بشروطها المعروفة
، وصفاتها ، وأنواعها [المشروعة] (5) المشهورة.
وقال ابن جرير : وأرى أن الصلاة المفروضة سميت صلاة ؛ لأن المصلي يتعرض لاستنجاح
طلبتَه من ثواب الله بعمله ، مع ما يسأل ربه من (6) حاجته (7).
[وقيل : هي مشتقة من الصلَوَيْن إذا تحركا في الصلاة عند (8) الركوع ، وهما عرقان
يمتدان من الظهر حتى يكتنفا (9) عجب الذنب ، ومنه سمي المصلي ؛ وهو الثاني للسابق
في حلبة الخيل ، وفيه نظر ، وقيل : هي مشتقة من الصلى ، وهو الملازمة للشيء من
قوله : { لا يَصْلاهَا } أي : يلزمها ويدوم فيها { إِلا الأشْقَى } [الليل : 15]
وقيل : مشتقة من تصلية الخشبة في النار لتقوّم ، كما أن المصلي يقوّم عوجه بالصلاة
: { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ
أَكْبَرُ } [العنكبوت : 45] واشتقاقها من الدعاء أصح وأشهر ، والله أعلم] (10).
وأما الزكاة فسيأتي الكلام عليها في موضعه ، إن شاء الله.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (8) وصحيح مسلم برقم (16).
(2) البيت في تفسير الطبري (1/242).
(3) في ب : "الآخر".
(4) البيت في تفسير الطبري (1/242).
(5) زيادة من ط.
(6) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "فيها".
(7) في أ ، و : "حاجاته".
(8) في أ : "في".
(9) في أ : "يكشفا".
(10) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(1/169)
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
{
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ
وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) }
قال ابن عباس : { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ
مِنْ قَبْلِكَ } أي : يصدقون بما جئت به من الله ، وما جاء به مَنْ قبلك من
المرسلين ، لا يفرقون بينهم ، ولا يجحدون ما جاؤوهم به من ربهم { وَبِالآخِرَةِ
هُمْ يُوقِنُونَ } أي : بالبعث والقيامة ، والجنة ، والنار ، والحساب ، والميزان.
وإنما سميت الآخرة لأنها بعد الدنيا ، وقد اختلف المفسرون في الموصوفين هاهنا : هل
هم الموصوفون بما تقدم من قوله تعالى : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ
وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [البقرة : 3] ومن هم
؟ على ثلاثة أقوال حكاها ابن جرير :
أحدهما (1) : أن الموصوفين أوّلا هم الموصوفون ثانيًا ، وهم كل مؤمن ، مؤمنو العرب
ومؤمنو أهل الكتاب وغيرهم ، قاله مجاهد ، وأبو العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة.
والثاني : هما واحد ، وهم مؤمنو أهل الكتاب ، وعلى هذين تكون الواو عاطفة صفات على
صفات ، كما قال تعالى : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى * الَّذِي خَلَقَ
فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى *
فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى } [الأعلى : 1 - 5] وكما قال الشاعر :
إلى الملك القَرْم وابن الهُمام... وليثِ الكتيبة في المُزْدَحَم...
فعطف الصفات بعضها على بعض ، والموصوف واحد.
والثالث : أن الموصوفين أولا مؤمنو العرب ، والموصوفون ثانيا بقوله : {
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ }
الآية مؤمنو (2) أهل الكتاب ، نقله السدي في تفسيره ، عن ابن عباس وابن مسعود
وأناس من الصحابة ، واختاره ابن جرير ، ويستشهد لما قال بقوله تعالى : { وَإِنَّ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا
أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ } الآية [آل عمران : 199] ، وبقوله تعالى :
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ *
وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا
إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ
مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [القصص : 52 - 54]. وثبت في الصحيحين ، من حديث
الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي ، ورجل مملوك
أدى حق الله وحق مواليه ، ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها"
(3).
وأما ابن جرير فما استشهد على صحة ما قال إلا بمناسبة ، وهي أن الله وصف في أول
هذه السورة المؤمنين والكافرين ، فكما أنه صنف الكافرين إلى صنفين : منافق وكافر ،
فكذلك المؤمنون صنفهم إلى عربي وكتابي.
قلت : والظاهر قول مجاهد فيما رواه الثوري ، عن رجل ، عن مجاهد. ورواه غير واحد ،
عن
__________
(1) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "أحدها".
(2) في جـ ، ط ، ب : "لمؤمني".
(3) صحيح البخاري برقم (97) وصحيح مسلم برقم (154).
(1/170)
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
ابن
أبي نَجِيح ، عن مجاهد أنه قال : أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين ،
وآيتان في نعت الكافرين ، وثلاث عشرة في المنافقين ، فهذه الآيات الأربع عامة في
كل مؤمن اتصف بها من عربي وعجمي ، وكتابي من إنسي وجني ، وليس تصح واحدة من هذه
الصفات بدون الأخرى ، بل كل واحدة مستلزمة للأخرى وشرط معها ، فلا يصح الإيمان
بالغيب وإقام الصلاة والزكاة إلا مع الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم
، وما جاء به مَنْ قبله من الرسل والإيقان بالآخرة ، كما أن هذا لا يصح إلا بذاك ،
وقد أمر الله تعالى المؤمنين بذلك ، كما قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نزلَ عَلَى رَسُولِهِ
وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزلَ مِنْ قَبْلُ } الآية [النساء : 136]. وقال : { وَلا
تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزلَ إِلَيْنَا وَأُنزلَ
إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ } الآية [العنكبوت : 46]. وقال تعالى
: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نزلْنَا مُصَدِّقًا
لِمَا مَعَكُمْ } [النساء : 47] وقال تعالى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } [المائدة : 68] وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك ،
فقال تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ
وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } الآية [البقرة : 285] وقال : {
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ } [النساء : 152] وغير ذلك من
الآيات الدالة على أمْر جميع المؤمنين بالإيمان بالله ورسله وكتبه. لكن لمؤمني أهل
الكتاب خصوصية ، وذلك أنهم مؤمنون بما بأيديهم (1) مفصلا فإذا دخلوا في الإسلام
وآمنوا به مفصلا كان لهم على ذلك الأجر مرتين ، وأما غيرهم فإنما يحصل له الإيمان
، بما تقدم مجملا كما جاء في الصحيح : "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا
تكذبوهم ، ولكن قولوا : آمنا بالذي (2) أنزل إلينا وأنزل إليكم" (3) ولكن قد
يكون إيمان كثير من العرب بالإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل
وأعم وأشمل من إيمان من دخل منهم في الإسلام ، فهم وإن حصل لهم أجران من تلك
الحيثية ، فغيرهم [قد] (4) يحصل له من التصديق ما يُنيف ثوابه على الأجرين اللذين
حصلا لهم ، والله أعلم.
{ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) }
يقول الله تعالى : { أُولَئِكَ } أي : المتصفون بما تقدم : من الإيمان بالغيب ،
وإقام الصلاة ، والإنفاق من الذي رزقهم الله ، والإيمان بما أنزل الله إلى الرسول
ومَنْ قبله من الرسل ، والإيقان بالدار الآخرة ، وهو يستلزم الاستعداد لها من
العمل بالصالحات وترك المحرمات.
{ عَلَى هُدًى } أي : نور وبيان وبصيرة من الله تعالى. { وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ } أي : في الدنيا والآخرة.
__________
(1) في جـ : "بما في أيديهم".
(2) في طـ ، ب ، أ ، و : "بما".
(3) صحيح البخاري برقم (4485 ، 7362) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) زيادة من طـ ، ب.
(1/171)
وقال
محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرِمة أو سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن
عباس : { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ } أي : على نور من ربهم ، واستقامة
على ما جاءهم ، { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : الذين أدركوا ما طلبوا ،
ونجوا من شر ما منه هربوا.
وقال ابن جرير : وأما معنى قوله : { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ } فإن
معنى ذلك : أنهم على نور من ربهم ، وبرهان واستقامة وسداد ، بتسديد الله إياهم ،
وتوفيقه لهم وتأويل قوله : { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي المُنْجِحون
المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله ، من الفوز
بالثواب ، والخلود في الجنات ، والنجاة مما أعد الله لأعدائه من العقاب (1).
وقد حكى ابن جرير قولا عن بعضهم أنه أعاد اسم الإشارة في قوله تعالى : { أُولَئِكَ
عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } إلى مؤمني أهل
الكتاب الموصوفين بقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ
} الآية ، على ما تقدم من الخلاف. [قال] (2) وعلى هذا فيجوز أن يكون قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ } منقطعا (3) مما قبله ، وأن
يكون مرفوعًا على الابتداء وخبره { [ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَ]
أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (4) واختار أنه عائد إلى جميع من تقدم ذكره من
مؤمني العرب وأهل الكتاب ، لما رواه السدي عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن
عباس ، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم : أما الذين يؤمنون بالغيب ، فهم المؤمنون من العرب ، والذين يؤمنون بما
أنزل إليك وما أنزل من قبلك هم المؤمنون من أهل الكتاب. ثم جمع الفريقين فقال : {
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } وقد تقدم
من الترجيح أن ذلك صفة للمؤمنين عامة ، والإشارة عائدة عليهم ، والله أعلم. وقد
نقل هذا عن مجاهد ، وأبي العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، رحمهم الله.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري ، حدثنا أبي
، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثني عبيد الله بن المغيرة عن أبي الهيثم واسمه سليمان بن
عبد ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل له : يا رسول الله
، إنا نقرأ من القرآن فنرجو ، ونقرأ من القرآن فنكاد أن نيأس ، أو كما قال. قال :
فقال : "أفلا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار ؟". قالوا : بلى يا رسول
الله. قال : " { الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ } " إلى قوله
تعالى : { الْمُفْلِحُونَ } هؤلاء أهل الجنة". قالوا : إنا نرجو أن نكون
هؤلاء. ثم قال : " { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ } "
إلى قوله : { عَظِيمٌ } هؤلاء أهل النار". قالوا : لسنا هم يا رسول الله. قال
: "أجل " (5).
__________
(1) تفسير الطبري (1/249).
(2) زيادة من جـ ، ب ، أ ، و.
(3) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "مقتطعا".
(4) زيادة من جـ ، ط ، ب.
(5) تفسير ابن أبي حاتم (1/40).
(1/172)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)
{
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ
تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) }
يقول تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : غَطوا الحق وستروه ، وقد كتب الله
تعالى عليهم ذلك ، سواء عليهم إنذارك وعدمه ، فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به ، كما
قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ
} [يونس : 96 ، 97] وقال في حق المعاندين من أهل الكتاب : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } الآية
[البقرة : 145] أي : إن من (1) كتب الله عليه الشقاوة فلا مُسْعِد له ، ومن أضلَّه
فلا هادي له ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، وبلّغهم الرّسالة ، فمن استجاب لك فله
الحظ الأوفر ، ومن تولى فلا تحزن عليهم ولا يُهْمِدَنَّك ذلك ؛ { فَإِنَّمَا
عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [الرعد : 40] ، و { إِنَّمَا أَنْتَ
نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [هود : 12].
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } قال
: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرصُ أن يؤمن جميع النَّاس ويُتَابعوه على
الهدى ، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادةُ في الذكر
الأوّل ، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأوّل.
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : بما أنزل إليك ، وإن قالوا : إنَّا
قد آمنا بما جاءنا قبلك { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ
تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } أي : إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك ، وجحدوا ما
أخذ عليهم من الميثاق ، فقد (2) كفروا بما جاءك ، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك ،
فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا ، وقد كفروا بما عندهم من علمك ؟!
وقال أبو جعفر الرّازي ، عن الرّبيع بن أنس ، عن أبي العالية ، قال : نزلت هاتان
الآيتان في قادة الأحزاب ، وهم الذين قال الله فيهم : { أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ
الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا } [إبراهيم : 28 ، 29].
والمعنى الذي ذكرناه أوّلا وهو المروي عن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة ،
أظهر ، ويفسر (3) ببقية الآيات التي في معناها ، والله أعلم.
وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثًا ، فقال : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عثمان بن
صالح المصري ، حدثنا أبي ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثني عبد الله بن المغيرة ، عن
أبي الهيثم (4) عن عبد الله بن عمرو ، قال : قيل : يا رسول الله ، إنَّا نقرأ من
القرآن فنرجو ، ونقرأ فنكاد أن نيأس ، فقال : "ألا أخبركم" ، ثم قال : {
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ
تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } هؤلاء أهل النار". قالوا : لسنا منهم يا رسول
الله ؟ قال : "أجل" (5).
__________
(1) في جـ : "إلا أنه من".
(2) في جـ ، ط ، ب : "وقد".
(3) في جـ : "وتفسيره" ، وفي طـ ، ب : "ويفسره".
(4) في جـ : "القسم".
(5) تفسير ابن أبي حاتم (1/42).
(1/173)
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
[وقوله
: { لا يُؤْمِنُونَ } محله من الإعراب أنه جملة مؤكدة للتي قبلها : { سَوَاءٌ
عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } أي هم كفار
في كلا الحالين ؛ فلهذا أكد ذلك بقوله : { لا يُؤْمِنُونَ } ويحتمل أن يكون { لا
يُؤْمِنُونَ } خبرًا لأن تقديره : إن الذين كفروا لا يؤمنون ، ويكون قوله : {
سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } جملة معترضة ،
والله أعلم] (1).
{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ
غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) }
قال السّدي : { خَتَمَ اللَّهُ } أي : طبع الله ، وقال قتادة في هذه الآية :
استحوذ عليهم الشيطان إذ أطاعوه ؛ فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم
غشاوة ، فهم لا يبصرون هدى ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون.
وقال ابن جُرَيْج : قال مجاهد : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } قال : نبئت
أن الذنوب على القلب تحف به (2) من كل نواحيه حتى تلتقي عليه ، فالتقاؤها عليه
الطبع ، والطبع الختم ، قال ابن جريج : الختم على القلب والسمع.
قال ابن جُرَيْج : وحدثني عبد الله بن كَثير ، أنه سمع مجاهدًا يقول : الرّانُ
أيسر من الطبع ، والطبع أيسر من الأقفال ، والأقفال أشد من ذلك كله.
وقال الأعمش : أرانا مجاهد بيده فقال : كانوا يرون أن القلب في مثل هذه (3) - يعني
: الكف - فإذا أذنب العبد ذنبًا ضُمَّ منه ، وقال بأصبعه الخنصر هكذا ، فإذا أذنب
ضَمّ. وقال بأصبع أخرى ، فإذا أذنب ضُمّ. وقال بأصبع أخرى وهكذا ، حتى ضم أصابعه
كلها ، ثم قال (4) : يطبع عليه بطابع.
وقال مجاهد : كانوا (5) يرون أن ذلك : الرين.
ورواه ابن جرير : عن أبي كُرَيْب ، عن وَكِيع ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، بنحوه.
قال ابن جرير : وقال بعضهم : إنما معنى قوله : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ
} إخبار من الله عن تكبرهم ، وإعراضهم عن الاستماع لما دُعُوا إليه من الحق ، كما
يقال : إن فلانًا لأصَمّ عن هذا الكلام ، إذا امتنع من سماعه ، ورفع (6) نفسه عن
تفهمه تكبرًا.
قال : وهذا لا يصح ؛ لأن الله قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وأسماعهم.
(قلت) : وقد أطنب الزمخشري في تقرير ما رده ابن جرير هاهنا وتأول الآية من خمسة
أوجه وكلها ضعيفة جدًا ، وما جرأه على ذلك إلا اعتزاله ؛ لأن الختم على قلوبهم
ومنعها من وصول الحق إليها قبيح عنده - تعالى الله عنه في اعتقاده - ولو فهم قوله
تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } وقوله { وَنُقَلِّبُ
أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ
فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى
إنما ختم على قلوبهم وحال بينهم وبين الهدى جزاءً وفاقًا على تماديهم في الباطل
وتركهم الحق ، وهذا عدل منه تعالى حسن وليس بقبيح ، فلو أحاط علمًا بهذا لما قال
ما قال ، والله أعلم.
قال القرطبي : وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل قد وصف نفسه بالختم والطبع على
قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم كما قال : { بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا
بِكُفْرِهِمْ } وذكر حديث تقليب القلوب : "ويا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على
دينك" ، وذكر حديث حذيفة الذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
: "تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة
سوداء وأي قلب أنكرها
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(2) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "وقال : الطبع ينبت الذنوب على القلب فحفت
به".
(3) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "هذا".
(4) في طـ ، ب : "قال : ثم".
(5) في جـ ، ط ، ب : "وكانوا".
(6) في جـ : "يرفع".
(1/174)
نكت
فيه نكتة بيضاء ، حتى تصير على قلبين : على أبيض مثل الصفاء فلا تضره فتنة ما دامت
السموات والأرض ، والآخر أسود مرباد كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر
منكرًا" الحديث.
قال (1) والحق عندي في ذلك ما صَحّ بنظيره (2) الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، وهو ما حدثنا به محمد بن بشار ، حدثنا صفوان بن عيسى ، حدثنا ابن عَجْلان ،
عن القعقاع ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : (إن المؤمن إذا أذنب ذنبًا كانت نُكْتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزعَ
واستعتب صقل قلبه ، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه ، فذلك الران الذي قال الله تعالى
: { كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [المطففين : 14]
(3).
وهذا الحديث من هذا الوجه قد رواه الترمذي والنسائي ، عن قتيبة ، عن الليث بن سعد
، وابن ماجه عن هشام بن عمار عن حاتم بن إسماعيل والوليد بن مسلم ، ثلاثتهم عن
محمد بن عجلان ، به (4).
وقال الترمذي : حسن صحيح.
ثم قال ابن جرير : فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على
القلوب أغلقتها ، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله تعالى والطبع ، فلا
يكون للإيمان إليها مسلك ، ولا للكفر عنها (5) مخلص ، فذلك (6) هو الختم والطبع
الذي ذكر (7) في قوله تعالى : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ
} نظير الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف ، التي لا يوصل إلى
ما فيها إلا بفض (8) ذلك عنها ثم حلها ، فكذلك (9) لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف
الله أنه ختم على قلوبهم وعلى سمعهم إلا بعد فض خاتمه وحَلّه رباطه [عنها] (10).
واعلم أن الوقف التام على قوله تعالى : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ
وَعَلَى سَمْعِهِمْ } ، وقوله { وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } جملة تامة ،
فإن الطبع يكون على القلب وعلى السمع ، والغشاوة - وهي الغطاء - تكون على البصر ،
كما قال السدي في تفسيره عن أبي مالك ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرّة
الهَمْداني ، عن ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب رسول الله (11) صلى الله عليه وسلم
في قوله : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } يقول : فلا
يعقلون ولا يسمعون ، ويقول : وجعل على أبصارهم غشاوة ، يقول : على أعينهم فلا
يبصرون.
قال (12) ابن جرير : حدثني محمد بن سعد (13) حدثنا أبي ، حدثني عمي الحسين بن
الحسن ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ
وَعَلَى سَمْعِهِمْ } والغشاوة على أبصارهم.
وقال : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، يعني ابن داود ، وهو سُنَيد ، حدثني حجاج ،
وهو ابن محمد الأعور ، حدثني ابن جريج قال : الختم على القلب والسمع ، والغشاوة
على البصر ، قال الله تعالى : { فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ }
[الشورى : 24] ، وقال { وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى
بَصَرِهِ غِشَاوَةً } [الجاثية : 23] (14).
__________
(1) في جـ ، ط : "قال ابن جرير"
(2) في جـ : "ما صح به بنظره".
(3) تفسير الطبري (1/260).
(4) سنن الترمذي برقم (3334) وسنن النسائي الكبرى برقم (11658) وسنن ابن ماجة برقم
(4244).
(5) في أ ، و : "منها".
(6) في جـ : "فلذلك".
(7) في و : "ذكره الله".
(8) في جـ : "إلى نقض".
(9) في جـ : "فلذلك".
(10) زيادة من جـ ، ط.
(11) في جـ ، ط : "النبي".
(12) في جـ ، ط : "وقال".
(13) في أ : "سفيان".
(14) تفسير الطبري (1/265).
(1/175)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
قال
(1) ابن جرير : ومن نصب غشاوة من قوله تعالى : { وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ
} يحتمل (2) أنه نصبها بإضمار فعل ، تقديره : وجعل على أبصارهم غشاوة ، ويحتمل أن
يكون نصبها على الإتباع ، على محل { وَعَلَى سَمْعِهِمْ } كقوله تعالى : { وَحُورٌ
عِينٌ } [الواقعة : 22] ، وقول الشاعر :
عَلَفْتُها تبنًا وماء باردًا... حتى شَتتْ هَمَّالَةً عيناها (3)
وقال الآخر :
ورأيت زَوْجَك في الوغى... متقلِّدًا سيفًا ورُمْحًا (4)
تقديره : وسقيتها ماء باردًا ، ومعتَقِلا رمحًا.
لما تقدم وصف المؤمنين في صدر السورة بأربع آيات ، ثم عرّف حال الكافرين بهاتين
الآيتين ، شرع تعالى في بيان حال المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ،
ولما كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس أطنب في ذكرهم بصفات متعددة ، كل منها
نفاق ، كما أنزل (5) سورة براءة فيهم ، وسورة المنافقين فيهم ، وذكرهم في سورة
النور وغيرها من السور ، تعريفا لأحوالهم لتجتنب ، ويجتنب من تلبس (6) بها أيضًا ،
فقال تعالى :
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا
هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا
يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) }
النفاق : هو إظهار الخير وإسرار الشر ، وهو أنواع : اعتقادي ، وهو الذي يخلد صاحبه
في النار ، وعملي وهو من أكبر الذنوب ، كما سيأتي تفصيله (7) في موضعه ، إن شاء
الله تعالى ، وهذا كما قال ابن جريج : المنافق يخالف قَوْلُه فِعْلَهُ ، وسِرّه
علانيته ، ومدخله مخرجه ، ومشهده مَغِيبه.
وإنما نزلت صفات المنافقين في السّور المدنية ؛ لأن مكة لم يكن فيها نفاق ، بل كان
خلافه ، من الناس من كان يظهر الكفر مُسْتَكْرَها ، وهو في الباطن مؤمن ، فلمَّا
هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وكان بها الأنصار من الأوس
والخزرج ، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام ، على طريقة مشركي العرب ، وبها
اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم ، وكانوا ثلاث قبائل : بنو قَيْنُقَاع
حلفاء الخزرج ، وبنو النَّضِير ، وبنو قُرَيْظَة حلفاء الأوس ، فلمَّا قدم رسول
الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وأسلم من أسلم
__________
(1) في جـ : "وقال".
(2) في جـ ، ط : "فيحتمل".
(3) البيت في تفسير الطبري (1/264).
(4) البيت في تفسير الطبري (1/265) وهو للحارث المخزومي.
(5) في جـ : "كما أنزلت".
(6) في جـ : "يتلبس".
(7) في جـ : "تفسيره".
(1/176)
من
الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج ، وقل من أسلم من اليهود إلا عبد الله بن سَلام ،
رضي الله عنه ، ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضا ؛ لأنه لم يكن للمسلمين بعد شوكة تخاف ،
بل قد كان ، عليه الصلاة والسلام ، وَادَعَ اليهود وقبائل كثيرة من أحياء العرب
حوالي المدينة ، فلما كانت وقعة بدر العظمى وأظهر الله كلمته ، وأعلى الإسلام
وأهله ، قال عبد الله بن أبيّ بن سلول ، وكان رأسا في المدينة ، وهو من الخزرج ،
وكان سيد الطائفتين في الجاهلية ، وكانوا قد عزموا على أن يملّكوه عليهم ، فجاءهم
الخير وأسلموا ، واشتغلوا عنه ، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله ، فلما كانت وقعة
بدر قال : هذا أمر قد تَوَجَّه فأظهر الدخول في الإسلام ، ودخل معه طوائف ممن هو
على طريقته ونحلته ، وآخرون من أهل الكتاب ، فمن ثَمّ وُجِد النفاق في أهل المدينة
ومن حولها من الأعراب ، فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد ، لأنه لم يكن أحد يهاجر
مكرَهًا ، بل يهاجر ويترك ماله ، وولده ، وأرضه رغبة فيما عند الله في الدار
الآخرة.
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكْرِمة ، أو سعيد بن جُبَيْر ،
عن ابن عباس : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ
الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } يعني : المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان
على أمرهم.
وكذا فسَّرها بالمنافقين أبو العالية ، والحسن ، وقتادة ، والسدي.
ولهذا نبَّه الله ، سبحانه ، على صفات المنافقين لئلا يغترّ بظاهر أمرهم المؤمنون
، فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم ، ومن اعتقاد إيمانهم ، وهم كفار في
نفس الأمر ، وهذا من المحذورات الكبار ، أن يظن بأهل الفجور خَيْر ، فقال تعالى :
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا
هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } أي : يقولون ذلك قولا ليس وراءه شيء آخر ، كما قال تعالى : {
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ }
[المنافقون : 1] أي : إنما يقولون ذلك إذا جاؤوك فقط ، لا في نفس الأمر ؛ ولهذا
يؤكدون في الشهادة بإن ولام التأكيد في خبرها ؛ كما أكَّدوا قولهم : { آمَنَّا
بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ } وليس الأمر كذلك ، كما أكْذبهم الله في شهادتهم
، وفي خبرهم هذا بالنسبة إلى اعتقادهم ، بقوله : { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [المنافقون : 1] ، وبقوله { وَمَا هُمْ
بِمُؤْمِنِينَ }
وقوله تعالى : { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا } أي : بإظهارهم ما
أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر ، يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك ، وأن
ذلك نافعهم عنده ، وأنه يروج عليه كما يروج على بعض المؤمنين ، كما قال تعالى : {
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ
لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ }
[المجادلة : 18] ؛ ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله : { وَمَا يَخْدَعُونَ
إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } يقول : وما يَغُرُّون بصنيعهم هذا ولا
يخدعون إلا أنفسهم ، وما يشعرون بذلك من أنفسهم ، كما قال تعالى : { إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [النساء : 142].
ومن القراء من قرأ : "وَمَا يُخَادِعُونَ (1) إِلا أَنفُسَهُمْ" ، وكلا
القراءتين ترجع إلى معنى واحد.
__________
(1) في جـ ، ط ، ب : "يخدعون".
(1/177)
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
قال
ابن جرير : فإن قال قائل : كيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعًا ، وهو لا يظهر
بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية ؟
قيل : لا تمتنع (1) العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي في ضميره تقية ، لينجو
مما هو له خائف ، مخادعا ، فكذلك المنافق ، سمي مخادعا لله وللمؤمنين ، بإظهاره ما
أظهر (2) بلسانه تقية ، مما تخلص به من القتل والسباء (3) والعذاب العاجل ، وهو
لغير ما أظهر ، مستبطن ، وذلك من فعلِه - وإن كان خداعًا للمؤمنين في عاجل الدنيا
- فهو لنفسه بذلك من فعله خادع ، لأنه يُظْهِر لها بفعله ذلك بها أنَّه يعطيها
أمنيّتها ، ويُسقيها كأس (4) سرورها ، وهو موردها حياض عطبها ، ومُجرّعها بها كأس
عذابها ، ومُزيرُها (5) من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبَلَ لها به ، فذلك خديعته
نفسه ، ظنًا منه - مع إساءته إليها في أمر معادها - أنه إليها محسن ، كما قال
تعالى : { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } إعلامًا منه
عِبَادَه المؤمنين أنّ المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسْخَاطهم (6) عليها ربهم
بكفرهم ، وشكهم وتكذيبهم ، غير شاعرين ولا دارين ، ولكنهم على عمياء من أمرهم
مقيمون (7).
وقال ابن أبي حاتم : أنبأنا عليّ بن المبارك ، فيما كتب إليّ ، حدثنا زيد بن
المبارك ، حدثنا محمد بن ثور ، عن ابن جُرَيْج ، في قوله تعالى : { يُخَادِعُونَ
اللَّهَ } قال : يظهرون "لا إله إلا الله" يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم
وأموالهم ، وفي أنفسهم غير ذلك (8).
وقال سعيد ، عن قتادة : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ
وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } نعت
المنافق عند كثير : خَنعُ الأخلاق يصدّق بلسانه وينكر بقلبه ويخالف بعمله ، يصبح
على حال ويمسي على غيره ، ويمسي على حال ويصبح على غيره ، ويتكفأ تكفأ السفينة
كلما هبَّت ريح هبّ معها.
{ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) }
قال السدي ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرّة الهمداني عن ابن
مسعود ، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية : { فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } قال : شَكٌّ ، { فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } قال : شكًّا.
وقال [محمد] (9) بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرِمة ، أو سعيد بن جبير
، عن ابن عباس [في قوله] (10) { : فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } قال : شك.
__________
(1) في جـ : "لا تمنع".
(2) في أ ، و : "ما أظهره".
(3) في أ : "السبي".
(4) في جـ : "بكأس".
(5) في أ : "ويزيدها".
(6) في جـ : "بإسخاطهم".
(7) تفسير الطبري (1/273).
(8) تفسير ابن أبي حاتم (1/46).
(9) زيادة من و.
(10) زيادة من جـ.
(1/178)
وكذلك
قال مجاهد ، وعكرمة ، والحسن البصري ، وأبو العالية ، والرّبيع بن أنس ، وقتادة.
وعن عكرمة ، وطاوس : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } يعني : الرياء.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } قال : نفاق { فَزَادَهُمُ
اللَّهُ مَرَضًا } قال : نفاقا ، وهذا كالأول.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } قال : هذا مرض في
الدين ، وليس مرضًا في الأجساد ، وهم المنافقون. والمرض : الشك الذي دخلهم في
الإسلام { فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } قال : زادهم رجسًا ، وقرأ : { فَأَمَّا
الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } [التوبة : 124 ،
125] قال : شرًا إلى شرهم وضلالة إلى ضلالتهم.
وهذا الذي قاله عبد الرحمن ، رحمه الله ، حسن ، وهو الجزاء من جنس العمل ، وكذلك
قاله الأولون ، وهو نظير قوله تعالى أيضًا : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ
هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [محمد : 17].
وقوله { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } وقرئ : "يكذّبون" ، وقد كانوا
متصفين بهذا وهذا ، فإنهم كانوا كذبة يكذبون بالحق يجمعون بين هذا وهذا. وقد سئل
القرطبي وغيره من المفسرين عن حكمة كفه ، عليه السلام ، عن قتل المنافقين مع علمه
بأعيان بعضهم ، وذكروا أجوبة عن ذلك منها ما ثبت في الصحيحين : أنه قال لعمر :
"أكره أن يتحدث العرب أن محمدًا يقتل أصحابه" (1) ومعنى هذا خشية أن يقع
بسبب ذلك تغير لكثير من الأعراب عن الدخول في الإسلام ولا يعلمون حكمة قتله لهم ،
وأن قتله إياهم إنما هو على الكفر ، فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم فيقولون
: إن محمدًا يقتل أصحابه ، قال القرطبي : وهذا قول علمائنا وغيرهم كما كان يعطي
المؤلفة قلوبهم مع علمه بشر اعتقادهم. قال ابن عطية : وهي طريقة أصحاب مالك نص
عليه محمد بن الجهم والقاضي إسماعيل والأبهري وابن الماجشون. ومنها : ما قال مالك
، رحمه الله : إنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليبين لأمته أن
الحاكم لا يحكم بعلمه.
قال القرطبي : وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه ، وإن
اختلفوا في سائر الأحكام ، قال : ومنها ما قال الشافعي : إنما منع رسول الله صلى
الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم ؛
لأن ما يظهرونه يجبّ ما قبله. ويؤيد هذا قوله ، عليه الصلاة والسلام ، في الحديث
المجمع على صحته في الصحيحين وغيرهما : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا
إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على
الله ، عز وجل" (2). ومعنى هذا : أن من قالها جرت عليه أحكام الإسلام ظاهرًا
، فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الدار الآخرة ، وإن لم يعتقدها لم ينفعه في
الآخرة جريان الحكم عليه في الدنيا ، وكونه كان
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4902) وصحيح مسلم برقم (3314).
(2) صحيح البخاري برقم (25) وصحيح مسلم برقم (22) من حديث ابن عمرو رضي الله
عنهما.
(1/179)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)
خليط
أهل الإيمان { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ
فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ
حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ } الآية [الحديد : 14] ، فهم يخالطونهم في بعض المحشر
، فإذا حقت المحقوقية تميزوا منهم وتخلفوا بعدهم { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
مَا يَشْتَهُونَ } [سبأ : 54] ولم يمكنهم أن يسجدوا معهم كما نطقت بذلك الأحاديث ،
ومنها ما قاله بعضهم : أنه إنما لم يقتلهم لأنه كان يخاف من شرهم مع وجوده ، عليه
السلام ، بين أظهرهم يتلو عليهم آيات الله مبينات ، فأما بعده فيقتلون إذا أظهروا
النفاق وعلمه المسلمون ، قال مالك : المنافق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
هو الزنديق اليوم. قلت : وقد اختلف العلماء في قتل الزنديق إذا أظهر الكفر هل
يستتاب أم لا. أو يفرق بين أن يكون داعية أم لا أو يتكرر منه ارتداده أم لا أو
يكون إسلامه ورجوعه من تلقاء نفسه أو بعد أن ظهر عليه ؟ على أقوال موضع بسطها
وتقريرها وعزوها كتاب الأحكام.
(تنبيه) قول من قال : كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان بعض المنافقين إنما
مستنده حديث حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقًا في غزوة تبوك
الذين هموا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلماء الليل عند عقبة هناك
؛ عزموا على أن ينفروا به الناقة ليسقط عنها فأوحى الله إليه أمرهم فأطلع على ذلك
حذيفة. ولعل الكف عن قتلهم كان لمدرك من هذه المدارك أو لغيرها والله أعلم.
فأما غير هؤلاء فقد قال تعالى : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ
مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ
نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } الآية ، وقال تعالى : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ
الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي
الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا
* مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا } ففيها دليل
على أنه لم يغر بهم ولم يدرك على أعيانهم وإنما كانت تذكر له صفاتهم فيتوسمها في
بعضهم كما قال تعالى : { وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ
بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } وقد كان من أشهرهم
بالنفاق عبد الله بن أبي بن سلول وقد شهد عليه زيد بن أرقم بذلك الكلام الذي سبق
في صفات المنافقين ومع هذا لما مات [صلى عليه] صلى الله عليه وسلم وشهد دفنه كما
يفعل ببقية المسلمين ، وقد عاتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه فقال : "إني
أكره أن تتحدث العرب أن محمدًا يقتل أصحابه" وفي رواية في الصحيح "إني
خيرت فاخترت" وفي رواية "لو أني أعلم لو زدت على السبعين يغفر الله له
لزدت".
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ
مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ
(12) }
قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مُرّة الطيب
الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن أناس (1) من أصحاب رسول الله (2) صلى الله عليه
وسلم : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ
مُصْلِحُونَ } أما لا تفسدوا في الأرض ، قال : الفساد هو الكفر ، والعمل بالمعصية.
وقال أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله تعالى : { وَإِذَا
قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ } قال : يعني : لا تعصُوا في الأرض ، وكان
فسادهم ذلك معصية الله ؛ لأنه من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله ، فقد أفسد
في الأرض ؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطَّاعة.
وهكذا قال الربيع بن أنس ، وقتادة.
وقال ابن جُرَيْج ، عن مجاهد : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ
} قال : إذا ركبوا معصية الله ، فقيل لهم : لا تفعلوا كذا وكذا ، قالوا : إنما نحن
على الهدى ، مصلحون.
__________
(1) في طـ ، ب : "ناس".
(2) في أ : "النبي".
(1/180)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
وقد
قال وَكِيع ، وعيسى بن يونس ، وعثَّام بن علي ، عن الأعمش ، عن المِنْهَال بن عمرو
، عن عباد بن عبد الله الأسدي ، عن سلمان الفارسي : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا
تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } قال سلمان : لم يجئ
أهل هذه الآية بعد.
وقال ابن جرير : حدثني أحمد بن عثمان بن حَكيم ، حدثنا عبد الرحمن بن شَريك ،
حدثني أبي ، عن الأعمش ، عن زيد بن وهب وغيره ، عن سلمان ، في هذه الآية ، قال :
ما جاء هؤلاء بَعْدُ (1).
قال ابن جرير : يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فسادًا
من الذين كانوا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك
صفته أحد (2).
قال ابن جرير : فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم ، وركوبهم فيها ما
نهاهم عن ركوبه ، وتضييعهم فرائضه ، وشكّهم في دينه الذي لا يُقْبَلُ من أحد عمل
إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته ، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه
مقيمون من الشك والريب ، ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله
، إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا. فذلك إفساد المنافقين في الأرض ، وهم يحسبون أنهم
بفعلهم ذلك مصلحون فيها (3).
وهذا الذي قاله حسن ، فإن من الفساد في الأرض اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء ،
كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا
تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } [الأنفال : 73] فقطع
الله الموالاة بين المؤمنين والكافرين كما قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ
أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } [النساء : 144] ثم قال
: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ
لَهُمْ نَصِيرًا } [النساء : 145] فالمنافق لما كان ظاهره الإيمان اشتبه أمره على
المؤمنين ، فكأن الفساد من جهة المنافق حاصل ؛ لأنه هو الذي غَرّ المؤمنين بقوله
الذي لا حقيقة له ، ووالى الكافرين على المؤمنين ، ولو أنه استمر على حالته (4)
الأولى لكان شرّه أخف ، ولو أخلص العمل لله وتطابق قوله وعمله لأفلح وأنجح ؛ ولهذا
قال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا
نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي : نريد أن نداري الفريقين من المؤمنين والكافرين ، ونصطلح
مع هؤلاء وهؤلاء ، كما قال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو
سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ
قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي : إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من
المؤمنين وأهل الكتاب. يقول الله : { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ
لا يَشْعُرُونَ } يقول : ألا إن هذا الذي يعتمدونه ويزعمون أنه إصلاح هو عين
الفساد ، ولكن من جهلهم لا يشعرون بكونه فسادًا.
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا
آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ
(13) }
يقول [الله] (5) تعالى : وإذا قيل للمنافقين : { آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ }
أي : كإيمان الناس بالله وملائكته
__________
(1) تفسير الطبري (1/288).
(2) تفسير الطبري (1/289).
(3) تفسير الطبري (1/289).
(4) في أ ، و : "لحاله".
(5) زيادة من (أ).
(1/181)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
وكتبه
ورسله والبعث بعد الموت والجنَّة والنَّار وغير ذلك ، مما أخبر المؤمنين به وعنه ،
وأطيعوا الله ورسوله في امتثال الأوامر وترك الزواجر { قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ
السُّفَهَاءُ } يعنون - لعنهم الله - أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رضي
الله عنهم ، قاله أبو العالية والسدي في تفسيره ، بسنده عن ابن عباس وابن مسعود
وغير واحد من الصحابة ، وبه يقول الربيع بن أنس ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم
وغيرهم ، يقولون : أنصير نحن وهؤلاء بمنزلة واحدة وعلى طريقة واحدة وهم سفهاء!!
والسفهاء : جمع سفيه ، كما أن الحكماء جمع حكيم [والحلماء جمع حليم] (1) والسفيه :
هو الجاهل الضعيف الرّأي القليل المعرفة بمواضع المصالح والمضار ؛ ولهذا سمى الله
النساء والصبيان سفهاء ، في قوله تعالى : { وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ
أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا } [النساء : 5] قال عامة
علماء السلف : هم النساء والصبيان.
وقد تولى الله ، سبحانه ، جوابهم في هذه المواطن كلها ، فقال (2) { أَلا إِنَّهُمْ
هُمُ السُّفَهَاءُ } فأكد وحصر السفاهة فيهم.
{ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ } يعني : ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم في
الضلالة والجهل ، وذلك أردى لهم وأبلغ في العمى ، والبعد عن الهدى.
{ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى
شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) }
يقول [الله] (3) تعالى : وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا : { آمَنَّا }
أي : أظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة ، غرورًا منهم للمؤمنين ونفاقا
ومصانعة وتقية ، ولِيَشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم ، { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى
شَيَاطِينِهِمْ } يعني : وإذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا (4) إلى شياطينهم. فضمن {
خَلَوْا } معنى انصرفوا ؛ لتعديته بإلى ، ليدل على الفعل المضمر والفعل الملفوظ
(5) به. ومنهم من قال : "إلى" هنا بمعنى "مع" ، والأول أحسن ،
وعليه يدور كلام ابن جرير.
وقال السدي عن أبي مالك : { خَلَوْا } يعني : مضوا ، و { شَيَاطِينِهِمْ } يعني :
سادتهم وكبراءهم ورؤساءهم من أحبار اليهود ورؤوس المشركين والمنافقين.
قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرّة عن ابن
مسعود ، عن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى
شَيَاطِينِهِمْ } يعني : هم رؤوسهم من الكفر.
وقال الضحاك عن ابن عباس : وإذا خلوا إلى أصحابهم ، وهم شياطينهم.
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرِمة أو سعيد بن جُبَيْر ، عن
ابن
__________
(1) زيادة من طـ ، ب ، و.
(2) في أ : "كما قال".
(3) زيادة من أ.
(4) في أ ، و : "أو ذهبوا أو خلصوا".
(5) في طـ ، ب ، أ ، و : "الملفوظ".
(1/182)
عباس
: { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ } من يهود الذين يأمرونهم بالتكذيب
وخلاف ما جاء به الرسول.
وقال مجاهد : { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ } إلى أصحابهم من المنافقين
والمشركين.
وقال قتادة : { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ } قال : إلى رؤوسهم ،
وقادتهم في الشرك ، والشر.
وبنحو ذلك فسَّره أبو مالك ، وأبو العالية والسدي ، والرّبيع بن أنس.
قال ابن جرير : وشياطين كل شيء مَرَدَتُه ، وتكون الشياطين من الإنس والجن ، كما
قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ
وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا }
[الأنعام : 112].
وفي المسند عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نعوذ بالله
من شياطين الإنس والجن". فقلت : يا رسول الله ، وللإنس شياطين ؟ قال :
"نعم" (1).
وقوله تعالى : { قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ } قال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي
محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أي إنا على مثل ما أنتم عليه {
إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } أي : إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : قالوا إنما نحن مستهزئون ساخرون بأصحاب محمد صلى الله
عليه وسلم.
وكذلك قال الرّبيع بن أنس ، وقتادة.
وقوله تعالى جوابًا لهم ومقابلة على صنيعهم : { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ
وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }
وقال (2) ابن جرير : أخبر الله تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة ، في قوله : {
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا
نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا
فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ
مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } الآية [الحديد : 13] ، وقوله تعالى : { وَلا
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ
إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } [آل
عمران : 178]. قال : فهذا وما أشبهه ، من استهزاء الله ، تعالى ذكره ، وسخريته
ومكره وخديعته للمنافقين ، وأهل الشرك به عند قائل هذا القول ، ومتأول هذا
التأويل.
قال : وقال آخرون : بل استهزاؤه بهم توبيخه إياهم ، ولومه لهم على ما ركبوا من
معاصيه ، والكفر به.
قال : وقال آخرون : هذا وأمثاله على سبيل الجواب ، كقول الرّجل لمن يخدعه إذا ظفر
به : أنا الذي خدعتك. ولم تكن منه خديعة ، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه ، قالوا
: وكذلك قوله : { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }
[آل عمران : 54] و { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } على الجواب ، والله
__________
(1) المسند (5/178).
(2) في طـ ، ب : "وقال".
(1/183)
لا
يكون منه المكر ولا الهزء ، والمعنى : أن المكر والهُزْء حَاق بهم.
وقال آخرون : قوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ } وقوله { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [النساء : 142] ،
وقوله { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ } [التوبة : 79] و {
نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة : 67] وما أشبه ذلك ، إخبار من الله تعالى
أنه يجازيهم (1) جَزَاءَ الاستهزاء ، ويعاقبهم (2) عقوبة الخداع فأخرج خبره عن
جزائه إياهم وعقابه لهم مُخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ ،
وإن اختلف المعنيان كما قال تعالى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا }
[الشورى : 40] وقوله تعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ }
[البقرة : 194] ، فالأول ظلم ، والثاني عدل ، فهما وإن اتفق لفظاهما فقد اختلف
معناهما.
قال : وإلى هذا المعنى وَجَّهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك.
قال : وقال آخرون : إن معنى ذلك : أنّ الله أخبر عن المنافقين أنهم إذا خَلَوا إلى
مَرَدَتِهم قالوا : إنا معكم على دينكم ، في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما
جاء به ، وإنما نحن بما يظهر لهم - من قولنا لهم : صدقنا بمحمد ، عليه السلام ،
وما جاء به مستهزئون ؛ فأخبر الله تعالى أنه يستهزئ بهم ، فيظهر لهم من أحكامه في
الدنيا ، يعني من عصمة دمائهم وأموالهم خلاف الذي لهم عنده في الآخرة ، يعني من
العذاب والنكال (3).
ثم شرع ابن جرير يوجه هذا القول وينصره ؛ لأن المكر والخداع والسخرية على وجه
اللعب والعبث منتف عن الله ، عز وجل ، بالإجماع ، وأما على وجه الانتقام والمقابلة
بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك.
قال : وبنحو ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا عثمان
، حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : { اللَّهُ
يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } قال : يسخر بهم للنقمة منهم.
وقوله تعالى : { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } قال السدي : عن
أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرّة ، عن ابن مسعود ، وعن أناس (4)
من الصحابة [قالوا] (5) يَمدهم : يملي لهم.
وقال مجاهد : يزيدهم.
قال ابن جرير : والصواب يزيدهم على وجه الإملاء والترك لهم في عُتُوّهم وتَمَرّدهم
، كما قال : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا
بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الأنعام :
110].
__________
(1) في طـ ، أ ، و : "مجازيهم".
(2) في طـ ، ب ، أ ، و : "ومعاقبهم".
(3) تفسير الطبري (1/303).
(4) في جـ ، ط ، ب : "ناس".
(5) زيادة من ب ، و.
(1/184)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
والطغيان
: هو المجاوزة في الشيء. كما قال : { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ
فِي الْجَارِيَةِ } [الحاقة : 11] ، وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { فِي
طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } في كفرهم يترددون.
وكذا فسره السدي بسنده عن الصحابة ، وبه يقول أبو العالية ، وقتادة ، والرّبيع بن
أنس ، ومجاهد ، وأبو مالك ، وعبد الرحمن بن زيد : في كفرهم وضلالتهم.
قال ابن جرير : والعَمَه : الضلال ، يقال : عمه فلان يَعْمَه عَمَهًا وعُمُوهًا :
إذا ضل.
قال : وقوله : { فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } في ضلالهم (1) وكفرهم الذي غمرهم
دَنَسُه ، وعَلاهم رجْسه ، يترددون [حيارى] (2) ضُلالا (3) لا يجدون إلى المخرج
منه سبيلا ؛ لأن الله تعالى قد طبع على قلوبهم وختم عليها ، وأعمى أبصارهم عن
الهدى وأغشاها ، فلا يبصرون رُشْدًا ، ولا يهتدون سبيلا.
[وقال بعضهم : العمى في العين ، والعمه في القلب ، وقد يستعمل العمى في القلب -
أيضا - : قال الله تعالى : { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى
الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [الحج : 46] ويقال : عمه الرجل يعمه عموها
فهو عمه وعامه ، وجمعه عمّه ، وذهبت إبله العمهاء : إذا لم يدر أين ذهبت (4).
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ
تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) }
قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مُرّة ، عن
ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ
بِالْهُدَى } قال : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى.
وقال [محمد] (5) بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير
، عن ابن عباس : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى } أي :
الكفر بالإيمان.
وقال مجاهد : آمنوا ثمّ كفروا.
وقال قتادة : استحبوا الضلالة على الهدى [أي : الكفر بالإيمان] (6). وهذا الذي
قاله قتادة يشبهه في المعنى قوله تعالى في ثمود : { وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } [فصلت : 17] (7).
وحاصل قول المفسرين فيما تقدم : أن المنافقين عَدَلوا عن الهدى إلى الضلال ،
واعتاضوا عن الهدى بالضلالة ، وهو معنى قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى } أي بذلوا الهدى ثمنا للضلالة ، وسواء في ذلك
من كان منهم قد حصل له الإيمان ثم رجع عنه إلى الكفر ، كما قال
__________
(1) في ب ، أ ، و : "ضلالتهم".
(2) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(3) في جـ : "ضلال".
(4) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(5) زيادة من جـ.
(6) زيادة من طـ.
(7) في هـ : "فأما" وهو خطأ.
(1/185)
تعالى
فيهم : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ }
[المنافقون : 3] ، أو أنهم استحبوا الضلالة على الهدى ، كما يكون (1) حال فريق آخر
منهم ، فإنهم أنواع وأقسام ؛ ولهذا قال تعالى : { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ
وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } أي : ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة ، { وَمَا كَانُوا
مُهْتَدِينَ } أي : راشدين في صنيعهم ذلك.
قال (2) ابن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة { فَمَا رَبِحَتْ
تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } قد - والله - رأيتموهم خرجوا من الهدى
إلى الضلالة ، ومن الجماعة إلى الفرقة ، ومن الأمن إلى الخوف ، ومن السنة إلى
البدعة. وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، من حديث يزيد بن زُرَيْع ، عن سعيد ، عن قتادة
، بمثله سواء.
__________
(1) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "كما قد يكون".
(2) في ط : "وقال".
(1/186)
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
{
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ
ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ
بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) }
[يقال : مثل ومثل ومثيل - أيضا - والجمع أمثال ، قال الله تعالى : { وَتِلْكَ
الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ }
[العنكبوت : 43] (1).
وتقدير هذا المثل : أن الله سبحانه ، شبَّههم في اشترائهم الضلالة بالهدى ،
وصيرورتهم بعد التبصرة إلى العمى ، بمن استوقد نارًا ، فلما أضاءت ما حوله وانتفع
بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله ، وتَأنَّس بها فبينا هو كذلك إذْ طفئت ناره ،
وصار في ظلام شديد ، لا يبصر ولا يهتدي ، وهو مع ذلك أصم لا يسمع ، أبكم لا ينطق ،
أعمى لو كان ضياء لما أبصر ؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك ، فكذلك هؤلاء
(2) المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضًا عن الهدى ، واستحبابهم الغَيّ على
الرّشَد. وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا ، كما أخبر عنهم تعالى في
غير هذا الموضع ، والله أعلم.
وقد حكى هذا الذي قلناه فخر الدين الرازي في تفسيره عن السدي ثم قال : والتشبيه
هاهنا في غاية الصحة ؛ لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولا نورا ثم بنفاقهم ثانيًا أبطلوا
ذلك النور فوقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين.
وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات ، واحتج
بقوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ
الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } [البقرة : 8].
والصواب : أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم ، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم
إيمان قبل ذلك ، ثم سُلبوه وطبع على قلوبهم ، ولم يستحضر ابن جرير ، رحمه الله ،
هذه الآية هاهنا وهي
__________
(1) زيادة من جـ ، ط.
(2) في جـ : "هم".
(1/186)
قوله
تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ
فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ } [المنافقون : 3] ؛ فلهذا وجه [ابن جرير] (1) هذا المثل بأنهم
استضاؤوا بما أظهروه من كلمة الإيمان ، أي في الدنيا ، ثم أعقبهم ظلمات يوم
القيامة.
قال : وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد ، كما قال : { رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ
إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ }
[الأحزاب : 19] أي : كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت ، وقال تعالى : { مَا
خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [لقمان : 28] وقال تعالى :
{ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ
الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا } [الجمعة : 5] ، وقال بعضهم : تقدير الكلام : مثل
قصتهم كقصة الذي استوقد نارا. وقال بعضهم : المستوقد واحد لجماعة معه. وقال آخرون
: الذي هاهنا بمعنى الذين كما قال الشاعر :
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم... هم القوم كل القوم يا أم خالد (2)
قلت : وقد التفت في أثناء المثل من الواحد (3) إلى الجمع ، في قوله تعالى : {
فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي
ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } وهذا
أفصح في الكلام ، وأبلغ في النظام ، وقوله تعالى : { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ }
أي : ذهب عنهم ما ينفعهم ، وهو النور ، وأبقى لهم ما يضرهم ، وهو الإحراق والدخان
{ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق ، { لا
يُبْصِرُونَ } لا يهتدون إلى سبل (4) خير ولا يعرفونها ، وهم مع ذلك { صُمٌّ } لا
يسمعون خيرا { بُكْمٌ } لا يتكلمون بما ينفعهم { عُمْيٌ } في ضلالة وعماية البصيرة
، كما قال تعالى : { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى
الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [الحج : 46] فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا
عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة.
ذكر أقوال المفسرين من السلف بنحو ما ذكرناه :
قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرّة ، عن
ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة ، في قوله تعالى : { فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا
حَوْلَهُ } زعم أن ناسًا دخلوا في الإسلام مَقْدَم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم
المدينة ، ثم إنهم نافقوا ، فكان مثلهم كمثل رجُل كان في ظلمة ، فأوقد نارًا ،
فأضاءت ما حوله من قذى ، أو أذى ، فأبصره حتى عرف ما يتقي منه (5) فبينا (6) هو
كذلك إذ طفئت ناره ، فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى ، فكذلك المنافق : كان في ظلمة
الشرك فأسلم ، فعرف الحلال والحرام ، و[عرف] (7) الخير والشر ، فبينا (8) هو كذلك
إذ كفر ، فصار لا يعرف الحلال من
__________
(1) زيادة من و.
(2) البيت للأشهب بن رميلة ، كما في اللسان ، مادة "فلج".
(3) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "الوحدة".
(4) في طـ ، ب : "سبيل".
(5) في جـ ، ط ، ب : "منها".
(6) في أ ، و : "فبينما".
(7) زيادة من جـ.
(8) في أ ، و : "فبينما".
(1/187)
الحرام
، ولا الخير من الشر.
وقال مجاهد : { فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } (1) أما إضاءة النار فإقبالهم
(2) إلى المؤمنين ، والهدى.
وقال عطاء الخرساني في قوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا }
قال : هذا مثل المنافق ، يبصر أحيانًا ويعرف أحيانًا ، ثم يدركه عمى القلب.
وقال ابن أبي حاتم : وروي عن عكرمة ، والحسن والسدي ، والرّبيع بن أنس نحو قول
عطاء الخرساني.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، في قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ نَارًا } إلى آخر الآية ، قال : هذه صفة المنافقين. كانوا قد آمنوا
حتى أضاء الإيمان في قلوبهم ، كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا (3) ثم كفروا
فذهب الله بنورهم فانتزعه ، كما ذهب بضوء هذه النار فتركهم في ظلمات لا يبصرون.
وقال العوفي ، عن ابن عباس ، في هذه الآية ، قال : أما النور : فهو إيمانهم الذي
كانوا يتكلمون به ، وأمَّا الظلمة : فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به ،
وهم قوم كانوا على هدى ، ثمّ نزع منهم ، فعتوا بعد ذلك.
وأما قول ابن جرير فيشبه ما رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : {
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } قال : هذا مثل ضربه الله
للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام ، فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم
الفيء ، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العِزّ ، كما سُلِب صاحب النار ضَوءه.
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الرّبيع بن أنس ، عن أبي العالية : { مَثَلُهُمْ
كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } فإنما ضوء النار ما أوقدتها ، فإذا خمدت
ذهب نورها ، وكذلك المنافق ، كلما تكلم بكلمة الإخلاص ، بلا إله إلا الله ، أضاء
له ، فإذا شك وقع في الظلمة.
وقال الضحاك [في قوله] (4) { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } أما نورهم فهو إيمانهم
الذي تكلموا به.
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } فهي (5) لا إله إلا الله ؛
أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدنيا ، ونكحوا النساء ، وحقنوا دماءهم ،
حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون.
وقال سعيد ، عن قتادة في هذه الآية : إن المعنى : أن المنافق تكلم بلا إله إلا
الله فأضاءت له الدنيا ، فناكح بها المسلمين ، وغازاهم بها ، ووارثهم بها ، وحقن
بها دمه وماله ، فلما كان عند الموت ،
__________
(1) في جـ : "ما حوله ذهب الله بنورهم".
(2) في جـ ، ط ، ب : "فإقباله".
(3) في جـ : "استوقد نارا".
(4) زيادة من جـ ، ط ، ب.
(5) في جـ : "فهو".
(1/188)
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
سلبها
المنافق ؛ لأنه (1) لم يكن لها أصل في قلبه ، ولا حقيقة في عمله (2).
{ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : {
وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } يقول : في عذاب إذا ماتوا.
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرِمة ، أو سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } أي يبصرون الحق ويقولون به ، حتى إذا
خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم (3) ونفاقهم فيه ، فتركهم الله في ظلمات الكفر
، فهم لا يبصرون هدى ، ولا يستقيمون على حق.
وقال السدي في تفسيره بسنده : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } فكانت الظلمة
نفاقهم.
وقال الحسن البصري : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ } فذلك (4) حين
يموت المنافق ، فيظلم عليه عمله عمل السوء ، فلا يجد له عملا من خير عمل به يصدق
(5) به قول : لا إله إلا الله (6).
{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } قال السدي بسنده : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } فهم خرس عمي
(7).
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } يقول : لا يسمعون
الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه ، وكذا قال أبو العالية ، وقتادة بن دعامة.
{ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } قال ابن عباس : أي لا يرجعون إلى هدى ، وكذلك (8) قال
الرّبيع بن أنس.
وقال السدي بسنده : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } إلى الإسلام.
وقال قتادة : { فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } أي لا يتوبون (9) ولا هم يذكرون.
{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ
أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ
مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا
أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (20) }
وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين ، وهم قوم يظهر لهم الحق تارة
، ويشكّون تارة أخرى ، فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم { كَصَيِّبٍ } والصيب :
المطر ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وناس من الصحابة ، وأبو العالية ، ومجاهد ،
وسعيد بن جبير ، وعطاء ،
__________
(1) في جـ : "لأنها".
(2) في جـ : "علمه".
(3) في جـ : "طعنوا بكفرهم به".
(4) في جـ : "فبذلك".
(5) في جـ : "يصدقه".
(6) في طـ ، ب ، و : "إلا هو".
(7) في جـ : "عمي خرس".
(8) في جـ ، ط ، ب ، أ : "وكذا".
(9) في جـ : "لا يؤمنون".
(1/189)
والحسن
البصري ، وقتادة ، وعطية العَوْفِي ، وعطاء الخراساني ، والسُّدي ، والرّبيع بن
أنس.
وقال الضحاك : هو السحاب.
والأشهر هو المطر نزل من السماء في حال ظلمات ، وهي الشكوك والكفر والنفاق. {
وَرَعْدٌ } وهو ما يزعج القلوب من الخوف ، فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد
والفزع ، كما قال تعالى : { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [ هُمُ
الْعَدُوُّ ] (1) } [المنافقون : 4] وقال : { وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ
لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ
يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ
يَجْمَحُونَ } [التوبة : 56 ، 57].
والبرق : هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان ، من نور
الإيمان ؛ ولهذا قال : { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ
الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ } أي : ولا
يُجْدي عنهم حذرهم شيئًا ؛ لأن الله محيط [بهم] (2) بقدرته ، وهم تحت مشيئته
وإرادته ، كما قال : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ *
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ }
[البروج : 17 - 20].
[والصواعق : جمع صاعقة ، وهي نار تنزل من السماء وقت الرعد الشديد ، وحكى الخليل
بن أحمد عن بعضهم صاعقة ، وحكى بعضهم صاعقة وصعقة وصاقعة ، ونقل عن الحسن البصري
أنه : قرأ "من الصواقع حذر الموت" بتقديم القاف وأنشدوا لأبي النجم :
يحكوك بالمثقولة القواطع... شفق البرق عن الصواقع (3)
قال النحاس : وهي لغة بني تميم وبعض بني ربيعة ، حكى ذلك.
ثم قال : { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } أي : لشدته وقوته في نفسه
، وضعف بصائرهم ، وعدم ثباتها للإيمان.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ
} يقول : يكاد مُحْكَمُ القرآن يدل على عورات المنافقين.
وقال ابن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن
عباس : { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } أي لشدة ضوء الحق ، { كلما
أضاء لهم مشوا فيه وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا } أي كلما ظهر لهم من
الإيمان شيء استأنسوا (4) به واتبعوه ، وتارة تعْرِض لهم الشكوك أظلمت قلوبَهم
فوقفوا حائرين.
__________
(1) زيادة من جـ ، ط.
(2) زيادة من جـ ، ط ، ب.
(3) البيت في اللسان ، مادة "صقع" وهو فيه : يحكون بالمصقولة القواطع...
تشقق البرق عن الصواقع
(4) في أ : "استضاءوا".
(1/190)
وقال
علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ } يقول
: كلما أصاب المنافقين من عز الإسلام اطمأنوا إليه ، وإن أصاب الإسلام نكبة قاموا
ليرجعوا إلى الكفر ، كقوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى
حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ [وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ]
(1) } الآية [الحج : 11].
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن
عباس : { كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ
قَامُوا } أي : يعرفون الحق ويتكلمون به ، فهم من قولهم به على استقامة فإذا
ارتكسوا منه (2) إلى الكفر { قَامُوا } أي : متحيرين.
وهكذا قال أبو العالية ، والحسن البصري ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، والسدي بسنده
، عن الصحابة وهو أصح وأظهر. والله أعلم.
وهكذا يكونون (3) يوم القيامة عندما يعطى الناس النور بحسب إيمانهم ، فمنهم من
يعطى من النور ما يضيء له مسيرة فراسخ ، وأكثر من ذلك وأقل من ذلك ، ومنهم من
يطْفَأ نوره تارة ويضيء له أخرى ، فيمشي (4) على الصراط تارة ويقف أخرى. ومنهم من
يطفأ نوره بالكلية وهم الخُلَّص من المنافقين ، الذين قال تعالى (5) فيهم : {
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا
نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا }
[الحديد : 13] وقال في حق المؤمنين : { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ
بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ } الآية [الحديد : 12] ، وقال تعالى : { يَوْمَ لا
يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا
وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [التحريم : 8].
ذكر الحديث الوارد في ذلك :
قال سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة في قوله تعالى : { يَوْمَ تَرَى
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } الآية [الحديد : 12] ، ذكر لنا أن النبي (6)
صلى الله عليه وسلم كان يقول : "من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن
، أو بين (7) صنعاء ودون ذلك ، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه".
رواه ابن جرير.
ورواه ابن أبي حاتم من حديث عمران بن دَاوَر (8) القطان ، عن قتادة ، بنحوه.
وهذا كما قال المِنْهَال بن عمرو ، عن قيس بن السكن ، عن عبد الله بن مسعود ، قال
: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم ، فمنهم من يرى (9) نوره كالنخلة ، ومنهم من يرى
(10) نوره كالرجل القائم ، وأدناهم نورًا على إبهامه يطفأ مرة ويَقِد (11) مرة.
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) في أ : "فيه".
(3) في جـ : "يكذبون" ، وفي أ : "يكون".
(4) في أ ، و : "ومنهم من يمشي".
(5) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "الله".
(6) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "أن نبي الله".
(7) في جـ ، ط ، ب ، "أبين و".
(8) في أ : "داود".
(9) في و : "يؤتى".
(10) في أ ، و : "يؤتى".
(11) في جـ : "ويتقد".
(1/191)
وهكذا
رواه ابن جرير ، عن ابن مُثَنَّى ، عن ابن إدريس ، عن أبيه ، عن المنهال.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافسي (1) حدثنا ابن
إدريس ، سمعت أبي يذكر عن المنهال بن عمرو ، عن قيس بن السكن ، عن عبد الله بن
مسعود : { نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } [التحريم : 8] قال : على قدر
أعمالهم يمرون على الصراط ، منهم من نوره مثل الجبل ، ومنهم من نوره مثل النخلة ،
وأدناهم نورًا من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ أخرى.
وقال ابن أبي حاتم أيضًا : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا أبو يحيى
الحِمَّاني ، حدثنا عُتْبَةُ (2) بن اليقظان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : ليس
أحد من أهل التوحيد إلا يعطى نورًا يوم القيامة ، فأما المنافق فيطفأ نوره ،
فالمؤمن مشفق مما يرى من إطفاء نور المنافقين ، فهم يقولون : ربنا أتمم لنا نورنا.
وقال الضحاك بن مزاحم : يعطى كل من كان يظهر الإيمان في الدنيا يوم القيامة نورًا
؛ فإذا انتهى إلى الصراط طفئ نور المنافقين ، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا ، فقالوا
: " ربنا أتمم لنا نورنا ".
فإذا تقرر هذا صار الناس أقسامًا : مؤمنون خُلّص ، وهم الموصوفون بالآيات الأربع
في أول البقرة ، وكفار خلص ، وهم الموصوفون بالآيتين بعدها ، ومنافقون ، وهم قسمان
: خلص ، وهم المضروب لهم المثل الناري ، ومنافقون يترددون ، تارة يظهر لهم لُمَعٌ
من الإيمان وتارة يخبو (3) وهم أصحاب المثل المائي ، وهم أخف حالا من الذين قبلهم.
وهذا المقام يشبه (4) من بعض الوجوه ما ذكر في سورة النور ، من ضرب مثل المؤمن (5)
وما جعل الله في قلبه من الهدى والنور ، بالمصباح (6) في الزجاجة التي كأنها كوكب
دُرّي ، وهي قلب المؤمن المفطور على الإيمان واستمداده من الشريعة الخالصة الصافية
الواصلة إليه من غير كدر ولا تخليط ، كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله.
ثم ضرب مثل العُبّاد من الكفار ، الذين يعتقدون أنهم على شيء ، وليسوا على شيء ،
وهم أصحاب الجهل المركب ، في قوله : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ
كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ
يَجِدْهُ شَيْئًا } الآية [النور : 39].
ثم ضرب مثل الكفار الجُهَّال الجَهْلَ البسيط ، وهم الذين قال [الله] (7) فيهم : {
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ
فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ
يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ
} [النور : 40] فقسم الكفار هاهنا إلى قسمين : داعية ومقلد ، كما ذكرهما في أول
سورة الحج : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ } [الحج : 3]
__________
(1) في جـ : "الطيالسي".
(2) في جـ : "عتيبة".
(3) في أ : "تحير".
(4) في جـ : "وهذا شبه".
(5) في جـ : "المؤمنين".
(6) في جـ : "بالمصباح الذي".
(7) زيادة من جـ ، ط.
(1/192)
وقال
بعده : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى
وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ } [الحج : 8] (1) وقد قسم الله (2) المؤمنين في أول الواقعة
وآخرها (3) وفي سورة الإنسان ، إلى قسمين : سابقون وهم المقربون ، وأصحاب يمين وهم
الأبرار.
فتلخص (4) من مجموع هذه الآيات الكريمات : أن المؤمنين صنفان : مقربون وأبرار ،
وأن الكافرين صنفان : دعاة ومقلدون ، وأن المنافقين - أيضًا - صنفان : منافق خالص
، ومنافق فيه شعبة من نفاق ، كما جاء في الصحيحين ، عن عبد الله بن عَمْرو ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم : "ثلاث من كن فيه كان منافقًا خالصًا ، ومن كانت
فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يَدَعها : من إذا حَدّث كذب ، وإذا
وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان" (5).
استدلوا به على أن الإنسان قد تكون فيه شعبة من إيمان ، وشعبة من نفاق. إما عَمَلي
لهذا الحديث ، أو اعتقادي ، كما دلت عليه الآية ، كما ذهب إليه طائفة من السلف
وبعض العلماء ، كما تقدم ، وكما سيأتي ، إن شاء الله. قال الإمام أحمد : حدثنا أبو
النضر ، حدثنا أبو معاوية يعني شيبان ، عن ليث ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري
، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "القلوب أربعة :
قلب أجرد ، فيه مثل السراج يُزْهر ، وقلب أغلف مربوط على غلافه ، وقلب منكوس ،
وقلب مُصَفَّح ، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن ، سراجه فيه نوره ، وأما القلب
الأغلف فقلب الكافر ، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص ، عرف ثم أنكر ،
وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق ، ومَثَل الإيمان فيه كمثل البقلة ، يمدها
الماء الطيب ، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يَمُدّها القيح والدم ، فأي المدّتين
(6) غلبت على الأخرى غلبت عليه" (7). وهذا إسناد جيد حسن.
وقوله : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد
عن عِكْرِمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : { وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } قال : لِمَا تركوا من الحق بعد
معرفته.
{ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قال ابن عباس (8) أي إنّ الله على
كل ما أراد بعباده من نقمة ، أو عفو ، قدير.
وقال ابن جرير : إنما وصف الله تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع ؛
لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم محيط ، و [أنه] (9) على إذهاب
أسماعهم وأبصارهم قدير ، ومعنى { قَدِيرٌ } قادر ، كما أن معنى { عَلِيمٌ } عالم.
__________
(1) في جـ ، ب : قدم الآية الثامنة على الآية الثالثة من سورة الحج.
(2) في جـ ، ب ، أ ، و : "تعالى".
(3) في أ : "في أول البقرة وآخرها" ، وفي جـ : "في أول سورة
الواقعة وفي آخرها".
(4) في جـ : "فلخص".
(5) صحيح البخاري برقم (34) وصحيح مسلم برقم (58) ولفظه : "أربع من كن فيه
كان منافقا خالصا - والرابعة - وإذا خاصم فجر".
(6) في جـ : "المددين".
(7) المسند (3/17).
(8) في جـ ، ط ، ب ، و : "ابن إسحاق".
(9) زيادة من جـ.
(1/193)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
[وذهب
ابن جرير الطبري ومن تبعه من كثير من المفسرين أن هذين المثلين مضروبان لصنف واحد
من المنافقين وتكون "أو" في قوله تعالى : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ
السَّمَاءِ } بمعنى الواو ، كقوله تعالى : { وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ
كَفُورًا } [الإنسان : 24] ، أو تكون للتخبير ، أي : اضرب لهم مثلا بهذا وإن شئت
بهذا ، قاله القرطبي. أو للتساوي مثل جالس الحسن أو ابن سيرين ، على ما وجهه
الزمخشري : أن كلا منهما مساو للآخر في إباحة الجلوس إليه ، ويكون معناه على قوله
: سواء ضربت لهم مثلا بهذا أو بهذا فهو مطابق لحالهم.
قلت : وهذا يكون باعتبار جنس المنافقين ، فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات كما ذكرها
الله تعالى في سورة براءة - ومنهم - ومنهم - ومنهم - يذكر أحوالهم وصفاتهم وما
يعتمدونه من الأفعال والأقوال ، فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة
لأحوالهم وصفاتهم ، والله أعلم ، كما ضرب المثلين في سورة النور لصنفي الكفار
الدعاة والمقلدين في قوله تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ
بِقِيعَةٍ } إلى أن قال : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ
مَوْجٌ } الآية [النور : 39 ، 40] ، فالأول للدعاة الذين هم في جهل مركب ، والثاني
لذوي الجهل البسيط من الأتباع المقلدين ، والله أعلم بالصواب] (1).
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشًا
وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ
رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) }
شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته ، بأنه تعالى هو المنعم على عَبيده ،
بإخراجهم من العدم إلى الوجود وإسباغه عليهم النعمَ الظاهرة والباطنة ، بأن جعل
لهم الأرض فراشا ، أي : مهدا كالفراش مُقَرّرَة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات ، {
وَالسَّمَاءَ بِنَاءً } وهو السقف ، كما قال في الآية الأخرى : { وَجَعَلْنَا
السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } [الأنبياء :
32] وأنزل لهم من السماء ماء - والمراد به السحاب هاهنا - في وقته عند احتياجهم
إليه ، فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد ؛ رزقًا لهم ولأنعامهم ،
كما قرر هذا في غير موضع (2) من القرآن. ومنْ أشبه آية بهذه الآية قوله تعالى : {
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا (3) وَالسَّمَاءَ بِنَاءً
وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ
اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [غافر : 64] ومضمونه
: أنه الخالق الرازق مالك الدار ، وساكنيها ، ورازقهم ، فبهذا يستحق أن يعبد وحده
ولا يُشْرَك به غَيره ؛ ولهذا قال : { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وفي الصحيحين عن ابن مسعود ، قال : قلت : يا رسول الله ،
أي الذنب أعظم ؟ قال : "أن تجعل لله ندا ، وهو خلقك" الحديث (4). وكذا
حديث معاذ :
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(2) في جـ : "غير هذا الموضع".
(3) في جـ : "فراشا" وهو خطأ.
(4) صحيح البخاري برقم (4761) وصحيح مسلم برقم (68).
(1/194)
"أتدري
ما حق الله على عباده ؟ أن يعبدوه لا (1) يشركوا به شيئًا" الحديث (2) وفي
الحديث الآخر : "لا يقولن أحدكم : ما شاء الله وشاء فلان ، ولكن ليقل (3) ما
شاء الله ، ثم شاء فلان" (4).
وقال حماد بن سلمة : حدثنا عبد الملك بن عمير ، عن رِبْعيِّ بن حِرَاش ، عن الطفيل
بن سَخْبَرَة ، أخى عائشة أم المؤمنين لأمها ، قال : رأيت فيما يرى النائم ، كأني
أتيت على نفر من اليهود ، فقلت : من أنتم ؟ فقالوا : نحن اليهود ، قلت : إنكم
لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : عُزَير ابن الله. قالوا : وإنكم لأنتم القوم لولا
أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد. قال : ثم مررت بنفر من النصارى ، فقلت : من
أنتم ؟ قالوا : نحن النصارى. قلت : إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : المسيح
ابن الله. قالوا : وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد.
فلما أصبحت أخبرت بها مَنْ أخبرت ، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته ،
فقال : "هل أخبرت بها أحدًا ؟" فقلت : نعم. فقام ، فحمد الله وأثنى عليه
ثم قال : "أما بعد ، فإن طُفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم ، وإنكم قلتم
كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها ، فلا تقولوا : ما شاء الله وشاء محمد ،
ولكن قولوا : ما شاء الله وحده". هكذا رواه ابن مردويه في تفسير هذه الآية من
حديث حماد بن سلمة ، به (5). وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر ، عن عبد الملك بن عمير
به ، بنحوه (6).
وقال سفيان بن سعيد الثوري ، عن الأجلح بن عبد الله الكندي ، عن يزيد بن الأصم ،
عن ابن عباس ، قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : ما شاء الله وشئت. فقال :
"أجعلتني لله ندا (7) ؟ قل : ما شاء الله وحده". رواه ابن مردويه ،
وأخرجه النسائي ، وابن ماجه من حديث عيسى بن يونس ، عن الأجلح ، به (8).
وهذا كله صيانة ، وحماية لجناب التوحيد ، والله أعلم.
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس ، قال : قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ }
للفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين ، أي : وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من
قبلكم.
وبه عن ابن عباس : { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
أي : لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر ، وأنتم تعلمون أنه لا
رب لكم يرزقكم غيره وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه
__________
(1) في جـ : "ولا".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (7373) ومسلم في صحيحه برقم (30).
(3) في جـ : "ليقول".
(4) رواه أبو داود في السنن برقم (4980) من حديث حذيفة رضي الله عنه.
(5) ورواه الإمام أحمد في المسند (5/72) من طريق بهز وعفان عن حماد بن سلمة به.
(6) رواه ابن ماجة في السنن برقم (2118) عن هشام بن عمار ، عن سفيان ، عن عبد
الملك بن عمير به ، وقال البوصيري في الزوائد (2/151) : "هذا إسناد رجاله
ثقات على شرط البخاري لكنه منقطع بين سفيان وبين عبد الملك بن عمير".
(7) في جـ : "أندادا".
(8) سنن النسائي الكبرى برقم (10825) وسنن ابن ماجة برقم (2117) وقال البوصيري في
الزوائد (1/150) : "هذا فيه الأجلح بن عبد الله ، مختلف فيه".
(1/195)
الرسول
صلى الله عليه وسلم من توحيده هو الحق الذي لا شك فيه. وهكذا قال قتادة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم ، حدثنا أبي عمرو ، حدثنا أبي
الضحاك بن مخلد أبو عاصم ، حدثنا شبيب بن بشر ، حدثنا عكرمة ، عن ابن عباس ، في
قول الله ، عز وجل (1) { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا [وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ] (2) } قال : الأنداد هو الشرك ، أخفى من دبيب النمل على صَفَاة سوداء
في ظلمة الليل ، وهو أن يقول : والله وحياتك يا فلان ، وحياتي ، ويقول : لولا كلبة
هذا لأتانا اللصوص ، ولولا البطّ في الدار لأتى اللصوص ، وقول الرجل لصاحبه : ما
شاء الله وشئتَ ، وقول الرجل : لولا الله وفلان. لا تجعل فيها "فلان".
هذا (3) كله به شرك.
وفي الحديث : أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت ، فقال
: "أجعلتني لله ندا". وفي الحديث الآخر : "نعم القوم أنتم ، لولا
أنكم تنددون ، تقولون : ما شاء الله ، وشاء فلان".
قال (4) أبو العالية : { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } أي عدلاء شركاء.
وهكذا قال الربيع بن أنس ، وقتادة ، والسُّدي ، وأبو مالك : وإسماعيل بن أبي خالد.
وقال مجاهد : { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } قال
: تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل.
ذكر حديث في معنى هذه الآية الكريمة :
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو خلف موسى بن خلف ، وكان يُعَد من
البُدَلاء ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن سلام ، عن جده ممطور ، عن الحارث
الأشعري ، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله عز وجل ، أمر يحيى
بن زكريا ، عليه السلام ، بخمس كلمات أن يعمل بهن ، وأن يأمر بني إسرائيل أن
يعملوا بهن ، وكان يبطئ بها ، فقال له عيسى ، عليه السلام : إنك قد أمرت بخمس
كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ، فإما أن تبلغهن ، وإما أن
أبلغهن. فقال : يا أخي ، إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي". قال :
"فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس ، حتى امتلأ المسجد ، فقعد
على الشرف ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل
بهن ، وآمركم أن تعملوا بهن ، وأولهن : أن تعبدوا الله (5) لا تشركوا به شيئًا ،
فإن مثل ذلك مَثَل رجل اشترى عبدًا من خالص ماله بوَرِق أو ذهب ، فجعل يعمل ويؤدي
غلته (6) إلى غير سيده فأيكم يسره (7) أن يكون عبده كذلك ؟ وأن الله خلقكم ورزقكم
فاعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأمركم بالصلاة ؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم
يلتفت ، فإذا صليتم فلا تلتفتوا. وأمركم بالصيام ، فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة
من مسك في عصابة ، كلهم يجد ريح المسك. وإن خلوف فم الصائم عند الله أطيب (8) من
ريح المسك. وأمركم بالصدقة ؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو ، فشدوا يديه إلى
عنقه ، وقدموه ليضربوا عنقه ، فقال لهم : هل لكم أن أفتدي
__________
(1) في جـ : "تعالى".
(2) زيادة من جـ ، ط.
(3) في جـ : "لأن هذا".
(4) في جـ : "وقال".
(5) في جـ : "الله وحده".
(6) في جـ ، أ : "عمله".
(7) في جـ : "سره".
(8) في ب : "أطيب عند الله".
(1/196)
نفسي
(1) ؟ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه. وأمركم بذكر الله كثيرًا
؛ وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سِراعا في أثره ، فأتى حصنا حصينًا فتحصن فيه ،
وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله".
قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن
: الجماعة ، والسمع ، والطاعة ، والهجرة ، والجهاد في سبيل الله ؛ فإنه من خرج من
الجماعة قيدَ شِبْر فقد خلع رِبْقة الإسلام من عنقه ، إلا أن يراجع ومن دعا بدعوى
جاهلية فهو من جِثِيِّ جهنم". قالوا : يا رسول الله ، وإن صام وصلى (2) ؟
فقال : "وإن صلى وصام (3) وزعم أنه مسلم ؛ فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما
سماهم (4) الله عز وجل : المسلمين المؤمنين عباد الله" (5).
هذا حديث حسن ، والشاهد منه في هذه الآية قوله : "وإن الله خلقكم ورزقكم
فاعبدوه ولا تشركوا به شيئًا".
وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له ، وقد استدل به كثير
من المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع فقال : وهي دالة على ذلك بطريق الأولى
، فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها
ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة ، علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه
وعظيم سلطانه ، كما قال بعض الأعراب ، وقد سئل : ما الدليل على وجود الرب تعالى ؟
فقال : يا سبحان الله ، إن البعرة لتدل على البعير ، وإن أثر الأقدام لتدل على
المسير ، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ؟ ألا يدل ذلك على
وجود اللطيف الخبير ؟
وحكى فخر الدين عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل باختلاف اللغات
والأصوات والنغمات ، وعن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى ،
فقال لهم : دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة
فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها ، وهي مع ذلك تذهب وتجيء
وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها ، وتسير حيث شاءت بنفسها من
غير أن يسوقها أحد. فقالوا : هذا شيء لا يقوله عاقل ، فقال : ويحكم هذه الموجودات
بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها
صانع!! فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه.
وعن الشافعي : أنه سئل عن وجود الصانع ، فقال : هذا ورق التوت طعمه واحد تأكله
الدود فيخرج منه الإبريسم ، وتأكله النحل فيخرج منه العسل ، وتأكله الشاة والبعير
والأنعام فتلقيه بعرًا وروثا ، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك وهو شيء واحد.
وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال : هاهنا حصن حصين أملس ، ليس له باب
__________
(1) في جـ ، ب ، أ ، و : "نفسي منكم".
(2) في جـ : "وصلى وزعم أنه مسلم".
(3) في أ : "وإن صلى وإن صام".
(4) في جـ ، ط : "بل بما سماهم".
(5) المسند (4/130).
(1/197)
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
ولا
منفذ ، ظاهره كالفضة البيضاء ، وباطنه كالذهب الإبريز ، فبينا هو كذلك إذ انصدع
جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح ، يعني بذلك البيضة إذا خرج
منها الدجاجة.
وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد :
تأمل في نبات الأرض وانظر... إلى آثار ما صنع المليك...
عيون من لجين شاخصات... بأحداق هي الذهب السبيك...
على قضب الزبرجد شاهدات... بأن الله ليس له شريك...
وقال ابن المعتز :
فيا عجبًا كيف يعصى الإله... أم كيف يجحده الجاحد...
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد...
وقال آخرون : من تأمل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب
الكبار والصغار المنيرة من السيارة ومن الثوابت ، وشاهدها كيف تدور مع الفلك
العظيم في كل يوم وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها ، ونظر إلى البحار الملتفة
للأرض من كل جانب ، والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف
أشكالها وألوانها كما قال : { وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ
أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ
مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ } [فاطر : 27 ، 28] وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر لمنافع
العباد وما زرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأراييح
والأشكال والألوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء ، علم وجود الصانع وقدرته العظيمة
وحكمته ورحمته بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم وبره بهم لا إله غيره ولا رب سواه ،
عليه توكلت وإليه أنيب ، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جدًا.
{ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ
الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) }
ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه (1) لا إله إلا هو ، فقال مخاطبًا
للكافرين : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } يعني :
محمدا صلى الله عليه وسلم { فَأْتُوا بِسُورَةٍ } من مثل ما جاء به إن زعمتم أنه
من عند غير الله ، فعارضوه بمثل ما جاء به ، واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون
الله ، فإنكم لا تستطيعون ذلك.
__________
(1) في أ : "بأن".
(1/198)
قال
ابن عباس : { شُهَدَاءَكُمْ } أعوانكم [أي : قومًا آخرين يساعدونكم على ذلك] (1).
وقال السدي ، عن أبي مالك : شركاءكم [أي استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم
وينصرونكم] (2).
وقال مجاهد : { وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ } قال : ناس يشهدون به [يعني : حكام
الفصحاء] (3).
وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن ، فقال في سورة القصص : { قُلْ
فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [القصص : 49] وقال في سورة سبحان : { قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [الإسراء : 88]
وقال في سورة هود : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ
مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [هود : 13] ، وقال في سورة يونس : { وَمَا كَانَ هَذَا
الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ
يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ
يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [يونس : 37 ، 38]
وكل هذه الآيات مكية.
ثم تحداهم [الله تعالى] (4) بذلك - أيضًا - في المدينة ، فقال في هذه الآية : {
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ } أي : [في] (5) شك { مِمَّا نزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا
} يعني : محمدًا صلى الله عليه وسلم. { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } يعني :
من مثل [هذا] (6) القرآن ؛ قاله مجاهد وقتادة ، واختاره ابن جرير. بدليل قوله : {
فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ } [هود : 13] وقوله : { لا يَأْتُونَ
بِمِثْلِهِ } [الإسراء : 88] وقال بعضهم : من مثل محمد صلى الله عليه وسلم ، يعني
: من رجل أمي مثله. والصحيح الأول ؛ لأن التحدي عام لهم كلهم ، مع أنهم أفصح الأمم
، وقد (7) تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة ، مع شدة عداوتهم له وبغضهم
لدينه ، ومع هذا عجزوا عن ذلك ؛ ولهذا قال تعالى : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا
وَلَنْ تَفْعَلُوا } "ولن" : لنفي التأبيد (8) أي : ولن تفعلوا ذلك
أبدًا. وهذه - أيضًا - معجزة أخرى ، وهو أنه أخبر أن هذا القرآن لا يعارض بمثله
أبدا (9) وكذلك وقع الأمر ، لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن ، وَأنَّى
يَتَأتَّى ذلك لأحد ، والقرآن كلام الله خالق كل شيء ؟ وكيف يشبه كلام الخالق كلام
المخلوقين ؟!
ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونًا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة
المعنى ، قال الله تعالى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ
مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [هود : 1] ، فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس
على الخلاف ، فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يجارى ولا يدانى ، فقد أخبر عن مغيبات
ماضية وآتية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء ، وأمر بكل خير ، ونهى عن كل شر
كما قال : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا } [الأنعام : 115] أي :
صدقًا في الأخبار وعدلا في الأحكام ، فكله حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ولا
كذب ولا افتراء ،
__________
(1) زيادة من جـ ، ط.
(2) زيادة من جـ ، ط.
(3) زيادة من جـ ، ط.
(4) زيادة من جـ.
(5) زيادة من جـ ، ط.
(6) زيادة من أ ، و.
(7) في أ : "وهو قد".
(8) في جـ ، ب ، أ ، و : "التأبيد في المستقبل".
(9) في جـ ، ط ، أ : "أبد الآبدين ودهر الداهرين".
(1/199)
كما
يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها ،
كما قيل في الشعر : إن أعذبه أكذبه ، وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل
غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر ، أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو
حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع ، أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئًا
إلا قدرة المتكلم المعبر على التعبير على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى
الشيء الواضح ، ثم تجد له فيها بيتًا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها هذر
لا طائل تحته.
وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلا وإجمالا
ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير ، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية
الحلاوة ، سواء كانت مبسوطة أو وجيزة ، وسواء تكررت أم لا وكلما تكرر حلا وعلا لا
يَخلق عن كثرة الرد ، ولا يمل منه العلماء ، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه
ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات ، فما ظنك بالقلوب الفاهمات ، وإن وعد أتى بما
يفتح القلوب والآذان ، ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن ، كما قال في
الترغيب : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ
جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [السجدة : 17] وقال : { وَفِيهَا مَا
تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
[الزخرف : 71] ، وقال في الترهيب : { أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ
الْبَرِّ } [الإسراء : 68] ، { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ
بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ
يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } [الملك : 16 ، 17]
وقال في الزجر : { فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ } [العنكبوت : 40] ، وقال في الوعظ
: { أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ
* مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ } [الشعراء : 205 - 207] إلى غير
ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة ، وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر
والنواهي ، اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب ، والنهي عن كل قبيح
رذيل دنيء ؛ كما قال ابن مسعود وغيره من السلف : إذا سمعت الله تعالى يقول في
القرآن { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فأوعها سمعك فإنه خير ما يأمر به أو شر
ينهى عنه. ولهذا قال تعالى : { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } الآية
[الأعراف : 157] ، وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال وفي وصف
الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ
والعذاب الأليم ، بشرت به وحذرت وأنذرت ؛ ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات ،
وزهدت في الدنيا ورغبت في الأخرى ، وثبتت على الطريقة المثلى ، وهدت إلى صراط الله
المستقيم وشرعه القويم ، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم.
ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، قال : "ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعْطِيَ من الآيات ما مثله آمن
عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله
(1/200)
إليَّ
، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا (1) يوم القيامة" لفظ (2) مسلم. وقوله :
"وإنما كان الذي أوتيته وحيًا" أي : الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن
المعجز (3) للبشر أن يعارضوه ، بخلاف غيره من الكتب الإلهية ، فإنها ليست معجزة
[عند كثير من العلماء] (4) والله أعلم. وله عليه الصلاة والسلام من الآيات الدالة
على نبوته ، وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصر ، ولله الحمد والمنة.
[وقد قرر بعض المتكلمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة وقول المعتزلة في
الصوفية ، فقال : إن كان هذا القرآن معجزًا في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله
ولا في قواهم معارضته ، فقد حصل المدعى وهو المطلوب ، وإن كان في إمكانهم معارضته
بمثله ولم يفعلوا ذلك مع شدة عداوتهم له ، كان ذلك دليلا على أنه من عند الله ؛
لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك ، وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضية لأن
القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته ، كما قررنا ، إلا أنها تصلح على
سبيل التنزل والمجادلة والمنافحة عن الحق وبهذه الطريقة أجاب فخر الدين في تفسيره
عن سؤاله في السور القصار كالعصر و { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } ] (5).
وقوله تعالى : { فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ
أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } أما الوَقُود ، بفتح الواو ، فهو ما يلقى في النار
لإضرامها كالحطب ونحوه ، كما قال : { وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا
لِجَهَنَّمَ حَطَبًا } [الجن : 15] وقال تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [الأنبياء :
98].
والمراد بالحجارة هاهنا : هي حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة ، وهي
أشد الأحجار حرا إذا حميت ، أجارنا الله منها.
قال عبد الملك بن ميسرة الزرّاد (6) عن عبد الرحمن بن سابط ، عن عمرو بن ميمون ،
عن عبد الله بن مسعود ، في قوله تعالى : { وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ }
قال : هي حجارة من كبريت ، خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا ،
يعدها للكافرين. رواه ابن جرير ، وهذا لفظه. وابن أبي حاتم ، والحاكم في مستدركه
وقال : على شرط الشيخين (7).
وقال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة عن
ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : { فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا
النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } أما الحجارة فهي حجارة في النار من كبريت أسود ، يعذبون
به مع النار.
وقال مجاهد : حجارة من كبريت أنتن من الجيفة. وقال أبو جعفر محمد بن علي : [هي]
(8) حجارة من كبريت. وقال ابن جريج : حجارة من كبريت أسود في النار ، وقال لي عمرو
بن دينار :
__________
(1) في جـ : "تبعا".
(2) صحيح البخاري برقم (4981) ، وصحيح مسلم برقم (152).
(3) في ط : "المفهم".
(4) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ.
(5) زيادة من جـ ، ط ، ب.
(6) في جـ : "الرزاز".
(7) تفسير الطبري (1/381) وتفسير ابن أبي حاتم (1/85) والمستدرك (2/61).
(8) زيادة من جـ.
(1/201)
أصلب
من هذه الحجارة وأعظم.
[وقيل : المراد بها : حجارة الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله كما قال
: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } الآية
[الأنبياء : 98] ، حكاه القرطبي وفخر الدين ورجحه على الأول ؛ قال : لأن أخذ النار
في حجارة الكبريت ليس بمنكر فجعلها هذه الحجارة أولى ، وهذا الذي قاله ليس بقوي ،
؛ وذلك أن النار إذا أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك أشد لحرها وأقوى لسعيرها ، ولا
سيما على ما ذكره السلف من أنها حجارة من كبريت معدة لذلك ، ثم إن أخذ النار في
هذه الحجارة - أيضا - مشاهد ، وهذا الجص يكون أحجارًا فتعمل فيه بالنار حتى يصير
كذلك. وكذلك سائر الأحجار تفخرها النار وتحرقها. وإنما سيق هذا في حر هذه النار
التي وعدوا بها ، وشدة ضرامها وقوة لهبها كما قال : { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ
سَعِيرًا } [الإسراء : 97]. وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر
بها النار لتحمى ويشتد لهبها قال : ليكون ذلك أشد عذابًا لأهلها ، قال : وقد جاء
في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "كل مؤذ في النار"
وهذا الحديث ليس بمحفوظ ولا معروف (1) ثم قال القرطبي : وقد فسر بمعنيين ، أحدهما
: أن كل من آذى الناس دخل النار (2) ، والآخر : كل ما يؤذي فهو في النار يتأذى به
أهلها من السباع والهوام وغير ذلك] (3).
وقوله تعالى : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } الأظهر أنّ الضمير في { أُعِدَّتْ }
عائد إلى النار التي وقودها الناس والحجارة ، ويحتمل عوده على الحجارة ، كما قال
ابن مسعود ، ولا منافاة بين القولين في المعنى ؛ لأنهما متلازمان.
و { أُعِدَّتْ } أي : أرصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله ، كما قال [محمد] (4) بن
إسحاق ، عن محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { أُعِدَّتْ
لِلْكَافِرِينَ } أي : لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر.
وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن لقوله : {
أُعِدَّتْ } أي : أرصدت وهيئت وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها : "تحاجت
الجنة والنار" ومنها : "استأذنت النار ربها فقالت : رب أكل بعضي بعضًا
فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف" ، وحديث ابن مسعود سمعنا وجبة
فقلنا ما هذه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هذا حجر ألقي به من
شفير جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها" وهو عند مسلم (5) وحديث صلاة
الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنى وقد خالفت
المعتزلة بجهلهم في هذا ووافقهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الأندلس.
__________
(1) رواه الخطيب في تاريخ بغداد (11/299) من طريق المفيد عن الأشج ، عن علي رضي
الله عنه به مرفوعًا.
(2) في أ : "عذب في النار".
(3) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(4) زيادة من جـ.
(5) صحيح مسلم برقم (2844).
(1/202)
تنبيه
ينبغي الوقوف عليه :
قوله : { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } وقوله في سورة يونس : { بِسُورَةٍ
مِثْلِهِ } [يونس : 38] يعم كل سورة في القرآن طويلة كانت أو قصيرة ؛ لأنها نكرة
في سياق الشرط فتعم كما هي في سياق النفي عند المحققين من الأصوليين كما هو مقرر
في موضعه ، فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها ، وهذا ما أعلم فيه نزاعًا بين
الناس سلفًا وخلفًا ، وقد قال الإمام العلامة فخر الدين الرازي في تفسيره : فإن
قيل : قوله : { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } يتناول سورة الكوثر وسورة
العصر ، و { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان
بمثله أو بما يقرب منه ممكن. فإن قلتم : إن الإتيان بمثل هذه السور خارج عن مقدور
البشر كان مكابرة ، والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق بالتهمة (1) إلى الدين :
قلنا : فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني ، وقلنا : إن بلغت هذه السورة في الفصاحة
حد الإعجاز فقد حصل المقصود ، وإن لم يكن كذلك ، كان امتناعهم من المعارضة مع شدة
دواعيهم إلى تهوين أمره معجزًا (2) ، فعلى التقديرين يحصل المعجز (3) ، هذا لفظه
بحروفه. والصواب : أن كل سورة من القرآن معجزة لا يستطيع البشر معارضتها طويلة
كانت أو قصيرة.
قال الشافعي ، رحمه الله : لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم : { وَالْعَصْرِ *
إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [سورة العصر]. وقد روينا عن
عمرو بن العاص أنه وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم ، فقال له مسيلمة : ماذا
أنزل على صاحبكم بمكة في هذا الحين ؟ فقال له عمرو : لقد أنزل عليه سورة وجيزة
بليغة فقال : وما هي ؟ فقال : { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ }
ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال : ولقد أنزل عليَّ مثلها ، فقال : وما هو ؟ فقال : يا
وبْر يا وبْر ، إنما أنت أذنان وصدر ، وسائرك حقر فقر ، ثم قال : كيف ترى يا عمرو
؟ فقال له عمرو : والله إنك لتعلم أني لأعلم إنك تكذب (4).
__________
(1) في أ : "الفهم".
(2) في أ : "معجز".
(3) في أ : "العجز".
(4) سيأتي الكلام على هذه القصة عند تفسير سورة العصر.
(1/203)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
{
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ
رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا
وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) }
لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به (1) وبرسله من العذاب
والنكال ، عَطف بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به (2) وبرسله ، الذين
صَدَّقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة ، وهذا معنى تسمية القرآن "مثاني"
على أصح أقوال (3) العلماء ، كما سنبسطه في موضعه ، وهو أن يذكر الإيمان ويتبعه
بذكر الكفر ، أو عكسه ، أو حال السعداء ثم الأشقياء ، أو عكسه. وحاصله ذكر الشيء
ومقابله. وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك التشابه ، كما سنوضحه إن شاء الله ؛ فلهذا
قال تعالى : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } فوصفها بأنها تجري من تحتها
__________
(1) في جـ : "بالله تعالى".
(2) في جـ : "بالله تعالى".
(3) في جـ : "قولي".
(1/203)
الأنهار
، كما وصف النار بأن وقودها الناس والحجارة ، ومعنى { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الأنْهَارُ } أي : من تحت أشجارها وغرفها ، وقد جاء في الحديث : أن أنهارها تجري
من (1) غير أخدود ، وجاء في الكوثر أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف ، ولا منافاة
بينهما ، وطينها المسك الأذفر ، وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر ، نسأل الله من فضله
[وكرمه] (2) إنه هو البر الرحيم.
وقال ابن أبي حاتم : قرئ على الربيع بن سليمان : حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا ابن
ثوبان ، عن عطاء بن قرّة ، عن عبد الله بن ضمرة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "أنهار الجنة تُفَجَّر من تحت تلال - أو من تحت
جبال - المسك" (3).
وقال أيضا : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن
مسروق ، قال : قال عبد الله : أنهار الجنة تفجر من جبل مسك.
وقوله تعالى : { كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا
الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ } قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك ، وعن أبي
صالح ، عن ابن عباس وعن مُرّة عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : { قَالُوا
هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ } قال : إنهم أتوا بالثمرة في الجنة ، فلما
نظروا إليها قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل في [دار] (4) الدنيا.
وهكذا قال قتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، ونصره ابن جرير.
وقال عكرمة : { قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ } قال : معناه : مثل
الذي كان بالأمس ، وكذا قال الربيع بن أنس. وقال مجاهد : يقولون : ما أشبهه به.
قال ابن جرير : وقال آخرون : بل تأويل ذلك هذا الذي رزقنا من ثمار الجنة من قبل
هذا (5) لشدة مشابهة بعضه بعضًا ، لقوله تعالى : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا }
قال سُنَيْد بن داود : حدثنا شيخ من أهل المِصِّيصة ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن
أبي كثير ، قال : يؤتى أحدهم بالصحفة (6) من الشيء ، فيأكل منها ثم يؤتى (7) بأخرى
فيقول : هذا الذي أوتينا به من قبل. فتقول الملائكة : كُلْ ، فاللون واحد ، والطعم
مختلف.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عامر (8) بن يَسَاف
، عن يحيى بن أبي كثير قال : عشب الجنة الزعفران ، وكثبانها المسك ، ويطوف عليهم
الولدان بالفواكه فيأكلونها (9) ثم يؤتون بمثلها ، فيقول لهم أهل الجنة : هذا الذي
أتيتمونا آنفا به ، فيقول لهم الولدان : كلوا ، فإن اللون واحد ، والطعم مختلف.
وهو قول الله تعالى : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا }
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية : { وَأُتُوا بِهِ
مُتَشَابِهًا } قال : يشبه
__________
(1) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "في".
(2) زيادة من جـ ، ط ، ب.
(3) تفسير ابن أبي حاتم (1/87) ورواه أبو نعيم في صفة الجنة برقم (313) من طريق
الربيع بن سليمان به ، ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (2622) "موارد" من
طريق القراطيسي عن أسد بن موسى عن ابن ثوبان به.
(4) زيادة من جـ.
(5) في جـ : "هذه".
(6) في جـ ، ب : "بالصحيفة".
(7) في جـ : "يأتي".
(8) في أ : "عباس".
(9) في جـ : "فيأكلون".
(1/204)
بعضه
بعضًا ، ويختلف في الطعم.
وقال ابن أبي حاتم : ورُوي عن مجاهد ، والربيع بن أنس ، والسدي نحو ذلك.
وقال ابن جرير بإسناده عن السدي في تفسيره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن
عباس وعن مُرّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة ، في قوله تعالى : { وَأُتُوا
بِهِ مُتَشَابِهًا } يعني : في اللون والمرأى ، وليس يشتبه (1) في الطعم.
وهذا اختيار ابن جرير.
وقال عكرمة : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } قال : يشبه ثمر الدنيا ، غير أن ثمر
الجنة أطيب.
وقال سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي ظِبْيان ، عن ابن عباس ، لا يشبه شَيءٌ
مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء ، وفي رواية : ليس في الدنيا مما في
الجنة إلا الأسماء. رواه ابن جرير ، من رواية الثوري ، وابن أبي حاتم من حديث أبي
معاوية كلاهما عن الأعمش ، به.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } قال :
يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا : التفاح بالتفاح ، والرمان بالرمان ، قالوا في
الجنة : هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا ، وأتوا به متشابها ، يعرفونه وليس هو
مثله في الطعم.
وقوله تعالى : { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ } قال ابن أبي طلحة ، عن
ابن عباس : مطهرة من القذر والأذى.
وقال مجاهد : من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد.
وقال قتادة : مطهرة من الأذى والمأثم. وفي رواية عنه : لا حيض ولا كلف. وروي عن
عطاء والحسن والضحاك وأبي صالح وعطية والسدي نحو ذلك.
وقال ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن
زيد بن أسلم ، قال : المطهرة التي لا تحيض. قال : وكذلك خلقت حواء ، عليها السلام
، حتى عصت ، فلما عصت قال الله تعالى : إني خلقتك مطهرة وسأدميك كما أدميت هذه
الشجرة. وهذا غريب.
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا إبراهيم بن محمد ، حدثني جعفر بن محمد بن
حرب ، وأحمد بن محمد الجُوري (2) قالا حدثنا محمد بن عبيد الكندي ، حدثنا عبد
الرزاق بن عمر البَزيعيّ ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن شعبة ، عن قتادة ، عن أبي
نضرة ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { وَلَهُمْ
فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ } قال : "من الحيض والغائط والنخاعة
والبزاق" (3).
هذا حديث غريب. وقد رواه الحاكم في مستدركه ، عن محمد بن يعقوب ، عن الحسن بن علي
بن عفان ، عن محمد بن عبيد ، به ، وقال : صحيح على شرط الشيخين.
__________
(1) في جـ : "يشبه".
(2) في جـ ، ط ، ب : "الجواري".
(3) ورواه أبو نعيم في صفة الجنة برقم (363) من طريق عبد الله بن محمد بن يعقوب عن
محمد بن عبيد به.
(1/205)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
وهذا
الذي ادعاه فيه نظر ؛ فإن عبد الرزاق بن عمر البزيعي (1) هذا قال فيه أبو حاتم بن
حبان البُسْتي : لا يجوز الاحتجاج به (2).
قلت : والأظهر أن هذا من كلام قتادة ، كما تقدم ، والله أعلم.
وقوله تعالى : { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } هذا (3) هو تمام السعادة ، فإنهم مع
هذا النعيم في مقام أمين من الموت والانقطاع فلا آخر له ولا انقضاء ، بل في نعيم
سرمدي أبدي على الدوام ، والله المسؤول أن يحشرنا في زمرتهم ، إنه جواد كريم ، بر
رحيم.
{ إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا
فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ
بِهَذَا مَثَلا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ
إِلا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ
مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي
الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) }
قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن
ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين ، يعني
قوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } [البقرة : 17] وقوله {
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ } [البقرة : 19] الآيات الثلاث ، قال المنافقون :
الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال ، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله : { هُمُ
الْخَاسِرُونَ }
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : لما ذكر الله العنكبوت والذباب ، قال
المشركون : ما بال العنكبوت والذباب يذكران ؟ فأنزل الله [تعالى هذه الآية] (4) {
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا
} (5).
وقال سعيد ، عن قتادة : أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئا ما ، قل أو كثر
، وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة : ما أراد الله من
ذكر هذا ؟ فأنزل الله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا
بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا }
قلت : العبارة الأولى عن قتادة فيها إشعار أن هذه الآية مكية ، وليس كذلك ، وعبارة
رواية سعيد ، عن قتادة أقرب والله أعلم. وروى ابن جُرَيج عن مجاهد نحو هذا الثاني
عن قتادة.
وقال ابن أبي حاتم : روي عن الحسن وإسماعيل بن أبي خالد نحو قول السدي وقتادة.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في هذه الآية قال : هذا مثل ضربه الله
للدنيا ؛ إذ
__________
(1) في أ : "الربعي".
(2) المجروحين (2/160).
(3) في جـ ، ط : "وهذا".
(4) زيادة من ط.
(5) تفسير عبد الرزاق (1/64).
(1/206)
البعوضة
تحيا ما جاعت ، فإذا سمنت ماتت. وكذلك مثل هؤلاء (1) القوم الذين ضرب لهم هذا
المثل في القرآن ، إذا امتلؤوا من الدنيا ريا أخذهم الله تعالى عند ذلك ، ثم تلا {
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ
} [الأنعام : 44].
هكذا رواه ابن جرير ، ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي
العالية ، بنحوه ، فالله أعلم.
فهذا اختلافهم في سبب النزول ، وقد اختار ابن جرير ما حكاه السُّدي ؛ لأنه أمس
بالسورة ، وهو مناسب ، ومعنى الآية : أنه تعالى أخبر أنه لا يستحيي ، أي : لا
يستنكف ، وقيل : لا يخشى أن يضرب مثلا ما ، أي : أيّ مثل كان ، بأي شيء كان ،
صغيرًا كان أو كبيرًا.
و "ما" هاهنا للتقليل (2) وتكون { بَعُوضَةً } منصوبة على البدل ، كما
تقول : لأضربن ضربًا ما ، فيصدق بأدنى شيء [أو تكون "ما" نكرة موصوفة
ببعوضة] (3). واختار ابن جرير أن ما موصولة ، و { بَعُوضَةً } معربة بإعرابها ،
قال : وذلك سائغ (4) في كلام العرب ، أنهم يعربون صلة ما ومن بإعرابهما لأنهما
يكونان معرفة تارة ، ونكرة أخرى ، كما قال حسان بن ثابت :
وَكَفَى (5) بِنَا فَضْلا عَلَى مَنْ غَيْرِنَا... حُب (6) النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ
إيَّانَا (7)
قال : ويجوز أن تكون { بَعُوضَةً } منصوبة بحذف الجار ، وتقدير الكلام : إن الله
لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها.
[وهذا الذي اختاره الكسائي والفراء. وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورويت
"بعوضة" بالرفع ، قال ابن جني : وتكون صلة لما وحذف العائد كما في قوله
: { تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ } [الأنعام : 154] أي : على الذي أحسن هو
أحسن ، وحكى سيبويه : ما أنا بالذي قائل لك شيئا ، أي : يعني بالذي هو قائل لك
شيئًا] (8).
وقوله : { فَمَا فَوْقَهَا } فيه قولان : أحدهما : فما دونها في الصغر ، والحقارة
، كما إذا وصف رجل باللؤم والشح ، فيقول السامع (9) : نعم ، وهو فوق ذلك ، يعني
فيما وصفت. وهذا قول الكسائي وأبي عبيدة ، قال الرازي : وأكثر المحققين ، وفي
الحديث : "لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة
ماء" (10). والثاني : فما فوقها : فما هو أكبر منها ؛ لأنه ليس شيء أحقر ولا
أصغر من البعوضة. وهذا [قول قتادة بن دعامة و] (11) اختيار ابن جرير.
__________
(1) في أ : "هذا".
(2) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "للتقليل زائدة".
(3) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(4) في جـ ، أ ، و : "شائع".
(5) في جـ ، ب ، أ ، و : "يكفي".
(6) في جـ : "حث".
(7) البيت في تفسير الطبري (1/404).
(8) زيادة من جـ ، ط ، ب.
(9) في جـ : "القابل".
(10) رواه الترمذي في السنن برقم (2320) من طريق عبد الحميد بن سليمان عن أبي حازم
، عن سهل بن سعد رضي الله عنه به مرفوعا ، وفيه عبد الحميد بن سليمان ضعيف.
(11) زيادة من جـ ، ط.
(1/207)
[ويؤيده
ما رواه مسلم عن عائشة ، رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها
خطيئة" (1) ] (2).
فأخبر أنه لا يستصغر (3) شيئًا يَضْرب به مثلا ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة
، كما [لم يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف من] (4) ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في
قوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ
وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ
الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } [الحج : 73] ، وقال : { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا
مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا
وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }
[العنكبوت : 41] وقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا
كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي
السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ
الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ
كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ *
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ
مَا يَشَاءُ } [إبراهيم : 24 - 27] ، وقال تعالى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا
عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا
حَسَنًا] (5) } الآية [النحل : 75] ، ثم قال : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا
رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى
مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ [هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ
يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ] (6) } الآية [النحل : 76] ، كما قال : { ضَرَبَ لَكُمْ
مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ
شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ } الآية [الروم : 28]. وقال : { ضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ [وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ] (7) }
الآية [الزمر : 29] ، وقد قال تعالى : { وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا
لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ } [العنكبوت : 43] وفي القرآن
أمثال كثيرة.
قال بعض السلف : إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي ؛ لأن الله
تعالى يقول : { وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا
الْعَالِمُونَ }
وقال مجاهد قوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا
بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } الأمثال صغيرها وكبيرها يؤمن بها المؤمنون ويعلمون
أنها الحق من ربهم ، ويهديهم الله بها.
وقال قتادة : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّهِمْ } أي : يعلمون أنه كلام الرحمن ، وأنه من عند الله.
وروي عن مجاهد والحسن والربيع بن أنس نحو ذلك.
وقال أبو العالية : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّهِمْ } يعني : هذا المثل : { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ
مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا } كما قال في سورة المدثر : { وَمَا
جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ
مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ }
[المدثر : 31] ،
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2572)
(2) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(3) في جـ : "لا يستنكف".
(4) زيادة من جـ ، ط.
(5) زيادة من جـ ، ط.
(6) زيادة من جـ.
(7) زيادة من جـ.
(1/208)
وكذلك
قال هاهنا : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ
إِلا الْفَاسِقِينَ }
قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن
مسعود ، وعن ناس من الصحابة : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا } يعني : المنافقين ، {
وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } يعني المؤمنين ، فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالهم (1)
لتكذيبهم بما قد علموه حقًا يقينًا ، من المثل الذي ضربه الله بما ضربه لهم (2)
وأنه لما ضربه له موافق ، فذلك (3) إضلال الله إياهم به { وَيَهْدِي بِهِ } يعني
بالمثل كثيرًا من أهل الإيمان والتصديق ، فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانًا إلى
إيمانهم ، لتصديقهم بما قد علموه حقًا يقينًا أنه موافق ما (4) ضربه الله له مثلا
وإقرارهم به ، وذلك هداية من الله لهم به { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ
} قال : هم المنافقون (5).
وقال أبو العالية : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ } قال : هم أهل
النفاق. وكذا قال الربيع بن أنس.
وقال ابن جريج عن مجاهد ، عن ابن عباس : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ
} يقول : يعرفه الكافرون فيكفرون به.
وقال قتادة : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ } فسقوا ، فأضلهم الله على
فسقهم.
وقال ابن أبي حاتم : حُدّثتُ عن إسحاق بن سليمان ، عن أبي سِنان ، عن عمرو بن مرة
، عن مصعب بن سعد ، عن سعد { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا } يعني الخوارج.
وقال شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن مصعب بن سعد ، قال : سألت أبي فقلت : قوله تعالى
: { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ } إلى آخر الآية
، فقال : هم الحرورية. وهذا الإسناد إن صح عن سعد بن أبي وقاص ، رضي الله عنه ،
فهو تفسير على المعنى ، لا أن (6) الآية أريد منها التنصيص على الخوارج ، الذين
خرجوا على عليٍّ بالنهروان ، فإن أولئك لم يكونوا حال نزول الآية ، وإنما هم
داخلون بوصفهم فيها مع من دخل ؛ لأنهم سموا خوارج لخروجهم على (7) طاعة الإمام
والقيام بشرائع الإسلام.
والفاسق في اللغة : هو الخارج عن الطاعة أيضًا. وتقول العرب : فسقت الرطبة : إذا
خرجت من قشرتها (8) ؛ ولهذا يقال للفأرة : فويسقة ، لخروجها عن جُحْرها للفساد.
وثبت في الصحيحين ، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "خمس
فواسق يُقتلن في الحل والحرم : الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب
العقور" (9).
__________
(1) في جـ ، ط ، ب : "ضلالتهم".
(2) في جـ ، ط ، أ : "لما ضربه له".
(3) في جـ : "فوافق ذلك".
(4) في جـ ، ط : "لما".
(5) في أ : "أهل النفاق".
(6) في جـ : "لأن" ، وفي ط : "إلا أن".
(7) في جـ ، ط ، ب ، أ : "عن".
(8) في أ : "قشرها".
(9) صحيح البخاري برقم (3314) وصحيح مسلم برقم (1198).
(1/209)
فالفاسق
يشمل (1) الكافر والعاصي ، ولكن فسْق الكافر أشد وأفحش ، والمراد من الآية الفاسق
الكافر ، والله أعلم ، بدليل (2) أنه وصفهم بقوله : { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ
عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ
أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
وهذه الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين ، كما قال تعالى في سورة الرعد :
{ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ
أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ
اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ
بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ } الآيات
، إلى أن قال : { وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ
وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ
أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [الرعد : 19 - 25].
وقد اختلف أهل التفسير في معنى العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه ، فقال بعضهم
: هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ، ونهيه إياهم عما
نهاهم عنه من معصيته في كتبه ، وعلى لسان رسله ، ونقضهم (3) ذلك هو تركهم العمل
به.
وقال آخرون : بل هي (4) في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم ، وعهد الله الذي
نقضوه هو ما أخذه الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها واتباع محمد صلى الله
عليه وسلم إذا بعث والتصديق به ، وبما جاء به من عند ربهم ، ونقضهم ذلك هو جحودهم
به بعد معرفتهم بحقيقته وإنكارهم ذلك ، وكتمانهم علم ذلك [عن] (5) الناس بعد
إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه ، فأخبر تعالى أنهم
نبذوه وراء ظهورهم ، واشتروا به ثمنًا قليلا. وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله وقول
مقاتل بن حيان.
وقال آخرون : بل عنى بهذه الآية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق. وعهده إلى جميعهم
في توحيده : ما وضع لهم (6) من الأدلة الدالة على ربوبيته ، وعهده إليهم في أمره
ونهيه ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي
بمثلها (7) الشاهدة لهم على صدقهم ، قالوا : ونقضهم ذلك : تركهم (8) الإقرار بما
ثبتت لهم صحته بالأدلة وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق ، وروي
أيضًا عن مقاتل بن حيان (9) نحو هذا ، وهو حسن ، [وإليه مال الزمخشري ، فإنه قال :
فإن قلت : فما المراد بعهد الله ؟ قلت : ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد ،
كأنه أمر وصاهم به ووثقه عليهم وهو معنى قوله : { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } [الأعراف : 172] إذ أخذ
الميثاق عليهم في الكتب المنزلة عليهم لقوله : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ
بِعَهْدِكُمْ } [البقرة : 40] (10).
وقال آخرون : العهد الذي ذكره [الله] (11) تعالى هو العهد الذي أخذه عليهم حين
أخرجهم من
__________
(1) في جـ : "شمل".
(2) في طـ : "الدليل".
(3) في جـ : "وبغضهم".
(4) في جـ : "هو".
(5) زيادة من جـ ، ط.
(6) في جـ ، ط : "إليهم".
(7) في و : "بمثله".
(8) في جـ : "عدم".
(9) في جـ ، ط ، أ ، و : "بن حيان أيضا".
(10) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(11) زيادة من جـ.
(1/210)
صلب
آدم الذي وصف في قوله : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ
ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [شَهِدْنَا] } (1) الآيتين [الأعراف : 172 ، 173]
ونقضهم (2) ذلك تركهم الوفاء به. وهكذا روي عن مقاتل بن حيان أيضًا ، حكى هذه
الأقوال ابن جرير في تفسيره.
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : {
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ } إلى قوله : {
الْخَاسِرُونَ } قال : هي ست خصال من (3) المنافقين إذا كانت فيهم الظَّهْرَة (4)
على الناس أظهروا هذه الخصال : إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا
اؤتمنوا خانوا ، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه ، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل ،
وأفسدوا في الأرض ، وإذا كانت الظَّهْرَةُ (5) عليهم أظهروا الخصال (6) الثلاث :
إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا اؤتمنوا خانوا.
وكذا (7) قال الربيع بن أنس أيضًا. وقال السدي في تفسيره بإسناده ، قوله تعالى : {
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ } قال : هو ما عهد
إليهم في القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه.
وقوله : { وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } قيل : المراد به
صلة الأرحام والقرابات ، كما فسره قتادة كقوله تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ
تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } [محمد :
22] ورجحه ابن جرير. وقيل : المراد أعم من ذلك فكل ما أمر الله بوصله وفعله قطعوه
وتركوه.
وقال مقاتل بن حيان في قوله : { أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } قال (8) في الآخرة
، وهذا كما قال تعالى : { أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ }
[الرعد : 25].
وقال الضحاك عن ابن عباس : كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل خاسر
، فإنما يعني به الكفر ، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذنب.
وقال ابن جرير في قوله : { أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } الخاسرون : جمع خاسر ،
وهم الناقصون أنفسهم [و] (9) حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته ، كما يخسر الرجل في
تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه ، وكذلك الكافر والمنافق خسر بحرمان الله
إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته ، يقال منه :
خسر الرجل يخسر خَسْرًا وخُسْرانًا وخَسارًا ، كما قال جرير بن عطية (10) إن
سَلِيطًا في الخَسَارِ إنَّه... أولادُ قَومٍ خُلقُوا أقِنَّه (11)
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) في جـ : "وبغضهم".
(3) في جـ ، ط : "في".
(4) في جـ : "الظهيرة".
(5) في جـ : "الظهيرة".
(6) في جـ : "أخفوا هذه الخصال".
(7) في جـ : "وقال".
(8) في أ : "أي".
(9) زيادة من جـ.
(10) في أ : "خطيئة".
(11) اليت في تفسير الطبري (1/417).
(1/211)
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
{
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) }
يقول تعالى محتجًا على وجوده وقدرته ، وأنه الخالق المتصرف في عباده : { كَيْفَ
تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ } أي : كيف تجحدون وجوده أو تعبدون معه غيره! { وَكُنْتُمْ
أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ } أي : قد كنتم عدمًا فأخرجكم إلى الوجود ، كما قال
تعالى : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ
خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ } [الطور : 35 ، 36] ، وقال {
هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا
} [الإنسان : 1] والآيات في هذا كثيرة.
وقال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي
الله عنه : { قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا
اثْنَتَيْنِ } [غافر : 11] قال : هي التي في البقرة : { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا
فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ }
وقال ابن جُريج (1) ، عن عطاء ، عن ابن عباس : { كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ
} أمواتا في أصلاب آبائكم ، لم تكونوا شيئًا حتى خلقكم ، ثم يميتكم موتة الحق ، ثم
يحييكم حين يبعثكم. قال : وهي مثل قوله : { [رَبَّنَا] (2) أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ
وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ }.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ
وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } قال : كنتم ترابًا قبل أن يخلقكم (3) ، فهذه ميتة ،
ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة ، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى ، ثم
يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى. فهذه ميتتان وحياتان ، فهو كقوله : { كَيْفَ
تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ
ثُمَّ يُحْيِيكُمْ }
وهكذا روي عن السدي بسنده ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ،
عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة - وعن أبي العالية والحسن البصري ومجاهد وقتادة
وأبي صالح والضحاك وعطاء الخراساني نَحْوُ ذلك.
وقال الثوري ، عن السدي عن أبي صالح : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ
أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ } قال : يحييكم (4) في القبر (5) ، ثم يميتكم.
وقال ابن جرير عن يونس ، عن ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ؛ خلقهم في
(6) ظهر آدم ثم أخذ (7) عليهم الميثاق ، ثم أماتهم ثم خلقهم في الأرحام ، ثم
أماتهم ، ثم أحياهم يوم القيامة. وذلك كقول الله تعالى : { قَالُوا رَبَّنَا
أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ }
__________
(1) في جـ ، ط : "جرير".
(2) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(3) في جـ : "أخلفكم".
(4) في أ : "يحيهم".
(5) في جـ : "القبور".
(6) في جـ ، ط : "من".
(7) في جـ ، ط : "فأخذ".
(1/212)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
وهذا
غريب والذي قبله. والصحيح ما تقدم عن ابن مسعود وابن عباس ، وأولئك الجماعة من
التابعين ، وهو كقوله تعالى : { قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ
يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [الجاثية : 26].
[وعبر عن الحال قبل الوجود بالموت بجامع ما يشتركان فيه من عدم الإحساس ، كما قال
في الأصنام : { أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ } [النحل : 21] ، وقال { وَآيَةٌ
لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ
يَأْكُلُونَ } [يس : 33] (1).
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) }
لما ذكر تعالى دلالةً مِنْ خَلْقهم وما يشاهدونه من أنفسهم ، ذكر دليلا آخر مما
يشاهدونه مِنْ خَلْق السماوات والأرض ، فقال : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا
فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ } أي : قصد إلى السماء ،
والاستواء هاهنا تَضَمَّن (2) معنى القصد والإقبال ؛ لأنه عدي بإلى {
فَسَوَّاهُنَّ } أي : فخلق السماء سبعًا ، والسماء هاهنا اسم جنس ، فلهذا قال : {
فَسَوَّاهُنَّ }. { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : وعلمه محيط بجميع ما خلق
(3). كما قال : { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } [الملك : 14] وتفصيل هذه الآية في
سورة حم السجدة وهو قوله : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ
الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ
* وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا
أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى
إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ
كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ
وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا
بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [فصلت : 9 -
12].
ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولا ثم خلق السماوات سبعًا ، وهذا
شأن البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك ، وقد صرح المفسرون بذلك ،
كما سنذكره بعد هذا إن شاء الله. فأما قوله تعالى : { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا
أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا
وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا
مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } [النازعات : 27 - 32] فقد قيل :
إن { ثُمَّ } هاهنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر ، لا لعطف الفعل على الفعل ، كما
قال الشاعر :
قل لمن ساد ثم ساد أبوه... ثم قد ساد قبل ذلك جده (4)
وقيل : إن الدَّحْىَ كان بعد خلق السماوات ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس.
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(2) في جـ ، ط : "مضمن".
(3) في جـ : "وعلمه محيط بجميع الخلق" ، وفي ط : "وعلمه محيط
بالأشياء بجميع ما خلق".
(4) البيت في مغني اللبيب لابن هشام غير منسوب. أ. هـ. مستفادا من حاشية الشعب.
(1/213)
وقد
قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك - وعن أبي صالح عن ابن عباس - وعن مُرّة ، عن
ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ
جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ
[وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ] (1) } قال : إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على
الماء ، ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء. فلما أراد أن يخلق الخلق ، أخرج من
الماء دخانًا ، فارتفع فوق الماء فسما عليه ، فسماه سماء. ثم أيبس الماء فجعله
أرضًا واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين في الأحد والاثنين ، فخلق الأرض
على حوت ، والحوتُ هو النون الذي ذكره الله في القرآن : { ن وَالْقَلَمِ (2) }
والحوت في الماء ، والماء على ظهر صفاة ، والصفاة على ظهر مَلَك ، والملك على صخرة
، والصخرة في الريح ، وهي الصخرة التي ذكر (3) لقمان - ليست في السماء ولا في
الأرض ، فتحرك الحوت فاضطرب ، فتزلزلت الأرض ، فأرسى عليها الجبال فَقَرّت ،
فالجبال تفخر على الأرض ، فذلك قوله تعالى : { وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ
أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ (4) } [النحل : 15]. وخلق الجبال فيها ، وأقواتَ أهلها وشجرها
وما ينبغي لها في يومين ، في الثلاثاء والأربعاء ، وذلك حين يقول : { قُلْ
أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ
لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ
فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا } [فصلت : 9 ، 10]. يقول : أنبت شجرها { وَقَدَّرَ
فِيهَا أَقْوَاتَهَا } يقول : أقواتها لأهلها { فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً
لِلسَّائِلِينَ } [فصلت : 10] يقول : من سأل فهكذا الأمر. { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } [فصلت : 11] وذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس ،
فجعلها سماء واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين ، في الخميس والجمعة ،
وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض ، { وَأَوْحَى فِي كُلِّ
سَمَاءٍ أَمْرَهَا } [فضلت : 12] قال : خلق الله في كل سماء خلقها من الملائكة
والخلق الذي (5) فيها ، من البحار وجبال البَرَد وما لا نعلم ، ثم زين السماء
الدنيا بالكواكب ، فجعلها زينة وحفظًا (6) تُحْفَظُ من الشياطين. فلما فرغ من خلق
ما أحب استوى على العرش ، فذلك حين يقول : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [الأعراف : 54] ويقول {
كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } [الأنبياء : 30].
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني أبو معشر عن سعيد
بن أبي سعيد ، عن عبد الله بن سلام أنه قال : إن الله بدأ الخلق يوم الأحد ، فخلق
الأرضين في الأحد والاثنين ، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء ، وخلق
السماوات في الخميس والجمعة ، وفرغ في آخر (7) ساعة من يوم الجمعة ، فخلق فيها آدم
على عَجَل ، فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة.
وقال مجاهد في قوله : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا }
قال : خلق الله الأرض قبل السماء ، فلما خلق الأرض ثار منها دخان ، فذلك حين يقول
: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ }
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) في جـ : "والقلم وما يسطرون".
(3) في ب : "ذكرها"
(4) في جـ : "وجعل لها رواسي من فوقها أن تميد بكم" ، وفي ط :
"وجعل لها رواسي أن تميد بكم" ، وفي ب : "وجعلنا في الأرض رواسي أن
تميد بكم".
(5) في جـ ، ط : "الذين".
(6) في أ : "وحفظها".
(7) في جـ : "وأخر".
(1/214)
{
فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } قال : بعضهن فوق بعض ، وسبع أرضين ، يعني بعضهن
تحت بعض.
وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء ، كما قال في آية السجدة : { قُلْ
أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ
لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ
فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ
أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ
دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا
أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى
فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ
وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [فصلت : 9 - 12] فهذه وهذه
دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء ، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعًا بين العلماء
إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة : أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض ، وقد توقف في
ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى : { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ
السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا
وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا
مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا } [النازعات : 27 - 31] قالوا : فذكر خلق السماء قبل الأرض.
وفي صحيح البخاري (1) : أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه ، فأجاب بأن الأرض خلقت قبل
السماء وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء ، وكذلك أجاب غير واحد من علماء
التفسير قديمًا وحديثًا ، وقد قررنا ذلك في تفسير سورة النازعات ، وحاصل ذلك أن
الدحي مفسر بقوله : { وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا
مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } [النازعات : 30 - 32] ففسر
الدحي بإخراج ما كان مودعًا فيها بالقوة إلى الفعل لما اكتملت صورة المخلوقات
الأرضية ثم السماوية دحى بعد ذلك الأرض ، فأخرجت ما كان مودعًا فيها من المياه ،
فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها ، وكذلك جرت هذه
الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه في تفسير هذه الآية الحديث الذي رواه مسلم
والنسائي في التفسير - أيضًا - من رواية ابن جُرَيج قال : أخبرني إسماعيل بن أمية
، عن أيوب بن خالد ، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : أخذ
رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال : "خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق
الجبال فيها يوم الأحد ، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء
، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم بعد العصر يوم
الجمعة من آخر ساعة من ساعات الجمعة ، فيما بين العصر إلى الليل" (2).
وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم ، وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير
واحد من الحفاظ ، وجعلوه من كلام كعب ، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب
الأحبار ، وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه (3) مرفوعا ، وقد حرر ذلك البيهقي
(4).
__________
(1) صحيح البخاري (8/555) "فتح".
(2) تفسير ابن أبي حاتم (1/103) وصحيح مسلم برقم (2789) وسنن النسائي الكبرى برقم
(11010).
(3) في جـ ، ط ، ب : "فجعله".
(4) الأسماء والصفات (ص276) وللعلامة عبد الرحمن المعلمي كلام متين في تصحيح هذا
الحديث ورد الشبه عنه في كتابه "الأنوار الكاشفة" (ص185 - 190) فليراجع
فإنه مهم.
(1/215)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
{
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً
قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ
نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ
(30) }
يخبر (1) تعالى بامتنانه على بني آدم ، بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل
إيجادهم ، فقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ } أي : واذكر يا
محمد إذ قال ربك للملائكة ، واقصص على قومك ذلك. وحكى ابن جرير عن بعض أهل العربية
[وهو أبو عبيدة] (2) أنه زعم أن "إذ" هاهنا زائدة ، وأن تقدير الكلام :
وقال ربك. ورده ابن جرير.
قال القرطبي : وكذا رده جميع المفسرين حتى قال الزجاج : هذا اجتراء (3) من أبي
عبيدة.
{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } أي : قوما يخلف بعضهم بعضا قرنا بعد قرن
وجيلا بعد جيل ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ }
[الأنعام : 165] وقال { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ } [النمل : 62]. وقال {
وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ }
[الزخرف : 60]. وقال { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } [مريم : 59]. [وقرئ في
الشاذ : "إني جاعل في الأرض خليقة" حكاه الزمخشري وغيره ونقلها القرطبي
عن زيد بن علي] (4). وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم ، عليه السلام ، فقط ، كما
يقوله طائفة من المفسرين ، وعزاه القرطبي إلى ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل
التأويل ، وفي ذلك نظر ، بل الخلاف في ذلك كثير ، حكاه فخر الدين الرازي في تفسيره
وغيره ، والظاهر أنه لم يرد آدم عينًا إذ لو كان كذلك لما حسن قول الملائكة : {
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } فإنهم (5) إنما
أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك ، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص ، أو بما فهموه
من الطبيعة البشرية فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صَلْصَال من حمإ مسنون [أو
فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ويقع بينهم من المظالم ويرد عنهم
المحارم والمآثم ، قاله القرطبي] (6) أو أنهم قاسوهم على من سبق ، كما سنذكر أقوال
المفسرين في ذلك.
وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ، ولا على وجه الحسد لبني آدم ،
كما قد يتوهمه بعض المفسرين [وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول ، أي :
لا يسألونه شيئا لم يأذن لهم فيه وهاهنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقًا.
قال قتادة : وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا }
الآية] (7) وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك ، يقولون : يا ربنا ،
ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، فإن كان
المراد عبادتك ، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، أي : نصلي لك كما سيأتي ، أي : ولا
يصدر منا شيء من ذلك ، وهلا وقع الاقتصار علينا ؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا
السؤال : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } أي : إني أعلم من المصلحة (8)
الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها (9) ما لا تعلمون أنتم ؛ فإني
سأجعل فيهم الأنبياء ، وأرسل فيهم الرسل ، ويوجد فيهم
__________
(1) في جـ : "أخبر".
(2) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(3) في أ : "إجرام".
(4) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(5) في جـ ، ب : "فإن الله".
(6) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(7) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(8) في جـ : "بالمصلحة".
(9) في جـ : "الذي ذكروها".
(1/216)
الصديقون
والشهداء ، والصالحون والعباد ، والزهاد والأولياء ، والأبرار والمقربون ،
والعلماء العاملون والخاشعون ، والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله ، صلوات
الله وسلامه عليهم.
وقد ثبت في الصحيح (1) : أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده سألهم
وهو أعلم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون.
وذلك لأنهم يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ، فيمكث هؤلاء ويصعد
أولئك بالأعمال كما قال عليه السلام : "يرفع إليه عمل الليل قبل النهار ،
وعمل النهار قبل الليل" فقولهم : أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون من
تفسير قوله : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } وقيل : معنى قوله جوابًا لهم
: { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } أن لي حكمة مفصلة في خلق هؤلاء والحالة
ما ذكرتم لا تعلمونها ، وقيل : إنه جواب لقولهم : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ } فقال : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } أي : من وجود
إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به. وقيل : بل تضمن قولهم : { أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } طلبًا منهم أن
يسكنوا الأرض بدل بني آدم ، فقال الله تعالى لهم : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا
تَعْلَمُونَ } من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق بكم. ذكرها فخر الدين مع
غيرها من الأجوبة ، والله أعلم.
ذكر أقوال المفسرين ببسط ما ذكرناه :
قال ابن جرير : حدثني القاسم بن الحسن قال : حدثنا الحسين قال : حدثني الحجاج ، عن
جرير بن حازم ، ومبارك ، عن الحسن وأبي بكر ، عن الحسن وقتادة ، قالوا : قال الله
للملائكة : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } قال لهم : إني فاعل. وهذا
معناه أنه أخبرهم بذلك.
وقال السدي : استشار الملائكة في خلق آدم. رواه ابن أبي حاتم ، قال (2) : وروي عن
قتادة نحوه. وهذه العبارة إن لم ترجع إلى معنى الإخبار ففيها تساهل ، وعبارة الحسن
وقتادة في رواية ابن جرير أحسن ، والله أعلم.
{ فِي الأرْضِ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا حماد (3)
حدثنا عطاء بن السائب ، عن عبد الرحمن بن سابط أن رسول الله (4) صلى الله عليه
وسلم قال : "دُحِيت الأرض من مكة ، وأول من طاف بالبيت الملائكة ، فقال الله
: إني جاعل في الأرض خليفة ، يعني مكة" (5).
وهذا مرسل ، وفي سنده ضعف ، وفيه مُدْرَج ، وهو أن المراد بالأرض مكة ، والله أعلم
، فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك.
{ خَلِيفَةً } قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن
مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة أن الله تعالى قال للملائكة : { إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً }
__________
(1) صحيح مسلم برقم (632) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) في جـ ، ط : "وقال".
(3) في جـ : "أحمد".
(4) في جـ ، ط ، ب : "النبي".
(5) تفسير ابن أبي حاتم (1/108).
(1/217)
قالوا
(1) : ربنا وما يكون ذلك الخليفة ؟ قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون
ويقتل بعضهم بعضا.
قال ابن جرير : فكان تأويل الآية على هذا : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ
خَلِيفَةً } مني ، يخلفني في الحكم بين خلقي ، وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام
مقامه في طاعة الله والحكم (2) بالعدل بين خلقه. وأما الإفساد وسفك الدماء بغير
حقها (3) فمن غير خلفائه.
قال ابن جرير : وإنما [كان تأويل الآية على هذا] (4) معنى الخلافة التي ذكرها الله
إنما هي خلافة قرن منهم قرنا.
قال : والخليفة الفعلية من قولك ، خلف فلان فلانا في هذا الأمر : إذا قام مقامه
فيه بعده ، كما قال تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ
بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [يونس : 14]. ومن ذلك قيل للسلطان
الأعظم : خليفة ؛ لأنه خلف الذي كان قبله ، فقام بالأمر مقامه ، فكان منه خَلَفًا.
قال : وكان محمد بن إسحاق يقول في قوله تعالى : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ
خَلِيفَةً } يقول : ساكنا وعامرا يسكنها ويعمرها خلفا ليس منكم.
قال ابن جرير : وحدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا عثمان بن سعيد ، حدثنا بشر بن عمارة ،
عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : أول من سكن الأرض الجنُّ ، فأفسدوا
فيها وسفكوا فيها الدماء ، وقتل بعضهم بعضا. قال : فبعث الله إليهم إبليس ، فقتلهم
إبليس ومن معه حتى ألحقهم (5) بجزائر البحور وأطراف الجبال. ثم خلق آدم وأسكنه
إياها ، فلذلك قال : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } (6).
وقال سفيان الثوري ، عن عطاء بن السائب ، عن ابن سابط : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي
الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ
الدِّمَاءَ } قال : يعنون [به] (7) بني آدم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : قال الله للملائكة : إني أريد أن أخلق في الأرض
خلقا وأجعل فيها خليفة وليس لله ، عز وجل ، خلق إلا الملائكة ، والأرض ليس فيها
خلق ، قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها [ويسفك الدماء] (8) ؟!
وقد تقدم ما رواه السدي ، عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة : أن الله
أعلم الملائكة بما يفعل ذرّية آدم ، فقالت الملائكة ذلك. وتقدم آنفا (9) ما رواه
الضحاك ، عن ابن عباس : أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم ، فقالت الملائكة ذلك
، فقاسوا هؤلاء بأولئك.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسي ، حدثنا أبو
معاوية ، حدثنا
__________
(1) في جـ : "فقالوا".
(2) في جـ : "وحكم".
(3) في جـ ، ط ، أ : "حقها".
(4) زيادة من جـ.
(5) في جـ : "ألحقوهم".
(6) تفسير الطبري (1/450).
(7) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(8) زيادة من جـ.
(9) في جـ ، ط : "أيضا".
(1/218)
الأعمش
، عن بُكَير (1) بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : كان الجن بنو
الجان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة ، فأفسدوا في الأرض ، وسفكوا الدماء ،
فبعث الله جندا من الملائكة فضربوهم ، حتى ألحقوهم بجزائر البحور ، فقال الله
للملائكة : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } قالوا : أتجعل فيها من يفسد
فيها ويسفك الدماء ؟ قال : إني أعلم ما لا تعلمون (2).
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : { إِنِّي جَاعِلٌ
فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } إلى قوله : { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ } [البقرة : 33] قال : خلق الله الملائكة يوم الأربعاء وخلق الجن يوم
الخميس ، وخلق آدم يوم الجمعة ؛ فكفر قوم من الجن ، فكانت الملائكة تهبط إليهم في
الأرض فتقاتلهم ، فكانت الدماء بينهم ، وكان الفساد في الأرض ، فمن ثم قالوا : {
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا } كما أفسدت الجن { وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ
} كما سَفَكُوا.
قال ابن أبي حاتم : وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا سعيد بن سليمان ،
حدثنا مبارك بن فضالة ، حدثنا الحسن ، قال : قال الله للملائكة : { إِنِّي جَاعِلٌ
فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } قال لهم : إني فاعل. فآمنوا بربهم (3) ، فعلمهم علمًا
وطوى عنهم علمًا علمه ولم يعلموه ، فقالوا بالعلم الذي علمهم : { أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } ؟ { قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ
مَا لا تَعْلَمُونَ }
قال الحسن : إن الجن كانوا في الأرض يفسدون (4) ويسفكون الدماء ، ولكن جعل الله في
قلوبهم أن ذلك سيكون فقالوا بالقول الذي عَلَّمهم.
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة في قوله : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ
يُفْسِدُ فِيهَا } كان [الله] (5) أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خَلْق أفسدوا فيها
وسفكوا الدماء ، فذلك حين قالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا }
(6).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام الرازي ، حدثنا ابن المبارك ، عن
معروف ، يعني ابن خَرّبوذ المكي ، عمن سمع أبا جعفر محمد بن علي يقول : السّجِلّ
ملك ، وكان هاروت وماروت من أعوانه ، وكان له في كل يوم ثلاث لمحات ينظرهن في أم
الكتاب ، فنظر نظرة لم تكن له فأبصر فيها خلق آدم وما كان فيه من الأمور ، فأسَر
ذلك إلى هاروت وماروت ، وكانا من أعوانه ، فلما قال تعالى : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي
الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ
الدِّمَاءَ } قالا ذلك استطالة على الملائكة.
وهذا أثر غريب. وبتقدير صحته إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسن الباقر ، فهو نقله
عن أهل الكتاب ، وفيه نكارة توجب رده ، والله أعلم. ومقتضاه أن الذين قالوا ذلك
إنما كانوا اثنين فقط ،
__________
(1) في أ : "بكر".
(2) تفسير ابن أبي حاتم (1/109).
(3) في أ ، و : "أفأمنوا برأيهم".
(4) في جـ : "يفسدون في الأرض".
(5) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ.
(6) تفسير عبد الرزاق (1/65).
(1/219)
وهو
خلاف السياق.
وأغرب منه ما رواه ابن أبي حاتم - أيضًا - حيث قال : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن
أبي عَبْد الله ، حدثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير ، قال : سمعت أبي يقول : إن
الملائكة الذين قالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ
الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } كانوا عشرة آلاف ،
فخرجت نار من عند الله فأحرقتهم.
وهذا - أيضًا - إسرائيلي منكر كالذي قبله ، والله أعلم.
قال ابن جريج : إنما تكلموا بما أعلمهم الله أنه كائن من خلق آدم ، فقالوا : {
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ }
وقال ابن جرير : وقال بعضهم : إنما قالت الملائكة ما قالت : { أَتَجْعَلُ فِيهَا
مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } ؛ لأن الله أذن لهم (1) في السؤال
عن ذلك ، بعد ما أخبرهم (2) أن ذلك كائن من بني آدم ، فسألته الملائكة ، فقالت على
التعجب منها : وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم! ؟ فأجابهم ربهم : { إِنِّي أَعْلَمُ
مَا لا تَعْلَمُونَ } يعني : أن ذلك كائن منهم ، وإن لم تعلموه أنتم ومن بعض من
ترونه لي طائعا.
قال : وقال بعضهم : ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك ،
فكأنهم قالوا : يا رب خبرنا ، مسألة [الملائكة] (3) استخبار منهم ، لا على وجه
الإنكار ، واختاره ابن جرير.
وقال سعيد عن قتادة قوله : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ
فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } فاستشار الملائكة في خلق آدم ، فقالوا : { أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } وقد علمت الملائكة من علم الله
أنه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في الأرض { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } فكان في
علم الله أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة ، قال :
وذكر لنا عن ابن عباس أنه كان يقول : إن الله لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة :
ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا ، فابتلوا بخلق آدم ، وكل خلق مبتلى
كما ابتليت السماوات والأرض بالطاعة فقال : { اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا
قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [فصلت : 11].
وقوله تعالى : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } قال عبد الرزاق
، عن مَعْمَر ، عن قتادة : التسبيحُ : التسبيحُ ، والتقديس : الصلاة (4).
وقال السدي ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرّة ، عن ابن مسعود
- وعن ناس من الصحابة : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } قال :
يقولون : نصلي لك.
وقال مجاهد : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } قال : نعظمك
ونكبرك.
__________
(1) في أ ، و : "لها".
(2) في أ ، و : "ما أخبرها".
(3) زيادة من جـ.
(4) تفسير عبد الرزاق (1/65).
(1/220)
وقال
الضحاك : التقديس : التطهير.
وقال محمد بن إسحاق : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } قال :
لا نعصي ولا نأتي شيئًا تكرهه.
وقال ابن جرير : التقديس : هو التعظيم والتطهير ، ومنه قولهم : سُبُّوح قُدُّوس ،
يعني بقولهم : سُبوح ، تنزيه له ، وبقولهم : قدوس ، طهارة وتعظيم له. ولذلك قيل
للأرض : أرض مقدسة ، يعني بذلك المطهرة. فمعنى قول الملائكة إذًا : { وَنَحْنُ
نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهلُ الشرك بك { وَنُقَدِّسُ
لَكَ } ننسبك إلى ما هو من صفاتك ، من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر
بك.
[وفي صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أي الكلام أفضل ؟
قال : "ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده" (1) وروى البيهقي عن
عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحًا في
السماوات العلا "سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى" (2) ] (3).
{ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } قال قتادة : فكان في علم الله أنه
سيكون في تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة ، وسيأتي عن ابن مسعود
وابن عباس وغير واحد من الصحابة والتابعين أقوال في حكمة قوله تعالى : { قَالَ
إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ }
وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما
يختلفون فيه ، ويقطع تنازعهم ، وينتصر لمظلومهم من ظالمهم ، ويقيم الحدود ، ويزجر
عن تعاطي الفواحش ، إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا يمكن إقامتها إلا
بالإمام ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنة في أبي بكر ، أو بالإيماء إليه
كما يقول آخرون منهم ، أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بعمر بن
الخطاب ، أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر ، أو باجتماع أهل الحل
والعقد على مبايعته أو بمبايعة واحد منهم له فيجب التزامها عند الجمهور وحكى على
ذلك (4) إمام الحرمين الإجماع ، والله أعلم ، أو بقهر واحد الناس على طاعته فتجب
لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق والاختلاف ، وقد نص عليه الشافعي.
وهل يجب الإشهاد على عقد الإمامة ؟ فيه خلاف ، فمنهم من قال : لا يشترط ، وقيل :
بلى ويكفي شاهدان. وقال الجبائي : يجب أربعة وعاقد ومعقود له ، كما ترك عمر رضي
الله عنه ، الأمر شورى بين ستة ، فوقع الأمر على عاقد وهو عبد الرحمن بن عوف ،
ومعقود له وهو عثمان ، واستنبط
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2731).
(2) ورواه أبو نعيم في الحلية (2/7) من طريق مسكين بن ميمون عن عروة بن رويم ، عن
عبد الرحمن بن قرط رضي الله عنه به مرفوعا وسيأتي من رواية الطبراني عند تفسير
الآية : 44 من سورة الإسراء.
(3) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ.
(4) في أ : "تلك".
(1/221)
وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
وجوب
الأربعة الشهود من الأربعة الباقين ، وفي هذا نظر ، والله أعلم.
ويجب أن يكون ذكرًا حرًا بالغًا عاقلا مسلمًا عدلا مجتهدًا بصيرًا سليم الأعضاء
خبيرًا بالحروب والآراء قرشيًا على الصحيح ، ولا يشترط الهاشمي ولا المعصوم من
الخطأ خلافًا للغلاة الروافض ، ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا ؟ فيه خلاف ،
والصحيح أنه لا ينعزل لقوله عليه الصلاة والسلام : "إلا أن تروا كفرًا بواحًا
عندكم من الله فيه برهان" (1) وهل له أن يعزل نفسه ؟ فيه خلاف ، وقد عزل
الحسن بن علي نفسه وسلم الأمر إلى معاوية لكن هذا لعذر وقد مدح على ذلك.
فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام : "من
جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنًا من كان" (2). وهذا قول
الجمهور ، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد ، منهم إمام الحرمين ، وقالت الكرامية
: يجوز نصب إمامين فأكثر كما كان علي ومعاوية إمامين واجبي الطاعة ، قالوا : وإذا
جاز بعث نبيين في وقت واحد وأكثر جاز ذلك في الإمامة ؛ لأن النبوة أعلى رتبة بلا
خلاف ، وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوز نصب إمامين فأكثر إذا
تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما ، وتردد إمام الحرمين في ذلك ، قلت : وهذا
يشبه حال خلفاء بني العباس بالعراق والفاطميين بمصر والأمويين بالمغرب.
{ وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ
فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا
سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ
الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا
أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
(33) }
هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة ، بما اختصه به من عِلم أسماء
كلّ شيء دونهم ، وهذا كان بعد سجودهم له ، وإنما قدم هذا الفصل على ذاك ، لمناسبة
ما بين هذا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة ، حين سألوا عن ذلك ، فأخبرهم
[الله] (3) تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون ؛ ولهذا ذكر تعالى (4) هذا المقام عقيب
هذا ليبين لهم شرف آدم بما فضل به عليهم في العلم ، فقال تعالى : { وَعَلَّمَ
آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا }
وقال السدي ، عمن حدثه ، عن ابن عباس : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا }
قال : عرض عليه أسماء ولده إنسانًا إنسانًا ، والدواب ، فقيل : هذا الحمار ، هذا
الجمل ، هذا الفرس.
وقال الضحاك عن ابن عباس : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا } قال : هي هذه
الأسماء التي يتعارف
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (7055) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
(2) رواه مسلم في صحيحه برقم (1852) من حديث عرفجة رضي الله عنه.
(3) زيادة من جـ.
(4) في جـ : "ذكر تبارك وتعالى" ، وفي ب : "ذكر الله تعالى".
(1/222)
بها
الناس : إنسان ، ودابة ، وسماء ، وأرض ، وسهل ، وبحر ، وجمل (1) ، وحمار ، وأشباه
ذلك من الأمم وغيرها.
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير ، من حديث عاصم بن كليب ، عن سعيد بن معبد ، عن ابن
عباس : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا } قال : علمه اسم الصحفة والقِدر ،
قال : نعم حتى الفسوة والفُسَيَّة (2).
وقال مجاهد : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا } قال : علمه اسم كل دابة ،
وكل طير ، وكل شيء.
وكذلك روي عن سعيد بن جبير وقتادة وغيرهم من السلف : أنه علمه أسماء كل شيء ، وقال
الربيع في رواية عنه : أسماء الملائكة. وقال حميد الشامي : أسماء النجوم. وقال عبد
الرحمن بن زيد : علمه أسماء ذريته كلهم.
واختار ابن جرير أنه علمه أسماء الملائكة وأسماء الذرية ؛ لأنه قال : { ثُمَّ
عَرَضَهُمْ } وهذا عبارة عما يعقل. وهذا الذي رجح به ليس بلازم ، فإنه لا ينفي أن
يدخل معهم غيرهم ، ويعبر عن الجميع بصيغة من يعقل للتغليب. كما قال : { وَاللَّهُ
خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ
يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [النور
: 45].
[وقد قرأ عبد الله بن مسعود : "ثم عرضهن" وقرأ أبي بن كعب : "ثم
عرضها" أي : السماوات] (3).
والصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها : ذواتها وأفعالها ؛ كما قال ابن عباس حتى
الفسوة والفُسَية. يعني أسماء الذوات والأفعال المكبر والمصغر ؛ ولهذا قال البخاري
في تفسير هذه الآية من كتاب التفسير من صحيحه : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا
مسلم ، حدثنا هشام ، حدثنا قتادة ، عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
وسلم ، وقال لي خليفة : حدثنا يزيد بن زُرَيع ، حدثنا سعيد ، عن قتادة عن أنس ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال - : "يجتمع المؤمنون يوم القيامة ، فيقولون :
لو استشفعنا إلى ربنا ؟ فيأتون آدم فيقولون : أنت أبو الناس ، خلقك الله بيده ،
وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شيء ، فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا
هذا ، فيقول : لَسْتُ هُنَاكُمْ ، ويذكر ذنبه فيستحي ؛ ائتوا نوحًا فإنه أول رسول
بعثه الله إلى أهل الأرض ، فيأتونه فيقول : لست هُنَاكُم. ويذكر سؤاله ربه ما ليس
له به علم فيستحي. فيقول : ائتوا خليل الرحمن ، فيأتونه ، فيقول : لست هُنَاكم ؛
فيقول : ائتوا موسى عَبْدًا كَلمه الله ، وأعطاه التوراة ، فيأتونه ، فيقول : لست
هُنَاكُمْ ، ويذكر قَتْلَ النفس بغير نفس ، فيستحي من ربه ؛ فيقول : ائتوا عيسى
عَبْدَ الله ورسولَه وكَلِمةَ الله وروحه ، فيأتونه ، فيقول : لست هُنَاكُم ،
ائتوا محمدًا عبدًا غَفَر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فيأتوني ، فأنطلق
حتى أستأذن على ربي ، فيُؤذن لي ، فإذا رأيت ربي وقعتُ ساجدًا ، فيدعني ما شاء
الله ، ثم يقال : ارفع رأسك ، وسل تعطه ، وقل
__________
(1) في جـ ، ط ، ب : "وجبل".
(2) في جـ : "الفشوة والفشية".
(3) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(1/223)
يُسْمَع
، واشفع تُشَفَّع ، فأرفع رأسي ، فأحمده بتحميد (1) يعلمُنيه ، ثم أشفع فيحد لي
حدًا فأدخلهم الجنة ، ثم أعود إليه ، وإذا رأيت ربي مثله (2) ، ثم أشفع فيحد لي
حدًا فأدخلهم الجنة (3) ، ثم أعود الرابعة فأقول : ما بقي في النار إلا مَنْ حبسه
القرآن ووجب عليه الخلود" (4).
هكذا ساق البخاري هذا الحديث هاهنا. وقد رواه مسلم والنسائي من حديث هشام ، وهو
ابن أبي عبد الله الدَّسْتُوائي ، عن قتادة ، به (5). وأخرجه مسلم والنسائي وابن
ماجه من حديث سعيد ، وهو ابن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة (6). ووجه إيراده هاهنا
والمقصود منه قوله عليه الصلاة والسلام : "فيأتون آدم فيقولون : أنت أبو
الناس خلقك الله بيده ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شيء" ، فدل هذا
على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات ؛ ولهذا قال : { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى
الْمَلائِكَةِ } يعني : المسميات ؛ كما قال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة
قال : ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة { فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ
هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن
مسعود ، وعن ناس من الصحابة : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا } ثم عرض
الخَلْق على الملائكة.
وقال ابن جريج ، عن مجاهد : { ثُمَّ عَرَضَهُمْ } عرض أصحاب الأسماء على الملائكة.
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثني الحجاج ، عن جرير بن حازم
ومبارك بن فضالة ، عن الحسن - وأبي بكر ، عن الحسن وقتادة - قالا علمه اسم كل شيء
، وجعل يسمي كل شيء باسمه ، وعرضت عليه أمة أمة.
وبهذا الإسناد عن الحسن وقتادة في قوله : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } إني لم
أخلق خلقًا إلا كنتم أعلم منه ، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين.
وقال الضحاك عن ابن عباس : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } إن كنتم تعلمون (7) لم
أجعل في الأرض خليفة.
وقال السدي ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة عن ابن مسعود ،
وعن ناس من الصحابة : إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء.
وقال ابن جرير : وأولى الأقوال في ذلك تأويل ابن عباس ومن قال بقوله ، ومعنى ذلك
فقال : أنبئوني بأسماء من عَرَضْتُه عليكم أيها الملائكة القائلون : أتجعل في
الأرض من يفسد فيها ويسفك
__________
(1) في جـ : "تحميدا".
(2) في جـ : "فإذا رأيته عملت مثله".
(3) في جـ ، ط : "فأدخلهم الجنة ثم أعود إليه ، فإذا رأيت ربي عملت مثله ، ثم
أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة".
(4) صحيح البخاري برقم (4476).
(5) صحيح مسلم برقم (193) وسنن النسائي الكبرى برقم (10984).
(6) صحيح مسلم برقم (193) وسنن النسائي الكبرى برقم (11243) وسنن ابن ماجة برقم
(4312).
(7) في جـ : "إن كنتم عالمين".
(1/224)
الدماء
، من غيرنا أم منا ، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ إن كنتم صادقين في قيلكم : إني إن
جعلتُ خليفتي في الأرض من غيركم عصاني ذريته وأفسدوا وسفكوا الدماء ، وإن جعلتكم
فيها أطعتموني واتبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس ، فإذا كنتم لا تعلمون أسماء
هؤلاء الذين عرضت عليكم وأنتم تشاهدونهم ، فأنتم بما هو غير موجود من الأمور
الكائنة التي لم توجد أحرى أن تكونوا غير عالمين.
[وقوله] (1) { قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ
أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } هذا تقديس وتنزيه من الملائكة لله تعالى أن يحيط
أحد بشيء من علمه إلا بما شاء ، وأن يعلموا شيئا إلا ما علمهم الله تعالى ، ولهذا
قالوا : { سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } أي : العليم بكل شيء ، الحكيم في خلقك وأمرك وفي تعليمك
من تشاء ومنعك من تشاء ، لك الحكمة في ذلك ، والعدل التام.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا حفص بن غياث ، عن حجاج ، عن ابن
أبي مُلَيْكَة ، عن ابن عباس : سبحان الله ، قال : تنزيه الله نفسه عن السوء.
[قال] (2) ثم قال عمر لعلي وأصحابه عنده : لا إله إلا الله ، قد عرفناها (3) فما
سبحان الله ؟ فقال له علي : كلمة أحبها الله لنفسه ، ورضيها ، وأحب أن تقال (4).
قال : وحدثنا أبي ، حدثنا ابن نفيل ، حدثنا النضر بن عربي قال : سأل رجل ميمون بن
مِهْرَان عن "سبحان الله" ، فقال : اسم يُعَظَّمُ الله به ، ويُحَاشَى
به من السوء.
وقوله تعالى : { قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا
أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }
قال زيد بن أسلم. قال : أنت جبريل ، أنت ميكائيل ، أنت إسرافيل ، حتى عدد الأسماء
كلها ، حتى بلغ الغراب.
وقال مجاهد في قول الله : { يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ } قال : اسم
الحمامة ، والغراب ، واسم كل شيء.
وروي عن سعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، نحو ذلك.
فلما ظهر فضل آدم ، عليه السلام ، على الملائكة ، عليهم السلام ، في سرده ما علمه
الله تعالى من أسماء الأشياء ، قال الله تعالى للملائكة : { أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ
إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا
كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } أي : ألم أتقدم إليكم أني أعلم الغيب الظاهر والخفي ، كما
قال [الله] (5) تعالى : { وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ
السِّرَّ وَأَخْفَى } وكما قال تعالى إخبارا عن الهدهد أنه قال
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(3) في جـ ، ط : "عرفناه".
(4) تفسير ابن أبي حاتم (1/117).
(5) زيادة من أ.
(1/225)
لسليمان
: { أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا
هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ }.
وقيل في [معنى] (1) قوله تعالى : { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ } غيرُ ما ذكرناه ؛ فروى الضحاك ، عن ابن عباس : { وَأَعْلَمُ مَا
تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } قال : يقول : أعلم السر كما أعلم العلانية
، يعني : ما كَتَم إبليس في نفسه من الكِبْر والاغترار.
وقال السدي ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود ،
وعن ناس من الصحابة ، قال : قولهم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا }
فهذا الذي أبدوا { وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } يعني : ما أسر إبليس في نفسه من
الكبر.
وكذلك قال سعيد بن جبير ، ومجاهد ، والسدي ، والضحاك ، والثوري. واختار ذلك ابن
جرير.
وقال أبو العالية ، والربيع بن أنس ، والحسن ، وقتادة : هو قولهم : لم يخلق ربنا
خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم.
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس : { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ } فكان الذي أبدوا قولهم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا
} وكان الذي كتموا بينهم قولهم : لن (2) يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم.
فعرفوا أن الله فضل عليهم آدم في العلم ، والكرم.
وقال ابن جرير : حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، في
قصة الملائكة وآدم : فقال الله للملائكة : كما لم تعلموا هذه الأسماء فليس لكم علم
، إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها ، هذا عندي قد علمته ؛ ولذلك (3) أخفيت عنكم
أني أجعل فيها من يعصيني ومن يطيعني ، قال : وسَبَقَ من الله { لأمْلأنَّ
جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } قال : ولم تعلم الملائكة ذلك
ولم يدروه قال : ولما (4) رأوا ما أعطى الله آدم من العلم أقروا له بالفضل (5).
وقال ابن جرير : وأولى الأقوال في ذلك قولُ ابن عباس ، وهو أن معنى قوله تعالى : {
وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ } وأعلم - مع علمي غيب السماوات والأرض - ما تظهرونه
بألسنتكم وما كنتم تخفون (6) في أنفسكم ، فلا يخفى عَلَيَّ شيء ، سواء عندي
سرائركم ، وعلانيتكم.
والذي أظهروه بألسنتهم قولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها ، والذي كانوا يكتمون ما
كان عليه منطويا إبليس من الخلاف على الله في أوامره (7) ، والتكبر عن طاعته.
__________
(1) زيادة من جـ ، أ ، و.
(2) في جـ : "لم".
(3) في جـ ، ب : "فلذلك".
(4) في جـ ، ط : "فلما".
(5) تفسير الطبري (1/497).
(6) في أ ، و : "تخفونه".
(7) في جـ ، ط ، ب : "في أمره".
(1/226)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
قال
: وصح ذلك كما تقول العرب : قُتِل الجيش وهُزموا ، وإنما قتل الواحد أو البعض ،
وهزم الواحد أو البعض ، فيخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج الخبر عن جميعهم
، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ }
[الحجرات : 4 ] ذكر أن الذي نادى إنما كان واحدا من بني تميم ، قال : وكذلك قوله :
{ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ
أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) }.
وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم امتن بها على ذريته ، حيث أخبر أنه تعالى أمر
الملائكة بالسجود لآدم. وقد دل على ذلك أحاديث - أيضا - كثيرة منها حديث الشفاعة
المتقدم ، وحديث موسى ، عليه السلام : "رَبِّ ، أرني آدم الذي أخرجنا ونفسَه
من الجنة" ، فلما اجتمع به قال : "أنت آدم الذي خلقه (1) الله بيده ،
ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته". قال... وذكر الحديث كما سيأتي.
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيب ، حدثنا عثمان بن سعيد ، حدثنا بشْر بن عُمارة ،
عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : كان إبليس من حَيّ من أحياء الملائكة
يقال لهم : الجِنّ ، خلقوا من نار السموم ، من بين الملائكة ، وكان اسمه الحارث ،
وكان خازنا من خزان الجنة ، قال : وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي ، قال
: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار ، [وهو لسان النار الذي يكون
في طرفها إذا لهبت قال : وخلق الإنسان من طين] (2). فأول من سكن الأرض الجن
فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، وقتل بعضهم بعضا. قال : فبعث الله إليهم إبليس في
جند من الملائكة - وهم هذا الحي الذي يقال لهم : الجنّ - فقتلهم إبليس ومن معه ،
حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال ، فلما فعل إبليس ذلك اغتَرّ في نفسه ،
فقال : قد صنعت شيئا لم يصنعه أحد. قال : فاطلع الله على ذلك من قلبه ، ولم يطلع
عليه الملائكة الذين كانوا معه ، فقال الله تعالى للملائكة الذين معه : { إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } فقالت الملائكة مجيبين له : { أَتَجْعَلُ فِيهَا
مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } كما أفسدت الجن وسفكت الدماء ،
وإنما بعثتنا عليهم (3) لذلك ؟ فقال : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ }
يقول : إني قد اطلعت من (4) قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره ،
قال : ثم أمر بتربة آدم فرفعت ، فخلق الله آدم من طين لازب - واللازب : اللزج
الصلب (5) من حمإ مسنون منتن ، وإنما كان حَمَأ مسنونا بعد التراب. فخلق منه آدم
بيده ، قال : فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى. فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله ، فيصلصل
، أي فيصوت. قال : فهو قول الله تعالى : { مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ } يقول :
كالشيء المنفرج الذي ليس [ الرحمن : 14 ]
__________
(1) في ب ، أ ، و : "خلقك".
(2) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(3) في جـ : "إليهم".
(4) في جـ : "على".
(5) في ب ، أ ، و : "الطيب".
(1/227)
بمُصْمَت.
قال : ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره ، ويدخل من (1) دبره ، ويخرج من فيه. ثم يقول
: لست شيئا - للصلصلة - ولشيء ما خلقت ، ولئن سُلِّطْتُ عليك لأهلكنك ، ولئن
سُلِّطْتُ علي لأعْصيَنَّك. قال : فلما نفخ الله فيه من روحه ، أتت النفخة من قبل
رأسه ، فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحمًا ودمًا ، فلما انتهت النفخة
إلى سُرَّته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من جسده ، فذهب لينهض فلم يقدر ، فهو قول
الله تعالى : { وَكَانَ (2) الإنْسَانُ عَجُولا } قال : ضجر لا صبر له على سراء
ولا ضراء. قال : فلما تمت النفخة في جسده عطس ، فقال : "الحمد لله رب
العالمين" بإلهام الله. فقال [الله] (3) له : "يرحمك الله يا آدم (4)
". قال ثم قال [الله] (5) تعالى للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون
الملائكة الذين في السماوات : اسجدوا لآدم. فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس أبى
واستكبر ، لما كان حدث نفسه من الكبر والاغترار. فقال : لا أسجد له ، وأنا خير منه
وأكبر سنا وأقوى خلقا ، خلقتني (6) من نار وخلقته من طين. يقول : إن النار أقوى من
الطين. قال : فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله ، أي : آيسه من الخير كله ، وجعله
شيطانا رجيما عُقُوبة لمعصيته ، ثم عَلَّم آدم الأسماء كلها ، وهي هذه الأسماء
التي يتعارف بها الناس : إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار ، وأشباه ذلك من
الأمم وغيرها. ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة ، يعني : الملائكة الذين
كانوا مع إبليس ، الذين خلقوا من نار السموم ، وقال لهم : { أَنْبِئُونِي
بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ } يقول : أخبروني بأسماء هؤلاء { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
إن كنتم تعلمون لِمَ أجعل في الأرض خليفة. قال : فلما علمت الملائكة موجدة الله
عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب ، الذي لا يعلمه غيره ، الذي ليس لهم به علم
قالوا : سبحانك ، تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره ، وتبنا إليك { لا
عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا } تبريا منهم من علم الغيب ، إلا ما علمتنا
كما علمت آدم ، فقال : { يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ } يقول : أخبرهم
بأسمائهم { فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ } [يقول : أخبرهم] (7) { بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ
أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ } أيها الملائكة خاصة { إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } ولا يعلم غيري { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ } يقول : ما
تظهرون { وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } يقول : أعلم السر كما أعلم العلانية ، يعني
: ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار (8).
هذا سياق غريب ، وفيه أشياء فيها نظر ، يطول مناقشتها ، وهذا الإسناد إلى ابن عباس
يروى به تفسير مشهور.
وقال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرّة ، عن
ابن
__________
(1) في ب : "في".
(2) في هـ : "وخلق" ، والمثبت من باقي النسخ ، وهو الصواب.
(3) زيادة من أ ، و :
(4) في جـ : "يرحمك يا آدم ربك".
(5) زيادة من جـ.
(6) في جـ : "فخلقتني".
(7) زيادة من أ ، و.
(8) تفسير الطبري (1/455).
(1/228)
مسعود
، وعن أناس من أصحاب النبي (1) صلى الله عليه وسلم : لما فرغ الله من خلق ما أحب
استوى على العرش ، فجعل إبليس على مُلْك السماء الدنيا ، وكان من قبيلة من
الملائكة يقال لهم : الجن ، وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة ، وكان إبليس مع
مُلْكه خازنا ، فوقع في صدره كبر وقال : ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي على
الملائكة. فلما وقع ذلك الكبر في نفسه (2) اطلع الله على ذلك منه. فقال الله
للملائكة : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } قالوا (3) : ربنا ، وما يكون
ذلك الخليفة ؟ قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا.
قالوا : ربنا ، { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ
} يعني : من شأن إبليس. فبعث الله جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها ، فقالت الأرض
: إني أعوذ بالله منك أن تَقْبض (4) مني أو تشينني فرجع ولم يأخذ ، وقال : رب مني
(5) عاذت بك فأعذتُها ، فبعث ميكائيل ، فعاذت منه فأعاذها ، فرجع فقال كما قال
جبريل ، فبعث مَلَك الموت فعاذت منه. فقال : وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ
أمره ، فأخذ من وجه الأرض ، وخَلَطَ ولم يأخذ من مكان واحد ، وأخذ من تربة حمراء
وبيضاء وسوداء ، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين ، فَصعِد به فَبَلَّ التراب حتى عاد
طينا لازبا - واللازب : هو الذي يلتزق بعضه ببعض - ثم قال للملائكة : { إِنِّي
خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي
فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } [ص : 71 ، 72 ] فخلقه الله بيده لئلا يتكبر إبليس عنه
، ليقول له : تتكبر عما عملت بيدي ، ولم أتكبر أنا عنه. فخلقه (6) بشرا ، فكان
جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة ، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما
رأوه ، وكان أشدهم فزعا منه (7) إبليس ، فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت
الفخار وتكون له صلصلة. فذلك حين يقول : { مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ } [
الرحمن : 14 ] ويقول : لأمر ما خُلقت. ودخل من فيه فخرج من دبره ، وقال للملائكة :
لا ترهبوا من هذا ، فإن ربكم صَمَدٌ وهذا أجوف. لئن سلطت عليه لأهلكنه ، فلما بلغ
الحين الذي يريد الله عز وجل أن ينفخ فيه الروح ، قال للملائكة : إذا نفخت فيه من
روحي فاسجدوا له ، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه ، عَطِسَ ، فقالت
الملائكة : قل : الحمد لله. فقال : الحمد لله ، فقال له الله : رحمك ربك ، فلما
دخلت الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة. فلما دخل الروح في (8) جوفه اشتهى الطعام
، فوثب قبل أن تبلغ (9) الروح رجليه عجلان (10) إلى ثمار الجنة ، فذلك حين يقول
تعالى : { خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ } [الأنبياء : 37 ]{ فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ
السَّاجِدِينَ } [الحجر : 30 ، 31 ] أبى واستكبر وكان من الكافرين. قال الله له :
ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لما خلقت بيدي ؟ قال : أنا خير منه ، لم أكن لأسجد لمن
(11) خلقته من طين. قال الله له : اخرج منها فما يكون لك ، يعني : ما ينبغي لك {
أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ }
__________
(1) في جـ ، ط ، ب : "رسول الله".
(2) في جـ : "في صدره".
(3) في طـ ، ب : "فقالوا".
(4) في أ ، و : "تنقص".
(5) في جـ ، ط ، ب : "رب إنها".
(6) في جـ ، ط : "بخلقه".
(7) في جـ ، ب ، ط : "أشدهم منه فزعا".
(8) في جـ : "إلى".
(9) في جـ : "أن يدخل".
(10) في جـ : "عجلا".
(11) في جـ ، ب : "لبشر".
(1/229)
[الأعراف
: 13] والصغار : هو الذل. قال : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا } ثم عرض
الخلق على الملائكة { فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ } أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ، فقالوا (1) {
سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ
الْحَكِيمُ } قال الله : { يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا
أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }
قال : قولهم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا } فهذا الذي أبدوا
"وأعلم ما تكتمون" يعني : ما أسر إبليس في نفسه من الكبر.
فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السُّدِّي ويقع فيه إسرائيليات
كثيرة ، فلعل بعضها مُدْرَج (2) ليس من كلام الصحابة ، أو أنهم أخذوه من بعض الكتب
المتقدمة. والله أعلم. والحاكم يروي في مستدركه بهذا الإسناد بعينه أشياء ، ويقول
: [هو] (3) على شرط البخاري.
والغرض أن الله تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم دخل إبليس في خطابهم ؛ لأنه -
وإن لم يكن من عُنْصرهم - إلا أنه كان قد (4) تشَبَّه بهم وتوسم بأفعالهم ؛ فلهذا
دخل في الخطاب لهم ، وذم في مخالفة الأمر. وسنبسط المسألة إن - شاء الله تعالى -
عند قوله : { إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ }
[ الكهف : 50 ].
ولهذا قال : محمد بن إسحاق ، عن خلاد ، عن (5) عطاء ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال :
كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل (6) ، وكان من سكان الأرض
، وكان من أشد الملائكة اجتهادا ، وأكثرهم علما ؛ فذلك دعاه إلى الكبر ، وكان من
حي يسمون جِنًّا.
وفي رواية عن خلاد ، عن عطاء ، عن طاوس - أو مجاهد - عن ابن عباس ، أو غيره ،
بنحوه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سعيد (7) بن سليمان ، حدثنا عباد - يعني :
ابن العوام - عن سفيان بن حسين ، عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن
عباس قال : كان إبليس اسمه عزازيل (8) ، وكان من أشراف الملائكة من ذوي الأجنحة
الأربعة ، ثم أبلس بعد.
وقال سُنَيْد (9) ، عن حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : كان (10) إبليس
من أشراف (11) الملائكة وأكرمهم قبيلة ، وكان خازنا على الجنان ، وكان له سلطان
سماء الدنيا ، وكان له سلطان الأرض.
وهكذا روى الضحاك وغيره عن ابن عباس ، سواء.
وقال صالح مولى التَّوْأمة ، عن ابن عباس : إن من الملائكة قَبيلا يقال لهم : الجن
، وكان إبليس
__________
(1) في أ ، و : "فقالوا له".
(2) في ب : "مدرجا".
(3) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(4) في جـ : "قد كان".
(5) في جـ ، ط ، ب : "خلاد بن".
(6) في جـ ، ط ، ب : "عزرائيل".
(7) في ب : "سعد".
(8) في جـ : "عزرائيل".
(9) في جـ : "سعيد".
(10) في جـ : "وكان".
(11) في جـ : "من أشرف".
(1/230)
منهم
، وكان يسوس ما بين السماء والأرض ، فعصى ، فمسخه الله شيطانا رجيما. رواه ابن
جرير.
وقال قتادة عن سعيد بن المسيب : كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عدي بن أبي عدي ، عن عوف ، عن الحسن ،
قال : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قَط ، وإنه لأصل الجن ، كما أن آدم أصل
الإنس. وهذا إسناد صحيح عن الحسن. وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم سواء.
وقال شَهْر بن حَوْشَب : كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة ، فأسره بعض
الملائكة فذهب به إلى السماء ، رواه ابن جرير.
وقال سُنَيْد بن داود : حدثنا هُشَيم ، أنبأنا عبد الرحمن بن يحيى ، عن موسى بن
نمير وعثمان بن سعيد بن كامل ، عن سعد (1) بن مسعود ، قال : كانت الملائكة تقاتل
الجن ، فسبي إبليس وكان صغيرا ، فكان مع الملائكة ، فتعبد معها ، فلما أمروا
بالسجود لآدم سجدوا ، فأبى إبليس. فلذلك قال تعالى : { إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ
الْجِنِّ } [الكهف : 50 ].
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن سنان القزاز ، حدثنا أبو عاصم ، عن شريك ، عن رجل ،
عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : إن الله خلق خلقا ، فقال : اسجدوا لآدم. فقالوا :
لا نفعل. فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم ، ثم خلق خلقا آخر ، فقال : "إني
خالق بشرا من طين ، اسجدوا لآدم. قال : فأبوا. فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم. ثم
خلق هؤلاء ، فقال : اسجدوا لآدم ، قالوا : نعم. وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن
يسجدوا لآدم (2). وهذا غريب ، ولا يكاد يصح إسناده ، فإن فيه رجلا مبهما ، ومثله
لا يحتج به ، والله أعلم.
وقال قتادة في قوله : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ } فكانت
الطاعة لله ، والسجدة أكر الله آدم بها أن أسجد له ملائكته.
وقال في قوله تعالى : { فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ
مِنَ الْكَافِرِينَ } حسد عدو الله إبليسُ آدمَ ، عليه السلام ، على ما أعطاه الله
من الكرامة ، وقال : أنا ناريٌّ وهذا طينيٌّ ، وكان بدء الذنوب الكبر ، استكبر
عدوُّ الله أن يسجد لآدم ، عليه السلام.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا صالح بن حيان
، حدثنا عبد الله بن بُرَيدة : قوله تعالى : { وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } من
الذين أبوا ، فأحرقتهم النار.
وقال أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ }
يعني : من العاصين.
وقال السدي : { وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } الذين لم يخلقهم الله يومئذ يكونون
بعد.
__________
(1) في جـ "سعيد".
(2) تفسير الطبري (1/508).
(1/231)
وقال
محمد بن كعب القُرَظِيُّ : ابتدأ الله خلق إبليس على الكفر والضلالة ، وعمل بعمل
الملائكة ، فصيره إلى ما أبدى عليه خلقه من الكفر ، قال الله تعالى : { وَكَانَ
مِنَ الْكَافِرِينَ }
وقال بعض الناس : كان هذا سجود تحية وسلام وإكرام ، كما قال تعالى : { وَرَفَعَ
أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا
تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا } [ يوسف : 100]
وقد كان هذا مشروعا في الأمم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا ، قال معاذ (1) : قدمت
الشام فرأيتهم يسجدون لأساقفتهم وعلمائهم ، فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك ،
فقال : "لا لو كنت آمرا بشرا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من
عظم حقه عليها" (2) ورجحه الرازي ، وقال بعضهم : بل كانت السجدة لله وآدم
قبلة فيها كما قال : { أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } [الإسراء : 78 ]
وفي هذا التنظير نظر ، والأظهر أن القول الأول أولى ، والسجدة لآدم إكرامًا
وإعظامًا واحترامًا وسلامًا ، وهي طاعة لله ، عز وجل ؛ لأنها امتثال لأمره تعالى ،
وقد قواه الرازي في تفسيره وضعف ما عداه من القولين الآخرين وهما كونه جعل قبلة إذ
لا يظهر فيه شرف ، والآخر : أن المراد بالسجود الخضوع لا الانحناء ووضع الجبهة على
الأرض وهو ضعيف كما قال.
قلت : وقد ثبت في الصحيح : "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردل من
كبر" (3) وقد كان في قلب إبليس من الكبر - والكفر - والعناد ما اقتضى طرده
وإبعاده عن جناب الرحمة وحضرة القدس ؛ قال بعض المعربين : وكان من الكافرين أي :
وصار من الكافرين بسبب امتناعه ، كما قال : { فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ } [ هود
: 43] وقال { فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } [ البقرة : 35 ] وقال الشاعر :
بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها...
أي : قد صارت ، وقال ابن فورك : تقديره : وقد كان في علم الله من الكافرين ، ورجحه
القرطبي ، وذكر هاهنا مسألة فقال : قال علماؤنا من أظهر الله على يديه ممن ليس
بنبي كرامات وخوارق للعادات فليس ذلك دالا على ولايته ، خلافا لبعض الصوفية
والرافضة هذا لفظه. ثم استدل على ما قال : بأنا لا نقطع بهذا الذي جرى الخارق على
يديه أنه يوافي الله بالإيمان ، وهو لا يقطع لنفسه بذلك ، يعني والولي الذي يقطع
له بذلك في نفس الأمر.
قلت : وقد استدل بعضهم على أن الخارق قد يكون على يدي غير الولي ، بل قد يكون على
يد الفاجر والكافر ، أيضا ، بما ثبت عن ابن صياد أنه قال : هو الدخ حين خبأ له
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ
بِدُخَانٍ مُبِينٍ } [الدخان : 10 ] ، وبما كان يصدر عنه أنه كان يملأ الطريق إذا
غضب حتى ضربه عبد الله بن عمر ، وبما ثبتت به الأحاديث عن الدجال بما يكون على
يديه من الخوارق الكثيرة من أنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر ، والأرض أن تنبت فتنبت
، وتتبعه كنوز الأرض
__________
(1) في و : "معاوية".
(2) رواه أحمد في المسند (5/227).
(3) صحيح مسلم برقم (91) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(1/232)
وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
مثل
اليعاسيب ، وأنه يقتل ذلك الشاب ثم يحييه إلى غير ذلك من الأمور المهولة. وقد قال
يونس بن عبد الأعلى الصدفي : قلت للشافعي : كان الليث بن سعد يقول : إذا رأيتم
الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب
والسنة ، فقال الشافعي : قصر الليث ، رحمه الله ، بل إذا رأيتم الرجل يمشي على
الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة ، وقد حكى
فخر الدين وغيره قولين للعلماء : هل المأمور بالسجود لآدم خاص بملائكة الأرض ، أو
عام بملائكة السماوات والأرض ، وقد رجح كلا من القولين طائفة ، وظاهر الآية
الكريمة العموم : { فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا
إِبْلِيسَ } [ الحجر : 30 ، 31 ، ص : 73 ، 74 ] ، فهذه أربعة أوجه مقوية للعموم ،
والله أعلم.
{ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا
رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ
الظَّالِمِينَ (35) }
يقول الله تعالى إخبارا عما أكرم به آدم : بعد أن أمر الملائكة (1) بالسجود له ،
فسجدوا إلا إبليس : إنه أباحه الجنة يسكن منها حيث يشاء ، ويأكل منها ما شاء (2) رَغَدًا
، أي : هنيئًا واسعًا طيبًا.
وروى الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه ، من حديث محمد بن عيسى الدامغاني ، حدثنا سلمة
بن الفضل ، عن ميكائيل ، عن ليث ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن أبي ذر : قال
: قلت : يا رسول الله ؛ أريت آدم ، أنبيًّا كان ؟ قال : "نعم ، نبيا رسولا
كلمه الله قِبَلا فقال : { اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ } " (3).
وقد اختلف في الجنة التي أسكنها آدم ، أهي في السماء أم في الأرض ؟ والأكثرون على
الأول [وحكى القرطبي عن المعتزلة والقدرية القول بأنها في الأرض] (4) ، وسيأتي
تقرير ذلك في سورة الأعراف ، إن شاء الله تعالى ، وسياق الآية يقتضي أن حواء خلقت
قبل دخول آدم (5) الجنة ، وقد صرح بذلك محمد بن إسحاق ، حيث قال : لما فرغ الله من
معاتبة إبليس ، أقبل على آدم وقد عَلَّمه الأسماء كلها ، فقال : { يَا آدَمُ
أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ } إلى قوله : { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ
الْحَكِيمُ } (6) قال : ثم ألقيت السِّنَةُ على آدم - فيما بلغنا عن أهل الكتاب من
أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم ، عن ابن عباس وغيره - ثم أخذ ضِلعًا من أضلاعه
من شِقه الأيسر ، ولأم مكانه لحما ، وآدم نائم لم يهب من
__________
(1) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "أمر ملائكته".
(2) في جـ ، ط : "ما يشاء".
(3) ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/10) من طريق أبي عمر الشامي ، عن عبيد
الخشخاش ، عن أبي ذر بنحوه ، ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (1016) من طريق جعفر
بن الزبير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، عن أبي ذر بنحوه ، ورواه أحمد في
المسند(5/265) من طريق علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة مرفوعا بنحوه.
(4) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(5) في ب ، و : "آدم إلى".
(6) في أ : "وما كنتم تكتمون".
(1/233)
نومه
، حتى خلق الله من ضلعه تلك زوجته حواء ، فسواها امرأة ليسكن إليها. فلما كُشِفَ
عنه السِّنَة وهبَّ من نومه ، رآها إلى جنبه ، فقال - فيما يزعمون والله أعلم - :
لحمي ودمي وروحي (1). فسكن إليها. فلما زوَّجَه الله ، وجعل له سكنا من نفسه ، قال
له قِبَلا { يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا
رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ
الظَّالِمِينَ }
ويقال : إن خلق حواء كان بعد دخوله الجنة ، كما قال السدي في تفسيره (2) ، ذكره عن
أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من
الصحابة : أخرج إبليس من الجنة ، وأسكن آدم الجنة ، فكان يمشي فيها وحشا ليس له
زوج يسكن إليه ، فنام نومة فاستيقظ ، وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه ،
فسألها : ما أنت ؟ قالت : امرأة. قال : ولم خلقت ؟ قالت : لتسكن إلي. قالت له
الملائكة - ينظرون ما بلغ من علمه - : ما اسمها يا آدم ؟ قال : حواء. قالوا : ولم
سميت حواء ؟ قال : إنها خلقت من شيء حي. قال الله : { يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ
وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا }
وأما قوله : { وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } فهو اختبار من الله تعالى
وامتحان لآدم. وقد اختلف في هذه الشجرة : ما هي ؟
فقال السدي ، عمن حدثه ، عن ابن عباس : الشجرة التي نهي عنها آدم ، عليه السلام ،
هي الكَرْم. وكذا قال سعيد بن جبير ، والسدي ، والشعبي ، وجَعْدة بن هُبَيرة ،
ومحمد بن قيس.
وقال السدي - أيضا - في خبر ذكره ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن
مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : { وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ }
هي الكرم. وتزعم يهود أنها الحنطة.
وقال ابن جرير وابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي ، حدثنا أبو
يحيى الحِمَّاني ، حدثنا النضر أبو عمر الخراز ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس ، قال
: الشجرة التي نُهِي عنها آدم ، عليه السلام ، هي السنبلة.
وقال عبد الرزاق : أنبأنا ابن عيينة وابن المبارك ، عن الحسن بن عمارة ، عن
المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : هي السنبلة.
وقال محمد بن إسحاق ، عن رجل من أهل العلم ، عن حجاج ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ،
قال : هي البر.
وقال ابن جرير : وحدثني المثنى بن إبراهيم ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا القاسم
، حدثني
__________
(1) في جـ ، ب ، أ ، و : "وزوجتي".
(2) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "في خبر".
(1/234)
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
رجل
من بني تميم ، أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدم ،
والشجرة التي تاب عندها آدم. فكتب إليه أبو الجلد : سألتني عن الشجرة التي نُهِي
عنها آدم ، عليه السلام ، وهي السنبلة ، وسألتني عن الشجرة التي تاب عندها آدم وهي
الزيتونة (1).
وكذلك فسره الحسن البصري ، ووهب بن مُنَبَّه ، وعطية العَوفي ، وأبو مالك ، ومحارب
(2) بن دِثَار ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى.
وقال محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل اليمن ، عن وهب بن منبه : أنه كان يقول : هي
البُر ، ولكن الحبة منها في الجنة ككُلَى البقر ، ألين من الزبد وأحلى من العسل.
وقال سفيان الثوري ، عن حصين ، عن أبي مالك : { وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ
} قال : النخلة.
وقال ابن جرير ، عن مجاهد : { وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } قال : تينة.
وبه قال قتادة وابن جريج.
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية : كانت الشجرة من أكل
منها أحدث ، ولا ينبغي أن يكون في الجنة حَدَثٌ ، وقال عبد الرزاق : حدثنا عمر بن
عبد الرحمن بن مُهْرِب (3) قال : سمعت وهب بن منبه يقول : لما أسكن الله آدم
وزوجته الجنة ، ونهاه عن أكل الشجرة ، وكانت شجرة غصونها متشعب بعضها من (4) بعض ،
وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم ، وهي الثمرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته.
فهذه أقوال ستة في تفسير (5) هذه الشجرة.
قال الإمام العلامة أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله (6) : والصواب في ذلك أن يقال :
إن الله جل ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة ، دون سائر
أشجارها (7) ، فأكلا منها ، ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين ؟ لأن الله
لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة. وقد قيل : كانت شجرة
البر. وقيل : كانت شجرة العنب ، وقيل : كانت شجرة التين. وجائز أن تكون واحدة منها
، وذلك عِلْمٌ ، إذا علم ينفع العالمَ به علمُه ، وإن جهله جاهلٌ لم يضرَّه جهله
به ، والله أعلم. [وكذلك رجح الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره وغيره ، وهو
الصواب] (8).
{ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ
وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ
مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) }
وقوله تعالى : { فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا } يصح أن يكون الضمير في
قوله : { عَنْهَا } عائدا إلى
__________
(1) تفسير الطبري (1/517).
(2) في جـ : "مجاهد".
(3) في جـ : "مهدي".
(4) في جـ ، ط ، ب : "في".
(5) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "تعيين".
(6) تفسير الطبري (1/520 ، 521).
(7) في جـ : "سائر الأشجار".
(8) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(1/235)
الجنة
، فيكون معنى الكلام كما قال (1) [حمزة و] (2) عاصم بن بَهْدلَة ، وهو ابن أبي
النَّجُود ، فأزالهما ، أي : فنجَّاهما. ويصح أن يكون عائدا على أقرب المذكورين ،
وهو الشجرة ، فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادةُ { فأزلهما } أي : من قبيل
(3) الزلل ، فعلى هذا يكون تقدير الكلام { فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا }
أي : بسببها ، كما قال تعالى : { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } [الذاريات : 9 ]
أي : يصرف بسببه من هو مأفوك ؛ ولهذا قال تعالى : { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا
فِيهِ } أي : من اللباس والمنزل الرحب والرزق الهنيء والراحة.
{ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ
وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } أي : قرار وأرزاق وآجال { إِلَى حِينٍ } أي : إلى وقت
مؤقت ومقدار معين ، ثم تقوم القيامة.
وقد ذكر المفسرون من السلف كالسُّدِّي بأسانيده ، وأبي العالية ، ووهب بن مُنَبِّه
وغيرهم ، هاهنا أخبارا إسرائيلية عن قصة الحَيَّة ، وإبليس ، وكيف جرى من دخول
إبليس إلى الجنة ووسوسته ، وسنبسط ذلك إن شاء الله ، في سورة الأعراف ، فهناك
القصة أبسط منها هاهنا ، والله الموفق.
وقد قال ابن أبي حاتم هاهنا : حدثنا علي بن الحسن بن إشكاب ، حدثنا علي بن عاصم ،
عن سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله خلق آدم رجلا طُوَالا كثير شعر الرأس ،
كأنه نخلة سَحُوق ، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه ، فأول ما بدا منه عورته ، فلما
نظر إلى عورته جعل يَشْتَد (4) في الجنة ، فأخذت شَعْرَه شجرةٌ ، فنازعها ، فناداه
الرحمن : يا آدم ، مني تَفِرُّ! فلما سمع كلام الرحمن قال : يا رب ، لا ولكن
استحياء" (5).
قال : وحدثني جعفر بن أحمد بن الحكم القومشي (6) سنة أربع وخمسين ومائتين ، حدثنا
سليم (7) بن منصور بن عمار ، حدثنا علي بن عاصم ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أبي بن كعب
، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لما ذاق آدم من الشجرة فَرَّ
هاربا ؛ فتعلقت شجرة بشعره ، فنودي : يا آدم ، أفِرارًا مني ؟ قال : بل حَيَاء منك
، قال : يا آدم اخرج من جواري ؛ فبعزتي لا يساكنني فيها من عصاني ، ولو خلقت
مِثْلَك ملء الأرض خَلْقًا ثم عصوني لأسكنتهم دار العاصين" (8).
هذا حديث غريب ، وفيه انقطاع ، بل إعضال بين قتادة وأبي بن كعب ، رضي الله عنهما
(9).
وقال الحاكم : حدثنا أبو بكر بن بَالُويه (10) ، عن محمد بن أحمد بن النضر ، عن
معاوية بن عمرو ، عن زائدة ، عن عَمَّار بن معاوية البَجَلي ، عن سعيد بن جبير ،
عن ابن عباس ، قال : ما أسكن
__________
(1) في جـ ، ط : "كما قرأ".
(2) زيادة من جـ ، ط.
(3) في جـ ، ط ، ب : "من قبل".
(4) في جـ : "يستدير".
(5) تفسير ابن أبي حاتم (1/129).
(6) في هـ : "القرشي".
(7) في هـ : "سليمان".
(8) تفسير ابن أبي حاتم (1/130).
(9) في جـ ، ب ، و : "عنه".
(10) في جـ : "مالويه".
(1/236)
آدم
الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس. ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم
يخرجاه.
وقال عبد بن حميد في تفسيره : حدثنا رَوح ، عن هشام ، عن الحسن ، قال : لبث آدم في
الجنة ساعة من نهار ، تلك الساعة ثلاثون ومائة سنة من أيام الدنيا.
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، قال : خرج آدم من الجنة للساعة التاسعة
أو العاشرة ، فأخرج آدم معه غصنًا من شجر الجنة ، على رأسه تاج من شجر الجنة وهو
الإكليل من ورق الجنة.
وقال السدي : قال الله تعالى : { اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا } فهبطوا فنزل آدم
بالهند ، ونزل معه الحجر الأسود ، وقبضة (1) من ورق الجنة فبثه بالهند ، فنبتت
شجرة الطيب ، فإنما أصل ما يجاء به من الهند من الطيب من قبضة الورق التي هبط بها
آدم ، وإنما قبضها آدم أسفا على الجنة حين أخرج منها (2).
وقال عمران بن عيينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال :
أهبط آدم من الجنة بِدَحْنا ، أرض الهند.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ،
عن عطاء ، عن سعيد عن ابن عباس قال : أهبط آدم ، عليه السلام ، إلى أرض يقال لها :
دَحْنا ، بين مكة والطائف.
وعن الحسن البصري قال : أهبط آدم بالهند ، وحواء بجدة ، وإبليس بدَسْتُمِيسان (3)
من البصرة على أميال ، وأهبطت الحية بأصبهان. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار بن الحارث ، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق ،
حدثنا عمرو بن أبي قيس ، عن ابن عدي (4) ، عن ابن عمر ، قال : أهبط آدم بالصفا ،
وحواء بالمروة
وقال رجاء بن سلمة : أهبط آدم ، عليه السلام ، يداه على ركبتيه مطأطئًا رأسه ،
وأهبط إبليس مشبكا بين صابعه رافعا رأسه إلى السماء.
وقال عبد الرزاق : قال مَعْمَر : أخبرني عَوْف عن قَسَامة بن زهير ، عن أبي موسى ،
قال : إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض ، عَلَّمه صنعة كل شيء ، وزوده من
ثمار الجنة ، فثماركم هذه من ثمار الجنة ، غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير (5).
وقال الزهري عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم :
__________
(1) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "فأنزل معه بالحجر الأسود ويقبضه".
(2) في جـ ، ط ، ب : "وإنما قبضها آدم حين أخرج من الجنة أسفا على الجنة حين
أخرج منها".
(3) في و : "بدسمت ميسان".
(4) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "عمرو بن أبي قيس عن الزبير عن ابن عدي".
(5) تفسير عبد الرزاق (1/66).
(1/237)
فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
"خير
يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج
منها" رواه مسلم والنسائي (1).
وقال فخر الدين : اعلم أن في هذه الآيات تهديدًا عظيما عن كل المعاصي من وجوه :
الأول : أن من تصور ما جرى على آدم بسبب إقدامه على هذه الزلة الصغيرة كان على وجل
شديد من المعاصي ، قال الشاعر :
يا ناظرا يرنو بعيني راقد ومشاهدا للأمر غير مشاهد...
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي... درج الجنان ونيل فوز العابد...
أنسيت ربك حين أخرج آدما... منها إلى الدنيا بذنب واحد...
قال فخر الدين عن فتح الموصلي أنه قال : كنا قوما من أهل الجنة فسبانا إبليس إلى
الدنيا ، فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها. فإن قيل :
فإذا كانت جنة آدم التي أسكنها في السماء كما يقوله الجمهور من العلماء ، فكيف
يمكن إبليس من دخول الجنة ، وقد طرد من هنالك طردًا قدريًّا ، والقدري لا يخالف
ولا يمانع ؟ فالجواب : أن هذا بعينه استدل به من يقول : إن الجنة التي كان فيها
آدم في الأرض لا في السماء ، وقد بسطنا هذا في أول كتابنا البداية والنهاية ،
وأجاب الجمهور بأجوبة ، أحدها : أنه منع من دخول الجنة مكرما ، فأما على وجه الردع
والإهانة ، فلا يمتنع ؛ ولهذا قال بعضهم : كما جاء في التوراة أنه دخل في فم الحية
إلى الجنة ، وقد قال بعضهم : يحتمل أنه وسوس لهما وهو خارج باب الجنة ، وقال بعضهم
: يحتمل أنه وسوس لهما وهو في الأرض ، وهما في السماء ، ذكرها الزمخشري وغيره. وقد
أورد القرطبي هاهنا أحاديث في الحيات وقتلهن وبيان حكم ذلك ، فأجاد وأفاد (2).
{ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) }
قيل : إن هذه (3) الكلمات مفسرة بقوله تعالى : { قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] روي هذا عن مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبي
العالية ، والربيع بن أنس ، والحسن ، وقتادة ، ومحمد بن كعب القُرَظي ، وخالد بن
مَعْدان ، وعطاء الخراساني ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وقال أبو إسحاق
السَّبِيعي ، عن رجل من بني تميم ، قال : أتيت ابن عباس ، فسألته : [قلت] (4) : ما
الكلمات التي تلقى آدم من ربه ؟ قال : عُلم [آدم] (5) شَأنَ الحج.
__________
(1) صحيح مسلم برقم (854) وسنن النسائي (3/89).
(2) تفسير القرطبي (1/313 - 317).
(3) في جـ ، ط : "هؤلاء.
(4) زيادة من طـ ، ب ، و.
(5) زيادة من جـ.
(1/238)
وقال
سفيان الثوري ، عن عبد العزيز بن (1) رُفَيع ، أخبرني من سمع عبيد بن عُمَير ، وفي
رواية : [قال] (2) : أخبرني مجاهد ، عن عبيد بن عمير ، أنه قال : قال آدم : يا رب
، خطيئتي التي أخطأت شيء كتبتُه علي قبل أن تخلقني ، أو شيء ابتدعته من قبل نفسي ؟
قال : بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك. قال : فكما كتبته علي فاغفر (3) لي. قال :
فذلك قوله تعالى : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ }
وقال السدي ، عمن حدثه ، عن ابن عباس : فتلقى آدم من ربه كلمات ، قال : قال آدم ،
عليه السلام : يا رب ، ألم تخلقني بيدك ؟ قيل (4) له : بلى. ونفخت في من روحك ؟
قيل (5) له : بلى. وعَطستُ فقلتَ : يرحمك الله ، وسبقت رحمتُك غَضبَك ؟ قيل (6) له
: بلى ، وكتبت عليّ أن أعمل هذا ؟ قيل (7) له : بلى. قال : أفرأيت إن تبتُ هل أنت
راجعي إلى الجنة ؟ قال : نعم.
وهكذا رواه العوفي ، وسعيد بن جبير ، وسعيد بن مَعْبَد ، عن ابن عباس ، بنحوه.
ورواه الحاكم في مستدركه من حديث سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، وقال : صحيح
الإسناد ، ولم يخرجاه (8) وهكذا فسره السدي وعطية العَوْفي.
وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثا شبيهًا بهذا فقال : حدثنا علي بن الحسين بن
إشكاب ، حدثنا علي بن عاصم ، عن سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن
أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قال آدم ، عليه
السلام : أرأيت يا رب إن تبتُ ورجعتُ ، أعائدي إلى الجنة ؟ قال : نعم. فذلك قوله :
{ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ } (9).
وهذا حديث غريب من هذا الوجه وفيه انقطاع.
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله تعالى : {
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ } قال : إن آدم لما أصاب الخطيئة قال :
يا رب ، أرأيت إن تبت وأصلحت ؟ قال الله : إذن أرجعك إلى الجنة فهي من الكلمات.
ومن الكلمات أيضا : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا
وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الأعراف : 23].
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد أنه كان يقول في قول الله تعالى : { فَتَلَقَّى
آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ } قال : الكلمات : اللهم لا إله إلا أنت سبحانك
وبحمدك ، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين ، اللهم لا إله إلا أنت
سبحانك وبحمدك ، رب إني ظلمت نفسي فارحمني ، إنك (10) خير الراحمين. اللهم لا إله
إلا أنت سبحانك وبحمدك ، رب إني ظلمت نفسي فتب علي ، إنك أنت التواب الرحيم.
__________
(1) في جـ : "عن".
(2) زيادة من جـ ، ط ، ب.
(3) في جـ ، ب : "فاغفره".
(4) في جـ : "قال".
(5) في جـ : "قال".
(6) في جـ : "قال".
(7) في جـ : "قال".
(8) المستدرك (2/545).
(9) تفسير ابن أبي حاتم (1/135).
(10) في جـ : "فاغفر لي أنت".
(1/239)
@
1 - 240
وقوله تعالى : { إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } أي : إنه يتوب على من تاب
إليه وأناب ، كقوله : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ
التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } [ التوبة : 104] وقوله : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا
أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا
رَحِيمًا } [النساء : 11] ، وقوله : { وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ
يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا } [ الفرقان : 71 ] وغير ذلك من الآيات الدالة على
أنه تعالى يغفر الذنوب ويتوب على من يتوب وهذا من لطفه بخلقه ورحمته بعبيده ، لا
إله إلا هو التواب الرحيم.
وذكرنا في المسند الكبير من طريق سليمان بن سليم عن ابن بريدة وهو سليمان عن أبيه
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لما أهبط الله آدم إلى الأرض طاف بالبيت
سبعا ، وصلى خلف المقام ركعتين ، ثم قال : اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل
معذرتي ، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي ، وتعلم ما عندي فاغفر ذنوبي ، أسألك إيمانا
يباشر قلبي ، ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي. قال فأوحى الله
إليه إنك قد دعوتني بدعاء أستجيب لك فيه ولمن يدعوني به ، وفرجت همومه وغمومه ،
ونزعت فقره من بين عينيه ، وأجرت له من وراء كل تاجر زينة الدنيا وهي كلمات عهد
وإن لم يزدها" رواه الطبراني في معجمه الكبير (1).
__________
(1) جامع المسانيد والسنن برقم (742) ولم أقع عليه في المطبوع من المعجم الكبير.
(1/240)
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
{
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ
تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (39) }
يقول تعالى مخبرا عما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حتى (1) أهبطهم من الجنة ،
والمراد الذرية : أنه سينزل الكتب ، ويبعث الأنبياء والرسل ؛ كما قال أبو العالية
: الهُدَى الأنبياء والرسل والبيان ، وقال مقاتل بن حَيَّان : الهدى محمد صلى الله
عليه وسلم. وقال الحسن : الهدى القرآن. وهذان القولان صحيحان ، وقول أبي العالية
أعَمّ.
{ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ } أي : من أقبل على ما أنزلت به الكتب وأرسلت به الرسل {
فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي : فيما يستقبلونه من أمر الآخرة { وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ } على ما فاتهم من أمور الدنيا ، كما قال في سورة طه : { قَالَ
اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ
مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } [طه : 123 ]
قال ابن عباس : فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي
فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [طه :
124 ] كما قال هاهنا : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي : مخلدون فيها ، لا محيد لهم عنها
، ولا محيص.
وقد أورد ابن جرير ، رحمه الله ، هاهنا حديثا ساقه من طريقين ، عن أبي مَسْلَمة
سعيد بن يزيد ،
__________
(1) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "حين".
(1/240)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
عن
أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطْعَة (1) عن أبي سعيد - واسمه سعد بن مالك بن سِنَان
الخُدْري - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما أهل النار الذين
هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ، لكن أقواماً أصابتهم النار بخطاياهم ،
أو بذنوبهم فأماتتهم إماتة ، حتى إذا صاروا فحماً أذنَ في الشفاعة". وقد رواه
مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة به (2).
[وذكر هذا الإهباط الثاني لما تعلق به ما بعده من المعنى المغاير للأول ، وزعم
بعضهم أنه تأكيد وتكرير ، كما تقول : قم قم ، وقال آخرون : بل الإهباط الأول من
الجنة إلى السماء الدنيا ، والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض ، والصحيح الأول ،
والله تعالى أعلم بأسرار كتابه] (3).
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ
وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا
بِمَا أَنزلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ
وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) }
يقول تعالى آمرا بني إسرائيل بالدخول في الإسلام ، ومتابعة محمد عليه من الله أفضل
الصلاة والسلام ، ومُهَيجًا لهم بذكر أبيهم إسرائيل ، وهو نبي الله يعقوب ، عليه السلام
، وتقديره : يا بني العبد الصالح المطيع لله كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق ، كما
تقول : يا ابن الكريم ، افعل كذا. يا ابن الشجاع ، بارز الأبطال ، يا ابن العالم ،
اطلب العلم ونحو ذلك.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ
عَبْدًا شَكُورًا } [الإسراء : 3] فإسرائيل هو يعقوب عليه السلام ، بدليل ما رواه
أبو داود الطيالسي : حدثنا عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حَوشب ، قال : حدثني
عبد الله بن عباس قال : حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال
لهم : "هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب ؟". قالوا : اللهم نعم. فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : "اللهم اشهد (4) " (5) وقال الأعمش ، عن إسماعيل
بن رجاء ، عن عمير مولى ابن عباس ، عن عبد الله بن عباس ؛ أن إسرائيل كقولك : عبد
الله.
وقوله تعالى : { اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } قال مجاهد
: نعمة الله التي أنعم بها عليهم فيما سمى وفيما سِوَى ذلك ، فَجَّر لهم الحجر ،
وأنزل عليهم المن والسلوى ، وأنجاهم من عبودية آل فرعون.
__________
(1) في جـ : "قصعة".
(2) تفسير الطبري (1/552) وصحيح مسلم برقم (185).
(3) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(4) في جـ : "اللهم فاشهد".
(5) رواه أحمد في المسند (1/273) عن حسين ، عن عبد الحميد بن بهرام به.
(1/241)
وقال
أبو العالية : نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل ، وأنزل عليهم الكتب.
قلت : وهذا كقول موسى عليه السلام لهم : { يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا
لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } [المائدة : 20] يعني في زمانهم.
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن
عباس ، في قوله : { اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } أي :
بلائي عندكم وعند آبائكم لِمَا كان نجاهم به من فرعون وقومه { وَأَوْفُوا
بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } قال : بعهدي الذي أخذت في (1) أَعناقكم للنبي صلى
الله عليه وسلم إذا جاءكم. { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } أي : أنجز لكم ما وعدتكم عليه
بتصديقه واتباعه ، بوضع ما كان عليكم من الإصر والأغلال التي كانت في أعناقكم
بذنوبكم التي كانت من أحداثكم.
[وقال الحسن البصري : هو قوله : { وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ
إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ
بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا
لأكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الأنْهَارُ } الآية [المائدة : 12]. وقال آخرون : هو الذي أخذه الله
عليهم في التوراة أنه سيبعث من بني إسماعيل نبيًا عظيما يطيعه جميع الشعوب والمراد
به محمد صلى الله عليه وسلم فمن اتبعه غُفر له ذنبه وأدخل الجنة وجعل له أجران.
وقد أورد فخر الدين الرازي هاهنا بشارات كثيرة عن الأنبياء عليهم السلام بمحمد صلى
الله عليه وسلم] (2).
وقال أبو العالية : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي } قال : عهده إلى عباده : دينه الإسلام
أن يتبعوه.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } قال : أرْض عنكم وأدخلكم
الجنة.
وكذا قال السدي ، والضحاك ، وأبو العالية ، والربيع بن أنس.
وقوله : { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } أي : فاخشون ؛ قاله أبو العالية ، والسدي ،
والربيع بن أنس ، وقتادة.
وقال ابن عباس في قوله تعالى : { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } أي أنزل بكم ما أنزل
(3) بمن كان قبلكم من آبائكم من النَّقِمَات التي قد عرفتم من المسخ وغيره.
وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب ، فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة ، لعلهم يرجعون
إلى الحق واتباع الرسول والاتعاظ بالقرآن وزواجره ، وامتثال أوامره ، وتصديق
أخباره ، والله الهادي لمن يشاء إلى صراطه المستقيم ؛ ولهذا (4) قال : { وَآمِنُوا
بِمَا أَنزلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ } [ { مُصَدِّقًا } ماضيًا منصوبًا على
الحال من { بِمَا } أي : بالذي أنزلت مصدقًا أو من الضمير المحذوف من قولهم : بما
أنزلته مصدقًا ، ويجوز أن يكون مصدرًا من غير الفعل وهو قوله : { بِمَا أَنزلْتُ
مُصَدِقًا } ] (5) يعني به : القرآن الذي أنزله على محمد النبي الأمي العربي
بشيرًا ونذيرًا وسراجًا منيرًا مشتملا على الحق من الله
__________
(1) في جـ ، ط ، ب : "من".
(2) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(3) في جـ ، ط ، ب : "ما أنزلت".
(4) في جـ : "فلهذا".
(5) زيادة من جـ ، ب ، و.
(1/242)
تعالى
، مصدقًا لما بين يديه من التوراة والإنجيل.
قال أبو العالية ، رحمه الله ، في قوله : { وَآمِنُوا بِمَا أَنزلْتُ مُصَدِّقًا
لِمَا مَعَكُمْ } يقول : يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت مصدقًا لما معكم يقول
: لأنهم يجدون محمدًا صلى الله عليه وسلم مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.
وروي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك.
وقوله : { وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } [قال بعض المفسرين : أول فريق
كافر به ونحو ذلك] (1). قال ابن عباس : { وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ }
وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم.
وقال أبو العالية : يقول : { وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ [كَافِرٍ بِهِ } أول] (2) من
كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم [يعني من جنسكم أهل الكتاب بعد سماعهم بمحمد
وبمبعثه] (3).
وكذا قال الحسن ، والسدي ، والربيع بن أنس.
واختار ابن جرير أن الضمير في قوله : { بِهِ } عائد على القرآن ، الذي تقدم ذكره
في قوله : { بِمَا أَنزلْتُ }
وكلا القولين صحيح ؛ لأنهما متلازمان ، لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد صلى الله
عليه وسلم ، ومن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالقرآن.
وأما قوله : { أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } فيعني به أول من كفر به من بني إسرائيل ؛
لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بَشر كثير ، وإنما المراد أول من كفر
به من بني إسرائيل مباشرة ، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن ،
فكفرهم به يستلزم أنهم أول من كفر به من جنسهم.
وقوله : { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا } يقول : لا تعتاضوا عن
الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها ، فإنها قليلة فانية ، كما قال عبد
الله بن المبارك : أنبأنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن هارون بن زيد (4) قال :
سُئِل الحسن ، يعني البصري ، عن قوله تعالى : { ثَمَنًا قَلِيلا } قال : الثمن
القليل الدنيا بحذافيرها.
وقال ابن لَهِيعة : حدثني عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : { وَلا
تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا } وإن آياته : كتابه الذي أنزله (5) إليهم ،
وإن الثمن القليل : الدنيا وشهواتها.
وقال السدي : { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا } يقول : لا تأخذوا
طمعًا قليلا ولا تكتموا (6) اسم
__________
(1) زيادة من جـ ، ب ، و.
(2) زيادة من جـ.
(3) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(4) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "بن يزيد".
(5) في جـ : "آياته التي أنزل".
(6) في جـ ، ب : "وتكتموا".
(1/243)
الله
لذلك الطمع وهو الثمن.
وقال أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله تعالى : { وَلا
تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا } يقول : لا تأخذوا عليه أجرًا. قال : وهو
مكتوب عندهم في الكتاب الأول : يا ابن آدم عَلِّم مَجَّانا كما عُلِّمت مَجَّانا.
وقيل : معناه لا تعتاضوا عن البيان والإيضاح ونشر العلم النافع في الناس بالكتمان
واللبس لتستمروا على رياستكم في الدنيا القليلة الحقيرة الزائلة عن قريب ، وفي سنن
أبي داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من تعلم
علمًا مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يرح رائحة
الجنة يوم القيامة" (1) وأما تعليم العلم بأجرة ، فإن كان قد تعين عليه فلا
يجوز أن يأخذ عليه أجرة ، ويجوز أن يتناول من بيت المال ما يقوم به حاله وعياله ،
فإن لم يحصل له منه شيء وقطعه التعليم عن التكسب ، فهو كما لم يتعين عليه ، وإذا
لم يتعين عليه ، فإنه يجوز أن يأخذ عليه أجرة عند مالك والشافعي وأحمد وجمهور
العلماء ، كما في صحيح البخاري عن أبي سعيد في قصة اللديغ : "إن أحق ما أخذتم
عليه أجرًا كتاب الله" (2) وقوله في قصة المخطوبة : "زوجتكها بما معك من
القرآن" (3) فأما حديث عبادة بن الصامت ، أنه علم رجلا من أهل الصفة شيئًا من
القرآن فأهدى له قوسًا ، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "إن
أحببت أن تطوق بقوس من نار فاقبله" فتركه ، رواه أبو داود (4) وروي مثله عن
أبي بن كعب مرفوعًا (5) فإن صح إسناده فهو محمول عند كثير من العلماء منهم : أبو
عمر بن عبد البر على أنه لما علمه الله لم يجز بعد هذا أن يعتاض عن ثواب الله بذلك
القوس ، فأما إذا كان من أول الأمر على التعليم بالأجرة فإنه يصح كما في حديث
اللديغ وحديث سهل في المخطوبة ، والله أعلم.
{ وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عمر الدوري ، حدثنا أبو
إسماعيل المؤدب ، عن عاصم الأحول ، عن أبي العالية ، عن طلق بن حبيب ، قال :
التقوى أن تعمل بطاعة الله رجاء رحمة الله على نور من الله ، والتقوى أن تترك
معصية الله مخافة عذاب الله على نور من الله.
ومعنى قوله : { وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ } أنه تعالى يتوعدهم فيما يتعمدونه من
كتمان الحق وإظهار خلافه (6) ومخالفتهم الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه.
__________
(1) سنن أبي داود برقم (3664).
(2) صحيح البخاري برقم (5007) وهذا اللفظ هو لفظ حديث ابن عباس.
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (5149) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
(4) سنن أبي داود برقم (3416).
(5) رواه البيهقي في السنن الكبرى (6/125) من طريق عبد الرحمن بن أبي مسلم ، عن
عطية بن قيس ، عن أبي بن كعب رضي الله عنه به مرفوعا ، وهو منقطع.
(6) في أ : "وإظهاره الباطل".
(1/244)
وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
{
وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ
الرَّاكِعِينَ (43) }
يقول تعالى ناهيًا لليهود عما كانوا يتعمدونه ، من تلبيس (1) الحق بالباطل ،
وتمويهه به (2) وكتمانهم الحق وإظهارهم الباطل : { وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ
بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (3) فنهاهم عن
الشيئين معًا ، وأمرهم بإظهار الحق والتصريح به ؛ ولهذا قال الضحاك ، عن ابن عباس
{ وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } لا تخلطوا الحق بالباطل والصدق بالكذب.
وقال أبو العالية : { وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } يقول : ولا تخلطوا
الحق بالباطل ، وأدوا النصيحة لعباد الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ويروى (4) عن سعيد بن جبير والربيع بن أنس ، نحوه.
وقال قتادة : { وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } [قال] (5) ولا تلبسوا
اليهودية والنصرانية بالإسلام ؛ إن دين الله الإسلام ، واليهودية والنصرانية بدعة
ليست من الله.
وروي عن الحسن البصري نحو ذلك.
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن
عباس : { وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : لا تكتموا ما عندكم
من المعرفة برسولي وبما جاء به ، وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم فيما تعلمون من الكتب
التي بأيديكم. وروي عن أبي العالية نحو ذلك.
وقال مجاهد ، والسدي ، وقتادة ، والربيع بن أنس : { وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ } يعني
: محمدا صلى الله عليه وسلم.
[قلت : { وَتَكْتُمُوا } يحتمل أن يكون مجزومًا ، ويجوز أن يكون منصوبًا ، أي : لا
تجمعوا بين هذا وهذا كما يقال : لا تأكل السمك وتشرب اللبن. قال الزمخشري : وفي
مصحف ابن مسعود : "وتكتمون الحق" أي : في حال كتمانكم الحق وأنتم تعلمون
حال أيضًا ، ومعناه : وأنتم تعلمون الحق ، ويجوز أن يكون المعنى : وأنتم تعلمون ما
في ذلك من الضرر العظيم على الناس من إضلالهم عن الهدى المفضي بهم إلى النار إلى
أن سلكوا ما تبدونه لهم من الباطل المشوب بنوع من الحق لتروّجوه عليهم ، والبيان
الإيضاح وعكسه الكتمان وخلط الحق بالباطل] (6).
{ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } قال
مقاتل : قوله تعالى لأهل الكتاب : { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ } أمرهم أن يصلوا مع
النبي صلى الله عليه وسلم { وَآتُوا الزَّكَاةَ } أمرهم أن يؤتوا الزكاة ، أي :
يدفعونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } أمرهم
أن يركعوا مع الراكعين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) في جـ ، ط ، ب : "تلبيسهم".
(2) في جـ ، ب : "تمويههم".
(3) في جـ : "وتكتمون" وهو خطأ.
(4) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "وروي".
(5) زيادة من جـ ، ط ، ب.
(6) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(1/245)
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
يقول
: كونوا منهم ومعهم.
وقال علي بن طلحة ، عن ابن عباس : [ { وَآتُوا الزَّكَاةَ } ] (1) يعني بالزكاة :
طاعة الله والإخلاص.
وقال وَكِيع ، عن أبي جَنَاب ، عن عِكْرِمة عن ابن عباس ، في قوله : { وَآتُوا
الزَّكَاةَ } قال : ما يوجب الزكاة ؟ قال : مائتان فصاعدا.
وقال مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، في قوله تعالى : { وَآتُوا الزَّكَاةَ } قال :
فريضة واجبة ، لا تنفع الأعمال إلا بها وبالصلاة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير عن
أبي حيان [العجمي] (2) التيمي ، عن الحارث العُكلي في قوله : { وَآتُوا الزَّكَاةَ
} قال : صدقة الفطر.
وقوله تعالى : { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } أي : وكونوا مع المؤمنين في
أحسن أعمالهم ، ومن أخص ذلك وأكمله (3) الصلاة.
[وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على وجوب الجماعة ، وبسط ذلك في كتاب
الأحكام الكبير إن شاء الله ، وقد تكلم القرطبي على مسائل الجماعة والإمامة فأجاد]
(4).
{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ
تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) }
يقول تعالى : كيف يليق بكم - يا معشر أهل الكتاب ، وأنتم تأمرون الناس بالبر ، وهو
جماع الخير - أن تنسوا أنفسكم ، فلا تأتمروا بما تأمرون الناس به ، وأنتم مع ذلك
تتلون الكتاب ، وتعلمون ما فيه على من قَصر في أوامر الله ؟ أفلا تعقلون ما أنتم
صانعون بأنفسكم ؛ فتنتبهوا من رَقدتكم ، وتتبصروا من عمايتكم. وهذا كما قال عبد
الرزاق عن مَعْمَر ، عن قتادة في قوله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ
بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } قال : كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة
الله وبتقواه ، وبالبر ، ويخالفون ، فَعَيّرهم الله ، عز وجل. وكذلك قال السدي.
وقال ابن جريج : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ } أهل الكتاب والمنافقون
كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة ، وَيَدَعُونَ العملَ بما يأمرون به الناس ،
فعيرهم الله بذلك ، فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة.
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : {
وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } أي : تتركون أنفسكم { وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ
الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ } أي : تنهون الناس عن الكفر بما
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، ب.
(2) زيادة من جـ.
(3) في أ ، و : "وأجمله".
(4) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(1/246)
عندكم
من النبوة والعَهْد من التوراة ، وتتركون أنفسكم ، أي : وأنتم (1) تكفرون بما فيها
من عَهْدي إليكم في تصديق رسولي ، وتنقضون ميثاقي ، وتجحدون ما تعلمون (2) من
كتابي.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس في هذه الآية ، يقول : أتأمرون الناس بالدخول في دين
محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما أمرتم (3) به من إقام الصلاة ، وتنسون
أنفسكم.
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني علي بن الحسن ، حدثنا مُسلم الجَرْمي ، حدثنا
مَخْلَد بن الحسين ، عن أيوب السختياني ، عن أبي قِلابة في قول الله تعالى : {
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ
تَتْلُونَ الْكِتَابَ } قال : قال أبو الدرداء : لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقُت
الناس في ذات الله ، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتًا.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية : هؤلاء اليهود إذا جاء الرجل يسألهم
عن الشيء ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء أمروه بالحق ، فقال الله تعالى : {
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ
تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ }
والغرض أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع ونبههم على خطئهم (4) في حق أنفسهم ،
حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه ، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم
له ، بل على تركهم له ، فإن الأمر بالمعروف [معروف] (5) وهو واجب على العالم ،
ولكن [الواجب و] (6) الأولى بالعالم أن يفعله مع أمرهم به ، ولا يتخلف عنهم ، كما
قال شعيب ، عليه السلام : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا
أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي
إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [هود : 88]. فَكُلٌّ من
الأمر بالمعروف وفعله واجب ، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من
السلف والخلف. وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها ، وهذا ضعيف ،
وأضعف منه تمسكهم بهذه الآية ؛ فإنه لا حجة لهم فيها. والصحيح أن العالم يأمر
بالمعروف ، وإن لم يفعله ، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه ، [قال مالك عن ربيعة :
سمعت سعيد بن جبير يقول له : لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر
حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. وقال مالك : وصدق من ذا
الذي ليس فيه شيء ؟ قلت] (7) ولكنه - والحالة هذه - مذموم على ترك (8) الطاعة
وفعله المعصية ، لعلمه بها ومخالفته على بصيرة ، فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم ؛
ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك ، كما قال الإمام أبو القاسم الطبراني في
معجمه الكبير : حدثنا أحمد بن المعلى الدمشقي والحسن بن علي المعمري ، قالا حدثنا
هشام بن عمار ، حدثنا علي
__________
(1) في جـ : "أي أنتم".
(2) في جـ : "بما تعملون".
(3) في جـ : "مما أمرتكم".
(4) في جـ : "خطاياهم".
(5) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(6) زيادة من جـ ، ط ، أ.
(7) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(8) في جـ ، ب : "على تركه".
(1/247)
بن
سليمان الكلبي ، حدثنا الأعمش ، عن أبي تَميمة الهُجَيمي ، عن جندب بن (1) عبد
الله ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مثل العالم
الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه" (2).
هذا حديث غريب من هذا الوجه.
حديث آخر : قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده : حدثنا وَكِيع ، حدثنا حماد بن سلمة
، عن علي بن زيد هو ابن جدعان ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "مررت ليلة أسري بي على قوم شفاههم تُقْرَض
بمقاريض (3) من نار. قال : قلت : من هؤلاء ؟" قالوا : خطباء من أهل الدنيا
ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ، وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون ؟
(4).
ورواه عبد بن حميد في مسنده ، وتفسيره ، عن الحسن بن موسى ، عن حماد بن سلمة به.
ورواه ابن مردويه في تفسيره ، من حديث يونس بن محمد المؤدب ، والحجاج بن مِنْهَال
، كلاهما عن حماد بن سلمة ، به.
وكذا رواه يزيد بن هارون ، عن حماد بن سلمة به.
ثم قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن هارون ،
حدثنا إسحاق بن إبراهيم التستري ببلخ ، حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا عمر بن قيس ،
عن علي بن زيد (5) عن ثمامة ، عن أنس ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول : "مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار.
قلت : من هؤلاء يا جبريل ؟" قال : هؤلاء خطباء أمتك ، الذين يأمرون الناس
بالبر وينسون أنفسهم.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه - أيضًا - من حديث هشام
الدَّستَوائيّ ، عن المغيرة - يعني ابن حبيب - ختن مالك بن دينار ، عن مالك بن
دينار ، عن ثمامة ، عن أنس بن مالك ، قال : لما عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم
مرّ بقوم تُقْرض شفاههم (6) ، فقال : "يا جبريل ، من هؤلاء ؟" قال :
هؤلاء الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ؛ أفلا يعقلون ؟ (7).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا الأعمش ، عن أبي وائل ،
قال : قيل لأسامة - وأنا رديفه - : ألا تكلم عثمان ؟ فقال : إنكم تُرَون أني لا
أكلمه إلا أسمعكم. إني لا أكلمه فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمرًا - لا أحب
أن أكون أول من افتتحه ، والله لا أقول لرجل
__________
(1) في جـ : "عن".
(2) المعجم الكبير (2/165) وقال الهيثمي في المجمع (1/185) : "رجاله
موثقون".
(3) في جـ ، ب : "تقرض شفاههم بمقاريض".
(4) المسند (3/120).
(5) في أ : "بن يزيد".
(6) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "تقرض من شفاههم".
(7) صحيح ابن حبان برقم (35) "موارد" وتفسير ابن أبي حاتم (1/151).
(1/248)
إنك
خير الناس. وإن كان عليّ أميرًا - بعد أن (1) سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول ، قالوا : وما سمعته يقول ؟ قال : سمعته يقول : "يُجَاء بالرجل يوم
القيامة فيلقى في النار ، فتندلق به أقتابه (2) ، فيدور بها في النار كما يدور
الحمار برحاه ، فيطيف به أهلُ النار ، فيقولون : يا فلان ما أصابك ؟ ألم تكن
تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ،
وأنهاكم عن المنكر وآتيه" (3).
ورواه البخاري ومسلم ، من حديث سليمان بن مِهْرَان الأعمش ، به نحوه (4).
[وقال أحمد : حدثنا سيار بن حاتم ، حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس ، قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله يعافي الأميين يوم القيامة ما
لا يعافي العلماء" (5). وقد ورد في بعض الآثار : أنه يغفر للجاهل سبعين مرة
حتى يغفر للعالم مرة واحدة ، ليس من يعلم كمن لا يعلم. وقال تعالى : { قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ
أُولُو الألْبَابِ } [الزمر : 9]. وروى ابن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن أناسًا من أهل الجنة يطلعون على أناس من
أهل النار فيقولون : بم دخلتم النار ؟ فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم
، فيقولون : إنا كنا نقول ولا نفعل" (6) رواه من حديث الطبراني عن أحمد بن
يحيى بن حيان (7) الرقي عن زهير بن عباد الرواسي عن أبي بكر الداهري (8) عن عبد
الله بن حكيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن الوليد بن عقبة فذكره] (9).
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : إنه جاءه رجل ، فقال : يا ابن عباس ، إني أريد أن آمر
بالمعروف وأنهى عن المنكر ، قال : أو بلغت ذلك ؟ قال : أرجو. قال : إن لم تخش أن
تفْتَضَح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل. قال : وما هن ؟ قال : قوله عز وجل (10) {
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } أحكمت هذه ؟ قال :
لا. قال : فالحرف الثاني. قال : قوله تعالى : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لا
تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ }
[الصف : 2 ، 3] أحكمت هذه ؟ قال : لا. قال : فالحرفَ الثالث. قال : قول العبد
الصالح شعيب ، عليه السلام : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا
أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } [هود : 88] أحكمت هذه الآية ؟ قال : لا. قال : فابدأ بنفسك.
رواه ابن مردويه في تفسيره.
وقال الطبراني (11) حدثنا عبدان بن أحمد ، حدثنا زيد بن الحريش ، حدثنا عبد الله
بن خِرَاش ، عن العوام بن حوشب ، عن [سعيد بن] (12) المسيب بن رافع ، عن ابن عمر ،
قال : قال رسول الله
__________
(1) في جـ ، ب : "إذ".
(2) في جـ : "شفتاه".
(3) المسند (5/205).
(4) صحيح البخاري برقم (3267) وصحيح مسلم برقم (2989).
(5) ورواه أبو نعيم في الحلية (2/7) من طريق الإمام أحمد وقال : "هذا حديث
غريب تفرد به سيار عن جعفر ، ولم نكتبه إلا من حديث أحمد بن حنبل". وقال عبد
الله بن أحمد : "هذا حديث منكر حدثني به أبي ، وما حدثني به إلا مرة".
(6) انظر : مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (26/336).
(7) في جـ : "حماد" ، والصواب ما أثبتناه.
(8) في جـ : "الزاهري" ، والصواب ما أثبتناه.
(9) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(10) في جـ : "قوله تعالى".
(11) في أ : "القرطبي".
(12) زيادة من ط ، أ ، و.
(1/249)
صلى
الله عليه وسلم : "من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في ظل
سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال ، أو دعا إليه" (1).
إسناده فيه ضعف ، وقال إبراهيم النخعي : إني لأكره القصص لثلاث آيات قوله تعالى :
{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } وقوله { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا
عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } [الصف : 2 ، 3] وقوله إخبارا
عن شعيب : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ
أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [هود : 88].
وما أحسن ما قال مسلم بن عمرو :
ما أقبح التزهيد من واعظ... يزهد الناس ولا يزهد...
لو كان في تزهيده صادقا... أضحى وأمسى بيته المسجد...
إن رفض الناس فما باله... يستفتح الناس ويسترقد...
الرزق مقسوم على من ترى... يسقى له الأبيض والأسود...
وقال بعضهم : جلس أبو عثمان الحيري الزاهد يوما على مجلس التذكير فأطال السكوت ،
ثم أنشأ يقول :
وغير تقي يأمر الناس بالتقى... طبيب يداوي والطبيب مريض...
قال : فضج الناس بالبكاء. وقال أبو العتاهية الشاعر :
وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى... وريح الخطايا من شأنك تقطع...
وقال أبو الأسود الدؤلي :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله... عار عليك إذا فعلت عظيم...
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم...
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى... بالقول منك وينفع التعليم...
وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد بن زيد البصري العابد الواعظ قال :
دعوت الله أن يريني رفيقي في الجنة ، فقيل لي في المنام : هي امرأة في الكوفة يقال
لها : ميمونة السوداء ، فقصدت الكوفة لأراها. فقيل لي : هي ترعى غنما بواد هناك ،
فجئت إليها فإذا هي قائمة تصلي والغنم ترعى
__________
(1) ورواه أبو نعيم في الحلية (2/7) من طريق الطبراني ، وقال الهيثمي في المجمع
(7/276) : "فيه عبد الله بن خراش وثقه ابن حبان وقال : يخطئ ، وضعفه الجمهور
، وبقية رجاله ثقات".
(1/250)
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
حولها
وبينهن الذئاب لا ينفرن منه ، ولا يسطو الذئاب عليهن. فلما سلمت قالت : يا ابن زيد
، ليس الموعد هنا إنما الموعد ثَمّ ، فسألتها عن شأن الذئاب والغنم. فقالت : إني
أصلحت ما بيني وبين سيدي فأصلح ما بين الذئاب والغنم. فقلت لها : عظيني. فقالت :
يا عجبا من واعظ يوعظ ، ثم قالت : يا ابن زيد ، إنك لو وضعت موازين القسط على
جوارحك لخبرتك بمكتوم مكنون ما فيها ، يا ابن زيد ، إنه بلغني ما من عبد أعطى من
الدنيا شيئا فابتغى إليه تائبا إلا سلبه الله حب الخلوة وبدله بَعْدَ القرب البعد
وبعد الأنس الوحشة ثم أنشأت تقول :
يا واعظًا قام لا حساب... يزجر قوما عن الذنوب...
تنه عنه وأنت السقيم حقا... هذا من المنكر العجيب...
تنه عن الغي والتمادي... وأنت في النهي كالمريب...
لو كنت أصلحت قبل هذا... غيك أو تبت من قريب...
كان لما قلت يا حبيبي... موضع صدق من القلوب (1)
{ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى
الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) }
يقول تعالى (2) آمرًا عبيده ، فيما يؤمّلون من خير الدنيا والآخرة ، بالاستعانة
بالصبر والصلاة ، كما قال مقاتل بن حَيَّان في تفسير هذه الآية : استعينوا على طلب
الآخرة بالصبر على الفرائض ، والصلاة.
فأما الصبر فقيل : إنه الصيام ، نص عليه مجاهد.
[قال القرطبي وغيره : ولهذا سمي رمضان شهر الصبر كما نطق به الحديث] (3).
وقال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن جُرَيّ بن كُليب ، عن رجل من بني سليم ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الصوم نصف الصبر".
وقيل : المراد بالصبر الكف عن المعاصي ؛ ولهذا قرنه بأداء العبادات وأعلاها : فعل
الصلاة.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن حمزة بن إسماعيل ، حدثنا إسحاق
بن سليمان ، عن أبي سِنان ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، قال : الصبر صبران
: صبر عند المصيبة حسن ، وأحسن منه الصبر عن محارم الله.
__________
(1) انظر : مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (15/253).
(2) في جـ : "تعالى مخبرا".
(3) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(1/251)
[قال]
(1) وروي عن الحسن البصري نحو قول عمر.
وقال ابن المبارك عن ابن لَهِيعة عن مالك بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، قال :
الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب فيه ، واحتسابه عند الله ورجاء ثوابه ، وقد يجزع
الرجل وهو يتجلد ، لا يرى (2) منه إلا الصبر.
وقال أبو العالية في قوله : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } على مرضاة
الله ، واعلموا أنها من طاعة الله.
وأما قوله : { وَالصَّلاةِ } فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر ، كما
قال تعالى : { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ
إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ
أَكْبَرُ } الآية [العنكبوت : 45].
وقال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن
عكرمة بن عمار ، عن محمد بن عبد الله الدؤلي ، قال : قال عبد العزيز أخو حذيفة ،
قال حذيفة ، يعني ابن اليمان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر
صلى. ورواه أبو داود [عن محمد بن عيسى عن يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار كما
سيأتي (3) ] (4).
وقد رواه ابن جرير ، من حديث ابن جُرَيج ، عن عِكْرِمة بن عمار ، عن محمد بن عبيد
بن أبي قدامة ، عن عبد العزيز بن اليمان ، عن حذيفة ، قال : كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة (5).
[ورواه بعضهم عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة ؛ ويقال : أخي حذيفة مرسلا عن النبي صلى
الله عليه وسلم ؛ وقال محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة : حدثنا سهل بن عثمان
أبو مسعود (6) العسكري ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال : قال عكرمة بن
عمار : قال محمد بن عبد الله الدؤلي : قال عبد العزيز : قال حذيفة : رجعت إلى
النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي ، وكان إذا حزبه
أمر صلى (7). وحدثنا عبيد الله بن معاذ ، حدثنا أبي ، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمع
حارثة بن مضرب سمع عليا يقول : لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول
الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح (8) ] (9).
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، ب.
(2) في جـ : "فلا يرى".
(3) المسند (5/388) وسنن أبي داود برقم (1319).
(4) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(5) المسند (5/26).
(6) في ط : "ابن مسعود" ، والصواب ما أثبتناه.
(7) تعظيم قدر الصلاة برقم (212).
(8) تعظيم قدر الصلاة برقم (213).
(9) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(1/252)
قال
ابن جرير : وروي عنه ، عليه الصلاة والسلام ، أنه مر بأبي هريرة ، وهو منبطح على
بطنه ، فقال له : "اشكنب درد" [قال : نعم] (1) قال : "قم فصل فإن
الصلاة شفاء" (2) [ومعناه : أيوجعك بطنك ؟ قال : نعم] (3). قال ابن جرير :
وقد حدثنا محمد بن العلاء ويعقوب بن إبراهيم ، قالا حدثنا ابن عُلَيَّة ، حدثنا
عُيَينة بن عبد الرحمن ، عن أبيه : أن ابن عباس نُعي إليه أخوه قُثَم وهو في سفر ،
فاسترجع ، ثم تنحَّى عن الطريق ، فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس ، ثم قام
يمشي إلى راحلته وهو يقول : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا
لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ } (4).
وقال سُنَيد ، عن حجاج ، عن ابن جرير : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ
} قال : إنهما مَعُونتان على رحمة الله.
والضمير في قوله : { وَإِنَّهَا } عائد إلى الصلاة ، نص عليه مجاهد ، واختاره ابن
جرير.
ويحتمل أن يكون عائدا على ما يدل عليه الكلام ، وهو الوصية بذلك ، كقوله تعالى في
قصة قارون : { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ
خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ }
[القصص : 80] وقال تعالى : { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ
كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا
يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [فصلت : 34 ، 35]أي : وما يلقى هذه الوصية
إلا الذين صبروا { وَمَا يُلَقَّاهَا } أي : يؤتاها ويلهمها { إِلا ذُو حَظٍّ
عَظِيمٍ }
وعلى كل تقدير ، فقوله تعالى : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } أي : مشقة ثقيلة إلا
على الخاشعين. قال ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني المصدّقين بما أنزل الله.
وقال مجاهد : المؤمنين حقا. وقال أبو العالية : إلا على الخاشعين الخائفين ، وقال
مقاتل بن حيان : إلا على الخاشعين يعني به المتواضعين. وقال الضحاك : { وَإِنَّهَا
لَكَبِيرَةٌ } قال : إنها لثقيلة إلا على الخاضعين (5) لطاعته ، الخائفين سَطَواته
، المصدقين بوعده ووعيده.
وهذا يشبه ما جاء في الحديث : "لقد سألت عن عظيم ، وإنه ليسير على من يسره
الله عليه" (6).
وقال ابن جرير : معنى الآية : واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب ، بحبس أنفسكم
على طاعة الله وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر ، المقربة من رضا الله ،
العظيمة إقامتها إلا على المتواضعين لله المستكينين لطاعته المتذللين من مخافته.
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(2) تفسير الطبري (2/13) وانظر ما كتبه المحقق الفاضل عن معنى : "اشكنب
درد".
(3) زيادة من جـ ، ط ، ب.
(4) تفسير الطبري (2/14).
(5) في جـ : "الخاشعين".
(6) رواه أحمد في المسند (5/231) من حديث معاذ رضي الله عنه.
(1/253)
هكذا
قال ، والظاهر أن الآية وإن كانت خطابًا في سياق إنذار بني إسرائيل ، فإنهم لم
يقصدوا بها على سبيل التخصيص ، وإنما هي عامة لهم ، ولغيرهم. والله أعلم.
وقوله تعالى : { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } هذا من تمام الكلام الذي قبله ، أي : وإن الصلاة أو
الوَصَاة (1) لثقيلة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ، أي : [يعلمون
أنهم] (2) محشورون إليه يوم القيامة ، معروضون عليه ، وأنهم إليه راجعون ، أي :
أمورهم راجعة إلى مشيئته ، يحكم فيها ما يشاء بعدله ، فلهذا لما أيقنوا بالمعاد
والجزاء سَهُل عليهم فعلُ الطاعات وترك المنكرات.
فأما قوله : { يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ } قال (3) ابن جرير ، رحمه
الله : العرب قد تسمي اليقين ظنا ، والشك ظنًا ، نظير تسميتهم الظلمة سُدْفة ،
والضياء سُدفة ، والمغيث صارخا ، والمستغيث صارخًا ، وما أشبه ذلك من الأسماء التي
يسمى بها الشيء وضدّه ، كما قال دُرَيد بن الصِّمَّة :
فقلت لهم ظُنُّوا بألفي مُدَجَّجٍ... سَرَاتُهُم في الفَارسِيِّ المُسَرَّدِ (4)
يعني بذلك تيقنوا بألفي مدجج يأتيكم ، وقال عَمِيرة بن طارق :
بِأنْ يَعْتَزُوا (5) قومي وأقعُدَ فيكم... وأجعلَ مني الظنَّ غيبا مرجمّا (6)
يعني : وأجعل مني اليقين غيبا مرجما ، قال : والشواهد من أشعار العرب وكلامها على
أن الظن في معنى اليقين ، أكثر من أن تحصر ، وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية ،
ومنه قول الله تعالى : { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ
مُوَاقِعُوهَا } [الكهف : 53].
ثم قال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا سفيان ، عن جابر ،
عن مجاهد ، قال : كل ظن في القرآن يقين ، أي : ظننت وظَنوا.
وحدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا أبو داود الحَفَرِيّ ، عن سفيان عن ابن أبي
نَجيح ، عن مجاهد ، قال : كل ظن في القرآن فهو علم. وهذا سند صحيح.
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله تعالى : {
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ } قال : الظن هاهنا يقين.
قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد ، والسدي ، والربيع بن أنس ، وقتادة نحو قول أبي
العالية.
__________
(1) في أ : "الوصية".
(2) زيادة من جـ ، ب ، أ.
(3) في طـ ، ب : "فقال".
(4) البيت في تفسير الطبري (2/18).
(5) في جـ : "نصروا" ، وفي ب ، أ : "تعيروا".
(6) البيت في تفسير الطبري (2/18).
(1/254)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)
وقال
سُنَيد ، عن حجاج ، عن ابن جريج : { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو
رَبِّهِمْ } علموا أنهم ملاقو ربهم ، كقوله : { إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ
حِسَابِيَهْ } [الحاقة : 20] يقول : علمت.
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
قلت : وفي الصحيح : "أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : ألم أزوجك ، ألم
أكرمك ، ألم أسخر لك الخيل والإبل ، وأذرك ترأس وتربع ؟ فيقول : بلى. فيقول الله
تعالى : أفظننت أنك ملاقي ؟ فيقول : لا. فيقول الله : اليوم أنساك كما
نسيتني". وسيأتي مبسوطا عند قوله : { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة
: 67] إن شاء الله ، والله تعالى أعلم.
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ
وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) }
يذكرهم تعالى سَالفَ نعمه على آبائهم وأسلافهم ، وما كان فَضَّلهم به من إرسال
الرسل منهم وإنزال الكتب عليهم وعلى سائر الأمم من أهل زمانهم ، كما قال تعالى : {
وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } [الدخان : 32] ، وقال
تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا
لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } [المائدة : 20].
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله تعالى : {
وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } قال : بما أعطوا من الملك والرسل
والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان ؛ فإن لكل زمان عالما.
ورُوي عن مجاهد ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، وإسماعيل بن أبي خالد نحوُ ذلك ، ويجب
الحمل على هذا ؛ لأن هذه الأمة أفضل منهم ؛ لقوله تعالى خطابا لهذه الأمة : {
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ
الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } [آل عمران : 110] وفي المسانيد والسنن (1) عن
معاوية بن حَيْدَة القُشَيري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"أنتم تُوفُونَ سبعين أمة ، أنتم خيرها وأكرمها على الله". والأحاديث في
هذا كثيرة تذكر عند قوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
}
[وقيل : المراد تفضيل بنوع ما من الفضل على سائر الناس ، ولا يلزم تفضيلهم مطلقًا
، حكاه فخر الدين الرازي وفيه نظر. وقيل : إنهم فضلوا على سائر الأمم لاشتمال
أمتهم على الأنبياء منهم ، حكاه القرطبي في تفسيره ، وفيه نظر ؛ لأن {
الْعَالَمِينَ } عام يشتمل من قبلهم ومن بعدهم من الأنبياء ، فإبراهيم الخليل
قبلهم وهو أفضل من سائر أنبيائهم ، ومحمد بعدهم وهو أفضل من جميع الخلق وسيد ولد
آدم في الدنيا والآخرة ، صلوات الله وسلامه عليه وعلى إخوانه من الأنبياء
والمرسلين] (2).
__________
(1) في جـ ، أ ، و : "وفي السنن والمسانيد".
(2) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(1/255)
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
{
وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا
شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) }
لما ذكرهم [الله] (1) تعالى بنعمه أولا عطف على ذلك التحذير من حُلُول نقمه بهم
يوم القيامة فقال : { وَاتَّقُوا يَوْمًا } يعني : يوم القيامة { لا تَجْزِي
نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا } أي : لا يغني أحد عن أحد كما قال : { وَلا تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [الأنعام : 164] ، وقال : { لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ
يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [عبس : 37 ] ، وقال { يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا
مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا } [لقمان : 33] ، فهذه (2) أبلغ
المقامات : أن كلا من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئا ، وقوله تعالى :
{ وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } يعني عن الكافرين ، كما قال : { فَمَا
تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } [المدثر : 48] ، وكما قال عن أهل النار :
{ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [الشعراء : 110 ، 111] ،
وقوله : { وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } أي : لا يقبل منها فداء ، كما قال تعالى
: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ
أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } [آل عمران : 91 ] وقال
: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا
وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا
تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [المائدة : 36 ] وقال تعالى : {
وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا } [الأنعام : 70 ] ، وقال : {
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } الآية
[الحديد : 15] ، فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به ،
ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه ، فإنه لا ينفعهم قرابة قريب ولا شفاعة ذي
جاه ، ولا يقبل منهم فداء ، ولو بملء الأرض ذهبا ، كما قال تعالى : { مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ } [البقرة :
254] ، وقال { لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ } [إبراهيم : 31 ].
[وقال سنيد : حدثني حجاج ، حدثني ابن جريج ، قال : قال مجاهد : قال ابن عباس : {
وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } قال : بدل ، والبدل : الفدية ، وقال السدي : أما
عدل فيعدلها من العذاب يقول : لو جاءت بملء الأرض ذهبا تفتدي به ما تقبل منها ،
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، ] (3). وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن
أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : { وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } يعني : فداء.
قال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي مالك ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والربيع
بن أنس ، نحو ذلك.
وقال عبد الرزاق : أنبأنا الثوري ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه عن
علي ، رضي الله عنه ، في حديث طويل ، قال : والصرف والعدل : التطوع والفريضة.
وكذا قال الوليد بن مسلم ، عن عثمان بن أبي العاتكة (4) ، عن عمير بن هانئ.
__________
(1) زيادة من و.
(2) في جـ ، ط ، ب : "فهذا".
(3) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(4) في جـ ، أ : "العالية".
(1/256)
وهذا
القول غريب هنا ، والقول الأول أظهر في تفسير هذه الآية ، وقد ورد حديث يقويه ، وهو
ما قال ابن جرير : حدثني نَجِيح بن إبراهيم ، حدثنا علي بن حكيم ، حدثنا حميد بن
عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن عَمْرو بن قيس الملائي (1) ، عن رجل من بني أمية - من
أهل الشام أحسن عليه الثناء - قال : قيل : يا رسول الله ، ما العدل ؟ قال :
"العدل الفدية" (2).
وقوله تعالى : { وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ } أي : ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم
من عذاب الله ، كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة ولا ذو جاه ولا يقبل منهم
فداء. هذا كله من جانب التلطف ، ولا لهم ناصر من أنفسهم ، ولا من غيرهم ، كما قال
: { فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ } [الطارق : 10 ] أي : إنه تعالى لا
يقبل فيمن كفر به فِدْيَة ولا شفاعة ، ولا ينقذ أحدا من عذابه منقذ ، ولا يجيره
منه أحد ، كما قال تعالى : { وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ } [المؤمنون :
88 ]. وقال { فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ
وَثَاقَهُ أَحَدٌ } [الفجر : 25 26 ] ، وقال { مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ
هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ } [الصافات : 25 ، 26 ] ، وقال { فَلَوْلا
نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ
ضَلُّوا عَنْهُمْ } الآية [الأحقاف : 28].
وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله : { مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ } ما لكم اليوم
لا تمانعون منا ؟ هيهات ليس ذلك لكم اليوم.
قال (3) ابن جرير : وتأويل قوله : { وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ } يعني : أنهم يومئذ لا
ينصرهم ناصر ، كما لا يشفع لهم شافع ، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية ، بَطَلت هنالك
(4) المحاباة واضمحلت الرَّشى والشفاعات ، وارتفع من القوم التعاون والتناصر ،
وصار الحكم إلى عدل (5) الجبار الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء ، فيجزي
بالسيئة مثلها وبالحسنة (6) أضعافها وذلك نظير قوله تعالى : { وَقِفُوهُمْ
إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ* مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ* بَلْ هُمُ الْيَوْمَ
مُسْتَسْلِمُونَ } [ الصافات : 24 - 26 ]
__________
(1) في جـ : "الملا".
(2) تفسير الطبري (2/34).
(3) في جـ : "وقال".
(4) في جـ : "هنا".
(5) في جـ ، ط ، ب : "العدل".
(6) في جـ : "فيجزي بالسيئة مثلها والحسنة".
(1/257)
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
{
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ
يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ
مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ
وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) }
يقول تعالى (1) واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم "إِذْ نَجَّيْنَاكُم
مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ" أي :
__________
(1) في جـ : "يقول الله تبارك وتعالى".
(1/257)
خلصتكم
منهم وأنقذتكم من أيديهم صحبة (1) موسى ، عليه السلام ، وقد كانوا يسومونكم ، أي :
يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب. وذلك أن فرعون - لعنه الله - كان قد رأى
رؤيا هالته ، رأى نارا خرجت من بيت المقدس فدخلت دور القبط ببلاد مصر ، إلا بيوت
بني إسرائيل ، مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل ، ويقال : بل
تحدث سماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم ، يكون لهم به دولة ورفعة
، وهكذا جاء في حديث الفُتُون ، كما سيأتي في موضعه [في سورة طه] (2) إن شاء الله ،
فعند ذلك أمر فرعون - لعنه الله - بقتل كل [ذي] (3) ذَكر يولد بعد ذلك من بني
إسرائيل ، وأن تترك البنات ، وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأراذلها.
وهاهنا فسر العذاب بذبح الأبناء ، وفي سورة إبراهيم عطف عليه ، كما قال : {
يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ويُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ
نِسَاءَكُمْ } [إبراهيم ] وسيأتي تفسير (4) ذلك في أول سورة القصص ، إن شاء الله
تعالى ، وبه الثقة والمعونة والتأييد.
ومعنى { يَسُومُونَكُمْ } أي : يولونكم ، قاله أبو عبيدة ، كما يقال سامه خطة خسف
إذا أولاه إياها ، قال عمرو بن كلثوم :
إذا ما الملك سام الناس خسفا... أبينا أن نقر الخسف فينا...
وقيل : معناه : يديمون عذابكم ، كما يقال : سائمة الغنم من إدامتها الرعي ، نقله
القرطبي ، وإنما قال هاهنا : { يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ
نِسَاءَكُمْ } ليكون ذلك تفسيرا للنعمة عليهم في قوله : { يَسُومُونَكُمْ سُوءَ
الْعَذَابِ } ثم فسره بهذا لقوله هاهنا { اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ } وأما في سورة إبراهيم فلما قال : { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ
} [إبراهيم : 5] ، أي : بأياديه ونعمه عليهم فناسب أن يقول هناك : {
يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ويُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ
نِسَاءَكُمْ } فعطف عليه الذبح ليدل على تعدد النعم والأيادي.
وفرعون علم على كل مَنْ مَلَكَ مصر ، كافرًا من العماليق (5) وغيرهم ، كما أن قيصر
علم على كل من ملك الروم مع الشام كافرًا ، وكسرى لكل من ملك الفرس ، وتُبَّع لمن
ملك اليمن كافرا [والنجاشي لمن ملك الحبشة ، وبطليموس لمن ملك الهند] (6) ويقال :
كان اسم فرعون الذي كان في زمن موسى ، عليه السلام ، الوليد بن مصعب بن الريان ،
وقيل : مصعب بن الريان ، أيا ما كان فعليه لعنة الله ، [وكان من سلالة عمليق بن
داود بن إرم بن سام بن نوح ، وكنيته أبو مرة ، وأصله فارسي من استخر] (7).
__________
(1) في جـ : "بصحبة".
(2) زيادة من جـ ، ط.
(3) زيادة من جـ.
(4) في جـ ، ط : "تفصيل".
(5) في جـ : "العمالقة".
(6) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(7) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(1/258)
وقوله
تعالى : { وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } قال ابن جرير : وفي
الذي فعلنا بكم من إنجائنا إياكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون بلاء لكم من ربكم
عظيم. أي : نعمة عظيمة عليكم في ذلك (1).
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس [في] (2) قوله : { بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ
عَظِيمٌ } قال : نعمة. وقال مجاهد : { بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } قال : نعمة
من ربكم عظيمة. وكذا قال أبو العالية ، وأبو مالك ، والسدي ، وغيرهم.
وأصل البلاء : الاختبار ، وقد يكون بالخير والشر ، كما قال تعالى : {
وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } [الأنبياء : 25] ، وقال : {
وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ } [الأعراف : 168].
قال ابن جرير : وأكثر ما يقال في الشر : بلوته أبلوه بَلاءً ، وفي الخير : أبليه
إبلاء وبلاء ، قال زهير بن أبي سلمى :
جزى الله بالإحسان ما فَعَلا بكُم... وأبلاهما خَيْرَ البلاءِ الذي يَبْلُو (3)
قال : فجمع بين اللغتين ؛ لأنه أراد فأنعم الله عليهما خير النعم التي يَخْتَبر
بها عباده.
[وقيل : المراد بقوله : { وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ } إشارة إلى ما كانوا فيه من
العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النساء ؛ قال القرطبي : وهذا قول الجمهور
ولفظه بعدما حكى القول الأول ، ثم قال : وقال الجمهور : الإشارة إلى الذبح ونحوه ،
والبلاء هاهنا في الشر ، والمعنى في الذبح مكروه وامتحان] (4).
وقوله تعالى : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ
وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } معناه : وبعد أن أنقذناكم
من آل فرعون ، وخرجتم مع موسى ، عليه السلام ، خرج (5) فرعون في طلبكم ، ففرقنا
بكم البحر ، كما أخبر تعالى عن ذلك مفصلا (6) كما سيأتي في مواضعه (7) ومن أبسطها
في سورة الشعراء إن شاء الله.
{ فَأَنْجَيْنَاكُمْ } أي : خلصناكم منهم ، وحجزنا بينكم وبينهم ، وأغرقناهم وأنتم
تنظرون ؛ ليكون ذلك أشفى لصدوركم ، وأبلغ في إهانة عدوكم.
قال (8) عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمر ، عن أبي إسحاق الهَمْداني ، عن عمرو بن ميمون
الأودي في قوله تعالى : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ } إلى قوله : {
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } قال : لما خرج موسى ببني إسرائيل ، بلغ ذلك فرعون فقال :
لا تتبعوهم حتى تصيح الديكة. قال : فوالله ما صاح ليلتئذ ديك
__________
(1) في جـ : "أي نعمة عليكم عظيمة في ذلك".
(2) زيادة من جـ ، أ.
(3) البيت في تفسير الطبري (2/49).
(4) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(5) في جـ : "وخرج".
(6) في جـ : "مفصلا عن ذلك".
(7) في جـ : "مفصلا".
(8) في جـ ، ط : "وقال".
(1/259)
حتى
أصبحوا ؛ فدعا بشاة فَذُبحت ، ثم قال : لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إليَّ ستمائة
ألف من القبط. فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط ثم سار ،
فلما أتى موسى البحر ، قال له رجل من أصحابه ، يقال له : يوشع بن نون : أين أمَرَ
ربك ؟ قال : أمامك ، يشير إلى البحر. فأقحم يوشع فرسَه في البحر حتى بلغ الغَمْرَ
، فذهب به الغمر ، ثم رجع. فقال : أين أمَرَ ربك يا موسى ؟ فوالله ما كذبت ولا
كُذبت (1). فعل ذلك ثلاث مرات ، ثم أوحى الله إلى موسى : { أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ
الْبَحْرَ } فضربه { فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ }
[الشعراء : 63 ] ، يقول : مثل الجبل. ثم سار موسى ومن معه وأتبعهم فرعون في طريقهم
، حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم فلذلك قال : { وَأَغْرَقْنَا آلَ
فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } (2).
وكذلك قال غير واحد من السلف ، كما سيأتي بيانه في موضعه (3). وقد ورد أن هذا اليوم
كان يوم عاشوراء ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا عفان ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا أيوب ، عن عبد الله بن سعيد بن جبير ، عن
أبيه ، عن ابن عباس ، قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود
يصومون يوم عاشوراء ، فقال : "ما هذا اليوم الذي تصومون ؟". قالوا : هذا
يوم صالح ، هذا يوم نجى الله عز وجل فيه بني إسرائيل من عدوهم (4) ، فصامه موسى ،
عليه السلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنا أحق بموسى
منكم". فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر بصومه.
وروى هذا الحديث البخاري ، ومسلم ، والنسائي ، وابن ماجه من طرق ، عن أيوب
السختياني ، به (5) نحو ما تقدم.
وقال أبو يعلى الموصلي : حدثنا أبو الربيع ، حدثنا سلام - يعني ابن سليم - عن زيد
العَمِّيّ عن يزيد الرقاشي عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " فلق
الله البحر لبني إسرائيل يوم عاشوراء " (6).
وهذا ضعيف من هذا الوجه فإن زيدا العَمِّيّ فيه ضعف ، وشيخه يزيد الرقاشي أضعف
منه.
__________
(1) في جـ : "ولا كذبت" ، وفي ط : "وكذبت".
(2) تفسير عبد الرزاق (1/67).
(3) في أ : "كما سيأتي في موضعه إن شاء الله".
(4) في جـ : "من الغرق ، وفي ط : "من غرقهم".
(5) المسند (1/291) وصحيح البخاري برقم (2004) وصحيح مسلم برقم (1130).
(6) مسند أبي يعلى (7/133).
(1/260)
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
{
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ
بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) }
يقول تعالى : واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم ، لَمَّا عبدتم العجل بعد ذهاب
موسى لميقات ربه ، عند انقضاء أمَد المواعدة ، وكانت أربعين يومًا ، وهي المذكورة
في الأعراف ، في قوله تعالى : { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً
وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ } [الأعراف : 142] قيل : إنها ذو القعدة بكماله وعشر من
ذي الحجة ، وكان ذلك بعد خلاصهم من قوم فرعون وإنجائهم من البحر.
{ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
}
وقوله : { وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } يعني : التوراة { وَالْفُرْقَانَ }
وهو ما يَفْرق بين الحق والباطل ، والهدى والضلال { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }
وكان ذلك - أيضا - بعد خروجهم من البحر ، كما دل عليه سياق الكلام في سورة
الأعراف. ولقوله (1) تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ
مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [القصص : 43].
وقيل : الواو زائدة ، والمعنى : ولقد آتينا موسى الكتاب والفرقان وهذا غريب ، وقيل
: عطف عليه وإن كان المعنى واحدًا ، كما في قول الشاعر :
وقدمت الأديم لراقشيه... فألفى قولها كذبًا ومينا...
وقال الآخر :
ألا حبذا هند وأرض بها هند... وهند أتى من دونها النأي والبعد...
فالكذب هو المين ، والنأي : هو البعد. وقال عنترة :
حييت من طلل تقادم عهده... أقوى وأقفر بعد أم الهيثم...
فعطف الإقفار على الإقواء وهو هو.
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ
بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) }.
هذه صفَةُ توبته تعالى على بني إسرائيل من عبادة العجل ، قال الحسن البصري ، رحمه
الله ، في قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ
ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ } فقال : ذلك حين وقع في
قلوبهم من شأن عبادتهم العجل ما وقع حين قال الله تعالى : { وَلَمَّا سُقِطَ فِي
أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا
رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا } الآية [الأعراف : 149].
قال : فذلك حين يقول موسى : { يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ
بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ }
وقال أبو العالية ، وسعيد بن جبير ، والربيع بن أنس : { فَتُوبُوا إِلَى
بَارِئِكُمْ } أي إلى خالقكم.
قلت : وفي قوله هاهنا : { إِلَى بَارِئِكُمْ } تنبيه على عظم جرمهم ، أي : فتوبوا
إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره.
__________
(1) في جـ : " "وكقوله".
(1/261)
وروى
النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم ، من حديث يزيد بن هارون ، عن الأصبغ بن زيد
الوراق عن القاسم بن أبي أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال الله
تعالى : إن توبتهم أن يقتل كل واحد منهم كل من لقي من ولد ووالد (1) فيقتله بالسيف
، ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن. فتاب أولئك الذين كانوا خفي على موسى وهارون ما
اطلع الله من ذنوبهم ، فاعترفوا بها ، وفعلوا ما أمروا به فغفر الله تعالى للقاتل
والمقتول. وهذا (2) قطعة من حديث الفُتُون ، وسيأتي في تفسير سورة طه بكماله ، إن
شاء الله (3).
وقال ابن جرير : حدثني عبد الكريم بن الهيثم ، حدثنا إبراهيم بن بَشَّار ، حدثنا
سفيان بن عيينة ، قال : قال أبو سعيد : عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال موسى
لقومه : { فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ
لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ } قال : أمر موسى قومه - من أمر ربه عز وجل - أن يقتلوا أنفسهم قال :
واحتبى الذين عبدوا (4) العجل فجلسوا ، وقام الذين لم يعكفوا على العجل ، فأخذوا
الخناجر بأيديهم ، وأصابتهم ظُلَّة (5) شديدة ، فجعل يقتل بعضهم بعضا ، فانجلت
الظلَّة (6) عنهم ، وقد أجلوا عن سبعين ألف قتيل ، كل من قتل منهم كانت له توبة ،
وكل من بقي كانت له توبة.
وقال ابن جُرَيْج : أخبرني القاسم بن أبي بَزَّة أنه سمع سعيد بن جبير ومجاهدًا
يقولان في قوله تعالى : { فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } قالا قام بعضهم إلى بعض
بالخناجر فقتل بعضهم بعضًا ، لا يحنو رجل على قريب ولا بعيد ، حتى ألوى موسى بثوبه
، فطرحوا ما بأيديهم ، فكُشِفَ عن سبعين ألف قتيل. وإن الله أوحى إلى موسى : أن
حَسْبي ، فقد اكتفيت ، فذلك حين ألوى موسى بثوبه ، [وروي عن علي رضي الله عنه نحو
ذلك] (7).
وقال قتادة : أمر القوم بشديد من الأمر ، فقاموا يتناحرون بالشفار يقتل بعضهم بعضا
، حتى بلغ الله فيهم نقمته ، فسقطت الشفار من أيديهم ، فأمسك عنهم القتل ، فجعل
لحيهم توبة ، وللمقتول شهادة.
وقال الحسن البصري : أصابتهم ظلمة حنْدس ، فقتل بعضهم بعضا [نقمة] (8) ثم انكشف
عنهم ، فجعل توبتهم في ذلك.
وقال السدي في قوله : { فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } قال : فاجتلد الذين عبدوه
والذين لم يعبدوه بالسيوف ، فكان من قُتِل من الفريقين شهيدًا ، حتى كثر القتل ،
حتى كادوا أن يهلكوا ، حتى قتل بينهم (9) سبعون ألفًا ، وحتى دعا موسى وهارون :
ربنا أهلكت بني إسرائيل ، ربنا البقيةَ البقيةَ ،
__________
(1) في ط : "أو والد".
(2) في جـ : "وهذه".
(3) وهو في سنن النسائي الكبرى برقم (11326) وسيأتي عند الموضع الذي أشار إليه
الحافظ ابن كثير.
(4) في جـ ، ط ، ب : "عكفوا".
(5) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "ظلمة".
(6) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "الظلمة".
(7) زيادة من جـ ، ط ، ب ، وفي أ ، و : "وروي عن علي رحمة الله عليه نحو
ذلك".
(8) زيادة من أ.
(9) في جـ ، ط ، ب : "منهم".
(1/262)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
فأمرهم
أن يضعوا السلاح وتاب عليهم ، فكان من قتل منهم من الفريقين شهيدًا ، ومن بقي
مُكَفّرا عنه ؛ فذلك قوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ }
وقال الزهري : لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها ، برزوا ومعهم موسى ، فاضطربوا
بالسيوف ، وتطاعنوا بالخناجر ، وموسى رافع يديه ، حتى إذا أفنوا بعضهم (1) ، قالوا
: يا نبي الله ، ادع الله لنا. وأخذوا بعضُديه يسندون يديه ، فلم يزل أمرهم على
ذلك ، حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيديهم ، بعضهم عن بعض ، فألقوا السلاح ، وحزن
موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم ، فأوحى الله ، جل ثناؤه ، إلى موسى : ما
يحزنك ؟ أما من قتل منكم فحي عندي يرزقون ، وأما من بقي فقد قبلت توبته. فسُرّ
بذلك موسى ، وبنو إسرائيل.
رواه ابن جرير بإسناد جيد عنه.
وقال ابن إسحاق : لما رجع موسى إلى قومه ، وأحرق العجل وذَرّاه في اليم ، خرج إلى
ربه بمن اختار من قومه ، فأخذتهم الصاعقة ، ثم بُعثوا ، فسأل موسى ربه التوبة لبني
إسرائيل من عبادة العجل. فقال : لا إلا أن يقتلوا أنفسهم قال : فبلغني أنهم قالوا
لموسى : نَصبر لأمر الله. فأمر موسى من لم يكن عبد العجل أن يَقْتُل من عبده.
فجلسوا بالأفنية وأصْلَتَ عليهم القومُ السيوف ، فجعلوا يقتلونهم ، وبكى موسى ،
وَبَهَش إليه النساء والصبيان ، يطلبون العفو عنهم ، فتاب الله عليهم ، وعفا عنهم
وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : لما رجع موسى إلى قومه ، وكان (2) سبعون (3)
رجلا قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه. فقال لهم موسى : انطلقوا إلى موعد
ربكم. فقالوا : يا موسى ، ما من (4) توبة ؟ قال : بلى ، { فَاقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ }
الآية ، فاخترطوا السيوف والجرزَة والخناجر والسكاكين. قال : وبعث عليهم ضبابة.
قال : فجعلوا يتلامسون بالأيدي ، ويقتل بعضهم بعضًا. قال : ويلقى الرجل أباه وأخاه
فيقتله ولا يدري. قال : ويتنادون [فيها] (5) : رحم الله عبدا صبر نفسه حتى يبلغ
الله رضاه ، قال : فقتلاهم شهداء ، وتيب على أحيائهم ، ثم قرأ : { فَتَابَ
عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا
__________
(1) في جـ ، أ : "بعضهم بعضا".
(2) في جـ : "وكانوا".
(3) في أ : "سبعين".
(4) في أ : "هل من".
(5) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ.
(1/263)
مُوسَى
لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) }
يقول تعالى : واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق ، إذ سألتم رؤيتي جهرة
عيانًا ، مما لا يستطاع (1) لكم ولا لأمثالكم ، كما قال ابن جريج ، قال ابن عباس
في هذه الآية : { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى
اللَّهَ جَهْرَةً } قال : علانية.
وكذا قال إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق ، عن أبي الحويرث ، عن ابن عباس ، أنه
قال في قول الله تعالى : { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } أي
علانية ، أي حتى نرى الله.
وقال قتادة ، والربيع بن أنس : { حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } أي عيانا.
وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس : هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه. قال
: فسمعوا كلاما ، فقالوا : { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً }
قال : فسمعوا صوتًا فصعقوا ، يقول : ماتوا.
وقال مروان بن الحكم ، فيما خطب به على منبر مكة : الصاعقة : صيحة من السماء.
وقال السدي في قوله : { فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ } الصاعقة : نار.
وقال عروة بن رويم في قوله : { وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } قال : فصعق بعضهم وبعض
ينظرون (2) ، ثم بعث هؤلاء وصعق هؤلاء.
وقال السدي : { فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ } فماتوا ، فقام موسى يبكي ويدعو الله
، ويقول : رب ، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم { لَوْ شِئْتَ
أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ
مِنَّا } [الأعراف : 155]. فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل
، ثم إن الله أحياهم فقاموا وعاشوا (3) رجلٌ رجلٌ ، ينظر (4) بعضهم إلى بعض : كيف
يحيون ؟ قال : فذلك قوله تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
وقال الربيع بن أنس : كان موتهم عقوبة لهم ، فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم.
وكذا قال قتادة.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن حميد ، حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ،
قال : لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل ، وقال لأخيه
وللسامري ما قال ، وحَرّق العجل وذَرّاه في اليم ، اختار موسى منهم سبعين (5) رجلا
الخَيِّرَ فالخير ، وقال : انطلقوا إلى الله وتوبوا إلى الله مما صنعتم وسلوه
التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم ، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى
طور سيناء (6) لميقات وقَّتَه له ربه ، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعِلْم ، فقال
له السبعون ، فيما ذكر لي ، حين صنعوا ما أمروا به وخرجوا للقاء الله ، قالوا : يا
موسى ، اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا ، فقال : أفعل. فلما دنا موسى من الجبل ،
وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله ، ودنا موسى فدخل فيه ، وقال للقوم : ادنوا.
وكان موسى إذا كلمه الله (7) وقع على جبهته نور ساطع ،
__________
(1) في جـ : "يتطلع".
(2) في جـ : "ينظر".
(3) في جـ ، ط ، ب : "وعاش".
(4) في جـ ، ط ، ب : "فنظر".
(5) في جـ : "سبعون" وهو خطأ.
(6) في جـ : "الطور سينين".
(7) في جـ : "كلمه ربه".
(1/264)
لا
يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه ، فضرب دونه (1) بالحجاب ، ودنا القوم حتى إذا
دخلوا في الغمام وقعوا سجودا (2) فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه : افعل ولا
تفعل. فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام ، فأقبل إليهم ، فقالوا لموسى :
{ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } فأخذتهم الرجفة (3) ، وهي
الصاعقة ، فماتوا جميعًا. وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ، ويقول : {
رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ [وَإِيَّايَ ] (4) } [الأعراف :
155] قد سفهوا ، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل السفهاء منا ؟ أي : إن
هذا لهم هلاك. اخترتُ منهم سبعين رجلا الخَيِّر فالخير ، أرجع إليهم وليس معي منهم
رجل واحد! فما الذي يصدقوني به ويأمنوني عليه بعد هذا ؟ { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ
} [الأعراف : 156] فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل ، ويطلب إليه حتى ردّ إليهم
أرواحهم ، وطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل ، فقال : لا ؛ إلا أن
يقتلوا أنفسهم (5).
هذا سياق محمد بن إسحاق.
وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير : لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل
وتاب الله عليهم بقتل بعضهم بعضا كما أمرهم به ، أمر الله موسى أن يأتيه في كل
أناس من بني إسرائيل ، يعتذرون إليه من عبادة العجل ، ووعدهم موسى ، فاختار موسى
قومه سبعين رجلا على عَينه ، ثم ذهب بهم ليعتذروا. وساق البقية.
[وهذا السياق يقتضي أن الخطاب توجه إلى بني إسرائيل في قوله : { وَإِذْ قُلْتُمْ
يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } والمراد السبعون
المختارون منهم ، ولم يحك كثير من المفسرين سواه ، وقد أغرب فخر الدين الرازي في
تفسيره حين حكى في قصة هؤلاء السبعين : أنهم بعد إحيائهم قالوا : يا موسى ، إنك لا
تطلب من الله شيئا إلا أعطاك ، فادعه أن يجعلنا أنبياء ، فدعا بذلك فأجاب الله
دعوته ، وهذا غريب جدا ، إذ لا يعرف في زمان موسى نبي سوى هارون ثم يوشع بن نون ،
وقد غلط أهل الكتاب أيضًا في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عز وجل ، فإن موسى الكليم
، عليه السلام ، قد سأل ذلك فمنع منه فكيف يناله هؤلاء السبعون ؟
القول الثاني في الآية] (6) قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الآية :
قال لهم موسى - لما رجع من عند ربه بالألواح ، قد كتب فيها التوراة ، فوجدهم
يعبدون العجل ، فأمرهم بقتل أنفسهم ، ففعلوا ، فتاب الله عليهم ، فقال : إن هذه
الألواح فيها كتاب الله ، فيه (7) أمركم الذي أمركم به ونهيكم الذي نهاكم عنه.
فقالوا : ومن يأخذه بقولك أنت ؟ لا والله حتى نرى الله جهرة ، حتى
__________
(1) في جـ : "دونهما".
(2) في جـ : "سجدا".
(3) في ط : "الصاعقة".
(4) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(5) تفسير الطبري (2/77).
(6) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(7) في جـ : "فيها كتاب الله الذي".
(1/265)
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
يطلع
الله علينا فيقول : هذا كتابي فخذوه ، فما له لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى!
وقرأ قول الله : { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } قال :
فجاءت غضبة من الله ، فجاءتهم صاعقة بعد التوبة ، فصعقتهم فماتوا أجمعون. قال : ثم
أحياهم الله من بعد موتهم ، وقرأ قول الله : { ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ
مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فقال لهم موسى : خذوا كتاب الله. فقالوا :
لا فقال : أي شيء أصابكم ؟ فقالوا : أصابنا أنا متنا ثم حَيِينا. قال (1) : خذوا
كتاب الله. قالوا : لا. فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم.
[وهذا السياق يدل على أنهم كلفوا بعد ما أحيوا. وقد حكى الماوردي في ذلك قولين :
أحدهما : أنه سقط التكليف عنهم لمعاينتهم الأمر جهرة حتى صاروا مضطرين إلى التصديق
؛ والثاني : أنهم مكلفون لئلا يخلو عاقل من تكليف ، قال القرطبي : وهذا هو الصحيح
لأن معاينتهم للأمور الفظيعة لا تمنع تكليفهم ؛ لأن بني إسرائيل قد شاهدوا أمورًا
عظامًا من خوارق العادات ، وهم في ذلك مكلفون وهذا واضح ، والله أعلم] (2).
{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ
وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ
كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) }
لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم ، شرع يذكرهم - أيضا - بما أسبغ عليهم من
النعم ، فقال : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ } وهو جمع غمامة ، سمي بذلك
لأنه يَغُمّ السماء ، أي : يواريها ويسترها. وهو السحاب الأبيض ، ظُلِّلوا به في
التيه ليقيهم حر الشمس. كما رواه النسائي وغيره عن ابن عباس في حديث الفُتُون ،
قال : ثم ظلل عليهم في التيه بالغمام.
قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عمر ، والربيع بن أنس ، وأبي مجلز ، والضحاك ،
والسدي ، نحو قول ابن عباس.
وقال الحسن وقتادة : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ } [قال] (3) كان هذا في
البرية (4) ظلل عليهم الغمام من الشمس.
وقال ابن جرير (5) قال آخرون : وهو غمام أبرد من هذا ، وأطيب.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ } (6) قال : ليس بالسحاب ، هو
الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة ، ولم يكن إلا لهم.
وهكذا رواه ابن جرير ، عن المثنى بن إبراهيم ، عن أبي حذيفة.
__________
(1) في جـ : "فقال".
(2) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(3) زيادة من جـ ، ط.
(4) في أ : "في التيه".
(5) في جـ ، ط : "ابن جريج".
(6) في جـ ، ط : "عليهم" وهو خطأ.
(1/266)
وكذا
رواه الثوري ، وغيره ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وكأنه يريد ، والله أعلم ،
أنه ليس من زِيّ هذا السحاب ، بل أحسن منه وأطيب وأبهى منظرا ، كما قال سنيد في
تفسيره عن حجاج بن محمد ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : { وَظَلَّلْنَا
عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ } قال : غمام أبرد من هذا وأطيب ، وهو الذي يأتي الله فيه
في قوله : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ
الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ } [البقرة : 210] وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر.
قال ابن عباس : وكان معهم في التيه.
وقوله : { وَأَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ } اختلفت عبارات المفسرين في المن : ما
هو ؟ فقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : كان المن ينزل عليهم على الأشجار ،
فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاؤوا.
وقال مجاهد : المن : صمغة. وقال عكرمة : المن : شيء أنزله الله عليهم مثل الطل ،
شبه الرِّبِ الغليظ.
وقال السدي : قالوا : يا موسى ، كيف لنا بما هاهنا ؟ أين الطعام ؟ فأنزل الله
عليهم المن ، فكان يسقط على شجر (1) الزنجبيل.
وقال قتادة : كان المن ينزل عليهم في محلتهم (2) سقوط الثلج ، أشد بياضا من اللبن
، وأحلى من العسل ، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، يأخذ الرجل منهم
قدر ما يكفيه يومه ذلك ؛ فإذا تعدى ذلك فسد ولم يبق ، حتى إذا كان يوم سادسه ،
ليوم جمعته ، أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه ؛ لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه
لأمر معيشته ولا يطلبه لشيء ، وهذا كله في البرية.
وقال الربيع بن أنس : المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل ، فيمزجونه بالماء ثم
يشربونه.
وقال وهب بن منبه - وسئل عن المن - فقال : خبز الرقاق مثل الذرة أو مثل النَقيِّ.
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني أحمد بن إسحاق ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا إسرائيل ،
عن جابر ، عن عامر وهو الشعبي ، قال : عسلكم هذا جزء من سبعين جزءا من المن.
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إنه العسل.
ووقع في شعر أمية بن أبي الصلت ، حيث قال :
فرأى الله أنهم بمضيع... لا بذي مزرع ولا مثمورا...
فسناها عليهم غاديات... وترى مزنهم خلايا وخورا...
عسلا ناطفا وماء فراتا... وحليبا ذا بهجة مرمورا (3)
__________
(1) في ط : "الشجرة" ، وفي ب : "الشجر".
(2) في أ : "في نخلتهم".
(3) الأبيات في تفسير الطبري (2/94 ، 95).
(1/267)
فالناطف
: هو السائل ، والحليب المرمور : الصافي منه.
والغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن ، فمنهم من فسره بالطعام ، ومنهم
من فسره بالشراب ، والظاهر ، والله أعلم ، أنه (1) كل ما امتن الله به عليهم من
طعام وشراب (2) ، وغير ذلك ، مما ليس لهم فيه عمل ولا كد ، فالمن المشهور إن أكل
وحده كان طعاما وحلاوة ، وإن مزج مع الماء صار شرابا طيبا ، وإن ركب مع غيره صار
نوعا آخر ، ولكن ليس هو المراد من الآية وحده ؛ والدليل على ذلك قول البخاري :
حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن عبد الملك ، عن عمر بن حريث (3) عن سعيد (4) بن
زيد ، رضي الله عنه ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "الكمأة من المن
، وماؤها شفاء للعين".
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد ، عن سفيان بن عيينة ، عن عبد الملك ، وهو ابن عمير
، به (5).
وأخرجه الجماعة في كتبهم ، إلا أبا داود ، من طرق عن عبد الملك ، وهو ابن عمير ،
به (6). وقال الترمذي : حسن صحيح ، ورواه البخاري ومسلم والنسائي من رواية الحكم ،
عن الحسن العُرَني ، عن عمرو بن حريث ، به (7).
وقال الترمذي : حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر ومحمود بن غَيْلان ، قالا حدثنا سعيد
بن عامر ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "العجوة من الجنة ، وفيها شفاء من السم ، والكمأة من
المن وماؤها شفاء للعين" (8).
تفرد بإخراجه الترمذي ، ثم قال : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث محمد
بن عمرو ، وإلا من حديث سعيد (9) بن عامر ، عنه ، وفي الباب عن سعيد بن زيد ، وأبي
سعيد وجابر.
كذا قال ، وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره ، من طريق آخر ، عن أبي
هريرة ، فقال : حدثنا أحمد بن الحسن (10) بن أحمد البصري ، حدثنا أسلم بن سهل ،
حدثنا القاسم بن عيسى ، حدثنا طلحة بن عبد الرحمن ، عن قتادة (11) عن سعيد بن
المسيب ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الكمأة
من المن ، وماؤها شفاء للعين".
وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، وطلحة بن عبد الرحمن هذا سلمي واسطي ، يكنى بأبي
__________
(1) في جـ : "أن".
(2) في جـ : "أو شراب".
(3) في جـ : "حوشب".
(4) في جـ : "سفيان".
(5) صحيح البخاري برقم (4478) والمسند (1/187).
(6) صحيح البخاري برقم (4639) وصحيح مسلم برقم (2049) وسنن الترمذي برقم (2067)
وسنن النسائي الكبرى برقم (6667).
(7) صحيح البخاري برقم (5708) وصحيح مسلم برقم (2049) وسنن النسائي الكبرى برقم
(10988).
(8) سنن الترمذي برقم (3013).
(9) في جـ : "محمد".
(10) في جـ ، أ ، و : "الحسين".
(11) في جـ : "عبادة".
(1/268)
محمد
، وقيل : أبو سليمان المؤدب قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عدي : روى عن قتادة أشياء
لا يتابع عليها (1).
ثم قال [الترمذي] (2) حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي ، عن
قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي هريرة : أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم قالوا : الكمأة جدري الأرض ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم :
"الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين ، والعجوة من الجنة وهي شفاء من
السم".
وهذا الحديث قد رواه النسائي ، عن محمد بن بشار ، به (3). وعنه ، عن غندر ، عن
شعبة ، عن أبي بشر جعفر بن إياس ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي هريرة ، به (4). وعن
محمد بن بشار ، عن عبد الأعلى ، عن خالد الحذاء ، عن شهر بن حوشب. بقصة الكمأة فقط
(5).
وروى النسائي - أيضا - وابن ماجه من حديث محمد بن بشار ، عن أبي عبد الصمد عبد
العزيز بن عبد الصمد ، عن مطر الوراق ، عن شهر : بقصة العجوة عند النسائي ،
وبالقصتين عند ابن ماجه (6).
وهذه الطريق منقطعة بين شهر بن حوشب وأبي هريرة فإنه لم يسمعه (7) منه ، بدليل ما
رواه النسائي في الوليمة من سننه ، عن علي بن الحسين الدرهمي (8) عن عبد الأعلى ،
عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غَنْم ، عن
أبي هريرة ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يذكرون الكمأة ، وبعضهم
يقول (9) جدري الأرض ، فقال : "الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين"
(10).
وروي عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا أسباط بن محمد ، حدثنا الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن شهر بن حوشب ، عن جابر
بن عبد الله وأبي سعيد الخدري ، قالا قال
__________
(1) الكامل لابن عدي (4/114).
(2) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(3) هو في سنن النسائي الكبرى برقم (6671) عن نصير بن الفرج ، عن معاذ بن هشام به
، ولم أقع عليه عن محمد بن بشار ، وقد ذكره المزي عن محمد بن بشار في تحفة الأشراف
(10/112).
(4) سنن النسائي الكبرى برقم (6673).
(5) سنن النسائي الكبرى برقم (6672).
(6) سنن ابن ماجة برقم (3400).
(7) في جـ : "لم يسمع".
(8) في جـ : "الدهرمي".
(9) في جـ : "وبعضهم يذكرون".
(10) سنن النسائي الكبرى برقم (6670).
(1/269)
رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين والعجوة من
الجنة وهي شفاء من السم" (1).
قال (2) النسائي في الوليمة أيضا : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ،
حدثنا شعبة ، عن أبي بشر جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب ، عن أبي سعيد وجابر ، رضي
الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الكمأة من المن ،
وماؤها شفاء للعين" (3). ثم رواه - أيضا - ، وابن ماجه من طرق ، عن الأعمش ،
عن أبي بشر ، عن شهر ، عنهما ، به (4).
وقد رويا (5) - أعني النسائي (6) وابن ماجه - من حديث سعيد بن مسلم (7) كلاهما عن
الأعمش ، عن جعفر بن إياس عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، زاد النسائي : [وحديث] (8)
جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الكمأة من المن ، وماؤها شفاء
للعين" (9).
ورواه ابن مردويه ، عن أحمد بن عثمان ، عن عباس الدوري ، عن لاحق بن صواب (10) عن
عمار بن رزيق (11) عن الأعمش ، كابن ماجه.
وقال ابن مردويه أيضا : حدثنا أحمد بن عثمان ، حدثنا عباس الدوري ، حدثنا الحسن
(12) بن الربيع ، حدثنا أبو الأحوص ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد
الرحمن بن أبي ليلى ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله
عليه وسلم وفي يده كمآت ، فقال : "الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين".
وأخرجه النسائي ، عن عمرو بن منصور ، عن الحسن بن الربيع (13) ثم [رواه] (14) ابن
مردويه. رواه أيضا عن عبد الله بن إسحاق عن الحسن بن سلام ، عن عبيد الله بن موسى
، عن شيبان (15) عن الأعمش به ، وكذا رواه النسائي عن أحمد بن عثمان بن حكيم ، عن
عبيد الله بن موسى [به] (16) (17).
وقد روى من حديث أنس بن مالك ، رضي الله عنه كما قال ابن مردويه :
حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم ، حدثنا حمدون بن أحمد ، حدثنا حوثرة بن أشرس ،
حدثنا حماد ، عن شعيب بن الحبحاب (18) عن أنس : أن أصحاب رسول الله (19) صلى الله
عليه وسلم تدارؤوا (20) في الشجرة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ، فقال
بعضهم : نحسبه الكمأة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الكمأة من المن
وماؤها شفاء للعين ، والعجوة من الجنة ، وفيها شفاء من السم" (21).
__________
(1) المسند (3/48).
(2) في جـ ، ط : "وقال".
(3) لم أقع عليه في المطبوع من سنن النسائي الكبرى.
(4) سنن ابن ماجة برقم (3453) ولم أقع عليه في سنن النسائي الكبرى المطبوعة.
(5) في جـ : "وقد روياه".
(6) في جـ ، و : "النسائي من حديث جرير".
(7) في جـ : "مسلمة".
(8) زيادة من جـ ، و.
(9) سنن النسائي الكبرى برقم (6676 ، 6677) وسنن ابن ماجة برقم (3453) لكن وقع في
سنن النسائي عن جرير عن الأعمش والله أعلم.
(10) في جـ : "صوان".
(11) في جـ : "زريق".
(12) في جـ : "الحسين".
(13) لم أقع عليه في المطبوع من سنن النسائي الكبرى.
(14) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(15) في جـ : "سفيان".
(16) زيادة من جـ ، ط ، أ.
(17) سنن النسائي الكبرى برقم (6678).
(18) في جـ : "ابن الحجاب" ، وفي أ : "ابن الحجاج".
(19) في جـ : "أصحاب النبي".
(20) ف جـ : "تذاكروا".
(21) ورواه ابن عدي في الكامل (2/370) من طريق حسان بن سياه عن ثابت عن أنس بنحوه.
(1/270)
وهذا
الحديث محفوظ أصله من رواية حماد بن سلمة. وقد روى الترمذي والنسائي من طريقه
شيئاً من هذا ، والله أعلم (1) (2).
[وقد] (3) روي عن شهر ، عن ابن عباس ، كما رواه النسائي - أيضًا - في الوليمة ، عن
أبي بكر أحمد بن علي بن سعيد ، عن عبد الله بن عون الخَرّاز ، عن أبي عبيدة الحداد
، عن عبد الجليل بن عطية ، عن شهر ، عن عبد الله بن عباس ، عن النبيّ صلى الله
عليه وسلم قال : "الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين" (4).
فقد اختلف - كما ترى فيه - على شهر بن حوشب ، ويحتمل عندي أنه حفظه ورواه من هذه
الطرق كلها ، وقد سمعه من بعض الصحابة وبلغه عن بعضهم ، فإن الأسانيد إليه جيدة ،
وهو لا يتعمد الكذب ، وأصل الحديث محفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما
تقدم من رواية سعيد بن زيد.
وأما السلوى فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : السلوى طائر شبيه بالسُّمَّانى ،
كانوا يأكلون منه.
وقال السدي في خَبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرّة ، عن
ابن مسعود ، وعن ناس (5) من الصحابة : السلوى : طائر يشبه السُّمَّانَى.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا عبد الصمد بن عبد
الوارث ، حدثنا قرّة بن خالد ، عن جهضم ، عن ابن عباس ، قال : السلوى : هو
السمَّانى.
وكذا قال مجاهد ، والشعبي ، والضحاك ، والحسن ، وعكرمة ، والربيع بن أنس ، رحمهم
الله.
وعن عكرمة : أما السلوى فطير (6) كطير يكون بالجنة (7) أكبر من العصفور ، أو نحو
ذلك.
وقال قتادة : السلوى من طير إلى الحمرة ، تحشُرها عليهم الريحُ الجنَوبُ. وكان
الرجل يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك ، فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده ، حتى إذا
كان يوم سادسه ليوم جمعته (8) أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه ؛ لأنه كان يوم
عبادة لا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه.
وقال وهب بن منبه : السلوى : طير سمين مثل الحمام ، كان يأتيهم فيأخذون منه من سبت
إلى سبت. وفي رواية عن وهب ، قال : سألَتْ بنو إسرائيل موسى عليه السلام ، اللحم ،
فقال الله : لأطعمنهم من أقل لحم يعلم في الأرض ، فأرسل عليهم ريحًا ، فأذرت عند
مساكنهم السلوى ، وهو السمانى (9) مثل ميل في ميل قيدَ رمح إلى (10) السماء
فخبَّؤوا للغد فنتن اللحم وخنز الخبز.
__________
(1) في جـ : "والله تبارك أعلم".
(2) سنن الترمذي برقم (3119) وسنن النسائي الكبرى برقم (11262).
(3) زيادة من ط.
(4) سنن النسائي الكبرى برقم (6669).
(5) في جـ ، ط : "وعن أناس".
(6) في جـ : "فيطير".
(7) في و : "في الجنة".
(8) في جـ : "جمعة".
(9) في جـ : "السمان".
(10) في جـ : "في".
(1/271)
وقال
السدي : لما دخل بنو إسرائيل التيه ، قالوا لموسى ، عليه السلام : كيف لنا بما
هاهنا ؟ أين الطعام ؟ فأنزل الله عليهم الَمنّ فكان يسقط على الشجر (1) الزنجبيل ،
والسلوى وهو طائر يشبه السمانى أكبر منه ، فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير ، فإن
كان سمينا ذبحه وإلا أرسله ، فإذا سمن أتاه ، فقالوا : هذا الطعام فأين الشراب ؟
فَأُمِر موسى فضرب بعصاه الحجر ، فانفجرت (2) منه اثنتا عشرة عينًا ، فشرب كل سبط
من عين ، فقالوا : هذا الشراب ، فأين الظل ؟ فَظَلَّل عليهم الغمام. فقالوا : هذا
الظل ، فأين اللباس ؟ فكانت ثيابهم (3) تطول معهم كما يطول الصبيان ، ولا يَنْخرق
لهم ثوب ، فذلك قوله تعالى : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزلْنَا
عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى } وقوله { وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ
فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ
عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ } [البقرة : 60].
وروي عن وهب بن منبه ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ما قاله السدي.
وقال سُنَيْد ، عن حجاج ، عن ابن جُرَيْج ، قال : قال ابن عباس : خُلق لهم في
التيه ثياب لا تخرق (4) ولا تدرن ، قال ابن جريج : فكان الرجل إذا أخذ من المن
والسلوى فوق طعام يوم فسد ، إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت
فلا يصبح فاسدًا.
[قال ابن عطية : السلوى : طير بإجماع المفسرين ، وقد غلط الهذلي في قوله : إنه
العسل ، وأنشد في ذلك مستشهدًا :
وقاسمها بالله جهدًا لأنتم... ألذ من السلوى إذا ما أشورها...
قال : فظن أن السلوى عسلا (5) قال القرطبي : دعوى الإجماع لا تصح ؛ لأن المؤرخ أحد
علماء اللغة والتفسير قال : إنه العسل ، واستدل ببيت الهذلي هذا ، وذكر أنه كذلك
في لغة كنانة ؛ لأنه يسلى به ومنه عين سلوان ، وقال الجوهري : السلوى العسل ،
واستشهد ببيت الهذلي - أيضا - ، والسلوانة بالضم خرزة ، كانوا يقولون إذا صب عليها
ماء المطر فشربها العاشق سلا قال الشاعر :
شربت على سلوانة ماء مزنة... فلا وجديد العيش يا مي ما أسلو...
واسم ذلك الماء السلوان ، وقال بعضهم : السلوان دواء يشفي الحزين فيسلو والأطباء
يسمونه(مُفَرِّح) ، قالوا : والسلوى جمع بلفظ - الواحد - أيضًا ، كما يقال : سمانى
للمفرد والجمع ودِفْلَى كذلك ، وقال الخليل واحده سلواة ، وأنشد :
وإني لتعروني لذكراك هزة... كما انتفض السلواة من بلل القطر...
__________
(1) في جـ : "على شجر".
(2) في جـ ، ب : "فانفجر".
(3) في جـ : "لباسهم".
(4) في جـ : "لا تخلق".
(5) المحرر الوجيز لابن عطية (1/229).
(1/272)
وقال
الكسائي : السلوى واحدة وجمعه سلاوي ، نقله كله القرطبي (1) ] (2).
وقوله تعالى : { كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } أمر إباحة وإرشاد
وامتنان. وقوله : { وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
[البقرة : 57] ، أي أمرناهم بالأكل مما رزقناهم وأن يعبدوا ، كما قال : { كُلُوا
مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ } [سبأ : 15] فخالفوا وكفروا فظلموا أنفسهم
، هذا مع ما شاهدوه من الآيات البينات والمعجزات القاطعات ، وخوارق العادات ، ومن
هاهنا تتبين فضيلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (3) ورضي عنهم ، على سائر أصحاب
الأنبياء في صبرهم وثباتهم وعدم تعنتهم ، كما كانوا معه في أسفاره وغزواته ، منها
عام تبوك ، في ذلك القيظ والحر الشديد والجهد ، لم يسألوا خرق عادة ، ولا إيجاد
أمر ، مع أن ذلك كان سهلا على الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن لما أجهدهم الجوع
سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم ، فجاء قدر مَبْرك الشاة ، فدعا [الله] (4)
فيه ، وأمرهم فملؤوا كل وعاء معهم ، وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله تعالى ،
فجاءت سحابة فأمطرتهم ، فشربوا وسقوا الإبل وملؤوا أسقيتهم. ثم نظروا فإذا هي لم
تجاوز العسكر. فهذا هو الأكمل في الاتباع : المشي مع قدر الله ، مع متابعة الرسول
صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) تفسير القرطبي (1/408).
(2) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(3) في ط : "صلوات الله وسلامه عليه.
(4) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(1/273)
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
{
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ
رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ
خَطَايَاكُمْ وَسَنزيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا
غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ
السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) }
يقول تعالى لائمًا لهم على نكولهم عن الجهاد ودخول (1) الأرض المقدسة ، لما قدموا
من بلاد مصر صحبة موسى ، عليه السلام ، فأمروا بدخول الأرض المقدسة التي هي ميراث
لهم عن أبيهم إسرائيل ، وقتال من فيها من العماليق الكفرة ، فنكلوا عن قتالهم
وضعفوا واستحسروا ، فرماهم الله في التيه عقوبة لهم ، كما ذكره تعالى في سورة
المائدة ؛ ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس ، كما نص على ذلك
السدي ، والرّبيع بن أنس ، وقتادة ، [وأبو مسلم الأصفهاني وغير واحد وقد قال الله
تعالى : { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ
لَكُمْ } الآيات] (2).[المائدة : 21 - 24]
وقال آخرون : هي أريحا [ويحكى عن ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد] (3) وهذا بعيد ؛
لأنها ليست على طريقهم ، وهو قاصدون بيت المقدس لا أريحا [وأبعد من ذلك قول من ذهب
أنها مصر ، حكاه فخر الدين في تفسيره ، والصحيح هو الأول ؛ لأنها بيت المقدس] (4).
وهذا كان لما خرجوا من
__________
(1) في ب : "عن دخولهم".
(2) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(3) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(4) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(1/273)
التيه
بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون ، عليه السلام ، وفتحها الله عليهم عشية جمعة ، وقد
حبست لهم الشمس يومئذ قليلا حتى أمكن الفتح ، وأما أريحا فقرية ليست مقصودة لبني
إسرائيل ، ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب - باب البلد - { سُجَّدًا } أي : شكرًا
لله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر ، وردّ بلدهم (1) إليهم وإنقاذهم
من التيه والضلال.
قال العوفي في تفسيره ، عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله : { وَادْخُلُوا
الْبَابَ سُجَّدًا } أي ركعا.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا سفيان ، عن
الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، وعن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : {
وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا } قال : ركعا (2) من باب صغير.
رواه الحاكم من حديث سفيان ، به. ورواه ابن أبي حاتم من حديث سفيان ، وهو الثوري ،
به (3). وزاد : فدخلوا من قبل أستاههم.
[وقال الحسن البصري : أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم ، واستبعده الرازي ،
وحكى عن بعضهم : أن المراد بالسجود هاهنا الخضوع لتعذر حمله على حقيقته] (4).
وقال خصيف : قال عكرمة ، قال ابن عباس : كان الباب قبل القبلة.
وقال [ابن عباس و] (5) مجاهد ، والسدي ، وقتادة ، والضحاك : هو باب الحطة من باب
إيلياء ببيت المقدس ، [وحكى الرازي عن بعضهم أنه عن باب جهة من جهات القرية] (6).
وقال خَصِيف : قال عكرمة : قال ابن عباس : فدخلوا على شق ، وقال السدي ، عن أبي
سعيد الأزدي ، عن أبي الكنُود ، عن عبد الله بن مسعود : وقيل لهم ادخلوا الباب
سجدا ، فدخلوا مقنعي رؤوسهم ، أي : رافعي رؤوسهم خلاف ما أمروا.
وقوله : { وَقُولُوا حِطَّةٌ } قال الثوري عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن
جبير ، عن ابن عباس : { وَقُولُوا حِطَّةٌ } قال : مغفرة ، استغفروا.
وروي عن عطاء ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، نحوه.
وقال الضحاك عن ابن عباس : { وَقُولُوا حِطَّةٌ } قال : قولوا : هذا الأمر حق ،
كما قيل لكم.
وقال عكرمة : قولوا : لا إله إلا الله.
وقال الأوزاعي : كتب ابن عباس إلى رجل قد سماه يسأله عن قوله تعالى : { وَقُولُوا
حِطَّةٌ }
__________
(1) في جـ : "بلادهم".
(2) في جـ : "أي ركعا".
(3) تفسير الطبري (2/113) والمستدرك (2/262) وتفسير ابن أبي حاتم (1/182).
(4) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(5) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(6) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(1/274)
فكتب
إليه : أن أقروا بالذنب.
وقال الحسن وقتادة : أي احطط عنا خطايانا.
{ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنزيدُ الْمُحْسِنِينَ } هذا جواب الأمر ، أي :
إذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكم الخطيئات وضعفنا لكم الحسنات.
وحاصل الأمر : أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول ، وأن
يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها ، والشكر على النعمة عندها والمبادرة إلى ذلك من
المحبوب لله تعالى ، كما قال تعالى : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } [سورة النصر] فسره
بعض الصحابة بكثرة الذكر والاستغفار عند الفتح والنصر ، وفسره ابن عباس بأنه نُعي
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله فيها ، وأقره على ذلك عمر [بن الخطاب] (1)
رضي الله عنه. ولا منافاة بين أن يكون قد أمر بذلك عند ذلك ، ونعي إليه روحه
الكريمة أيضًا ؛ ولهذا كان عليه السلام يظهر عليه الخضوع جدًا عند النصر ، كما روي
أنه كان يوم الفتح - فتح مكة - داخلا إليها من الثنية العليا ، وإنَّه الخاضع لربه
حتى إن عُثْنونه ليمس مَوْرِك رحله ، يشكر الله على ذلك. ثم لما دخل البلد اغتسل
وصلى ثماني ركعات وذلك ضُحى ، فقال بعضهم : هذه صلاة الضحى ، وقال آخرون : بل هي
صلاة الفتح ، فاستحبوا للإمام وللأمير إذا فتح بلدًا أن يصلي فيه ثماني ركعات عند
أول دخوله ، كما فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما دخل إيوان كسرى صلى فيه ثماني
ركعات ، والصحيح أنه يفصل بين كل ركعتين بتسليم ؛ وقيل : يصليها كلها بتسليم واحد
، والله أعلم.
وقوله تعالى : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ
} قال البخاري : حدثني محمد ، حدثنا (2) عبد الرحمن بن مَهْدي ، عن ابن المبارك ،
عن مَعْمَر ، عن هَمَّام بن مُنَبّه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : "قيل لبني إسرائيل : { ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا
وَقُولُوا حِطَّةٌ } فدخلوا يزحفون على أستاههم ، فبدّلوا وقالوا : حطة : حبة في
شعرة" (3).
ورواه النسائي ، عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ، عن (4) عبد الرحمن بن مهدي به
موقوفا (5) وعن محمد بن عبيد بن محمد ، عن ابن المبارك ببعضه مسندًا ، في قوله
تعالى : { حِطَّةٌ } قال : فبدلوا. فقالوا : حبة (6) (7).
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) في جـ : "حدثني محمد بن".
(3) صحيح البخاري برقم (4479).
(4) في جـ ، ط : "بن".
(5) سنن النسائي الكبرى برقم (10989).
(6) في جـ : "فقال حنطة".
(7) سنن النسائي الكبرى برقم (10990).
(1/275)
وقال
عبد الرزاق : أنبأنا معمر ، عن هَمَّام بن مُنَبه أنه سمع أبا هريرة يقول : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قال الله لبني إسرائيل : { وَادْخُلُوا
الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } فبدلوا ،
ودخلوا الباب يزحفون على أستاههم ، فقالوا : حبة في شعرة (1) ".
وهذا حديث صحيح ، رواه البخاري عن إسحاق بن نصر ، ومسلم عن محمد بن رافع. والترمذي
عن عبد بن حميد ، كلهم عن عبد الرزاق ، به (2). وقال الترمذي : حسن صحيح.
وقال محمد بن إسحاق : كان تبديلهم (3) كما حدثني صالح بن كيسان ، عن صالح مولى
التوأمة ، عن أبي هريرة ، وعمن لا أتهم ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : "دخلوا الباب - الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجدًا - يزحفون على
أستاههم ، وهم يقولون : حنطة في شعيرة" (4).
وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن صالح ، وحدثنا سليمان بن داود ، حدثنا عبد الله بن
وهب ، حدثنا هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري
، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : "قال الله لبني إسرائيل : {
ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } ثم
قال أبو داود : حدثنا جعفر بن مسافر ، حدثنا ابن أبي فديك ، عن هشام بن سعد ، مثله
(5) (6).
هكذا رواه منفردًا به في كتاب الحروف مختصرًا.
وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا إبراهيم بن مهدي ، حدثنا أحمد
بن محمد بن المنذر القَزّاز ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ، عن (7) هشام بن
سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : سرنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من آخر الليل ، أجَزْنا في ثنية (8)
يقال لها : ذات الحنظل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما مثل هذه
الثنية الليلة إلا كمثل الباب الذي قال الله لبني إسرائيل : { ادْخُلُوا الْبَابَ
سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } (9).
وقال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن البراء : { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ
النَّاسِ } [البقرة : 142] قال اليهود : قيل لهم : ادخلوا الباب سجدًا ، قال :
ركعًا ، وقولوا : حطة : أي مغفرة ، فدخلوا على
__________
(1) في جـ ، ط : "شعيرة".
(2) صحيح البخاري برقم (4641) وصحيح مسلم برقم (3015) وسنن الترمذي برقم (2956).
(3) في جـ ، ط : "يتذيلهم".
(4) ورواه الطبراني في تفسيره (2/112) عن محمد بن إسحاق ، عن صالح بن كيسان ، عن
أبي هريرة ، عن محمد بن أبي محمد ، عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس.
(5) في جـ : "بمثله".
(6) سنن أبي داود برقم (4006).
(7) في جـ : "حدثنا".
(8) في جـ : "ضربة".
(9) ورواه البزار في مسنده برقم (1812) عن إسحاق بن بهلول ، عن محمد بن إسماعيل بن
أبي فديك به نحوه ، وقال الهيثمي في المجمع (6/144) : "رجاله ثقات".
(1/276)
أستاههم
، وجعلوا يقولون : حنطة حمراء فيها شعيرة (1) ، فذلك قول الله تعالى : { فَبَدَّلَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ }.
وقال الثوري ، عن السدي ، عن أبي سعد الأزدي ، عن أبي الكَنود ، عن ابن مسعود : {
وَقُولُوا حِطَّةٌ } فقالوا : حنطة حبة حمراء فيها شعيرة (2) ، فأنزل الله : {
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ }
وقال أسباط ، عن السدي ، عن مرة ، عن ابن مسعود أنه قال : إنهم قالوا :
"هُطِّي سمعاتا أزبة مزبا" فهي بالعربية : حبة حنطة حمراء مثقوبة (3)
فيها شعرة سوداء ، فذلك قوله : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ
الَّذِي قِيلَ لَهُمْ }
وقال الثوري ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد ، عن ابن عباس في قوله : {
ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا } ركعًا من باب صغير ، فدخلوا (4) من قبل أستاههم ،
وقالوا : حنطة ، فهو قوله تعالى : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ
الَّذِي قِيلَ لَهُمْ }
وهكذا روي عن عطاء ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن
أنس ، ويحيى بن رافع.
وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق أنهم بدلوا أمر (5) الله لهم من الخضوع
بالقول والفعل ، فأمروا أن يدخلوا سجدًا ، فدخلوا يزحفون على أستاههم من قبل
أستاههم رافعي رؤوسهم ، وأمروا أن يقولوا : حطة ، أي : احطط عنا ذنوبنا ،
فاستهزؤوا فقالوا : حنطة في شعرة (6). وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة
؛ ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم ، وهو خروجهم عن طاعته ؛ ولهذا قال : {
فَأَنزلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا
يَفْسُقُونَ }
وقال الضحاك عن ابن عباس : كل شيء في كتاب الله من "الرِّجْز" يعني به
العذاب.
وهكذا روي عن مجاهد ، وأبي مالك ، والسدي ، والحسن ، وقتادة ، أنه العذاب. وقال
أبو العالية : الرجز الغضب. وقال الشعبي : الرجز : إما الطاعون ، وإما البرد. وقال
سعيد بن جبير : هو الطاعون.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وَكِيع ، عن (7) سفيان ، عن
حبيب بن أبي ثابت ، عن إبراهيم بن سعد - يعني ابن أبي وقاص - عن سعد بن مالك ،
وأسامة بن زيد ، وخزيمة بن ثابت ، رضي الله عنهم ، قالوا : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "الطاعون رجْز عذاب عُذِّب (8) به من كان
__________
(1) في جـ : "شعرة".
(2) في جـ : "شعرة".
(3) في جـ : "منقوشة".
(4) في جـ : "يدخلون".
(5) في جـ : "بدلوا ما أمر".
(6) في جـ ، أ : "شعيرة".
(7) في جـ : "حدثنا".
(8) في أ : "عذب الله".
(1/277)
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
قبلكم"
(1).
وهكذا رواه النسائي من حديث سفيان الثوري به (2). وأصل الحديث في الصحيحين من حديث
حبيب بن أبي ثابت : "إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها" الحديث (3).
قال (4) ابن جرير : أخبرني يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب ، عن يونس ، عن الزهري
، قال : أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، قال : "إن هذا الوجع والسقم رجْز عُذِّب به بعض الأمم
قبلكم" (5). وهذا الحديث أصله مخرَّج في الصحيحين ، من حديث الزهري ، ومن
حديث مالك ، عن محمد بن المُنكَدِر ، وسالم أبي النضر ، عن عامر بن سعد ، بنحوه
(6).
{ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ
فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ
مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ
مُفْسِدِينَ (60) }
يقول تعالى : واذكروا نعمتي عليكم في إجابتي لنبيكم موسى ، عليه السلام ، حين
استسقاني لكم ، وتيسيري لكم الماء ، وإخراجه لكم من حَجَر يُحمل معكم ، وتفجيري
الماء لكم منه من ثنتي عشرة عينًا لكل سبط من أسباطكم عين قد عرفوها ، فكلوا من
المن والسلوى ، واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم بلا سعي منكم ولا كد ،
واعبدوا الذي سخر لكم ذلك. { وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ } ولا تقابلوا
النعم بالعصيان فتسلبوها. وقد بسطه المفسرون في كلامهم ، كما قال ابن عباس :
وجُعِل بين ظهرانيهم حجر مربَّع وأمر موسى ، عليه السلام ، فضربه بعصاه ، فانفجرت
منه اثنتا عشرة عينًا ، في كل ناحية منه ثلاث (7) عيون ، وأعلم كل سبط عينهم ،
يشربون منها لا يرتحلون من مَنْقَلَة إلا وجدوا ذلك معهم (8) بالمكان الذي كان
منهم بالمنزل الأول.
وهذا قطعة من الحديث الذي رواه النسائي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وهو حديث
الفتون الطويل (9).
وقال عطية العوفي : وجُعل لهم حجر مثل رأس الثور يحمل على ثور ، فإذا نزلوا منزلا
وضعوه فضربه موسى بعصاه ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا ، فإذا ساروا حملوه على
ثور ، فاستمسك الماء.
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (1/186).
(2) سنن النسائي الكبرى برقم (7523).
(3) صحيح البخاري برقم (5728) وصحيح مسلم برقم (2218).
(4) في جـ : "وقال".
(5) تفسير الطبري (2/116).
(6) صحيح البخاري برقم (3473 ، 6974) وصحيح مسلم برقم (2218).
(7) في جـ : "ثلاثة".
(8) في جـ : "ذلك منهم".
(9) سيأتي بطوله في تفسير سورة طه.
(1/278)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
وقال
عثمان بن عطاء الخراساني ، عن أبيه : كان لبني إسرائيل حجر ، فكان يضعه هارون
ويضربه موسى بالعصا.
وقال قتادة : كان حجرًا طوريًا ، من الطور ، يحملونه معهم حتى إذا نزلوا ضربه موسى
بعصاه.
[وقال الزمخشري : وقيل : كان من رخام وكان ذراعًا في ذراع ، وقيل : مثل رأس
الإنسان ، وقيل : كان من أسس الجنة طوله عشرة أذرع على طول موسى. وله شعبتان
تتقدان في الظلمة وكان يحمل على حمار ، قال : وقيل : أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه
، حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع العصا ، وقيل : هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين
اغتسل ، فقال له جبريل : ارفع هذا الحجر فإن فيه قدرة ولك فيه معجزة ، فحمله في
مخلاته. قال الزمخشري : ويحتمل أن تكون اللام للجنس لا للعهد ، أي اضرب الشيء الذي
يقال له الحجر ، وعن الحسن لم يأمره أن يضرب حجرًا بعينه ، قال : وهذا أظهر في
المعجزة وأبين في القدرة فكان يضرب الحجر بعصاه فينفجر ثم يضربه فييبس ، فقالوا :
إن فقد موسى هذا الحجر عطشنا ، فأوحى الله إليه أن يكلم الحجارة فتنفجر ولا يمسها
بالعصا لعلهم يقرون] (1).
وقال يحيى بن النضر : قلت لجويبر : كيف علم كل أناس مشربهم ؟ قال : كان موسى يضع
الحجر ، ويقوم من كل سبط رجل ، ويضرب موسى الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عينًا
فينضح من كل عين على رجل ، فيدعو ذلك الرجل سبطه إلى تلك العين.
وقال الضحاك : قال ابن عباس : لما كان بنو إسرائيل في التيه شق لهم من الحجر
أنهارًا.
وقال سفيان الثوري ، عن أبي سعيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : ذلك في التيه ،
ضرب لهم موسى الحجر فصار فيه (2) اثنتا عشرة عينًا من ماء ، لكل سِبْط منهم عين
يشربون منها.
وقال مجاهد نحو قول ابن عباس.
وهذه القصة شبيهة بالقصة المذكورة في سورة الأعراف ، ولكن تلك مكية ، فلذلك كان
الإخبار عنهم بضمير الغائب ؛ لأن الله تعالى يقص ذلك (3) على رسوله صلى الله عليه
وسلم عما فعل بهم. وأما في هذه السورة ، وهي البقرة فهي (4) مدنية ؛ فلهذا كان
الخطاب فيها متوجهًا إليهم. وأخبر هناك بقوله : { فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا
عَشْرَةَ عَيْنًا } [الأعراف : 160] وهو أول الانفجار ، وأخبر هاهنا بما آل إليه
الأمر (5) آخرًا وهو الانفجار فناسب ذكر الانفجار (6) هاهنا ، وذاك هناك ، والله
أعلم.
وبين السياقين تباين من عشرة أوجه لفظية ومعنوية قد سأل عنها الرازي في تفسيره
وأجاب عنها بما عنده ، والأمر في ذلك قريب والله تبارك وتعالى أعلم بأسرار كتابه.
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا
رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا
وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى
بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ }
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(2) في جـ : "منه".
(3) في جـ : "نص هنالك".
(4) في و : "فإنها".
(5) في جـ ، و : "الحال".
(6) في جـ : "ذكر هذا".
(1/279)
يقول
تعالى : واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى ، طعامًا طيبًا نافعًا
هنيئًا سهلا واذكروا دَبَرَكم وضجركم مما رزَقتكم (1) وسؤالكم موسى استبدال ذلك
بالأطعمة الدنيّة من البقول ونحوها مما سألتم. وقال الحسن البصري رحمه الله :
فبطروا ذلك ولم يصبروا عليه ، وذكروا عيشهم (2) الذي كانوا فيه ، وكانوا قومًا أهل
أعداس وبصل وبقل وفوم ، فقالوا : { يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ
وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ
بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا } [وهم يأكلون المن
والسلوى ، لأنه لا يتبدل ولا يتغير كل يوم فهو كأكل واحد] (3). فالبقول والقثاء
والعدس والبصل كلها معروفة. وأما "الفوم" فقد اختلف السلف في معناه فوقع
في قراءة ابن مسعود "وثومها" بالثاء ، وكذلك فسره مجاهد في رواية ليث بن
أبي سليم ، عنه ، بالثوم. وكذا الربيع بن أنس ، وسعيد بن جبير.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن رافع ، حدثنا أبو عمارة يعقوب بن إسحاق
البصري ، عن يونس ، عن الحسن ، في قوله : { وَفُومِهَا } قال : قال ابن عباس :
الثوم.
قالوا : وفي اللغة القديمة : فَوِّمُوا لنا بمعنى : اختبزوا. وقال ابن جرير : فإن
كان ذلك صحيحًا ، فإنه من الحروف المبدلة كقولهم : وقعوا في "عاثُور شَرّ ،
وعافور شر ، وأثافي وأثاثي ، ومغافير ومغاثير". وأشباه (4) ذلك مما تقلب
الفاء ثاء والثاء فاء لتقارب مخرجيهما ، والله أعلم.
وقال آخرون : الفوم الحنطة ، وهو البر الذي يعمل منه الخبز.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، أنبأنا ابن وهب قراءة ،
حدثني نافع بن أبي نعيم : أن ابن عباس سئِل عن قول الله : { وَفُومِهَا } ما فومها
؟ قال : الحنطة. قال ابن عباس : أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح وهو يقول :
قد كنتُ أغنى الناس شخصًا واحدًا... وَرَدَ المدينة عن زرَاعة فُوم (5)
وقال ابن جرير : حدثنا علي بن الحسن ، حدثنا مسلم الجرمي ، حدثنا عيسى بن يونس ،
عن رشدين بن كُرَيْب ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قول الله تعالى : { وَفُومِهَا
} قال : الفوم الحنطة بلسان بني هاشم.
__________
(1) في جـ : "مما رزقناكم".
(2) في جـ : "شيمهم".
(3) زيادة من جـ.
(4) في و : "وما أشبه".
(5) البيت في تفسير الطبري (2/129).
(1/280)
وكذا
قال علي بن أبي طلحة ، والضحاك (1) وعكرمة عن ابن عباس أن الفوم : الحنطة.
وقال سفيان الثوري ، عن ابن جُرَيْج ، عن مجاهد وعطاء : { وَفُومِهَا } قالا
وخبزها.
وقال هُشَيْم عن يونس ، عن الحسن ، وحصين ، عن أبي مالك : { وَفُومِهَا } قال :
الحنطة.
وهو قول عكرمة ، والسدي ، والحسن البصري ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ،
وغيرهم ، والله أعلم (2).
[وقال الجوهري : الفوم : الحنطة. وقال ابن دريد : الفوم : السنبلة ، وحكى القرطبي
عن عطاء وقتادة أن الفوم كل حب يختبز. قال : وقال بعضهم : هو الحمص لغة شامية ،
ومنه يقال لبائعه : فامي مغير عن فومي] (3).
وقال البخاري : وقال بعضهم : الحبوب التي تؤكل كلها فوم.
وقوله تعالى : { قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ
خَيْرٌ } فيه تقريع لهم وتوبيخ (4) على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنيّة مع ما هم
فيه من العيش الرغيد ، والطعام الهنيء الطيب النافع.
وقوله : { اهْبِطُوا مِصْرًا } هكذا هو منون مصروف مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة
العثمانية ، وهو قراءة الجمهور بالصرف.
قال ابن جرير : ولا أستجيز (5) القراءة بغير ذلك ؛ لإجماع المصاحف على ذلك.
وقال ابن عباس : { اهْبِطُوا مِصْرًا } قال : مصرًا من الأمصار ، رواه ابن أبي
حاتم ، من حديث أبي سعيد (6) البقال سعيد بن المرزبان ، عن عكرمة ، عنه.
قال : وروي عن السدي ، وقتادة ، والربيع بن أنس نحو ذلك.
وقال ابن جرير : وقع في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود : "اهبطوا مصر" من
غير إجراء يعني من غير صرف. ثم روى عن أبي العالية ، والربيع بن أنس أنهما فسرا
ذلك بمصر فرعون.
وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية ، وعن الأعمش أيضًا.
وقال ابن جرير : ويحتمل أن يكون المراد مصر فرعون على قراءة الإجراء أيضًا. ويكون
ذلك من باب الاتباع لكتابة المصحف ، كما في قوله تعالى : { قَوَارِيرَا *
قَوَارِيرَا } [الإنسان : 15 ، 16]. ثم توقف في المراد ما هو ؟ أمصر فرعون أم مصر
من الأمصار ؟
وهذا الذي قاله فيه نظر ، والحق أن المراد مصر من الأمصار كما روي عن ابن عباس
وغيره ،
__________
(1) في ط : "عن الضحاك".
(2) في جـ ، ط ، أ ، و : "فالله أعلم".
(3) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(4) في جـ : "وتوبيخ لهم".
(5) في أ : "ولا أستحسن".
(6) في جـ : "أبي سعد".
(1/281)
والمعنى
على ذلك لأن موسى ، عليه السلام يقول لهم : هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز ، بل هو
كثير في أي بلد دخلتموه وجدتموه ، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل
الله فيه ؛ ولهذا قال : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ
خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ } أي : ما طلبتم ، ولما
كان سؤالهم (1) هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه ، لم يجابوا إليه ، والله
أعلم
{ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ
اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ
النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
}
يقول تعالى : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ } أي : وضعت
عليهم وألزموا بها شَرْعًا وقدرًا ، أي : لا يزالون مستذلين ، من وجدهم استذلهم
وأهانهم ، وضرب عليهم الصغار ، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء متمسكنون (2).
قال الضحاك عن ابن عباس في قوله : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ
وَالْمَسْكَنَةُ } قال : هم أصحاب النيالات (3) يعني أصحاب الجزية.
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الحسن وقتادة ، في قوله تعالى : { وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ } قال : يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون (4) ، وقال الضحاك : {
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } قال : الذل. وقال الحسن : أذلهم الله فلا منعة
لهم ، وجعلهم الله تحت أقدام المسلمين. ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم
الجزية.
وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي : المسكنة الفاقة. وقال عطية العوفي :
الخراج. وقال الضحاك : الجزية.
وقوله تعالى : { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } قال الضحاك : استحقوا الغضب من
الله ، وقال الربيع بن أنس : فحدَثَ عليهم غضب من الله. وقال سعيد بن جبير : {
وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } يقول : استوجبوا سخطًا ، وقال ابن جرير : يعني
بقوله : { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } انصرفوا ورجعوا ، ولا يقال : باؤوا
إلا موصولا إما بخير وإما بشر ، يقال منه : باء فلان بذنبه يبوء به بَوْءًا وبواء.
ومنه قوله تعالى : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } [المائدة
: 29] يعني : تنصرف متحملهما وترجع بهما ، قد صارا عليك دوني. فمعنى الكلام إذًا :
فرجعوا منصرفين متحملين غضب الله ، قد صار عليهم من الله غضب ، ووجب عليهم من الله
سخط.
وقوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ
النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } يقول تعالى :
__________
(1) في جـ ، ط : "كان سألهم".
(2) في جـ : "مستذلين" ، وفي ط ، أ ، و : "مستكينين".
(3) في جـ ، طـ ، و : "القبالات" ، وفي أ : "السالات".
(4) تفسير عبد الرزاق (1/ 69).
(1/282)
هذا
الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة ، وإحلال الغضب بهم (1) بسبب استكبارهم عن اتباع
الحق ، وكفرهم بآيات الله ، وإهانتهم حملة الشرع وهم الأنبياء وأتباعهم ،
فانتقصوهم إلى (2) أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم ، فلا كبْر أعظم من هذا ، أنهم
كفروا بآيات الله وقتلوا أنبياء الله بغير الحق ؛ ولهذا جاء في الحديث المتفق على
صحته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الكبر بَطَر الحق ، وغَمْط
الناس" (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، عن ابن عون ، عن عمرو بن سعيد ، عن حميد بن
عبد الرحمن ، قال : قال ابن مسعود : كنت لا أحجب عن النَّجْوى ، ولا عن كذا ولا عن
كذا قال : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي ،
فأدركته (4) من آخر حديثه ، وهو يقول : يا رسول الله ، قد قسم لي من الجمال ما ترى
، فما أحب أن أحدًا من الناس فَضَلني بشراكين فما فوقهما أفليس ذلك هو البغي ؟
فقال : "لا ليس ذلك من البغي ، ولكن البغي مَنْ بطر - أو قال : سفه الحق -
وغَمط الناس". يعني : رد الحق وانتقاص الناس ، والازدراء بهم والتعاظم عليهم.
ولهذا لما ارتكب بنو إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات الله وقتل أنبيائهم ، أحل
الله بهم بأسه الذي لا يرد ، وكساهم ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة جزاء وفاقًا
(5).
قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي معمر ، عن
عبد الله بن مسعود ، قال : كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي ، ثم
يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار.
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا أبان ، حدثنا عاصم ، عن أبي وائل ،
عن عبد الله - يعني ابن مسعود - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أشد
الناس عذابًا يوم القيامة رجل قتله نبي ، أو قتل نبيًا ، وإمام ضلالة وممثل من
الممثلين" (6).
وقوله تعالى : { ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } وهذه علة أخرى في
مجازاتهم بما جوزوا به ، أنهم كانوا يعصون ويعتدون ، فالعصيان فعل المناهي ،
والاعتداء المجاوزة في حد المأذون فيه أو المأمور به. والله أعلم.
__________
(1) في جـ : "عليهم".
(2) في جـ ، ط ، أ ، و : "حتى".
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (91) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(4) في جـ ، ط : "قال فأدركت".
(5) المسند (1/385).
(6) المسند (1/407).
(1/283)
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
{
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ
آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) }
لما بين [الله] (1) تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره ، وتعدى في فعل ما لا
إذن فيه وانتهك المحارم ، وما أحلّ بهم من النكال ، نبه تعالى على أن مَنْ أحسن من
الأمم السالفة وأطاع ، فإن له جزاء الحسنى ، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة ؛ كُلّ
من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية ، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ،
ولا هُمْ يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه ، كما قال تعالى : { أَلا إِنَّ
أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [يونس : 62]
وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا
رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا
تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ
} [فصلت : 30].
قال (2) ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر العَدني ، حدثنا سفيان ، عن
ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، قال : قال سلمان : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن
أهل دين كنت معهم ، فذكرتُ من صلاتهم وعبادتهم ، فنزلت : { إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ } إلى آخر الآية.
وقال السدي : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى
وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا }
الآية : نزلت في أصحاب سلمان الفارسي ، بينا هو يحدث النبي صلى الله عليه وسلم إذْ
ذكر أصحابه ، فأخبره خبرهم ، فقال : كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك ، ويشهدون (3)
أنك ستبعث نبيًا ، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم ، قال له نبي الله صلى الله عليه
وسلم : "يا سلمان ، هم من أهل النار". فاشتد ذلك على سلمان ، فأنزل الله
هذه الآية ، فكان إيمان اليهود : أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى ، عليه السلام ؛
حتى جاء عيسى. فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى ، فلم يدعها ولم
يتبع عيسى ، كان هالكًا. وإيمان النصارى أن (4) من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى
كان مؤمنًا مقبولا منه حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن لم يتبعْ محمدًا صلى
الله عليه وسلم منهم ويَدَعْ (5) ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل - كان هالكا.
وقال ابن أبي حاتم : وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا.
قلت : وهذا لا ينافي ما روى عَليّ بن (6) أبي طلحة ، عن ابن عباس : { إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } الآية فأنزل الله بعد ذلك : { وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ
الْخَاسِرِينَ } [آل عمران : 85].
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في جـ : "وقال".
(3) في جـ : "ويشهدوا".
(4) في أ : "أنه".
(5) في أ : "ولم يدع".
(6) في جـ : "عن ابن".
(1/284)
فإن
هذا الذي قاله [ابن عباس] (1) إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملا إلا ما
كان موافقًا لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثه [الله] (2) بما بعثه به ،
فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة ، فاليهود
أتباع موسى ، عليه السلام ، الذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم.
واليهود من الهوادة وهي المودة أو التهود وهي التوبة ؛ كقول موسى ، عليه السلام :
{ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } [الأعراف : 156] أي : تبنا ، فكأنهم سموا بذلك في
الأصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم لبعض.
[وقيل : لنسبتهم إلى يهوذا أكبر أولاد يعقوب عليه السلام ، وقال أبو عمرو بن
العلاء : لأنهم يتهودون ، أي : يتحركون عند قراءة التوراة] (3).
فلما بعث عيسى صلى الله عليه وسلم (4) وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له ،
فأصحابه وأهل دينه هم النصارى ، وسموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم ، وقد يقال لهم :
أنصار أيضًا ، كما قال عيسى ، عليه السلام : { مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ
قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ } [آل عمران : 52] وقيل : إنهم
إنما سُمّوا بذلك من أجل أنهم نزلوا أرضًا يقال لها ناصرة ، قاله قتادة وابن
جُرَيج ، وروي عن ابن عباس أيضًا ، والله أعلم.
والنصارى : جمع نصران (5) كنشاوى جمع نشوان ، وسكارى جمع سكران ، ويقال للمرأة :
نصرانة ، قال الشاعر :
نصرانة لم تَحَنَّفِ (6)
فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتمًا للنبيين ، ورسولا إلى بني آدم على
الإطلاق ، وجب عليهم تصديقُه فيما أخبر ، وطاعته فيما أمر ، والانكفاف عما عنه
زجر. وهؤلاء هم المؤمنون [حقا] (7). وسميت أمة محمد صلى الله عليه وسلم مؤمنين
لكثرة إيمانهم وشدة إيقانهم ، ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب
الآتية. وأما الصابئون فقد اختلف فيهم ؛ فقال سفيان الثوري ، عن ليث بن أبي سليم ،
عن
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(4) في جـ : "عليه السلام".
(5) في جـ : "نصراني".
(6) البيت في تفسير الطبري (2/144) وهو لأبي الأخز الحماني ، وهذا جزء منه وهو
بتمامه : فكلتاهما خرت وأسجد رأسها... كما سجدت نصرانة لم تحنف
(7) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(1/285)
مجاهد
، قال : الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى ، ليس لهم دين. وكذا رواه ابن
أبي نجيح ، عنه وروي عن عطاء وسعيد بن جبير نحو ذلك.
وقال أبو العالية والربيع بن أنس ، والسدي ، وأبو الشعثاء جابر بن زيد ، والضحاك
[وإسحاق بن راهويه] (1) الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور.
[ولهذا قال أبو حنيفة وإسحاق : لا بأس بذبائحهم ومناكحتهم] (2).
وقال هشيم عن مطرف : كنا عند الحكم بن عتيبة (3) فحدثه رجل من أهل البصرة عن الحسن
أنه كان يقول في الصابئين : إنهم كالمجوس ، فقال الحكم : ألم أخبركم بذلك.
وقال عبد الرحمن بن مهدي ، عن معاوية بن عبد الكريم : سمعت الحسن ذكر الصابئين ،
فقال : هم قوم يعبدون الملائكة.
[وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه ،
عن الحسن قال : أخبر زياد أن الصابئين يصلون إلى القبلة ويصلون الخمس. قال : فأراد
أن يضع عنهم الجزية. قال : فخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة] (4).
وقال أبو جعفر الرازي : بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة ، ويقرؤون الزبور ،
ويصلون إلى القبلة.
وكذا قال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن أبي
الزناد ، عن أبيه ، قال : الصابئون قوم مما يلي العراق ، وهم بكوثى ، وهم يؤمنون
بالنبيين كلهم ، ويصومون من كل سنة ثلاثين يوما ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس
صلوات.
وسئل وهب بن منبه عن الصابئين ، فقال : الذي يعرف الله وحده ، وليست له شريعة يعمل
بها ولم يحدث كفرًا.
وقال عبد الله بن وهب : قال عبد الرحمن بن زيد : الصابئون أهل دين من الأديان ،
كانوا بجزيرة الموصل يقولون : لا إله إلا الله ، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي
إلا قول : لا إله إلا الله ، قال : ولم يؤمنوا برسول ، فمن أجل ذلك كان المشركون
يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه : هؤلاء الصابئون ، يشبهونهم بهم ، يعني
في قول : لا إله إلا الله.
وقال الخليل (5) هم قوم يشبه دينهم دين النصارى ، إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب ،
يزعمون
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(2) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(3) في جـ : "عيينة".
(4) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(5) في أ : "الخدري".
(1/286)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)
أنهم
على دين نوح ، عليه السلام. وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن وابن أبي نجيح : أنهم
قوم تركب دينهم بين اليهود والمجوس ، ولا تؤكل ذبائحهم ، قال ابن عباس : ولا تنكح
نساؤهم. قال القرطبي : والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكره بعض العلماء أنهم موحدون
ويعتقدون تأثير النجوم ، وأنهم فاعلة ؛ ولهذا أفتى أبو سعيد الإصطخري بكفرهم
للقادر بالله حين سأله عنهم ، واختار فخر الدين الرازي أن الصابئين قوم يعبدون
الكواكب ؛ بمعنى أن الله جعلها قبلة للعبادة والدعاء ، أو بمعنى أن الله فوض تدبير
أمر هذا العالم إليها ، قال : وهذا القول هو المنسوب إلى الكشرانيين الذين جاءهم
إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، رادًا عليهم ومبطلا لقولهم.
وأظهر الأقوال ، والله أعلم ، قول مجاهد ومتابعيه ، ووهب بن منبه : أنهم قوم ليسوا
على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين ، وإنما هم قوم باقون على
فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتفونه ؛ ولهذا كان المشركون ينبزون من أسلم
بالصابئي ، أي : أنه قد خرج عن سائر أديان أهل الأرض إذ ذاك.
وقال بعض العلماء : الصابئون الذين لم تبلغهم دعوة نبي ، والله أعلم.
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا
آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ
تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) }
يقول تعالى مذكرًا بني إسرائيل ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق بالإيمان به وحده
لا شريك له واتباع رسله ، وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق رفع الجبل على
رؤوسهم ليقروا بما عوهدوا عليه ، ويأخذوه (1) بقوة وحزم وهمة وامتثال (2) كما قال
تعالى : { وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا
أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأعراف : 171] الطور هو الجبل ، كما فسره بآية (3)
الأعراف ، ونص على ذلك ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء وعكرمة والحسن والضحاك والربيع
بن أنس ، وغير واحد ، وهذا ظاهر (4).
وفي رواية عن ابن عباس : الطور ما أنبت من الجبال ، وما لم ينبت فليس بطور.
وفي حديث الفتون : عن ابن عباس : أنهم لما امتنعوا عن الطاعة رفع عليهم الجبل
ليسمعوا [فسجدوا] (5).
وقال السدي : فلما أبوا أن يسجدوا أمر الله الجبل أن يقع عليهم ، فنظروا إليه وقد
غشيهم ،
__________
(1) في جـ ، ط : "فأخذوه".
(2) في أ : "امتثال أمر".
(3) في جـ ، ط : "فسرنا به آية".
(4) في ط : "وهذا الظاهر".
(5) زيادة من جـ.
(1/287)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
فسقطوا
سجدًا [فسجدوا] (1) على شق ، ونظروا بالشق الآخر ، فرحمهم الله فكشفه عنهم ،
فقالوا (2) والله ما سجدة أحب إلى الله من سجدة كشف بها العذاب عنهم ، فهم يسجدون
كذلك ، وذلك قوله تعالى : { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ (3) الطُّورَ }.
وقال الحسن في قوله : { خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ } يعني التوراة.
وقال أبو العالية ، والربيع بن أنس : { بِقُوَّةٍ } أي بطاعة. وقال مجاهد : بقوة :
بعمل بما فيه. وقال قتادة { خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ } القوة : الجد
وإلا قذفته (4) عليكم.
قال : فأقروا بذلك : أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة. ومعنى قوله : وإلا قذفته عليكم ،
أي (5) أسقطه عليكم ، يعني الجبل.
وقال أبو العالية والربيع : { وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ } يقول : اقرؤوا ما في
التوراة واعملوا به.
وقوله تعالى : { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } يقول تعالى : ثم بعد
هذا الميثاق المؤكد العظيم توليتم عنه وانثنيتم ونقضتموه { فَلَوْلا فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } أي : توبته (6) عليكم وإرساله النبيين
والمرسلين إليكم { لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } بنقضكم ذلك الميثاق في الدنيا والآخرة.
{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا
لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) }
يقول تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ } يا معشر اليهود ، ما حل من البأس بأهل
القرية التي عصت أمر الله وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت
والقيام بأمره ، إذ كان مشروعًا لهم ، فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت ،
بما وضعوا لها من الشصوص والحبائل والبرك قبل يوم السبت ، فلما جاءت يوم السبت على
عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل والحيل ، فلم تخلص منها يومها ذلك ، فلما كان
الليل أخذوها بعد انقضاء السبت. فلما فعلوا ذلك مسخهم الله إلى صورة القردة ، وهي
أشبه شيء بالأناسي في الشكل (7) الظاهر وليست بإنسان حقيقة. فكذلك أعمال هؤلاء وحيلهم
لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن ، كان جزاؤهم من جنس عملهم.
وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف ، حيث يقول تعالى : { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ
الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ
إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا
يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }
[الأعراف : 163 ] القصة بكمالها.
__________
(1) زيادة من جـ ، ب ، أ ، و.
(2) في جـ : "فقال".
(3) في جـ : "فوقهم" وهو خطأ.
(4) في جـ ، ب ، أ ، و : "دفنته".
(5) في جـ ، ب ، أ ، و : "دفنته إلا".
(6) في جـ ، ط ، أ ، و : "أي بتوبته".
(7) في جـ : "بالأناسي والشكل".
(1/288)
وقال
السدي : أهل هذه القرية هم أهل "أيلة". وكذا قال قتادة ، وسنورد أقوال
المفسرين هناك مبسوطة إن شاء الله وبه الثقة (1).
وقوله : { كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا
أبو حذيفة ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا
قِرَدَةً خَاسِئِينَ } قال : مسخت قلوبهم ، ولم يمسخوا قردة ، وإنما هو مثل ضربه
الله { كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا } [الجمعة : 5].
ورواه ابن جرير ، عن المثنى ، عن أبي (2) حذيفة. وعن محمد بن عمرو (3) الباهلي ،
عن أبي عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، به.
وهذا سند جيد عن مجاهد ، وقول غريب خلاف الظاهر من السياق في هذا المقام وفي غيره ،
قال الله تعالى : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ
اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ
وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } الآية [المائدة : 60].
وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس : { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً
خَاسِئِينَ } فجعل [الله] (4) منهم القردة والخنازير. فزعم أن شباب القوم صاروا
قردة والمشيخة صاروا خنازير.
وقال شيبان النحوي ، عن قتادة : { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ }
فصار القوم قرودًا تعاوى لها أذناب بعد ما كانوا رجالا ونساء.
وقال عطاء الخراساني : نودوا : يا أهل القرية ، { كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ }
فجعل الذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون : يا فلان ، ألم ننهكم ؟ فيقولون برؤوسهم ،
أي بلى.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين (5) حدثنا عبد الله بن محمد بن ربيعة
بالمصيصة ، حدثنا محمد بن مسلم - يعني الطائفي - عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن
ابن عباس ، قال : إنما كان الذين اعتدوا في السبت فجعلوا قردة فُوَاقا ثم هلكوا.
ما كان للمسخ (6) نسل (7).
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : فمسخهم الله قردة بمعصيتهم ، يقول : إذ لا يحيون في
الأرض إلا ثلاثة أيام ، قال : ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام ، ولم يأكل ولم يشرب
ولم ينسل. وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة أيام التي ذكرها
الله (8) في كتابه ، فمسخ [الله] (9) هؤلاء القوم في صورة القردة ، وكذلك يفعل بمن
يشاء كما يشاء. ويحوله كما يشاء.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : { كُونُوا قِرَدَةً
خَاسِئِينَ } قال : يعني
__________
(1) في أ : "وبه الثقة والإعانة".
(2) في جـ : "عن أبو" وهو خطأ.
(3) في جـ ، ب : "بن عمر".
(4) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(5) في جـ ، ط ، ب : "الحسن".
(6) في جـ : "للمسيخ".
(7) تفسير ابن أبي حاتم (1/209).
(8) في جـ ، ط ، ب : "التي ذكر الله".
(9) زيادة من أ.
(1/289)
أذلة
صاغرين. وروي عن مجاهد ، وقتادة والربيع ، وأبي مالك ، نحوه.
وقال محمد بن إسحاق ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، قال : قال ابن عباس : إن
الله إنما افترض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم في عيدكم - يوم الجمعة -
فخالفوا إلى (1) السبت فعظموه ، وتركوا ما أمروا به. فلما أبوا إلا لزوم السبت
ابتلاهم الله فيه ، فحرم عليهم ما أحل لهم في غيره. وكانوا في قرية بين أيلة
والطور ، يقال لها : "مدين" ؛ فحرم الله عليهم في السبت الحيتان : صيدها
وأكلها. وكانوا إذا كان يوم السبت أقبلت إليهم شرعًا إلى ساحل بحرهم ، حتى إذا ذهب
السبت ذهبن ، فلم يروا حوتًا صغيرًا ولا كبيرًا. حتى إذا كان يوم السبت أتين شرعًا
، حتى إذا ذهب السبت ذهبن ، فكانوا كذلك ، حتى إذا طال عليهم الأمد وقرموا إلى
الحيتان ، عمد رجل (2) منهم فأخذ حوتًا سرًا يوم السبت ، فخزمه بخيط ، ثم أرسله في
الماء ، وأوتد له وتدًا في الساحل فأوثقه ، ثم تركه. حتى إذا كان الغد جاء فأخذه ،
أي : إني لم آخذه في يوم السبت ثم انطلق به فأكله. حتى إذا كان يوم السبت الآخر ،
عاد لمثل ذلك ، ووجد الناس ريح الحيتان ، فقال أهل القرية : والله لقد وجدنا ريح
الحيتان ، ثم عثروا على صنيع (3) ذلك الرجل. قال : ففعلوا كما فعل ، وصنعوا (4)
سرًا زمانًا طويلا لم يعجل الله عليهم العقوبة (5) حتى صادوها علانية وباعوها في
بالأسواق (6). فقالت طائفة منهم من أهل البقية : ويحكم ، اتقوا الله. ونهوهم عما
يصنعون. فقالت طائفة أخرى لم تأكل الحيتان ، ولم تنه القوم عما صنعوا : { لِمَ
تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا
قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ } لسخطنا أعمالهم { وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
} [الأعراف : 164].
قال ابن عباس : فبينما هم على ذلك أصبحت تلك البقية في أنديتهم ومساجدهم وفقدوا
الناس فلم يرونهم قال : فقال بعضهم لبعض : إن للناس لشأنًا! فانظروا ما هو. فذهبوا
ينظرون في دورهم ، فوجدوها مغلقة عليهم ، قد دخلوها ليلا فغلقوها على أنفسهم ، كما
يغلق الناس على أنفسهم فأصبحوا فيها قردة ، وإنهم ليعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد ،
والمرأة بعينها وإنها لقردة ، والصبي بعينه وإنه لقرد. قال : يقول ابن عباس :
فلولا ما ذكر الله أنه أنجى الذين نهوا عن السوء لقلنا (7) أهلك الجميع منهم ، قال
: وهي القرية التي قال الله جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم : { وَاسْأَلْهُمْ
عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ } الآية [الأعراف : 163].
وروى الضحاك عن ابن عباس نحوًا من هذا.
قال (8) السدي في قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا
مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } قال : فهم
أهل "أيلة" ، وهي القرية التي كانت حاضرة البحر ، فكانت الحيتان إذا كان
يوم السبت - وقد حرم الله على اليهود أن يعملوا (9) في السبت شيئًا - لم يبق في
البحر حوت إلا خرج ،
__________
(1) في جـ ، ط : "إلي يوم".
(2) في جـ : "عمد رجلا" وهو خطًا.
(3) في جـ : "على صنع".
(4) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "وأكلوا".
(5) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "بعقوبة".
(6) في جـ : "في الأسواق".
(7) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "لقد".
(8) في جـ ، ط ، ب : "وقال".
(9) في جـ ، ط : "أن تعمل".
(1/290)
حتى
يخرجن خراطيمهن من الماء ، فإذا كان يوم الأحد لزمن مقل البحر ، فلم ير منهن شيء
(1) حتى يكون يوم السبت ، فذلك قوله تعالى : { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي
كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ
حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ
[كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ] (2) }. فاشتهى بعضهم السمك ،
فجعل الرجل يحفر الحفيرة ، ويجعل لها نهرًا إلى البحر ، فإذا كان يوم السبت فتح
النهر فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة ، فيريد الحوت أن يخرج ،
فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر ، فيمكث فإذا كان يوم الأحد جاء فأخذه ، فجعل الرجل
يشوي السمك فيجد جاره ريحه فيسأله فيخبره ، فيصنع مثل ما صنع جاره ، حتى فشا فيهم
أكل السمك ، فقال لهم علماؤهم : ويحكم! إنما تصطادون يوم السبت ، وهو لا يحل لكم ،
فقالوا : إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه. فقال العلماء (3) لا ولكنكم صدتموه يوم
فتحكم (4) الماء فدخل ، قال : وغلبوا أن ينتهوا. فقال بعض (5) الذين نهوهم لبعض :
{ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا
شَدِيدًا } يقول : لم تعظوهم ، وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم ؟ فقال بعضهم : {
مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [الأعراف : 164] فلما أبوا
قال المسلمون : والله لا نساكنكم في قرية واحدة. فقسموا القرية بجدار ، ففتح
المسلمون بابًا والمعتدون في السبت بابًا ، ولعنهم داود ، عليه السلام ، فجعل
المسلمون يخرجون من بابهم ، والكفار من بابهم ، فخرج المسلمون ذات يوم ، ولم يفتح
الكفار بابهم ، فلما أبطأوا عليهم تسور المسلمون عليهم الحائط ، فإذا هم قردة يثب
بعضهم على بعض ، ففتحوا عنهم ، فذهبوا في الأرض ، فذلك قول الله تعالى : {
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً
خَاسِئِينَ } [الأعراف : 166 ] وذلك حين يقول : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } [المائدة :
78 ]. فهم القردة.
قلت : والغرض من هذا السياق عن هؤلاء الأئمة بيان خلاف ما ذهب إليه مجاهد ، رحمه
الله ، من أن مسخهم إنما كان معنويًا لا صوريًا بل الصحيح أنه معنوي صوري ، والله
أعلم.
وقوله تعالى : { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا
وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } قال بعضهم : الضمير في { فَجَعَلْنَاهَا } عائد على
القردة ، وقيل : على الحيتان ، وقيل : على العقوبة ، وقيل : على القرية ؛ حكاها
ابن جرير.
والصحيح أن الضمير عائد على القرية ، أي : فجعل الله هذه القرية ، والمراد أهلها
بسبب اعتدائهم في سبتهم { نَكَالا } أي : عاقبناهم عقوبة ، فجعلناها (6). عبرة ،
كما قال الله عن فرعون : { فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى }
[النازعات : 25].
__________
(1) في جـ : "شيئًا" وهو خطأ.
(2) زيادة من جـ.
(3) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "الفقهاء".
(4) في أ ، و : "فتحتم له".
(5) في أ : "فقال بعضهم".
(6) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "فجعلناهم".
(1/291)
وقوله
: { لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا } أي من القرى. قال (1) ابن عباس :
يعني جعلناها بما أحللنا بها من العقوبة عبرة لما حولها من القرى. كما قال تعالى :
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الأحقاف : 27] ، ومنه قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } الآية [الرعد : 41 ] ،
على أحد الأقوال ، فالمراد : لما بين يديها وما خلفها في المكان ، كما قال محمد بن
إسحاق ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : لما بين يديها من القرى وما
خلفها من القرى. وكذا قال سعيد بن جبير { لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا
} [قال] (2) من بحضرتها من الناس يومئذ.
وروي عن إسماعيل بن أبي خالد ، وقتادة ، وعطية العوفي : { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا
لِمَا بَيْنَ يَدَيْها [وَمَا خَلْفَهَا] } (3) قال : ما [كان] (4) قبلها من الماضين
في شأن السبت.
وقال أبو العالية والربيع وعطية : { وَمَا خَلْفَهَا } لما (5) بقي بعدهم من الناس
من بني إسرائيل أن يعملوا مثل عملهم.
وكان هؤلاء يقولون : المراد بما بين يديها وما خلفها في الزمان.
وهذا مستقيم بالنسبة إلى من يأتي بعدهم من الناس أن يكون أهل تلك القرية عبرة لهم
، وأما بالنسبة إلى من سلف قبلهم من الناس فكيف يصح هذا الكلام أن تفسر الآية به
وهو أن يكون عبرة لمن سبقهم ؟ هذا لعل أحدًا من الناس لا يقوله بعد تصوره ، فتعين
أن المراد بما بين يديها وما خلفها في المكان ، وهو ما حولها من القرى ؛ كما قاله ابن
عباس وسعيد بن جبير ، والله أعلم.
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع عن أبي العالية : { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا
لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } أي : عقوبة لما خلا من ذنوبهم.
وقال ابن أبي حاتم (6) وروى عن عكرمة ، ومجاهد ، والسدي ، والحسن ، وقتادة ،
والربيع بن أنس ، نحو ذلك.
وحكى القرطبي ، عن ابن عباس والسدي ، والفراء ، وابن عطية { لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهَا } بين ذنوب القوم { وَمَا خَلْفَهَا } لمن يعمل بعدها مثل تلك الذنوب ،
وحكى فخر الدين ثلاثة أقوال :
أحدها : أن المراد بما بين يديها وما خلفها : من تقدمها من القرى ، بما عندهم من
العلم بخبرها ، بالكتب المتقدمة ومن بعدها.
الثاني : المراد بذلك من بحضرتها من القرى والأمم.
__________
(1) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "قاله".
(2) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(3) زيادة من جـ.
(4) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(5) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "لمن".
(6) في أ : "وقال ابن أبي جرير".
(1/292)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
والثالث
: أنه جعلها تعالى عقوبة لجميع ما ارتكبوه من قبل هذا الفعل وما بعده ، قال : وهذا
قول الحسن. قلت : وأرجح الأقوال أن المراد بما بين يديها وما خلفها : من بحضرتها
من القرى التي يبلغهم خبرها ، وما حل بها ، كما قال : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا
حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }
[الأحقاف : 27] وقال تعالى : { وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا
صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ } [الرعد : 31] ، وقال {
أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا }
[الأنبياء : 44 ] ، فجعلهم عبرة ونكالا لمن في زمانهم ، وعبرة لمن يأتي بعدهم
بالخبر المتواتر عنهم ، ولهذا قال : { وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ }
وقوله تعالى : { وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } قال محمد بن إسحاق ، عن داود بن
الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } الذين من
بعدهم إلى يوم القيامة.
وقال الحسن وقتادة : { وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } بعدهم ، فيتقون نقمة الله ،
ويحذرونها.
وقال السدي ، وعطية العوفي : { وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } قال : أمة محمد صلى
الله عليه وسلم.
قلت : المراد بالموعظة هاهنا الزاجر ، أي : جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس
والنكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم الله ، وما تحيلوا به من الحيل ، فليحذر
المتقون صنيعهم لئلا يصيبهم ما أصابهم ، كما قال الإمام أبو عبد الله بن بطة :
حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم ، حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني ، حدثنا
يزيد بن هارون ، حدثنا محمد بن عمرو [عن أبي سلمة] (1) عن أبي هريرة : أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا ترتكبوا ما ارتكب (2) اليهود ، فتستحلوا
محارم الله بأدنى الحيل" (3).
وهذا إسناد جيد ، وأحمد بن محمد بن مسلم هذا وثقه الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي
، وباقي رجاله مشهورون على شرط الصحيح. والله أعلم.
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا
بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ
مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) }
يقول تعالى : واذكروا - يا بني إسرائيل - نعمتي عليكم في خرق العادة لكم في شأن
البقرة ، وبيان القاتل من هو بسببها وإحياء الله المقتول ، ونصه على من قتله منهم.
[مسألة الإبل تنحر والغنم تذبح واختلفوا في البقر فقيل : تذبح ، وقيل : تنحر ، والذبح
أولى لنص القرآن ولقرب منحرها من مذبحها. قال ابن المنذر : ولا أعلم خلافا صحيحًا
بين ما ينحر أو نحر ما يذبح ، غير أن مالكا كره ذلك. وقد يكره الإنسان ما لا يحرم
، وقال أبو عبد الله : أعلم أن نزول قصة البقرة على موسى ،
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(2) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "ما ارتكبت".
(3) جزء الخلع وإبطال الحيل لابن بطة (ص24).
(1/293)
عليه
السلام ، في أمر القتيل قبل نزول القسامة في التوراة.
بسط القصة] (1) - كما قال ابن أبي حاتم - :
حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا هشام بن حسان ، عن
محمد بن سيرين ، عن (2) عبيدة السلماني ، قال : كان رجل من بني إسرائيل عقيمًا لا
يولد له ، وكان له مال كثير ، وكان (3) ابن أخيه وارثه ، فقتله ثم احتمله ليلا
فوضعه على باب رجل منهم ، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا ، وركب بعضهم إلى (4)
بعض ، فقال ذوو الرأي منهم والنهى : علام يقتل بعضكم بعضًا وهذا رسول الله فيكم ؟
فأتوا موسى ، عليه السلام ، فذكروا ذلك له ، فقال : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ
أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ
أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } قال : فلو لم يعترضوا [البقر] (5) لأجزأت عنهم
أدنى بقرة ، ولكنهم (6) شددوا فشدد عليهم ، حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا
بذبحها فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها ، فقال : والله لا أنقصها من ملء جلدها
ذهبا ، فأخذوها بملء جلدها ذهبًا فذبحوها ، فضربوه ببعضها فقام فقالوا : من قتلك ؟
فقال : هذا ، لابن أخيه. ثم مال ميتًا ، فلم يعط من ماله شيئًا ، فلم يورث قاتل
بعد.
ورواه ابن جرير من حديث أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة (7) بنحو من ذلك (8)
والله أعلم.
ورواه عبد بن حميد في تفسيره : أنبأنا يزيد بن هارون ، به.
ورواه آدم بن أبي إياس في تفسيره ، عن أبي جعفر - هو الرازي - عن هشام بن حسان ،
به. وقال آدم بن أبي إياس في تفسيره : أنبأنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن
أبي العالية ، في قول الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا
بَقَرَةً } قال : كان رجل من بني إسرائيل ، وكان غنيًا ، ولم يكن له ولد ، وكان له
قريب وكان وارثه ، فقتله ليرثه ، ثم ألقاه على مجمع الطريق ، وأتى موسى ، عليه
السلام ، فقال له : إن قريبي قتل وإني إلى أمر عظيم ، وإني لا أجد أحدًا يبين [لي]
(9) من قتله غيرك يا نبي الله. قال : فنادى موسى في الناس ، فقال : أنشد الله من
كان عنده من هذا علم إلا بينه لنا ، [قال] (10) : فلم يكن عندهم علم ، فأقبل
القاتل على موسى عليه السلام ، فقال له : أنت نبي الله فاسأل لنا ربك أن يبين لنا
، فسأل ربه فأوحى الله إليه : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا
بَقَرَةً } فعجبوا من
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، ب ، و.
(2) في جـ : "بن".
(3) في ط ، ب : "وكان له".
(4) في جـ : "على".
(5) زيادة من ب.
(6) في جـ : "ولكن".
(7) في جـ : "عبدة".
(8) تفسير ابن أبي حاتم (1/214) وتفسير الطبري (1/337).
(9) زيادة من ط ، ب ، أ ، و.
(10) زيادة من أ.
(1/294)
ذلك
، فقالوا : { أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْجَاهِلِينَ* قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ
إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ } يعني : لا هرمة { وَلا بِكْرٌ }
يعني : ولا صغيرة { عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } أي : نصف بين البكر والهرمة { قَالُوا
ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ
إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا } أي : صاف لونها { تَسُرُّ
النَّاظِرِينَ } أي : تعجب الناظرين { قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ
لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ
لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ } أي : لم
يذللها (1) العمل { تُثِيرُ الأرْضَ } يعني : وليست بذلول تثير الأرض { وَلا
تَسْقِي الْحَرْثَ } يقول : ولا تعمل في الحرث { مُسَلَّمَةٌ } يعني : مسلمة من
العيوب { لا شِيَةَ فِيهَا } يقول : لا بياض فيها { قَالُوا الآنَ جِئْتَ
بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } قال : ولو أن القوم حين
أمروا أن يذبحوا بقرة ، استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها ، لكانت إياها ، ولكنهم
شددوا على أنفسهم فشدد عليهم ، ولولا أن القوم استثنوا فقالوا : { وَإِنَّا إِنْ
شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } لما هدوا إليها أبدًا. فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة
التي نعتت لهم إلا عند عجوز عندها يتامى ، وهي القيمة عليهم ، فلما علمت أنه لا
يزكو لهم (2) غيرها ، أضعفت عليهم الثمن. فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا
النعت إلا عند فلانة ، وأنها سألتهم أضعاف ثمنها. فقال لهم موسى : إن الله قد كان
خفف عليكم فشددتم على أنفسكم فأعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا ، واشتروها (3) فذبحوها
، فأمرهم موسى ، عليه السلام ، أن يأخذوا عظمًا (4) منها فيضربوا به القتيل ،
ففعلوا ، فرجع إليه روحه ، فسمى لهم قاتله ، ثم عاد ميتًا كما كان ، فأخذ قاتله -
وهو الذي كان أتى موسى فشكا إليه [مقتله] (5) - فقتله الله على أسوأ (6) عمله.
وقال محمد بن جرير : حدثني ابن سعد (7) حدثني أبي ، حدثني عمي ، حدثني أبي ، عن
أبيه [عن جده] (8) عن ابن عباس ، في قوله في شأن البقرة : وذلك أن شيخًا من بني
إسرائيل على عهد موسى ، عليه السلام ، كان مكثرًا من المال ، وكان بنو أخيه فقراء
لا مال لهم ، وكان الشيخ لا ولد له وبنو أخيه ورثته فقالوا : ليت (9) عمنا قد مات
فورثنا ماله ، وإنه لما تطاول عليهم ألا يموت عمهم ، أتاهم الشيطان فقال لهم : هل
لكم إلى أن تقتلوا عمكم ، فترثوا ماله ، وَتُغْرِمُوا أهل المدينة التي لستم بها
ديته ، وذلك أنهما كانتا مدينتين ، كانوا في إحداهما وكان القتيل إذا قتل فطرح بين
المدينتين (10) قيس ما بين القتيل والقريتين فأيهما (11) كانت أقرب إليه غرمت
الدية ، وأنهم لما سول لهم الشيطان ذلك ، وتطاول عليهم ألا يموت عمهم عمدوا إليه
فقتلوه ، ثم عمدوا فطرحوه على باب المدينة التي ليسوا فيها. فلما أصبح أهل المدينة
جاء بنو أخي الشيخ ، فقالوا : عمنا قتل على باب مدينتكم ، فوالله
__________
(1) في ب ، أ ، و : "لم يذلها".
(2) في أ : "أنهم لا يتركوا".
(3) في ط : "واشتروا".
(4) في جـ : "عظمها".
(5) زيادة من و.
(6) في جـ : "أشر" ، وفي أ : "سوء".
(7) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "ابن أبي سعيد".
(8) زيادة من أ ، و.
(9) في جـ : "يا ليت".
(10) في ب : "القريتين".
(11) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "فأيتهما".
(1/295)
لتغرمن
لنا دية عمنا. قال أهل المدينة : نقسم بالله ما قتلنا ولا علمنا (1) قاتلا ولا فتحنا
باب مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا. وإنهم عمدوا إلى موسى ، عليه السلام ، فلما أتوه
قال بنو أخي الشيخ : عمنا وجدناه مقتولا على باب مدينتهم. وقال أهل المدينة : نقسم
بالله ما قتلناه ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا ، وإنه جبريل
(2) جاء بأمر (3) السميع العليم إلى موسى ، عليه السلام ، فقال : قل لهم : { إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } فتضربوه ببعضها.
وقال السدي : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تَذْبَحُوا بَقَرَةً } قال : كان رجل من بني إسرائيل مكثرًا من المال وكانت له
ابنة ، وكان له ابن أخ محتاج ، فخطب إليه ابن أخيه ابنته ، فأبى أن يزوجه ، فغضب
الفتى ، وقال : والله لأقتلن عمي ، ولآخذن ماله ، ولأنكحن ابنته ، ولآكلن ديته.
فأتاه الفتى وقد قدم تجار في بعض أسباط بني إسرائيل ، فقال : يا عم (4) انطلق معي
فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم ، لعلي أن أصيب منها (5) فإنهم إذا رأوك معي أعطوني.
فخرج العم مع الفتى ليلا فلما بلغ الشيخ ذلك السبط قتله الفتى ، ثم رجع إلى أهله.
فلما أصبح جاء كأنه يطلب عمه ، كأنه لا يدري أين هو ، فلم يجده. فانطلق نحوه ،
فإذا هو بذلك السبط مجتمعين عليه ، فأخذهم وقال : قتلتم عمي ، فأدوا إليّ ديته
فجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه ، وينادي : واعماه. فرفعهم إلى موسى ، فقضى عليهم
بالدية ، فقالوا له : يا رسول الله ، ادع الله لنا (6) حتى يبين لنا من صاحبه ،
فيؤخذ صاحب الجريمة (7) فوالله إن ديته علينا لهينة ، ولكنا نستحيي أن نعير به
فذلك حين يقول الله تعالى : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا
وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } فقال لهم موسى ، عليه السلام : {
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } قالوا : نسألك عن القتيل
وعمن قتله ، وتقول : اذبحوا بقرة. أتهزأ بنا! { قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ
أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } قال ابن عباس : فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت
عنهم ، ولكنهم شددوا وتعنتوا [على] (8) موسى فشدد الله عليهم. فقالوا : { ادْعُ
لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ
لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } والفارض : الهرمة التي لا تلد ،
والبكر التي لم تلد إلا ولدًا واحدًا. والعوان : النصف التي بين ذلك ، التي قد
ولدت وولد ولدها { فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ* قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ
يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ
فَاقِعٌ لَوْنُهَا } قال : نقي لونها { تَسُرُّ النَّاظِرِينَ } قال : تعجب
الناظرين { قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ
تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ* قَالَ إِنَّهُ
يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ
مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا } من بياض ولا سواد ولا حمرة { قَالُوا الآنَ جِئْتَ
بِالْحَقِّ } فطلبوها فلم يقدروا عليها.
__________
(1) في جـ : "ما قتلناه ولا علمناه".
(2) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "وإن جبريل".
(3) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "بأمر ربه".
(4) في جـ : "يا عمي".
(5) في جـ : "فيها".
(6) في ب ، أ ، و : "ادع لنا الله".
(7) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "الفرصة".
(8) زيادة من جـ ، أ.
(1/296)
وكان
رجل في (1) بني إسرائيل ، من أبر الناس بأبيه ، وإن رجلا مر به معه لؤلؤ يبيعه ،
وكان أبوه نائمًا تحت رأسه المفتاح ، فقال له الرجل : تشتري (2) مني هذا اللؤلؤ
بسبعين ألفًا ؟ فقال له الفتى : كما أنت حتى يستيقظ أبي فآخذه منك بثمانين ألفًا.
فقال الآخر : أيقظ أباك وهو لك بستين ألفًا ، فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين
ألفًا ، وزاد الآخر على أن ينتظر أباه حتى يستيقظ حتى بلغ مائة ألف ، فلما أكثر
عليه قال : والله لا أشتريه منك بشيء أبدًا ، وأبى أن يوقظ أباه ، فعوضه الله من
ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة ، فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة وأبصروا
البقرة عنده ، فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة ، فأبى ، فأعطوه ثنتين فأبى ،
فزادوه حتى بلغوا عشرا ، فأبى ، فقالوا : والله لا نتركك حتى نأخذها منك. فانطلقوا
به إلى موسى ، عليه السلام ، فقالوا : يا نبي الله ، إنا وجدناها عند هذا فأبى أن
يعطيناها وقد أعطيناه ثمنًا فقال له موسى : أعطهم بقرتك. فقال : يا رسول الله ،
أنا أحق بمالي. فقال : صدقت. وقال للقوم : أرضوا صاحبكم ، فأعطوه وزنها ذهبًا ،
فأبى ، فأضعفوا (3) له مثل ما أعطوه وزنها ، حتى أعطوه وزنها عشر مرات ذهبًا ،
فباعهم إياها وأخذ ثمنها ، فذبحوها. قال : اضربوه ببعضها ، فضربوه بالبضعة التي
بين الكتفين ، فعاش ، فسألوه : من قتلك ؟ فقال لهم : ابن أخي ، قال : أقْتُلُهُ ،
فآخذُ مالَه ، وأنكح ابنتَه. فأخذوا الغلام فقتلوه (4).
وقال سنيد : حدثنا حجاج ، هو ابن محمد ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، وحجاج ، عن أبي
معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس - دخل حديث بعضهم في حديث بعض - قالوا
: إن سبطًا من بني إسرائيل لما رأوا كثرة شرور الناس ، بنوا مدينة فاعتزلوا شرور
الناس ، فكانوا إذا أمسوا لم يتركوا أحدًا منهم خارجًا إلا أدخلوه ، وإذا افتتحوا
(5) قام رئيسهم فنظر وأشرف ، فإذا لم ير شيئًا فتح المدينة ، فكانوا مع الناس حتى
يمسوا. قال : وكان رجل من بني إسرائيل له مال كثير ، ولم يكن له وارث غير أخيه ،
فطال عليه حياته فقتله ليرثه ، ثم حمله فوضعه على باب المدينة ، ثم كمن في مكان هو
وأصحابه. قال : فأشرف (6) رئيس المدينة على باب المدينة فنظر ، فلم ير شيئًا ففتح
الباب ، فلما رأى القتيل رد الباب ، فناداه أخو المقتول وأصحابه : هيهات! قتلتموه
ثم تردون الباب. وكان موسى لما رأى القتل كثيرًا في أصحابه بني إسرائيل ، كان إذا
رأى القتيل بين ظهراني القوم أخذهم ، فكاد يكون بين أخى المقتول وبين أهل المدينة
قتال ، حتى لبس الفريقان السلاح ، ثم كف بعضهم عن بعض ، فأتوا موسى فذكروا له
شأنهم. قالوا : يا رسول الله ، إن هؤلاء قتلوا قتيلا ثم ردوا الباب ، وقال أهل
المدينة : يا رسول الله قد عرفت اعتزالنا الشرور (7) وبنينا مدينة ، كما رأيت ،
نعتزل شرور الناس ، والله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا. فأوحى الله تعالى إليه أن
يذبحوا بقرة فقال لهم موسى :
__________
(1) في جـ : "من".
(2) في أ : "اشترى".
(3) في جـ ، ط ، ب : "فأضعفوه".
(4) تفسير الطبري (2/185).
(5) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "وإذا أصبحوا".
(6) في و : "فتشرف".
(7) في جـ : "اعتزالنا عن الناس الشرور".
(1/297)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)
{
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } (1).
وهذه السياقات [كلها] (2) عن عبيدة (3) وأبي العالية والسدي وغيرهم ، فيها اختلاف
ما ، والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل وهي مما يجوز نقلها (4) ولكن لا نصدق
ولا نكذب (5) فلهذا لا نعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا ، والله أعلم.
{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ
إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا
تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ
النَّاظِرِينَ (69) }
أخبر تعالى عن تعنت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم. ولهذا لما ضيقوا على أنفسهم
ضيق عليهم ، ولو أنهم ذبحوا أي بقرة كانت لوقعت الموقع عنهم ، كما قال ابن عباس
وعبيدة وغير واحد ، ولكنهم شددوا فشدد عليهم ، فقالوا : { ادْعُ لَنَا رَبَّكَ
يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ } ما هذه البقرة ؟ وأي شيء صفتها ؟
قال (6) ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا عثام (7) بن علي ، عن الأعمش ، عن
المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لو أخذوا أدنى بقرة
اكتفوا بها ، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم (8).
إسناد صحيح ، وقد رواه غير واحد عن ابن عباس. وكذا قال عبيدة ، والسدي ، ومجاهد ،
وعكرمة ، وأبو العالية وغير واحد.
وقال ابن جريج : قال [لي] (9) عطاء : لو أخذوا أدنى بقرة كفتهم. قال ابن جريج :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنما أمروا بأدنى بقرة ، ولكنهم لما
شددوا على أنفسهم شدد الله عليهم ؛ وايم الله لو أنهم لم يستثنوا ما بينت لهم آخر
الأبد" (10).
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ } أي : لا
كبيرة هرمة ولا صغيرة لم يلحقها (11)
__________
(1) ورواه الطبري في تفسيره (2/188) من طريق سنيد.
(2) زيادة من جـ.
(3) في أ : "أبي عبيدة".
(4) في أ : "فعله".
(5) في ط ، ب : "لا تصدق ولا تكذب".
(6) في ط : "وقال".
(7) في جـ : "هشام".
(8) تفسير الطبري (2/204).
(9) زيادة من جـ ، ط ، ب ، و.
(10) رواه الطبري في تفسيره (2/205).
(11) في جـ ، ط : "يلقحها" ، وفي أ : "ينكحها".
(1/298)
الفحل
، كما قاله أبو العالية ، والسدي ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطية العوفي ، وعطاء
الخراساني (1) ووهب بن منبه ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، وقاله ابن عباس أيضًا.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس { عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } [يقول : نصف] (2) بين
الكبيرة والصغيرة ، وهي أقوى ما يكون من الدواب والبقر وأحسن ما تكون. وروي عن
عكرمة ، ومجاهد ، وأبي العالية ، والربيع بن أنس ، وعطاء الخراساني ، والضحاك نحو
ذلك.
وقال السدي : العوان : النصف التي بين ذلك التي ولدت ، وولد ولدها.
وقال هشيم ، عن جويبر ، عن كثير بن زياد ، عن الحسن في البقرة : كانت بقرة وحشية.
وقال ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : من لبس نعلا صفراء لم يزل في سرور ما دام
لابسها ، وذلك قوله (3) تعالى : { صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ
النَّاظِرِينَ } وكذا قال مجاهد ، ووهب بن منبه أنها كانت صفراء.
وعن ابن عمر : كانت صفراء الظلف. وعن سعيد بن جبير : كانت صفراء القرن والظلف.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نصر بن علي ، حدثنا نوح بن قيس ، أنبأنا
أبو رجاء ، عن الحسن في قوله : { بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا } قال :
سوداء شديدة السواد.
وهذا غريب ، والصحيح الأول ، ولهذا أكد صفرتها بأنه { فَاقِعٌ لَوْنُهَا }
وقال عطية العوفي : { فَاقِعٌ لَوْنُهَا } تكاد تسود من صفرتها.
وقال سعيد بن جبير : { فَاقِعٌ لَوْنُهَا } قال : صافية اللون. وروى عن أبي
العالية ، والربيع بن أنس ، والسدي ، والحسن ، وقتادة نحوه.
وقال شريك ، عن مَغْراء (4) عن ابن عمر : { فَاقِعٌ لَوْنُهَا } قال : صاف (5).
وقال العوفي في تفسيره ، عن ابن عباس : { فَاقِعٌ لَوْنُهَا } شديدة الصفرة ، تكاد
من صفرتها تبيض.
وقال السدي : { تَسُرُّ النَّاظِرِينَ } أي : تعجب الناظرين (6) وكذا قال أبو
العالية ، وقتادة ، والربيع بن أنس.
[وفي التوراة : أنها كانت حمراء ، فلعل هذا خطأ في التعريب أو كما قال الأول :
إنها كانت شديدة الصفرة تضرب إلى حمرة وسواد ، والله أعلم] (7).
__________
(1) في جـ : "الخراساني وسيأتي".
(2) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(3) في جـ ، ب : "قول الله تعالى" ، وفي ط : "قول الله.
(4) في أ : "عن ابن عباس".
(5) في جـ ، ط ، ب : "صافي".
(6) في جـ : "أي تعجبهم".
(7) زيادة من جـ ، ط ، ب ، و.
(1/299)
وقال وهب بن منبه : إذا نظرت إلى جلدها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها.
(1/300)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
{
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ
عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) }
وقوله : { إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } أي : لكثرتها ، فميز لنا هذه
البقرة وصفها وحِلَّها لنا { وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ } إذا بينتها لنا {
لَمُهْتَدُونَ } إليها.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن يحيى الأودي (1) الصوفي ، حدثنا أبو سعيد أحمد
بن داود الحداد ، حدثنا سرور بن المغيرة الواسطي ، ابن أخي منصور بن زاذان ، عن
عباد بن منصور ، عن الحسن ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "لولا أن بني إسرائيل قالوا : { وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ
لَمُهْتَدُونَ } لما أعطوا ، ولكن استثنوا" (2).
ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من وجه آخر ، عن سرور بن المغيرة ، عن
(3) زاذان ، عن عباد بن منصور ، عن الحسن ، عن حديث أبي رافع ، عن أبي هريرة ، قال
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لولا أن بني إسرائيل قالوا : {
وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } ما أعطوا أبدًا ، ولو أنهم اعترضوا
بقرة من البقر فذبحوا لأجزأت عنهم ، ولكنهم شددوا ، فشدد الله عليهم" (4).
وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة ، كما تقدم
مثله (5) عن السدي ، والله أعلم.
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلا
تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ
فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) }
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلا
تَسْقِي الْحَرْثَ } أي : إنها ليست مذللة بالحراثة ولا معدة للسقي في السانية ،
بل هي مكرمة حسنة صبيحة { مُسَلَّمَةٌ } صحيحة لا عيب فيها { لا شِيَةَ فِيهَا }
أي : ليس فيها لون غير لونها.
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة { مُسَلَّمَةٌ } يقول : لا عيب فيها ، وكذا
قال أبو العالية والربيع ، وقال مجاهد { مُسَلَّمَةٌ } من الشية.
وقال عطاء الخراساني : { مُسَلَّمَةٌ } القوائم والخلق { لا شِيَةَ فِيهَا } قال
مجاهد : لا بياض ولا سواد. وقال أبو العالية والربيع ، والحسن وقتادة : ليس فيها
بياض. وقال عطاء الخراساني : { لا شِيَةَ فِيهَا } قال : لونها واحد بهيم. وروي عن
عطية العوفي ، ووهب بن منبه ، وإسماعيل بن أبي خالد ، نحو ذلك. وقال السدي : { لا
شِيَةَ فِيهَا } من بياض ولا سواد ولا حمرة ، وكل هذه الأقوال متقاربة [في المعنى
، وقد زعم بعضهم أن المعنى في ذلك قوله تعالى : { إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ }
ليست بمذللة بالعمل ثم استأنف فقال : { تُثِيرُ الأرْضَ } أي : يعمل عليها
بالحراثة لكنها لا تسقي الحرث ، وهذا ضعيف ؛ لأنه فسر الذلول التي لم تذلل بالعمل
بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث كذا قرره القرطبي وغيره] (6)
__________
(1) في جـ ، ط : "الأزدي".
(2) تفسير ابن أبي حاتم (1/223).
(3) في جـ ، ط ، ب : "بن".
(4) قال الحافظ ابن حجر : "فيه عباد بن منصور وهو ضعيف".
(5) في جـ ، ط : "نقله".
(6) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ.
(1/300)
{
قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } قال قتادة : الآن بَيَّنْتَ لنا ، وقال عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم : وقبل ذلك - والله (1) - قد جاءهم الحق.
{ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } قال الضحاك ، عن ابن عباس : كادوا ألا
يفعلوا ، ولم يكن ذلك الذي أرادوا ، لأنهم أرادوا ألا يذبحوها.
يعني أنَّهم مع هذا البيان (2) وهذه الأسئلة ، والأجوبة ، والإيضاح ما ذبحوها إلا
بعد الجهد ، وفي هذا ذم لهم ، وذلك أنه لم يكن غرضهم إلا التعنت ، فلهذا ما كادوا
يذبحونها.
وقال محمد بن كعب ، ومحمد بن قيس : { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ }
لكثرة ثمنها.
وفي هذا نظر ؛ لأن كثرة ثمنها لم يثبت إلا من نقل بني إسرائيل ، كما تقدم من حكاية
أبي العالية والسدي ، ورواه العوفي عن ابن عباس. وقال عبيدة ، ومجاهد ، ووهب بن
منبه ، وأبو العالية ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إنهم اشتروها بمال كثير (3)
وفيه اختلاف ، ثم قد قيل في ثمنها غير ذلك. وقال عبد الرزاق : أنبأنا ابن عيينة ،
أخبرني محمد بن سوقة ، عن عكرمة ، قال : ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير (4) وهذا
إسناد جيد عن عكرمة ، والظاهر أنه نقله عن أهل الكتاب أيضًا.
وقال ابن جرير : وقال آخرون : لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة ، إن اطلع الله
على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه.
ولم يسنده عن أحد ، ثم اختار أن الصواب في ذلك أنهم لم يكادوا يفعلوا ذلك لغلاء
ثمنها ، وللفضيحة. وفي هذا نظر ، بل الصواب - والله أعلم - ما تقدم من رواية
الضحاك ، عن ابن عباس ، على ما وجهناه. وبالله التوفيق.
مسألة : استدل بهذه الآية في حصر صفات هذه البقرة حتى تعينت أو تم تقييدها بعد
الإطلاق على صحة السلم في الحيوان كما هو مذهب مالك والأوزاعي والليث والشافعي
وأحمد وجمهور العلماء سلفًا وخلفًا بدليل ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله
عليه وسلم : "لا تنعت المرأةُ المرأةَ لزوجها كأنه ينظر إليها" (5).
وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم إبل الدية في قتل الخطأ وشبه العمد بالصفات
المذكورة بالحديث ، وقال أبو حنيفة والثوري والكوفيون : لا يصح السلم في الحيوان
لأنه لا تنضبط أحواله ، وحكى مثله عن ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعبد الرحمن بن
سمرة وغيرهم.
__________
(1) في جـ ، ط : "والله أعلم".
(2) في جـ : "الشأن".
(3) في ب : "بثمن كثير".
(4) تفسير عبد الرزاق (1/71).
(5) صحيح البخاري برقم (5241).
(1/301)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
{
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا
كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي
اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) }
قال البخاري : { فَادَّارَأْتُمْ } اختلفتم. وهكذا قال مجاهد فيما رواه ابن أبي
حاتم ، عن أبيه ، عن أبي حذيفة ، عن شبْل عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، أنه قال
في قوله تعالى : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا } اختلفتم.
وقال عطاء الخراساني ، والضحاك : اختصمتم فيها. وقال ابن جريج { وَإِذْ قَتَلْتُمْ
نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا } قال : قال بعضهم أنتم قتلتموه.
وقال آخرون : بل أنتم قتلتموه. وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
{ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } قال مجاهد : ما تُغَيبُون. وقال
ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن مسلم البصري ، حدثنا محمد بن الطفيل العبدي ، حدثنا
صدقة بن رستم ، سمعت المسيب بن رافع يقول : ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا
أظهرها الله ، وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله ، وتصديق ذلك في
كلام الله : { وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ* فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ
بِبَعْضِهَا } هذا البعض أيُّ شيء كان من أعضاء هذه البقرة فالمعجزة حاصلة به.
وخرق العادة به كائن ، وقد كان معينا في نفس الأمر ، فلو كان في تعيينه لنا فائدة
تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبينه الله تعالى لنا ، ولكن أبهمه ، ولم يجئ
من طريق صحيح عن معصوم بيانه (1) فنحن نبهمه كما أبهمه الله.
ولهذا قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عفَّان بن مسلم ، حدثنا عبد
الواحد بن زياد حدثنا الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن
عباس ، قال : إن أصحاب بقرة بني إسرائيل طلبوها أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل في
بقر له ، وكانت بقرة تعجبه ، قال : فجعلوا يعطونه بها فيأبى ، حتى أعطوه ملء مَسْكها
دنانير ، فذبحوها ، فضربوه - يعني القتيل - بعضو منها ، فقام تَشْخُب أوداجه دمًا
[فسألوه] (2) فقالوا له : من قتلك ؟ قال : (3) قتلني فلان (4).
وكذا قال الحسن ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إنه ضرب ببعضها.
وفي رواية عن ابن عباس : إنهم ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف.
وقال عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمَر ، قال : قال أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة :
ضربوا القتيل ببعض لحمها. وقال معمر : قال قتادة : فضربوه بلحم فخذها فعاش ، فقال
: قتلني فلان.
وقال أبو أسامة ، عن النضر بن عربي ، عن عكرمة : { فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا
} [قال] (5) فضرب
__________
(1) في جـ : "عن معصوم حدثنا به".
(2) زيادة من جـ.
(3) في جـ : "فقال".
(4) تفسير ابن أبي حاتم (1/229).
(5) زيادة من جـ ، أ ، و.
(1/302)
بفخذها
فقام ، فقال : قتلني فلان.
قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد ، وقتادة ، نحو ذلك.
وقال السدي : فضربوه بالبَضْعة التي بين الكتفين فعاش ، فسألوه ، فقال : قتلني ابن
أخي.
وقال أبو العالية : أمرهم موسى ، عليه السلام ، أن يأخذوا عظمًا من عظامها ،
فيضربوا به القتيل ، ففعلوا ، فرجع إليه روحه ، فسمى لهم قاتله ثم عاد ميتا كما
كان.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : فضربوه ببعض آرابها [وقيل : بلسانها ، وقيل :
بعجب ذنبها] (1).
وقوله : { كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى } أي : فضربوه فحيى. ونَبَّه تعالى
على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل : جعل تبارك وتعالى ذلك الصنع
حجة لهم على المعاد ، وفاصلا ما كان بينهم من الخصومة والفساد (2) ، والله تعالى
قد ذكر في هذه السورة ما خلقه في (3) إحياء الموتى ، في خمسة مواضع : { ثُمَّ
بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ } [البقرة : 56]. وهذه القصة ، وقصة الذين
خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ، وقصة الذي مرَّ على قرية وهي خاوية على
عروشها ، وقصة إبراهيم والطيور الأربعة.
ونبه تعالى بإحياء الأرض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها (4) رميما ،
كما قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، أخبرني يعلى بن عطاء ، قال : سمعت
وَكِيع بن عُدُس ، يحدث عن أبي رَزِين العُقَيلي ، قال : قلت : يا رسول الله ، كيف
يحيي الله الموتى ؟ قال : "أما مررت بواد مُمْحِل ، ثم مررت به خَضِرًا
؟" قال : بلى. قال : "كذلك النشور". أو قال : "كذلك يحيي الله
الموتى" (5). وشاهد هذا قوله تعالى : { وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ
أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ* وَجَعَلْنَا
فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُون*
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ }
[يس : 33 - 35].
مسألة : استدل لمذهب مالك في كون قول الجريح : فلان قتلني لوثًا بهذه القصة ؛ لأن
القتيل لما حيي سئل عمن قتله فقال : قتلني فلان ، فكان ذلك مقبولا منه ؛ لأنه لا
يخبر حينئذ إلا بالحق ، ولا يتهم والحالة هذه ، ورجحوا ذلك بحديث أنس : أن يهوديًا
قتل جارية على أوضاح لها ، فرضخ رأسها بين حجرين فقيل : من فعل بك هذا ؟ أفلان ؟
أفلان ؟ حتى ذكر اليهودي ، فأومأت برأسها ، فأخذ اليهودي ، فلم يزل به حتى اعترف ،
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد رأسه بين حجرين (6) وعند مالك : إذا كان
لوثًا حلف أولياء القتيل قسامة ، وخالف الجمهور في ذلك ولم يجعلوا قول القتيل في
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(2) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "والعناد".
(3) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "من".
(4) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "بعد صيرورتها".
(5) مسند الطيالسي برقم (1089).
(6) رواه البخاري في صحيحه برقم (6885).
(1/303)
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
ذلك
لوثًا.
{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ
أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ
وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا
لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
(74) }
يقول تعالى توبيخًا لبني إسرائيل ، وتقريعًا لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى
، وإحيائه الموتى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } كله { فَهِيَ
كَالْحِجَارَةِ } التي لا تلين أبدًا. ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم فقال
: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ
وَمَا نزلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ
فَاسِقُونَ } [الحديد : 16].
وقال العوفي ، في تفسيره ، عن ابن عباس : لما ضُرب المقتول ببعض البقرة جلس أحيا
ما كان قط ، فقيل له : من قتلك ؟ فقال : بنو أخي قتلوني. ثم قبض. فقال بنو أخيه
حين قبض : والله ما قتلناه ، فكذبوا بالحق بعد إذا رأوا (1). فقال (2) الله : {
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } يعني : بني (3) أخي الشيخ { فَهِيَ
كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } فصارت قلوب بني (4) إسرائيل مع طول الأمد
قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات فهي في قسوتها كالحجارة
التي لا علاج للينها أو أشد قسوة من الحجارة ، فإن من الحجارة ما تتفجر منها
العيون الجارية بالأنهار ، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء ، وإن لم يكن جاريا ،
ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله ، وفيه إدراك لذلك بحسبه ، كما قال : {
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ
شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ
كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } [الإسراء : 44].
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد أنه كان يقول : كل حجر يتفجر منه الماء ، أو يتشقق
عن ماء ، أو يتردى من رأس جبل ، لمن خشية الله ، نزل بذلك القرآن.
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن
عباس : { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنَّ
مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا
يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } أي وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عَمَّا تدعون
إليه من الحق { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }
[وقال أبو علي الجبائي في تفسيره : { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ
خَشْيَةِ اللَّهِ } هو سقوط البرد من
__________
(1) في أ ، و "إذ رأوه".
(2) في جـ : "ثم قال".
(3) في أ ، و : "يعني ابن".
(4) في جـ : "قلوب بنوا" وهو خطأ.
(1/304)
السحاب.
قال القاضي الباقلاني : وهذا تأويل بعيد وتبعه في استبعاده فخر الدين الرازي وهو
كما قالا ؛ فإن هذا خروج عن ظاهر اللفظ بلا دليل ، والله أعلم] (1).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا الحكم بن هشام الثقفي
، حدثني يحيى بن أبي طالب - يعني يحيى بن يعقوب - في قوله تعالى : { وَإِنَّ مِنَ
الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ } قال : هو كثرة البكاء {
وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ } قال : قليل البكاء
{ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } قال : بكاء القلب ، من
غير دموع العين.
وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز ؛ وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة كما أسندت
الإرادة إلى الجدار في قوله : { يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ } قال الرازي والقرطبي
وغيرهما من الأئمة : ولا حاجة إلى هذا فإن الله تعالى يخلق فيها هذه الصفة كما في
قوله تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } الآية ، وقال
: { وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } و { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ
اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ } الآية ، { قَالَتَا أَتَيْنَا
طَائِعِينَ } { لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ } الآية ، {
وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ }
الآية ، وفي الصحيح : "هذا جبل يحبنا ونحبه" ، وكحنين الجذع المتواتر
خبره ، وفي صحيح مسلم : "إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني
لأعرفه الآن" وفي صفة الحجر الأسود أنه يشهد لمن استلمه بحق يوم القيامة ،
وغير ذلك مما في معناه. وحكى القرطبي قولا أنها للتخيير ؛ أي مثلا لهذا وهذا وهذا
مثل جالس الحسن أو ابن سيرين.. وكذا حكاه الرازي في تفسيره وزاد قولا آخر : إنها
للإبهام بالنسبة إلى المخاطب كقول القائل أكلت خبزًا أو تمرًا ، وهو يعلم أيهما
أكل ، وقال آخر : إنها بمعنى قول القائل كل حلوًا أو حامضًا ؛ أي لا يخرج عن واحد
منهما ؛ أي وقلوبكم صارت كالحجارة أو أشد قسوة منها لا تخرج عن واحد من هذين
الشيئين. والله أعلم.
تنبيه :
اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى : { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ
قَسْوَةً } بعد الإجماع على استحالة كونها للشك ، فقال بعضهم : "أو"
هاهنا بمعنى الواو ، تقديره : فهي كالحجارة وأشد قسوة كقوله تعالى : { وَلا تُطِعْ
مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا } [الإنسان : 24] ، وكما قال النابغة الذبياني :
قالت ألا ليتما هذا الحمامُ لنا... إلى حَمامتنا أو نِصفُه فَقدِ (2)
تريد : ونصفه ، قاله ابن جرير. وقال جرير بن عطية :
نال الخِلافَةَ أو كانت له قدرًا... كما أتى ربَّه مُوسى على قَدَرِ (3)
قال ابن جرير : يعني نال الخلافة ، وكانت له قدرًا.
وحكى القرطبي قولا أنها للتخيير في مفهومها بهذا أو بهذا مثل جالس الحسن أو ابن
سيرين ، وكذا حكاه فخر الدين في تفسيره وزاد قولا آخر وهو : أنها للإبهام وبالنسبة
إلى المخاطب ، كقول القائل : أكلت خبزًا أو تمرا وهو يعلم أيهما أكل ، وقولا آخر
وهو أنها بمعنى قول القائل : أكلي حلو أو حامض ، أي : لا يخرج عن واحد منهما ، أي
: وقلوبكم صارت في قسوتها كالحجارة أو أشد قسوة منها لا يخرج عن واحد من هذين
الشيئين والله أعلم.
وقال آخرون : "أو" هاهنا بمعنى بل ، تقديره (4) فهي كالحجارة بل أشد
قسوة ، وكقوله : { إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ
أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [النساء : 77]{ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ
أَوْ يَزِيدُونَ } [الصافات : 147]{ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى }
[النجم : 9] وقال آخرون : معنى (5) ذلك { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ
قَسْوَةً } عندكم. حكاه ابن جرير.
وقال آخرون : المراد بذلك الإبهام على المخاطب ، كما قال أبو الأسود :
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(2) البيت في تفسير الطبري (2/236).
(3) البيت في تفسير الطبري (2/236).
(4) في جـ ، ط ، ب : "فتقديره".
(5) في جـ : "بمعنى".
(1/305)
أحبّ
محمدًا حُبا شديدًا... وعبَّاسا وحمزةَ والوصيا (1)
فإن يك حُبّهم رشدا أصبه... ولست (2) بمخطئ إن كان غيّا (3)
قال ابن جرير : قالوا : ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكًّا في أن حُبّ من سَمَّى
رَشَدٌ ، ولكنه أبهم على من خاطبه ، قال : وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه
الأبيات قيل له : شككت ؟ فقال : كلا والله. ثم انتزع بقول الله تعالى : { وَإِنَّا
أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } فقال : أوَ كان شاكًّا
من أخبر بهذا في الهادي منهم من الضلال (4) ؟
وقال بعضهم : معنى ذلك : فقلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين ، إما أن تكون مثل
الحجارة في القسوة وإما أن تكون أشد منها قسوة.
قال ابن جرير : ومعنى ذلك على هذا التأويل : فبعضها كالحجارة قسوة ، وبعضها أشد
قسوة من الحجارة. وقد رجحه ابن جرير مع توجيه غيره.
قلت : وهذا القول الأخير يبقى شبيها بقوله تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ نَارًا } [البقرة : 17] مع قوله : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ }
[البقرة : 19] وكقوله : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ
} [النور : 39] مع قوله : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ } [النور : 40]
، الآية أي : إن منهم من هو هكذا ، ومنهم من هو هكذا ، والله أعلم.
قال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن
أيوب ، حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي الثلج ، حدثنا علي بن حفص ، حدثنا إبراهيم
بن عبد الله بن حاطب ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله ، فإن كثرة الكلام بغير ذكر
الله قسوة القلب ، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي".
رواه الترمذي في كتاب الزهد من جامعه ، عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج ، صاحب
الإمام أحمد ، به. ومن وجه آخر عن إبراهيم بن عبد الله بن الحارث بن حاطب ، به ،
وقال : غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم (5).
[وروى البزار عن أنس مرفوعا : "أربع من الشقاء : جمود العين ، وقسي القلب ،
وطول الأمل ، والحرص على الدنيا" (6) ]. (7).
__________
(1) في جـ ، ط ، ب : "أو عليا".
(2) في جـ ، ط ، ب : "وليس".
(3) البيتان في تفسير الطبري (2/235 ، 236).
(4) في جـ ، ط ، ب ، و : "من الضال".
(5) سنن الترمذي برقم (2411) وأورده الإمام مالك في الموطأ (2/986) بلاغًا عن عيس
عليه السلام.
(6) مسند البزار برقم (3230) من طريق هانئ بن المتوكل ، عن عبد الله بن سليمان
وأبان عن أنس به مرفوعًا ، وقال البزار : "عبد الله بن سليمان حدث بأحاديث لم
يتابع عليها" ، وقال الهيثمي في المجمع (10/226) : "وفيه هانئ بن
المتوكل ، وهو ضعيف".
(7) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(1/306)
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)
{ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) }
(1/307)
أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)
{
أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)
}
يقول تعالى : { أَفَتَطْمَعُونَ } أيها المؤمنون { أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ } أي :
ينقاد (1) لكم بالطاعة ، هؤلاء الفرقة الضالة من اليهود ، الذين شاهد آباؤهم (2)
من الآيات البينات ما شاهدوه (3) ثم قست قلوبهم من بعد ذلك { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ
مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } أي : يتأولونه على
غير تأويله { مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } أي : فهموه على الجلية ومع هذا يخالفونه
على بصيرة { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله
؟ وهذا المقام شبيه بقوله تعالى : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ
وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ }
[المائدة : 13]. (4).
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن
عباس أنه قال : ثم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ، ولمن معه من
المؤمنين يؤيسهم منهم : { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ
فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ } وليس قوله : { يَسْمَعُونَ كَلامَ
اللَّهِ } يسمعون التوراة. كلهم قد سمعها. ولكن الذين سألوا موسى رؤية ربهم
فأخذتهم الصاعقة فيها.
قال محمد بن إسحاق : فيما حدثني بعض أهل العلم أنهم قالوا لموسى : يا موسى ، قد
حيل بيننا وبين رؤية الله تعالى ، فأسمعنا كلامه حين يكلمك. فطلب ذلك موسى إلى ربه
تعالى فقال : نعم ، مُرْهم فليتطهروا ، وليطهروا ثيابهم ويصوموا ففعلوا ، ثم خرج
بهم حتى أتوا الطور ، فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى أن يسجدوا ، فوقعوا سجودًا ،
وكلمه ربه تعالى ، فسمعوا (5) كلامه يأمرهم وينهاهم ، حتى عقلوا عنه ما سمعوا. ثم
انصرف بهم إلى بني إسرائيل ، فلما جاءوهم حَرَّف فريق منهم ما أمرهم به ، وقالوا
حين قال موسى لبني إسرائيل : إن الله قد أمركم بكذا وكذا. قال ذلك الفريق الذين
ذكرهم الله : إنما قال كذا وكذا خلافًا لما قال الله عز وجل لهم ، فهم الذين عنى
الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.
وقال السدي : { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ
يُحَرِّفُونَهُ } قال : هي التوراة ، حرفوها.
وهذا الذي ذكره السدي أعم مما ذكره ابن عباس وابن إسحاق ، وإن كان قد اختاره ابن
جرير لظاهر السياق. فإنه ليس يلزم من سماع كلام الله أن يكون منه (6) كما سمعه
الكليم موسى بن
__________
(1) في جـ ، ط : "ينقادوا".
(2) في جـ : "ما آتاهم".
(3) في ط : "مما شاهدوه".
(4) في أ : "من بعد" وهو خطأ.
(5) في جـ ، ط ، ب : "فلما سمعوا".
(6) في جـ : "لمن يكون منه" ، وفي ط : "لمن تكون منه".
(1/307)
عمران
، عليه الصلاة والسلام (1) ، وقد قال الله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ } [التوبة
: 6] ، أي : مبلَّغًا إليه ؛ ولهذا قال قتادة في قوله : { ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ
مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } قال : هم اليهود كانوا يسمعون
كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ووعوه.
وقال مجاهد : الذين يحرفونه والذين يكتمونه هم العلماء منهم.
وقال أبو العالية : عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم ، من نعت (2) محمد صلى الله
عليه وسلم ، فحرفوه عن مواضعه.
وقال السدي : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أي أنهم أذنبوا. وقال ابن وهب : قال ابن زيد
في قوله : { يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } قال : التوراة
التي أنزلها الله عليهم يحرفونها يجعلون الحلال فيها حرامًا ، والحرام فيها حلالا
والحق فيها باطلا والباطل فيها حقًا ؛ إذا جاءهم المحق برشوة أخرجوا له كتاب الله
، وإذا جاءهم المبطل (3) برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب ، فهو فيه محق ، وإن جاءهم
أحد يسألهم شيئًا ليس فيه حق ، ولا رشوة ، ولا شيء ، أمروه بالحق ، فقال الله لهم
: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ
الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ } [البقرة : 44].
وقوله : { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا } الآية.
قال محمد بن إسحاق : حدثنا محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن
عباس : { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا } أي بصاحبكم رسول
الله ، ولكنه إليكم خاصة. { وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا } لا
تحدثوا العرب بهذا ، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم ، فكان منهم. فأنزل الله : {
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ
قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ
عِنْدَ رَبِّكُمْ } أي : تقرون بأنه نبي ، وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم
باتباعه ، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ، ونجد في كتابنا. اجحدوه ولا
تقروا به. يقول الله تعالى : { أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا
يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ }.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : يعني المنافقين من اليهود كانوا إذا لقوا أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم قالوا : آمنا.
وقال السدي : هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا. وكذا قال الربيع بن أنس ،
وقتادة وغير واحد من السلف والخلف ، حتى قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، فيما
رواه ابن وهب عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال : "لا يدخلن (4)
علينا قصبة المدينة إلا مؤمن". فقال رؤساؤهم (5) من أهل الكفر والنفاق : اذهبوا
فقولوا : آمنا ، واكفروا إذا رجعتم إلينا ، فكانوا يأتون المدينة بالبُكَر ،
ويرجعون إليهم بعد العصر. وقرأ قول الله تعالى : { وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ
النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [آل عمران : 72]
__________
(1) في جـ : "كما سمعه الكليم عليه السلام" ، وفي ط : "كما سمعه
الكليم موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام".
(2) في جـ ، ط : "من نص".
(3) في جـ : "الباطل".
(4) في جـ : "لا يدخل".
(5) في جـ : "فقال رؤسائهم" وهو خطأ.
(1/308)
وكانوا
يقولون ، إذا دخلوا المدينة : نحن مسلمون. ليعلموا خبر رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأمره. فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر. فلما أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم
قطع ذلك عنهم فلم يكونوا يدخلون. وكان المؤمنون يظنون أنهم مؤمنون (1) فيقولون :
أليس قد قال الله لكم كذا وكذا ؟ فيقولون : بلى. فإذا رجعوا إلى قومهم [يعني
الرؤساء] (2) قالوا : { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ }
الآية (3).
وقال أبو العالية : { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } يعني
: بما أنزل الله عليكم في كتابكم من نعت (4) محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ
اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ } قال : كانوا يقولون :
سيكون نبي. فخلا بعضهم ببعض (5) فقالوا : { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ
اللَّهُ عَلَيْكُمْ } (6).
قول آخر في المراد بالفتح : قال ابن جُرَيج : حدثني القاسم بن أبي بَزَّة ، عن
مجاهد ، في قوله تعالى : { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ }
قال : قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة تحت حصونهم ، فقال : "يا إخوان
(7) القردة والخنازير ، ويا عبدة الطاغوت" ، فقالوا : من أخبر بهذا (8) الأمر
محمدًا ؟ ما خرج هذا القول (9) إلا منكم { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ
اللَّهُ عَلَيْكُمْ } بما حكم الله ، للفتح ، ليكون لهم حجة عليكم. قال ابن جريج ،
عن مجاهد : هذا حين أرسل إليهم عليا (10) فآذوا محمدًا صلى الله عليه وسلم.
وقال السدي : { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } من العذاب {
لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ } هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا
وكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عُذِّبوا به. فقال بعضهم لبعض : {
أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } من العذاب ، ليقولوا : نحن
أحب إلى الله منكم ، وأكرم على الله منكم.
وقال عطاء الخراساني : { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ }
يعني : بما قضى [الله] (11) لكم وعليكم.
وقال الحسن البصري : هؤلاء اليهود ، كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا ،
وإذا خلا بعضهم إلى بعض ، قال بعضهم : لا تحدثوا أصحاب محمد بما فتح الله عليكم
مما في كتابكم ، فيحاجوكم (12) به عند ربكم ، فيخصموكم.
__________
(1) في جـ : "أنهم يؤمنون".
(2) زيادة من جـ ، ب ، أ ، و.
(3) رواه الطبري في تفسيره (2/254) عن يونس عن ابن وهب به.
(4) في أ : "من بعث".
(5) في جـ ، ط ، ب : "فخلا بعضهم ببعض".
(6) تفسير عبد الرزاق (1/71).
(7) في جـ : "أيا إخوان".
(8) في جـ ، ط ، ب : "من أخبر هذا".
(9) في أ ، و : "هذا الأمر".
(10) في جـ : "حين أرسل عليًا إليهم".
(11) زيادة من جـ ، أ.
(12) في جـ ، ط ، ب : "ليحاجوكم".
(1/309)
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
وقوله
: { أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ
} قال أبو العالية : يعني ما أسروا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به
، وهو (1) يجدونه مكتوبًا عندهم. وكذا قال قتادة.
وقال الحسن : { أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ } قال : كان ما أسروا أنهم
كانوا إذا تولوا عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وخلا بعضهم إلى بعض ، تناهوا أن
يخبر أحد (2) منهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما فتح الله عليهم مما في
كتابهم ، خشيةَ أن يحاجهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما في كتابهم عند (3)
ربهم. { وَمَا يُعْلِنُونَ } يعني : حين قالوا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم :
آمنا. وكذا قال أبو العالية ، والربيع ، وقتادة.
{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ
إِلا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ
ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا
فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ
(79) }
يقول تعالى : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ } أي : ومن أهل الكتاب ، قاله مجاهد :
والأميون جمع أمي ، وهو : الرجل الذي لا يحسن الكتابة ، قاله أبو العالية ،
والربيع ، وقتادة ، وإبراهيم النَّخَعي ، وغير واحد (4) وهو ظاهر في قوله تعالى :
{ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ [إِلا أَمَانِيَّ] } (5) أي : لا يدرون ما فيه. ولهذا
في صفات النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمي ؛ لأنه لم يكن يحسن الكتابة ، كما قال
تعالى : { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ
بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } [العنكبوت : 48] وقال عليه الصلاة
والسلام : "إنا أمة أمية ، لا نكتب ولا نحسب ، الشهر هكذا وهكذا وهكذا"
الحديث. أي : لا نفتقر في عباداتنا ومواقيتها إلى كتاب ولا حساب وقال تعالى : {
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ } [الجمعة : 2].
وقال ابن جرير : نسبت العرب من لا يكتب ولا يَخُط من الرجال إلى أمِّه في جهله
بالكتاب دون أبيه ، قال : وقد روي عن ابن عباس ، رضي الله عنهما (6) قول خلاف هذا
، وهو ما حدثنا به أبو كُرَيب : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي
روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ } قال :
الأميون قوم لم يصدِّقوا رسولا أرسله الله ، ولا كتابًا أنزله الله ، فكتبوا
كتابًا بأيديهم ، ثم قالوا لقوم سَفلة جُهَّال : { هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ }
وقال : قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم ، ثم سماهم أميين ، لجحودهم كتب الله ورسله.
ثم قال ابن جرير : وهذا التأويل (7) على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض
بينهم. وذلك أن الأمي عند العرب : الذي لا يكتب (8).
قلت : ثم في صحة هذا عن ابن عباس ، بهذا الإسناد ، نظر. والله أعلم.
__________
(1) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "وهم".
(2) في جـ : "يخبروا واحدًا" ، وفي أ : "يخبروا أحد".
(3) في جـ : "وعند".
(4) في أ : "وإبراهيم النخغي وغيرهم".
(5) زيادة من جـ ، ط ، ب.
(6) في ط : "رضي الله عنه".
(7) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "وهذا التأويل تأويل".
(8) تفسير الطبري (2/259).
(1/310)
قوله
(1) تعالى : { إِلا أَمَانِيَّ } قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : { إِلا
أَمَانِيَّ } إلا أحاديث.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : { إِلا أَمَانِيَّ } يقول : إلا قولا
يقولونه بأفواههم كذبًا. وقال مجاهد : إلا كذبًا. وقال سنيد ، عن حجاج ، عن ابن
جريج عن مجاهد : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا
أَمَانِيَّ } قال : أنَاس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئًا ، وكانوا
يتكلمون بالظن (2) بغير ما في كتاب الله ، ويقولون : هو من الكتاب ، أمانيّ
يتمنونها. وعن الحسن البصري ، نحوه.
وقال أبو العالية ، والربيع وقتادة : { إِلا أَمَانِيَّ } يتمنون على الله ما ليس
لهم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { إِلا أَمَانِيَّ } قال : تمنوا فقالوا : نحن
من أهل الكتاب. وليسوا منهم.
قال ابن جرير : والأشبه بالصواب قول الضحاك عن ابن عباس ، وقال مجاهد : إن الأميين
الذين وصفهم الله أنهم لا يفقهون من الكتاب - الذي أنزل (3) الله على موسى - شيئًا
، ولكنهم يَتَخَرَّصُون الكذب ويتخرصون الأباطيل كذبًا وزورًا. والتمني في هذا
الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه. ومنه الخبر المروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه :
"ما تغنيت ولا تمنيت". يعني ما تخرصت الباطل ولا اختلقت الكذب (4).
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن
عباس : { لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ
} ولا يدرون ما فيه ، وهم يجحدون (5) نبوتك بالظن.
وقال مجاهد : { وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ } يكذبون.
وقال قتادة : وأبو العالية ، والربيع : يظنون الظنون بغير الحق.
وقوله : { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ
يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا } الآية
: هؤلاء صنف (6) آخر من اليهود ، وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله ،
وأكل أموال الناس بالباطل.
والويل : الهلاك والدمار ، وهي كلمة مشهورة في اللغة. وقال سفيان الثوري ، عن زياد
بن فياض : سمعت أبا عياض يقول : ويل : صديد في أصل جهنم.
وقال عطاء بن يسار. الويل : واد في جهنم لو سيرت فيه الجبال لماعت.
__________
(1) في جـ ، ط : "وقوله".
(2) في جـ : "يتكلمون الظن".
(3) في جـ ، ط ، ب : "الذي أنزله".
(4) تفسير الطبري (1/262).
(5) في أ ، و : "وهم يجدون".
(6) في جـ : "هو صنف".
(1/311)
وقال
ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن
الحارث ، عن دَرَّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، قال : "ويل واد في جهنم ، يهوي فيه الكافر أربعين خريفًا
قبل أن يبلغ قعره".
ورواه الترمذي عن عبد بن حميد ، عن الحسن بن موسى ، عن ابن لهيعة ، عن دراج ، به
(1). وقال : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة.
قلت : لم ينفرد به ابن لهيعة كما ترى ، ولكن الآفة ممن بعده ، وهذا الحديث بهذا
الإسناد - مرفوعًا - منكر ، والله أعلم.
وقال ابن جرير : حدثنا المثنى ، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح العشيري (2)
حدثنا علي بن جرير ، عن حماد بن سلمة ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن كنانة العدوي ،
عن عثمان بن عفان ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا
كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } قال : "الويل جبل
في النار. وهو الذي أنزل في اليهود ؛ لأنهم حَرَّفوا التوراة ، زادوا فيها ما
أحبوا ، ومحوا منها ما يكرهون ، ومحوا اسم محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة.
ولذلك غضب الله عليهم ، فرفع بعض التوراة ، فقال : { فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا
كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } (3).
وهذا غريب أيضا جدًا.
[وعن ابن عباس : الويل : السعير من العذاب ، وقال الخليل بن أحمد : الويل : شدة
الشر ، وقال سيبويه : ويل : لمن وقع في الهلكة ، وويح لمن أشرف عليها ، وقال
الأصمعي : الويل : تفجع والويل ترحم ، وقال غيره : الويل الحزن (4). وقال الخليل :
وفي معنى ويل : ويح وويش وويه وويك وويب ، ومنهم من فرق بينها ، وقال بعض النحاة :
إنما جاز الابتداء بها وهي نكرة ؛ لأن فيها معنى الدعاء ، ومنهم من جوز نصبها ،
بمعنى : ألزمهم ويلا. قلت : لكن لم يقرأ بذلك أحد] (5).
وعن عكرمة ، عن ابن عباس : { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ
بِأَيْدِيهِمْ } قال : هم أحبار اليهود. وكذا قال سعيد ، عن قتادة : هم اليهود.
وقال سفيان الثوري ، عن عبد الرحمن بن علقمة : سألت ابن عباس عن قوله تعالى : {
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ } قال : نزلت في
المشركين وأهل الكتاب.
وقال السدي : كان ناس من اليهود كتبوا كتابًا من عندهم ، يبيعونه من العرب ،
ويحدثونهم أنه من عند الله ، ليأخذوا (6) به ثمنًا قليلا.
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (1/243) وسنن الترمذي برقم (3164).
(2) في جـ : "العيري".
(3) تفسير الطبري (2/268).
(4) في أ : "الخوف".
(5) زيادة من جـ ، ط ، ب.
(6) في جـ ، ط ، ب : "فيأخذوا".
(1/312)
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
وقال
الزهري : أخبرني عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس أنه قال : يا معشر المسلمين
، كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء ، وكتابكم الذي أنزل الله على نبيه ، أحدث أخبار
الله تقرؤونه (1) محضًا (2) لم يشب ؟ وقد حَدَّثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد
بدلوا كتاب الله وغيروه ، وكتبوا بأيديهم الكتاب ، وقالوا : هو من عند الله
ليشتروا به ثمنًا قليلا ؛ أفلا (3) ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مُسَاءلتهم ؟ ولا
والله ما رأينا منهم أحدًا قط سألكم عن الذي أنزل إليكم. رواه البخاري (4) من طرق
عن الزهري.
وقال الحسن بن أبي الحسن البصري : الثمن القليل : الدنيا بحذافيرها.
وقوله تعالى : { فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ
مِمَّا يَكْسِبُونَ } أي : فويل لهم مما كتبوا بأيديهم من الكذب (5) والبهتان ،
والافتراء ، وويل لهم مما أكلوا به من السحت ، كما قال الضحاك عن ابن عباس : {
فَوَيْلٌ لَهُمْ } يقول : فالعذاب عليهم ، من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب ، {
وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } يقول : مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم.
{ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ
أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ
عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (80) }
يقول تعالى إخبارًا عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لأنفسهم ، من أنهم لن تمسهم النار
إلا أيامًا معدودة ، ثم ينجون منها ، فرد الله عليهم ذلك بقوله : { قُلْ
أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا } (6) أي : بذلك ؟ فإن كان قد وقع عهد فهو
لا يُخْلِف عهده (7).
ولكن هذا ما جرى ولا كان. ولهذا أتى بـ"أم" التي بمعنى : بل ، أي : بل
تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه.
قال (8) محمد بن إسحاق ، عن سيف بن سليمان (9) عن مجاهد ، عن ابن عباس : أن اليهود
كانوا يقولون : هذه الدنيا سبعة آلاف سنة ، وإنما نُعَذَّب بكل ألف سنة يومًا في
النار ، وإنما هي سبعة أيام معدودة (10). فأنزل الله تعالى : { وَقَالُوا لَنْ
تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً } إلى قوله : { خَالِدُونَ }
[البقرة : 82].
ثم رواه عن محمد ، عن سعيد - أو عكرمة - عن ابن عباس ، بنحوه.
وقال العوفي عن ابن عباس : { وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا
مَعْدُودَةً } اليهود قالوا (11) : لن
__________
(1) في ط : "يعرفونه" ، وفي و : "تعرفونه".
(2) في جـ ، ط ، و : "غضًا".
(3) في جـ : "أفلم".
(4) صحيح البخاري برقم (2685 ، 7363 ، 7523).
(5) في جـ : "من الكتب".
(6) بعدها في جـ : "فلن يخلف الله عهده".
(7) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "وعده".
(8) في جـ ، ط : "وقال".
(9) في جـ : "سلمان".
(10) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "أيام معدودات".
(11) في جـ : "وقالوا".
(1/313)
تمسنا
النار إلا أربعين ليلة ، [زاد غيره : هي مدة عبادتهم العجل ، وحكاه القرطبي عن ابن
عباس وقتادة] (1).
وقال الضحاك : قال ابن عباس : زعمت اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوبًا : أن ما
بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة ، إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم ، التي هي نابتة
في أصل الجحيم. وقال أعداء الله : إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم فتذهب جهنم
وتهلك. فذلك قوله تعالى : { وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا
مَعْدُودَةً }
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : { وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ
إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً } يعني : الأيام التي عبدنا فيها العجل (2).
وقال عكرمة : خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) فقالوا : لن ندخل
النار إلا أربعين ليلة ، وسيخلفنا إليها (4) قوم آخرون ، يعنون (5) محمدًا صلى
الله عليه وسلم وأصحابه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على رءوسهم :
"بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفكم إليها أحد". فأنزل الله : { وَقَالُوا
لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً } الآية.
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه رحمه الله : حدثنا عبد الرحمن بن جعفر ، حدثنا محمد
بن محمد بن صخر ، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ ، حدثنا ليث بن سعد ، حدثني سعيد بن
أبي سعيد ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله
صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم ، فقال (6) رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"اجمعوا لي من كان من اليهود هاهنا" فقال لهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "من أبوكم ؟" قالوا : فلان (7). قال : "كذبتم ، بل أبوكم
فلان". فقالوا : صدقت وبَرِرْت ، ثم قال لهم : "هل أنتم صادقيّ عن شيء
إن سألتكم عنه ؟". قالوا : نعم ، يا أبا القاسم ، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما
عرفته في أبينا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أهل النار
؟" فقالوا : نكون فيها يسيرًا ثم تخلفونا فيها. فقال لهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "اخسأوا ، والله لا نخلفكم فيها أبدًا". ثم قال لهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه ؟".
قالوا : نعم يا أبا القاسم. فقال : "هل جعلتم في هذه الشاة سمًّا ؟".
فقالوا : نعم. قال (8) : "فما حملكم على ذلك ؟". فقالوا : أردنا إن كنت
كاذبًا أن نستريح منك ، وإن كنت نبيًا لم يضرك.
ورواه أحمد ، والبخاري ، والنسائي ، من حديث الليث بن سعد ، بنحوه (9).
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، ب ، و.
(2) تفسير عبد الرزاق (1/71 ، 72).
(3) في جـ : "رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه".
(4) في جـ : "فيها".
(5) في جـ ، ط ، أ ، و : "يعني" ، وفي ب : "تعني".
(6) في ط ، ب : "فقال لهم".
(7) في جـ : "قالوا : أبونا فلان".
(8) في جـ ، ط ، ب : "فقال".
(9) المسند (2/451) وصحيح البخاري برقم (3161 ، 4249) وسنن النسائي الكبرى برقم
(11355).
(1/314)
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
{
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) }
يقول تعالى : ليس الأمر كما تمنيتم ، ولا كما تشتهون ، بل الأمر : أنه من عمل سيئة
وأحاطت به خطيئته ، وهو من وافى يوم القيامة وليس له حسنة ، بل جميع عمله سيئات ،
فهذا من أهل النار ، والذين آمنوا بالله ورسوله (1) وعملوا الصالحات - من العمل
الموافق للشريعة - فهم (2) من أهل الجنة. وهذا المقام شبيه بقوله تعالى : { لَيْسَ
بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ
بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا* وَمَنْ
يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا } [النساء : 123 ،
124].
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد - أو عكرمة - عن ابن عباس :
{ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً } أي : عمل مثل أعمالكم ، وكفر بمثل ما كفرتم به ،
حتى يحيط به كفره (3) فما له من حسنة.
وفي رواية عن ابن عباس ، قال : الشرك.
قال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي وائل ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن ،
وقتادة ، والربيع بن أنس ، نحوه (4).
وقال الحسن - أيضًا - والسدي : السيئة : الكبيرة من الكبائر.
وقال ابن جريج ، عن مجاهد : { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } قال : بقلبه.
وقال أبو هريرة ، وأبو وائل ، وعطاء ، والحسن : { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ }
قالوا : أحاط به شركه.
وقال الأعمش ، عن أبي رزين ، عن الربيع بن خُثَيم : { وَأَحَاطَتْ بِهِ
خَطِيئَتُهُ } قال : الذي يموت على خطايا (5) من قبل أن يتوب. وعن السدي ، وأبي
رزين ، نحوه.
وقال أبو العالية ، ومجاهد ، والحسن ، في رواية عنهما ، وقتادة ، والربيع بن أنس :
{ وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } الكبيرة الموجبة.
وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى ، والله أعلم. ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه
الإمام أحمد حيث قال :
حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا عمرو بن قتادة (6) عن عبد ربه ، عن أبي عياض ، عن
عبد الله
__________
(1) في أ : "ورسله".
(2) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "فهو".
(3) في جـ : "فمتى يحيط عمله".
(4) في جـ : "بنحوه".
(5) في أ ، و : "على خطاياه".
(6) في أ : "عن عمر بن صادق".
(1/315)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
بن
مسعود : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إيَّاكم ومحقرات الذنوب ،
فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه". وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب
لهُنَّ مثلا كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة ، فحضر صنيع القوم ، فجعل الرجل ينطلق فيجيء
بالعود ، والرجل يجيء بالعود ، حتى جمعوا سوادًا (1) ، وأججوا نارًا ، فأنضجوا ما
قذفوا فيها (2).
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد ، عن سعيد - أو عكرمة - عن ابن عباس : {
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي من آمن بما كفرتم به ، وعمل بما تركتم من دينه ، فلهم
الجنة خالدين فيها. يخبرهم أن الثواب بالخير والشرّ مقيم على أهله ، لا انقطاع له
أبدًا (3).
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ
وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ
تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) }
يُذكّر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر ، وأخذ ميثاقهم على ذلك
، وأنهم تولوا عن ذلك كله ، وأعرضوا قصدًا وعمدًا ، وهم يعرفونه ويذكرونه ، فأمرهم
أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. وبهذا أمر جميع خلقه ، ولذلك خلقهم كما قال تعالى
: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ
لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء : 25] وقال تعالى : { وَلَقَدْ
بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا
الطَّاغُوتَ } [النحل : 36] وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها ، وهو حق الله تعالى ، أن
يعبد وحده لا شريك له ، ثم بعده حق المخلوقين ، وآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين ،
ولهذا يقرن الله تعالى بين حقه وحق الوالدين ، كما قال تعالى : { أَنِ اشْكُرْ لِي
وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [لقمان : 14] وقال تعالى : { وَقَضَى
رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } الآية إلى
أن قال : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ }
[الإسراء : 23 - 26] وفي الصحيحين ، عن ابن مسعود ، قلت : يا رسول الله ، أي العمل
أفضل ؟ قال : "الصلاة على وقتها". قلت : ثم أي ؟ قال : "بر
الوالدين". قلت : ثم أيّ ؟ قال : "الجهاد في سبيل الله" (4). ولهذا
جاء في الحديث الصحيح : أن رجلا قال : يا رسول الله ، من أبر ؟ قال :
"أمك". قال : ثم من (5) ؟ قال : "أمك". قال : ثم من ؟ قال :
"أباك. ثم أدناك أدناك" (6).
__________
(1) في جـ : "جمعوا أعوادًا".
(2) المسند (1/402).
(3) في جـ ، ط ، ب : "أبدًا لا انقطاع له".
(4) صحيح البخاري برقم (527 ، 5970 ، 7534) وصحيح مسلم برقم (85).
(5) في ط : "ثم قال من".
(6) جاء من حديث معاوية بن حيدة ، رواه أبو داود في السنن برقم (5139) ، ومن حديث
كليب بن منفعة عن أبيه عن جده ، رواه أبو داود في السنن برقم (5140).
(1/316)
[وقوله
: { لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ } قال الزمخشري : خبر بمعنى الطلب ، وهو آكد.
وقيل : كان أصله : ألا تعبدوا كما قرأها بعض السلف (1) فحذفت أن فارتفع ، وحكي عن
أبي وابن مسعود ، رضي الله عنهما ، أنهما قرآها : "لا تَعْبُدُوا إِلا
اللَّه". وقيل : { لا تَعْبُدُونَ } مرفوع على أنه قسم ، أي : والله لا
تعبدون إلا الله ، ونقل هذا التوجيه القرطبي في تفسيره عن سيبويه. وقال : اختاره
المبرد والكسائي والفراء] (2).
قال : { وَالْيَتَامَى } وهم : الصغار الذين لا كاسب لهم من الآباء. [وقال أهل
اللغة : اليتيم في بني آدم من الآباء ، وفي البهائم من الأم ، وحكى الماوردي أن
اليتيم أطلق في بني آدم من الأم أيضا] (3) { وَالْمَسَاكِينَ } الذين لا يجدون ما
ينفقون على أنفسهم وأهليهم ، وسيأتي الكلام على هذه الأصناف عند آية النساء ، التي
أمرنا الله تعالى بها صريحًا في قوله : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا
بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } الآية [النساء : 36].
وقوله تعالى : { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } أي : كلموهم طيبًا ، ولينُوا لهم
جانبًا ، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف ، كما قال الحسن
البصري في قوله : { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } فالحُسْن من القول : يأمُر
بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويحلم ، ويعفو ، ويصفح ، ويقول للناس حسنًا كما قال
الله ، وهو كل خُلُق حسن رضيه الله.
وقال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا أبو عامر الخَزَّاز ، عن أبي عمران الجَوْني
، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال : "لا تحقرن من المعروف شيئًا ، وإن لم تجد فَالْقَ أخاك بوجه
منطلق (4) ".
وأخرجه مسلم في صحيحه ، والترمذي [وصححه] (5) من حديث أبي عامر الخزّاز ، واسمه
صالح بن رستم ، به (6).
وناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للناس حسنًا ، بعد ما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل ،
فجمع بين طرفي الإحسان الفعلي والقولي. ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس
بالمُعيّن (7) من ذلك ، وهو الصلاة والزكاة ، فقال : { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَآتُوا الزَّكَاةَ } وأخبر أنهم تولوا عن ذلك كله ، أي : تركوه وراء ظهورهم ، وأعرضوا
عنه على عمد بعد العلم به ، إلا القليل منهم ، وقد أمر تعالى هذه الأمة بنظير ذلك
في سورة النساء ، بقوله : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ
وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ
السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ
مُخْتَالا فَخُورًا } [النساء : 36]
__________
(1) في أ : "كما قرأها من قرأها من السلف".
(2) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ.
(3) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ.
(4) في ط : "بوجه طلق".
(5) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(6) المسند (5/173) وصحيح مسلم برقم (2626) وسنن الترمذي برقم (1833).
(7) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "بالمتعين".
(1/317)
فقامت
هذه الأمة من ذلك بما لم تقم به أمة من الأمم قبلها ، ولله الحمد والمنة.
ومن النقول الغريبة هاهنا ما ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره :
حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن خلف العسقلاني ، حدثنا عبد الله بن يوسف - يعني
التِّنِّيسِي - حدثنا خالد بن صَبِيح ، عن حميد بن عقبة ، عن أسد بن وَدَاعة : أنه
كان يخرج من منزله فلا يلقى يهوديًا ولا نصرانيًا إلا سلم عليه ، فقيل له : ما
شأنك ؟ تسلم على اليهودي والنصراني. فقال : إن الله يقول : { وَقُولُوا لِلنَّاسِ
حُسْنًا } وهو : السلام. قال : وروي عن عطاء الخراساني ، نحوه.
قلت : وقد ثبت في السنة أنهم لا يبدؤون بالسلام ، والله أعلم (1).
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه برقم (2166) عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال : "لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام ، وإذا
لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه".
(1/318)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
{
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ
أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)
ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا
مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ
وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ
إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا
جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ
بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ
(86) }
يقول ، تبارك وتعالى ، منكرًا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالمدينة ، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج ، وذلك أن
الأوس والخزرج ، وهم الأنصار ، كانوا في الجاهلية عُبَّاد أصنام ، وكانت بينهم
حروب كثيرة ، وكانت يهود المدينة ثلاثَ قبائل : بنو قينقاع. وبنو النضير حلفاء الخزرج.
وبنو قريظة حلفاء الأوس. فكانت الحرب إذا نشبت (1) بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه ،
فيقتل اليهودي أعداءه ، وقد يقتل اليهوديّ الآخرُ من الفريق الآخر ، وذلك حرام
عليهم في دينه ونص كتابه ، ويخرجونهم من بيوتهم وينهبون ما فيها من الأثاث
والأمتعة والأموال ، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكّوا الأسارى من الفريق
المغلوب ، عملا بحكم التوراة ؛ ولهذا قال تعالى : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ
الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } ولهذا قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ
دِيَارِكُمْ } أي : لا يقتل بعضكم بعضًا ، ولا يخرجه من منزله ، ولا يظاهر عليه ،
كما قال تعالى : { فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ
خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ } [البقرة : 54]
__________
(1) في أ : "نشئت".
(1/318)
وذلك
أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة ، كما قال عليه الصلاة والسلام :
"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد ، إذا اشتكى
منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
[وقوله] (1) { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } أي : ثم أقررتم بمعرفة
هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به.
{ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا
مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ
وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ
إِخْرَاجُهُمْ } قال محمد بن إسحاق بن يسار : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن
جبير - أو عكرمة - عن ابن عباس : { ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ
أَنْفُسَكُمْ } الآية ، قال : أنبهم الله (2) من فعلهم ، وقد حرّم عليهم في التوراة
سفك دمائهم (3) وافترض عليهم فيها فدَاء أسراهم ، فكانوا فريقين : طائفة منهم بنو
قينقاع وإنهم (4) حلفاء الخزرج ، والنضير ، وقريظة وإنهم (5) حلفاء الأوس ، فكانوا
إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج ، وخرجت النضير وقريظة
مع الأوس ، يظاهر (6) كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه ، حتى يتسافكوا
دماءهم بينهم ، وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم. والأوس والخزرج
أهل شرك يعبدون الأوثان ، ولا يعرفون جنة ولا نارًا ، ولا بعثًا ولا قيامة ، ولا
كتابًا ، ولا حلالا ولا حرامًا ، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم ، تصديقًا
لما في التوراة ، وأخذًا به ؛ بعضهم من بعض ، يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم
في أيدي (7) الأوس ، ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي (8) الخزرج منهم ،
ويطلبون (9) ما أصابوا من دمائهم (10) وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم ، مظاهرة
لأهل الشرك عليهم. يقول الله تعالى ذكره حيث أَنَّبهم (11) بذلك : {
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } أي : يفاديه بحكم
التوراة ويقتله ، وفي حكم التوراة ألا يفعل ، ولا يُخرج (12) من داره ، ولا
يُظَاهَر عليه من يُشْرك بالله ، ويعبد الأوثان من دونه ، ابتغاء عرض الدنيا. ففي
ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج - فيما بلغني - نزلت هذه القصة (13).
وقال أسباط عن السدي : كانت قريظة حلفاء الأوس ، وكانت النضير حلفاء الخزرج ،
فكانوا يقتتلون في حرب سُمَير ، فيقاتل بنو قريظة مع حلفائها النضيرَ وحلفاءهم ،
وكانت النضير تقاتل قريظة
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، أ.
(2) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "أنبأهم الله بذلك".
(3) في جـ : "سفك الدماء".
(4) في جـ : "وهم".
(5) في جـ : "وهم".
(6) في جـ ، ط ، ب : "فظاهر".
(7) في جـ : "يدي".
(8) في جـ : "يدي".
(9) في جـ ، ط ، أ : "يطلبون".
(10) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "من الدماء وقتلوا".
(11) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "حين أنبأهم".
(12) في جـ ، ط ، ب : "ويخرجه".
(13) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/540) وتفسير الطبري (2/305).
(1/319)
وحلفاءها
، ويغلبونهم ، فيخربون ديارهم ، ويخرجونهم منها ، فإذا أسر رجل من الفريقين كليهما
، جمعوا له حتى يفدوه. فتعيرهم العرب بذلك ، ويقولون : كيف تقاتلونهم وتفدونهم ؟
قالوا : إنا أمرنا أن نفديهم ، وحرّم علينا قتالهم ، قالوا : فلم تقاتلونهم ؟
قالوا : إنَّا نستحيى أن تُسْتَذلّ حلفاؤنا (1). فذلك حين عيَّرهم الله ، فقال : {
ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا
مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ }
وقال شعبة ، عن السدي : نزلت هذه الآية في قيس بن الخَطيم : { ثُمَّ أَنْتُمْ
هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ
دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ }
وقال أسباط ، عن السدي ، عن عبد خير ، قال : غزونا مع سلمان بن ربيعة الباهلي
بَلَنْجَر (2) فحاصرنا أهلها ففتحنا المدينة وأصبنا سبايا واشترى عبد الله بن سلام
يهودية بسبعمائة ، فلما مرّ برأس الجالوت نزل به ، فقال له عبد الله : يا رأس
الجالوت ، هل لك في عجوز هاهنا من أهل دينك ، تشتريها مني ؟ قال : نعم. قال :
أخذتها بسبعمائة درهم. قال : فإني أرْبحُك سبعمائة أخرى. قال : فإني قد حلفت ألا
أنقصها من أربعة آلاف. قال : لا حاجة لي فيها ، قال : والله لتشترينها مني ، أو
لتكفرن بدينك الذي أنت عليه. قال : ادن مني ، فدنا منه ، فقرأ في أذنه التي في
التوراة : إنك لا تجد مملوكًا من بني إسرائيل إلا اشتريته فأعتقته { وَإِنْ
يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ }
قال : أنت عبد الله بن سلام ؟ قال : نعم. قال : فجاء بأربعة آلاف ، فأخذ عبد الله
ألفين ، ورد عليه ألفين.
وقال آدم بن أبي إياس في تفسيره : حدثنا أبو جعفر يعني الرازي ، حدثنا الربيع بن
أنس ، أخبرنا أبو العالية : أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة ، وهو
يفادي من النساء من لم يقع عليها العرب ، ولا يفادي من وقع عليها العرب ، فقال (3)
عبد الله بن سلام : أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن.
والذي أرشدت إليه الآية الكريمة ، وهذا السياق ، ذم اليهود في قيامهم بأمر التوراة
التي يعتقدون صحتها ، ومخالفة شرعها ، مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة ، فلهذا
لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها ، ولا يصدقون فيما يكتمونه من صفة رسول الله
(4) صلى الله عليه وسلم ونعته ، ومبعثه ومخرجه ، ومهاجره ، وغير ذلك من شؤونه ،
التي قد أخبرت بها الأنبياء قبله. واليهود عليهم لعائن الله يتكاتمونه بينهم ،
ولهذا قال تعالى { فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره { وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ } جزاء على ما كتموه من كتاب
الله الذي بأيديهم { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ* أُولَئِكَ
الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ } أي : استحبوها على
الآخرة واختاروها { فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ } أي : لا يفتر عنهم ساعة
واحدة { وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ }
__________
(1) في أ ، و : "نستذل بحلفائنا".
(2) في جـ : "بكنجر".
(3) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "فقال له".
(4) في جـ : "صفة محمد".
(1/320)
وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)
أي
: وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي ، ولا يجيرهم منه.
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ
وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ
أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ
فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) }
ينعت ، تبارك وتعالى ، بني إسرائيل بالعتو والعناد والمخالفة ، والاستكبار على
الأنبياء ، وأنهم إنما يتبعون أهواءهم ، فذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب - وهو
التوراة - فحرفوها وبدلوها ، وخالفوا أوامرها وأولوها. وأرسل الرسل والنبيين من
بعده الذين يحكمون بشريعته ، كما قال تعالى : { إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ
فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا
لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ
كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ } الآية [المائدة : 44] ، ولهذا قال
: { وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ } قال السدي ، عن أبي مالك : أتبعنا.
وقال غيره : أردفنا. والكل قريب ، كما قال تعالى : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا
تَتْرَا } [المؤمنون : 44] حتى ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم ، فجاء
بمخالفة التوراة في بعض الأحكام ، ولهذا أعطاه الله من البينات ، وهي : المعجزات.
قال ابن عباس : من إحياء الموتى ، وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون
طيرًا بإذن الله ، وإبرائه الأسقام ، وإخباره بالغيوب ، وتأييده بروح القدس ، وهو
جبريل عليه السلام - ما يدلهم (1) على صدقه فيما جاءهم به. فاشتد تكذيب بني
إسرائيل له وحَسَدهم وعنادهم لمخالفة التوراة في البعض ، كما قال تعالى إخبارًا عن
عيسى : { وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ
بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } الآية [آل عمران : 50]. فكانت بنو إسرائيل تعامل
الأنبياء عليهم السلام (2) أسوأ المعاملة ، ففريقًا يكذبونه. وفريقًا يقتلونه ،
وما ذاك إلا لأنهم كانوا يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم وبإلزامهم
بأحكام التوراة التي قد تصرفوا في مخالفتها ، فلهذا كان يشق ذلك عليهم ، فيكذبونهم
، وربما قتلوا بعضهم ؛ ولهذا قال تعالى : { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا
لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا
تَقْتُلُونَ }
والدليل على أن روح القدس هو جبريل ، كما نص عليه ابن مسعود في تفسير هذه الآية ،
وتابعه على ذلك [ابن عباس و] (3) محمد بن كعب القرظي ، وإسماعيل بن أبي خالد ،
والسدي ، والربيع بن أنس ، وعطية العوفي ، وقتادة مع قوله تعالى : { نزلَ بِهِ
الرُّوحُ الأمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* [بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ
مُبِينٍ] (4) } [الشعراء : 193 - 195] ما قال البخاري : وقال ابن أبي الزناد ، عن
أبيه ، عن عروة ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع لحسان بن ثابت
منْبرًا في المسجد ، فكان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "اللهم أيد حسان بروح القدس كما نافح عن
نبيك" (5). وهذا من
__________
(1) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "يدلهم به".
(2) في جـ : "عليهم الصلاة والسلام".
(3) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(4) زيادة من جـ.
(5) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "عن نبيه".
(1/321)
البخاري
تعليق (1).
وقد رواه أبو داود في سننه ، عن لُوَين ، والترمذي ، عن علي بن حجر ، وإسماعيل بن
موسى الفزاري ، ثلاثتهم عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه وهشام بن عروة ،
كلاهما عن عروة ، عن عائشة به (2). وقال الترمذي : حسن صحيح ، وهو حديث أبي الزناد
(3).
وفي الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي
هريرة : أن عمر مر بحسان ، وهو ينشد الشعر في المسجد (4) فلحظ إليه ، فقال : قد
كنت أنشد فيه ، وفيه من هو خير منك. ثم التفت إلى أبي هريرة ، فقال : أنشدك الله
أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "أجب عني ، اللهم أيده بروح
القدس" ؟. فقال : اللَّهُمَّ نعم (5).
وفي بعض الروايات : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان : "أهجهم - أو
: هاجهم - وجبريل معك".
[وفي شعر حسان قوله :
وجبريل رسول الله ينادي... وروح القدس ليس به خفاء] (6)
وقال محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي ، عن شهر بن
حوشب الأشعري : أن نفرًا من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا :
أخبرنا عن الروح. فقال : "أنشدكم بالله وبأيامه (7) عند بني إسرائيل ، هل
تعلمون أنه جبريل ؟ وهو الذي يأتيني ؟" قالوا : نعم (8).
[وفي صحيح ابن حبان أظنه عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"إن روح القدس نفخ (9) في روعي : إن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها
فاتقوا الله وأجملوا في الطلب" (10) ] (11).
أقوال أخر :
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا منْجاب بن الحارث ، حدثنا بشر ، عن
أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { بِرُوحِ الْقُدُسِ } قال : هو الاسم الأعظم
الذي كان عيسى يُحيي به
__________
(1) وكذا عزاه المزي في تحفة الأشراف (12/10) للبخاري ، وقال الحافظ ابن حجر في
"النكت الظراف" : "لم أر هذا الموضع في صحيح البخاري ، وقد وصله
أحمد والطبراني وصححه الحاكم".
(2) سنن أبي داود برقم (5015) وسنن الترمذي برقم (2846).
(3) في ط ، ب ، أ ، و : "وهو حديث ابن أبي الزناد".
(4) في جـ : "وهو في المسجد ينشد".
(5) صحيح البخاري برقم (3212) وصحيح مسلم برقم (2485).
(6) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ.
(7) في جـ ، أ : "وبآياته".
(8) ورواه الطبري في تفسيره (2/320) من طريق سلمة عن ابن إسحاق به.
(9) في و : "نفث".
(10) ورواه البغوي في شرح السنة (14/304) من طريق أبي عبيد عن هشيم عن إسماعيل بن
أبي خالد عن زبيد اليامي ، عمن أخبره ، عن ابن مسعود به مرفوعًا.
(11) زيادة من جـ ، ط ، ب ، و.
(1/322)
الموتى.
وقال ابن جرير : حُدثت عن المنجاب. فذكره. قال ابن أبي حاتم : وروي عن سعيد بن
جبير نحو ذلك. [ونقله القرطبي عن عبيد بن عمير - أيضا - قال : وهو الاسم الأعظم]
(1).
وقال ابن أبي نَجِيح : الروح هو حفظة على الملائكة.
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس : القدس هو الرب تبارك وتعالى. وهو قول
كعب. وقال السدي : القدس : البركة. وقال العوفي ، عن ابن عباس : القدس : الطهر.
[وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن البصري أنهما قالا القدس : هو الله تعالى ، وروحه :
جبريل ، فعلى هذا يكون القول الأول] (2).
وقال ابن جرير : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب قال : قال ابن زيد (3)
في قوله تعالى : { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } قال : أيد الله عيسى
بالإنجيل روحًا كما جعل القرآن روحًا ، كلاهما روح من الله ، كما قال تعالى : {
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } [الشورى : 52].
ثم قال ابن جرير : وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قولُ من قال : الروح في هذا
الموضع جبريل ، لأن الله ، عز وجل ، أخبر أنه أيد عيسى به ، كما أخبر في قوله : {
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى
وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ
وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ
وَالإنْجِيلَ } الآية [المائدة : 110]. فذكر أنه أيده به ، فلو كان الروح الذي
أيده به هو الإنجيل ، لكان قوله : { إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ } {
وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ } تكرير
قول لا معنى له ، والله أعز أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به.
قلت : ومن الدليل على أنه جبريل ما تقدم في أول السياق ؛ ولله الحمد (4).
وقال الزمخشري { بِرُوحِ الْقُدُسِ } بالروح المقدسة ، كما يقول : حاتم الجود ورجل
صدق ووصفها بالقدس كما قال : { وَرُوحٌ مِنْهُ } فوصفه بالاختصاص والتقريب تكرمة ،
وقيل : لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث ، وقيل : بجبريل ، وقيل : بالإنجيل
، كما قال في القرآن : { رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } [الشورى : 52] وقيل باسم الله
الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره ، وتضمن كلامه قولا آخر وهو أن المراد روح عيسى
نفسه المقدسة المطهرة.
وقال الزمخشري في قوله : { فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } إنما
لم يقل : وفريقًا قتلتم ؛ لأنه أراد بذلك وصفهم في المستقبل - أيضًا - لأنهم
حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بالسم والسحر ، وقد قال ، عليه السلام ، في
مرض موته : "ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري" ، وهذا
الحديث في صحيح البخاري وغيره (5).
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(2) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(3) في جـ : "قال ابن أبي زيد".
(4) في جـ ، ط : "ولله الحمد والمنة".
(5) صحيح البخاري برقم (2617) وصحيح مسلم برقم (2190).
(1/323)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
{
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلا مَا
يُؤْمِنُونَ (88) }
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن
عباس : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } أي : في أكنة.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } أي : لا
تفقه.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } [قال] (1) هي القلوب
المطبوع عليها.
وقال مجاهد : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } عليها غشاوة.
وقال عكرمة : عليها طابع. وقال أبو العالية : أي لا تفقه. وقال السدي : يقولون :
عليها غلاف ، وهو الغطاء.
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } هو
كقوله : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } [فصلت
: 5].
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، في قوله : { غُلْفٌ } قال : يقول : قلبي في غلاف
فلا يَخْلُص إليه ما تقول ، قرأ (2) { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا
تَدْعُونَا إِلَيْهِ }
وهذا هو الذي رجحه ابن جرير ، واستشهد مما روي من حديث عمرو بن مُرّة الجملي ، عن
أبي البختري ، عن حذيفة ، قال : القلوب أربعة. فذكر منها : وقلب أغلف مَغْضُوب
عليه ، وذاك قلب الكافر.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الرحمن العَرْزَمي ، أنبأنا أبي ، عن جدي ،
عن قتادة ، عن الحسن في قوله : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } قال : لم تختن.
هذا (3) القول يرجع معناه إلى ما تقدم من عدم طهارة قلوبهم ، وأنها بعيدة من
الخير.
قول آخر :
قال الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } قال قالوا :
قلوبنا مملوءة علمًا لا تحتاج إلى علم محمد ، ولا غيره.
وقال عطية العوفي : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } أي : أوعية للعلم.
وعلى هذا المعنى جاءت قراءة بعض الأنصار (4) فيما حكاه ابن جرير : "وقالوا
قلوبنا غُلُف" بضم اللام ، أي : جمع غلاف ، أي : أوعية ، بمعنى أنهم ادعوا
(5) أن قلوبهم مملوءة بعلم لا يحتاجون معه إلى علم آخر. كما كانوا يَمُنُّون (6)
بعلم التوراة. ولهذا قال تعالى : { بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ
فَقَلِيلا مَّا يُؤْمِنُونَ } ، أي : ليس الأمر كما ادعوا بل
__________
(1) زيادة من جـ ، ط.
(2) في جـ ، ط ، ب : "وقرأ".
(3) في جـ ، ط ، ب : "وهذا".
(4) في أ ، و : "بعض الأمصار".
(5) ف جـ : "أنهم زعموا".
(6) في أ : "كما كانوا يكتمون".
(1/324)
قلوبهم
ملعونة مطبوع عليها ، كما قال في سورة النساء : { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ
بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا }
[النساء : 155]. وقد اختلفوا في معنى قوله : { فَقَلِيلا مَّا يُؤْمِنُونَ } وقوله
: { فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا } ، فقال بعضهم : فقليل من يؤمن منهم [واختاره
فخر الدين الرازي وحكاه عن قتادة والأصم وأبي مسلم الأصبهاني] وقيل : فقليل
إيمانهم. بمعنى أنهم يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد والثواب والعقاب ،
ولكنه إيمان لا ينفعهم ، لأنه مغمور بما كفروا به من الذي جاءهم به محمد صلى الله
عليه وسلم.
وقال بعضهم : إنهم كانوا غير مؤمنين بشيء ، وإنما قال : { فَقَلِيلا مَا
يُؤْمِنُونَ } وهم بالجميع كافرون ، كما تقول العرب : قلما رأيت مثل هذا قط. تريد
: ما رأيت مثل هذا قط. [وقال الكسائي : تقول العرب : من زنى بأرض قلما تنبت ، أي :
لا تنبت شيئًا]. (1).
حكاه (2) ابن جرير ، والله أعلم.
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(2) في جـ ، ط ، ب : "حكاها".
(1/325)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)
{
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ
وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا
جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ
(89) }
يقول تعالى : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ } يعني اليهود { كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ }
وهو : القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم { مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ }
يعني : من التوراة ، وقوله : { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى
الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون
بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم ، يقولون : إنه سيبعث نبي في آخر
الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم ، كما قال محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عُمَر عن
قتادة الأنصاري ، عن أشياخ منهم قال : قالوا : فينا والله وفيهم - يعني في الأنصار
- وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم ، نزلت هذه القصة يعني : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ
كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ
يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا
كَفَرُوا بِهِ } قالوا (1) كنا قد علوناهم دهرًا في الجاهلية ، ونحن أهل شرك وهم
أهل كتاب ، فكانوا يقولون : إن نبيًا من [الأنبياء] (2) يبعث الآن نتبعه ، قد أظل
زمانه ، نقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما بعث الله رسوله من قريش [واتبعناه] (3)
كفروا به. يقول الله تعالى : { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ
فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } [النساء : 155].
وقال الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ
عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } قال : يستظهرون يقولون : نحن نعين محمدًا عليهم ،
وليسوا كذلك ، يكذبون.
__________
(1) في جـ ، ط ، ب : "قال".
(2) زيادة من جـ.
(3) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(1/325)
وقال
محمد بن إسحاق : أخبرني محمد بن أبي محمد ، أخبرني عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن
عباس : أن يَهود (1) كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه
وسلم قبل مبعثه. فلما بعثه الله من العرب كفروا به ، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه.
فقال لهم معاذ بن جبل ، وبشر بن البراء بن مَعْرُور ، أخو بني سلمة (2) يا معشر
يهود ، اتقوا الله وأسلموا ، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن
أهل شرك ، وتخبروننا بأنه مبعوث ، وتصفُونه لنا بصفته. فقال سَلام بن مِشْكم أخو
بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه ، وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله في ذلك
من قولهم : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا
مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
الْكَافِرِينَ } (3)
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى
الَّذِينَ كَفَرُوا } يقول : يستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي
العرب - يعني بذلك أهل الكتاب - فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ورأوه من غيرهم
كفروا به وحسدوه.
وقال أبو العالية : كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب
، يقولون : اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبًا عندنا حتى نعذب المشركين
ونقتلهم. فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم ، ورأوا أنه (4) من غيرهم ،
كفروا به حسدًا للعرب ، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله :
{ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
الْكَافِرِينَ }
وقال قتادة : { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا }
قال : كانوا يقولون : إنه سيأتي نبي. { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا
بِهِ }
وقال مجاهد : { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ
عَلَى الْكَافِرِينَ } قال : هم اليهود.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، حدثني صالح بن
إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، عن محمود بن لبيد ، أخي بني عبد الأشهل عن سلمة بن
سلامة بن وقش ، وكان من أهل بدر قال : كان لنا جار يهودي في بني عبد الأشهل قال :
فخرج علينا يومًا من بيته قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بيسير ، حتى وقف
على مجلس بني عبد الأشهل. قال سلمة : وأنا يومئذ أحدث من فيهم سنًّا على بردة
مضطجعًا فيها بفناءٍ أصلي. فذكر البعث والقيامة والحسنات والميزان والجنة والنار.
قال ذلك لأهل شرك أصحاب أوثان لا يرون بعثًا كائنًا بعد الموت ، فقالوا له : ويحك
يا فلان ، ترى هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار ، يجزون
فيها بأعمالهم ؟ فقال : نعم ، والذي يحلف به ، لود أن له بحظه من تلك النار أعظم
تنور في الدنيا يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبق به عليه ، وأن ينجو من تلك النار
غدًا. قالوا له : ويحك وما آية ذلك ؟ قال : نبي
__________
(1) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "أن يهودًا".
(2) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "وداود بن سلمة".
(3) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/547) وتفسير الطبري (2/233).
(4) في جـ : "ورأوه".
(1/326)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
يبعث
من نحو هذه البلاد ، وأشار بيده نحو مكة واليمن. قالوا : ومتى نراه ؟ قال : فنظر
إليّ وأنا من أحدثهم سنًّا ، فقال : إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه. قال سلمة :
فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا
، فآمنا به وكفر به بغيًا وحسدًا.
فقلنا : ويلك يا فلان ، ألست بالذي قلت لنا ؟ قال : بلى وليس به. تفرد به أحمد
(1).
وحكى القرطبي وغيره عن ابن عباس ، رضي الله عنهما : أن يهود خيبر اقتتلوا في زمان
الجاهلية مع غطفان فهزمتهم غطفان ، فدعا اليهود عند ذلك ، فقالوا : اللهم إنا
نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا بإخراجه في آخر الزمان ، إلا نصرتنا عليهم. قال
: فنصروا عليهم. قال : وكذلك كانوا يصنعون يدعون الله فينصرون على أعدائهم ومن
نازلهم. قال الله تعالى : { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا } أي من الحق وصفة
محمد صلى الله عليه وسلم "كَفَرُوا به" فلعنة الله على الكافرين.
{ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ
بَغْيًا أَنْ يُنزلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) }
قال مجاهد : { بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ } يهودُ شَرَوُا الحقَّ
بالباطل ، وكتمانَ مَا جاءَ به مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بأن يبينوه.
وقال السدي : { بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ } يقول : باعوا به أنفسهم
، يعني : بئسما اعتاضوا لأنفسهم ورضوا به [وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل الله على
محمد صلى الله عليه وسلم إلى تصديقه ومؤازرته ونصرته] (2).
وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية { أَنْ يُنزلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } ولا حسد أعظم من هذا.
قال ابن إسحاق عن محمد ، عن عكرمة أو سعيد ، عن ابن عباس : { بِئْسَمَا اشْتَرَوْا
بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنزلَ
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } أي : إن الله جعله من
غيرهم { فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } قال ابن عباس : فالغضب على الغضب ،
فغضبه عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم ، وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي
أحدث الله إليهم.
قلت : ومعنى { بَاءُوا } استوجبوا ، واستحقوا ، واستقروا بغضب على غضب. وقال أبو
العالية : غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى ، ثم غضب عليهم بكفرهم بمحمد ،
وبالقرآن (3) عليهما السلام ، [وعن عكرمة وقتادة مثله] (4).
__________
(1) المسند (3/467).
(2) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(3) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "بكفرهم بمحمد والقرآن".
(4) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(1/327)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)
قال
السدي : أما الغضب الأول فهو حين غضب عليهم في العِجْل ، وأما الغضب الثاني فغضب
عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم [وعن ابن عباس مثله] (1).
وقوله : { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ } لما كان كفرهم سببه البغي والحسد ،
ومنشأ ذلك التكبر ، قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ
} [غافر : 60] ، [أي : صاغرين حقيرين ذليلين راغمين] (2).
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى ، حدثنا ابن عَجْلان ، عن عمرو بن شعيب ، عن
أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يحشر المتكبرون يوم
القيامة أمثال الذر في صور الناس ، يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجنًا في
جهنم ، يقال له : بُولَس فيعلوهم نار الأنيار يسقون (3) من طينة الخبال : عصارة
أهل النار" (4).
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا
أُنزلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا
مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ
الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) }
يقول تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } أي : لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب {
آمِنُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ } [أي] (5) : على محمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه
واتبعوه { قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزلَ عَلَيْنَا } أي : يكفينا الإيمان بما
أنزل علينا من التوراة والإنجيل ولا نقر إلا بذلك ، { وَيَكْفُرُونَ بِمَا
وَرَاءَهُ } يعنى : بما بعده { وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ } أي :
وهم يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم الحق (6) { مُصَدِّقًا } (7)
منصوب على الحال ، أي في حال تصديقه لما معهم من التوراة والإنجيل ، فالحجة قائمة
عليهم بذلك ، كما قال تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ
كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [البقرة : 146] ثم قال تعالى : { [قُلْ] (8)
فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }
أي : إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم ، فلم قتلتم الأنبياء الذين
جاؤوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها ، وأنتم تعلمون صدقهم ؟
قتلتموهم بغيًا [وحسدًا] (9) وعنادًا واستكبارًا على رسل الله ، فلستم تتبعون إلا
مجرد الأهواء ، والآراء والتشهي (10) كما قال تعالى { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ
رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ
وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } [البقرة : 87].
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(2) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(3) في جـ ، ط : "ويسقون".
(4) المسند (2/179).
(5) زيادة من ط ، ب ، و.
(6) في و : "هو الحق".
(7) في جـ : "مصدقا لما معهم".
(8) زيادة من جـ ، ط ، ب ، و.
(9) زيادة من جـ.
(10) في جـ : "والشهوة".
(1/328)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
وقال
السدي : في هذه الآية يعيرهم الله تعالى : { قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ
اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }
وقال أبو جعفر بن جرير : قل يا محمد ليهود بني إسرائيل - [الذين] (1) إذا قلت لهم
: آمنوا بما أنزل الله قالوا : { نُؤْمِنُ بِمَا أُنزلَ عَلَيْنَا } - : لم تقتلون
(2) - إن كنتم يا معشر اليهود مؤمنين بما أنزل الله عليكم - أنبياءه وقد حرم الله
في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم ، بل أمركم فيه باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم ، وذلك
من الله تكذيب لهم في قولهم : { نُؤْمِنُ بِمَا أُنزلَ عَلَيْنَا } وتعيير لهم.
{ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ } أي : بالآيات الواضحات (3)
والدلائل القاطعة (4) على أنه رسول الله ، وأنه لا إله إلا الله. والبينات هي :
الطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والعصا ، واليد ، وفَلْق البحر ،
وتظليلهم بالغمام ، والمن والسلوى ، والحجر ، وغير ذلك من الآيات التي شاهدوها {
ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ } أي : معبودًا من دون الله في زمان موسى وآياته.
وقوله { مِنْ بَعْدِهِ } أي : من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله كما قال
تعالى : { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا
جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ } [الأعراف : 148] ، { وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } [أي وأنتم
ظالمون] (5) في هذا الصنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل ، وأنتم تعلمون أنه لا
إله إلا الله ، كما قال تعالى : { وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا
أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ
لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الأعراف : 149].
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا
آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا
فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ
إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) }
يعدد ، تبارك وتعالى ، عليهم خطأهم ومخالفتهم للميثاق وعتوهم وإعراضهم عنه ، حتى
رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه ؛ ولهذا قال : { قَالُوا سَمِعْنَا
وَعَصَيْنَا } وقد تقدم تفسير ذلك.
{ وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } قال عبد الرزاق ، عن
مَعْمَر ، عن قتادة : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [بِكُفْرِهِمْ]
(6) } قال : أشربوا [في قلوبهم] (7) حبه ، حتى خلص ذلك إلى قلوبهم. وكذا قال أبو
العالية ، والربيع بن أنس.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عصام بن خالد ، حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم
الغساني ، عن خالد بن محمد الثقفي ، عن بلال بن أبي الدرداء ، عن أبي الدرداء ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : "حُبُّك
__________
(1) زيادة من ب.
(2) في جـ ، ط : "تقتلون أنبياء الله من قبل".
(3) في جـ ، ط ، ب : "الواضحة".
(4) في أ : "القاطعات".
(5) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(6) زيادة من جـ ، ط ، ب ، و.
(7) زيادة من جـ ، ط ، ب ، و.
(1/329)
الشيء
يُعْمِي ويُصم".
ورواه أبو داود عن حيوة بن شريح عن بَقِيَّة ، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم
به (1) وقال السدي : أخذ موسى ، عليه السلام ، العجل فذبحه ثم حرقه بالمبرد ، ثم
ذراه في البحر ، فلم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء منه ، ثم قال لهم موسى :
اشربوا منه. فشربوا ، فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب. فذلك حين يقول الله
تعالى : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا إسرائيل (2) عن
أبي إسحاق ، عن عمارة بن عبد (3) وأبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي بن أبي طالب ،
قال : عمد موسى إلى العجل ، فوضع عليه المبارد ، فبرده بها ، وهو على شاطئ نهر ،
فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب (4).
وقال سعيد بن جبير : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ } قال : لما أحرق
العجل بُرِدَ ثم نسف ، فحسوا الماء حتى عادت وجوههم كالزعفران.
وحكى القرطبي عن كتاب القشيري : أنه ما شرب منه أحد ممن عبد العجل إلا جنَّ [ثم
قال القرطبي] (5) وهذا شيء غير ما هاهنا ؛ لأن المقصود من هذا السياق ، أنه ظهر
النقير على شفاههم ووجوههم ، والمذكور هاهنا : أنهم أشربوا في قلوبهم حب العجل ،
يعني : في حال عبادتهم له ، ثم أنشد قول النابغة في زوجته عثمة :
تغلغل حب عثمة في فؤادي... فباديه مع الخافي يسير...
تغلغل حيث لم يبلغ شراب... ولا حزن ولم يبلغ سرور...
أكاد إذا ذكرت العهد منها... أطير لو أن إنسانا يطير...
وقوله : { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ } أي : بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه ، من كفركم بآيات الله
ومخالفتكم الأنبياء ، ثم اعتمادكم في كفركم بمحمد صلى الله عليه وسلم - وهذا أكبر
ذنوبكم ، وأشد الأمور عليكم - إذ كفرتم بخاتم الرسل وسيد الأنبياء والمرسلين
المبعوث إلى الناس أجمعين ، فكيف تدّعون لأنفسكم الإيمان وقد فعلتم هذه الأفاعيل
القبيحة ، من نقضكم المواثيق ، وكفركم بآيات الله ، وعبادتكم العجل ؟!
__________
(1) المسند (5/194) وسنن أبي داود برقم (5130).
(2) في أ : "حدثنا إسماعيل".
(3) في هـ : "عبد الله" وهو خطأ.
(4) تفسير ابن أبي حاتم (1/282).
(5) زيادة من أ ، و.
(1/330)
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
{
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ
النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ
يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ
بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا
يَعْمَلُونَ (96) }
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن
عباس : يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ
الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب. فأبوا ذلك
على رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } أي : بِعِلْمِهِم بما عندهم من
العلم بك ، والكفر بذلك ، ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا
مات.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ } فسلوا الموت.
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن عكرمة ، قوله : {
فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قال : قال ابن عباس : لو تمنى
اليهود الموت لماتوا.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسِي ، حدثنا عثام ،
سمعت الأعمش - قال : لا أظنه إلا عن المِنْهال ، عن سعيد بن جبير - عن ابن عباس ،
قال : لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه.
وهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس.
وقال ابن جرير في تفسيره : وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لو
أن اليهود تمنوا الموت لماتوا. ولرأوا مقاعدهم من النار. ولو خرج الذين يُباهلون
رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون (1) أهلا ولا مالا". حدثنا
بذلك أبو كُرَيْب ، حدثنا زكريا بن عدي ، حدثنا عبيد الله (2) بن عمرو ، عن عبد
الكريم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن يزيد (3) الرقي [أبي يزيد] (4) حدثنا فرات ، عن
عبد الكريم ، به (5).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن أحمد [قال] (6) : حدثنا إبراهيم بن عبد الله
بن بشار ،
__________
(1) في جـ : "ولا يجدون".
(2) في أ : "عبد الله".
(3) في جـ : "عن إسماعيل عن زيد" ، وفي أ ، و : "عن إسماعيل بن
يزيد".
(4) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(5) تفسير الطبري (2/362) والمسند (1/248).
(6) زيادة من جـ.
(1/331)
حدثنا
سرور بن المغيرة ، عن عباد بن منصور ، عن الحسن ، قال : قول الله ما كانوا ليتمنوه
بما قدمت أيديهم. قلت : أرأيتك لو أنهم أحبوا الموت حين قيل لهم : تمنوا ، أتراهم
كانوا ميتين ؟ قال : لا والله ما كانوا ليموتوا ولو تمنوا الموت ، وما كانوا
ليتمنوه ، وقد قال الله ما سمعت : { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }
وهذا غريب عن الحسن. ثم هذا الذي فسر به ابن عباس الآية هو المتعين ، وهو الدعاء
على أي الفريقين أكذب منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة ، ونقله (1) ابن جرير
عن قتادة ، وأبي العالية ، والربيع بن أنس ، رحمهم الله.
ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الجمعة : { قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ
فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا
بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ* قُلْ إِنَّ
الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ
إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ } [الجمعة : 6 - 8] فهم - عليهم لعائن الله - لما زعموا أنهم أبناء
الله وأحباؤه ، وقالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى ، دعوا إلى
المباهلة والدعاء على أكذب الطائفتين منهم ، أو من المسلمين. فلما نكلوا عن ذلك
علم كل أحد (2) أنهم ظالمون ؛ لأنهم لو كانوا جازمين بما هم فيه لكانوا أقدموا على
ذلك ، فلما تأخروا علم كذبهم. وهذا (3) كما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد
نجران من النصارى بعد قيام الحجة عليهم في المناظرة ، وعتوّهم وعنادهم إلى
المباهلة ، فقال تعالى : { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ
الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا
وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ
اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } [آل عمران : 61] فلما رأوا ذلك قال بعض القوم لبعض
: والله لئن باهلتم هذا النبيّ لا يبقى منكم عين تطرف. فعند ذلك جنحوا للسلم
وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، فضربها عليهم. وبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح ،
رضي الله عنه ، أمينًا. ومثل هذا المعنى أو قريب منه قوله تعالى لنبيه صلى الله
عليه وسلم أن يقول للمشركين : { قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ
لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا } [مريم : 75] ، أي : من كان في الضلالة منا أو منكم ،
فزاده الله مما هو فيه ومَدّ له ، واستدرجه ، كما سيأتي تقريره في موضعه ، إن شاء
الله (4).
فأما من فسر الآية على معنى : { قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ
عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : إن كنتم صادقين في دعواكم ، فتمنوا الآن الموت. ولم
يتعرض هؤلاء للمباهلة كما قرره طائفة من المتكلمين وغيرهم ، ومال إليه ابن جرير
بعد ما قارب القول الأول ؛ فإنه قال : القول في تفسير (5) قوله تعالى : { قُلْ
إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ
النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وهذه الآية مما احتج
الله به لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا
__________
(1) في جـ : "ونقل".
(2) في أ : "واحد".
(3) في جـ : "وهكذا".
(4) في جـ : "إن شاء الله وبه الثقة".
(5) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "في تأويله".
(1/332)
بين
ظهراني مُهَاجَره ، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم ؛ وذلك أن الله تعالى أمر نبيه صلى
الله عليه وسلم إلى قضية عادلة بينه وبينهم ، فيما كان بينه وبينهم من الخلاف ،
كما أمره أن يدعو الفريق الآخر من النصارى إذا خالفوه في عيسى ابن مريم ، عليه
السلام ، وجادلوه فيه ، إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة. فقال لفريق [من] (1)
اليهود : إن كنتم محقين فتمنوا الموت ، فإن ذلك غير ضار بكم (2) إن كنتم محقين
فيما تدعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله ، بل أعطيكم أمنيتكم من الموت إذا
تمنيتم ، فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها ، والفوز بجوار
الله في جناته (3) إن كان الأمر كما تزعمون : من أن الدار الآخرة لكم خالصة دوننا.
وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا ، وانكشف أمرنا
وأمركم لهم فامتنعت اليهود من الإجابة إلى ذلك لعلمها (4) أنها إن تمنت الموت هلكت
، فذهبت دنياها وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها ، كما امتنع فريق [من] (5) النصارى.
فهذا الكلام منه أوله حسن ، وأما آخره فيه نظر ؛ وذلك أنه لا تظهر الحجة عليهم على
هذا التأويل ، إذ يقال : إنه لا يلزم من كونهم يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم أنهم
يتمنوا الموت فإنه لا ملازمة بين وجود الصلاح وتمني الموت ، وكم من صالح لا يتمنى
الموت ، بل يود أن يعمر ليزداد خيرًا وترتفع درجته في الجنة ، كما جاء في الحديث :
"خيركم من طال عمره وحسن عمله" (6). [وجاء في الصحيح النهي عن تمني
الموت ، وفي بعض ألفاظه : "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به إما محسنًا
فلعله أن يزداد ، وإما مسيئًا فلعله أن يستعتب" (7) ] (8). ولهم مع ذلك أن
يقولوا على هذا : فها أنتم تعتقدون - أيها المسلمون - أنكم أصحاب الجنة ، وأنتم لا
تتمنون في حال الصحة الموت ؛ فكيف تلزمونا بما لا نُلزمكم ؟
وهذا كله إنما نشأ من تفسير الآية على هذا المعنى ، فأما على تفسير ابن عباس فلا
يلزم عليه شيء من ذلك ، بل قيل لهم كلام نَصَف : إن كنتم تعتقدون أنكم (9) أولياء
الله من دون الناس ، وأنكم أبناء الله وأحبّاؤه ، وأنكم من أهل الجنة ومن عداكم
[من] (10) أهل النار ، فباهلوا على ذلك وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم ،
واعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة. فلما تيقَّنوا ذلك وعرفوا صدقه نكلوا
عن المباهلة لما يعلمون من كذبهم وافترائهم وكتمانهم الحق من صفة الرسول صلى الله
عليه وسلم ونعته ، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويتحققونه. فعلم كل أحد باطلهم
، وخزيهم ، وضلالهم وعنادهم
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) في أ ، و : "غير ضايركم".
(3) في جـ : "وجنانه".
(4) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "لعلمهم".
(5) زيادة من جـ.
(6) جاء من حديث عبد الله بن يسر ، وأبي بكرة ، وأبي هريرة رضي الله عنهم ، فأما
حديث عبد الله بن بسر ، فرواه الترمذي في السنن برقم (2329) وقال : "هذا حديث
حسن غريب من هذا الوجه" وأما حديث أبي بكرة ، فرواه الترمذي في السنن برقم
(2330) وقال : "هذا حديث حسن صحيح" ، وأما حديث أبي هريرة ، فرواه أحمد
في المسند (2/235).
(7) صحيح البخاري برقم (5671) وصحيح مسلم برقم (2680) من حديث أنس رضي الله عنه.
(8) زيادة من جـ ، ب ، أ ، و.
(9) في و : "أنهم".
(10) زيادة من أ.
(1/333)
-
عليهم لعائن الله المتتابعة (1) إلى يوم القيامة.
[وسميت هذه المباهلة تمنيًا ؛ لأن كل محق يود لو أهلك الله المبطل المناظر له ولا
سيما إذا كان في ذلك حجة له فيها بيان حقه وظهوره ، وكانت المباهلة بالموت ؛ لأن
الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت] (2).
ولهذا قال تعالى : { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ* وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى
حَيَاةٍ } : أي : [أحرص الخلق على حياة أي] (3) : على طول عُمْر ، لما يعلمون من
مآلهم السيئ وعاقبتهم عند الله الخاسرة ؛ لأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، فهم
يودون لو تأخروا عن مقام الآخرة بكل ما أمكنهم. وما يحذرون (4) واقع بهم لا محالة
، حتى وهم أحرص [الناس] (5) من المشركين الذين لا كتاب لهم. وهذا من باب عطف الخاص
على العام.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ،
عن الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَمِنَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا } قال : الأعاجم.
ورواه الحاكم في مستدركه من حديث الثوري ، وقال : صحيح على شرطهما ، ولم يخرجاه.
قال : وقد اتفقا على سند تفسير الصحابي (6). وقال الحسن البصري : {
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } قال : المنافق أحرص الناس
على حياة ، وهو أحرص على الحياة من المشرك { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } أي : أحد اليهود
كما يدل عليه نظم السياق.
وقال أبو العالية : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } يعني : المجوس ، وهو يرجع إلى الأول.
{ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } قال الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير
، عن ابن عباس : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : هو
كقول الفارسي : "زه هزارسال" يقول : عشرة آلاف سنة. وكذا روي عن سعيد بن
جبير نفسه أيضًا.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال : سمعت أبي يقول : حدثنا
أبو حمزة ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : { يَوَدُّ
أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : هو الأعاجم : "هزارسال
نوروزر مهرجان".
وقال مجاهد : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : حببت
إليهم الخطيئة طول العمر.
__________
(1) في جـ ، ط ، ب : "التابعة" ، وفي أ : "البالغة".
(2) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(3) زيادة من جـ ، ب ، أ ، و.
(4) في أ : "وما يجدون".
(5) زيادة من ط.
(6) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 286) والمستدرك (2/ 263).
(1/334)
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
وقال
محمد بن إسحاق ، عن محمد ، عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس : { وَمَا هُوَ
بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ } أي : ما هو بمنجيه من العذاب.
وذلك أن المشرك لا يرجو بعثًا بعد الموت ، فهو يحب طول الحياة (1) وأن اليهودي قد
عرف ما له في الآخرة من الخزي بما صنع (2) بما عنده من العلم.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ
يُعَمَّرَ } قال : هم الذين عادوا جبريل.
وقال أبو العالية وابن عمر (3) فما ذاك بمغيثه (4) من العذاب ولا منجيه منه.
وقال عبد الرحمن بن زيد (5) بن أسلم [في هذه الآية] (6) يهود أحرص على [هذه] (7)
الحياة من هؤلاء ، وقد ود هؤلاء أن (8) يعمر أحدهم ألف سنة ، وليس ذلك بمزحزحه من
العذاب لو عمر ، كما عمر إبليس لم ينفعه إذ كان كافرًا.
{ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي : خبير بما يعمل عباده من خير وشر ،
وسيجازي كل عامل بعمله.
{ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ
اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ
فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) }
قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله : أجمع أهل العلم بالتأويل جميعًا
[على] (9) أن هذه الآية نزلت جوابًا لليهود من بني إسرائيل ، إذ زعموا أن جبريل
عدو لهم ، وأن ميكائيل ولي لهم ، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك.
فقال بعضهم : إنما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جَرَت بينَهم وبين رسول الله
صلى الله عليه وسلم في (10) أمر نبوته. ذكر من قال ذلك
حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا يونس بن بُكَيْر ، عن عبد الحميد بن بَهرام ، عن شَهْر
بن حَوْشَب ، عن ابن عباس أنه قال : حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، فقالوا : يا أبا القاسم ، حدثنا عن خلال نسألك عنهن ، لا يعلمهن إلا نبي ،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سلوا عما شئتم ، ولكن اجعلوا لي
__________
(1) في أ : "طول العمر".
(2) في ب : "بما ضيع".
(3) في جـ ، ط ، ب : "وإن عمر".
(4) في جـ : "لا ذاك بمغنيه".
(5) في جـ : "بز يزيد".
(6) زيادة من جـ ، ط ، ب ، و.
(7) زيادة من جـ.
(8) في ط ، ب ، أ ، و : "هؤلاء لو".
(9) زيادة من جـ ، ط.
(10) في جـ ، ط ، ب ، أ : "من".
(1/335)
ذمة
وما أخذ يعقوب على بنيه ، لئن أنا حدثتكم شيئًا فعرفتموه لتتابِعُنِّي على الإسلام".
فقالوا : ذلك لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سلوني عما
شئتم". فقالوا : أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن : أخبرنا أيّ الطعام حرم (1)
إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؟ وأخبرنا كيف ماء (2) المرأة وماء الرجل
؟ وكيف يكون الذكر منه والأنثى ؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في النوم (3) ووليه من
الملائكة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "عليكم عهد الله لئن أنا
أنبأتكم لتتابعنِّي ؟" فأعطوه ما شاء الله من عهد وميثاق. فقال :
"نشدتكم (4) بالذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض
مرضًا شديدًا فطال سقمه منه ، فنذر لله نذرًا لئن عافاه الله من سقمه ليحرّمن أحب
الطعام والشراب إليه ، وكان أحب الطعام إليه لحوم (5) الإبل وأحب الشراب إليه
ألبانها ؟". فقالوا : اللهم نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"اللهم اشهد (6) عليهم. وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو ، الذي أنزل
التوراة على موسى ، هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ ، وأن ماء المرأة أصفر رقيق
، فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله ، وإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان
الولد ذكرًا بإذن الله ، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله
؟". قالوا : اللهم نعم. قال : "اللهم اشهد". قال : "وأنشدكم
بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا
ينام قلبه ؟". قالوا : اللهم نعم. قال : "اللهم اشهد". قالوا : أنت
الآن ، فحدثنا من وليك من الملائكة ، فعندها نجامعك أو نفارقك. قال : "فإن
وليي جبريل ، ولم يبعث الله نبيًا قط إلا وهو وليُّه". قالوا : فعندها نفارقك
، لو كان وليّك سواه من الملائكة تابعناك (7) وصدقناك. قال : "فما مَنَعكم أن
تصدقوه ؟" قالوا : إنه عدونا. فأنزل الله عز وجل : { قُلْ مَنْ كَانَ
عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } إلى قوله : { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [البقرة : 103]
فعندها باؤوا بغضب على غضب (8).
وقد رواه الإمام أحمد في مسنده ، عن أبي النضر هاشم بن القاسم وعبد بن حميد في
تفسيره ، عن أحمد بن يونس ، كلاهما عن عبد الحميد بن بَهرام ، به (9).
ورواه الإمام أحمد - أيضاً - عن الحسين بن محمد المروزي ، عن عبد الحميد ، بنحوه
[به] (10) (11).
وقد رواه محمد بن إسحاق بن يسار : حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين ، عن
شهر بن حوشب ، فذكره مرسلا وزاد فيه : قالوا : فأخبرنا عن الروح قال :
"أنشدكم بالله وبآياته (12)
__________
(1) في جـ ، ط : "الذي حرم".
(2) في جـ : "كيف يكون ماء".
(3) في جـ ، ط ، ب ، أ : "في التوراة".
(4) في جـ : "أنشدكم".
(5) في جـ : "لحم" ، وفي ط ، ب ، أ ، و : "لحمان".
(6) في جـ : "اللهم أشهدك".
(7) في جـ : "لتابعناك" وفي ط : : "بايعناك".
(8) تفسير الطبري (2/377).
(9) المسند (1/278).
(10) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(11) المسند (1/273).
(12) في ط ، ب : "وبأيامه".
(1/336)
عند
بني إسرائيل ، هل تعلمون أنه جبريل ، وهو الذي يأتيني ؟" قالوا : نعم ، ولكنه
لنا عدو ، وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء ، فلولا ذلك اتبعناك (1). فأنزل
الله فيهم : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى
قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } إلى قوله : { كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [البقرة :
101].
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو أحمد (2) حدثنا عبد الله بن الوليد العجلي ، عن بكير
بن شهاب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : أقبلت يهود إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم ، إنا نسألك عن خمسة أشياء ، فإن أنبأتنا
بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك. فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال : {
اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [يوسف : 66] قال : "هاتوا". قالوا
: أخبرنا عن علامة النبي. قال : "تنام عيناه ولا ينام قلبه". قالوا :
أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف يذكر الرجل ؟ قال : "يلتقي الماءان فإذا علا ماء
الرجل ماء المرأة أذكرت ، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت" ، قالوا :
أخبرنا ما (3) حرّم إسرائيل على نفسه. قال : "كان يشتكي عِرْق النَّساء ، فلم
يجد شيئًا يلائمه إلا ألبان كذا وكذا" - قال أحمد : قال بعضهم : يعني الإبل ،
فحرم لحومها - قالوا : صدقت. قالوا : أخبرنا ما هذا الرعد ؟ قال "ملك من ملائكة
الله ، عز وجل ، موكل بالسحاب بيديه - أو في يده - مِخْراق من نار يزجر به السحاب
، يسوقه حيث أمره الله عز وجل". قالوا : فما هذا الصوت الذي نسمعه ؟ قال :
"صوته". قالوا : صدقت. إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا (4)
إنه ليس من نبي إلا وله مَلَك يأتيه بالخبر ، فأخبرنا من صاحبك ؟ قال :
"جبريل عليه السلام" ، قالوا : جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال
والعذاب عدونا ، لو قلت : ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان (5)
فأنزل الله عز وجل : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } إلي آخر الآية.
ورواه الترمذي ، والنسائي من حديث عبد الله بن الوليد ، به (6). وقال الترمذي :
حسن غريب.
وقال سُنَيْد في تفسيره ، عن حجاج بن محمد ، عن ابن جُرَيْج : أخبرني القاسم بن
أبي بَزَّة أن يهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن صاحبه الذي ينزل (7) عليه
بالوحي. قال : "جبريل". قالوا : فإنه لنا عدو ، ولا يأتي إلا بالشدة
والحرب والقتال. فنزل : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } الآية. قال ابن
جريج : وقال مجاهد : قالت يهود : يا محمد ، ما ينزل (8) جبريل إلا بشدة وحرب وقتال
، وإنه لنا عدو. فنزل : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } الآية.
وقال البخاري : قوله : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } قال عكرمة : جبر ،
وميك ، وإسراف : عبد. وإيل : الله. حدثنا عبد الله بن مُنير (9) سَمِع عبد الله بن
بكر (10) حدثنا حُمَيد ، عن أنس بن مالك ،
__________
(1) في جـ : "لتبعناك".
(2) في جـ : "أبو عمر".
(3) في جـ ، ط : "أخبرنا عما".
(4) في ب "أخبرتنا بها".
(5) في جـ : "لكنا تابعناك".
(6) المسند (1/274) وسنن الترمذي برقم (3117) وسنن النسائي الكبرى برقم (9072).
(7) في أ : "نزل".
(8) في جـ ، ط ، أ : "ما نزل".
(9) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "بن نمير".
(10) في أ : "بن بكير".
(1/337)
قال
: سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف.
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن (1) إلا نبي :
ما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى
أمه ؟ قال : "أخبرني بِهن جبريل آنفًا". قال : جبريل ؟ قال :
"نعم". قال : ذاك عدو اليهود من الملائكة ، فقرأ هذه الآية : { مَنْ
كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ } "أما أول
أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل
الجنة فزيادة كبد الحوت ، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد ، وإذا سبق ماء
المرأة [ماء الرجل] (2) نزعت". قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك (3)
رسول الله. يا رسول الله ، إن اليهود قوم بُهُت ، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن
تسألهم يبهتوني (4). فجاءت اليهود فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أي رجل
عبد الله بن سلام فيكم ؟" قالوا : خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا. قال
: "أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام". فقالوا : أعاذه الله من ذلك. فخرج
عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. فقالوا :
شرنا وابن شرنا. فانتقصوه.
قال (5) هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله.
انفرد به البخاري من هذا الوجه (6) وقد أخرجه من وجه آخر ، عن أنس بنحوه (7) وفي
صحيح مسلم ، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريب من هذا السياق (8)
كما سيأتي في موضعه (9).
وحكاية البخاري عن عكرمة هو المشهور أن "إيل" هو الله. وقد رواه سفيان
الثوري ، عن خَصِيف ، عن عكرمة.
ورواه عبد بن حميد ، عن إبراهيم بن الحكم ، عن أبيه ، عن عكرمة ، ورواه ابن جرير ،
عن الحسين بن يزيد الطحان ، عن إسحاق بن منصور ، عن قيس ، عن عاصم ، عن عكرمة ،
أنه قال : إن جبريل اسمه عبد الله وميكائيل : عبيد الله. إيل : الله.
ورواه يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله سواء. وكذا قال غير واحد من
السلف ، كما سيأتي قريبا.
__________
(1) في أ : "لا يعرفهن".
(2) زيادة من جـ.
(3) في جـ ، ط : "وأن محمدًا".
(4) في جـ : "بهتوني".
(5) في جـ : "فقال".
(6) صحيح البخاري برقم (4480).
(7) صحيح البخاري برقم (3329) من طريق مروان بن معاوية عن حميد ، عن أنس ، وصحيح
البخاري برقم (3938) من طريق بشر ابن المفضل ، عن حميد ، عن أنس.
(8) صحيح مسلم برقم (315).
(9) في جـ : "كما سيأتي في موضعه إن شاء الله".
(1/338)
[وقال
الإمام أحمد في أثناء حديث سمرة بن جندب : حدثنا محمد بن سلمة ، حدثنا محمد بن
إسحاق ، حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء قال : قال لي علي بن الحسين : اسم جبريل عبد
الله ، واسم ميكائيل : عبيد الله] (1).
ومن الناس من يقول : "إيل" عبارة عن عبد ، والكلمة الأخرى هي اسم الله ؛
لأن كلمة "إيل" لا تتغير في الجميع ، فوزانه : عبد الله ، عبد الرحمن ،
عبد الملك ، عبد القدوس ، عبد السلام ، عبد الكافي ، عبد الجليل. فعبد موجودة في
هذا كله ، واختلفت الأسماء المضاف إليها ، وكذلك جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل
ونحو ذلك ، وفي كلام غير العرب يقدمون المضاف إليه على المضاف ، والله أعلم.
ثم قال ابن جرير : وقال آخرون : بل كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بين عمر
بن الخطاب وبينهم في أمر النبي صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن المثنى ، حدثني ربعي بن عُلَيّة ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ،
قال : نزل عمر الروحاء ، فرأى رجالا يبتدرون أحجارًا يصلون إليها ، فقال : ما بال
هؤلاء ؟ قالوا : يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى هاهنا. قال : فكفر
ذلك. وقال : إنما رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بواد صلاها ثم ارتحل
، فتركه. ثم أنشأ يحدثهم ، فقال : كنت أشهد اليهود يوم مِدْرَاسهم (2) فأعجب من
التوراة كيف تصدق الفرقان ومن الفرقان كيف يصدق التوراة ؟ فبينما أنا عندهم ذات
يوم ، قالوا : يا ابن الخطاب ، ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك. قلت : ولم ذلك ؟
قالوا : إنك تغشانا وتأتينا. فقلت : إني آتيكم فأعجب من الفرقان (3) كيف يصدق
التوراة ، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان. قال : ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالوا : يا ابن الخطاب ، ذاك صاحبكم فالحق به ، قال : فقلت لهم عند ذلك : نشدتكم
(4) بالله الذي لا إله إلا هو ، وما استرعاكم من حقه واستودعكم من كتابه : أتعلمون
أنه رسول الله ؟ قال : فسكتوا. فقال لهم عالمهم وكبيرهم : إنه قد غَلَّظ عليكم
فأجيبوه. فقالوا : فأنت عالمنا وكبيرنا فأجبه أنت. قال : أما إذ نشدتنا بما نشدتنا
به فإنا نعلم أنه رسول الله ، قال : قلت : ويحكم فأنَّي هلكتم ؟! قالوا (5) إنا لم
نهلك (6) [قال] (7) : قلت : كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول الله [ثم] (8) ولا
تتبعونه ولا تصدقونه ؟ قالوا : إن لنا عدوا من الملائكة وسِلْمًا من الملائكة ،
وإنه قرن بنبوته عدونا من الملائكة. قال : قلت : ومن عدوكم ومن سلمكم ؟ قالوا :
عدونا جبريل ، وسلمنا ميكائيل. قال : قلت : وفيم عاديتم جبريل ، وفيم سالمتم
ميكائيل ؟ قالوا : إن جبريل مَلَك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو
هذا ، وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف ونحو هذا.
__________
(1) زيادة من جـ ، ط.
(2) في جـ ، أ : "يوم مدارستهم".
(3) في أ ، و : "القرآن".
(4) في أ : "أنشدكم".
(5) في جـ : "فقالوا".
(6) في جـ ، ط : "إياكم يهلك".
(7) زيادة من أ.
(8) زيادة من ط.
(1/339)
قال
: قلت : وما منزلتهما من ربهما عز وجل ؟ قالوا : أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره.
قال : قلت : فو [الله] (1) الذي لا إله إلا هو ، إنهما والذي بينهما لعدو لمن
عاداهما وسلم لمن سالمهما وما ينبغي لجبريل أن يسالم عدو ميكائيل وما ينبغي
لميكائيل أن يسالم عدو جبريل. ثم قمت فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم فلحقته وهو
خارج من خَوْخة لبني فلان ، فقال : يا ابن الخطاب ، ألا أقرئك آيات نزلن (2) قبل
؟" فقرأ عليّ : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى
قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } حتى قرأ هذه
الآيات. قال : قلت : بأبي وأمي يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا أريد
أن أخبرك ، فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، عن مجالد ، أنبأنا
عامر ، قال : انطلق عمر بن الخطاب إلى اليهود ، فقال : أنشدكم بالذي أنزل التوراة
على موسى : هل تجدون محمدًا في كتبكم ؟ قالوا : نعم. قال : فما يمنعكم أن تتبعوه ؟
قالوا : إن الله لم يبعث رسولا (4) إلا جعل له من الملائكة كفْلا وإن جبريل كَفَل
محمَّدًا ، وهو الذي يأتيه ، وهو عدونا من الملائكة ، وميكائيل سلمنا ؛ لو كان ميكائيل
هو الذي يأتيه أسلمنا. قال : فإني أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى : ما
منزلتهما من رب العالمين ؟ قالوا : جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله. قال عمر.
وإني أشهد ما ينزلان إلا بإذن الله ، وما كان ميكائيل ليسالم عدو جبريل ، وما كان
جبريل ليسالم عدو ميكائيل. فبينما هو عندهم إذ مر النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا
: هذا صاحبك يا ابن الخطاب : فقام إليه عمر ، فأتاه ، وقد أنزل الله ، عز وجل ،
عليه : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ
وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } (5).
وهذان الإسنادان يدلان على أن الشعبي حدث به عن عمر ، ولكن فيه انقطاع بينه وبين
عمر ، فإنه لم يدرك وفاته (6) ، والله أعلم.
وقال ابن جرير : حدثنا بشر (7) حدثنا يزيد بن زُرَيع ، عن سعيد ، عن قتادة ، قال :
ذُكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود. فلما أبصروه (8) رحبوا به ،
فقال لهم عمر : أما والله ما جئت لحبكم ولا للرغبة فيكم ، ولكن جئت لأسمع منكم.
فسألهم وسألوه. فقالوا : من صاحب صاحبكم (9) ؟ فقال لهم : جبريل. فقالوا : ذاك
عدونا من أهل السماء ، يُطلع محمدًا على سرنا ، وإذا جاء جاء الحرب والسَّنَة ،
ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل ، وكان إذا جاء جاء الخصب والسلم. فقال لهم عمر : هل
تعرفون جبريل وتنكرون محمدًا صلى الله عليه وسلم ؟ ففارقهم عمر عند ذلك وتوجه نحو
النبي صلى الله عليه وسلم ،
__________
(1) زيادة من جـ ، ب ، أ ، و.
(2) في جـ : "نزلت".
(3) تفسير الطبري (2/ 382).
(4) في جـ : "نبيا رسولا".
(5) تفسير ابن أبي حاتم (1/290).
(6) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "زمانه".
(7) في أ : "محمد بن بشر".
(8) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "فلما انصرف".
(9) في أ ، و : "صاحبكم".
(1/340)
ليحدثه
حديثهم ، فوجده قد أنزلت عليه هذه الآية : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ
فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } (1).
ثم قال : حدثني المثنى ، حدثنا آدم ، حدثنا أبو جعفر عن قتادة ، قال : بلغنا أن
عمر أقبل إلى اليهود يومًا ، فذكر نحوه. وهذا - أيضًا - منقطع ، وكذلك رواه أسباط
، عن السدي ، عن عمر مثل هذا أو نحوه ، وهو (2) منقطع أيضًا.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا عبد الرحمن - يعني الدَّشْتَكي -
حدثنا أبو جعفر ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهوديا
أتي (3) عمر بن الخطاب ، فقال : إن جبريل الذي يذكر صاحبكم عدو لنا. فقال عمر : {
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ
فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } قال : فنزلت على لسان عمر ، رضي الله
عنه (4).
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هشيم ، أخبرنا حصين بن عبد الرحمن
، عن ابن أبي ليلى في قوله : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } قال : قالت
اليهود للمسلمين : لو أن ميكائيل كان الذي ينزل عليكم اتبعناكم ، فإنه ينزل
بالرحمة والغيث ، وإن جبريل ينزل بالعذاب والنقمة ، فإنه لنا عدو (5) قال : فنزلت
هذه الآية.
حدثني يعقوب قال : حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء ، بنحوه. وقال عبد
الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة في قوله : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا
لِجِبْرِيلَ } قال : قالت اليهود : إن جبريل عدونا ، لأنه ينزل بالشدة والسَّنَة ،
وإن ميكائيل ينزل بالرخاء والعافية والخصب ، فجبريل عدونا. فقال الله تعالى : {
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } [الآية] (6).
وأما تفسير الآية فقوله تعالى : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ
نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } أي : من عادى جبريل فليعلم أنه الروح
الأمين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله بإذنه له في ذلك ، فهو رسول من
رسل الله مَلَكي [عليه وعلى سائر إخوانه من الملائكة السلام] (7) ومن عادى رسولا
فقد عادى جميع الرسل ، كما أن من آمن برسول فإنه يلزمه الإيمان بجميع الرسل ، وكما
أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل ، كما قال تعالى : { إِنَّ
الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ
اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ
وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا* أُولَئِكَ هُمُ
الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } [النساء :
150 ، 151] فحكم عليهم بالكفر المحقّق ، إذْ آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم (8)
وكذلك من عادى جبريل فإنه عدو لله ؛
__________
(1) تفسير الطبري (2/383).
(2) في أ : "وهذا".
(3) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "لقي".
(4) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 291) وهذا منقطع ، ابن أبي ليلي لم يدرك عمر.
(5) في جـ : "فإنه عدونا".
(6) زيادة من جـ.
(7) زيادة من جـ.
(8) في أ : "وكفروا ببعض".
(1/341)
لأن
جبريل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه ، وإنما ينزل بأمر ربه كما قال : { وَمَا
نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا
بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } [مريم : 64] وقال تعالى : {
وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ* عَلَى
قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } [الشعراء : 192 - 194] وقد روى البخاري
في صحيحه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من
عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب" (1). ولهذا غضب الله لجبريل على من عاداه ،
فقال : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ
بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : مِنَ الكتب المتقدمة {
وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } أي : هدى لقلوبهم وبشرى لهم بالجنة ، وليس
ذلك إلا للمؤمنين. كما قال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى
وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ
عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [فصلت : 44] ، وقال تعالى : {
وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا
يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } [الإسراء : 82].
ثم قال تعالى : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ
وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } يقول تعالى : من
عاداني وملائكتي ورسلي - ورسله تشمل رسله من الملائكة والبشر ، كما قال تعالى : {
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ } [الحج : 75].
{ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } (2) وهذا من باب عطف الخاص على العام ، فإنهما دخلا في
الملائكة ، ثم (3) عموم الرسل ، ثم خصصا بالذكر ؛ لأن السياق في الانتصار لجبريل
وهو السفير بين الله وأنبيائه ، وقرن معه ميكائيل في اللفظ ؛ لأن اليهود زعموا أن
جبريل عدوهم وميكائيل وليهم ، فأعلمهم أنه من عادى واحدًا منهما فقد عادى الآخر
وعادى الله أيضًا ؛ لأنه - أيضًا - ينزل على الأنبياء بعض الأحيان ، كما قُرن (4)
برسول الله صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر ، ولكن جبريل أكثر ، وهي وظيفته ،
وميكائيل موكل بالقطر والنبات ، هذاك بالهدى وهذا بالرزق ، كما أن إسرافيل موكل
بالصور للنفخ للبعث يوم (5) القيامة ؛ ولهذا جاء في الصحيح : أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يقول (6) "اللهم رب جبريل وإسرافيل
وميكائيل (7) ، فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك
فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء
إلى صراط مستقيم" (8). وقد تقدم ما حكاه البخاري ، ورواه ابن جرير (9) عن
عكرمة أنه قال : جبر ، وميك ، وإسراف : عُبَيد. وإيل : الله.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6502).
(2) في جـ ، ط ، ب : "وميكائيل".
(3) في أ : "في".
(4) في أ : "كما مر".
(5) في ط ، ب : "ليوم".
(6) في جـ ، ط : "قال".
(7) في جـ ، ط ، ب : "رب جبريل وميكائيل وإسرافيل".
(8) صحيح مسلم برقم (770) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(9) في ب : "وغيره".
(1/342)
وقال
ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن
الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن عمير (1) مولى ابن عباس ، عن ابن عباس ، قال :
إنما قوله : "جبريل" كقوله : "عبد الله" و "عبد
الرحمن". وقيل (2) جبر : عبد. وإيل : الله.
وقال محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين ، قال : أتدرون (3) ما اسم
جبرائيل (4) من أسمائكم ؟ قلنا : لا. قال : اسمه عبد الله ، قال : فتدرون ما اسم
ميكائيل من أسمائكم ؟ قلنا : لا. قال : اسمه عبيد الله (5). وكل اسم مرجعه إلى
"يل" (6) فهو إلى الله.
قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد وعكرمة والضحاك ويحيى بن يعمر نحو ذلك. ثم قال :
حدثني أبي ، حدثنا أحمد بن أبي الحَوَارِي ، حدثني عبد العزيز بن عمير قال : اسم
جبريل في الملائكة خادم الله. قال : فحدثت (7) به أبا سليمان الداراني ، فانتفض
وقال : لهذا الحديث أحبّ إليَّ من كل شيء [وكتبه] (8) في دفتر كان بين يديه.
وفي جبريل وميكائيل لغات وقراءات ، تذكر في كتب اللغة والقراءات ، ولم نطوّل
كتابنا هذا بسَرد ذلك إلا أن يدور فهم المعنى عليه ، أو يرجع الحكم في ذلك إليه ،
وبالله الثقة ، وهو المستعان.
وقوله تعالى : { فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } فيه إيقاع المظهر مكان
المضمر حيث لم يقل : فإنه عدو للكافرين. قال : { فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ
لِلْكَافِرِينَ } كما قال الشاعر :
لا أرى الموتَ يسبق (9) الموتَ شيء... نَغَّص (10) الموتُ ذا الغنى والفقيرا...
وقال آخر :
ليتَ الغرابَ غداة ينعَبُ (11) دائبا... كان الغرابُ مقطَّع الأوداج (12)
وإنما أظهر الاسم هاهنا لتقرير هذا المعنى وإظهاره ، وإعلامهم أن من عادى أولياء
الله فقد عادى الله ، ومن عادى الله فإن الله عدو له ، ومن كان الله عدوه فقد خسر
الدنيا والآخرة ، كما تقدم الحديث : "من عادى لي وليًّا فقد بارزني
بالحرب". وفي الحديث الآخر : "إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث
الحرب". وفي الحديث الصحيح : "وَمَن كنتُ خَصْمَه خَصَمْتُه".
__________
(1) في أ : "عمر".
(2) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "وقال".
(3) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "تدرون".
(4) في جـ ، ط ، ب : "جبريل".
(5) في جـ : "عبد الله".
(6) في أ ، و : "إيل".
(7) في جـ : "فحدث".
(8) زيادة من جـ.
(9) في جـ : "سوى".
(10) في جـ ، ط ، ب : "سبق" ، وفي أ : "مسبق" وفي و :
"يسبق".
(11) في جـ : "ينعق".
(12) البيت في تفسير الطبري (2/396) وهو لجرير بن عطية.
(1/343)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
{ وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) }
(1/344)
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
{
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ
سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ
وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا
يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ
فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ
وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ
مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ
فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) }
قال الإمام أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكَ
آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أي : أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات [دلالات] (1) على
نبوتك ، وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود ، ومكنونات سرائر
أخبارهم ، وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل ، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن
يعلمها إلا أحبارُهم وعلماؤهم ، وما حرفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه من أحكامهم ،
التي كانت في التوراة. فأطلع الله في كتابه الذي أنزله إلى نبيه محمد صلى الله
عليه وسلم ؛ فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف نفسه ، ولم يَدْعُه إلى
هلاكها الحسد (2) والبغي ، إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة تصديقُ من أتى بمثل
(3) ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات التي وَصَفَ ، من غير
تعلُّم تعلَّمه من بَشَريٍّ (4) ولا أخذ شيئًا (5) منه عن آدمي. كما قال الضحاك ،
عن ابن عباس : { وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } يقول : فأنت
تتلوه عليهم وتخبرهم به غدوة وعشية ، وبين ذلك ، وأنت عندهم أمي لا تقرأ (6)
كتابًا ، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه. يقول الله : في ذلك لهم عبرة وبيان
، وعليهم حجة لو كانوا يعلمون.
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن
عباس ، قال : قال ابن صُوريا الفطْيُوني لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد
، ما جئتنا بشيء نعرفه ، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك. فأنزل الله في
ذلك من قوله : { وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ
بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ }
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(2) في جـ : "هلاكه بالحسد".
(3) في جـ : "تصديق ذلك من أن يمثل".
(4) في جـ : "من بشر".
(5) في جـ ، ط ، ب : "شيء" وهو خطأ.
(6) في جـ ، ط ، ب : "لم تقرأ".
(1/344)
وقال
مالك بن الصيف - حين بُعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وذكرهم (1) ما أخذ عليهم
من الميثاق ، وما عهد إليهم في محمد صلى الله عليه وسلم (2) والله ما عَهِد إلينا
في محمد صلى الله عليه وسلم ولا أخذ [له] (3) علينا ميثاقًا. فأنزل الله : {
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ }
وقال الحسن البصري في قوله : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } قال : نَعَم ،
ليس في الأرض عَهْدٌ يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه ، يعاهدون اليوم ، وينقضون
غدًا.
وقال السدي : لا يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة : {
نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ } أي : نقضه فريق منهم.
وقال ابن جرير : أصل النبذ : الطرح والإلقاء ، ومنه سمي اللقيط : منبوذًا ، ومنه
سمي النبيذ ، وهو التمر والزبيب إذا طرحا في الماء. قال أبو الأسود الدؤلي :
نظرتُ إلى عنوانه فنبذْتُه كنبذك نَعْلا أخْلقَتْ من نعَالكا (4)
قلت : فالقوم ذمهم الله بنبذهم العهود التي تقدم اللهُ إليهم في التمسك بها
والقيام بحقها. ولهذا أعقبهم ذلك التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة ،
الذي في كتبهم نعتُه وصفتُه وأخبارُه ، وقد أمروا فيها باتباعه ومؤازرته ومناصرته
، كما قال : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي
يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ } الآية
[الأعراف : 157] ، وقال هاهنا : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ } أي : اطَّرَحَ
طائفة منهم كتاب الله الذي بأيديهم ، مما فيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم
وراء ظهورهم ، أي : تركوها ، كأنهم لا يعلمون ما فيها ، وأقبلوا على تعلم السحر
واتباعه. ولهذا أرادوا كيْدًا برسول الله صلى الله عليه وسلم وسَحَروه في مُشْط
ومُشَاقة وجُفّ طَلْعَة ذَكر ، تحت راعوثة بئر ذي أروان. وكان الذي تولى ذلك منهم
رجل ، يقال له : لبيد بن الأعصم ، لعنه الله ، فأطلع الله على ذلك رسوله صلى الله
عليه وسلم ، وشفاه منه وأنقذه ، كما ثبت ذلك مبسوطًا في الصحيحين عن عائشة أم
المؤمنين ، رضي الله عنها ، كما سيأتي بيانه (5) قال (6) السدي : { وَلَمَّا
جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ } قال : لما
جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها ، فاتفقت التوراة
والقرآن ، فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت ، فلم يوافق القرآن
، فذلك قوله : { كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ }
وقال قتادة في قوله : { كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ } قال : إن القوم كانوا يعلمون
، ولكنهم نبذوا علمهم ، وكتموه وجحدوا به.
__________
(1) في أ : "وما ذكر لهم".
(2) في أ : "وما عهد الله إليهم فيه".
(3) زيادة من أ.
(4) البيت في تفسير الطبري (2/401).
(5) في جـ : "كما سيأتي بيانه إن شاء الله وبه الثقة" ، وفي أ :
"كما سيأتي بيانه إن شاء اله تعالى".
(6) في جـ ، ط : "وقال".
(1/345)
وقال
العوفي في تفسيره ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو
الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ
الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } وكان حين ذهب مُلْكُ سليمان ارتد فِئَامٌ من الجن والإنس
واتبعوا الشهوات ، فلما رجع (1) اللهُ إلى سليمان ملكَه ، وقام الناس على الدين
كما كان أوان سليمان ، ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه ، وتوفي سليمان ، عليه
السلام ، حدثان ذلك ، فظهر الإنس والجن على الكتب بعد وفاة سليمان ، وقالوا : هذا
كتاب من الله نزل (2) على سليمان وأخفاه عنا فأخذوا به فجعلوه دينًا. فأنزل الله :
{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ
نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ
ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ } واتبعوا الشهوات ، [أي] : (3) التي كانت
[تتلو الشياطين] (4) وهي المعازف واللعب وكل شيء يصد عن ذكر الله.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، عن الأعمش ، عن
المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان آصف كاتب سليمان ، وكان يعلم
الاسم "الأعظم" ، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه ، فلما
مات سليمان أخرجه (5) الشياطين ، فكتبوا بين كل سطرين سحرًا وكفرًا ، وقالوا : هذا
الذي كان سليمان يعمل بها (6). قال : فأكفره جُهَّالُ الناس وسبّوه ، ووقف علماؤهم
فلم يزل جهالهم يسبونه ، حتى أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم : {
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ
سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } (7).
وقال ابن جرير : حدثني أبو السائب سلم (8) بن جنادة السوائي ، حدثنا أبو معاوية ،
حدثنا عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان سليمان
، عليه السلام ، إذا أراد أن يدخل الخلاء ، أو يأتي شيئًا من نسائه ، أعطى الجرادة
- وهي امرأة - خاتمه. فلما أراد الله أن يبتلي سليمان ، عليه السلام ، بالذي
ابتلاه به ، أعطى الجرادة ذات يوم خاتَمه ، فجاء (9) الشيطان في صورة سليمان فقال
لها : هاتي خاتمي. فأخذه فلبسه. فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس. قال :
فجاءها سليمان ، فقال : هاتي خاتمي فقالت : كذبت ، لست سليمان. قال : فعرف سليمان
أنه بلاء ابتلي به. قال : فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبًا فيها سحر
وكفر. ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ، ثم أخرجوها وقرؤوها (10) على الناس ، وقالوا :
إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب. قال : فبرئ الناس من سليمان ، عليه السلام
، وأكفروه حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه : { وَمَا كَفَرَ
سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا }
ثم قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن
عمران ،
__________
(1) في جـ : "فلما أرجع".
(2) في جـ : "أنزل".
(3) زيادة من جـ.
(4) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(5) في جـ ، ط ، أ ، و : "أخرجته".
(6) في هـ : "به" ، والصواب ما أثبتناه من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(7) تفسير ابن أبي حاتم (1/297).
(8) في جـ ، ط ، ب : "مسلم".
(9) في جـ : "فجاءها".
(10) في جـ ، ط ، ب ، أ : "فقرؤوها".
(1/346)
وهو
ابن الحارث قال : بينا نحن عند ابن عباس - رضي الله عنهما (1) - إذ جاء (2) رجل
فقال له : مِنْ أين جئت ؟ قال : من العراق. قال : من أيِّه ؟ قال : من الكوفة. قال
: فما الخبر ؟ قال : تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم. ففزع ثم قال : ما تقول ؟
لا أبا لك! لو شعرنا ما نكحنا نساءه ، ولا قسمنا ميراثه ، أما إني سأحدثكم (3) عن
ذلك : إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء ، فيجيء أحدهم بكلمة حق قد سمعها
، فإذا جُرِّبَ منه صدق كذب معها سبعين كذْبة ، قال : فَتَشْرَبُها قلوب الناس.
فأطلع الله عليها سليمان. عليه السلام ، فدفنها تحت كرسيه. فلما توفي سليمان ،
عليه السلام ، قام شيطانُ الطريق ، فقال : أفلا أدلكم على كنزه الممنَّع (4) الذي
لا كنز له مثله ؟ تحت الكرسي. فأخرجوه ، فقالوا هذا سحره (5) فتناسخا الأمم - حتى
بقاياها ما يتحدث به أهل العراق - وأنزل الله عز وجل (6) { وَاتَّبَعُوا مَا
تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ
وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا }
ورواه الحاكم في مستدركه ، عن أبي زكريا العَنْبري ، عن محمد بن عبد السلام ، عن
إسحاق بن إبراهيم ، عن جرير ، به (7).
وقال السدي في قوله تعالى : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى
مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أي : على عهد سليمان. قال : كانت الشياطين تصعد إلى السماء ،
فتقعد منها مقاعد للسمع ، فيستمعون من كلام الملائكة مما يكون في الأرض من موت أو
غيب (8) أو أمر ، فيأتون الكهنة فيخبرونهم. فتحدِّث الكهنة الناسَ فيجدونه كما
قالوا. حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم. وأدخلوا فيه غيره ، فزادوا مع كل كلمة
سبعين كلمة ، فاكتتب الناسُ ذلك الحديثَ في الكتب ، وفشا في بني إسرائيل أن الجن
تعلم الغيب. فبُعث سليمانُ في الناس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق. ثم دفنها تحت
كرسيه. ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق. وقال : لا
أسمع أحدًا يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه. فلما مات سليمان ، عليه
السلام ، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان ، وخلف من بعد ذلك خَلْف
تمثل شيطان في صورة إنسان ، ثم أتى نفرًا من بني إسرائيل ، فقال لهم : هل أدلكم
على كنز لا تأكلونه أبدًا ؟ قالوا : نعم. قال : فاحفروا تحت الكرسي. وذهب معهم
وأراهم المكان ، وقام ناحية ، فقالوا له : فَادْنُ. قال (9) لا ولكنني هاهنا في
أيديكم ، فإن لم تجدوه فاقتلوني. فحفروا فوجدوا تلك الكتب. فلما أخرجوها قال
الشيطان : إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين (10) والطير بهذا السحر. ثم
طار وذهب. وفشا في الناس أن سليمان كان
__________
(1) في ط : "عنه".
(2) في ط ، ب ، أ ، و : "إذ جاءه".
(3) في جـ ، ط : "سأحدثك"
(4) في جـ : "الممتنع".
(5) في ب ، أ ، و : "هذا سحر".
(6) في جـ : "الله تعالى".
(7) تفسير الطبري (2/ 415) والمستدرك (2/ 265).
(8) في جـ : "أو عبس".
(9) في جـ : "فقال".
(10) في جـ : "والجن".
(1/347)
ساحرًا.
واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب ، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها (1)
؛ فذلك حين يقول الله تعالى : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ
كَفَرُوا }
وقال الربيع بن أنس : إن اليهود سألوا محمدًا صلى الله عليه وسلم زمانًا عن أمور
من التوراة ، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله تعالى عليه ما سألوه عنه ،
فيخصمهم (2) ، فلما رأوا ذلك قالوا : هذا أعلم بما أنزل الله إلينا منا. وإنهم
سألوه عن السحر وخاصموه به ، فأنزل الله عز وجل : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ
عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ
كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } وإن الشياطين عَمَدوا إلى كتاب فكتبوا
فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك ، فدفنوه تحت مجلس سليمان ، وكان [سليمان]
(3) عليه السلام ، لا يعلم الغيب. فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر
وخدعوا الناس ، وقالوا : هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد (4) الناس عليه. فأخبرهم
النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث فرجعوا من عنده وقد حزنوا ، وأدحض الله
حجتهم.
وقال مجاهد في قوله : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ
سُلَيْمَانَ } قال : كانت الشياطين تستمع (5) الوحي فما سمعوا من كلمة [إلا] (6)
زادوا فيها مائتين مثلها. فأرسِل سليمان ، عليه السلام ، إلى ما كتبوا من ذلك.
فلما توفي سليمان وجدته الشياطين فعلمته الناس [به] (7) وهو السحر.
وقال سعيد بن جبير : كان سليمان ، عليه السلام ، يتتبع ما في أيدي الشياطين من
السحر فيأخذه منهم ، فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته ، فلم يقدر الشياطين أن يصلوا
إليه ، فدبَّت (8) إلى الإنس ، فقالوا لهم : أتدرون ما العلم (9) الذي كان سليمان
يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك ؟ قالوا : نعم. قالوا : فإنه في بيت خزانته
وتحت كرسيه. فاستثار به (10) الإنسُ واستخرجوه فعملوا (11) بها. فقال أهل الحجا :
كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر. فأنزل الله تعالى على [لسان] (12) نبيه محمد صلى
الله عليه وسلم براءة سليمان عليه السلام ، فقال : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو
الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ
الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا }
وقال محمد بن إسحاق بن يسار (13) عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود ،
عليه السلام (14) فكتبوا أصناف السحر : "من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا فليقل
كذا وكذا". حتى إذا صنفوا أصناف السحر جعلوه في كتاب. ثم ختموا بخاتم على نقش
خاتم سليمان ، وكتبوا في
__________
(1) في جـ : "بهذا".
(2) في جـ : "فيخصهم".
(3) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(4) في جـ : "ويحشر" ، وفي ط : "ففسد".
(5) في جـ ، ط ، أ ، و : "تسمع".
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من ط.
(8) في جـ ، ب ، أ ، و : "فدنت".
(9) في جـ : "أن العلم".
(10) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "فاستثارته".
(11) في جـ : "فعلموا".
(12) زيادة من جـ ، ط ، ، أ ، و.
(13) في جـ ، ط : "بشار".
(14) في جـ ، ب : "عليهما السلام".
(1/348)
عُنْوانه
: "هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود ، عليهما السلام (1)
من ذخائر كنوز العلم". ثم دفنوه تحت كرسيه واستخرجته (2) بعد ذلك بقايا بني
إسرائيل حتى أحدثوا ما أحدثوا. فلما عثروا عليه قالوا : والله ما كان سليمان بن
داود إلا بهذا. فأفشوا السحر في الناس [وتعلموه وعلموه] (3). وليس هو في أحد أكثر
(4) منه في اليهود لعنهم الله. فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نزل
عليه من الله ، سليمان بن داود ، وعده فيمن عَدَّه من المرسلين ، قال من كان
بالمدينة من يهود : ألا تعجبون من محمد! يزعم أن ابن داود كان نبيًا ، والله ما
كان إلا ساحرًا. وأنزل الله [في] (5) ذلك من قولهم : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو
الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ
الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } الآية.
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا حسين ، حدثنا الحجاج (6) عن أبي بكر ، عن
شَهْر بن حَوشب ، قال : لما سلب سليمان ، عليه السلام ، ملكه ، كانت الشياطين تكتب
السحر في غيبة سليمان. فكتبت : "من أراد أن يأتي كذا وكذا فليستقبل الشمس ،
وليقل كذا وكذا (7) ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا.
فكتبته وجعلت عنوانه : هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان [بن داود] (8) من
ذخائر كنوز العلم". ثم دفنته تحت كرسيه. فلما مات سليمان ، عليه السلام ، قام
إبليس ، لعنه الله ، خطيبًا ، [ثم] (9) قال : يا أيها الناس ، إن سليمان لم يكن
نَبيًّا ، إنما كان ساحرًا ، فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته. ثم دلهم على المكان
الذي دفن فيه. فقالوا : والله لقد كان سليمان ساحرًا! هذا (10) سحره ، بهذا
تَعَبدنا ، وبهذا قهرنا. وقال المؤمنون : بل كان نبيًا مؤمنًا. فلما بعث الله
النبي صلى الله عليه وسلم جعل يذكر الأنبياء حتى ذكر داود وسليمان. فقالت اليهود
[لعنهم الله] (11) انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل. يذكر سليمان مع الأنبياء.
إنما كان ساحرًا يركب الريح ، فأنزل الله تعالى : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو
الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } الآية.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، قال : حدثنا المعتمر بن
سليمان ، قال : سمعت عمران بن حُدَير ، عن أبي مِجْلَز ، قال : أخذ سليمان ، عليه
السلام ، من كل دابة عهدًا ، فإذا أصيب رجل فسأل بذلك العهد ، خلى عنه. فزاد الناس
السجع والسحر ، وقالوا : هذا يعمل به
__________
(1) في ط : "عليه السلام".
(2) في ط : "واستخرجه".
(3) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(4) في جـ : "اكبر".
(5) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(6) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "حجاج".
(7) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "كذا وكذا".
(8) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(9) زيادة من جـ.
(10) في جـ : "وهذا".
(11) زيادة من جـ.
(1/349)
سليمان.
فقال الله تعالى : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا
يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } (1).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عصام بن رَوّاد ، حدثنا آدم ، حدثنا المسعودي ، عن زياد
مولى ابن مصعب ، عن الحسن : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ } قال : ثلث
الشعر ، وثلث السحر ، وثلث الكهانة.
وقال : حدثنا الحسن بن أحمد ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار الواسطي ، حدثني
سُرور بن المغيرة ، عن عباد بن منصور ، عن الحسن : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو
الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } واتبعته اليهود على ملكه. وكان السحر
قبل ذلك في الأرض لم يزل بها ، ولكنه إنما اتبع على ملك سليمان.
فهذه نبذة من أقوال أئمة السلف في هذا المقام ، ولا يخفى ملخص القصة والجمع بين
أطرافها ، وأنه لا تعارض بين السياقات على اللبيب الفَهِم ، والله الهادي. وقوله
تعالى : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أي
: واتبعت اليهود - الذين أوتوا الكتاب بعد إعراضهم عن كتاب الله الذي بأيديهم
ومخالفتهم الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم ما تتلوه (2) الشياطين ، أي : ما ترويه
وتخبر به وتُحدثه الشياطين على ملك سليمان. وعداه بعلى ؛ لأنه تضمن تتلو : تكذب.
وقال ابن جرير : "على" (3) هاهنا بمعنى "في" ، أي : تتلو في
ملك سليمان. ونقله عن ابن جُرَيج ، وابن إسحاق.
قلت : والتضمن أحسن وأولى ، والله أعلم.
وقول الحسن البصري ، رحمه الله : "قد كان السحر قبل زمان (4) سليمان بن
داود" صحيح لا شك فيه ؛ لأن السحرة كانوا في زمان (5) موسى ، عليه السلام ،
وسليمان بن داود بعده ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا
مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } الآية [البقرة : 246] ، ثم ذكر القصة
بعدها ، وفيها : { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ
وَالْحِكْمَةَ } [البقرة : 251]. وقال قوم صالح - وهم قبل إبراهيم الخليل ، عليه
السلام ، لنبيهم صالح : { إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ } [الشعراء : 153]
أي : [من] (6) المسحورين على المشهور.
وقوله تعالى : { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ
وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا
تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ
وَزَوْجِهِ } اختلف الناس في هذا المقام ، فذهب بعضهم إلى أن "ما" نافية
، أعني التي في قوله : { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } قال القرطبي :
"ما" نافية ومعطوفة على قوله : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } ثم قال : {
وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزلَ }
أي : السحر { عَلَى الْمَلَكَيْنِ } وذلك أن اليهود - لعنهم الله - كانوا يزعمون
أنه نزل
__________
(1) تفسير الطبري (2/ 414).
(2) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "ما تتلوه".
(3) في جـ ، ط ، : "وعلي".
(4) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "قبل زمن".
(5) في جـ : "زمن".
(6) زيادة من جـ ، ط.
(1/350)
به
جبريل وميكائيل فأكذبهم الله في ذلك وجعل قوله : { هَارُوتَ وَمَارُوتَ } بدلا من
: { الشياطين } قال : وصح ذلك ، إما لأن الجمع قد يطلق على الاثنين كما في قوله :
{ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } [النساء : 11] أو يكون لهما أتباع ، أو ذكرا من
بينهم لتمردهما ، فتقدير الكلام عنده : تعلمون الناس السحر ببابل ، هاروت وماروت.
ثم قال : وهذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح ولا يلتفت إلى ما سواه.
وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَمَا أُنزلَ
عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } يقول : لم ينزل الله السحر.
وبإسناده ، عن الربيع بن أنس ، في قوله : { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ }
قال : ما أنزل الله عليهما السحر.
قال ابن جرير : فتأويل الآية على هذا : واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان
من السحر ، وما كفر سليمان ، ولا أنزل الله السحر على الملكين ، ولكن الشياطين
كفروا يعلمون الناس السحر ببابل ، هاروت وماروت. فيكون قوله : { بِبَابِلَ
هَارُوتَ [وَمَارُوت (1) ] } من المؤخر الذي معناه المقدم. قال : فإن قال لنا قائل
: وكيف وجه تقديم ذلك ؟ قيل : وجه تقديمه أن يقال : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو
الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } - "من السحر" - { وَمَا
كَفَرَ سُلَيْمَانُ } وما أنزل الله "السحر" على الملكين ، { وَلَكِنَّ
الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } ببابل وهاروت وماروت
فيكون معنيا بالملكين : جبريل وميكائيل ، عليهما السلام ؛ لأن سحرة اليهود فيما
ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود ،
فأكذبهم الله بذلك ، وأخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم
ينزلا بسحر ، وبرأ سليمان ، عليه السلام ، مما نحلوه من السحر ، وأخبرهم أن السحر
من عمل الشياطين ، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل ، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان ،
اسم أحدهما هاروت ، واسم الآخر ماروت ، فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة
عن الناس ، وردًا عليهم.
هذا لفظه بحروفه (2).
وقد قال ابن أبي حاتم : حُدّثت عن عُبَيد الله بن موسى ، أخبرنا فضيل بن مرزوق ،
عن عطية { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } قال : ما أنزل الله على جبريل
وميكائيل السحر.
حدثنا (3) الفضل بن شاذان ، حدثنا محمد بن عيسى ، حدثنا يعلى - يعني ابن أسد -
حدثنا بكر (4) - يعني ابن مصعب - حدثنا الحسن بن أبي جعفر : أن عبد الرحمن بن أبزى
كان يقرؤها : "وما أنزل على الملكين داود وسليمان".
وقال أبو العالية : لم ينزل عليهما السحر ، يقول : علما الإيمان والكفر ، فالسحر
من الكفر ، فهما ينهيان عنه أشد النهي. رواه ابن أبي حاتم.
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(2) تفسير الطبري (2/ 419 ، 420).
(3) في و : "وقال ابن أبي حاتم : حدثنا".
(4) في جـ ، ط ، ب : "بكير".
(1/351)
ثم
شرع ابن جرير في رد هذا القول ، وأن "ما" بمعنى الذي ، وأطال القول في
ذلك ، وادعى (1) أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما الله إلى الأرض ، وأذن لهما في
تعليم السحر اختبارًا لعباده وامتحانًا ، بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه
على ألسنة الرسل ، وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك ؛ لأنهما امتثلا ما
أمرا به.
وهذا الذي سلكه غريب جدًا! وأغرب منه قول من زعم أن هاروت وماروت قبيلان من الجن
[كما زعمه ابن حزم] (2) !
وروى ابن أبي حاتم بإسناده. عن الضحاك بن مزاحم : أنه كان يقرؤها : { وَمَا أُنزلَ
عَلَى الْمَلَكَيْنِ } ويقول : هما علجان من أهل بابل.
وَوَجَّه أصحابُ هذا القول الإنزال بمعنى الخَلْق ، لا بمعنى الإيحاء ، في قوله :
{ وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } كما قال تعالى : { وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ
الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [الزمر : 6] ، { وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ
بَأْسٌ شَدِيدٌ } [الحديد : 25] ، { وَيُنزلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا }
[غافر : 13]. وفي الحديث : "ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء". وكما
يقال : أنزل الله الخير والشر.
[وحكى القرطبي عن ابن عباس وابن أبزى والضحاك والحسن البصري : أنهم قرؤوا :
"وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ" بكسر اللام. قال ابن أبزى : وهما
داود وسليمان. قال القرطبي : فعلى هذا تكون "ما" نافية أيضًا] (3).
وذهب آخرون إلى الوقف على قوله : { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } [و
"ما" نافية] (4) قال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا
الليث ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، وسأله رجل عن قول الله تعالى : {
يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ
هَارُوتَ وَمَارُوتَ } قال الرجل : يعلمان الناس السحر ، ما أنزل عليهما (5) أو
يعلمان الناس ما لم ينزل عليهما ؟ فقال القاسم : ما أبالي أيتهما كانت.
ثم روى عن يونس ، عن أنس بن عياض ، عن بعض أصحابه : أن القاسم قال في هذه القصة :
لا أبالي أيّ ذلك كان ، إني آمنت به.
وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء ، وأنهما أنزلا إلى الأرض ،
فكان من أمرهما ما كان. وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في مسنده كما
سنورده إن شاء الله تعالى. وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا وبين ما ثبت من الدلائل
على عصمة الملائكة أن هذين سبق في علم الله لهما هذا ، فيكون تخصيصًا لهما ، فلا
تعارض حينئذ ، كما سبق في علمه من أمر إبليس
__________
(1) في جـ : "وادعى على".
(2) زيادة من جـ ، ط.
(3) زيادة من جـ ، ط.
(4) زيادة من جـ ، ط ، ب ، و.
(5) في جـ : "إليهما".
(1/352)
ما
سبق ، وفي قول : إنه كان من الملائكة ، لقوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى } [طه : 116] ،
إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك. مع أن شأن هاروت وماروت - على ما ذكر - أخف
مما وقع من إبليس لعنه الله.
[وقد حكاه القرطبي عن على ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وابن عمر ، وكعب الأحبار ،
والسدي ، والكلبي] (1).
ذكر الحديث الوارد في ذلك - إن صح سنده ورفعه - وبيان الكلام عليه :
قال الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله ، في مسنده : حدثنا يحيى بن [أبي] (2) بكير ،
حدثنا زهير بن محمد ، عن موسى بن جبير ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر : أنه سمع
نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن آدم - عليه السلام - لما أهبطه الله
إلى الأرض قالت الملائكة : أي رب (3) { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي
أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } [البقرة : 30] ، قالوا : ربنا ، نحن أطوع لك من بني
آدم. قال الله تعالى للملائكة : هَلُموا ملكين من الملائكة حتى نهبطهما إلى الأرض
، فننظر كيف يعملان ؟ قالوا : برَبِّنا ، هاروتَ وماروتَ. فأهبطا إلى الأرض ومثُلت
لهما (4) الزُّهَرة امرأة من أحسن البشر ، فجاءتهما ، فسألاها نفسها. فقالت : لا
والله حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك. فقالا والله (5) لا نشرك بالله شيئًا
أبدًا. فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله ، فسألاها نفسها. فقالت : لا والله حتى
تقتلا هذا الصبي. فقالا لا والله لا نقتله أبدًا. ثم ذهبت فرجعت (6) بقَدَح خَمْر
تحمله ، فسألاها نفسها. فقالت : لا والله حتى تشربا هذا الخمر. فشربا فسكرا ،
فوقعا عليها ، وقتلا الصبي. فلما أفاقا قالت المرأة : والله ما تركتما شيئًا
أبيتماه عليّ إلا قد (7) فعلتماه حين سكرتما. فخيرَا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة
، فاختارا عذاب الدنيا".
وهكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه ، عن الحسن عن سفيان ، عن أبي بكر بن أبي
شيبة ، عن يحيى بن بكير ، به (8).
وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، ورجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين ، إلا موسى بن
جبير هذا ، وهو الأنصاري السلمي مولاهم المديني الحذاء ، رَوَى عن ابن عباس وأبي
أمامة بن سهل بن حنيف ، ونافع ، وعبد الله بن كعب بن مالك. وروى عنه ابنه عبد
السلام ، وبكر بن مضر ، وزهير بن محمد ، وسعيد بن سلمة ، وعبد الله بن لَهِيعة ،
وعمرو بن الحارث ، ويحيى بن أيوب. وروى له أبو داود ، وابن ماجه ، وذكره ابن أبي
حاتم في كتاب الجرح والتعديل ، ولم يحك فيه شيئًا
__________
(1) زيادة من جـ ، ط.
(2) زيادة من ط.
(3) في جـ : "يا رب".
(4) في جـ : "لهم".
(5) في جـ ، ط : "لا والله".
(6) في ج ، ط ، ب : "فذهبت ثم رجعت".
(7) في جـ : "وقد".
(8) المسند (2/ 134) وصحيح ابن حبان برقم (1717) "موارد" وقال أبو حاتم
في العلل (2/ 69) : "هذا حديث منكر".
(1/353)
من
هذا ولا هذا ، فهو مستور الحال (1) وقد تفرد به عن نافع مولى ابن عمر ، عن ابن عمر
عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروي له متابع من وجه آخر عن نافع ، كما قال ابن
مَرْدُويه : حدثنا دَعْلَجُ بن أحمد ، حدثنا هشام [بن علي بن هشام] (2) حدثنا عبد
الله بن رجاء ، حدثنا سعيد بن سلمة ، حدثنا موسى بن سَرْجِس ، عن نافع ، عن ابن
عمر : سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول. فذكره بطوله.
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين - وهو سنيد بن داود صاحب
التفسير - حدثنا الفرج بن فضالة ، عن معاوية بن صالح ، عن نافع ، قال : سافرت مع
ابن عمر ، فلما كان من آخر الليل قال : يا نافع ، انظر ، طلعت الحمراء ؟ قلت : لا
- مرتين أو ثلاثًا - ثم قلت : قد طلعت. قال : لا مرحبًا بها ولا أهلا ؟ قلت :
سبحان الله! نجم مسخر سامع مطيع. قال : ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى
الله عليه وسلم - أو قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم - : "إن
الملائكة قالت : يا رب ، كيف صبرك على بني آدم في الخطايا (3) والذنوب ؟ قال : إني
ابتليتهم وعافيتكم. قالوا : لو كنا مكانهم ما عصيناك. قال : فاختاروا ملكين منكم.
قال : فلم يألوا جهدًا أن يختاروا ، فاختاروا هاروت وماروت" (4).
وهذان - أيضاً - غريبان جدًّا. وأقرب ما في هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر ، عن
كعب الأحبار ، لا عن النبي (5) صلى الله عليه وسلم ، كما قال عبد الرزاق في تفسيره
، عن الثوري ، عن موسى بن عقبة ، عن سالم ، عن ابن عمر ، عن كعب ، قال (6) ذكرت
الملائكة أعمال بني آدم ، وما يأتون من الذنوب ، فقيل لهم : اختاروا منكم اثنين ،
فاختاروا هاروت وماروت. فقال (7) لهما : إني أرسل إلى بني آدم رسلا وليس بيني
وبينكم رسول ، انزلا لا تشركا بي شيئًا ولا تزنيا ولا تشربا الخمر. قال كعب :
فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استكملا جميع ما نهيا عنه.
ورواه ابن جرير من طريقين ، عن عبد الرزاق ، به (8).
ورواه ابن أبي حاتم ، عن أحمد بن عصام ، عن مُؤَمَّل ، عن سفيان الثوري ، به (9).
ورواه ابن جرير أيضًا : حدثني المثنى ، حدثنا المعلى - وهو ابن أسد - حدثنا عبد
العزيز بن المختار ، عن موسى بن عقبة ، حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث ، عن كعب
الأحبار ، فذكره (10).
فهذا أصح وأثبت إلى عبد الله بن عمر من الإسنادين المتقدمين ، وسالم أثبت في أبيه
من مولاه
__________
(1) الجرح والتعديل (8/ 139) وذكره ابن حبان في الثقات (7/451) وقال : "يخطئ
ويخالف".
(2) زيادة من جـ ، ط ، و.
(3) في ط ، ب : "الخطأ".
(4) تفسير الطبري (2/433).
(5) في جـ : "رسول الله".
(6) في ط : "وقال".
(7) في جـ ، ط ، ب ، و : "فقيل".
(8) تفسير عبد الرزاق (1/ 73 ، 74). وتفسير الطبري (2/429).
(9) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 306).
(10) تفسير الطبري (2/ 430).
(1/354)
نافع.
فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار ، عن كتب بني إسرائيل ، والله أعلم.
ذكر الآثار الواردة في ذلك عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين :
قال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا الحجاج (1) حدثنا حماد ، عن خالد الحذاء ، عن
عمير بن سعيد ، قال : سمعت عليًا ، رضي الله عنه ، يقول : كانت الزُّهَرة امرأة
جميلة من أهل فارس ، وإنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت ، فراوداها (2) عن
نفسها ، فأبت عليهما إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكَلَّم [المتكلم] (3) به
يُعْرج به إلى السماء. فعلماها فتكلمت به فعرجت إلى السماء. فمسخت كوكبًا!
وهذا الإسناد [جيد و] (4) رجاله ثقات ، وهو غريب جداً.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الفضل بن شاذان ، حدثنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم
بن موسى ، حدثنا أبو معاوية ، عن [ابن أبي] (5) خالد ، عن عمير بن سعيد ، عن علي
قال : هما ملكان من ملائكة السماء. يعني : { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ }
(6).
ورواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره بسنده ، عن مغيث ، عن مولاه جعفر بن
محمد ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي - مرفوعًا. وهذا لا يثبت من هذا الوجه.
ثم رواه من طريقين آخرين ، عن جابر ، عن أبي الطفيل ، عن علي ، قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "لعن الله الزّهَرة ، فإنها هي التي فتنت الملكين
هاروت وماروت". وهذا أيضًا لا يصح (7) وهو منكر جدًا. والله أعلم.
وقال ابن جرير : حدثني المثنى بن إبراهيم ، حدثنا الحجاج بن مِنْهال ، حدثنا حماد
، عن علي بن زيد ، عن أبي عثمان النهدي ، عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا
جميعًا : لما كثر (8) بنو آدم وعصوا ، دعت الملائكة عليهم والأرض والجبال ربنا لا
تهلكهم (9) فأوحى الله إلى الملائكة : إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم ، ولو
نزلتم لفعلتم أيضًا. قال : فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا ، فأوحى الله إليهم
أن اختاروا ملكين من أفضلكم. فاختاروا هاروت وماروت. فأهبطا إلى الأرض ، وأنزلت
الزُّهَرة إليهما في صورة (10) امرأة من أهل فارس يسمونها بيذخت. قال : فوقعا
بالخطيَّة (11). فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ
شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } [غافر : 7]
__________
(1) في جـ : "المثنى بن الحجاج".
(2) في جـ : "فراودوها".
(3) زيادة من جـ ، ط.
(4) زيادة من جـ.
(5) زيادة من ط ، ب ، و.
(6) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 303).
(7) ورواه ابن السني في عمل اليوم والليلة برقم (654) من طريق عيسى بن يونس عن
أخيه إسرائيل عن جابر عن أبي الطفيل عن علي به.
(8) في جـ : "كثر سواد".
(9) في جـ ، ط : "تمهلهم".
(10) في جـ : "في أحسن صورة".
(11) في جـ : "بالخطيئة".
(1/355)
فلما
وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم. فخيرا بين
عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختاروا (1) عذاب الدنيا (2).
وقال : ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي ، أخبرنا عبيد
الله - يعني ابن عمرو - عن زيد بن أبي أنيسة ، عن المِنْهال بن عمرو ويونس بن خباب
، عن مجاهد ، قال : كنت نازلا على عبد الله بن عمر في سفر ، فلما كان (3) ذات ليلة
قال لغلامه : انظر ، هل طلعت الحمراء ، لا مرحبًا بها ولا أهلا ولا حياها الله هي
صاحبة الملكين. قالت الملائكة : يا رب ، كيف تدع عصاة بني آدم وهم يسفكون الدم
الحرام وينتهكون محارمك ويفسدون في الأرض! قال : إني ابتليتهم ، فعلَّ (4) إن
ابتليتكم بمثل الذي ابتليتهم به فعلتم كالذي يفعلون. قالوا : لا. قال : فاختاروا
من خياركم اثنين. فاختاروا هاروت وماروت. فقال لهما : إني مهبطكما إلى الأرض ،
وعاهد إليكما ألا تشركا ولا تزنيا ولا تخونا. فأهبطا إلى الأرض وألقي عليهما
الشَّبَق ، وأهبطت لهما الزُّهَرة في أحسن صورة امرأة ، فتعرضت لهما ، فراوداها
(5) عن نفسها. فقالت : إني على دين لا يصح (6) لأحد أن يأتيني إلا من كان على
مثله. قالا وما دينك ؟ قالت : المجوسية. قالا الشرك! هذا شيء لا نقر به. فمكثت
عنهما ما شاء الله. ثم تعرضت لهما فأراداها عن نفسها. فقالت : ما شئتما ، غير أن
لي زوجًا ، وأنا أكره أن يطلع على هذا مني فأفتضح ، فإن أقررتما لي بديني ،
وشرطتما لي أن تصعدا بي إلى السماء فعلت. فأقرا لها بدينها وأتياها فيما يريان ،
ثم صعدا بها إلى السماء. فلما انتهيا بها إلى السماء اختطفت منهما ، وقطعت
أجنحتهما (7) فوقعا خائفين نادمين يبكيان ، وفي الأرض نبي يدعو بين الجمعتين ،
فإذا كان يوم الجمعة أجيب. فقالا لو أتينا فلانًا فسألناه فطلب (8) لنا التوبة
فأتياه ، فقال : رحمكما الله (9) كيف يطلب التوبة أهل الأرض لأهل السماء! قالا إنا
قد ابتلينا. قال : ائتياني (10) يوم الجمعة. فأتياه ، فقال : ما أجبت فيكما بشيء ،
ائتياني في الجمعة الثانية. فأتياه ، فقال : اختارا ، فقد خيرتما ، إن أحببتما
معافاة الدنيا وعذاب الآخرة ، وإن أحببتما فعذاب الدنيا وأنتما يوم القيامة على
حكم الله. فقال أحدهما : إن الدنيا لم يمض منها إلا القليل. وقال الآخر : ويحك ؟
إني قد أطعتك في الأمر الأول فأطعني الآن ، إن عذابا يفنى ليس كعذاب يبقى. وإننا
يوم القيامة على حكم الله ، فأخاف أن يعذبنا. قال : لا إني أرجو إن علم الله أنا
قد اخترنا عذاب الدنيا مخافة عذاب الآخرة لا يجمعهما علينا. قال : فاختارا عذاب
الدنيا ، فجعلا في بكرات من حديد في قَلِيب مملوءة من نار ، عَاليهُمَا
__________
(1) في جـ ، ط ، ب : "فاختارا".
(2) تفسير الطبري (2/ 428)
(3) في جـ : "فلما كانت".
(4) في جـ : "بفعل".
(5) في جـ : "فأراداها".
(6) في جـ ، ط ، ب : "لا يصلح".
(7) في جـ : "أجنحتها".
(8) في جـ ، ط ، ب : "يطلب".
(9) في جـ : "ما رحمكم الله".
(10) في جـ : "فأتياني".
(1/356)
سافلَهما
(1).
وهذا إسناد جيد إلى عبد الله بن عمر. وقد تقدم في رواية ابن جرير من حديث معاوية
بن صالح ، عن نافع ، عنه رفعه. وهذا أثبت وأصح إسنادًا. ثم هو - والله أعلم - من
رواية ابن عمر عن كعب ، كما تقدم بيانه من رواية سالم عن أبيه. وقوله : إن
الزُّهَرة نزلت في صورة امرأة حسناء ، وكذا في المروي عن علي ، فيه غرابة جدًا.
وأقرب ما ورد في ذلك ما قال ابن أبي حاتم : حدثنا عصام بن روّاد ، حدثنا آدم ،
حدثنا أبو جعفر ، حدثنا الربيع بن أنس ، عن قيس بن عباد ، عن ابن عباس ، رضي الله
عنهما (2) قال : لما وقع الناس من بعد آدم ، عليه السلام ، فيما وقعوا فيه من
المعاصي والكفر بالله ، قالت الملائكة في السماء : يا رب ، هذا العالم الذي إنما
خلقتهم لعبادتك وطاعتك ، قد وقعوا فيما وقعوا فيه وركبوا الكفر وقتل النفس وأكل
المال الحرام ، والزنا والسرقة وشرب الخمر. فجعلوا يدعون عليهم ، ولا يعذرونهم ،
فقيل : إنهم في غَيْب. فلم يعذروهم. فقيل لهم : اختاروا منكم من أفضلكم ملكين ،
آمرهما وأنهاهما. فاختاروا هاروت وماروت. فأهبطا إلى الأرض ، وجعل لهما شهوات بني
آدم ، وأمرهما الله أن يعبداه ولا يشركا به شيئًا ، ونهيا عن قتل النفس الحرام
وأكل المال الحرام ، وعن الزنا والسرقة وشرب الخمر. فلبثا في الأرض زمانًا يحكمان
بين الناس بالحق وذلك في زمان إدريس عليه السلام. وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في
النساء كحسن الزُّهَرة في سائر الكواكب ، وأنهما أتيا عليها فخضعا لها في القول
وأراداها على نفسها فأبت إلا أن يكونا على أمرها وعلى دينها ، فسألاها (3) عن
دينها ، فأخرجت لهما صنمًا فقالت : هذا أعبده. فقالا لا حاجة لنا في عبادة هذا.
فذهبا فغَبَرا ما شاء الله. ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها ، ففعلت مثل ذلك.
فذهبا ، ثم أتيا عليها فراوداها (4) على نفسها ، فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا
الصنم قالت لهما : اختارا إحدى الخلال الثلاث : إما أن تعبدا هذا الصنم ، وإما أن
تقتلا هذه النفس ، وإما أن تشربا هذا الخمر. فقالا كل هذا لا ينبغي ، وأهون هذا
شرب الخمر. فشربا الخمر فأخذت فيهما فواقعا (5) المرأة ، فخشيا أن يخبر الإنسان
عنهما فقتلاه (6) فلما ذهب عنهما السكر وعلما ما وقعا فيه من الخطيئة أرادا أن
يصعدا إلى السماء ، فلم يستطيعا ، وحيل بينهما وبين ذلك ، وكشف الغطاء فيما بينهما
وبين أهل السماء ، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه ، فعجبوا كل العجب ، وعَرَفوا
أنه من كان في غيب فهو أقل خشية ، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض ، فنزل في
ذلك : { وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ
لِمَنْ فِي الأرْضِ } [الشورى : 5] فقيل لهما : اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة
فقالا أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 306 ، 307).
(2) في جـ ، ط : "عنه".
(3) في جـ ، ط ، ب : "فسألا".
(4) في جـ ، ط ، ب : "فأراداها".
(5) في جـ : "فوقعا".
(6) في جـ : "فقتلاها".
(1/357)
ويذهب
، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له. فاختارا عذاب الدنيا ، فجعلا ببابل ، فهما
يعذبان (1).
وقد رواه الحاكم في مستدركه مطولا عن أبي زكريا العنبري ، عن محمد بن عبد السلام ،
عن إسحاق بن راهويه ، عن حكام بن سلم (2) الرازي ، وكان ثقة ، عن أبي جعفر الرازي
، به. ثم قال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه. فهذا أقرب ما روي في شأن الزُّهَرة ،
والله أعلم (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مسلم ، حدثنا القاسم بن الفضل الحُدَّاني
(4) حدثنا يزيد - يعني الفارسي - عن ابن عباس [قال] (5) أن أهل سماء الدنيا أشرفوا
على أهل الأرض فرأوهم يعملون المعاصي (6) فقالوا : يا رب أهل الأرض كانوا يعملون
بالمعاصي! فقال الله : أنتم معي ، وهم غُيَّب عني. فقيل لهم : اختاروا منكم ثلاثة
، فاختاروا منهم ثلاثة على أن يهبطوا إلى الأرض ، على أن يحكموا بين أهل الأرض ،
وجعل فيهم شهوة الآدميين ، فأمروا ألا يشربوا خمرًا ولا يقتلوا نفسا ، ولا يزنوا ،
ولا يسجدوا لوثن. فاستقال منهم واحد ، فأقيل. فأهبط اثنان إلى الأرض ، فأتتهما
امرأة من أحسن الناس (7) يقال لها : مناهية (8). فَهَويَاها جميعًا ، ثم أتيا
منزلها فاجتمعا عندها ، فأراداها فقالت لهما : لا حتى تشربا خمري ، وتقتلا ابن
جاري ، وتسجدا لوثني. فقالا لا نسجد. ثم شربا من الخمر ، ثم قتلا ثم سجدا. فأشرف
أهل السماء عليهما. فقالت (9) لهما : أخبراني بالكلمة التي إذا قلتماها طرتما.
فأخبراها فطارت فمسخت جمرة. وهي هذه الزهَرة. وأما هما فأرسل إليهما سليمان بن
داود فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فاختارا عذاب الدنيا. فهما مناطان بين
السماء والأرض (10).
وهذا السياق فيه زيادات كثيرة وإغراب ونكارة ، والله أعلم بالصواب.
وقال عبد الرزاق : قال مَعْمَر : قال قتادة والزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله :
{ وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } كانا ملكين من
الملائكة ، فأهبطا ليحكما بين الناس. وذلك أن الملائكة سخروا من حكام بني آدم ،
فحاكمت إليهما امرأة ، فحافا لها. ثم ذهبا يصعدان فحيل بينهما وبين ذلك ، ثم خيرا
بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا. وقال مَعْمَر : قال قتادة :
فكانا يعلمان الناس السحر ، فأخذ عليهما ألا يعلما أحدا حتى يقولا { إِنَّمَا
نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } (11).
وقال أسباط عن السدي أنه قال : كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض
في
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 305).
(2) في و : "بن سالم".
(3) وقد أبطل الإمام ابن حزم قصة هاروت وماروت ورد على من ادعى شربهما الخمر
وارتكابهما الزنا والقتل في كتابه الفصل (3 / 303 - 308 ، 4/ 61 - 65).
(4) في جـ : "الحراني".
(5) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(6) في جـ ، ط ، أ ، و : "بالمعاصي".
(7) في جـ : "النساء".
(8) في أ : "أناهيد".
(9) في جـ ، ط ، ب ، : "وقالت.
(10) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 308).
(11) تفسير عبد الرزاق (1/ 73).
(1/358)
أحكامهم
، فقيل لهما : إني أعطيت بني آدم عشرًا من الشهوات ، فبها (1) يعصونني. قال هاروت
وماروت : ربنا ، لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل. فقال لهما :
انزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر ، فاحكما بين الناس. فنزلا ببابل دَنْباوَند
، فكانا يحكمان ، حتى إذا أمسيا عرجا ، فإذا أصبحا هبطا ، فلم يزالا كذلك حتى
أتتهما امرأة تخاصم زوجها ، فأعجبهما (2) حسنها - واسمها بالعربية "الزّهَرة"
، وبالنبطية "بيذخت" وبالفارسية "أناهيد" - فقال أحدهما
لصاحبه : إنها لتعجبني. قال الآخر : قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك. فقال الآخر
: هل لك أن أذكرها لنفسها ؟ قال : نعم ولكن كيف لنا بعذاب الله ؟ قال الآخر : إنا
لنرجو رحمة الله. فلما جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها ، فقالت : لا حتى تقضيا
لي على زوجي. فقضيا لها على زوجها ، ثم واعدتهما خَربة من الخَرِب يأتيانها فيها ،
فأتياها لذلك. فلما أراد الذي يواقعها قالت : ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي
كلام تصعدان إلى السماء ، وبأي كلام تنزلان منها ؟ فأخبراها ، فتكلمت فصعدت ،
فأنساها الله ما تنزل به ، فبقيت (3) مكانها ، وجعلها (4) الله كوكبًا. فكان عبد
الله بن عمر كلما رآها لعنها ، فقال : هذه التي فتنت هاروت وماروت ، فلما كان
الليل أرادا أن يصعدا فلم يطيقا ، فعرفا الهلكة فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب
الآخرة. فاختارا عذاب الدنيا ، فعلقا ببابل ، وجعلا يكلمان الناس كلامهما وهو
السحر.
وقال ابن أبي نَجِيح (5) عن مجاهد : أما شأن هاروت وماروت ، فإن الملائكة عجبت من
ظلم بني آدم ، وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات ، فقال لهم ربهم تعالى : اختاروا
منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض بين بنى آدم فاختاروا فلم يألوا [إلا] (6)
هاروت وماروت ، فقال لهما حين أنزلهما : أعجبتما (7) من بني آدم من ظلمهم ومن
معصيتهم ، وإنما تأتيهم الرسل والكتب [والبينات] (8) من وَرَاء وَرَاء ، وأنتما
ليس بيني وبينكما رسول ، فافعلا كذا وكذا ، ودعا كذا وكذا ، فأمرهما بأمر ونهاهما
، ثم نزلا على ذلك ليس أحد أطوع لله منهما ، فحكما فعدلا. فكانا يحكمان في النهار
بين بني آدم ، فإذا أمسيا عرجا فكانا مع الملائكة ، وينزلان حين يصبحان فيحكمان
فيعدلان ، حتى أنزلت عليهما الزهرة في أحسن صورة امرأة تُخَاصم ، فقضيا عليها.
فلما قامت وجد كل واحد منهما في نفسه ، فقال أحدهما لصاحبه : وجدتَ مثل الذي وجدتُ
؟ قال : نعم. فبعثا إليها أن ائتيانا نقض لك. فلما رجعت قالا وقضيا لها ، فأتتهما
فتكشفا لها عن عورتيهما ، وإنما كانت شهوتهما (9) في أنفسهما ، ولم يكونا كبني آدم
في شهوة النساء ولذتها. فلما بلغا ذلك واستحلا افتُتنا ، فطارت الزهرة فرجعت حيث
كانت. فلما أمسيا عَرَجا فزُجرا فلم يؤذن لهما ، ولم تحملهما أجنحتهما. فاستغاثا
برجل من بني آدم
__________
(1) في ط ، ب : "فما".
(2) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "فأعجبهما من ".
(3) في ب ، أ ، و : "فثبتت".
(4) في أ : "وخلقها".
(5) في ط : "جريج".
(6) زيادة من جـ.
(7) في جـ ، ط ، ب : "أعجبتم".
(8) زيادة من جـ.
(9) في أ ، و : "سوآتهما".
(1/359)
فأتياه
، فقالا ادع لنا ربك. فقال : كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء ؟ قالا سمعنا ربك
يذكرك بخير في السماء. فوعدهما يومًا ، وغدا يدعو لهما ، فدعا لهما ، فاستجيب له ،
فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فنظر أحدهما إلى صاحبه ، فقال : ألا تعلم أن
أفواج عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد ، وفي الدنيا تسع مرات مثلها ؟ فأمرا
أن ينزلا ببابل ، فثَمَّ عذابهما. وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان ، يصفقان
بأجنحتهما.
وقد روى في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين ، كمجاهد والسدي والحسن
[البصري] (1) وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم ،
وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين ، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى
أخبار بني إسرائيل ، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق
المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا
إطناب فيها ، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى ، والله أعلم
بحقيقة الحال.
وقد ورد في ذلك أثر غريب وسياق عجيب في ذلك أحببنا أن ننبه عليه ، قال : الإمام
أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله : حدثنا الربيع بن سليمان ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني
ابن أبي الزناد ، حدثني هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة زوج النبي صلى الله
عليه وسلم [رضي الله عنها وعن أبيها] (2) أنها قالت : قدمت امرأة عليَّ من أهل
دومة الجندل ، جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حَدَاثة ذلك ،
تسأله عن شيء (3) دخلت فيه من أمر السحر ، ولم تعمل به. قالت عائشة ، رضي الله
عنها ، لعُرْوَة : يا ابن أختي ، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيشفيها كانت تبكي حتى إني لأرحمها ، وتقول : إني أخاف أن أكون قد هلكت. كان
لي زوج فغاب عني ، فدخلت على عجوز فشكوت ذلك إليها ، فقالت : إن فعلت ما آمرك به
فأجعله يأتيك. فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين ، فركبتُ أحدهما (4) وركبت
الآخر ، فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل ، وإذا برجلين معلقين بأرجلهما. فقالا ما
جاء بك ؟ فقلتُ : أتعلم (5) السحر. فقالا إنما نحن فتنة فلا تكفري ، فارجعي. فأبيت
وقلت : لا. قالا فاذهبي (6) إلى ذلك التنور ، فبولي فيه. فذهبت ففزعتُ ولم أفعل ،
فرجعت إليهما ، فقالا أفعلت ؟ فقلت : نعم. فقالا هل رأيت شيئًا ؟ فقلت : لم أر
شيئًا. فقالا لم تفعلي ، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري [فإنك على رأس أمري] (7).
فأرْبَبْت وأبيت (8). فقالا اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. فذهبت فاقشعررت
[وخفت] (9) ثم رجعت إليهما فقلت : قد فعلت. فقالا فما رأيت ؟ فقلت : لم
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(2) زيادة من جـ.
(3) في أ ، و : "عن أشياء".
(4) في جـ : "فركبت إحداهما".
(5) في جـ ، ب ، أ ، و : "فقلنا نتعلم".
(6) في أ : "فقالا فاذهبا".
(7) زيادة من جـ.
(8) في جـ : "فأبت وأبيت".
(9) زيادة من جـ ، ب ، أ ، و.
(1/360)
أر
شيئًا. فقالا كذبت ، لم تفعلي ، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري (1) ؛ فإنك على رأس
أمرك. فأرببتُ وأبيتُ. فقالا اذهبي إلى ذلك التنور ، فبولي فيه. فذهبت إليه فبلت
فيه ، فرأيت فارسًا مقنعًا (2) بحديد خَرَج مني ، فذهب في السماء وغاب [عني] (3)
حتى ما أراه ، فجئتهما فقلت : قد فعلت. فقالا فما رأيت ؟ قلت : رأيت فارسًا مقنعًا
خرج مني فذهب في السماء ، حتى ما أراه. فقالا صدقت ، ذلك إيمانك خرج منك ، اذهبي.
فقلت للمرأة : والله ما أعلم شيئًا وما قالا لي شيئًا. فقالت : بلى ، لم تريدي
شيئًا إلا كان ، خذي هذا القمح فابذري ، فبذرت ، وقلت : أطلعي (4) فأطلعت (5) وقلت
: أحقلي فأحقلت (6) ثم قلت : أفْركي فأفرَكَتْ. ثم قلت : أيبسي فأيبست (7). ثم قلت
: أطحني فأطحنت (8). ثم قلت : أخبزي فأخبزت (9). فلما رأيتُ أني لا أريد شيئًا إلا
كان ، سقط في يدي وندمت - والله - يا أم المؤمنين والله ما فعلت شيئًا قط ولا
أفعله أبدًا (10).
ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن سليمان ، به مطولا كما تقدم (11). وزاد بعد قولها
: ولا أفعله أبدًا : فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حداثة وفاة رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يومئذ متوافرون ، فما دَرَوا ما يقولون لها ، وكلهم
هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلمه ، إلا أنه قد قال لها ابن عباس - أو بعض من كان
عنده - : لو كان أبواك حيين أو أحدهما [لكان يكفيانك] (12).
قال هشام : فلو جاءتنا أفتيناها بالضمان [قال] (13) : قال ابن أبي الزناد : وكان
هشام يقول : إنهم كانوا أهل الورع والخشية (14) من الله. ثم يقول هشام : لو جاءتنا
مثلها اليوم لوجدت نوكى أهل حمق وتكلف بغير علم.
فهذا إسناد جيد إلى عائشة ، رضي الله عنها.
وقد استدل بهذا الأثر من ذهب إلى أن (15) الساحر له تمكن في قلب الأعيان ؛ لأن هذه
المرأة بذرت واستغلت في الحال.
وقال آخرون : بل ليس له قدرة إلا على التخييل ، كما قال [الله] (16) تعالى : {
سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ }
[الأعراف : 116] وقال تعالى : { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى
} [طه : 66]
__________
(1) في جـ : "ولم تكفري".
(2) في جـ : "معلقا".
(3) زيادة من أ.
(4) في جـ ، ط : "اطلع فطلع".
(5) في جـ : "احقل فأحقل" ، وفي أ ، و : "فطلعت".
(6) في ط : "احقلى فأجعلت".
(7) في جـ : "أيبس فيبس".
(8) في جـ : "اطحن فطحن".
(9) في جـ : "اختبز فاختبز".
(10) تفسير الطبري (2/ 439 - 441).
(11) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 312) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (8/ 137) من طريق
الربيع بن سليمان به مطولا ، وهذه الزيادة لم ترد في المطبوع من تفسير ابن أبي
حاتم ، وقد نبه إلى ذلك المحقق الفاضل ، جزاه الله خيرًا.
(12) زيادة من أ.
(13) زيادة من أ.
(14) في جـ : "وأهل خشية".
(15) في أ : "من ذهب بأن".
(16) زيادة من أ.
(1/361)
واستدل
به على أن بابل المذكورة في القرآن هي بابل العراق ، لا بابل دُنْباوَنْد (1) كما
قاله السدي وغيره. ثم الدليل على أنها بابل العراق ما قال (2) ابن أبي حاتم :
حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن صالح ، حدثني ابن وهب ، حدثني ابن لَهِيعة
ويحيى بن أزهر ، عن عمار بن سعد المرادي ، عن أبي صالح الغفاري أن علي بن أبي طالب
، رضي الله عنه [مر ببابل وهو يسير ، فجاء المؤذن يُؤْذنه بصلاة العصر ، فلما برز
منها أمر المؤذن فأقام الصلاة ، فلما فرغ] قال : إن حبيبي صلى الله عليه وسلم
نهاني أن أصلي [بأرض المقبرة ، ونهاني أن أصلي] ببابل فإنها ملعونة (3).
وقال أبو داود : حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا ابن وهب ، حدثني ابن لَهِيعة ويحيى
بن أزهر ، عن عمار بن سعد المرادي ، عن أبي صالح الغفاري : أن عليا مر ببابل ، وهو
يسير ، فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر ، فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة
فلما فرغ قال : إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة ، ونهاني أن
أصلي بأرض بابل ، فإنها ملعونة.
حدثنا أحمد بن صالح : حدثنا ابن وهب ، أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة ، عن الحجاج
بن شداد ، عن أبي صالح الغفاري ، عن علي ، بمعنى حديث سليمان بن داود ، قال : فلما
"خرج" مكان "برز" (4).
وهذا الحديث حسن عند الإمام أبي داود ، لأنه رواه وسكت عنه (5) ؛ ففيه من الفقه
كراهية الصلاة بأرض بابل ، كما تكره بديار ثمود الذين نهى رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن الدخول إلى منازلهم ، إلا أن يكونوا باكين.
قال أصحاب الهيئة : وبُعْدُ ما بين بابل ، وهي من إقليم العراق ، عن البحر المحيط
الغربي ، ويقال له : أوْقيانُوس (6) سبعون درجة ، ويسمون هذا طولا وأما عرضها وهو
بعد ما بينها وبين وسط الأرض من ناحية الجنوب ، وهو المسامت لخط الاستواء ، اثنان
(7) وثلاثون درجة ، والله أعلم.
وقوله تعالى : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ
فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن قيس (8) بن
عباد ، عن ابن عباس ، قال : فإذا أتاهما الآتي يريد السحر نهياه أشد النهي ، وقالا
له : إنما نحن فتنة فلا تكفر ، وذلك أنهما علما الخير والشر والكفر والإيمان ،
فعرفا أن السحر من الكفر (9). [قال] (10) فإذا أبى عليهما أمراه أن يأتي مكان كذا
وكذا ، فإذا أتاه عاين الشيطان فَعلمه ، فإذا تعلم خرج منه النور ، فنظر (11) إليه
ساطعًا في السماء ، فيقول : يا حسرتاه!
__________
(1) في ط ، ب ، أ ، و : "ديناوند".
(2) في أ : "ما قاله".
(3) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 304) ، وما بين المعقوفين ليس في تفسير ابن أبي حاتم.
(4) سنن أبي داود برقم (490 ، 491).
(5) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "وسكت عليه".
(6) في ب : "أوليانوس".
(7) في ب ، أ ، و : "ثنتان".
(8) في أ : "عن بشر".
(9) في ب : "أن الكفر من السحر".
(10) زيادة من جـ ، أ ، و.
(11) في أ : "فينظر".
(1/362)
يا
ويله! ماذا أصنع (1) ؟.
وعن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية : نعم ، أنزل الملكان بالسحر ،
ليعلما (2) الناس البلاء الذي أراد الله أن يبتلي به الناس ، فأخذ عليهما الميثاق
أن لا يعلما أحدًا حتى يقولا { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } رواه ابن
أبي حاتم ، وقال قتادة : كان أخذ عليهما ألا يعلما أحدًا حتى يقولا { إِنَّمَا
نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } - أي : بلاء ابتلينا به - { فَلا تَكْفُرْ }
وقال [قتادة و] (3) السدي : إذا أتاهما إنسان يريد السحر ، وعظاه ، وقالا له : لا
تكفر ، إنما نحن فتنة. فإذا أبى قالا له : ائت هذا الرماد ، فبُلْ عليه. فإذا بال
عليه خرج منه نور فسطع حتى يدخل السماء ، وذلك الإيمان. وأقبل شيء أسود كهيئة
الدخان حتى يدخل في مسامعه وكلِّ شيء [منه] (4). وذلك غضب الله. فإذا أخبرهما بذلك
علماه السحر ، فذلك قول الله تعالى : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى
يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } الآية.
وقال سُنَيد ، عن حجاج ، عن ابن جريج في هذه الآية : لا يجترئ على السحر إلا كافر.
وأما الفتنة فهي المحنة والاختبار ، ومنه قول الشاعر :
وقد فُتن النَّاسُ في دينهم... وخَلَّى ابنُ عفان شرًا طويلا (5)
وكذلك (6) قولُه تعالى إخبارًا عن موسى ، عليه السلام ، حيث قال : { إِنْ هِيَ
إِلا فِتْنَتُكَ } أي : ابتلاؤك واختبارك وامتحانك { تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ
وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ } [الأعراف : 155] (7).
وقد استدل بعضهم بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر ، ويُستشهد له بالحديث الذي
رواه الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا أبو معاوية ، عن
الأعمش ، عن إبراهيم ، عن همام ، عن عبد الله ، قال : من أتى كاهنًا أو ساحرًا
فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا إسناد جيد (8) وله شواهد أخر.
وقوله تعالى : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ
الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } أي : فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر ما
يتصرفون به فيما يتصرفون فيه من الأفاعيل المذمومة ، ما إنهم ليفَرِّقُون به بين
الزوجين مع ما بينهما من الخلطة والائتلاف. وهذا من صنيع الشياطين ، كما رواه مسلم
في صحيحه ، من حديث الأعمش ، عن أبي سفيان طلحة بن نافع ، عن جابر بن عبد الله ،
رضي الله
__________
(1) في أ ، و : "ماذا صنع".
(2) في أ ، و : "ليعلموا" وهو خطأ.
(3) زيادة من و.
(4) زيادة من أ ، و.
(5) البيت في تفسير الطبري (2/ 444) وانظر هناك الاختلاف في قائله.
(6) في ط ، ب ، أ ، و : "وكذا".
(7) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "وتهدي من تشاء الآية".
(8) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "إسناد صحيح".
(1/363)
عنه
(1) عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : "إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ،
ثم يبعث سراياه في الناس ، فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة ، يجيء أحدهم
فيقول : ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا. فيقول إبليس : لا والله ما
صنعت شيئًا. ويجيء أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله (2) قال :
فيقربه ويدنيه ويلتزمه ، ويقول : نِعْم أنت (3).
وسبب التفرق بين الزوجين بالسحر : ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر من سوء
منظر ، أو خلق أو نحو ذلك أو عَقد أو بَغْضه ، أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية
للفرقة.
والمرء عبارة عن الرجل ، وتأنيثه امرأة ، ويثنى كل منهما ولا يجمعان ، والله أعلم.
وقوله تعالى : { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ }
قال سفيان الثوري : إلا بقضاء الله. وقال محمد بن إسحاق إلا بتخلية الله بينه وبين
ما أراد. وقال الحسن البصري : { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا
بِإِذْنِ اللَّهِ } قال : نَعَم ، من شاء الله سلطهم عليه ، ومن لم يشأ الله لم
يسلط ، ولا يستطيعون ضر أحد إلا بإذن الله ، كما قال الله تعالى ، وفي رواية عن
الحسن أنه قال : لا يضر هذا السحر إلا من دخل فيه.
وقوله تعالى : { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ } أي : يضرهم
في دينهم ، وليس له نفع يوازي ضرره.
{ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } أي :
ولقد علم اليهود الذين استبدلوا بالسحر عن متابعة الرسول (4) صلى الله عليه وسلم
لمن فعل فعلهم ذلك ، أنه ما له في الآخرة من خلاق.
قال ابن عباس ومجاهد والسدي : من نصيب. وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة :
ما له في الآخرة من جهة عند الله (5) وقال : وقال الحسن : ليس له دين.
وقال سعد (6) عن قتادة : { مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } قال : ولقد علم
أهل الكتاب فيما عهد الله إليهم أن الساحر لا خلاق له في الآخرة.
وقوله تعالى : { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ* وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } يقول تعالى : { ولبئس } البديل ما
استبدلوا به من السحر عوضًا عن الإيمان ، ومتابعة الرسل (7) لو كان لهم علم بما
وعظوا به { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
خَيْرٌ } أي : ولو أنهم آمنوا بالله ورسله واتقوا المحارم ، لكان مثوبة الله على
ذلك خيرا لهم مما استخاروا لأنفسهم ورضوا به ، كما قال تعالى : { وَقَالَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ
وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ } [القصص : 80].
__________
(1) في ب : "عنهما".
(2) في جـ : "وبين زوجه".
(3) صحيح مسلم برقم (2813).
(4) في أ : "متابعة الرسل".
(5) في أ : "ما له في الآخرة من خلاق".
(6) في ط ، ب ، و : "سعيد".
(7) في أ : "الرسول".
(1/364)
وقد
استدل بقوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا } من ذهب إلى تكفير الساحر
، كما هو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل وطائفة من السلف. وقيل : بل لا يكفر ، ولكن
حَده ضَرْبُ عنقه ، لما رواه الشافعي وأحمد بن حنبل ، رحمهما الله : أخبرنا سفيان
، عن عمرو بن دينار ، أنه سمع بجالة بن عَبَدَةَ يقول : كتب [أمير المؤمنين] (1)
عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. قال : فقتلنا ثلاث
سواحر (2). وقد أخرجه البخاري في صحيحه أيضًا (3). وهكذا صح أن حفصة أم المؤمنين
سحرتها جارية لها ، فأمرت بها فقتلت (4). قال أحمد بن حنبل : صح من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم [أذنوا] (5) في قتل الساحر.
وروى الترمذي من حديث إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن ، عن جندب الأزدي أنه قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "حد الساحر ضَرْبُه بالسيف" (6).
ثم قال : لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه. وإسماعيل بن مسلم يُضعَّف في الحديث
، والصحيح : عن الحسن عن جُنْدُب موقوفًا.
قلت : قد رواه الطبراني من وجه آخر ، عن الحسن ، عن جندب ، مرفوعًا (7). والله
أعلم.
وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عقبة كان عنده ساحر يلعب بين يديه ، فكان يضرب
رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه ، فقال الناس : سبحان الله! يحيي الموتى!
ورآه رجل من صالحي المهاجرين ، فلما كان الغد جاء مشتملا على سيفه ، وذهب يلعب
لعبه ذلك ، فاخترط الرجل سيفه فضرب (8) عنق الساحر ، وقال : إن كان صادقا (9)
فليحي نفسه. وتلا قوله تعالى : { أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ
} [الأنبياء : 3] فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك فسجنه ثم أطلقه ، (10) والله
أعلم.
وقال (11) أبو بكر الخلال : أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني أبي ، حدثنا
يحيى بن سعيد ، حدثني أبو إسحاق ، عن حارثة قال : كان عند بعض الأمراء رجل يلعب
فجاء جندب مشتملا
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) رواه عبد الله بن أحمد في مسائل أبيه ، ط. المكتب الإسلامي برقم (1542) عن
أبيه عن سفيان به.
(3) صحيح البخاري برقم (3156).
(4) رواه عبد الله بن أحمد في مسائل أبيه ، ط. المكتب الإسلامي برقم (1543) عن
أبيه عن يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن حفصة سحرتها
جاريتها ، فذكره.
(5) زيادة من جـ.
(6) سنن الترمذي برقم (1460).
(7) المعجم الكبير (2/ 161) من طريق محمد بن الحسن بن سيار ، عن خالد العبد عن
الحسن عن سمرة به.
(8) في جـ : "وضرب".
(9) في أ ، و : "إن كان ساحرًا".
(10) الرجل الذي قتله هو جندب بن كعب ، انظر القصة في : أسد الغابة لابن الأثير في
ترجمة جندب بن كعب (1 /361) وفي الإصابة للحافظ ابن حجر (1/ 251).
(11) في و : "وقال الإمام".
(1/365)
على
سيفه فقتله ، فقال : أراه كان ساحرًا ، وحمل الشافعي ، رحمه الله ، قصة عمر ،
وحفصة (1) على سِحْر يكون شركا. والله أعلم. فصل
حكى أبو عبد الله الرازي في تفسيره عن المعتزلة أنهم أنكروا وجود السحر ، قال :
وربما كفروا من اعتقد وجوده. قال : وأما أهل السنة فقد جَوَّزُوا أن يقدر الساحر
أن يطير في الهواء ، ويقلب الإنسان حمارًا ، والحمار إنسانًا ، إلا أنهم قالوا :
إن الله يخلق الأشياء عندما يقول الساحر تلك الرقى و [تلك] (2) الكلمات
المُعَيَّنة ، فأما أن يكون المؤثر في ذلك هو الفلك والنجوم فلا خلافًا للفلاسفة
والمنجمين الصابئة ، ثم استدل على وقوع السحر وأنه بخلق الله تعالى ، بقوله تعالى
: { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } ومن الأخبار
بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُحِر ، وأن السحر عَمِل فيه ، وبقصة تلك المرأة
مع عائشة ، رضي الله عنها ، وما ذكرت تلك المرأة من إتيانها بابل وتعلمها السحر ،
قال : وبما يذكر (3) في هذا الباب من الحكايات الكثيرة ، ثم قال بعد هذا :
المسألة الخامسة في أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور : اتفق المحققون على ذلك
؛ لأن (4) العلم لذاته شريف وأيضًا لعموم قوله تعالى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } [الزمر : 9] ؛ ولأن السحر لو
لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة ، والعلم بكون المعجز مُعْجِزًا
واجب ، وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب ؛ فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر
واجبًا ، وما يكون واجبًا فكيف يكون حرامًا وقبيحًا ؟!
هذا لفظه بحروفه في هذه المسألة ، وهذا الكلام فيه نظر من وجوه ، أحدها : قولُهُ :
"العلم بالسحر ليس بقبيح". إن عنى به ليس بقبيح عقلا فمخالفوه من
المعتزلة يمنعون هذا (5) وإن عنى أنه ليس بقبيح شرعًا ، ففي هذه الآية الكريمة
تبشيع (6) لتعلم السحر ، وفي الصحيح : "من أتى عرافًا أو كاهنًا ، فقد كفر
بما أنزل على محمد" (7). وفي السنن : "من عقد عقدة ونفث فيها فقد
سحر" (8). وقوله : ولا محظور اتفق المحققون على ذلك". كيف لا يكون
محظورًا مع ما ذكرناه من الآية والحديث ؟! واتفاق المحققين (9) يقتضي أن يكون قد
نص على هذه المسألة أئمة العلماء أو أكثرهم ، وأين نصوصهم على ذلك ؟ ثم إدخاله
[علم] (10) السحر في عموم قوله : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } فيه نظر ؛ لأن هذه الآية إنما دلت على مدح العالمين
بالعلم الشرعي ، ولم
__________
(1) في جـ : "في قصة حفصة وعمر".
(2) زيادة من جـ.
(3) في جـ : "وما يذكر".
(4) في جـ ، ط : "فإن".
(5) في جـ : "ذلك".
(6) في أ : "متسع".
(7) صحيح مسلم برقم (2230) من حديث بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وليس فيه :
"كاهنًا" والعراف من جملة أنواع الكهان.
(8) رواه النسائي في السنن (7/ 112) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(9) في أ : "المحدثين".
(10) زيادة من جـ ، ب ، أ ، و. وفي ط "تعلم".
(1/366)
قلتَ
إن هذا منه ؟ ثم تَرَقيه (1) إلى وجوب تعلمه بأنه لا يحصل العلم بالمعجز إلا به ،
ضعيف بل فاسد ؛ لأن معظم (2) معجزات رسولنا ، عليه الصلاة والسلام (3) هي القرآن
العظيم ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. ثم إن
العلم بأنه معجز لا يتوقف على علم السحر أصلا ثم من المعلوم بالضرورة أن الصحابة
والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم ، كانوا يعلمون المعجز ، ويفرّقُون بينه وبين
غيره ، ولم يكونوا يعلمون السحر ولا تعلموه ولا علموه ، والله أعلم.
ثم قد ذكر أبو عبد الله الرازي أن أنواع السحر ثمانية :
الأول : سحر الكلُدْانيين والكُشْدانيين ، الذين كانوا يعبدون الكواكب السبعة
المتحيرة ، وهي السيارة ، وكانوا يعتقدون أنها مُدَبّرة العالم (4) وأنها تأتي
بالخير والشر ، وهم الذين بَعث (5) إليهم إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم مبطلا
لمقالتهم ورادا لمذهبهم (6) وقد استقصى في "كتاب السر المكتوم ، في مخاطبة
الشمس والنجوم" المنسوب إليه فيما (7) ذكره القاضي ابن خلكان وغيره (8) ويقال
: إنه تاب منه. وقيل (9) إنه (10) صنفه على وجه إظهار الفضيلة لا على سبيل
الاعتقاد. وهذا هو المظنون به ، إلا أنه ذكر فيه طرائقهم في مخاطبة كل من هذه
الكواكب السبعة ، وكيفية ما يفعلون وما يلبسونه ، وما يتنسكون به.
قال : والنوع الثاني : سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية ، ثم استدلّ على أن الوهم
له تأثير ، بأن الإنسان يمكنه أن يمشي على الجسر الموضوع على وجه الأرض ، ولا
يمكنه المشي عليه إذا كان ممدودًا على نهر أو نحوه. قال : وكما أجمعت الأطباء على
نهي المَرْعُوف (11) عن النظر إلى الأشياء الحُمْر ، والمصروع إلى الأشياء القوية
اللمعان أو الدوران ، وما ذاك إلا لأن النفوس خلقت مُطِيعة (12) للأوهام.
قال : وقد اتفق العقلاء على أن الإصابة بالعين حق.
وله أن يستدل على ذلك بما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال :
"العين حَقّ ، ولو كان شيء سَابِقَ القدر لسبقته العين" (13).
قال : فإذا عرفت هذا ، فنقول : النفس التي تفعل هذه الأفاعيل قد تكون قوية جدًا ،
فتستغني في هذه الأفاعيل (14) عن الاستعانة بالآلات والأدوات ، وقد تكون ضعيفة
فتحتاج إلى الاستعانة بهذه
__________
(1) في أ : "فرقته".
(2) في جـ ، ب ، أ ، و : "لأن أعظم".
(3) في جـ : "صلى الله عليه وسلم".
(4) في جـ : "مدبرة للعالم".
(5) في جـ ، ب ، أ : "بعث الله".
(6) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "لمذاهبهم".
(7) في ب : "كما".
(8) وفيات الأعيان (3/ 381).
(9) في جـ ، ط : "ويقال".
(10) في جـ ، ط ، ب : "بل".
(11) في جـ : "المرفوع" ، وفي ط : "الموضوع".
(12) في جـ ، ط ، ب ، و : "منطبعة" ، وفي أ : "منطبقة".
(13) صحيح مسلم برقم (2188) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
(14) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "هذه الأفعال".
(1/367)
الآلات.
وتحقيقه أن النفس إذا كانت مستعلية (1) على البدن شديدة الانجذاب إلى عالم
السماوات ، صارت كأنها رُوح من الأرواح السماوية ، فكانت قوية على التأثير في مواد
هذا العالم. وإذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه الذات (2) البدنية ، فحينئذ لا
يكون لها تصرف البتة إلا في هذا البدن. ثم أرشد إلى مداواة هذا الداء بتقليل
الغذاء ، والانقطاع عن الناس والرياء (3).
قلت : وهذا الذي يشير إليه هو التصرف بالحال ، وهو على قسمين : تارة تكون حالا
صحيحة شرعية يتصرف بها فيما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ويترك ما نهى
الله عنه ورسوله ، وهذه الأحوال مواهب من الله تعالى وكرامات للصالحين من هذه
الأمة ، ولا يسمى هذا سحرًا في الشرع. وتارة تكون الحال فاسدة لا يمتثل صاحبها ما
أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولا يتصرف بها في ذلك. فهذه (4) حال الأشقياء
المخالفين للشريعة ، ولا يدل إعطاء الله (5) إيَّاهم هذه الأحوال على محبته لهم ،
كما أن الدجَّال - لعنه الله - له من الخوارق العادات (6) ما دلت عليه الأحاديث
الكثيرة ، مع أنه مذموم شرعًا لعنه الله. وكذلك من شابهه من مخالفي الشريعة
المحمدية ، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. وبسط هذا يطول جدًا ، وليس هذا موضعه.
قال : النوع الثالث من السحر : الاستعانة بالأرواح الأرضية ، وهم الجن ، خلافًا
للفلاسفة والمعتزلة : وهم على قسمين : مؤمنون ، وكفار ، وهم الشياطينُ. قال :
واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية ، لما بينهما من
المناسبة (7) والقرب ، ثم إن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن الاتصال بهذه
الأرواح الأرضية يحصل بأعمال سهلة قليلة من الرقى والدخل (8) والتجريد. وهذا النوع
هو المسمى بالعزائم وعمل التسخير (9).
النوع الرابع من السحر : التخيلات ، والأخذ بالعيون والشعبذة ، ومبناه [على] (10)
أن البصر قد يخطئ ويشتغل بالشيء المعين دون غيره ، ألا ترى أن المشعبذ الحاذق يظهر
عمل شيء يذهل أذهان الناظرين به ، ويأخذ عيونهم إليه ، حتى إذا استفرغهم (11)
الشغل بذلك الشيء بالتحديق ونحوه ، عمل شيئًا آخر عَمَلا بسرعة شديدة ، وحينئذ
يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه. فيتعجَّبون منه جدًا ، ولو أنه سكت ولم يتكلم
بما (12) يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله ، ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى
غير ما يريد إخراجه ، لفطن الناظرون لكل ما يفعله.
قال : وكلما كانت الأحوال تفيد حسن البصر نوعًا من أنواع الخلل (13) أشد ، كان
العمل
__________
(1) في جـ ، ط ، ب ، و : "مشتغلة" ، وفي أ : "مستقبلة".
(2) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "اللذات".
(3) في جـ ، ط ، ب ، و : "والرياضة".
(4) في جـ : "فهذا".
(5) في جـ : "أعطاهم الله" ، وفي أ : "على عطاء الله".
(6) في جـ : "والعادات".
(7) في جـ : "من المناسب".
(8) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "والدخن".
(9) في ط ، ب ، أ ، و : "وعمل تسخير".
(10) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(11) في جـ : "إذا استقر".
(12) في ط : "مما".
(13) في جـ : "الخلال".
(1/368)
أحسنَ
، مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جدًا ، أو مظلم ، فلا تقف القوة الناظرة (1)
على أحوالها بكلالها (2) والحالة هذه.
قلت : وقد قال بعض المفسرين : إن سحر السحرة بين يدي فرعون إنما كان من باب
الشعبذة ، ولهذا قال تعالى : { فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ
وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } [الأعراف : 116] وقال تعالى : {
يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [طه : 66] قالوا : ولم تكن
تسعى في نفس الأمر. والله أعلم.
النوع الخامس من السحر : الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة من
النسب الهندسية ، كفارس على فرس في يده بوق ، كلما مضت ساعة من النهار ضرب (3)
بالبوق ، من غير أن يمسه أحد. ومنها الصور التي تُصَوِّرها الرومُ والهند ، حتى لا
يفرق الناظر بينها وبين الإنسان ، حتى يصورونها ضاحكة وباكية.
إلى أن قال : فهذه الوجوه من لطيف أمور المخاييل. قال : وكان سحر سحرة فرعون من
هذا القبيل.
قلت : يعني ما قاله بعض المفسرين : أنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي ، فحشوها
زئبقًا فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق ، فيخيل إلى الرائي أنها تسعى
باختيارها.
قال الرازي : ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات ، ويندرج في هذا الباب علم جَرِّ
الأثقال بالآلات الخفيفة.
قال : وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر ؛ لأن لها أسبابًا (4) معلومة
يقينية (5) من اطلع عليها قدر عليها.
قلت : ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم ، بما يُرُونَهم إياه من الأنوار ،
كقضية قُمَامة الكنيسة التي لهم ببلد (6) المقدس ، وما يحتالون به من إدخال النار
خفية إلى الكنيسة ، وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على العوام (7) [منهم]
(8) وأما الخواص فهم يعترفون بذلك ، ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على
دينهم ، فيرون ذلك سائغًا لهم. وفيه شبه (9) للجهلة الأغبياء من متعبدي (10)
الكَرّامية الذين يرون جواز وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب ، فيدخلون في عداد
من قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم (11) : "من كذب عليّ متعمدًا
فليتبوأ مقعده من
__________
(1) في جـ ، ط ، ب : "الباصرة".
(2) في جـ ، ط ، ب : "لكلالها" وفي أ : "بكمالها".
(3) في جـ ، ط : "ضرب مرة".
(4) في أ : "أنسابًا".
(5) في ط ، أ : "متيقنة".
(6) في جـ : "ببيت" وفي و : "بالبلد".
(7) في جـ ، ط ، ب : "الطعام".
(8) زيادة من جـ ، ط ، ب.
(9) في جـ : "وفيه شبهة" ، في أ : "وفيهم شبه".
(10) في أ : "متعدي".
(11) في جـ : "من قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(1/369)
النار
(1) ". وقوله : "حدثوا عني ولا تكذبوا عَلَيّ فإنه من يكذب عليّ يلج
النار" (2).
ثم ذكر ههنا حكاية عن بعض الرهبان ، وهو أنه سمع صوت طائر حزين (3) الصوت ضعيف
الحركة ، فإذا سمعته الطيور تَرِقّ له فتذهب فتلقي في وَكْره من ثمر الزيتون ،
ليتبلغ (4) به ، فعَمَد هذا الراهبُ إلى صنعة طائر على شكله ، وتوصل إلى أن جعله
أجوف ، فإذا دخلته الريح يسمع له (5) صوت كصوت ذلك الطائر ، وانقطع في صومعة
ابتناها ، وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم ، وعلق ذلك الطائر في مكان منها ، فإذا
كان زمان الزيتون فتح بابًا من ناحيه ، فتدخل الريح إلى داخل هذه الصورة ،
فَيُسْمَعُ صوتها كذلك الطائر في شكله أيضًا ، فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون
شيئًا كثيرًا فلا ترى النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة ، ولا يدرون ما سببه
؟ ففتنهم بذلك ، وأوهم (6) أن هذا من كرامات صاحب هذا القبر ، عليهم لعائن الله
المتتابعة (7) إلى يوم القيامة.
قال الرازي : النوع السادس من السحر : الاستعانة بخواص الأدوية يعني في الأطعمة
والدهانات (8). قال : واعلم أن لا سبيل إلى إنكار الخواص ، فإن أثر المغناطيس
مشاهد.
قلت : يدخل في هذا القبيل كثير ممن يَدّعي الفقر ويتخيل على جهلة الناس بهذه
الخواص ، مدعيًا أنها أحوال له (9) من مخالطة النيران ومسك الحيات إلى غير ذلك من
المحالات.
قال : النوع السابع من السحر : تعليق (10) القلب ، وهو أن يدعي الساحرُ أنه عرف
الاسم الأعظم ، وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور ، فإذا اتفق أن يكون
ذلك السامع لذلك ضعيف العقل (11) قليل التمييز اعتقد أنه حق ، وتعلق قلبه بذلك
وحصل في نفسه نوع من الرهب والمخافة ، فإذا حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة (12)
فحينئذ يتمكن الساحر أن يفعل ما يشاء.
قلت : هذا النمط يقال له التنبلة ، وإنما يروج على الضعفاء العقول من بني آدم. وفي
علم الفراسة ما يرشد إلى معرفة كامل العقل من ناقصه ، فإذا كان المُتَنْبِلُ
حاذقًا في علم الفراسة عرف من ينقاد له مِنَ الناس مِنْ غيره.
قال : النوع الثامن من السحر : السعي بالنميمة والتضريب (13) من وجوه خفيفة لطيفة
، وذلك شائع في الناس.
__________
(1) هذا الحديث رواه جمع من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم عدهم الإمام
الطبراني في جزء له فأوصلهم فوق الستين ، وانظره في : صحيح البخاري برقم (107) من
حديث الزبير رضي الله عنه ، وفي مقدمة صحيح مسلم برقم (2 - 4) من حديث أنس وأبي
هريرة والمغيرة رضي الله عنهم".
(2) رواه مسلم في مقدمة صحيحه برقم (1) من حديث علي رضي الله عنه.
(3) في أ ، و ك : "حنين".
(4) في جـ ، أ : "ليبتلع".
(5) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "يسمع منه".
(6) في جـ : "وأوهمهم".
(7) في جـ ، ط ، ب : "التابعة" ، وفي أ : "البالغة".
(8) في جـ : "في الأطعمة والدهان".
(9) في جـ : "أنها أحواله".
(10) في جـ : "تعلق".
(11) في ب ، أ ، و : "القلب".
(12) في جـ : "القوى الحسية".
(13) في ب : "التضرب".
(1/370)
قلت
: النميمة على قسمين ، تارة تكون على وجه التحريش [بين الناس] (1) وتفريق قلوب
المؤمنين ، فهذا حرام متفق عليه. فأما إذا (2) كانت على وجه الإصلاح [بين الناس]
(3) وائتلاف كلمة المسلمين ، كما جاء في الحديث : "ليس بالكذاب من يَنمّ
خيرًا" أو يكون على وجه التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة" فهذا أمر
مطلوب ، كما جاء في الحديث : "الحرب خدعة". وكما فعل نعيم بن مسعود (4)
في تفريقه بين كلمة الأحزاب وبين (5) قريظة ، وجاء إلى هؤلاء فنمى إليهم عن هؤلاء
كلامًا ، ونقل من هؤلاء إلى أولئك شيئًا آخر ، ثم لأم بين ذلك ، فتناكرت النفوس
وافترقت. وإنما يحذو على مثل هذا الذكاء والبصيرة النافذة. والله المستعان.
ثم قال الرازي : فهذه جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه.
قلت : وإنما أدخل كثيرًا من هذه الأنواع المذكورة في فَنّ السحر ، للطافة مداركها
؛ لأن السحر في اللغة : عبارة عما لطُف وخفي سببه. ولهذا جاء في الحديث : "إن
من البيان لسحرًا (6). وسمي السحور لكونه يقع خفيًا آخر الليل (7) والسَّحْر : الرئة
، وهي محل الغذاء ، وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن وغضونه ، كما
قال أبو جهل يوم بدر لعتبة : انتفخ سحرك (8) أي : انتفخت رئته من الخوف. وقالت
عائشة ، رضي الله عنها : توفي رسول صلى الله عليه وسلم بين سَحْري ونَحْري. وقال :
{ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ } أي : أخفوا عنهم عملهم ، والله أعلم (9).
[فصل] (10) وقد ذكر الوزير أبو المظفر يحيى بن هَبيرة بن محمد بن هبيرة في كتابه :
"الإشراف على مذاهب الأشراف" بابًا في السحر ، فقال : أجمعوا على أن
السحر له حقيقة إلا أبا حنيفة ، فإنه قال : لا حقيقة له عنده. واختلفوا فيمن يتعلم
السحر ويستعمله ، فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد : يكفر بذلك. ومن أصحاب أبي حنيفة من
قال : إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فلا يكفر ، ومن تعلمه معتقدًا جوازه أو أنه
ينفعه كَفَر. وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر. وقال الشافعي ،
رحمه الله : إذا تعلم السحر قلنا له : صف لنا سحرك. فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما
اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة ، وأنها تفعل ما يلتمس منها ، فهو
كافر. وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر.
قال ابن هبيرة : وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله ؟ فقال مالك وأحمد : نعم. وقال
الشافعي وأبو حنيفة : لا. فأما إن قتل بسحره إنسانا فإنه يُقْتل عند مالك والشافعي
وأحمد. وقال أبو حنيفة : لا
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "فأما إن".
(2) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(3) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(4) في جـ : "ابن الأسود".
(5) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "وبني".
(6) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "سحرًا".
(7) في جـ : "الليلة".
(8) في جـ ، ب ، أ ، و : "سحره".
(9) في جـ : "والله تبارك وتعالى أعلم".
(10) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(1/371)
يقتل
حتى يتكرر منه ذلك (1) أو يقر بذلك في حَقّ شخص (2) معين. وإذا قُتل فإنه يُقْتَل
حدًا عندهم إلا الشافعي ، فإنه قال : يقتل - والحالة هذه - قصاصًا.
قال : وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته ؟ فقال مالك ، وأبو حنيفة وأحمد في المشهور
عنهما : لا تقبل. وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى : تقبل. وأما ساحر أهل
الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل ، كما يقتل الساحر المسلم. وقال مالك والشافعي
وأحمد : لا يقتل. يعني لقصة لبيد بن أعصم (3).
واختلفوا في المسلمة الساحرة ، فعند أبي حنيفة (4) لا تقتل ، ولكن تحبس. وقال
الثلاثة : حكمها حكم الرجل ، والله أعلم.
وقال أبو بكر الخلال : أخبرنا أبو بكر المروزي ، قال : قَرَأ على أبي عبد الله -
يعني أحمد بن حنبل - عُمَرُ بن هارون ، حدثنا يونس ، عن الزهري ، قال : يقتل ساحر
المسلمين ولا يقتل ساحر المشركين ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحرته امرأة
من اليهود فلم يقتلها.
وقد نقل القرطبي عن مالك ، رحمه الله ، أنه قال في الذمي إذا سحر يقتل إن قتل سحره
، وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتين في الذمي إذا سحر : إحداهما : أنه يستتاب
فإن أسلم وإلا قتل ، والثانية : أنه يقتل وإن أسلم ، وأما الساحر المسلم فإن تضمن
سحره كفرًا كفر عند الأئمة الأربعة وغيرهم لقوله تعالى : " وَمَا
يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ
". لكن قال مالك : إذا ظهر عليه لم تقبل توبته لأنه كالزنديق ، فإن تاب قبل
أن يظهر عليه وجاءنا تائبًا قبلناه ولم نقتله ، فإن قتل سحره قتل. قال الشافعي :
فإن قال : لم أتعمد القتل فهو مخطئ تجب عليه الدية.
مسألة : وهل يسأل الساحر حل سحره ؟ فأجاز سعيد بن المسيب فيما نقله عنه البخاري ،
وقال عامر الشعبي : لا بأس بالنشرة ، وكره ذلك الحسن البصري ، وفي الصحيح عن عائشة
: أنها قالت : يا رسول الله ، هلا تنشرت ، فقال : "أما الله فقد شفاني ،
وخشيت أن أفتح على الناس شرًا" (5). وحكى القرطبي عن وهب : أنه قال : يؤخذ
سبع ورقات من سدر فتدق بين حجرين ثم تضرب بالماء ويقرأ عليها آية الكرسي ويشرب
منها المسحور ثلاث حسوات ثم يغتسل بباقيه فإنه يذهب ما به ، وهو جيد للرجل الذي
يؤخذ عن امرأته.
قلت : أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في
إذهاب ذلك وهما المعوذتان ، وفي الحديث : "لم يتعوذ المتعوذون بمثلهما"
(6) وكذلك قراءة آية الكرسي فإنها مطردة للشيطان. وقال أبو عبد الله القرطبي :
وعندنا أن السحر حق ، وله حقيقة يخلق الله عنده ما يشاء.
__________
(1) في جـ : "منه الفعل".
(2) في أ : "في حق رجل".
(3) في أ : "لقضية لبيد بن الأعصم".
(4) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "فعند أبي حنيفة أنها".
(5) صحيح البخاري برقم (5766) وصحيح مسلم برقم (2189).
(6) رواه النسائي في السنن (8/ 251) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
(1/372)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
خلافًا
للمعتزلة وأبي إسحاق الإسفرايني من الشافعية حيث قالوا : إنه تمويه وتخيل. قال : ومن
السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة والشعوذي البريد ؛ لخفة سيره. قال ابن فارس :
هذه الكلمة من كلام أهل البادية. قال القرطبي : ومنه ما يكون كلامًا يحفظ ورقى من
أسماء الله تعالى ، وقد يكون من عهود الشياطين ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك. قال :
وقوله ، عليه السلام : "إن من البيان لسحرا" (1) يحتمل أن يكون مدحًا
كما تقوله طائفة ، ويحتمل أن يكون ذمًا للبلاغة. قال : وهذا الأصح. قال : لأنها
تصوب الباطل حين يوهم السامع أنه حق كما قال : "فلعل بعضكم أن يكون ألحن
لحجته من بعض" فاقتضى له ، الحديث.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا
وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ
خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) }
نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم ، وذلك أن اليهود
كانوا يُعَانُون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص - عليهم لعائن
الله - فإذا أرادوا أن يقولوا : اسمع لنا يقولون : راعنا. يورون (2) بالرعونة ،
كما قال تعالى : { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ
مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ
وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ
وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا }
[النساء : 46] وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم ، بأنهم كانوا إذا سَلَّموا إنما
يقولون : السامُ عليكم. والسام هو : الموت. ولهذا (3) أمرنا أن نرد عليهم بـ
"وعليكم". وإنما يستجاب لنا فيهم ، ولا يستجاب لهم فينا.
والغرض : أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا. فقال : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا
وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت ، حدثنا حسان بن
عطية ، عن أبي مُنيب الجُرَشي ، عن ابن عمر ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "بعثت بين يدي الساعة بالسيف ، حتى يُعبد الله
وحده لا شريك له. وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعلت الذلة والصَّغارُ على من خالف
أمري ، ومن تشبه بقوم فهو منهم".
وروى أبو داود ، عن عثمان بن أبي شيبة ، عن أبي النضر هاشم بن القاسم به (4)
"من تشبه بقوم فهو منهم"
__________
(1) رواه أبو داود في السنن برقم (5011) والترمذي في السنن برقم (2845) من حديث
ابن عباس رضي الله عنه ، ورواه أبو داود في السنن برقم (5012) من حديث بريده رضي
الله عنه.
(2) في جـ ، ط ، ب : "ويورون" ، وفي أ : "ويرون".
(3) في جـ : "ولقد".
(4) المسند (2/92) وسنن أبي دواد برقم (4031).
(1/373)
ففيه
دلالة على النهي الشديد والتهديد والوعيد ، على التشبه بالكفار في أقوالهم
وأفعالهم ، ولباسهم وأعيادهم ، وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا
نُقَرر عليها.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا عبد الله بن المبارك
، حدثنا مِسْعَر ، عن مَعْن وعَوْن - أو أحدهما - أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود ،
فقال : اعهد إلي. فقال : إذا سمعت الله يقول { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا }
فأرعها سَمْعك ، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه (1).
وقال الأعمش ، عن خيثمة ، قال : ما تقرؤون في القرآن : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا } فإنه في التوراة : "يا أيها المساكين".
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن
عباس : { راعنا } أي : أرعنا (2) سمعك.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا
رَاعِنَا } قال : كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم أرعنا سمعك. وإنما {
راعنا } كقولك : عاطنا.
وقال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي العالية ، وأبي مالك ، والربيع بن أنس ، وعطية
العوفي ، وقتادة ، نحو ذلك.
وقال مجاهد : { لا تَقُولُوا رَاعِنَا } لا تقولوا خلافا. وفي رواية : لا تقولوا :
اسمع منا ونسمع منك.
وقال عطاء : { لا تَقُولُوا رَاعِنَا } كانت لُغة تقولها الأنصار فنهى الله عنها.
وقال الحسن : { لا تَقُولُوا رَاعِنَا } قال : الراعن من القول السخري منه. نهاهم
الله أن يسخروا من قول محمد صلى الله عليه وسلم ، وما يدعوهم إليه من الإسلام.
وكذا روي عن ابن جُرَيج أنه قال مثله.
وقال أبو صخر : { لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا } قال :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا أدبر ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين ،
فيقول : أرعنا (3) سمعك. فأعظم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقال ذلك له (4).
وقال السدي : كان رجل من اليهود من بني قينقاع ، يدعى رفاعة بن زيد (5) يأتي النبي
صلى الله عليه وسلم ، فإذا لقيه فكلمه قال : أرعني سمعك واسمع غير مُسْمع. وكان
المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تُفَخم بهذا ، فكان ناس منهم يقولون : اسمع غير
مسمع : غَيْرَ صاغر. وهي كالتي (6) في سورة النساء. فتقدم الله إلى المؤمنين أن لا
يقولوا : راعنا.
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (1/317).
(2) في أ : "أى راعنا".
(3) في أ : "فيقول راعنا".
(4) في جـ : "أن يقال له ذلك".
(5) في جـ : "بن يزيد".
(6) في جـ : "هي التي".
(1/374)
وكذا
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، بنحو من هذا.
قال ابن جرير : والصواب من القول في ذلك عندنا : أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا
لنبيه صلى الله عليه وسلم : راعنا ؛ لأنها كلمة كرهها الله تعالى أن يقولها لنبيه
صلى الله عليه وسلم ، نظير الذي ذكر عن النبي قال : "لا تقولوا للعنب الكرم ،
ولكن قولوا : الحَبَلَة. ولا تقولوا : عبدي ، ولكن قولوا : فتاي". وما أشبه
ذلك.
وقوله تعالى : { مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا
الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ } يبين بذلك
تعالى شدة عداوة (1) الكافرين من أهل الكتاب والمشركين ، الذين حذر تعالى من
مشابهتهم للمؤمنين ؛ ليقطع المودة بينهم وبينهم. وينبِّه تعالى على ما أنعم به على
المؤمنين من الشرع التام الكامل ، الذي شرعه لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، حيث
يقول تعالى : { وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
__________
(1) في أ : "شدة عداوته".
(1/375)
مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)
{
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) }
قال ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } ما نبدل من آية.
وقال ابن جُرَيج ، عن مجاهد : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } أي : ما نمح من آية.
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } قال : نثبت خطها
ونبدل حكمها. حَدَّث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود.
وقال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي العالية ، ومحمد بن كعب القرظي ، نحو ذلك.
وقال الضحاك : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } ما نُنْسِكَ. وقال عطاء : أما { مَا
نَنْسَخْ } فما نترك (1) من القرآن. وقال ابن أبي حاتم : يعني : تُرِكَ فلم ينزل
على محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال السدي : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } نسخها : قبضها. وقال ابن أبي حاتم :
يعني : قبضها : رفعها ، مثل قوله : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة. وقوله
: "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثًا".
وقال ابن جرير : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } ما ينقل من حكم آية إلى غيره فنبدله
ونغيره ، وذلك أن يُحوَّل الحلالُ حرامًا والحرام حلالا والمباح محظورًا ،
والمحظور مباحًا. ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع
والإباحة. فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ. وأصل النسخ من نسخ الكتاب ،
وهو نقله من نسخة أخرى إلى غيرها ، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره ،
__________
(1) في أ : "فما ترك".
(1/375)
إنما
هو تحويله ونقل عبَادَة إلى غيرها. وسواء نسخ حكمها أو خطها ، إذ هي في كلتا
حالتيها منسوخة. وأما علماء الأصول فاختلفت عباراتهم في حد النسخ ، والأمر في ذلك
قريب ؛ لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء ولخَّص (1) بعضهم أنه رفع الحكم
بدليل شرعي متأخر. فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل ، وعكسه ، والنسخ لا إلى بدل.
وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوط في فَنِّ أصول الفقه.
وقال الطبراني : حدثنا أبو شبيل (2) عبيد الله بن عبد الرحمن بن واقد ، حدثنا أبي
، حدثنا العباس بن الفضل ، عن سليمان بن أرقم ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ،
قال : قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانا يقرآن بها ،
فقاما ذات ليلة يصليان ، فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله صلى
الله عليه وسلم فذكرا ذلك له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنها
مما نسخ وأنسي ، فالهوا عنها". فكان الزهري يقرؤها : { مَا نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا } (3) بضم النون خفيفة (4). سليمان بن أرقم ضعيف.
[وقد روى أبو بكر بن الأنباري ، عن أبيه ، عن نصر بن داود ، عن أبي عبيد ، عن عبد
الله بن صالح ، عن الليث ، عن يونس وعبيد وعقيل ، عن ابن شهاب ، عن أبي أمامة بن
سهل بن حنيف مثله مرفوعًا ، ذكره القرطبي (5) ] (6).
وقوله تعالى : { أَوْ نُنْسِهَا } (7) فقرئ على وجهين : "ننسأها
ونُنْسها". فأما من قرأها : "نَنسأها" - بفتح النون والهمزة بعد
السين - فمعناه : نؤخرها. قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { مَا نَنْسَخْ
مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسئهَا } يقول : ما نبدل من آية ، أو نتركها لا نبدلها.
وقال مجاهد عن أصحاب ابن مسعود : { أَوْ نُنسِئَهَا } نثبت خطها ونبدل حكمها. وقال
(8) عبيد بن عمير ، ومجاهد ، وعطاء : { أَوْ نُنسِئَهَا } نؤخرها ونرجئها. وقال
عطية العوفي : { أَوْ نُنسِئَهَا } نؤخرها فلا ننسخها. وقال السدي مثله أيضا ،
وكذا [قال] (9) الربيع بن أنس. وقال الضحاك : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ
نُنسِئَهَا } يعني : الناسخ من المنسوخ. وقال أبو العالية : { مَا نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنسِئَهَا } أي : نؤخرها عندنا.
وقال ابن حاتم : حدثنا عبيد الله بن إسماعيل البغدادي ، حدثنا خلف ، حدثنا الخفاف
، عن إسماعيل - يعني ابن مسلم - عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن
عباس قال :
__________
(1) في ط : "ويخص".
(2) في هـ : "أبو سنبل" وهو خطأ.
(3) في ط : "أو ننسيها".
(4) المعجم الكبير (12/288).
(5) ورواه الطحاوى في مشكل الآثار برقم (2034) من طريق ابن وهب ، عن يونس عن ابن
شهاب ، عن أبي أمامة به ، وبرقم (2035) من طريق شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن أبي
أمامة به.
(6) زيادة من جـ ، ط.
(7) في ط ، ب ، أ : "أو ننساها".
(8) في جـ ، ط ، أ : "وكما قال".
(9) زيادة من أ.
(1/376)
خطبنا
عمر ، رضي الله عنه ، فقال : يقول الله عز وجل : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ
نُنسِهَا } أي : نؤخرها.
وأما على قراءة : { أَوْ نُنْسِهَا } فقال عبد الرزاق ، عن قتادة في قوله : { مَا
نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا } قال : كان الله تعالى ينسي نبيه ما يشاء
وينسخ ما يشاء.
وقال ابن جرير : حدثنا سواد (1) بن عبد الله ، حدثنا خالد بن الحارث ، حدثنا عوف ،
عن الحسن أنه قال في قوله : { أَوْ نُنْسِهَا } (2) قال : إن نبيكم صلى الله عليه
وسلم أقرئ قرآنا ثم نسيه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نُفَيل ، حدثنا محمد بن الزبير الحراني
، عن الحجاج - يعني الجزري (3) - عن عِكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان مما ينزل
على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار ، فأنزل الله ، عز وجل
: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ
مِثْلِهَا }
قال أبو حاتم : قال لي أبو جعفر بن نفيل : ليس هو الحجاج بن أرطاة ، هو شيخ لنا
جَزَري.
وقال عبيد بن عمير : { أَوْ نُنْسِهَا } نرفعها من عندكم.
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هُشَيْم ، عن يعلى بن عطاء ، عن
القاسم بن ربيعة قال : سمعت سعد بن أبي وقاص يقرأ : " ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ
أَو تَنْسَهَا" قال : قلت له : فإن سعيد بن المسيَّب يقرأ : "أَو
تُنْسَأها". قال : فقال (4) سعد : إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل
المسيب ، قال الله ، جل ثناؤه : { سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى } [الأعلى : 6]{
وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } [الكهف : 24]. (5).
وكذا رواه عبد الرزاق ، عن هشيم (6) وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث أبي حاتم
الرازي ، عن آدم ، عن شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، به. وقال : على شرط الشيخين ، ولم
يخرجاه.
قال ابن أبي حاتم : وروي عن محمد بن كعب ، وقتادة وعكرمة ، نحو قول سعيد.
وقال الإمام أحمد : أخبرنا يحيى ، حدثنا سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن
سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال عمر : عليٌّ أقضانا ، وأُبيٌّ أقرؤنا ،
وإنا لندع بعض ما يقول أُبيُّ ، وأبيّ يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول ، فلن أدعه لشيء. والله يقول : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِئَها
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا }.
قال البخاري : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا يحيى ، حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد
بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال عمر : أقرؤنا أُبيٌّ ، وأقضانا علي ، وإنا لندع
من قول أبيّ ، وذلك أن
__________
(1) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "حدثنا سوار".
(2) في جـ ، ب ، أ : "أو ننسئها".
(3) في جـ : "الجوزي".
(4) في جـ : "فقال قال".
(5) تفسير الطبري (2/475).
(6) تفسير عبد الرزاق (1/75).
(1/377)
أبيا
يقول : لا أدع شيئًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال الله : { مَا
نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا } (1)
وقوله : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } أي : في الحكم بالنسبة إلى
مصلحة المكلفين ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { نَأْتِ بِخَيْرٍ
مِنْهَا } يقول : خير لكم في المنفعة ، وأرفق بكم.
وقال أبو العالية : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } فلا نعمل بها ، { أَوْ نُنسئهَا }
أي : نرجئها (2) عندنا ، نأت بها أو نظيرها.
وقال السدي : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } يقول : نأت بخير من الذي
نسخناه ، أو مثل الذي تركناه.
وقال قتادة : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } يقول : آية فيها تخفيف ،
فيها رخصة ، فيها أمر ، فيها نهي.
وقوله : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* أَلَمْ
تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ
دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } يرشد تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في
خلقه بما يشاء ، فله الخلق والأمر وهو المتصرف ، فكما خلقهم كما يشاء ، ويسعد من
يشاء ، ويشقي من يشاء ، ويصح من يشاء ، ويمرض من يشاء ، ويوفق من يشاء ، ويخذل من
يشاء ، كذلك يحكم في عباده بما يشاء ، فيحل ما يشاء ، ويحرم ما يشاء ، ويبيح ما
يشاء ، ويحظر ما يشاء ، وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه. ولا يسأل عما يفعل
وهم يسألون. ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ ، فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة
التي يعلمها تعالى ، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى.. فالطاعة كل الطاعة في امتثال
أمره واتباع رسله في تصديق ما أخبروا. وامتثال ما أمروا. وترك ما عنه زجروا. وفي
هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر (3) اليهود وتزييف شبهتهم - لعنهم الله (4) -
في دعوى استحالة النسخ إما عقلا كما زعمه بعضهم جهلا وكفرا ، ً وإما نقلا كما تخرصه
آخرون منهم افتراء وإفكا.
قال الإمام أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله : فتأويل الآية : ألم تعلم يا محمد أن لي
ملك السماوات والأرض وسلطانهما دون غيري ، أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء ، وآمر
فيهما وفيما فيهما بما أشاء ، وأنهى عما أشاء ، وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي
أحكم بها في عبادي ما أشاء إذا أشاء ، وأقر فيهما ما أشاء.
ثم قال : وهذا الخبر وإن كان من الله تعالى خطابا لنبيه صلى الله عليه وسلم على
وجه الخبر عن عظمته ، فإنه منه تكذيب لليهود الذين أنكروا نَسْخَ أحكام التوراة ،
وجحدوا نبوة عيسى ومحمد ، عليهما الصلاة
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4481).
(2) في جـ : "نؤخرها" ، وفي أ : "نركثها".
(3) في أ : "لكفار".
(4) في أ : "لعنة الله عليهم".
(1/378)
والسلام
، لمجيئهما (1) بما جاءا به من عند الله بتغير ما غير الله من حكم التوراة.
فأخبرهم الله أن له ملك السماوات والأرض وسلطانهما ، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته
وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه ، وأن له أمرهم بما يشاء ، ونهيهم عما يشاء ،
ونسخ ما يشاء ، وإقرار ما يشاء ، وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه.
[وأمر إبراهيم ، عليه السلام ، بذبح ولده ، ثم نسخه قبل الفعل ، وأمر جمهور بنى
إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم ، ثم رفع عنهم القتل كيلا يستأصلهم القتل (2) ].
قلت : الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ ، إنما هو الكفر والعناد ، فإنه
ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى ؛ لأنه يحكم ما يشاء
كما أنه يفعل ما يريد ، مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية ، كما
أحل لآدم تزويج بناته من بنيه ، ثم حرم ذلك ، وكما أباح لنوح بعد خروجه من السفينة
أكل جميع الحيوانات ، ثم نسخ حِلُّ بعضها ، وكان نكاح الأختين مباح لإسرائيل وبنيه
، وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها. وأشياء كثيرة يطول ذكرها ، وهم يعترفون
بذلك ويصدفون عنه. وما يجاب به عن هذه الأدلة بأجوبة لفظية ، فلا تصرف الدلالة في
المعنى ، إذ هو المقصود ، وكما في كتبهم مشهورا من البشارة بمحمد صلى الله عليه
وسلم والأمر باتباعه ، فإنه يفيد وجوب متابعته ، عليه والسلام ، وأنه لا يقبل عمل
إلا على شريعته. وسواء قيل إن الشرائع المتقدمة مُغَيَّاة إلى بعثته ، عليه السلام
، فلا يسمى ذلك نسخًا كقوله : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ }
[البقرة : 187] ، وقيل : إنها مطلقة ، وإن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسختها ،
فعلى كل تقدير فوجوب اتباعه معين (3) لأنه جاء بكتاب هو آخر (4) الكتب عهدا بالله
تبارك وتعالى.
ففي هذا المقام بين تعالى جواز النسخ ، ردا على اليهود ، عليهم لعائن الله ، حيث
قال تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* أَلَمْ
تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ
دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } الآية ، فكما أن له الملك بلا منازع ،
فكذلك له الحكم بما يشاء ، { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ } [الأعراف : 54] وقرئ
في سورة آل عمران ، التي نزل صدرها خطابًا مع أهل الكتاب ، وقوع النسخ عند اليهود
في وقوله تعالى : { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا
حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ } الآية [آل عمران : 93] كما سيأتي تفسيرها ،
والمسلمون كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام الله تعالى ، لما له في ذلك من
الحكم البالغة ، وكلهم قال بوقوعه. وقال أبو مسلم الأصبهاني المفسر : لم يقع شيء
من ذلك في القرآن ، وقوله هذا ضعيف مردود مرذول. وقد تعسف في الأجوبة عما وقع من
النسخ ، فمن ذلك قضية العدة بأربعة أشهر وعشرا بعد الحول لم يجب على ذلك بكلام
مقبول ، وقضية تحويل القبلة إلى الكعبة ، عن بيت المقدس لم يجب
__________
(1) في جـ ، ط : "بمجيئها".
(2) زيادة من جـ ، ط.
(3) في ط ، ب : "متعين".
(4) في ط : "هو أحدث".
(1/379)
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
بشيء
، ومن ذلك نسخ مصابرة المسلم لعشرة من الكفرة إلى مصابرة الاثنين ، ومن ذلك نسخ
وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك ، والله أعلم.
{ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ
وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
}
نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة ، عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن
الأشياء قبل كونها ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا
عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } [المائدة : 101] أي : وإن تسألوا
عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم ، ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه ؛ فلعله أن يحرم
من أجل تلك المسألة. ولهذا جاء في الصحيح : "إن أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل
عن شيء لم يحرم ، فحرم من أجل مسألته" (1). ولما سُئِل رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلا فإن تكلم تكلم بأمر عظيم ، وإن سكتَ سكتَ
على مثل ذلك ؛ فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها. ثم أنزل الله
حكم الملاعنة (2). ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة : أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال (3) وفي
صحيح مسلم : "ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم
على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وإن (4) نهيتكم عن شيء
فاجتنبوه" (5). وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم أن الله كتب عليهم الحج. فقال
رجل : أكُل عام يا رسول الله ؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا. ثم
قال ، عليه السلام : "لا ولو قلت : نعم لوجَبَتْ ، ولو وَجَبَتْ لما
استطعتم". ثم قال : "ذروني ما تركتكم" الحديث. وهكذا قال أنس بن
مالك : نُهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ، فكان يعجبنا أن يأتي
(6) الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع (7).
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا أبو كُرَيب ، حدثنا إسحاق بن
سليمان ، عن أبي سنان ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب ، قال : إن كان ليأتي
علَيَّ السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فأتهيب منه ، وإن
كنا لنتمنى الأعراب.
وقال البزار : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا ابن فضيل ، عن عطاء بن السائب ، عن
سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله
عليه وسلم ، ما سألوه إلا عن ثنْتَي
__________
(1) صحيح البخاري برقم (7289) وصحيح مسلم برقم (2358) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي
الله عنه.
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (5308 ، 5259) ومسلم في صحيحه برقم (1492) من حديث
سهل بن سعد رضي الله عنه.
(3) صحيح البخاري برقم (1477) وصحيح مسلم برقم (593).
(4) في ط ، ب ، أ ، و : "وإذا".
(5) صحيح مسلم برقم (1337) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) في جـ : "أن يجيء".
(7) رواه مسلم في صحيحه برقم (12).
(1/380)
عشرة
مسألة ، كلها في القرآن : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } [البقرة
: 219] ، و { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } [البقرة : 217] ، و {
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى } [البقرة : 220] يعني : هذا وأشباهه (1).
وقوله تعالى : { أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى
مِنْ قَبْلُ } أي : بل تريدون. أو هي (2) على بابها في الاستفهام ، وهو إنكاري ،
وهو يعم المؤمنين والكافرين ، فإنه ، عليه السلام ، رسول الله إلى الجميع ، كما
قال تعالى : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ
السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا
اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ } [النساء : 153].
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد [بن جبير] (3) عن
ابن عباس ، قال : قال رافع بن حُرَيْمَلة - أو وهب بن زيد - : يا محمد ، ائتنا
بكتاب تُنزلُه علينا من السماء نقرؤه ، وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك. فأنزل الله
من قولهم : { أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى
مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ
السَّبِيلِ }
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله تعالى : { أَمْ
تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ
يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } (4) قال :
قال رجل : يا رسول الله ، لو كانت كَفَّاراتنا كَفَّارات (5) بني إسرائيل! فقال
النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم لا نبغيها - ثلاثًا - ما أعطاكم الله
خَيْر مما أعطى بني إسرائيل ، كانت (6) بنو إسرائيل إذا أصاب أحدُهم الخطيئة وجدها
مكتوبة على بابه وكفَّارتها ، فإن كفرها كانت له خزْيًا في الدنيا ، وإن لم يكفرها
كانت له خزيًا في الآخرة. فما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل". قال :
{ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } [النساء : 110] ، وقال : "الصلوات الخمس
من الجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن". وقال : "من هم بسيئة فلم
يعملها لم تكتب عليه ، وإن عملها كتبت سيئة واحدة ، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت
له حسنة واحدة ، وإن عملها كتبت له عشر أمثالها ، ولا يهلك على الله إلا
هالك". فأنزل الله : { أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا
سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ }
وقال مجاهد : { أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى
مِنْ قَبْلُ } أن يريهم الله جهرة ، قال : سألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن
يجعل لهم الصَّفَا ذهبًا. قال : "نعم وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن
كفرتم" ، فأبوا ورجعوا.
وعن السدي وقتادة نحو هذا ، والله أعلم.
والمراد أن الله ذمَّ من سأل الرسولَ صلى الله عليه وسلم عن شَيء ، على وجه
التعنُّت والاقتراح ، كما سألت بنو إسرائيل موسى ، عليه السلام ، تعنتًا وتكذيبًا
وعنادًا ، قال الله تعالى : { وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ } أي :
__________
(1) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (11/454) من طريق عبد الله بن عمر بن أبان ،
عن محمد بن فضيل به مطولاً.
(2) في جـ : "وقيل بل هي".
(3) زيادة من جـ.
(4) زيادة من جـ ، ط.
(5) في أ ، و : "ككفارات".
(6) في جـ : "قال : كانت".
(1/381)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
من
يَشْتَر الكفر بالإيمان { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } أي : فقد خرج عن (1)
الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء
واتباعهم والانقياد لهم ، إلى مخالفتهم وتكذيبهم والاقتراح عليهم بالأسئلة التي لا
يحتاجون إليها ، على وجه التعنت والكفر ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ
الْبَوَارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ } [إبراهيم : 28 ، 29].
وقال أبو العالية : يتبدل الشدة بالرخاء.
{ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ
إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ
بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) }
يحذر تعالى (2) عباده المؤمنين عن سلوك طَرَائق الكفار من أهل الكتاب ، ويعلمهم
بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين ، مع علمهم
بفضلهم وفضل نبيهم. ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والاحتمال ، حتى يأتي أمر
الله من النصر والفتح. ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. ويحثهم على ذلك
ويرغبهم فيه ، كما قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير
، أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان حُيَيُّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد
يهودَ للعرب حسدًا ، إذْ خَصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم وكانا جَاهدَين في
ردِّ الناس عن الإسلام ما استطاعا ، فأنزل الله فيهما : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ } الآية.
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر عن الزهري ، في قوله تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ } قال : هو كعب بن الأشرف.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب ، عن الزهري ،
أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أبيه : أن كعب بن الأشرف
اليهودي كان شاعرًا ، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه (3) أنزل الله : {
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ } إلى قوله : {
فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا }
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : أن رسولا أميا يخبرهم بما في أيديهم من الكتب والرسل
(4) والآيات ، ثم يصدق بذلك كله مثل تصديقهم ، ولكنهم جحدوا ذلك كفرًا وحسدًا
وبغيًا ؛ ولذلك قال
__________
(1) في أ : "من".
(2) في جـ : "يحذر تبارك وتعالى".
(3) في ط ، ب : "وفيهم".
(4) في جـ ، ط ، ب : "من الرسل والكتب".
(1/382)
الله
تعالى : { كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُمُ الْحَقُّ } يقول : من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه شيئا ، ولكن
الحسد حملهم على الجحود ، فعيرَّهم ووبخهم ولامهم أشدَّ الملامة ، وشرع لنبيه صلى
الله عليه وسلم وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق والإيمان والإقرار بما أنزل (1)
عليهم وما أنزل من قبلهم ، بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم.
وقال الربيع بن أنس : { مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } من قبل أنفسهم. وقال أبو
العالية : { مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } من بعد ما تبين [لهم]
(2) أن محمدا رسول الله يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، فكفروا به حسدا
وبغيًا ؛ إذ كان من غيرهم. وكذا قال قتادة والربيع والسدي.
وقوله : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } مثل قوله
تعالى : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ
ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ } [آل عمران : 186].
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى
يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } نسخ ذلك قوله : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وقوله : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ } إلى قوله : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } [التوبة : 29] فنسخ
هذا عفوه عن المشركين. وكذا قال أبو العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، والسدي :
إنها منسوخة بآية السيف ، ويرشد إلى ذلك أيضًا قوله : { حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ
بِأَمْرِهِ }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان (3) أخبرنا شعيب ، عن الزهري ،
أخبرني عُرْوَة بن الزبير : أن أسامة بن زيد أخبره ، قال : كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب ، كما أمرهم الله ، ويصبرون على
الأذى ، قال الله : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يتأوَّل من العفو ما أمره الله به ، حتى أذن الله فيهم بقتل ، فقتل الله به من قتل
من صناديد قريش (4).
وهذا إسناده (5) صحيح ، ولم أره في شيء من الكتب الستة [ولكن له أصل في الصحيحين
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما] (6).
وقوله تعالى : { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا
لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ } يَحُثُّ (7) تعالى على
الاشتغال بما ينفعهم وتَعُودُ عليهم عاقبتُه يوم القيامة ، من إقام الصلاة وإيتاء
الزكاة ،
__________
(1) في جـ ، ط ، أ ، و : "أنزل الله".
(2) زيادة من ب ، أ ، و.
(3) في أ : "أبو الوليد".
(4) تفسير ابن أبي حاتم (1/333).
(5) في ط ، ب : "وهذا إسناد".
(6) زيادة من جـ ، ط.
(7) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "يحثهم".
(1/383)
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
حتى
يمكن لهم الله (1) النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد { يَوْمَ لا يَنْفَعُ
الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ }
[غافر : 52] ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
يعني : أنه تعالى لا يغفل عن عمل عامل ، ولا يضيع لديه ، سواء كان خيرًا أو شرًا ،
فإنه سيجازي كل عامل بعمله.
وقال أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
} وهذا الخبر من الله للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين ، أنهم مهما فعلوا من
خير أو شر ، سرا أو علانية ، فهو به بصير لا يخفى عليه منه شيء ، فيجزيهم بالإحسان
خيرًا ، وبالإساءة مثلها. وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج الخبر ، فإن فيه وعدًا
ووعيدًا وأمرًا وزجرًا. وذلك أنه أعْلَم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ليجدوا في
طاعته إذ كان ذلك مُدَّخرًا (2) لهم عنده ، حتى يثيبهم عليه ، كما قال : { وَمَا
تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ } وليحذروا
معصيته.
قال : وأما قوله : { بصير } فإنه مبصر صرف إلى "بصير" كما صرف مبدع إلى
"بديع" ، ومؤلم إلى "أليم" ، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا ابن بُكَير ، حدثني ابن لَهِيعة ،
عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر ، قال : رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يفسر (3) في هذه الآية { سَمِيعٌ بَصِيرٌ } يقول : بكل شيء بصير
(4).
{ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى
تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)
بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ
رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) }
__________
(1) في جـ ، ط ، ب : "يمكن الله لهم".
(2) في ب ، أ ، و : "مذخورا".
(3) في جـ ، ط ، ب ، أ : "يقرأ" ، وفي و : "يقترئ".
(4) تفسير ابن أبي حاتم (1/336).
(1/384)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
{
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى
لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ
الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) }
يبين تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه ، حيث ادعت كل طائفة من اليهود
والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها ، كما أخبر الله عنهم في سورة
المائدة أنهم قالوا : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [المائدة :
18]. فأكذبهم الله تعالى بما أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم ، ولو كانوا كما ادعوا لما
كان الأمر كذلك ، وكما تقدم من (1) دعواهم أنه لن تمسهم النار إلا أياما معدودة ،
ثم ينتقلون إلى الجنة. وردَّ عليهم تعالى في ذلك ، وهكذا قال لهم في هذه الدعوى
التي ادعوها بلا دليل ولا حجة
__________
(1) في جـ ، ط : "في".
(1/384)
ولا
بينة ، فقال { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ }
وقال أبو العالية : أماني تمنوها على الله بغير حق. وكذا قال قتادة والربيع بن
أنس.
ثم قال : { قُلْ } أي : يا محمد ، { هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ }
وقال أبو العالية ومجاهد والسدي والربيع بن أنس : حجتكم. وقال قتادة : بينتكم على
ذلك. { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } كما تدعونه (1).
ثم قال تعالى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي : من
أخلص العمل لله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : { فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ
أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ } الآية [آل عمران : 20].
وقال أبو العالية والربيع : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } يقول : من
أخلص لله.
وقال سعيد بن جبير : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ } أخلص ، { وَجْهَهُ } قال : دينه ، {
وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي : متبع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم. فإن للعمل (2)
المتقبل شرطين ، أحدهما : أن يكون خالصًا لله وحده والآخر : أن يكون صوابًا موافقا
للشريعة. فمتى كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يتقبل ؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". رواه مسلم من حديث
عائشة ، عنه ، عليه السلام.
فعمل الرهبان ومن شابههم - وإن فرض أنهم مخلصون فيه لله - فإنه لا يتقبل منهم ،
حتى يكون ذلك متابعًا للرسول [محمد] (3) صلى الله عليه وسلم المبعوث إليهم وإلى
الناس كافة ، وفيهم وأمثالهم ، قال الله تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا
مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [الفرقان : 23] ، وقال تعالى : {
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ
مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا } [النور : 39].
وروي عن أمير المؤمنين عمر أنه تأولها في الرهبان كما سيأتي.
وأما إن كان العمل موافقًا للشريعة في الصورة الظاهرة ، ولكن لم يخلص عامله القصد
لله فهو أيضًا مردود على فاعله وهذا حال المنافقين والمرائين ، كما قال تعالى : {
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا
إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ
إِلا قَلِيلا } [النساء : 142] ، وقال تعالى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ*
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ* الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ*
وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } [الماعون : 4 - 7] ، ولهذا قال تعالى : { فَمَنْ
كَانَ يَرْجُو لِقَاَءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ
بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [الكهف : 110]. وقال في هذه الآية الكريمة : {
بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ }
وقوله : { فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ } ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل الأجور ، وآمنهم مما يخافونه من
المحذور فـ { لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فيما يستقبلونه ، { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ }
على ما مضى مما يتركونه ، كما قال سعيد بن جبير : فـ { لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ }
يعني : في الآخرة { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ }
__________
(1) في جـ ، ط ، ب ، و : "أي فيما تدعونه" ، وفي أ : "أي مما
تدعونه".
(2) في أ : "في العمل".
(3) زيادة من جـ ، ط ، ب.
(1/385)
[يعني
: لا يحزنون] (1) للموت.
وقوله تعالى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ
وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ
الْكِتَابَ } يبين به تعالى تناقضهم وتباغضهم وتعاديهم وتعاندهم. كما قال محمد بن
إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال :
لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتتهم أحبار
يهود ، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رافع بن حُرَيْملة (2)
ما أنتم على شيء ، وكفر بعيسى وبالإنجيل. وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود
: ما أنتم على شيء. وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة. فأنزل الله في ذلك من قولهما
(3) { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ
النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ } قال
: إن كلا يتلو في كتابه تصديق من كفر به ، أي : يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة
، فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى ، وفي الإنجيل ما جاء به
عيسى بتصديق موسى ، وما جاء (4) من التوراة من عند الله ، وكل يكفر بما في يد (5)
صاحبه.
وقال مجاهد في تفسير هذه الآية : قد كانت أوائل اليهود والنصارى على شيء.
وقال قتادة : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ } قال :
بلى ، قد كانت أوائل النصارى على شيء ، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا. { وَقَالَتِ
النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ } قال : بلى قد كانت أوائل اليهود
على شيء ، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا.
وعنه رواية أخرى كقول أبي العالية ، والربيع بن أنس في تفسير (6) هذه الآية : {
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى
لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ } هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا القول يقتضي أن كلا من الطائفتين صدقت فيما رمت به الطائفة الأخرى. ولكن ظاهر
سياق الآية يقتضي ذمهم فيما قالوه ، مع علمهم بخلاف ذلك ؛ ولهذا قال تعالى : {
وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ } أي : وهم يعلمون شريعة التوراة والإنجيل ، كل منهما
قد كانت مشروعة في وقت ، ولكن تجاحدوا فيما بينهم عنادًا وكفرًا (7) ومقابلة
للفاسد بالفاسد ، كما تقدم عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة في الرواية الأولى عنه
في تفسيرها ، والله أعلم.
وقوله تعالى : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ }
يُبَيِّن بهذا جهل اليهود والنصارى فيما تقابلوا من القول ، وهذا من باب الإيماء
والإشارة. وقد اختلف فيما عنى بقوله تعالى : { الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ }
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(2) في أ : "بن خزيمة".
(3) في جـ : "من قوله".
(4) في أ ، و : "جاء به".
(5) في جـ ، ط ، ب : "بما في يدي".
(6) في أ ، و : "في تفسيره".
(7) في جـ : "كفرا وعنادا".
(1/386)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
فقال
الربيع بن أنس وقتادة : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } قالا وقالت
النصارى مثل قول اليهود وقيلهم. وقال ابن جُرَيج : قلت لعطاء : من هؤلاء الذين لا
يعلمون ؟ قال : أمم كانت قبل اليهود والنصارى وقبل التوراة والإنجيل. وقال السدي :
{ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } فهم : العرب ، قالوا : ليس محمد على
شيء.
واختار أبو جعفر بن جرير أنها عامة تصلح للجميع ، وليس ثمَّ دليل قاطع يعين واحدًا
من هذه الأقوال ، فالحمل على الجميع أولى ، والله أعلم.
وقوله تعالى : { فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا
كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : أنه تعالى يجمع (1) بينهم يوم المعاد ، ويفصل
بينهم بقضائه العدل الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة. وهذا كقوله تعالى في
سورة الحج : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ
وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [الحج
: 17] ، وكما قال تعالى : { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا
بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ } [ سبأ : 26].
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ
وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا
خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
(114) }
اختلف المفسرون في المراد من الذين منعوا مساجد الله (2) وسَعَوا في خرابها على
قولين :
أحدهما : ما رواه العوفي في تفسيره ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } قال : هم
النصارى. وقال مجاهد : هم النصاري ، كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى ، ويمنعون
الناس أن يصلوا فيه.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة في قوله : { وَسَعَى فِي خَرَابِهَا
} هو بُخْتَنَصَّر وأصحابه ، خَرَّب بيت المقدس ، وأعانه على ذلك النصارى.
وقال سعيد ، عن قتادة : قال : أولئك أعداء الله النصارى ، حملهم بغض اليهود على أن
أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس.
وقال السدي : كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس حتى خربه ، وأمر به أن تطرح
فيه الجيف ، وإنما أعانه الروم على خرابه من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن
زكريا. وروي نحوه عن الحسن البصري.
القول الثاني : ما رواه ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب قال
: قال ابن
__________
(1) في أ : "يحكم".
(2) في جـ : "مساجد الله أن يذكر فيها اسمه".
(1/387)
زيد
في قوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ
فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } قال : هؤلاء المشركون الذين حالوا بين
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ، وبين أن يدخلوا مكة حتى نحر هديه بذي
طُوَى وهادنهم ، وقال لهم : ما كان أحد يَصُد عن هذا البيت ، وقد كان الرجل يلقى
قاتل أبيه وأخيه فلا يصده. فقالوا : لا يدخل علينا مَنْ قتل آباءنا يوم بدر وفينا
باق.
وفي قوله : { وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } قال : إذ قطعوا من يَعْمُرُها بذكره
ويأتيها للحج والعمرة.
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن سلمة قال : قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي
محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن قُرَيشًا منعوا النبي صلى
الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام ، فأنزل الله : { وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ }
ثم اختار ابن جرير القول الأول ، واحتج بأن قريشًا لم تسع في خراب الكعبة. وأما
الروم فسعوا في تخريب بيت المقدس.
قلت : الذي (1) يظهر - والله أعلم - القول الثاني ، كما قاله ابن زيد ، وروي عن
ابن عباس ؛ لأن النصارى إذا منعت اليهود الصلاة في البيت المقدس ، كأن دينهم أقوم
من دين اليهود ، وكانوا أقرب منهم ، ولم يكن ذكر الله من اليهود مقبولا إذ ذاك ؛
لأنهم لعنوا من قبل على لسان داود وعيسى ابن مريم ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.
وأيضا فإنه تعالى لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى ، شرع في ذم المشركين الذين
أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة ، ومنعوهم من الصلاة في المسجد
الحرام ، وأما اعتماده على أن قريشا لم تسع في خراب الكعبة ، فأي خراب أعظم مما
فعلوا ؟ أخرجوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، واستحوذوا عليها
بأصنامهم وأندادهم وشركهم ، كما قال تعالى : { وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ
اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا
أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا
يَعْلَمُونَ } [الأنفال : 34] ، وقال تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ
يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ
أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ* إِنَّمَا
يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ
وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا
مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [التوبة : 17 ، 18] ، وقال تعالى : { هُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ
يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ
تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فتَصُيِبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ
لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [الفتح : 25] ، فقال تعالى : {
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ } [التوبة :
18] ، فإذا كان من هو كذلك مطرودًا منها مصدودًا عنها ، فأي خراب لها أعظم من ذلك
؟ وليس المراد من عمارتها زخرفتها وإقامة صورتها فقط ، إنما عمارتها بذكر الله
فيها وإقامة شرعه فيها ، ورفعها عن الدنس والشرك.
__________
(1) في ط ، ب : "قلت والذي".
(1/388)
وقوله
تعالى : { أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ } هذا
خبر معناه الطلب ، أي لا تُمَكِّنوا هؤلاء - إذا قَدَرُتم عليهم - من دخولها إلا
تحت الهدنة والجزية. ولهذا لما فتح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكة أمر من
العام القابل في سنة تسع أن ينادى برحاب منى : "ألا لا يَحُجَّن (1) بعد
العام مشرك ، ولا يطوفن بالبيت عُريان ، ومن كان له أجل فأجله إلى مدته".
وهذا كان تصديقًا وعملا بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ
هَذَا } الآية [التوبة : 28] ، وقال بعضهم : ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد
الله إلا خائفين على حال التهيب ، وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم ،
فضلا أن يستولوا عليها ويمنعوا (2) المؤمنين منها. والمعنى : ما كان الحق والواجب
إلا ذلك ، لولا ظلم الكفرة وغيرهم.
وقيل : إن هذا بشارة من الله للمسلمين أنه سيُظْهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر
المساجد ، وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد منهم إلا خائفا ،
يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو يقتل إن لم يسلم. وقد أنجز الله هذا الوعد كما تقدم من منع
المشركين من دخول المسجد الحرام ، وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يبقى
بجزيرة العرب دينان ، وأن تجلى اليهود والنصارى منها ، ولله الحمد والمنة. وما ذاك
إلا تشريف أكناف المسجد الحرام وتطهير البقعة [المباركة] (3) التي بعث [الله] (4)
فيها رسوله إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا صلوات الله وسلامه عليه (5). وهذا هو
الخزي لهم في الدنيا ؛ لأن الجزاء من جنس العمل. فكما صدوا المؤمنين (6) عن المسجد
الحرام ، صُدوا عنه ، وكما أجلوهم من مكة أجلوا منها { وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ
عَذَابٌ عَظِيمٌ } على ما انتهكوا من حرمة البيت ، وامتهنوه من نصب الأصنام حوله ،
والدعاء إلى غير الله عنده والطواف به عريا ، وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها
الله ورسوله.
وأما من فَسَّر بيت (7) المقدس ، فقال كعب الأحبار : إن النصارى لما ظهروا على بيت
المقدس خربوه (8) فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم أنزل عليه : { وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى
فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ }
الآية ، فليس في الأرض نصراني يدخل بيت المقدس إلا خائفا.
وقال السدي : فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يُضْرَب (9) عُنُقُه
، أو قد أخيف بأداء الجزية فهو يؤديها.
__________
(1) في ب ، و : "ألا لا يحج" ، وفي أ : "أن لا يحج".
(2) في جـ ، ط ، ب : "ويمنعوا".
(3) زيادة من جـ.
(4) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(5) في جـ ، ب ، و : "صلوات الله وسلامه عليه".
(6) في أ : "المسلمين".
(7) في ط ، ب : "ببيت".
(8) في أ : حرقوه".
(9) في جـ ، ط ، ب : "أن تضرب".
(1/389)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
وقال
قتادة : لا يدخلون المساجد إلا مسارقة.
قلت : وهذا لا ينفي أن يكون داخلا في معنى عموم الآية فإن النصارى ما ظلموا بيت
المقدس ، بامتهان الصخرة التي كانت يصلي (1) إليها اليهود ، عوقبوا شرعًا وقَدَرا
بالذلة فيه ، إلا في أحيان من الدهر امتحن (2) بهم بيت المقدس وكذلك اليهودُ لما
عَصَوا الله فيه أيضا أعظم من عصيان النصارى كانت عقوبتهم أعظم والله أعلم.
وفسر هؤلاء الخزي من الدنيا ، بخروج المهدي عند السدي ، وعكرمة ، ووائل بن داود.
وفسره قتادة بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون.
والصحيح أن الخزي في الدنيا أعم من ذلك كله ، وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي
الدنيا وعذاب الآخرة كما قال الإمام أحمد : حدثنا الهيثم بن خارجة ، حدثنا محمد بن
أيوب بن ميسرة بن حَلبس (3) سمعت أبي يحدث ، عن بُسْر (4) بن أرطاة ، قال : كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو : "اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ،
وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة" (5).
وهذا حديث حسن ، وليس في شيء من الكتب الستة ، وليس لصحابيه وهو بسر (6) بن أرطاة
- ويقال : ابن أبي أرطاة - حديث سواه ، وسوى [حديث] (7) "لا تقطع الأيدي في
الغزو".
{ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) }
وهذا - والله أعلم - فيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه
الذين أخرجوا (8) من مكة وفارقوا مسجدهم ومُصَلاهم ، وقد كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يصلي بمكةَ إلى بيت المقدس والكعبةُ بين يديه. فلما قدم المدينة وُجه
إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا ، أو سبعة عشر شهرًا ، ثم صرفه الله إلى الكعبة بعدُ
، ولهذا يقول (9) تعالى : { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا
تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ }
قال أبو عبيد القاسم بن سلام ، في كتاب الناسخ والمنسوخ : أخبرنا حجاج بن محمد ،
أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : أول ما نسخ من
القرآن فيما ذكر لنا - والله أعلم - شأنُ القبلة : قال (10) تعالى : { وَلِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ }
فاستقبل
__________
(1) في جـ ، ب ، و : "كانت تصلى" ، وفي أ : "كانت تصل".
(2) في أ : "سخر".
(3) في جـ ، ط ، ب : "بن حابس".
(4) في أ : "عن بشر".
(5) المسند (4/181).
(6) في أ : "وهو بشر".
(7) زيادة من جـ ، ط ، ب ، أ ، و.
(8) في أ : "الذين خرجوا".
(9) في جـ : "يقول الله".
(10) في جـ ، ب ، و : "قال الله".
(1/390)
رسول
الله صلى الله عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس ، وترك البيت العتيق ، ثم صرفه إلى
بيته (1) العتيق ونسخها ، فقال : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ
} (2).
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : كان أول ما نسخ من القرآن القبلة. وذلك
أن رسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة - وكان أهلُها اليهودَ - أمره
الله أن يستقبل بيت المقدس. ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم
بضعة عشر شهرا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم ، فكان يدعو
وينظر إلى السماء ، فأنزل الله : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ
[فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا] } (3) إلى قوله : { فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } فارتاب من ذلك اليهود ، وقالوا : ما ولاهم عن قبلتهم التي
كانوا عليها ، فأنزل الله : { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [يَهْدِي
مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] } (4) وقال : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا
فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ }
وقال عكرمة عن ابن عباس : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } قال :
قبلة الله أينما توجهت شرقًا أو غربًا. وقال مجاهد : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا
فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } [قال : قبلة الله] (5) حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها
: الكعبة.
وقال ابن أبي حاتم بعد روايته الأثر المتقدم ، عن ابن عباس ، في نسخ القبلة ، عن
عطاء ، عنه : وروي عن أبي العالية ، والحسن ، وعطاء الخراساني ، وعكرمة ، وقتادة ،
والسدي ، وزيد بن أسلم ، نحو ذلك.
وقال ابن جرير : وقال آخرون : بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض التوجه إلى
الكعبة ، وإنما أنزلها (6) تعالى ليعلم نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن لهم
التوجه بوجوههم للصلاة ، حيث شاؤوا من نواحي المشرق والمغرب ؛ لأنهم لا يوجهون
وجوههم وجهًا من ذلك وناحية إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه (7) وتلك الناحية ؛ لأن
له تعالى المشارق والمغارب ، وأنه لا يخلو منه مكان ، كما قال تعالى : { وَلا
أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا }
[المجادلة : 7] قالوا : ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فَرَضَ عليهم التوجُّهَ إلى المسجد
الحرام.
هكذا قال ، وفي قوله : "وإنه تعالى لا يخلو منه مكان" : إن أراد علمه
تعالى فصحيح ؛ فإن علمه تعالى محيط بجميع المعلومات ، وأما ذاته تعالى فلا تكون
محصورة في شيء من خلقه ، تعالى الله
__________
(1) في جـ ، أ ، و : "البيت".
(2) ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره (1/346) من طريق حجاج بن محمد به ، ورواه الحاكم
في المستدرك (2/267) من طريق ابن جريج عن عطاء به وقال : "هذا حديث صحيح على
شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا السياق".
(3) زيادة من جـ.
(4) زيادة من جـ ، ط.
(5) زيادة من جـ.
(6) في جـ : "أنزلها الله".
(7) في أ : "التوجيه".
(1/391)
عن
ذلك علوًا كبيرًا.
قال ابن جرير : وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذنا من الله أن يصلي التطوع حيث توجه من شرق أو غرب ، في مسيره في سفره ، وفي حال
المسايفة وشدة الخوف.
حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا ابن إدريس ، حدثنا عبد الملك - هو ابن أبي سليمان - عن
سعيد بن جبير ، عن ابن عمر : أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته. ويذكر أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ، ويتأول هذه الآية : { فَأَيْنَمَا
تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ }
ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن مَرْدُوَيه ، من طرق ، عن عبد
الملك بن أبي سليمان ، به (1). وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر وعامر بن ربيعة
، من غير ذكر الآية.
وفي صحيح البخاري من حديث نافع ، عن ابن عمر : أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف
وصفها. ثم قال : فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم ، وركبانا
مستقبلي القبلة وغير مستقبليها.
قال نافع : ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم (2).
مسألة : ولم يفرق الشافعي في المشهور عنه ، بين سفر المسافة وسفر العدوي ، فالجميع
عنه يجوز التطوع فيه على الراحلة ، وهو قول أبي حنيفة خلافا لمالك وجماعته ،
واختار أبو يوسف وأبو سعيد الإصطخري ، التطوع على الدابة في المصر ، وحكاه أبو
يوسف عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، واختاره أبو جعفر الطبري ، حتى للماشي أيضا.
قال ابن جرير : وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في قوم عُمِّيتْ عليهم القبلة ،
فلم يعرفوا شَطرها ، فصلوا على أنحاء مختلفة ، فقال الله (3) لي المشارق والمغارب
فأين وليتم وجوهكم فهنالك وجهي ، وهو قبلتكم فيعلمكم بذلك أن صلاتكم ماضية.
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا أبو الربيع السمان
، عن عاصم بن عبيد الله ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة ، عن أبيه ، قال : كنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة ، فنزلنا منزلا فجعل الرَّجل
يأخذُ الأحجارَ فيعمل مسجدا يصلي فيه. فلما [أن] (4) أصبحنا إذا نحن قد صلينا على
غير القبلة. فقلنا : يا رسول الله ، لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة ؟ فأنزل
الله تعالى : { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا
فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } الآية.
__________
(1) تفسير الطبري (2/530) وصحيح مسلم برقم (700) وسنن الترمذي برقم (2958) وسنن
النسائي (1/244) وتفسير ابن أبي حاتم (1/344).
(2) صحيح البخاري برقم (4535).
(3) في أ : "فقال الله لهم".
(4) زيادة من ط.
(1/392)
ثم
رواه عن سفيان بن وَكِيع ، عن أبيه ، عن أبي الربيع السمان ، بنحوه (1).
ورواه الترمذي ، عن محمود بن غيلان ، عن وَكِيع. وابن ماجه ، عن يحيى بن حكيم ، عن
أبي داود ، عن أبي الربيع السمان (2).
ورواه ابن أبي حاتم ، عن الحسن بن محمد بن الصباح ، عن سعيد (3) بن سليمان ، عن
أبي الربيع السمان (4) - واسمه أشعث بن سعيد البصري - وهو ضعيف الحديث.
وقال الترمذي : هذا حديث حسن. ليس إسناده بذاك ، ولا نعرفه إلا من حديث أشعث
السمان ، وأشعث يُضَعَّف في الحديث.
قلت : وشيخه عاصم أيضًا ضعيف (5).
قال البخاري : منكر الحديث. وقال ابن معين : ضعيف لا يحتج به. وقال ابن حبان :
متروك ، والله أعلم.
وقد روي من طرق أخرى ، عن جابر.
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسير هذه الآية : حدثنا إسماعيل بن علي بن
إسماعيل ، حدثنا الحسن بن علي بن شبيب ، حدثني أحمد بن عبيد الله (6) بن الحسن ،
قال : وجدت في كتاب أبي : حدثنا عبد الملك العرزمي ، عن عطاء ، عن جابر ، قال :
بَعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سَرِيَّة كنت فيها ، فأصابتنا ظلمة فلم نعرف
القبلة ، فقالت طائفة منا : قد عرفنا القبلة ، هي هاهنا قبل السماك (7). فصلُّوا
وخطُّوا خطوطًا ، فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة. فلما
قفلنا من سفرنا (8) سألنا النبي صلى الله عليه وسلم ، فسكت ، وأنزل الله تعالى : {
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ
اللَّهِ }
ثم رواه من حديث محمد بن عبيد الله العَرْزَمي ، عن عطاء ، عن جابر ، به (9).
وقال الدارقطني : قرئ على عبد الله بن عبد العزيز - وأنا أسمع - حدثكم داود بن
عمرو ، حدثنا محمد بن يزيد (10) الواسطي ، عن محمد بن سالم ، عن عطاء ، عن جابر ،
قال : كنا مع رسول الله
__________
(1) تفسير الطبري (2/ 531 ، 532).
(2) سنن الترمذي برقم (345) وسنن ابن ماجة برقم (1020).
(3) في و : "عن سعد".
(4) تفسير ابن أبي حاتم (1/344).
(5) في أ : "ضعيف الحديث".
(6) في هـ : "عبد الله".
(7) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "قبل الشمال".
(8) في أ : "سيرنا".
(9) ورواه الدارقطني في السنن (1/271) من طريق إسماعيل بن علي عن الحسن بن علي بن
شبيب به ، ورواه البيهقي في السنن الكبرى (2/12) من طريق محمد بن الحارث عن أحمد
بن عبيد الله قال : وجدت في كتاب أبي فذكر مثله ، ورواه أيضا (2/10) من طريق محمد
بن يزيد الواسطي ، عن محمد بن عبيد الله العرزمي عن عطاء به.
(10) في جـ : "بن زيد".
(1/393)
صلى
الله عليه وسلم في مسير فأصابنا غيم ، فتحيرنا فاختلفنا في القبلة ، فصلى كل (1)
منا على حدة ، وجعل أحدنا يخط بين يديه لنعلم أمكنتنا ، فذكرنا ذلك للنبي صلى الله
عليه وسلم فلم يأمرنا بالإعادة ، وقال : "قد أجزأت صلاتكم".
ثم قال الدارقطني : كذا قال : عن محمد بن سالم ، وقال غيره : عن محمد بن عبد الله
العرزمي ، عن عطاء ، وهما ضعيفان (2).
ثم رواه ابن مَرْدُويه أيضا من حديث الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم بعث سرِيَّة فأخذتهم ضبابة ، فلم يهتدوا إلى القبلة ،
فصلوا لغير القبلة. ثم استبان لهم بعد طلوع (3) الشمس أنهم صلوا لغير القبلة. فلما
جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّثُوه ، فأنزل الله عز وجل ، هذه الآية
: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ
اللَّهِ }
وهذه الأسانيد فيها ضعف ، ولعله يشد بعضها بعضا. وأما إعادة الصلاة لمن تبين له
خطؤه ففيها قولان للعلماء ، وهذه دلائل على عدم القضاء ، والله أعلم.
قال ابن جرير : وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في سبب النجاشي ، كما حدثنا محمد
بن بشار ، حدثنا هشام بن معاذ (4) حدثني أبي ، عن قتادة : أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : "إن أخا لكم قد مات فصلوا عليه". قالوا : نصلي على رجل ليس
بمسلم ؟ قال : فنزلت : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ } [آل عمران
: 199] قال قتادة : فقالوا : فإنه كان لا يصلي إلى القبلة. فأنزل الله : {
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ
اللَّهِ } (5).
وهذا غريب والله أعلم.
وقد قيل : إنه كان يصلي إلى بيت المقدس قبل أن يبلغه الناسخ إلى الكعبة ، كما حكاه
القرطبي عن قتادة ، وذكر القرطبي أنه لما مات صلى عليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأخذ بذلك من ذهب إلى الصلاة على الغائب ، قال : وهذا خاص عند أصحابنا من
ثلاثة أوجه : أحدها : أنه عليه السلام ، شاهده حين صلى عليه طويت له الأرض. الثاني
: أنه لما لم يكن عنده من يصلي عليه صلى عليه ، واختاره ابن العربي ، قال القرطبي
: ويبعد أن يكون ملك مسلم ليس عنده أحد من قومه على دينه ، وقد أجاب ابن العربي عن
هذا لعلهم لم يكن عندهم شرعية الصلاة على الميت. وهذا جواب جيد. الثالث : أنه عليه
الصلاة والسلام إنما صلى عليه ليكون ذلك كالتأليف لبقية الملوك ، والله أعلم.
__________
(1) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "كل رجل".
(2) سنن الدارقطني (1/271) ورواه الحاكم في المستدرك (1/206) من طريق داود بن عمرو
به ، وقال : "هذا حديث صحيح رواته كلهم ثقات غير محمد بن سالم فإني لا أعرفه
بعدالة ولا جرح". قال الذهبي : قلت : "هو أبو سهل واه".
(3) في جـ ، ط ، ب ، أ ، و : "بعدما طلعت".
(4) في جـ ، ط ، ب ، أ : "معاذ بن هشام".
(5) تفسير الطبري (2/532).
(1/394)
وقد
أورد الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسير هذه الآية من حديث أبي معشر ، عن محمد
بن عمرو بن علقمة ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "ما بين المشرق والمغرب قبْلَة لأهل المدينة وأهل الشام وأهل
العراق".
وله مناسبة هاهنا ، وقد أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي معشر ، واسمه (1)
نَجِيح بن عبد الرحمن السَّندي المدني ، به (2) "ما بين المشرق والمغرب
قبلة".
وقال الترمذي : وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة. وتكلم بعض أهل العلم في أبي معشر
من قبل حفظه ، ثم قال الترمذي : حدثني الحسن بن [أبي] (3) بكر المروزي ، حدثنا
المعلى بن منصور ، حدثنا عبد الله بن جعفر المخزومي ، عن عثمان بن محمد الأخنسي ،
عن سعيد (4) المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما
بين المشرق والمغرب قبلة" (5).
ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.
وحكى عن البخاري أنه قال : هذا أقوى من حديث أبي معشر وأصح. قال الترمذي : وقد روي
عن غير واحد من الصحابة : ما بين المشرق والمغرب قبلة - منهم عمر بن الخطاب ، وعلي
، وابن عباس.
وقال ابن عمر : إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك ، فما بينهما قبلة ،
إذا استقبلت القبلة.
ثم قال ابن مَرْدُويه : حدثنا علي بن أحمد بن عبد الرحمن ، حدثنا يعقوب بن يونس
مولى بني هاشم ، حدثنا شعيب بن أيوب ، حدثنا ابن نمير ، عن عبيد الله بن عمر ، عن
نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : "ما بين المشرق
والمغرب قبلة".
وقد رواه الدارقطني والبيهقي (6) وقال المشهور : عن ابن عمر ، عن عمر ، قوله.
قال ابن جرير : ويحتمل : فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم لي فهنالك وجهي أستجيب لكم
دعاءكم ، كما حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج :
قال مجاهد : لما نزلت : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر : 60] قالوا : إلى
أين ؟ فنزلت : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ }
__________
(1) في و : "وابن".
(2) سنن الترمذي برقم (342) وسنن ابن ماجة برقم (1011).
(3) زيادة من جـ.
(4) في أ : "عن شعبة".
(5) سنن الترمذي برقم (344).
(6) سنن الدارقطني (1/270) وسنن البيهقي (2/9) وهو معلول والصواب وقفه. قال ابن
أبي حاتم في العلل (1/184) : "سئل أبو زرعة عن حديث رواه يزيد بن هارون ، عن
محمد بن عبد الرحمن ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم :
"ما بين المشرق والمغرب قبلة" قال أبو زرعة : "هذا وهم ، الحديث
حديث ابن عمر موقوف".
(1/395)
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
قال
ابن جرير : ويعني قوله : { إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } يسع خلقه كلهم
بالكفاية ، والإفضال والجود (1).
وأما قوله : { عليم } فإنه يعني : عليم بأعمالهم ، ما يغيب عنه منها شيء ، ولا
يعزب عن علمه ، بل هو بجميعها عليم.
{ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) }
اشتملت هذه الآية الكريمة ، والتي تليها على الرد على النصارى - عليهم لعائن الله
- وكذا من أشبههم من اليهود ومن مشركي العرب ، ممن (2) جعل الملائكة بنات الله ،
فأكذب الله جميعهم في دعواهم وقولهم : إن لله ولدا. فقال تعالى : { سُبْحَانَهُ }
أي : تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوًا كبيرًا { بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ } أي : ليس الأمر كما افتروا ، وإنما له ملك السماوات والأرض ، وهو
المتصرف فيهم ، وهو خالقهم ورازقهم ، ومُقَدِّرهم ومسخرهم ، ومسيرهم ومصرفهم ، كما
يشاء ، والجميع عبيد (3) له وملك له ، فكيف يكون له ولد منهم ، والولد إنما يكون
متولدًا من شيئين متناسبين ، وهو تبارك وتعالى ليس له نظير ، ولا مشارك في عظمته
وكبريائه ولا صاحبة له ، فكيف يكون له ولد! كما قال تعالى : { بَدِيعُ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الأنعام : 101] وقال
تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا* لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا
إِدًّا* تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ
وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا* أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا* وَمَا يَنْبَغِي
لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا* إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا* لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا*
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [مريم : 88 - 95] وقال تعالى :
{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ*
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [سورة الإخلاص].
فقرر (4) تعالى في هذه الآيات الكريمة أنه السيد العظيم ، الذي لا نظير له ولا
شبيه له ، وأن جميع الأشياء غيره مخلوقة له مربوبة ، فكيف يكون له منها ولد! ولهذا
قال البخاري في تفسير هذه الآية من البقرة : أخبرنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن
عبد الله بن أبي حُسَين ، حدثنا نافع بن جبير - هو ابن مطعم - عن ابن عباس ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : "قال الله تعالى : كَذَّبني ابن آدم ولم يكن
له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إيَّاي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده
كما كان ، وأما شتمه إياي فقوله : لي ولد. فسبحاني (5) أن أتخذ صاحبة أو
ولدا".
__________
(1) في ط : "بالكفاية والجود والإفضال" ، وفي ب : "بالكفاية
والأفضال والجود والإفضال".
(2) في ب ، أ : "من".
(3) في ط : "والجميع عبد".
(4) في أ ، و : "يقرر".
(5) في ط : "سبحاني".
(1/396)
انفرد
به البخاري من هذا الوجه (1).
وقال ابن مَرْدُويه : حدثنا أحمد بن كامل ، حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، حدثنا
إسحاق بن محمد الفَرْوي ، حدثنا مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة
، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يقول الله عز وجل : كذبني ابن
آدم ولم ينبغ له أن يكذبني ، وشتمني ولم ينبغ له أن يشتمني ، أما تكذيبه إياي
فقوله : لن يعيدني كما بدأني. وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته (2). وأما شتمه
إياي فقوله : اتخذ الله ولدا. وأنا الله الأحد الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن
له كفوًا أحد" (3).
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا أحد أصبر على
أذى سمعه من الله ؛ إنهم يجعلون له ولدا ، وهو يرزقهم ويعافيهم" (4).
وقوله : { كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } قال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبو سعيد الأشج ،
حدثنا أسباط ، عن مطرف ، عن عطية ، عن ابن عباس ، قال : { قَانِتينَ } مصلين.
وقال عكرمة وأبو مالك : { كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } مُقرُّون له بالعبودية. وقال
سعيد بن جبير : { كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } يقول : الإخلاص. وقال الربيع بن أنس :
يقول كل له قائم يوم القيامة. وقال السدي : { كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } يقول : له
مطيعون يوم القيامة.
وقال خَصيف ، عن مجاهد : { كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } قال : مطيعون ، كن إنسانًا
فكان ، وقال : كن حمارًا فكان.
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } مطيعون ، يقول : طاعة
الكافر في سجود ظله وهو كاره.
وهذا القول عن مجاهد - وهو اختيار ابن جرير - يجمع الأقوال كلها ، وهو أن القنوت :
هو الطاعة والاستكانة إلى الله ، وذلك شرعي وقَدري ، كما قال تعالى : { وَلِلَّهِ
يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ
بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } [الرعد : 15].
وقد وَرَد حديث فيه بيان القنوت في القرآن ما هو المراد به ، كما قال ابن أبي حاتم
: حدثنا يونُس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث : أن
دَرَّاجًا أبا السمح حدثه ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال : "كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4482).
(2) في أ : "بإعادته".
(3) الحديث رواه البخاري في صحيحه برقم (4974) من طريق شعيب عن أبي الزناد به ،
وفيه : "ولم يكن لي كفوا أحد".
(4) صحيح البخاري برقم (6099) وصحيح مسلم برقم (2804) من حديث أبي موسى الأشعري
رضي الله عنه.
(1/397)
الطاعة".
وكذا رواه الإمام أحمد ، عن حسن بن موسى ، عن ابن لَهِيعة ، عن دَرّاج بإسناده ،
مثله (1).
ولكن هذا الإسناد ضعيف لا يعتمد عليه. ورفع هذا الحديث منكر ، وقد يكون من كلام
الصحابي أو مَنْ دونه ، والله أعلم. وكثيرًا ما يأتي بهذا الإسناد تفاسير فيها
نَكَارَة ، فلا يغتر بها ، فإن السند ضعيف ، والله أعلم.
وقوله تعالى : { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : خالقهما على غير مثال سبق
، قال مجاهد والسدي : وهو مقتضى اللغة ، ومنه يقال للشيء المحدث : بدعة. كما جاء
في الصحيح لمسلم : "فإن كل محدثة بدعة [وكل بدعة ضلالة] (2) " (3).
والبدعة على قسمين : تارة تكون بدعة شرعية ، كقوله : فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة
ضلالة. وتارة تكون بدعة لغوية ، كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن
جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم : نعْمَتْ البدعةُ هذه.
وقال ابن جرير : وبديع السماوات والأرض : مبدعهما. وإنما هو مُفْعِل فصرف إلى
فَعيل ، كما صرف المؤلم إلى الأليم ، والمسمع إلى السميع. ومعنى المبدع : المنشئ
والمحدث ما لم يسبقه إلى إنشاء (4) مثله وإحداثه أحد.
قال : ولذلك سمي المبتدع في الدين مبتدعًا ؛ لإحداثه فيه ما لم يسبق (5) إليه غيره
، وكذلك كل محدث فعلا أو قولا لم يتقدمه فيه متقدم ، فإن العرب تسميه مبتدعا. ومن
ذلك قول أعشى (6) ثعلبة ، في مدح هوذة بن علي الحَنفِي :
يُرعى إلى قَوْل سادات الرّجال إذا... أبدَوْا له الحزْمَ أو ما شاءه ابتدَعا (7)
أي : يحدث ما شاء.
قال ابن جرير : فمعنى الكلام : فسبحان الله أنى يكون لله ولد ، وهو مالك ما في
السماوات والأرض ، تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوَحْدانيّة ، وتقر له بالطاعة
، وهو بارئها وخالقها وموجدها من غير أصل ولا مثال احتذاها عليه. وهذا إعلام من
الله عباده أن ممن يشهد له بذلك المسيح ، الذي أضافوا إلى الله بُنُوَّته ، وإخبار
منه لهم أن الذي ابتدع السماوات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال ، هو الذي ابتدع
المسيح عيسى من غير والد بقدرته.
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (1/348) والمسند (3/75).
(2) زيادة من ط.
(3) في صحيح مسلم برقم (867) من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ : "وشر الأمور
محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة".
(4) في أ : "إلى أشباه".
(5) في أ : "ما لم يسبقه".
(6) في و : "بن".
(7) البيت في تفسير الطبري (2/540).
(1/398)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
وهذا
من ابن جرير ، رحمه الله ، كلام جيد وعبارة صحيحة.
وقوله تعالى : { وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
يبين بذلك تعالى كمال قدرته وعظيم سلطانه ، وأنه إذا قَدَّر أمرًا وأراد كونه ،
فإنما يقول له : كن. أي : مرة واحدة ، فيكون ، أي : فيوجد على وفق ما أراد ، كما
قال تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ } [يس : 82] وقال تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا
أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [النحل : 40] وقال تعالى : {
وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [القمر : 50] ، وقال
الشاعر :
إذا ما أراد الله أمرًا فإنَّما... يقول له كن قولة فيكونُ...
ونبه تعالى بذلك أيضا على أن خلق عيسى بكلمة : كن ، فكان كما أمره الله ، قال [الله]
(1) تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ
تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [آل عمران : 59].
{ وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا
آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ
قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) }
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن
عباس ، قال : قال رافع بن حُرَيملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، إن
كنت رسولا من الله كما تقول ، فقل لله فَلْيُكَلمْنا حتى نسمع كلامه. فأنزل الله
في ذلك من قوله : { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ
أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ }
وقال مجاهد [في قوله] (2) { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا
اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ } قال : النصارى تقوله.
وهو اختيار ابن جرير ، قال : لأن السياق فيهم. وفي ذلك نظر.
[وحكى القرطبي { لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ } أي : لو يخاطبنا بنبوتك يا محمد ،
قلت : وظاهر السياق أعم ، والله أعلم] (3).
وقال أبو العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، والسدي في تفسير هذه الآية : هذا
قول كفار العرب { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ [مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ]
(4) } قالوا : هم اليهود والنصارى. ويؤيد هذا القول ، وأن القائلين ذلك هم مشركو
العرب ، قوله تعالى : { وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى
نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ
رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ
شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ } [الأنعام : 123].
__________
(1) زيادة من أ ، و.
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من جـ ، ط.
(4) زيادة من جـ.
(1/399)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
وقوله
تعالى : { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ
يَنْبُوعًا* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ
الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا* أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ
عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا* أَوْ يَكُونَ
لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ
لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنزلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي
هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا } [الإسراء : 90 - 93] ، وقوله تعالى : {
وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ
أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا
كَبِيرًا } [الفرقان : 21] ، وقوله : { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ
يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً } [المدثر : 52] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على
كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به ، إنما هو الكفر
والمعاندة ، كما قال من قبلهم من الأمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم ، كما قال
تعالى : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ
السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا
اللَّهَ جَهْرَةً } [النساء : 153] وقال تعالى : { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى
لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } [البقرة : 55].
وقوله : { تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } أي : أشبهت قُلُوب مشركي العرب قلوب من
تقدمهم في الكفر والعناد والعتو ، كما قال تعالى : { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ* أَتَوَاصَوْا
بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } [الذاريات : 52 ، 53].
وقوله : { قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي : قد وضحنا الدلالات
على صدق الرسل بما لا يحتاج معها إلى سؤال آخر وزيادة أخرى ، لمن أيقن (1) وصدق
واتبع الرسل ، وفهم ما جاؤوا به عن الله تبارك وتعالى. وأما من ختم الله على قلبه
وجعل على بصره غشاوة فأولئك الذين قال الله تعالى فيهم : { إِنَّ الَّذِينَ
حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ* وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ
آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [يونس : 96 ، 97].
[قوله تعالى] (2)
{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ
أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الرحمن بن صالح ، حدثنا عبد الرحمن بن
محمد بن عبيد الله الفزاري عن شيبان النحوي ، أخبرني قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن
عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أنزلت علي : { إِنَّا
أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } قال : "بشيرًا بالجنة ،
ونذيرًا من النار" (3).
وقوله : { وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } قراءة أكثرهم (4) { وَلا
تُسْأَلُ } بضم التاء على الخبر. وفي قراءة أبي بن كعب : "وما تسأل" وفي
قراءة ابن مسعود : "ولن تسأل عن أصحاب الجحيم"
__________
(1) في أ : "لمن اتقى".
(2) زيادة من ط.
(3) تفسير ابن أبي حاتم (1/354).
(4) في ب ، أ ، و : "قراءة بعضهم".
(1/400)
نقلهما
(1) ابن جرير ، أي : لا نسألك عن كفر من كفر بك ، { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ
وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [الرعد : 40] وكقوله تعالى : { فَذَكِّرْ إِنَّمَا
أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمصَيْطِرٍ } الآية [ الغاشية : 21 ، 22 ]
وكقوله تعالى : { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ
بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } [ ق : 45 ] وأشباه ذلك
من الآيات.
وقرأ آخرون (2) "ولا تَسْأَلْ عن أصحاب الجحيم" بفتح التاء على النهي ،
أي : لا تسأل عن حالهم ، كما قال عبد الرزاق :
أخبرنا الثوري ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "ليت شعري ما فعل أبواي ، ليت شعري ما فعل أبواي ، ليت
شعري ما فعل أبواي ؟". فنزلت : { وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ }
فما ذكرهما (3) حتى توفاه الله ، عز وجل.
ورواه ابن جرير ، عن أبي كُرَيب ، عن وَكِيع ، عن موسى بن عبيدة ، [وقد تكلموا فيه
عن محمد بن كعب] (4) بمثله (5) وقد حكاه القرطبي عن ابن عباس ومحمد بن كعب قال
القرطبي : وهذا كما يقال لا تسأل عن فلان ؛ أي : قد بلغ فوق ما تحسب ، وقد ذكرنا
في التذكرة أن الله أحيا له أبويه حتى آمنا ، وأجبنا عن قوله : (إن أبي وأباك في
النار).(قلت) : والحديث المروي في حياة أبويه عليه السلام ليس في شيء من الكتب
الستة ولا غيرها ، وإسناده ضعيف والله أعلم.
ثم قال [ابن جرير] (6) وحدثني القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثني حجاج ، عن ابن جُرَيج
، أخبرني داود بن أبي عاصم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم : "أين
أبواي ؟". فنزلت : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا
وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } (7).
وهذا مرسل كالذي قبله. وقد رد ابن جرير هذا القول المروي عن محمد بن كعب [القرظي]
(8) وغيره في ذلك ، لاستحالة الشك من الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر أبويه.
واختار القراءة الأولى. وهذا الذي سلكه هاهنا فيه نظر ، لاحتمال أن هذا كان في حال
استغفاره لأبويه قبل أن يعلم أمرهما ، فلما علم ذلك تبرأ منهما ، وأخبر عنهما
أنهما من أهل النار [كما ثبت ذلك في الصحيح] (9) ولهذا أشباه كثيرة ونظائر ، ولا
يلزم ما ذكر (10) ابن جرير. والله أعلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا فُلَيح بن سليمان ، عن هلال بن علي
، عن عطاء بن يسار ، قال : لقيت عبد الله بن عَمْرو بن العاص ، فقلت : أخبرني عن
صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. فقال : أجل ، والله إنه لموصوف في
التوراة بصفته في القرآن : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا ،
وحرزًا للأميين ، وأنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، لا فظٍّ ولا غليظ ولا
__________
(1) في ب ، ط : "نقلهما".
(2) في أ : "وقرأ البصريون".
(3) في أ : "فما ذكره".
(4) تفسير عبد الرزاق (2/78) وتفسير الطبري (2/558) وموسى بن عبيدة ضعيف جدا.
(5) زيادة من ط ، أ.
(6) زيادة من ط ، أ.
(7) تفسير الطبري (2/559).
(8) زيادة من ط.
(9) زيادة من أ.
(10) في أ ، و : "ما ذكره".
(1/401)
سَخَّاب
في الأسواق ، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ، ولن يقبضه حتى يقيم به
الملة العوجاء ، بأن يقولوا : لا إله إلا الله. فيفتح به أعينا عُمْيًا ، وآذانًا
صُمًّا ، وقلوبا غُلْفًا.
انفرد بإخراجه البخاري ، فرواه في البيوع عن محمد بن سنان ، عن فُلَيح ، به (1).
وقال : تابعه عبد العزيز بن أبي سلمة ، عن هلال. وقال سعيد : عن هلال ، عن عطاء ،
عن عبد الله بن سلام. ورواه في التفسير عن عبد الله ، عن عبد العزيز بن أبي سلمة ،
عن هلال ، عن عطاء ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، به (2). فذكر نحوه ، فعبد
الله هذا هو ابن صالح ، كما صرح به في كتاب الأدب. وزعم أبو مسعود الدمشقي أنه عبد
الله بن رجاء.
وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسير هذه الآية من البقرة ، عن أحمد بن
الحسن بن أيوب ، عن محمد بن أحمد بن البراء ، عن المعافَى بن سليمان ، عن فليح ،
به. وزاد : قال عطاء : ثم لقيت كعب الأحبار ، فسألته فما اختلفا في حرف ، إلا أن
كعبًا قال بلُغَتِهِ : أعينًا عمومى ، وآذانًا صمومى ، وقلوبًا غلوفًا (3)
__________
(1) المسند (2/174) وصحيح البخاري برقم (2125).
(2) صحيح البخاري برقم (4838).
(3) في ط : "وقلوبا غلفى".
(1/402)
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
{
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ
قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ
الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ
(120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ
يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) }
قال ابن جرير : يعني بقوله (1) جل ثناؤه : { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ
وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } وليست اليهود - يا محمد - ولا
النصارى براضية عنك أبدًا ، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم ، وأقبل على طلب رضا الله
في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق.
وقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى } أي : قل يا محمد : إن
هدى الله الذي بعثني به هو الهدى ، يعني : هو الدين المستقيم الصحيح الكامل
الشامل.
قال قتادة في قوله : { قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى } قال : خصومة
عَلَّمها الله محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، يخاصمون بها أهل الضلالة. قال
قتادة : وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : "لا تزال طائفة
من أمتي يقتتلون على الحق ظاهرين ، لا يضرهم من خالفهم ، حتى يأتي أمر الله".
قلت : هذا الحديث مُخَرَّج في الصحيح (2) عن عبد الله بن عمرو (3).
__________
(1) في ط : "في قوله".
(2) في ط : "في الصحيحين".
(3) صحيح مسلم برقم (1924).
(1/402)
{
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا
لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } فيه تهديد ووعيد شديد للأمة عن
اتباع طرائق اليهود والنصارى ، بعد ما عَلِموا من القرآن والسنة ، عياذًا بالله من
ذلك ، فإن الخطاب مع الرسول ، والأمر لأمته.
[وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله : { حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } حيث أفرد
الملة على أن الكفر كله ملة واحدة كقوله تعالى : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ
} [الكافرون : 6] ، فعلى هذا لا يتوارث المسلمون والكفار ، وكل منهم يرث قرينه
سواء كان من أهل دينه أم لا ؛ لأنهم كلهم ملة واحدة ، وهذا مذهب الشافعي وأبي
حنيفة وأحمد في رواية عنه. وقال في الرواية الأخرى كقول مالك : إنه لا يتوارث أهل
ملتين شتى ، كما جاء في الحديث ، والله أعلم] (1).
وقوله تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ
} قال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : هم اليهود والنصارى. وهو قول عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم ، واختاره ابن جرير.
وقال : سعيد عن قتادة : هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، وعبد الله بن عمران
الأصبهاني ، قالا حدثنا يحيى بن يمان ، حدثنا أسامة بن زيد ، عن أبيه ، عن عمر بن
الخطاب { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ } قال : إذا مر بذكر الجنة سأل الله الجنة
، وإذا مر بذكر النار تعوذ بالله من النار (2).
وقال أبو العالية : قال ابن مسعود : والذي نفسي بيده ، إن حق تلاوته أن يُحِلَّ
حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ، ولا يحرف الكلم عن مواضعه ، ولا يتأول
منه شيئا على غير تأويله.
وكذا رواه عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة ومنصور بن المعتمر ، عن ابن مسعود.
وقال السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس في هذه الآية ، قال : يُحِلُّون حلاله
ويُحَرِّمُون حرامه ، ولا يُحَرِّفُونه عن مواضعه.
قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن مسعود نحو ذلك.
وقال الحسن البصري : يعملون بمحكمه ، ويؤمنون بمتشابهه ، يَكِلُونَ ما أشكل عليهم
إلى عالمه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا ابن أبي
زائدة ، أخبرنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : {
يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ } قال : يتبعونه حق اتباعه ، ثم قرأ : { وَالْقَمَرِ
إِذَا تَلاهَا } [ الشمس : 2 ] ، يقول : اتَّبَعَها. قال : ورُوِيَ عن عكرمة ،
وعطاء ، ومجاهد ، وأبي رزين ، وإبراهيم النخَعي نحو ذلك.
وقال سفيان الثوري : حدثنا زُبَيد ، عن مُرَّة ، عن عبد الله بن مسعود ، في قوله :
{ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ }
__________
(1) زيادة من ط ، أ.
(2) تفسير ابن أبي حاتم (1/357).
(1/403)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
قال
: يتبعونه حق اتباعه.
قال القرطبي : وروى نصر بن عيسى ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم في قوله : { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ } قال : "يتبعونه
حق اتباعه" ، ثم قال : في إسناده غير واحد من المجهولين فيما ذكره الخطيب إلا
أن معناه صحيح. وقال أبو موسى الأشعري : من يتبع القرآن يهبط به على رياض الجنة.
وعن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها من الله ،
وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها ، قال : وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه كان إذا مرَّ بآية رحمة سأل ، وإذا مرَّ بآية عذاب تعوذ.
وقوله : { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } خَبَر عن { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ
الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ } أي : من أقام كتابه من أهل الكتب
المنزلة على الأنبياء المتقدمين حق إقامته ، آمن بما أرسلتك به يا محمد ، كما قال
تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ
إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ }
الآية [ المائدة : 66 ]. وقال : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى
شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ
رَبِّكُمْ } [ المائدة : 68 ] ، أي : إذا أقمتموها حق الإقامة ، وآمنتم بها حَقَّ
الإيمان ، وصَدَّقتم ما فيها من الأخبار بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم ونَعْتِه
وصفته والأمر باتباعه ونصره ومؤازرته ، قادكم ذلك إلى الحق واتباع الخير في الدنيا
والآخرة ، كما قال تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ
الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالإنْجِيلِ } الآية [ الأعراف : 157 ] وقال تعالى : { قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا
تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى
عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا* وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا
إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا } [ الإسراء : 107 ، 108 ] أي : إن كان ما
وعدنا به من شأن محمد صلى الله عليه وسلم لواقعًا. وقال تعالى : { الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ* وَإِذَا يُتْلَى
عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا
مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا
صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ } [ القصص : 52 - 54]. وقال تعالى : { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ
} [ آل عمران : 20 ] ولهذا قال تعالى : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ } كما قال تعالى : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ
فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [ هود : 17 ]. وفي الصحيح : "والذي نفسي بيده لا
يسمع بي أحد من هذه الأمة : يهودي ولا نصراني ، ثم لا يؤمن بي ، إلا دخل
النار" (1).
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ
وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي
نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا
شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) }
قد تقدم نظير هذه الآية في صدر السورة ، وكررت هاهنا للتأكيد والحث على اتباع
الرسول النبي
__________
(1) صحيح مسلم برقم (153) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/404)
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
الأمي
الذي يجدون صفته في كتبهم ونعتَه واسمه وأمره وأمته. يحذرهم (1) من كتمان هذا ،
وكتمان ما أنعم به عليهم ، وأمرهم أن يذكروا نعمة الله عليهم ، من النعم الدنيوية
والدينية ، ولا يحسدوا بني عَمِّهم من العرب على ما رزقهم الله من إرسال الرسول
الخاتم منهم. ولا يحملهم ذلك الحسدُ على مخالفته وتكذيبه ، والحيدة عن موافقته ،
صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين.
{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ (124) }
يقول تعالى مُنَبِّهًا على شرف إبراهيم خليله ، عليه السلام (2) وأن الله تعالى
جعله إماما للناس يقتدى به في التوحيد ، حتى (3) قام بما كلفه الله تعالى به من الأوامر
والنواهي ؛ ولهذا قال : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } أي
: واذكر - يا محمد - لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذين ينتحلون ملَّة إبراهيم
وليسوا عليها ، وإنما الذي هو عليها مستقيم فأنت والذين (4) معك من المؤمنين ،
اذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم ، أي : اختباره له بما كلفه به من الأوامر
والنواهي { فَأَتَمَّهُنَّ } أي : قام (5) بهن كلهن ، كما قال تعالى : {
وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [ النجم : 37 ] ، أي : وفى جميع ما شرع له ، فعمل
به صلوات الله عليه ، وقال تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا
لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شَاكِرًا لأنْعُمِهِ
اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ* وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا
حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ* ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [
النحل : 120 - 123 ] ، وقال تعالى : { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 161 ] ، وقال تعالى : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ
يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ
الْمُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 67 ، 68 ]
وقوله تعالى : { بِكَلِمَاتٍ } أي : بشرائع وأوامر ونواه ، فإن الكلمات تطلق ،
ويراد بها الكلمات القدرية ، كقوله تعالى عن مريم ، عليها السلام ، : {
وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } [
التحريم : 12 ]. وتطلق ويراد بها الشرعية ، كقوله تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا [لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ] (6) } [ الأنعام : 115 ]
أي : كلماته الشرعية. وهي إما خبر صدق ، وإما طلب عدل إن كان أمرًا أو نهيًا ، ومن
ذلك هذه الآية الكريمة : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ
فَأَتَمَّهُنَّ } أي : قام بهن. قال : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } أي
: جزاء على ما فَعَل ، كما قام بالأوامر وتَرَكَ الزواجر ، جعله الله للناس قدوة
وإمامًا يقتدى به ، ويحتذى حذوه.
__________
(1) في جـ ، ط ، أ ، و : "فحذرهم".
(2) في جـ : "عليه الصلاة والسلام".
(3) في أ ، و : "حين".
(4) في جـ : "فأنت والذي".
(5) في جـ : "أي أقام".
(6) زيادة من ط.
(1/405)
وقد
اختلف [العلماء] (1) في تفسير (2) الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم الخليل ،
عليه السلام. فروي عن ابن عباس في ذلك روايات :
فقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، قال ابن عباس : ابتلاه الله بالمناسك.
وكذا رواه أبو إسحاق السَّبِيعي ، عن التميمي ، عن ابن عباس.
وقال عبد الرزاق - أيضًا - : أخبرنا معمر ، عن ابن طاووس ، عن أبيه ، عن ابن عباس
: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } قال : ابتلاه الله
بالطهارة : خمس في الرأس ، وخمس في الجسد ؛ في الرأس : قَص الشارب ، والمضمضة ،
والاستنشاق ، والسواك ، وفَرْق الرأس. وفي الجسد : تقليم الأظفار ، وحلق العانة ،
والختان ، ونَتْف الإبط ، وغسل أثر الغائط والبول بالماء (3).
قال ابن أبي حاتم : ورُوِي عن سعيد بن المسيب ، ومجاهد ، والشعبي ، والنَّخَعي ،
وأبي صالح ، وأبي الجلد ، نحو ذلك.
قلت : وقريب من هذا ما ثبت في صحيح مسلم ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "عَشْرٌ من الفطرة : قص الشارب ، وإعفاء
اللحية ، والسواك ، واستنشاق الماء ، وقص الأظفار ، وغسل البرَاجم ، ونتف الإبط ،
وحلق العانة ، وانتقاص الماء" [قال مصعب] (4) ونسيت العاشرة إلا أن تكون
المضمضة.
قال وَكِيع : انتقاص الماء ، يعني : الاستنجاء (5).
وفي الصحيح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : "الفطرة
خمس : الختان ، والاستحداد ، وقص الشارب ، وتقليم الأظفار ، ونتف الإبط".
ولفظه لمسلم (6).
وقال ابن أبي حاتم : أنبأنا يونس بن عبد الأعلى ، قراءة ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني
ابن لهيعة ، عن ابن هُبيرة ، عن حَنَش (7) بن عبد الله الصنعاني ، عن ابن عباس :
أنه كان يقول في هذه الآية : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ
فَأَتَمَّهُنَّ } قال : عَشْرٌ ، ست في الإنسان ، وأربع في المشاعر. فأما التي في
الإنسان : حلق العانة ، ونتف الإبط ، والختان. وكان ابن هبيرة يقول : هؤلاء
الثلاثة واحدة. وتقليم الأظفار ، وقص الشارب ، والسواك ، وغسل يوم الجمعة.
والأربعة التي في المشاعر : الطواف ، والسعي بين الصفا والمروة ، ورمي الجمار ،
والإفاضة.
وقال داود بن أبي هند ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس أنه قال : ما ابتلي بهذا الدين
أحد فقام به
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في و : "تعيين".
(3) تفسير عبد الرزاق (1/76).
(4) زيادة من جـ ، ط.
(5) صحيح مسلم برقم (261).
(6) صحيح البخاري برقم (5889) وصحيح مسلم برقم (257).
(7) في جـ ، ط : "حنيش" ، وفي أ : "حسين".
(1/406)
كله
إلا إبراهيم ، قال الله تعالى : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } قلت له : وما الكلماتُ التي ابتلى الله إبراهيم بهن
فأتمهن ؟ قال : الإسلام ثلاثون سهمًا ، منها عشر آيات في براءة : { التَّائِبُونَ
الْعَابِدُونَ [الْحَامِدُونَ ] (1) } [ التوبة : 112 ] إلى آخر الآية (2) وعشر
آيات في أول سورة { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } و { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ
وَاقِعٍ } وعشر آيات في الأحزاب : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } [
الآية : 35 ] إلى آخر الآية ، فأتمهن كلهن ، فكتبت له براءة. قال الله : {
وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [ النجم : 37 ].
هكذا رواه الحاكم ، وأبو جعفر بن جرير ، وأبو محمد بن أبي حاتم ، بأسانيدهم إلى
داود بن أبي هند ، به (3). وهذا لفظ ابن أبي حاتم.
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال
: الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن : فراق قومه - في الله - حين أمر
بمفارقتهم. ومحاجَّته نمروذ (4) - في الله - حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر
الأمر الذي فيه خلافه. وصبره على قذفه إياه في النار ليحرقوه - في الله - على هول
ذلك من أمرهم. والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده - في الله - حين أمره بالخروج عنهم
، وما أمره به من الضيافة والصبر عليها بنفسه وماله ، وما ابتلي به من ذبح ابنه
حين أمره بذبحه ، فلما مضى على ذلك من الله كله وأخلصه للبلاء (5) قال الله له : {
أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } على ما كان من خلاف الناس
وفراقهم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا إسماعيل بن عُلَيَّة ، عن أبي
رجاء ، عن الحسن - يعني البصري - : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِمَاتٍ [فَأَتَمَّهُنَّ] (6) } قال : ابتلاه بالكوكب فرضي عنه ، وابتلاه
بالقمر فرضي عنه ، وابتلاه بالشمس فرضي عنه ، وابتلاه بالهجرة فرضي عنه ، وابتلاه
بالختان فرضي عنه ، وابتلاه بابنه فرضي عنه.
وقال ابن جرير : حدثنا بشر بن معاذ ، حدثنا يزيد بن زُرَيع ، حدثنا سعيد ، عن
قتادة ، قال : كان الحسن يقول : أي والله ، ابتلاه بأمر فصبر عليه : ابتلاه
بالكوكب والشمس والقمر ، فأحسن في ذلك ، وعرف أن ربه (7) دائم لا يزول ، فوجه وجهه
للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما كان من المشركين. ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من
بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرًا إلى الله ، ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة فصبر
على ذلك. وابتلاه الله بذبح ابنه (8) والختان فصبر على ذلك.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عمن سمع الحسن يقول في قوله : { وَإِذِ
ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [فَأَتَمَّهُنَّ] (9) }
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) في و : "إلى آخر الآيات".
(3) تفسير الطبري (3/8) وتفسير ابن أبي حاتم (1/360).
(4) في جـ : "ومحاجته بنمروذ".
(5) في جـ : "ذلك من البلاء كله وأخلصه للبلاء".
(6) زيادة من أ.
(7) في جـ : "أن الله ربه".
(8) في ط : "بذبح ولده".
(9) زيادة من جـ.
(1/407)
قال
: ابتلاه الله بذبح ولده ، وبالنار ، والكوكب (1) والشمس ، والقمر.
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا سَلْم بن قتيبة ، حدثنا أبو هلال
، عن الحسن { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } قال : ابتلاه
بالكوكب ، والشمس ، والقمر ، فوجده صابرًا.
وقال العوفي في تفسيره ، عن ابن عباس : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } فمنهن : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا }
(2) ومنهن : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ
وَإِسْمَاعِيلُ } ومنهن : الآيات في شأن المنسك والمقام الذي جعل لإبراهيم ،
والرزق الذي رزق ساكنو البيت ، ومحمد بعث في دينهما.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا شبابة ، عن ورقاء ، عن
ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد في قوله تعالى : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ
رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } قال الله لإبراهيم : إني مبتليك بأمر فما هو
؟ قال : تجعلني للناس إمامًا. قال : نعم. قال : ومن ذريتي ؟ { قَالَ لا يَنَالُ
عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال : تجعل البيت مثابة للناس ؟ قال : نعم. قال : وأمنًا.
قال : نعم. قال : وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ؟ قال : نعم. قال :
وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله ؟ قال : نعم.
قال ابن أبي نَجِيح : سمعته من عكرمة ، فعرضته على مجاهد ، فلم ينكره.
وهكذا رواه ابن جرير من غير وجه ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد.
وقال سفيان الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ
رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } قال : ابتلي بالآيات التي بعدها : { إِنِّي
جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ }
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ
رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [فَأَتَمَّهُنَّ] (3) } قال : الكلمات : { إِنِّي جَاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِمَامًا } وقوله : { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ
وَأَمْنًا } وقوله { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقوله : {
وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } الآية ، وقوله : { وَإِذْ
يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } الآية ، قال
: فذلك كله من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم.
قال السدي : الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم رَبُّه : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا
إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ
وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } ، { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ
رَسُولا مِنْهُمْ [يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ] (4) }.
__________
(1) في أ ، و : "والكواكب".
(2) في جـ ، ط : "قال إني".
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.
(1/408)
[وقال
القرطبي : وفي الموطأ وغيره ، عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول :
إبراهيم ، عليه السلام ، أول من اختتن وأول من ضاف الضيف ، وأول من استحد ، وأول
من قَلَّم أظفاره ، وأول من قص الشارب ، وأول من شاب فلما رأى الشيب ، قال : ما
هذا ؟ قال : وقار ، قال : يا رب ، زدني وقارًا. وذكر ابن أبي شيبة ، عن سعد بن
إبراهيم ، عن أبيه ، قال : أول من خطب على المنابر إبراهيم ، عليه السلام ، قال غيره
: وأول من برَّد البريد ، وأول من ضرب بالسيف ، وأول من استاك ، وأول من استنجى
بالماء ، وأول من لبس السراويل ، وروي عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "إن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي إبراهيم ، وإن أتخذ العصا
فقد اتخذها أبي إبراهيم" قلت : هذا حديث لا يثبت ، والله أعلم. ثم شرع
القرطبي يتكلم على ما يتعلق بهذه الأشياء من الأحكام الشرعية] (1).
قال أبو جعفر بن جرير ما حاصله : أنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميعُ ما ذكر ،
وجائز أن يكون بعض ذلك ، ولا يجوز الجزمُ بشيء منها أنه المرادُ على التعيين إلا
بحديث أو إجماع. قال : ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب
التسليم له.
قال : غَيْرَ أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نظير معنى ذلك خبران ،
أحدهما ما حدثنا به أبو كُرَيْب ، حدثنا رشدين بن سعد ، حدثني زبان بن فائد ، عن
سهل بن معاذ بن أنس ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "ألا أخبركم
لم سمى الله إبراهيم خليله { الَّذِي وَفَّى } [ النجم : 37 ] ؟ لأنه كان يقول
كلما أصبح وكلما أمسى : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ
تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] حتى يختم الآية" (2).
قال : والآخر منهما : حدثنا به أبو كريب ، أخبرنا الحسن ، عن عطية ، أخبرنا
إسرائيل ، عن جعفر بن الزبير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } أتدرون ما وفى ؟". قالوا
: الله ورسوله أعلم. قال : "وفَّى عمل يومه ، أربع ركعات في النهار".
ورواه آدم في تفسيره ، عن حماد بن سلمة. وعبد بن حميد ، عن يونس بن محمد ، عن حماد
بن سلمة ، عن جعفر بن الزبير ، به (3).
ثم شرع ابن جرير يضعف هذين الحديثين ، وهو كما قال ؛ فإنه لا تجوز روايتهما إلا
ببيان ضعفهما ، وضعفهما من وجوه عديدة ، فإن كلا من السندين مشتمل على غير واحد من
الضعفاء ، مع ما في متن الحديث مما يدل على ضعفه [والله أعلم] (4).
ثم قال ابن جرير : ولو قال قائل : إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس
أولى
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، أ.
(2) تفسير الطبري (3/15).
(3) تفسير الطبري (3/16).
(4) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(1/409)
بالصواب
من القول الذي قاله غيرهم كان مذهبًا ، فإن قوله : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ
إِمَامًا } وقوله : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ
طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } وسائر الآيات التي هي نظير ذلك ، كالبيان عن
الكلمات التي ذكر الله أنه ابتلى بهن إبراهيم.
قلت : والذي قاله أولا من أن الكلمات تشمل جميع ما ذكر ، أقوى من هذا الذي جوزه من
قول مجاهد ومن قال مثله ؛ لأن السياق يعطي غير ما قالوه والله أعلم.
وقوله : { قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } لما
جعل الله إبراهيم إمامًا ، سأل الله أن تكون الأئمةُ من بعده من ذريته ، فأجيب إلى
ذلك وأخبر أنه سيكون من ذريته ظالمون ، وأنه لا ينالهم عهد الله ، ولا يكونون أئمة
فلا يقتدى بهم ، والدليل على أنه أجيب إلى طَلِبَتِهِ قول الله (1) تعالى في سورة
العنكبوت : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } [
العنكبوت : 27 ] فكل نبي أرسله الله وكل كتاب أنزله الله بعد إبراهيم ففي ذريته
صلوات الله وسلامه عليه (2).
وأما قوله تعالى : { قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } فقد اختلفوا في ذلك
، فقال خَصِيف ، عن مجاهد في قوله : { قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }
قال : إنه سيكون في ذريتك ظالمون.
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، { قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال
: لا يكون لي إمام ظالم [يقتدى به] (3). وفي رواية : لا (4) أجعل إمامًا ظالمًا
يقْتَدَى به. وقال سفيان ، عن (5) منصور ، عن مجاهد في قوله تعالى : { قَالَ لا
يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال : لا يكون إمام ظالم يقتدى به.
وقال ابن أبي حاتم : حدثني أبي ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا شريك ، عن منصور ،
عن مجاهد ، في قوله : { وَمِنْ ذُرِّيَّتِي } قال : أما من كان منهم صالحًا
فسأجعله إمامًا يقتدى به ، وأما من كان ظالما فلا ولا نُعْمَةَ عَيْنٍ.
وقال سعيد بن جبير : { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } المراد به المشرك ، لا
يكون إمام ظالم. يقول : لا يكون إمام مشرك.
وقال ابن جُرَيج ، عن عطاء ، قال : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ
وَمِنْ ذُرِّيَّتِي } فأبى أن يجعل من ذريته إمامًا ظالمًا. قلت لعطاء : ما عهده ؟
قال : أمره.
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا عمرو بن ثور القيساري (6) فيما كتب إلي ، حدثنا
الفريابي ، حدثنا إسرائيل ، حدثنا سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال :
قال الله لإبراهيم : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِي } فأبى أن يفعل ، ثم قال : { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }
__________
(1) في جـ : "قوله".
(2) في جـ : "وسلامه عليه وعليهم أجمعين".
(3) زيادة من ط.
(4) في جـ : "أن لا".
(5) في أ : "سفيان بن".
(6) في أ : "النيسابوري".
(1/410)
وقال
محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس : { قَالَ
وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } يخبره أنه كائن في
ذريته ظالم لا ينال عهده - ولا ينبغي [له] (1) أن يوليه شيئا من أمره وإن كان من
ذرية خليله - ومحسن ستنفذ فيه دعوته ، وتبلغ له فيه ما أراد من مسألته.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال : يعني لا
عهدَ لظالم عليك في ظلمه ، أن تطيعه فيه.
وقال ابن جرير : حدثنا المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ، عن
إسرائيل ، عن مسلم الأعور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : { لا يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ } قال : ليس للظالمين عهد ، وإن عاهدته فانتقضه (2).
وروي عن مجاهد ، وعطاء ، ومقاتل بن حيان ، نحو ذلك.
وقال الثوري ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه ، قال : ليس لظالم عهد.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة ، في قوله : { لا يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ } قال : لا ينال عهدُ الله في الآخرة (3) الظالمين ، فأما في الدنيا
فقد ناله الظالم فأمن به ، وأكل وعاش.
وكذا قال إبراهيم النخعي ، وعطاء ، والحسن ، وعكرمة.
وقال الربيع بن أنس : عهد الله الذي عهد إلى عباده : دينه ، يقول : لا ينال دينه
الظالمين ، ألا ترى أنه قال : { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ } [ الصافات : 113 ] ،
يقول : ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق.
وكذا روي عن أبي العالية ، وعطاء ، ومقاتل بن حيان.
وقال جويبر ، عن الضحاك : لا ينال طاعتي عدو لي يعصيني ، ولا أنحلها إلا وليًّا لي
يطيعني.
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه : حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد ، حدثنا أحمد
بن عبد الله بن سعيد الأسدي ، حدثنا سليم بن سعيد الدامغاني ، حدثنا وَكِيع ، عن
الأعمش ، عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي بن أبي طالب ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال :
"لا طاعة إلا في المعروف" (4).
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(2) في جـ ، ط ، أ ، و : "فأنقضه".
(3) في ط : "لا ينال عهد الله ظالم في الآخرة".
(4) قال البخاري في صحيحه برقم (7257) : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا غندر ، حدثنا
شعبة ، عن زيد ، عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي - رضي الله عنه -
أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جيشا وأمر عليهم رجلا ، فأوقد نارا وقال :
ادخلوها ، فأرادوا أن يدخلوها ، وقال آخرون : إنما فررنا منها ، فذكروا للنبي صلى
الله عليه وسلم ، فقال للذين أرادوا أن يدخلوها : "لو دخلوها لم يزالوا فيها
إلى يوم القيامة". وقال للآخرين : "لا طاعة في المعصية ، إنما الطاعة في
المعروف". فهذا هو أصل هذا الحديث من دون ذكر الآية ، والله أعلم.
(1/411)
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
وقال
السدي : { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } يقول : عهدي نبوتي.
فهذه أقوال مفسري السلف في هذه الآية على ما نقله ابن جرير ، وابن أبي حاتم ،
رحمهما الله تعالى. واختار ابن جرير أن هذه الآية - وإن كانت ظاهرة في الخبر - أنه
لا ينال عهد الله بالإمامة ظالما. ففيها إعلام من الله لإبراهيم الخليل ، عليه
السلام ، أنه سيوجد من ذريتك من هو ظالم لنفسه ، كما تقدم عن مجاهد وغيره ، والله
أعلم.
{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى (125) }
قال العوفي ، عن ابن عباس : قوله تعالى : { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً
لِلنَّاسِ } يقول : لا يقضون منه وطرًا ، يأتونه ، ثم يرجعون إلى أهليهم ، ثم
يعودون إليه.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { مَثَابَةً لِلنَّاسِ } يقول : يثوبون.
رواهما (1) ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبي ، أخبرنا عبد الله بن رجاء ، أخبرنا إسرائيل ، عن
مسلم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ
مَثَابَةً لِلنَّاسِ } قال : يثوبون إليه ثم يرجعون. قال : وروي عن أبي العالية ،
وسعيد بن جبير - في رواية - وعطاء ، ومجاهد ، والحسن ، وعطية ، والربيع بن أنس ،
والضحاك ، نحو ذلك. وقال ابن جرير : حدثني عبد الكريم بن أبي عمير ، حدثني الوليد
بن مسلم قال : قال أبو عمرو - يعني الأوزاعي - حدثني عبدة بن أبي لبابة ، في قوله
تعالى : { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ } قال : لا ينصرف عنه
منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرًا.
وحدثني يونس ، عن ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ
مَثَابَةً لِلنَّاسِ } قال : يثوبون إليه من البُلْدان كلها ويأتونه.
[وما أحسن ما قال الشاعر في هذا المعنى ، أورده القرطبي (2) :
جعل البيتُ مثابًا لهم... ليس منه الدهر يقضون الوَطَرْ] (3)
وقال سعيد بن جبير - في الرواية الأخرى - وعكرمة ، وقتادة ، وعطاء الخراساني {
مَثَابَةً لِلنَّاسِ } أي : مجمعا.
{ وَأَمْنًا } قال الضحاك عن ابن عباس : أي أمنًا للناس.
__________
(1) في جـ ، ط : "رواه".
(2) تفسير القرطبي (2/110).
(3) زيادة من جـ ، ط ، أ.
(1/412)
وقال
أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية : { وَإِذْ جَعَلْنَا
الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا } يقول : أمنًا من العدو ، وأن يُحْمَل
فيه السلاح ، وقد كانوا في الجاهلية يُتَخَطَّف الناس من حولهم ، وهم آمنون لا
يُسْبَون.
وروي عن مجاهد ، وعطاء ، والسدي ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، قالوا : من دخله كان
آمنًا.
ومضمون ما فسر به هؤلاء الأئمة هذه الآية : أن الله تعالى يذكر شرف البيت وما جعله
موصوفًا به شرعًا وقدرًا من كونه مثابة للناس ، أي : جعله مَحَلا تشتاق إليه
الأرواح وتحن إليه ، ولا تقضي منه وطرًا ، ولو ترددَت إليه كلَّ عام ، استجابة من
الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم ، عليه السلام ، في قوله : { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً
مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } إلى أن قال : { رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ
(1) } [ إبراهيم : 37 - 40 ] ويصفه تعالى بأنه جعله أمنًا ، من دخله أمن ، ولو كان
قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنًا.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فيه فلا يَعْرض
له ، كما وصفها في سورة المائدة بقوله تعالى (2) { جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ
الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ } [ المائدة : 97 ] أي : يُرْفَع عنهم
بسبب تعظيمها (3) السوءُ ، كما قال ابن عباس : لو لم يحج الناسُ هذا البيت لأطبق
الله السماءَ على الأرض ، وما هذا الشرف إلا لشرف بانيه أولا وهو خليل الرحمن ،
كما قال تعالى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا
تُشْرِكْ بِي شَيْئًا } [ الحج : 26 ] وقال تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ
لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ* فِيهِ آيَاتٌ
بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } [ آل عمران : 96
، 97 ].
وفي هذه الآية الكريمة نَبَّه على مقام إبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده. فقال : {
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقد اختلف المفسرون في المراد
بالمقام ما هو ؟ فقال ابن أبي حاتم : أخبرنا عمر بن شَبَّة النميري ، حدثنا أبو
خلف - يعني عبد الله بن عيسى - حدثنا داود بن أبي هند ، عن مجاهد ، عن ابن عباس :
{ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } قال : مقام إبراهيم : الحرم
كله. وروي عن مجاهد وعطاء مثل ذلك.
وقال [أيضا] (4) حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال
: سألت عطاء عن { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فقال : سمعت
ابن عباس قال : أما مقام إبراهيم الذي ذكر هاهنا ، فمقام إبراهيم هذا الذي (5) في
المسجد ، ثم قال : و { مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ } يعد كثير ، " مقام إبراهيم
" الحج كله. ثم فسره لي عطاء فقال : التعريف ، وصلاتان بعرفة ، والمشعر ،
ومنى ، ورمي الجمار ، والطواف بين الصفا والمروة. فقلت : أفسره ابن عباس ؟ قال :
لا ولكن قال : مقام إبراهيم : الحج كله. قلت : أسمعت ذلك ؟ لهذا أجمع. قال : نعم ،
سمعته منه.
__________
(1) في جـ ، ط : "دعائي".
(2) في جـ : "بقوله تبارك وتعالى".
(3) في جـ : "لسبب تعظيمهم".
(4) زيادة من و.
(5) في جـ : "الذي هو".
(1/413)
وقال
سفيان الثوري ، عن عبد الله بن مسلم ، عن سعيد بن جبير : { وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } قال : الحَجر مقام إبراهيم نبي الله ، قد جعله
الله رحمة ، فكان يقوم عليه ويناوله إسماعيل الحجارة. ولو غَسل رأسَه كما يقولون
لاختلف رجلاه.
[وقال السدي : المقام : الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلت
رأسه. حكاه القرطبي ، وضعفه ورجحه غيره ، وحكاه الرازي في تفسيره عن الحسن البصري
وقتادة والربيع بن أنس] (1).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ،
عن ابن جُرَيج ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، سمع جابرًا يحدث عن حجة النبي صلى
الله عليه وسلم قال : لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم قال له عمر : هذا مقام
أبينا إبراهيم ؟ قال : نعم ، قال : أفلا نتخذه مصلى ؟ فأنزل الله ، عز وجل : {
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (2).
وقال عثمان بن أبي شيبة : أخبرنا أبو أسامة ، عن زكريا ، عن أبي إسحاق ، عن أبي
ميسرة قال : قال عمر : قلت : يا رسول الله ، هذا مقام خليل ربنا ؟ قال : نعم ، قال
: أفلا نتخذه مصلى ؟ فنزلت : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }
(3).
وقال ابن مَرْدويه : حدثنا دَعْلَج بن أحمد ، حدثنا غيلان بن عبد الصمد ، حدثنا
مسروق بن المرزبان ، حدثنا زكريا بن أبي زائدة ، عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن
عمر بن الخطاب أنه مَرَّ بمقام إبراهيم فقال : يا رسول الله ، أليس نقوم مقام خليل
ربنا (4) ؟ قال : "بلى". قال : أفلا نتخذه مصلى ؟ فلم يلبث إلا يسيرًا
حتى نزلت : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }
وقال ابن مردويه : حدثنا محمد (5) بن أحمد بن محمد القزويني ، حدثنا علي بن الحسين
الجنيد ، حدثنا هشام بن خالد ، حدثنا الوليد ، عن مالك بن أنس ، عن جعفر بن محمد
عن أبيه ، عن جابر ، قال : لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة عند
مقام إبراهيم ، قال له عمر : يا رسول الله ، هذا مقام إبراهيم الذي قال الله : {
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } ؟ قال : "نعم". قال
الوليد : قلت لمالك : هكذا حدثك { وَاتَّخِذُوا } قال : نعم. هكذا وقع في هذه
الرواية. وهو غريب.
وقد روى النسائي من حديث الوليد بن مسلم نحوه (6).
وقال البخاري : باب قوله : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }
مثابة يثوبون يرجعون.
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، أ.
(2) تفسير ابن أبي حاتم (1/370).
(3) ورواه الدارقطني في "الأفراد" كما في "أطراف الغرائب
والأفراد" لابن القيسراني (ق31) وقال : "غريب من حديث أبي إسحاق عن أبي
ميسرة - عمرو بن شرحبيل - عن عمر ، تفرد به زكريا بن أبي زائدة عنه".
(4) في جـ : "خليل الله".
(5) في جـ ، و : "علي"
(6) سنن النسائي (5/236).
(1/414)
حدثنا
مُسدَّد ، حدثنا يحيى ، عن حميد ، عن أنس بن مالك. قال : قال عمر بن الخطاب وافقتُ
ربي في ثلاث ، أو وافقني ربي في ثلاث ، قلت : يا رسول الله ، لو اتخذت من مقام
إبراهيم مصلى ؟ فنزلت : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقلت
: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ؟ فأنزل
الله آية الحجاب. وقال : وبلغني مُعَاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه ،
فدخلت عليهن (1) فقلت : إن انتهيتن أو ليبدلَن الله رسوله خيرًا منكن ، حتى أتيت
إحدى نسائه ، فقالت : يا عمر ، أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تَعظهن أنت ؟!
فأنزل الله : { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا
خَيْرًا مِنْكُنَّ } الآية [ التحريم : 5 ].
وقال ابن أبي مريم : أخبرنا يحيى بن أيوب ، حدثني حميد ، قال : سمعت أنسًا عن عمر
، رضي الله عنهما (2).
هكذا ساقه البخاري هاهنا ، وعلق الطريق الثانية عن شيخه سعيد بن الحكم المعروف
بابن أبي مريم المصري. وقد تفرد بالرواية عنه البخاري من بين أصحاب الكتب الستة.
وروى عنه الباقون بواسطة ، وغرضه من تعليق هذا الطريق ليبين (3) فيه اتصال إسناد
الحديث ، وإنما لم يسنده ؛ لأن يحيى بن أبي أيوب الغافقي فيه شيء ، كما قال الإمام
أحمد فيه : هو سيئ الحفظ ، والله أعلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيم ، حدثنا حُمَيد ، عن أنس ، قال : قال عمر رضي
الله عنه (4) وافقت ربي عز وجل في ثلاث ، قلت : يا رسول الله ، لو اتخذنا من مقام إبراهيم
مصلى ؟ فنزلت : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقلت : يا
رسول الله ، إن نساءكَ يدخلُ عليهن البر والفاجر ، فلو أمرتهن أن يحتجبن ؟ فنزلت
آية الحجاب. واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهن :
{ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ
} [ التحريم : 5 ] فنزلت كذلك (5) ثم رواه أحمد ، عن يحيى وابن أبي عدي ، كلاهما
عن حميد ، عن أنس ، عن عمر أنه قال : وافقت ربي في ثلاث ، أو وافقني ربي في ثلاث
فذكره (6).
وقد رواه البخاري عن عَمْرو بن عَوْن والترمذي عن أحمد بن منيع ، والنسائي عن
يعقوب بن إبراهيم الدورقي ، وابن ماجه عن محمد بن الصباح ، كلهم عن هُشَيم بن بشير
، به (7). ورواه الترمذي - أيضًا - عن عبد بن حُميد ، عن حجاج بن مِنهال ، عن حماد
بن سلمة ، والنسائي عن هناد ، عن
__________
(1) في جـ : "عليهن بالحجاب".
(2) صحيح البخاري برقم (4483).
(3) في جـ : "ليتبين".
(4) في جـ : رضي الله عنهما".
(5) المسند (1/23).
(6) رواية يحيى في المسند (1/36) ورواية ابن أبي عدي (1/24).
(7) صحيح البخاري برقم (4916) وسنن الترمذي برقم (2960) وسنن النسائي الكبرى برقم
(11611) وسنن ابن ماجة برقم (1009).
(1/415)
يحيى
بن أبي زائدة ، كلاهما عن حميد ، وهو ابن تيرويه الطويل ، به (1). وقال الترمذي :
حسن صحيح. ورواه الإمام علي بن المديني عن يزيد بن زُرَيع ، عن حميد به. وقال :
هذا من صحيح الحديث ، وهو بصري ، ورواه الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه بسند آخر ،
ولفظ آخر ، فقال : حدثنا عقبة بن مُكْرَم ، أخبرنا سعيد بن عامر ، عن جويرية بن
أسماء ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن عمر ، قال : وافقت ربي في ثلاث : في الحجاب ،
وفي أسارى بدر ، وفي مقام إبراهيم (2).
وقال أبو حاتم الرازي : حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، حدثنا حميد الطويل عن
أنس بن مالك قال : قال عمر بن الخطاب : وافقني ربي في ثلاث - أو وافقت ربي - قلت
(3) يا رسول الله ، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ؟ فنزلت : { وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقلت : يا رسول الله لو حجبت النساء ؟ فنزلت آية
الحجاب. والثالثة : لما مات عبد الله بن أبي جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليصلي عليه. قلت : يا رسول الله ، تصلي على هذا الكافر المنافق! فقال :
"إيهًا عنك يا بن الخطاب" ، فنزلت : { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم
مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } [ التوبة : 84 ] (4).
وهذا إسناد صحيح أيضًا ، ولا تعارض بين هذا ولا هذا ، بل الكل صحيح ، ومفهوم العدد
إذا عارضه منطوق قُدم عليه ، والله أعلم.
وقال ابن جريج (5) أخبرني جعفر بن محمد ، عن أبيه عن جابر : أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ، ومشى أربعًا ، حتى إذا فرغ عَمَد إلى مقام إبراهيم
فصلى خلفه ركعتين ، ثم قرأ : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }
وقال ابن جرير : حدثنا يوسف بن سلمان (6) حدثنا حاتم بن إسماعيل ، حدثنا جعفر بن
محمد عن أبيه ، عن جابر قال : استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن ، فرمل
ثلاثًا ، ومشى أربعًا ، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم ، فقرأ : { وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فجعل المقام بينه وبين البيت ، فصلى ركعتين.
وهذا قطعة من الحديث الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه ، من حديث حاتم بن إسماعيل
(7).
وروى البخاري بسنده ، عن عمرو بن دينار ، قال : سمعت ابن عمر يقول : قدم رسول الله
صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا ، وصلى خلف المقام ركعتين (8).
فهذا كله مما يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحَجَرُ الذي كان إبراهيم عليه
السلام ، يقوم عليه
__________
(1) سنن الترمذي برقم (2959) وسنن النسائي الكبرى برقم (10998).
(2) صحيح مسلم برقم (2399).
(3) في ط : "فقلت".
(4) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (7/88) من طريق أبي حاتم الرازي به.
(5) في جـ : "ابن جرير".
(6) في جـ ، ط : "سليمان".
(7) تفسير الطبري (3/36) وصحيح مسلم برقم (1218).
(8) صحيح البخاري برقم (395 ، 1793).
(1/416)
لبناء
الكعبة ، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل ، عليه السلام ، به ليقومَ فوقه ويناوله
الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار ، كلَّما كَمَّل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى
، يطوف حول الكعبة ، وهو واقف عليه ، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي
تليها هكذا ، حتى تم جدارات الكعبة ، كما سيأتي بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في
بناء البيت ، من رواية ابن عباس عند البخاري. وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه ، ولم
يزل هذا معروفًا تعرفه العرب في جاهليتها ؛ ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المعروفة
اللامية :
ومَوطئُ إبراهيم في الصخر رطبة... على قدميه حافيًا غير ناعل (1)
وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضا. وقال (2) عبد الله بن وهب : أخبرني يونس بن يزيد
، عن ابن شهاب : أن أنس بن مالك حدثهم ، قال : رأيت المقام فيه أثر أصابعه عليه
السلام ، وإخْمَص قدميه ، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم.
وقال ابن جرير : حدثنا بشر بن معاذ ، حدثنا يزيد بن زُرَيع ، حدثنا سعيد ، عن
قتادة : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } إنما أمروا أن يصلوا
عنده ولم يؤمروا بمسحه. ولقد تكلفت هذه الأمة شيئًا ما تكلفته الأمم قبلها ، ولقد
ذُكِرَ لنا من رأى أثر عَقِبِه وأصابعه فيه (3) فما زالت هذه الأمة يمسحونه حتى
اخلولق وانمحى.
قلت : وقد كان المقام ملصقًا بجدار الكعبة قديمًا ، ومكانه معروف اليوم إلى جانب
الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك ، وكان الخليل
، عليه السلام (4) لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة أو أنه انتهى عنده
البناء فتركه هناك ؛ ولهذا - والله أعلم - أمر بالصلاة هناك عند فراغ الطواف ،
وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه ، وإنما أخره عن جدار
الكعبة أمير المؤمنين عُمَرُ بن الخطاب رضي الله عنه (5) [وهو] (6) أحدُ الأئمة
المهديين والخلفاء الراشدين ، الذين أُمِرْنا باتباعهم ، وهو أحد الرجلين اللذين
قال فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اقتدوا باللَّذَين من بعدي أبي
بكر وعمر". وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده ؛ ولهذا لم ينكر ذلك
أحد من الصحابة ، رضي الله عنهم أجمعين.
قال عبد الرزاق ، عن ابن جُرَيج ، حدثني عطاء وغيره من أصحابنا : قالوا : أول من
نقله عمر بن الخطاب رضي الله عنه (7) وقال عبد الرزاق أيضًا عن معمر عن حَمِيد
الأعرج ، عن مجاهد قال : أول من أخر المقام إلى موضعه الآن ، عمر بن الخطاب رضي
الله عنه (8).
__________
(1) البيت في السيرة النبوية لابن هشام (1/273).
(2) في جـ ، ط : "كما قال".
(3) في جـ ، ط : "فيها".
(4) في جـ : "عليه الصلاة والسلام".
(5) في جـ : "رضي الله تعالى عنه".
(6) زيادة من جـ.
(7) المصنف لعبد الرزاق برقم (8955).
(8) المصنف لعبد الرزاق برقم (8953).
(1/417)
وقال
الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (1) أخبرنا أبو [الحسين بن] (2)
الفضل القطان ، أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن كامل ، حدثنا أبو إسماعيل محمد بن
إسماعيل السلمي ، حدثنا أبو ثابت ، حدثنا الدراوردي ، عن هشام بن عروة عن أبيه عن
عائشة رضي الله عنها : أن المقام كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان
أبي بكر ملتصقًا بالبيت ، ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهذا إسناد صحيح مع
ما تقدم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر العَدَني قال : قال سفيان -
[يعني ابن عيينة] (3) وهو إمام المكيين في زمانه - كان المقام في (4) سُقْع البيت
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله
عليه وسلم وبعد قوله : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } قال :
ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا ، فرده عمر إليه.
وقال سفيان : لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله. قال سفيان : لا أدري أكان
(5) لاصقًا بها أم لا ؟ (6).
فهذه الآثار متعاضدة على ما ذكرناه ، والله أعلم.
وقد قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا أبو عَمْرو ، حدثنا محمد بن عبد
الوهاب ، حدثنا آدم ، حدثنا شريك ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، قال : قال
عمر : يا رسول الله لو صلينا خلف المقام ؟ فأنزل الله : { وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فكان المقام عند البيت فحوله رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى موضعه هذا. قال مجاهد : قد كان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن (7).
هذا مرسل عن مجاهد ، وهو مخالف لما تقدم من رواية عبد الرزاق ، عن معمر ، عن حميد
الأعرج ، عن مجاهد أن أول من أخَّر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله
عنه وهذا أصح من طريق ابن مَرْدُويه ، مع اعتضاد هذا بما تقدم ، والله أعلم (8).
{ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِين وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ
الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ
كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ (126) }
__________
(1) في أ ، و : "علي بن الحسين".
(2) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(3) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(4) في هـ : "من" وهو خطأ.
(5) في جـ : "إن كان".
(6) تفسير ابن أبي حاتم (1/372).
(7) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (8/169) : "إسناده ضعيف".
(8) وقد ألف سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله - رسالتين فيما
يتعلق بالمقام : الأولى : في جواز نقل المقام سماها : "الجواب المستقيم في
جواز نقل مقام إبراهيم" مطبوعة ضمن فتاواه (5/17 - 55). والثانية : في الرد
على الشيخ سليمان بن حمدان في اعتراضه على رسالة الشيخ عبد الرحمن المعلمي في جواز
نقل المقام سماها : "نصيحة الإخوان ببيان بعض ما في نقض المباني لابن حمدان
من الخبط والجهل والبهتان" مطبوعة ضمن فتاواه (5/56 - 132) وهما رسالتان
قيمتان حشد فيهما - رحمه الله - جواز نقل المقام ، واستشهد بكلام الحافظ ابن كثير
هنا وكلام الحافظ ابن حجر في فتح الباري ، وهما تدلان على تبحره وسعة علمه - رحمه
الله وأسكنه فسيح جناته.
(1/418)
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) }
(1/418)
قال
الحسن البصري : قوله : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } قال :
أمرهما الله أن يطهراه من الأذى والنَّجَس ولا يصيبه من ذلك شيء.
وقال ابن جريج : قلت لعطاء : ما عهده ؟ قال : أمره.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ } أي :
أمرناه. كذا قال. والظاهر أن هذا الحرف إنما عُدِّيَ بإلى ، لأنه في معنى تقدمنا
وأوحينا.
وقال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قوله : { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ } قال : من الأوثان.
وقال مجاهد وسعيد بن جُبَير : { طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } إن ذلك من
الأوثان والرفث وقول الزور والرجس.
قال ابن أبي حاتم : ورُوي عن عُبَيد بن عمير ، وأبي العالية ، وسعيد بن جبير ،
ومجاهد ، وعطاء وقتادة : { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ } أي : بلا إله إلا الله ، من
الشرك.
وأما قوله تعالى : { لِلطَّائِفِينَ } فالطواف بالبيت معروف. وعن سعيد بن جبير أنه
قال في قوله تعالى : { لِلطَّائِفِينَ } يعني : من أتاه من غُرْبة ، {
وَالْعَاكِفِينَ } المقيمين فيه. وهكذا روي عن قتادة ، والربيع بن أنس : أنهما
فسرا العاكفين بأهله المقيمين فيه ، كما قال سعيد بن جبير.
وقال يحيى [بن] (1) القطَّان ، عن عبد الملك - هو ابن أبي سليمان - عن عطاء في
قوله : { وَالْعَاكِفِينَ } قال : من انتابه (2) من الأمصار فأقام عنده (3) وقال
لنا - ونحن مجاورون - : أنتم من العاكفين.
وقال وكيع ، عن أبي بكر الهذلي عن عطاء عن ابن عباس قال : إذا كان جالسًا فهو من
العاكفين.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ،
حدثنا ثابت قال : قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير : ما أراني إلا مُكَلِّم الأمير
أن أمنع الذين ينامون في
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في جـ ، أ : "من أتى".
(3) في أ : "فأقام عندنا".
(1/419)
المسجد
الحرام فإنهم يجنبون (1) ويُحدثون. قال : لا تفعل ، فإن ابن عمر سئل عنهم ، فقال :
هم العاكفون.
[ورواه عبد بن حميد عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة ، به] (2).
قلت : وقد ثبت في الصحيح أنّ ابن عمرَ كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم
وهو عَزَب (3).
وأما قوله تعالى : { وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } فقال وكيع ، عن أبي بكر الهذلي ،
عن عطاء ، عن ابن عباس { وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } قال : إذا كان مصليًا فهو من
الركع السجود. وكذا قال عطاء وقتادة.
وقال ابن جَرير رحمه الله : فمعنى الآية : وأمَرْنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي
للطائفين. والتطهير الذي أمرهما به في البيت هو تطهيرُه من الأصنام وعبادة الأوثان
فيه ومن الشرك. ثم أورد سؤالا فقال : فإن قيل : فهل كان قبل بناء إبراهيم عند
البيت شيء من ذلك الذي أمر بتطهيره منه ؟ وأجاب بوجهين : أحدهما : أنه أمرهما
بتطهيره مما كان يعبد عنده زَمَان قوم نوح من الأصنام والأوثان ليكون ذلك سُنَّة
لمن بعدهما إذ كان الله تعالى قد جعل إبراهيم إمامًا يقتدى به كما قال عبد الرحمن
بن زيد : { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ } قال : من الأصنام التي يعبدون ، التي كان
المشركون يعظمونها.
قلت : وهذا الجواب مُفَرَّع على أنه كان يُعْبَدُ عنده أصنام قبل إبراهيم عليه
السلام ، ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم.
الجواب الثاني : أنه أمرهما أن يخلصا [في] (4) بنائه لله وحده لا شريك له ، فيبنياه
مطهرًا من الشرك والرَّيْب ، كما قال جل ثناؤه : { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ
عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ
عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } [ التوبة : 109 ] قال : فكذلك قوله : { وَعَهِدْنَا
إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ } أي : ابنيا بيتي على
طهر من الشرك بي والريب ، كما قال السدي : { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ } ابنيا بيتي
للطائفين.
وملخص هذا الجواب : أن الله تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، أن يبنيا
الكعبة على اسمه وحده لا شريك له للطائفين به والعاكفين عنده ، والمصلين إليه من
الركع السجود ، كما قال تعالى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ
الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ
وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } الآيات [ الحج : 26 - 37 ].
[وقد اختلف الفقهاء : أيما أفضل ، الصلاة عند البيت أو الطواف ؟ فقال مالك :
الطواف به لأهل الأمصار أفضل من الصلاة عنده ، وقال الجمهور : الصلاة أفضل مطلقا ،
وتوجيه كل منهما يذكر في كتاب الأحكام] (5).
__________
(1) في جـ : "فإنهم يخبثون".
(2) زيادة من و.
(3) صحيح البخاري برقم (440).
(4) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(5) زيادة من أ.
(1/320)
والمراد
من ذلك الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته ، المؤسس على عبادته
وحده لا شريك له ، ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه ، كما قال تعالى : { إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ
فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الحج : 25 ].
ثم ذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد الله وحده لا شريك له ، إما بطواف أو صلاة ،
فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة : قيامها ، وركوعها ، وسجودها ، ولم يذكر
العاكفين لأنه تقدم { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } وفي هذه الآية
الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين ، واجتزأ بذكر الركوع والسجود عن القيام ؛ لأنه قد
علم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام. وفي ذلك - أيضًا - رَدّ على من لا
يحجه من أهل الكتابين : اليهود والنصارى ؛ لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل
وعظمته ، ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وغير ذلك وللاعتكاف
والصلاة عنده وهم لا يفعلون شيئًا من ذلك ، فكيف يكونون (1) مقتدين بالخليل ، وهم
لا يفعلون ما شرع الله له ؟ وقد حَجَّ البيتَ موسى بن عمران وغيره من الأنبياء
عليهم السلام ، كما أخبر بذلك المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى { إِنْ هُوَ إِلا
وَحْيٌ يُوحَى } [ النجم : 4 ].
وتقدير الكلام إذًا : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } [أي :
تقدمنا لوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل] (2) { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ
وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } أي : طهراه من الشرك والريب وابنياه
خالصًا لله ، معقلا للطائفين والعاكفين والركع السجود. وتطهير المساجد مأخوذ من
هذه الآية ، ومن قوله تعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ
وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } [
النور : 36 ] ومن السنة من أحاديث كثيرة ، من الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك ،
من صيانتها من الأذى والنجاسات (3) وما أشبه ذلك. ولهذا قال عليه السلام :
"إنما بنيت المساجد لما بنيت له" (4). وقد جَمَعْتُ في ذلك جزءًا على
حدة ولله الحمد والمنة.
وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة ، فقيل : الملائكة قبل آدم ، وروي هذا عن
أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين ، ذكره القرطبي وحكى لفظه ، وفيه غرابة ،
وقيل : آدم عليه السلام رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء وسعيد بن المسيب
وغيرهم : أن آدم بناه من خمسة أجبل : من حراء وطور سيناء وطور زيتا وجبل لبنان
والجودي ، وهذا غريب أيضًا. وروي نحوه عن ابن عباس وكعب الأحبار وقتادة وعن وهب بن
منبه : أن أول من بناه شيث ، عليه السلام ، وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب
أهل الكتاب ، وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها ، وأما إذا صح
حديث في ذلك فعلى الرأس والعين.
__________
(1) في جـ : "فكيف يكون".
(2) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(3) في جـ : "والنجاسة".
(4) رواه مسلم في صحيحه برقم (569) من حديث بريدة رضي الله عنه.
(1/421)
وقوله
تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا
وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ }
قال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدي ،
حدثنا سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "إن إبراهيم حَرَّم بيت الله وأمَّنَه وإني حرمت المدينة ما بين
لابتيها فلا يُصَادُ صيدها ولا يقطع عضاهها" (1).
وهكذا رواه النسائي ، عن محمد بن بشار عن بُنْدَار به (2).
وأخرجه مسلم ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، وعَمْرو الناقد ، كلاهما عن أبي أحمد
الزبيري ، عن سفيان الثوري (3).
وقال ابن جرير - أيضًا - : حدثنا أبو كُرَيْب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس ،
وحدثنا أبو كريب ، حدثنا عبد الرحيم الرازي ، قالا جميعًا : سمعنا أشعث عن نافع عن
أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن إبراهيم كان عبد
الله وخليله وإني عبدُ الله ورسوله وإن إبراهيم حَرَّم مكة وإني حرمت المدينة ما
بين لابتيها ، عضاهَها وصيدَها ، لا يحمل فيها سلاح لقتال ، ولا يقطع منها شجرة
إلا لعلف بعير" (4).
وهذه الطريق غريبة ، ليست في شيء من الكتب الستة ، وأصل الحديث في صحيح مسلم من
وجه آخر ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : كان الناس إذا رأوا أول الثمر ،
جاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : "اللهم بارك لنا في ثمرنا ، وبارك لنا في مدينتنا ، وبارك لنا في
صاعنا ، وبارك لنا في مُدِّنا ، اللهم إن إبراهيمَ عبدُك وخليلك ونبيك ، وإني عبدك
ونبيك وإنه دعاك لمكة وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه" ثم
يدعو أصْغَرَ وليد له ، فيعطيه ذلك الثمر. وفي لفظ : "بركة مع بركة" ثم
يعطيه أصغر من يحضره من الولدان. لفظ مسلم (5).
ثم قال ابن جرير : حدثنا أبو كُريب ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا بكر بن مضر ، عن
ابن الهاد ، عن أبي بكر بن محمد ، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، عن رافع بن
خَديج ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن إبراهيم حرم مكة ،
وإني أحرم ما بين لابتيها".
انفرد بإخراجه مسلم ، فرواه عن قتيبة ، عن بكر بن مضر ، به (6). ولفظه كلفظه سواء.
وفي
__________
(1) تفسير الطبري (3/48) واللابتان : هما الحرتان بجانبي المدينة ، والعضاة : كل
شجر عظيم له شوك ، وقيل : العظيم من الشجر مطلقا.
(2) سنن النسائي الكبرى برقم (4284).
(3) صحيح مسلم برقم (1362).
(4) تفسير الطبري (3/48).
(5) صحيح مسلم برقم (1373).
(6) تفسير الطبري (3/49).
(1/422)
الصحيحين
عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة : "التمس
لي غلامًا من غلمانكم يخدمني" فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه ، فكنت أخدم
رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل. وقال في الحديث : ثم أقْبَلَ حتى إذا بدا
له أُحد قال : "هذا جبل يُحبُّنا ونحبه". فلما أشرف على المدينة قال :
"اللهم إني أحرم ما بين جبليها ، مثلما حرم به إبراهيم مكة ، اللهم بارك لهم
في مُدِّهم وصاعهم". وفي لفظ لهما : "اللهم بارك لهم في مكيالهم ، وبارك
لهم في صاعهم ، وبارك لهم في مدهم". زاد البخاري : يعني : أهل المدينة (1).
ولهما أيضا عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "اللهم اجعل
بالمدينة ضِعْفَي ما جعلته بمكة من البركة" (2) وعن عبد الله بن زيد بن عاصم
، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن إبراهيم حرم مكة ودعا
لها ، وحَرَّمتُ (3) المدينة كما حرم إبراهيم مكة ، ودعوت (4) لها في مدها وصاعها
(5) مثل ما دعا إبراهيم لمكة"
رواه البخاري وهذا لفظه (6) ، ومسلم ولفظه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
: "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها. وإني حرَّمتُ المدينة كما حرم إبراهيم
مكة ، وإني دعوت لها في صاعها ومدها بمثل ما دعا إبراهيم لأهل مكة" (7).
وعن أبي سعيد ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "اللهم
إنَّ إبراهيم حَرَّم مكة فجعلها حرامًا ، وإني حرمت المدينة حرامًا ما بين مأزميها
، لا يهراق فيها دم ، ولا يحمل فيها سلاح لقتال ، ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف.
اللهم بارك لنا في مدينتنا ، اللهم بارك لنا في صاعنا ، اللهم بارك لنا في مُدِّنا
، اللهم اجعل مع البركة بركتين". الحديث رواه مسلم (8).
والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة ، وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم
، عليه السلام ، لمكة ، لما في ذلك في مطابقة الآية الكريمة.
[وتَمسَّك بها من ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل ، وقيل :
إنها محرمة منذ خلقت مع الأرض وهذا أظهر وأقوى] (9).
وقد وردت أحاديث أخَرُ تدل على أن الله تعالى حرم مكة قبل خلق السموات والأرض ،
كما
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1361).
(2) صحيح البخاري برقم (1885) وصحيح مسلم برقم (1369).
(3) في جـ ، ط : "وإني حرمت".
(4) في جـ ، ط : "وإني دعوت".
(5) في جـ ، ط : "صاعها ومدها".
(6) صحيح البخاري برقم (2129).
(7) صحيح مسلم برقم (1360).
(8) صحيح مسلم برقم (1374).
(9) زيادة من جـ ، ط ، أ.
(1/423)
جاء
في الصحيحين ، عن عبد الله بن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم يوم فتح مكة : "إن هذا البلد حَرَّمه الله يوم خلق السموات
والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. وإنه لم يحِل القتال فيه لأحد قبلي
، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. لا يُعْضَد
شوكه ولا ينفر صيده ، ولا تُلْتَقَط لُقَطَتُه إلا من عرَّفها ، ولا يختلى
خَلاهَا" فقال العباس : يا رسول الله ، إلا الإذْخَر فإنه لقَينهم ولبيوتهم.
فقال : "إلا الإذخر" وهذا لفظ مسلم (1).
ولهما عن أبي هريرة نحو من ذلك (2).
ثم قال البخاري بعد ذلك : قال (3) أبان بن صالح ، عن الحسن بن مسلم ، عن صفية بنت
شيبة : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله (4).
وهذا الذي علقه البخاري رواه الإمام أبو عبد الله بن ماجة ، عن محمد بن عبد الله
بن نُمَير ، عن يونس بن بُكَيْر ، عن محمد بن إسحاق ، عن أبان بن صالح ، عن الحسن
بن مسلم بن يَنَّاق ، عن صفية بنت شيبة ، قالت : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم
يخطب عام الفتح ، فقال : "يا أيها الناس ، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات
والأرض ، فهي حَرَام إلى يوم القيامة ، لا يُعْضَد شجرها ولا يُنَفَّر صيدُها ،
ولا يأخذ لُقَطَتَها إلا مُنْشِد" فقال العباس : إلا الإذخر ؛ فإنه للبيوت
والقبور. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إلا الإذْخَر" (5).
وعن أبي شُرَيح العدوي أنَّه قال لعَمْرو بن سعيد - وهو يبعث البعوث إلى مكة - :
ائذن لي - أيها الأمير - أن أحدثَك قولا قام به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
الغَد من يوم الفتح ، سَمِعَته أذناي ووعاه قلبي ، وأبصرته عيناي حين تَكَلَّم به
، إنه حمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : "إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس ،
فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا ، ولا يعضد بها شجرة ،
فإن أحد تَرَخَّصَ بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : إن الله أذن
لرسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لكم. وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ، وقد
عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد الغائب". فقيل لأبي شُرَيح
: ما قال لك عمرو ؟ قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح ، إن الحرم لا يعيذ
عاصيًا ، ولا فارًّا بدم ، ولا فارًّا بخَرَبَة.
رواه البخاري ومسلم ، وهذا لفظه (6).
فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث الدالة على أن الله حَرَّم مكة يوم خلق
السموات
__________
(1) صحيح البخاري برقم (1834 ، 1587 ، 3189 ، 3077) وصحيح مسلم برقم (1353).
(2) صحيح البخاري برقم (112 ، 6880) وصحيح مسلم برقم (1355).
(3) في جـ ، ط : "وقال".
(4) صحيح البخاري برقم (1349).
(5) سنن ابن ماجة برقم (3109).
(6) صحيح البخاري برقم (1832) وصحيح مسلم برقم (1354).
(1/424)
والأرض
، وبين الأحاديث الدالة على أن إبراهيم ، عليه السلام ، حَرَّمها ؛ لأن إبراهيم
بَلَّغ عن الله حُكْمه فيها وتحريمه إياها ، وأنها لم تزل بلدًا حرامًا عند الله
قبل بناء إبراهيم ، عليه السلام ، لها ، كما أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم مكتوبًا عند الله خاتم النبيين ، وإن آدم لمنجَدل في طينته ، ومع هذا قال
إبراهيم ، عليه السلام : { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ } وقد
أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقَدَره. ولهذا جاء في الحديث أنهم قالوا : يا
رسول الله ، أخبرنا عن بَدْءِ أمرك. فقال : "دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى
ابن مريم ، ورأت أمي كأنه (1) خرج منها نور أضاء ت له قصور الشام".
أي : أخْبِرْنا عن بدء ظهور أمرك. كما سيأتي قريبًا ، إن شاء الله.
وأما مسألة تفضيل مَكَّة على المدينة ، كما هو قول الجمهور ، أو المدينة على مكة ،
كما هو مذهب مالك وأتباعه ، فتذكر في موضع آخر بأدلتها ، إن شاء الله ، وبه الثقة.
وقوله : تعالى إخبارًا عن الخليل أنه قال : { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا
} أي : من الخوف ، لا يَرْعَبُ أهله ، وقد فعل الله ذلك شرعًا وقدرًا. كقوله تعالى
(2) { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } [ آل عمران : 97 ] وقوله { أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [
العنكبوت : 67 ] إلى غير ذلك من الآيات. وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيها.
وفي صحيح مسلم عن جابر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا يحل
لأحد أن يحمل بمكة السلاح" (3). وقال في هذه السورة : { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا
بَلَدًا آمِنًا } أي : اجعل هذه البقعة بلدًا آمنًا ، وناسب هذا ؛ لأنه قبل بناء
الكعبة. وقال تعالى في سورة إبراهيم : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ
هَذَا بَلَدًا آمِنًا } [ إبراهيم : 35 ] وناسب هذا هناك لأنه ، والله أعلم ، كأنه
وقع دعاء ثانًيا (4) بعد بناء البيت واستقرار أهله به ، وبعد مولد إسحاق الذي هو
أصغر سنًّا من إسماعيل بثلاث عشرة سنة ؛ ولهذا قال في آخر الدعاء : { الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ
رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ } [ إبراهيم : 39 ]
وقوله تعالى : { وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ
أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب : {
قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قليلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النَّارِ
وَبِئسَ الْمَصِير } قال : هو قول الله تعالى. وهذا قول مجاهد وعكرمة وهو الذي
صوبه ابن جرير ، رحمه الله تعالى : قال : وقرأ آخرون : { قَالَ وَمَنْ كَفَرَ
فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ } فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم ، كما رواه أبو جعفر ، عن الربيع ،
عن أبي العالية قال : كان ابن عباس يقول : ذلك قول إبراهيم ، يسأل ربه أن من كفر
فأمتعه قليلا.
__________
(1) في جـ : "كأنها".
(2) في جـ : "كما قال الله تعالى" ، وفي طـ : "لقوله تعالى".
(3) صحيح مسلم برقم (1356).
(4) في جـ ، طـ ، أ : "دعاء مرة ثانية".
(1/425)
وقال
أبو جعفر ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : { وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ
قَلِيلا } يقول : ومن كفر فأرزقه أيضًا { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ
النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
وقال محمد بن إسحاق : لما عزل إبراهيم ، عليه السلام ، الدعوة عمَّن أبى الله أن
يجعل له الولاية - انقطاعًا إلى الله ومحبته ، وفراقًا لمن خالف أمره ، وإن كانوا
من ذريته ، حين عرف أنه كائن منهم أنه ظالم ألا يناله عهدُه ، بخبر الله له بذلك -
قال الله : ومن كفر فإني أرزق البر والفاجر وأمتعه قليلا.
وقال حاتم بن إسماعيل عن حُمَيد الخرَّاط ، عن عَمَّار الدُّهْني ، عن سعيد بن
جبير ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا
وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ } قال ابن عباس : كان إبراهيم يحجُرها على المؤمنين دون الناس ، فأنزل
الله ومن كفر أيضًا أرزقهم كما أرزق المؤمنين أأخلق خلقًا لا أرزقهم ؟! أمتعهم
قليلا ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير. ثم قرأ ابن عباس : { كُلا نُمِدُّ
هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا
} [ الإسراء : 20 ]. رواه ابن مَرْدُويه. ورُوي عن عكرمة ومجاهد نحو ذلك أيضًا.
وهذا كقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا
يُفْلِحُونَ* مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ
نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [ يونس : 69 ، 70
] ، وقوله تعالى : { وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا
مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ
الصُّدُورِ* نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [
لقمان : 23 ، 24 ] ، وقوله : { وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً
لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ
وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ* وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا
عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ* وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } [ الزخرف : 33
، 35 ]
وقوله { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي : ثم
ألجئه بعد متاعه في الدنيا وبسطنا عليه من ظلها إلى عذاب النار وبئس المصير.
ومعناه : أن الله تعالى يُنْظرُهم ويُمْهلهُم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، كقوله
تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ
أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ الحج : 48 ] ، وفي الصحيحين : "لا أحد
أصبر على أذى سمعه من الله ؛ إنهم يجعلون له ولدا ، وهو يرزقهم ويعافيهم" (1)
وفي الصحيح أيضًا : "إن الله ليملي (2) للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته".
ثم قرأ قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ
ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ] (3).
وأما قوله تعالى : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ
وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ*رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً
مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }
__________
(1) سبق تخريج هذا الحديث قريبا.
(2) في جـ ، طـ : "يملي".
(3) صحيح البخاري برقم (4686) وصحيح مسلم برقم (2583) من حديث أبي موسى الأشعري
رضي الله عنه.
(1/426)
فالقواعد
: جمع قاعدة ، وهي السارية والأساس ، يقول تعالى : واذكر - يا محمد - لقومك بناء
إبراهيم وإسماعيل ، عليهما السلام ، البيت ، ورفْعَهما القواعدَ منه ، وهما يقولان
: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فهما في
عمل صالح ، وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما ، كما روى ابن أبي حاتم من حديث
محمد بن يزيد بن خنيس المكي ، عن وهيب بن الورد : أنه قرأ : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ
الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } ثم يبكي
ويقول : يا خليل الرحمن ، ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مُشْفق أن لا يتقبل منك.
وهذا كما حكى الله تعالى عن حال المؤمنين المخلصين (1) في قوله تعالى : {
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا } أي : يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات
والقربات { وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } [ المؤمنون : 60 ] أي : خائفة ألا يتقبل
منهم. كما جاء به الحديث الصحيح ، عن عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما
سيأتي في موضعه.
وقال بعض المفسرين : الذي كان يرفع القواعد هو إبراهيم ، والداعي إسماعيل. والصحيح
أنهما كانا يرفعان ويقولان ، كما سيأتي بيانه.
وقد روى البخاري هاهنا حديثًا سنورده ثم نُتْبِعه بآثار متعلقة بذلك. قال البخاري
، رحمه الله :
حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن أيوب السخيتاني
(2) وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وَدَاعة - يزيد أحدُهما على الآخر - عن سعيد
بن جُبَير ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : أول ما (3) اتخذ النساء
المنْطَق من قبَل أم إسماعيل ، عليهما (4) السلام اتخذت منطقًا ليعفي أثرها على
سارة. ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل ، عليهما السلام ، وهي ترضعه ، حتى
وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زَمْزم في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد ،
وليس بها ماء فوضعهما هنالك ، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر وسِقَاء فيه ماء ، ثم
قَفَّى إبراهيم ، عليه السلام ، منطلقًا. فتبعته أم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم ،
أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء ؟ فقالت له ذلك مرارًا ،
وجعل لا يلتفت إليها. فقالت (5) آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم. قالت : إذًا لا
يضيعنا. ثم رجعت. فانطلق إبراهيم ، عليه السلام ، حتى إذا كان عند الثنية حيث لا
يرونه ، استقبل بوجهه البيت ، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ، ورفع يديه ، قال : {
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ
بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ
النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ
يَشْكُرُونَ } [ إبراهيم : 37 ] ، وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل ، عليهما السلام
، وتشرب من ذلك الماء ، حتى إذا نفد ماء السقاء (6) عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر
إليه يتلوى -
__________
(1) في أ ، و : "الخلص".
(2) في أ ، و : "السختياني".
(3) في جـ : "أول من".
(4) في جـ : "عليه".
(5) في أ : "فقالت له".
(6) في أ ، و : "نفد ما في السقاء".
(1/427)
أو
قال : يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقربَ جبل في الأرض
يليها (1) فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا ؟ فلم تر أحدًا.
فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طَرْفَ درعها ، ثم سعت سَعْيَ الإنسان
المجهود حتى جاوزت الوادي. ثم أتت المروة ، فقامت عليها ونظرت هل ترى أحَدًا ؟ فلم
تر أحدًا. ففعلت ذلك سبع مرات ، قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم :
"فلذلك سعى الناس بينهما".
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت : صه ، تريد نفسها ، ثم تَسَمَّعت فسمعَت
أيضًا. فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غُوَاث فإذا هي بالمَلَك عند موضع زمزم ،
فبحث بعقبه - أو قال : بجناحه - حتى ظهر الماء ، فجعلت تُحَوِّضُهُ ، وتقول بيدها
هكذا ، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف. قال ابن عباس : قال
النبي صلى الله عليه وسلم : "يرحم الله أم إسماعيل ، لو تركت زمزم - أو قال :
لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينًا مَعينًا".
قال : فشربت وأرضعت ولدها ، فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة ؛ فإن هاهنا بيتًا
لله ، عز وجل ، يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله ، عز وجل ، لا يضيع أهله. وكان
البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله ، فكانت
كذلك حتى مرت بهم رفقة من جُرْهُم - أو أهل بيت من جُرْهم - مقبلين من طريق
كَدَاء. فنزلوا في أسفل مكة ، فرأوا طائرًا عائفًا ، فقالوا : إن هذا الطائر ليدور
على الماء ، لعَهْدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء. فأرسلوا جَرِيًّا أو جَرِيَّين ،
فإذا هم بالماء. فرجعوا فأخبروهم بالماء ، فأقبلوا. قال : وأم إسماعيل عند الماء. فقالوا
: أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ قالت : نعم ، ولكن لا حَقَّ لكم في الماء. قالوا :
نعم.
قال ابن عباس (2) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "فألفى ذلك أم إسماعيل وهي
تحب الأنس. فنزلوا ، وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم. حتى إذا كان بها أهل أبيات
منهم وشب الغلامُ ، وتعلم العربية منهم ، وأنْفَسَهم وأعجبهم حين شب ، فلما أدرك
زوجوه امرأة منهم. وماتت أم إسماعيل ، عليهما (3) السلام ، فجاء إبراهيم بعد ما
تزوج إسماعيلُ ليطالع تَرْكَتَه. فلم يجد إسماعيل ، فسأل امرأته عنه فقالت : خرج
يبتغي لنا. ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم ، فقالت : نحن بشَرّ ، نحن في ضيق وشدة.
وشكت إليه. قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ، وقولي له : يغير عتبة بابه.
فلما جاء إسماعيل ، عليه السلام ، كأنه أنس شيئًا. فقال : هل جاءكم من أحد ؟ قالت
: نعم ، جاءنا شيخ كذا وكذا ، فسأل (4) عنك ، فأخبرته ، وسألني كيف عيشنا ؟
فأخبرته أنا في جَهْد وشدَّة. قال : فهل أوصاك بشيء ؟ قالت : نعم ، أمرني أن أقرأ
عليك السلام ، ويقول (5) غَيِّرْ عتبة بابك. قال : ذاك أبي. وقد أمرني أن أفارقك ،
فالحقي بأهلك. فَطَلَّقَها وتزوج منهم بأخرى ، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ، ثم
أتاهم بعد فلم يجده. فدخل على امرأته ، فسألها عنه ، فقالت : خرج يبتغي لنا. قال :
كيف أنتم ؟
__________
(1) في جـ : "إليها".
(2) في ط : "عبد الله بن عباس".
(3) في جـ ، ط : "عليها".
(4) في جـ ، ط : "فسألنا".
(5) في أ : "يقول لك".
(1/428)
وسألها
عن عيشهم وَهَيْئَتهم. فقالت : نحن بخير وسعة. وأثنت على الله ، عز وجل. فقال : ما
طعامكم ؟ قالت : اللحم. قال : فما شرابكم ؟ قالت : الماء. قال : اللهم بارك لهم في
اللحم والماء". قال النبي صلى الله عليه وسلم : "ولم يكن لهم يومئذ حَب
، ولو كان لهم ، لدعا لهم فيه. قال : فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم
يوافقاه". قال : "فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ، ومُريه يُثَبِّت
عتبة بابه ، فلما جاء إسماعيل ، عليه السلام ، قال : هل أتاكم من أحد ؟ قالت : نعم
، أتانا شيخ حسن الهيئة ، وأثنت عليه (1) فسألني عنك ، فأخبرته ، فسألني : كيف
عيشنا ؟ فأخبرته أنا بخير. قال : فأوصاك بشيء ؟ قالت : نعم ، هو يقرأ عليك السلام
، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك. قال : ذاك أبي ، وأنت العتبة ، أمرني أن أمسكك. ثم
لَبثَ عنهم ما شاء الله ، عز وجل ، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يَبْرِي نَبْلا (2) له
تحت دوحة قريبًا من زمزم ، فلما رآه قام إليه ، فصنعا كما يصنع الولد بالوالد ،
والوالد بالولد. ثم قال : يا إسماعيل ، إن الله أمرني بأمر. قال : فاصنع ما أمرك
ربك ، عز وجل. قال : وتعينني ؟ قال : وأعينك. قال : فإن الله أمرني أن أبني هاهنا
بيتًا - وأشار إلى أكَمَةٍ مرتفعة على ما حولها - قال : فعند ذلك رَفَعا القواعد
من البيت فجعل (3) إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني ، حتى إذا ارتفع البناء
جاء بهذا الحجر فوضعه له ، فقام عليه وهو يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، وهما
يقولان : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
" قال : "فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت ، وهما يقولان : { رَبَّنَا
تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (4).
[ورواه عبد بن حميد عن عبد الرزاق به مطولا] (5).
ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبي عبد الله محمد بن حمَّاد الظهراني. وابن جرير ، عن
أحمد بن ثابت الرازي ، كلاهما عن عبد الرزاق به مختصرًا (6).
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل ، حدثنا بشر بن موسى
، حدثنا أحمد بن محمد الأزرقي ، حدثنا مسلم بن خالد الزنجي ، عن عبد الملك بن
جُرَيج ، عن كثير بن كثير ، قال : كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان ، وعبد الله بن
عبد الرحمن بن أبي حسين في ناس مع سعيد بن جبير ، في أعلى المسجد ليلا فقال سعيد
بن جبير : سلوني قبل أن لا تروني. فسألوه عن المقام. فأنشأ يحدثهم عن ابن عباس ،
فذكر الحديث بطوله.
ثم قال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد. حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو (7)
حدثنا إبراهيم بن نافع ، عن كثير بن كثير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال :
لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان ، خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ، ومعهم شَنَّة
فيها ماء ، فجعلت أم إسماعيل تشرب من
__________
(1) في جـ : "وأثنت عليه خيرا".
(2) في جـ : "يبني له بيتا".
(3) في جـ : "قال : فجعل".
(4) صحيح البخاري برقم (3364).
(5) زيادة من و.
(6) تفسير ابن أبي حاتم (1/381).
(7) في أ : "بن عمير".
(1/429)
الشنَّة
، فيَدِرُّ لبنها على صبيها ، حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة ، ثم رجع إبراهيم إلى
أهله ، فاتبعته أم إسماعيل ، حتى (1) بلغوا كَدَاء نادته (2) من ورائه : يا
إبراهيم ، إلى من تتركنا ؟ قال : إلى الله ، عز وجل. قالت : رضيت بالله. قال :
فرجَعَتْ ، فجعلت تشرب من الشنة ، ويَدر لبنها على صَبيها حتى لما فَنِي الماء
قالت : لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا. قال : فذهَبَتْ فصَعدت الصفا ، فنظرت ونظرت
هل تحس أحدًا ، فلم تحس أحدًا. فلما بلغت الوادي سَعَت (3) حتى أتت المروة ، ففعلت
ذلك أشواطا ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل ، تعني الصبي ، فذهبت فنظرت فإذا هو
على حاله كأنه يَنْشَغُ للموت ، فلم تقُرَّها نفسها ، فقالت : لو ذهبت فنظرت لعلي
أحس أحدًا. قال : فذهبت فصعدت الصفا ، فنظرت ونَظرت فلم تُحس أحدًا ، حتى أتمت
سبعا ، ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل ، فإذا هي بصوت ، فقالت : أغثْ إن كان عندك
خير. فإذا جبريل ، عليه السلام ، قال : فقال بعقبه هكذا ، وغمز عَقِبَه على الأرض.
قال : فانبثق الماء ، فَدَهَشَتْ أم إسماعيل ، فجعلت تحفر.
قال : فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : "لو تركَتْه لكان الماء ظاهرًا
(4).
قال : فجعلت تشرب من الماء ويَدِرُّ لبنها على صَبِيِّها.
قال : فمر ناس من جُرْهم ببطن الوادي ، فإذا هم بطير ، كأنهم أنكروا ذلك ، وقالوا
: ما يكون الطير إلا على ماء فبعثوا رسولهم فَنَظَرَ ، فإذا هو بالماء. فأتاهم
فأخبرهم. فأتوا إليها فقالوا : يا أم إسماعيل ، أتأذنين لنا أن نكون معك - ونسكن
معك ؟ - فبلغ ابنها ونكح فيهم (5) امرأة.
قال : ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم (6) فقال لأهله : إني مُطَّلع
تَرْكَتي. قال : فجاء فسلم ، فقال : أين إسماعيل ؟ قالت امرأته : ذهب يصيد. قال :
قولي له إذا جاء : غير عتبة بيتك. فلما جاء أخبرته ، قال : أنت ذَاكِ ، فاذهبي إلى
أهلك.
قال : ثم إنه بدا لإبراهيم ، فقال لأهله : إني مُطَّلع تَرْكتي. قال : فجاء فقال :
أين إسماعيل ؟ فقالت امرأته : ذهب يصيد. فقالت : ألا تنزل فَتَطْعَم وتشرب ؟ فقال
: ما طعامكم وما شرابكم ؟ قالت : طعامنا اللحم ، وشرابنا الماء. قال : اللهم بارك
لهم في طعامهم وشرابهم.
قال : فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : "بَرَكة بدعوة إبراهيم"
قال : ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال لأهله : إني مُطَّلع تَرْكتي.
فجاء فوافق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نَبْلا له (7) فقال : يا إسماعيل ، إن ربك ،
عز وجل ، أمرني أن أبني له بيتًا. فقال : أطعْ ربك ، عز وجل. قال : إنه قد أمرني
أن تعينني عليه ؟ فقال : إذن أفعلَ - أو كما قال - قال : فقاما (8) [قال] (9) فجعل
إبراهيم يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، ويقولان : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا
إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
__________
(1) في جـ ، ط : "حتى لما".
(2) في جـ : "سألته".
(3) في جـ : "وسعت".
(4) في جـ : "ظاهر".
(5) في جـ : "منهم".
(6) في جـ ، أ : "عليه السلام".
(7) في جـ : "يصلح بيتا له".
(8) في جـ ، ط : "فقام".
(9) زيادة من جـ ، ط.
(1/430)
قال
: حتى ارتفع البناء وضَعُفَ الشيخ عن نقل الحجارة. فقام على حَجَر المقام ، فجعل
يناوله الحجارة ويقولان : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ }
هكذا (1) رواه من هذين الوجهين في كتاب الأنبياء (2).
والعجب أن الحافظ أبا عبد الله الحاكم رواه في كتابه المستدرك ، عن أبي العباس
الأصم ، عن محمد بن سنان القَزَّاز ، عن أبي علي عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي ،
عن إبراهيم بن نافع ، به. وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه. كذا قال. وقد
رواه البخاري كما ترى ، من حديث إبراهيم بن نافع ، كأن فيه اقتصارًا ، فإنه لم
يذكر فيه [شأن] (3) الذبح. وقد جاء في الصحيح ، أن قرني الكبش كانا معلقين بالكعبة
، وقد جاء أن إبراهيم ، عليه السلام ، كان يزور أهله بمكة على البراق سريعًا (4)
ثم يعود إلى أهله بالبلاد (5) المقدسة ، والله أعلم. والحديث - والله أعلم - إنما
فيه - مرفوع - أماكن صَرح بها ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في هذا السياق ما يخالف بعض هذا ، كما
قال ابن جرير :
حدثنا محمد بن بشار ، ومحمد بن المثنى قالا حدثنا مؤمل ، حدثنا سفيان ، عن أبي
إسحاق ، عن حارثة بن مضرِّب ، عن علي بن أبي طالب ، قال : لما أمر إبراهيم ببناء البيت
، خرج معه إسماعيل وهاجر. قال : فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل
الغمامة ، فيه مثلُ الرأس. فكلمه ، قال : يا إبراهيم ، ابن على ظِلي - أو قال على
قدري - ولا تَزْد ولا تنقص : فلما بنى خرج ، وخلف إسماعيل وهاجر ، فقالت هاجر : يا
إبراهيم ، إلى من تكلنا ؟ قال : إلى الله. قالت : انطلق ، فإنه لا يضيعنا. قال :
فعطش إسماعيل عطشًا شديدًا ، قال : فصعدت هاجر إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئًا ، حتى
أتت المروة فلم تر شيئًا ، ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئًا ، حتى أتت المروة
فلم تر شيئًا ، ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئًا ، حتى فعلت ذلك سبع مرات ،
فقالت : يا إسماعيل ، مت حيث لا أراك. فأتته وهو يفحص برجله من العطش. فناداها
جبريل فقال لها : من أنت ؟ قالت : أنا هاجر أم ولد إبراهيم. قال : فإلى من
وَكَلَكُما ؟ قالت : وكلنا إلى الله. قال : وكلكما إلى كافٍ. قال : ففحص الغلام
الأرض بأصبعه ، فنبعت زمزم. فجعلت تحبس الماء فقال : دعيه فإنها رَوَاء (6).
ففي هذا السياق أنه بنى البيت قبل أن يفارقهما ، وقد يحتمل - إن كان محفوظًا - أن
يكون أولا
__________
(1) في ط : "هكذا".
(2) صحيح البخاري برقم (3365).
(3) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(4) في جـ : "بمكة سريعا على البراق".
(5) في جـ : "ثم يعود لأهله إلى البلاد".
(6) تفسير الطبري (3/69).
(1/431)
وضع
له حوطًا وتحجيرًا ، لا أنه بناه إلى أعلاه ، حتى كبر إسماعيل فبنياه معًا ، كما
قال الله تعالى.
ثم قال ابن جرير : أخبرنا هَنَّاد بن السري ، حدثنا أبو الأحوص ، عن سِماك ، عن
خالد بن عرعرة ، أن رجلا قام إلى علي ، رضي الله عنه ، فقال : ألا تخبرني عن البيت
، أهو أول بيت وضع في الأرض ؟ فقال : لا ولكنه أول بيت وضع فيه البَرَكة (1) ،
مقام إبراهيم ، ومن دخله كان آمنًا ، وإن شئت أنبأتك كيف بني : إن الله أوحى إلى
إبراهيم أن ابن لي بيتًا في الأرض ، قال : فضاق إبراهيم بذلك ذرعًا فأرسل الله
السكينة - وهي ريح خجوج ، ولها رأسان - فأتْبَع أحدهما صاحبه ، حتى انتهت إلى مكة
، فتطوت (2) على موضع البيت كطي الحجفَة ، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر
السكينة. فبنى إبراهيم وبقي حجر ، فذهب الغلام يبغي شيئًا. فقال إبراهيم : أبغني
حجرًا كما آمرك. قال : فانطلق الغلام يلتمس له حجرًا ، فأتاه به ، فوجده قد ركب
الحجر الأسود في مكانه. فقال : يا أبه ، من أتاك بهذا الحجر ؟ فقال : أتاني به من
لن يَتَّكل (3) على بنائك ، جاء به جبريل ، عليه السلام ، من السماء. فأتماه (4).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا حمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان ، عن بشر
بن عاصم ، عن سعيد بن المسيب ، عن كعب الأحبار ، قال : كان البيت غثاءة على الماء
قبل أن يخلق الله الأرض بأربعين عامًا ، ومنه دحيت الأرض.
قال سعيد : وحدثنا علي بن أبي طالب : أن إبراهيم أقبل من أرمينية ، ومعه السكينة
تدله على تَبُوُّء (5) البيت كما تتبوأ العنكبوت بيتًا ، قال : فكشفت عن أحجار لا
يُطيق (6) الحجر إلا ثلاثون رجلا. قلت : (7) يا أبا محمد ، فإن الله يقول : {
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ } قال : كان ذلك بعد.
وقال السدي : إن الله ، عز وجل ، أمر إبراهيم أن يبني [البيت] (8) هو وإسماعيل :
ابنيا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ، فانطلق إبراهيم ، عليه السلام ،
حتى أتى مكة ، فقام هو وإسماعيل ، وأخَذَا المعاول لا يدريان أين البيت ؟ فبعث
الله ريحًا ، يقال لها : ريح الخجوج ، لها جناحان ورأس في صورة حية ، فكشفت لهما
ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول ، واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس.
فذلك حين يقول [الله] (9) تعالى : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ
مِنَ الْبَيْتِ } { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ } [ الحج :
26 ] فلما بنيا القواعد فبلغا مكان الركن. قال إبراهيم لإسماعيل : يا بني ، اطلب
لي حجرًا حسنًا أضعه هاهنا. قال : يا أبت ، إني كسلان لَغب.
__________
(1) في جـ ، ط ، أ ، و : "في البركة".
(2) في أ : "فنظرت".
(3) في جـ : "من لا يتكل".
(4) تفسير الطبري (3/70).
(5) في أ : "حتى بنوا".
(6) في ط : "ولا يطيق".
(7) في جـ ، ط : "فقلت".
(8) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(9) زيادة من جـ.
(1/432)
قال
: عَلَيّ بذلك فانطلق فطلب (1) له حجرًا ، فجاءه بحجر فلم يرضه ، فقال ائتني بحجر
أحسن من هذا ، فانطلق يطلب له حجرًا ، وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند ، وكان
أبيض ، ياقوتة بيضاء مثل الثَّغَامة ، وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا
الناس ، فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن ، فقال : يا أبه ، من جاءك بهذا ؟ قال
: جاء به من هو أنشط منك. فبنيا وهما يدعوان الكلمات التي ابتلى [بهن] (2) إبراهيم
ربه ، فقال : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
وفي هذا السياق ما يدل على أن قواعد البيت كانت مبنية قبل إبراهيم. وإنما هُدِي
إبراهيمُ إليها وبُوِّئ لها. وقد ذهب إلى ذلك (3) ذاهبون ، كما قال الإمام عبد
الرزاق (4) أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَإِذْ
يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ } قال : (5) القواعد التي كانت
قواعد البيت قبل ذلك (6).
وقال عبد الرزاق أيضًا : أخبرنا هشام بن حسان ، عن سوار - ختن عطاء - عن عطاء ابن
أبي رباح ، قال : لما أهبط الله آدم من الجنة ، كانت رجلاه في الأرض ورأسُه في
السماء يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم ، يأنس إليهم ، فهابته (7) الملائكة ، حتى
شكت إلى الله في دعائها وفي صلاتها. فخفضه الله إلى الأرض ، فلما فقد ما كان يسمع
منهم استوحش حتى شكا ذلك إلى الله في دعائه وفي صلاته. فوجه إلى مكة ، فكان موضع
قَدَمه قريةً ، وخَطوُه مفازة ، حتى انتهى إلى مكة ، وأنزل الله ياقوتة من ياقوت
الجنة ، فكانت على موضع البيت الآن. فلم يزل يطوف به حتى أنزل الله الطوفان ،
فرفعت تلك الياقوتة ، حتى بعث الله إبراهيم ، عليه السلام ، فبناه. وذلك قول الله
تعالى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ } [ الحج : 26 ] (8).
وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء ، قال : قال آدم : إني لا أسمع أصوات
الملائكة ؟! قال : بخطيئتك ، ولكن اهبط إلى الأرض ، فابن لي بيتًا ثم احفف به ،
كما رأيت الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء. فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل :
من حراء. وطور زيتا ، وطور سَيْناء ، وجبل لبنان ، والجودي. وكان رَبَضُه من حراء.
فكان هذا بناء آدم ، حتى بناه إبراهيم ، عليه السلام ، بعد (9).
وهذا صحيح إلى عطاء ، ولكن في بعضه نكارَة ، والله أعلم.
وقال عبد الرزاق أيضًا : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : وضع الله البيت مع آدم
حين أهبط الله آدم إلى الأرض ، وكان مهبطه بأرض الهند. وكان رأسه في السماء ورجلاه
في الأرض ، فكانت
__________
(1) في جـ ، ط : "يطلب".
(2) زيادة من جـ.
(3) في جـ : "إلى هذا".
(4) في ط : "عبد الرزاق أيضا وأحمد".
(5) في ط : "قالوا".
(6) تفسير عبد الرزاق (1/78).
(7) في جـ : "فهابت".
(8) رواه الطبري في تفسيره (3/59) من طريق عبد الرزاق به.
(9) رواه الطبري في تفسيره (3/57) من طريق عبد الرزاق به.
(1/433)
الملائكة
تهابه ، فنُقص إلى ستين ذراعًا ؛ فحزن (1) إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم. فشكا
ذلك إلى الله ، عز وجل ، فقال الله : يا آدم ، إني قد أهبطت لك بيتًا تطوف به كما
يُطَاف حول عرشي ، وتصلِّي عنده كما يصلى عند عرشي ، فانطلق إليه آدم ، فخرج
ومُدَّ له في خطوه ، فكان بين كل خطوتين مفازة. فلم تزل تلك المفازة (2) بعد ذلك.
فأتى آدم البيت فطاف به ، ومَن بعده من الأنبياء (3).
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد (4) حدثنا يعقوب القُمِّي ، عن حفص بن حميد ، عن
عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : وضع الله البيت على أركان الماء ، على أربعة أركان ،
قبل أن تُخْلَق الدنيا بألفي عام ، ثم دحِيت الأرض من تحت البيت.
وقال محمد بن إسحاق : حدثني [عبد الله] (5) بن أبي نَجِيح ، عن مجاهد وغيره من أهل
العلم : أن الله لما بَوَّأ إبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام ، وخرج معه
بإسماعيل وبأمه هاجر ، وإسماعيل طفل صغير يرضع ، وحمُلوا - فيما حدثني - على
البُرَاق ، ومعه جبريل يَدُلّه على موضع البيت ومعالم الحَرم. وخرج معه جبريل ،
فكان لا يمر بقرية إلا قال : أبهذه أمرت يا جبريل ؟ فيقول جبريل : امضِه. حتى قدم
به مكة ، وهي إذ ذاك عضَاة سَلَم وَسَمُر ، وبها أناس يقال لهم :
"العماليق" خارج مكة وما حولها. والبيت يومئذ ربوة حمراء مَدِرَة ، فقال
إبراهيم لجبريل : أهاهنا أمرت أن أضعهما ؟ قال : نعم. فعمد بهما إلى موضع الحجر
فأنزلهما فيه ، وأمر هاجَرَ أمَّ إسماعيل أن تتخذ فيه عَريشًا ، فقال : { رَبَّنَا
(6) إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ
بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ } إلى قوله : { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [ إبراهيم : 37
].
وقال عبد الرزاق : أخبرنا هشام بن حَسَّان ، أخبرني حُمَيد ، عن مجاهد ، قال : خلق
الله موضعَ هذا البيت قبلَ أن يخلق شيئًا بألفي سنة ، وأركانه في الأرض السابعة
(7).
وكذا قال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : القواعد في الأرض السابعة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عَمْرو بن رافع ، أخبرنا (8) عبد الوهاب بن
معاوية ، عن عبد المؤمن بن خالد ، عن علياء بن أحمر : أن ذا القرنين قدم مكة فوجد
إبراهيم وإسماعيل يبنيان قواعدَ البيت من خمسة أجبل. فقال : ما لكما ولأرضي ؟ فقال
(9) نحن عبدان مأموران ، أمرنا ببناء هذه الكعبة. قال : فهاتا بالبينة على ما
تدعيان. فقامت خمسة أكبش ، فقلن : نحن نشهد أن إبراهيم وإسماعيل عبدان مأموران ،
أمرا ببناء هذه الكعبة. فقال : قد رضيت وسلمت. ثم مضى.
__________
(1) في جـ ، ط ، أ : "فحزن آدم".
(2) في جـ ، ط : "المفاوز".
(3) رواه الطبري في تفسيره (3/59) من طريق عبد الرزاق به.
(4) في جـ ، ط : "حدثنا أبو حميد".
(5) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(6) في جـ ، ط ، أ ، و : "رب" وهو خطأ.
(7) رواه الطبري في تفسيره (3/62) من طريق عبد الرزاق به.
(8) في جـ ، ط : "حدثنا".
(9) في جـ ، ط ، أ ، و : "فقالا".
(1/434)
وذَكَرَ
الأزْرَقي في تاريخ مكة أن ذا القرنين طاف مع إبراهيم ، عليه السلام ، بالبيت ،
وهذا يدل على تقدم زمانه (1) ، والله أعلم.
وقال البخاري ، رحمه الله : قوله تعالى : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ
الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } الآية : القواعد : أساسه واحدها
قاعدة. والقواعد من النساء : واحدتها قاعدُ.
حدثنا إسماعيل ، حدثني مالك ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله : أن عبد الله بن
محمد بن أبي بكر أخبر عبد الله بن عُمَر ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم
: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ألم تَرَيْ أن قومك حين بنوا البيت
(2) اقتصروا عن قواعد إبراهيم ؟" فقلت : يا رسول الله ، ألا تَرُدَّها على
قواعد إبراهيم ؟ قال : "لولا حِدْثان قومك بالكفر". فقال عبد الله بن
عمر : لئن كانت عائشة سَمعت هذا (3) من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى
رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الرُّكنين اللذَين يَلِيان الحِجْر إلا
أن البيت لم يُتَمَّم على قواعد إبراهيم ، عليه السلام (4).
وقد رواه في الحج عن القَعْنَبي ، وفي أحاديث الأنبياء عن عبد الله بن يوسف. ومسلم
عن يحيى بن يحيى ، ومن حديث ابن وهب. والنسائي من حديث عبد الرحمن بن القاسم ،
كلهم عن مالك به (5).
ورواه مسلم أيضًا من حديث نافع ، قال : سمعت عبد الله بن أبي بكر بن أبي قُحَافة
يحدث عبدَ الله بن عُمَر ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية - أو قال : بكفر - لأنفقت كنز الكعبة في
سبيل الله ، ولجعلت بابها بالأرض ، ولأدخلت فيها الحجر" (6).
وقال البخاري : حدثنا عُبَيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن
الأسود ، قال : قال لي ابنُ الزبير : كانت عائشة تُسر إليك حديثًا كثيرًا ، فما
حدثتك في الكعبة ؟ قال قلت : قالت لي : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "يا
عائشة ، لولا قومك حديث عهدهم - فقال ابن الزبير : بكفر - لنقضت الكعبة ، فجعلت
لها بابين : بابًا يدخل منه الناس ، وبابًا يخرجون". ففعله ابن الزبير.
انفرد بإخراجه البخاري ، فرواه هكذا في كتاب العلم من صحيحه (7).
وقال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، أخبرنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ،
عن أبيه ، عن عائشة قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لولا
حَدَاثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم ، فإن قريشا حين
بنت البيت (8) استقصرت ، ولجعلت لها خَلْفًا".
__________
(1) تاريخ مكة (ص74).
(2) في جـ ، ط ، أ : "بنوا الكعبة".
(3) في جـ : "سمعت ذلك".
(4) صحيح البخاري برقم (4484).
(5) صحيح البخاري برقم (1585 ، 3368) وصحيح مسلم برقم (1333) وسنن النسائي
(5/214).
(6) صحيح مسلم برقم (1333).
(7) صحيح البخاري برقم (126).
(8) في جـ : "بنت الكعبة".
(1/435)
قال
: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كُرَيب ، قالا حدثنا ابن نُمَير ، عن هشام بهذا
الإسناد. انفرد به مسلم (1) ، قال : وحدثني محمد بن حاتم ، حدثني ابن مهدي ، حدثنا
سليم بن حَيَّان ، عن سعيد - يعني ابن ميناء - قال : سمعت عبد الله بن الزبير يقول
: حدثتني خالتي - يعني عائشة رضي الله عنها - قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم
: "يا عائشة ، لولا قومك حديث عَهْد (2) بشرك ، لهدمت الكعبة ، فألزقتها
بالأرض ، ولجعلت لها بابين : بابًا شرقيًّا ، وبابًا غربيًّا ، وزدتُ فيها ستة
أذرع من الحِجْر ؛ فإن قريشًا اقتصرتها حيث بنت الكعبة" انفرد به أيضًا (3).
ذكر بناء قريش الكعبة بعد إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، بمدد (4) طويلة
وقبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين
وقد نقل معهم في الحجارة ، وله من العمر خمس وثلاثون سنة
صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين
قال محمد بن إسحاق بن يسار ، في السيرة :
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسًا وثلاثين سنة ، اجتمعت قريش لبنيان
الكعبة ، وكانوا يَهُمُّون بذلك (5) ليسقفوها ، ويهابون هَدْمها ، وإنما كانت
رَضما فوق القامة ، فأرادوا رفعها وتسقيفها ، وذلك أن نفرًا سرقوا كنز الكعبة ،
وإنما كان يكون في بئر في جَوْف الكعبة ، وكان الذي وُجد عنده الكنز دويك ، مولى
بني مُلَيح بن عمرو من خزاعة ، فقطعت قريش يده. ويزعم الناس أن الذين سرقوه وضعوه
عند دويك. وكان البحر قد رَمى بسفينة إلى جُدَّة ، لرجل من تجار الروم ، فتحطمت ،
فأخذوا خشبها فأعدُّوه لتسقيفها. وكان بمكة رجل قبطي نجار ، فهيأ لهم ، في أنفسهم
بعض ما يصلحها ، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تَطْرَحُ ، فيها ما
يُهْدَى0 لها كل يوم ، فَتَتشرق (6) على جدار الكعبة ، وكانت مما يهابون. وذلك أنه
كان لا يدنو منها أحد إلا احزَألَّت وكشت وفتحت فاها ، فكانوا يهابونها ، فبينا هي
يوما تَتَشرَّق على جدار الكعبة ، كما كانت تصنع ، بعث الله إليها طائرًا فاختطفها
، فذهب بها. فقالت قريش : إنا لنرجو أن يكون الله قد رَضي ما أردنا ، عندنا عامل
رفيق ، وعندنا خشب ، وقد كفانا الله الحية.
فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها ، قام أبو وهب بن عَمْرو بن عائذ بن عبد بن
عمران بن
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1333).
(2) في جـ : "حديث عهدهم".
(3) صحيح مسلم برقم (1333).
(4) في جـ : "بمدة".
(5) في جـ : "لذلك".
(6) في جـ ، ط : "فتشرف".
(1/436)
مخزوم
، فتناول من الكعبة حجرًا ، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه. فقال : يا معشر قريش ،
لا تُدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبًا ، لا يدخل فيها مهر بَغِي ولا بيع ربا ،
ولا مظلمة أحد من الناس.
قال ابن إسحاق : والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر
(1) بن مَخزُوم (2).
قال : ثم إن قريشا تَجَزأت الكعبة ، فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة ، وكان ما
بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم ، وكان
ظهر الكعبة لبني جُمَح وسهم ، وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قُصي ، ولبني أسد
بن عبد العزى بن قُصي ، ولبني عدي بن كعب بن لؤي ، وهو الحَطيم.
ثم إن الناس هابوا هَدْمها وفَرقُوا (3) منه ، فقال الوليد بن المغيرة : أنا
أبدؤكم في هَدْمها : فأخذ المعْولَ ثم قام عليها وهو يقول : اللهم لم تَرعْ ،
اللهم إنا لا نريد إلا الخير. ثم هدم من ناحية الركنين ، فتربص الناس تلك الليلة ،
وقالوا : ننظر ، فإن أصيب لم نهدم منها شيئًا ، ورددناها كما كانت ، وإن لم يصبه
شيء فقد رضي الله ما صنعنا. فأصبح الوليد من ليلته غاديًا على عَمَله ، فهدم وهدم
الناس معه ، حتى إذا انتهى الهدم [بهم] (4) إلى الأساس ، أساس إبراهيم ، عليه
السلام ، أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضًا (5).
قال [محمد بن إسحاق] (6) فحدثني بعض من يروي الحديث : أن رجلا من قريش ، ممن كان
يهدمها ، أدخل عَتَلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما ، فلما تحرك الحجر تنقضت
مكة بأسرها ، فانتهوا عن ذلك الأساس (7).
قال ابن إسحاق : ثم إن القبائل من قريش جَمَعت الحجارة لبنائها ، كل قبيلة تجمع
على حدة ، ثم بنوها ، حتى بلغ البنيان موضع الركن - يعني الحجر الأسود - فاختصموا
فيه ، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى ، حتى تحاوروا وتخالفوا ، وأعدوا
للقتال. فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن
لؤي على الموت ، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة ، فسموا : لعَقَة الدم.
فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسًا. ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا
وتناصفوا.
فزعم بعض أهل الرواية : أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر بن مخزوم -
وكان عامئذ أسن
__________
(1) في أ : "الوليد بن المغيرة بن عمر بن عبد الله".
(2) السيرة النبوية لابن إسحاق (نص رقم 103) ط ، حميد الله ، المغرب.
(3) في جـ : "وخافوا".
(4) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(5) السيرة النبوية لابن إسحاق (نص رقم 105) ط ، حميد الله ، المغرب.
(6) زيادة من جـ ، ط.
(7) السيرة النبوية لابن إسحاق (نص رقم 106) ط ، حميد الله ، المغرب.
(1/437)
قريش
كلهم - قال (1) : يا معشر قريش ، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب
هذا المسجد ، يقضي بينكم ، فيه. ففعلوا ، فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه
وسلم. فلما رأوه قالوا : هذا الأمين رضينا ، هذا محمد ، فلما انتهى إليهم وأخبروه
الخبر ، قال [رسول الله] (2) صلى الله عليه وسلم : "هَلُمَّ إليَّ
ثوبًا" فأتي به ، فأخذ الركن - يعني الحجر الأسود - فوضعه فيه بيده ، ثم قال
: "لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب" ، ثم [قال] (3) : "ارفعوه
جميعا". ففعلوا ، حتى إذا بلغوا به موضعه ، وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم
، ثم بنى عليه.
وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي : الأمين.
فلما فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا ، قال الزبير بن عبد المطلب ، فيما
كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها :
عجبت لَمَا تصوبت (4) العُقَاب... إلى الثعبان وهي لها اضطراب...
وقد كانت يكون لها كشيش... وأحيانًا يكون لها وثَاب...
إذا قمنا إلى التأسيس شَدَّت... تُهَيّبُنُا البناءَ وقد تُهَابُ...
فلما أن خَشِينا الزَّجْرَ جاءت... عقاب تَتْلَئِبُّ لها انصباب...
فضمتها إليها ثم خَلَّت... لنا البنيانَ ليس له حجاب...
فَقُمْنَا حاشدين إلى بناء... لنا منه القواعدُ والتراب...
غداة نُرَفِّع التأسيس منه... وليس على مُسَوِّينا ثياب...
أعَزّ به المليكُ بني لُؤي... فليسَ لأصله منْهُم ذَهاب...
وقد حَشَدَتْ هُنَاك بنو عَديّ... ومُرَّة قد تَقَدَّمَها كلاب...
فَبَوَّأنا المليك بذاكَ عزّا... وعند الله يُلْتَمَسُ الثواب
قال ابن إسحاق : وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر ذراعًا
، وكانت تكسى القباطي ، ثم كُسِيت بعدُ البُرود ، وأول من كساها الديباج الحجاج بن
يوسف.
قلت : ولم تزل على بناء قريش حتى أحرقت (5) في أول إمارة عبد الله بن الزبير بعد
سنة ستين. وفي آخر ولاية يزيد بن معاوية ، لما حاصروا ابن الزبير ، فحينئذ نقضها
ابن الزبير إلى الأرض وبناها على قواعد إبراهيم ، عليه السلام ، وأدخل فيها الحجر
وجعل لها بابًا شرقيًّا وبابًا غربيًّا ملصقين
__________
(1) في جـ ، ط : "فقال".
(2) زيادة من جـ.
(3) زيادة من ط.
(4) في ط : "صوبت".
(5) في أ ، و : "احترقت".
(1/438)
بالأرض
، كما سمع ذلك من خالته عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم. ولم تزل كذلك مُدَّة إمارته حتى قتله الحجاج ، فردها إلى ما كانت
عليه بأمر عبد الملك بن مَرْوان له بذلك ، كما قال مسلم بن الحجاج في صحيحه :
حدثنا هَنَّاد بن السَّري ، حدثنا ابن أبي زائدة ، أخبرنا ابن أبي سليمان ، عن
عطاء ، قال : لما احترق البيت زَمَنَ يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام ، وكان
من أمره ما كان ، تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسمَ يريد أن يُجَرِّئَهم - أو
يُحزبهم - على أهل الشام ، فلما صدر الناس قال : يا أيها الناس ، أشيروا عليَّ في
الكعبة ، أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وَهَى منها ؟ قال ابن عباس : فإني (1)
قد فَرِقَ لي رأي فيها ، أرى أن تُصْلِحَ ما وَهى منها ، وتدع بيتًا أسلم الناس
عليه (2) وأحجارًا أسلم الناس عليها ، وبعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم. فقال
ابن الزبير : لو كان أحدهم احترق بيته ما رضي حتى يجدده ، فكيف بيت ربكم ، عز وجل
؛ إني مستخير ربي ثلاثًا ثم عازم على أمري. فلما مضَت ثلاث أجمع رأيه على أن
ينقضها. فتحاماها الناسُ أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمْر من السماء ، حتى صعده
رجل ، فألقى منه حجارة ، فلما لم يَره الناس أصابه شيء تتابعوا ، فنقضوه حتى بلغوا
به الأرض. فجعل ابن الزبير أعمدة يستر (3) عليها الستور ، حتى ارتفع بناؤه. وقال
ابن الزبير : إني سمعت عائشة ، رضي الله عنها ، تقول : إن النبي صلى الله عليه
وسلم ، قال : "لولا أن الناس حديث عهدُهم بكفر ، وليس عندي من النفقة ما
يُقَوِّيني على بنائه ، لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع ، ولجعلت له بابًا يدخل
الناس منه ، وبابًا يخرجون منه (4). قال : فأنا أجد ما أنفق ، ولست أخاف الناس.
قال : فزاد فيه خمسة (5) أذرع من الحجر ، حتى أبدى له أسا (6) نَظَر الناس إليه
فبنى عليه البناء. وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعًا ، فلما زاد فيه استقصره فزاد
في طوله عشرة (7) أذرع ، وجعل له بابين : أحدهما يدخل منه ، والآخر يخرج منه. فلما
قُتِل ابنُ الزبير كتب الحجَّاج إلى عبد الملك يخبره بذلك ، ويخبره أن ابن الزبير
قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة ، فكتب إليه عبد الملك : إنا
لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء ، أما ما زاده في طوله فأقره. وأما ما زاد فيه من
الحجر فرده إلى بنائه ، وسد الباب الذي فتحه. فنقضه وأعاده إلى بنائه (8).
وقد رواه النسائي في سننه ، عن هناد ، عن يحيى بن أبي زائدة ، عن عبد الملك بن أبي
سليمان ، عن عطاء ، عن ابن الزبير ، عن عائشة بالمرفوع منه (9). ولم يذكر القصة ،
وقد كانَت السنة إقرار ما فعله عبد الله بن الزبير ، رضي الله عنه ؛ لأنه هو الذي
وَدَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن خشي أن تنكره
__________
(1) في جـ : "فإنه".
(2) في جـ ، ط : "عليها".
(3) في جـ ، ط : "فستر".
(4) في جـ : "وبابا يخرج الناس منه".
(5) في جـ ، ط : "خمس".
(6) في جـ : "أساسا" وفي أ : "أشيا" وفي و : "أشا".
(7) في جـ : "عشر".
(8) صحيح مسلم برقم (1333).
(9) سنن النسائي (5/218).
(1/439)
قلوب
بعض الناس لحداثة عهدهم بالإسلام وقربِ عهدهم من الكفر. ولكن خفيت هذه السُّنةُ
على عبد الملك ؛ ولهذا (1) لما تحقق ذلك عن عائشة أنها روت ذلك عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، قال : وددنا أنا تركناه وما تولى. كما قال مسلم :
حدثني محمد بن حاتم (2) حدثنا محمد بن بكر (3) أخبرنا ابن جُرَيج ، سمعت عبد الله
بن عُبَيد بن عمير والوليد بن عطاء ، يحدثان عن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة ،
قال عبد الله بن عبيد : وَفَدَ الحارث بن عبد الله على عبد الملك بن مروان في
خلافته ، فقال عبد الملك : ما أظن أبا خُبَيبٍ - يعني ابن الزبير - سمع من عائشة
ما كان يزعم أنه سمعه منها. قال الحارث : بلى ، أنا سمعته منها. قال : سمعتها تقول
ماذا ؟ قال : قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن قومك استقصروا
من بنيان البيت ، ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه ، فإن بدا لقومك من
بعدي أن يبنوه فَهَلُمِّي لأريك ما تركوا منه". فأراها قريبًا من سبعة (4)
أذرع (5).
هذا حديث عبد الله بن عُبيد [بن عمير] (6). وزاد عليه الوليد بن عطاء : قال النبي
صلى الله عليه وسلم : "ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض شرقيًّا وغربيًّا ،
وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها ؟" قالت : قلت : لا. قال :
"تَعَزُّزًا ألا يدخلها إلا من أرادوا. فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها ،
يَدَعونه حتى (7) يرتقي ، حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط" قال عبد الملك :
فقلت للحارث : أنت سمعتها تقول هذا ؟ قال : نعم. قال : فَنَكَتَ ساعة بعصاه ، ثم
قال : وَدِدْتُ أني تركت وما تَحَمَّل.
قال مسلم : وحدثناه محمد بن عمرو بن جبلة ، حدثنا أبو عاصم(ح) وحدثنا عَبْدُ بن
حُمَيْد ، أخبرنا عبد الرزاق ، كلاهما عن ابن جُرَيج بهذا الإسناد ، مثلَ حديث ابن
(8) بكر (9).
قال : وحدثني محمد بن حاتم ، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي ، حدثنا حاتم بن أبي
صَغيرة ، عن أبي قَزَعَة أنَّ عبد الملك بن مروان بينما هو يطوف بالبيت إذ قال :
قاتل الله ابن الزبير حيث يكذب على أمِّ المؤمنين ، يقول : سمعتها تقول : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "يا عائشة ، لولا حِدْثان قومك بالكفر لنقضت البيت
حتى أزيد فيها (10) من الحجر ، فإنَّ قومك قصروا في البناء". فقال الحارث بن
عبد الله بن أبي ربيعة : لا تقل هذا يا أمير المؤمنين ، فأنا سمعت أم المؤمنين
تحدث هذا. قال : لو كنتُ سمعته قبل أن أهدمَه لتركته على ما بنى ابن الزبير (11).
__________
(1) في أ : "ولكن".
(2) في جـ : "محمد بن بكر حاتم".
(3) في أ : "بن بكير".
(4) في جـ ، ط ، أ ، و : "سبع".
(5) صحيح مسلم برقم (1333).
(6) زيادة من و.
(7) في أ ، و : "حين".
(8) في أ : "مثل حديث أبي".
(9) صحيح مسلم برقم (1333).
(10) في جـ ، ط ، أ ، و : "فيه".
(11) صحيح مسلم برقم (1333).
(1/440)
فهذا
الحديث كالمقطوع به إلى عائشة أم المؤمنين ، لأنه قد رُوي عنها من طرق صحيحة
متعددة عن الأسود بن يزيد ، والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة ، وعبد الله بن
الزبير ، وعبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق ، وعروة بن الزبير. فدل هذا على
صواب ما فعله ابن الزبير. فلو ترك لكان جيدًا.
ولكن بعد ما رجع الأمر إلى هذا الحال ، فقد كَرِه بعض العلماء أن يغير عن حاله ،
كما ذكر عن أمير المؤمنين هارون الرشيد - أو أبيه المهدي - أنه سأل الإمام مالكًا
عن هدم الكعبة وردِّها إلى ما فعله ابن الزبير. فقال له مالك : يا أمير المؤمنين ،
لا تجعل كعبة الله مَلْعَبَة للملوك ، لا يشاء أحد (1) أن يهدمها إلا هدمها. فترك
ذلك الرشيد.
نقله عياض والنواوي ، ولا تزال - والله أعلم - هكذا إلى آخر الزمان ، إلى أن
يخرِّبَها ذو السويقتين من الحبشة ، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي هريرة قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يخرب الكعبة ذو السُّوَيقتين من
الحبشة". أخرجاه (2).
وعن عبد الله بن عباس ، رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :
"كأني به أسودَ أفحَجَ ، يقلعها حجرًا حجرًا". رواه البخاري (3).
وقال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده : حدثنا أحمد بن عبد الملك الحَرَّاني ، حدثنا
محمد بن سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو
بن العاص ، رضي الله عنهما (4) قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
"يُخَرِّب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ، ويسلبها حلْيتها (5) ويجردها من
كسوتها. ولكأني أنظر إليه أصيلع أفَيْدعَ يضرب عليها بِمِسْحَاته ومِعْوله"
(6).
الفَدَع : زيغ بين القدم وعظم الساق.
وهذا - والله أعلم - إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج ، لما جاء في صحيح (7)
البخاري عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "ليُحَجَّنَّ البيتُ وليُعْتَمَرَنَّ بعد خروج يأجوج ومأجوج"
(8).
وقوله تعالى حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل ، عليهما السلام : { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا
مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }
__________
(1) في أ ، و : "لا يشاء الله".
(2) صحيح البخاري برقم (1596) وصحيح مسلم برقم (2909).
(3) صحيح البخاري برقم (1595).
(4) في جـ : "عنه".
(5) في جـ : "ويسلبها قال حليتها".
(6) المسند (2/220).
(7) في جـ : "في حديث".
(8) صحيح البخاري برقم (1593).
(1/441)
قال
ابن جرير : يعنيان بذلك ، واجعلنا مستسلمين (1) لأمرك ، خاضعين لطاعتك ، لا نشرك
معك في الطاعة أحدًا سواك ، ولا في العبادة غيرك.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إسماعيل بن رجاء بن حيان الحِصْني القرشي ،
حدثنا معقل بن عبيد الله ، عن عبد الكريم : { وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ }
قال : مخلصين لك ، { وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } قال : مخلصة.
وقال أيضا : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا المقدمي ، حدثنا سعيد بن عامر ، عن سلام
بن أبي مطيع في هذه الآية { وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ } قال : كانا مسلمين ،
ولكنهما سألاه الثبات.
وقال عكرمة : { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } قال الله : قد فعلت. {
وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } قال الله : قد فعلت.
وقال السدي : { وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } يعنيان العرب.
قال ابن جرير : والصواب أنه يعمُّ العرب وغيرهم ؛ لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل
، وقد قال الله تعالى : { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ
وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 159 ]
قلت : وهذا الذي قاله ابن جرير لا ينفيه السدي ؛ فإن تخصيصهم بذلك لا ينفي من
عداهم ، والسياق إنما هو في العرب ؛ ولهذا قال بعده : { رَبَّنَا وَابْعَثْ
فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ } الآية ، والمراد بذلك محمَّد صلى الله عليه وسلم ،
وقد بعث فيهم كما قال تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا
مِنْهُمْ } [ الجمعة : 2 ] ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود ، لقوله
تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا
} [ الأعراف : 158 ] ، وغير ذلك من الأدلة القاطعة.
وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل ، عليهما السلام ، كما أخبر الله تعالى عن عباده
المتقين المؤمنين ، في قوله : { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ
أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ
إِمَامًا } [ الفرقان : 74 ]. وهذا القدر مرغوب فيه شرعًا ، فإن من تمام محبة
عبادة الله تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد الله وحده لا شريك له ؛ ولهذا
لما قال الله تعالى لإبراهيم ، عليه السلام : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ
إِمَامًا } قال : { وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }
وهو قوله : { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ } [ إبراهيم : 35
]. وقد ثبت في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال : "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو
علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له" (2)
__________
(1) في جـ ، أ : "واجعلنا مسلمين".
(2) صحيح مسلم برقم (1631).
(1/442)
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
"
وأرنا مناسكنا " قال ابن جُريج ، عن عطاء { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } أخرجها
لنا ، عَلِّمْنَاها (1).
وقال مجاهد { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } مذابحنا. ورُوى عن عطاء أيضًا ، وقتادة نحو
ذلك.
وقال سعيد بن منصور : حدثنا عتاب بن بشير ، عن خُصيف ، عن مجاهد ، قال : قال
إبراهيم : "أرنا مناسكنا" فأتاه جبرائيل ، فأتى به البيت ، فقال : ارفع
القواعد. فرفع القواعد وأتم البنيان ، ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى الصفا ،
قال : هذا من شعائر الله. ثم انطلق به إلى المروة ، فقال : وهذا من شعائر الله ؟.
ثم انطلق به نحو (2) مِنًى ، فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة ، فقال
: كَبِّر وارمه. فكبر ورماه. ثم انطلق (3) إبليس فقام عند الجمرة الوسطى ، فلما
جاز به (4) جبريل وإبراهيم قال له : كبر وارمه. فكبر ورماه. فذهب إبليس وكان
الخبيث أراد أن يُدْخِل في الحج شيئًا فلم يستطع ، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به
المشعر الحرام ، فقال : هذا المشعر الحرام. فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به عرفات.
قال : قد عرفت ما أريتك ؟ قالها : ثلاث مرار. قال : نعم.
وروي عن أبي مِجْلز وقتادة نحو ذلك. وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا حماد بن سلمة
، عن أبي العاصم الغنوي ، عن أبي الطفيل ، عن ابن عباس ، قال : إن إبراهيم لما
أريَ أوامر المناسك ، عرض له الشيطان عند المسعى ، فسابقه إبراهيم ، ثم انطلق به
جبريل حتى أتى (5) به منى ، فقال : مُنَاخ الناس هذا. فلما انتهى إلى جمرة العقبة
تعرض له الشيطان ، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم أتى به الجمرة الوسطى ، فعرض له
الشيطان فرماه بسبع حصيات ، حتى ذهب ، ثم أتى به الجمرة القصوى ، فعرض له الشيطان
، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، فأتى به جَمْعًا. فقال : هذا المشعر. ثم أتى به
عرفة. فقال : هذه عرفة. فقال له جبريل : أعرفت ؟ (6).
{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) }
يقول تعالى إخبارًا عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم - أن يبعث الله فيهم رسولا
منهم ، أي من ذرية إبراهيم. وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قَدَرَ الله السابق في
تعيين محمد - صلوات الله وسلامه عليه (7) - رسولا في الأميين إليهم ، إلى سائر
الأعجمين ، من الإنس والجن ، كما قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ،
حدثنا معاوية بن صالح ، عن سعيد بن سُوَيد الكلبي ، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي
، عن العرباض بن سارية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني عند
الله لخاتم
__________
(1) في جـ ، ط : "وعلمناها".
(2) في أ : "إلى".
(3) في جـ : "فانطلق".
(4) في أ : "فلما حاذاه" ، وفي و : "فلما حاذى به".
(5) في جـ ، ط : "حتى أراه".
(6) مسند الطيالسي برقم (2697).
(7) في جـ : "صلى الله عليه وسلم".
(1/443)
النبيين
، وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بأول ذلك ، دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى
بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات النبيين (1) يَرَيْنَ" (2).
وكذلك (3) رواه ابن وهب ، والليث ، وكاتبه عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ،
وتابعه أبو بكر بن أبي مريم ، عن سعيد بن سُويَد ، به.
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا أبو النضر ، حدثنا الفرج ، حدثنا لقمان بن عامر :
سمعت أبا أمامة قال : قلت : يا رسول الله ، ما كان أول بَدْء أمرك ؟ قال :
"دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى بي ، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له
قصور الشام" (4).
والمراد أن أول من نَوّه بذكره وشهره في الناس ، إبراهيم (5) عليه السلام. ولم يزل
ذكره في الناس مذكورًا مشهورًا سائرًا حتى أفصح باسمه خاتمُ أنبياء بني إسرائيل
نسبًا ، وهو عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، حيث قام في بني إسرائيل خطيبًا ، وقال
: { إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ
التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } [
الصف : 6] ؛ ولهذا قال في هذا الحديث : "دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى بن
مريم".
وقوله : "ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام" قيل : كان
منامًا رأته حين حملت به ، وقَصته على قومها فشاع فيهم واشتهر بينهم ، وكان ذلك
توطئة. وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه وثبوته ببلاد الشام ،
ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلا للإسلام وأهله ، وبها ينزل عيسى ابن مريم
إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها. ولهذا جاء في الصحيحين : "لا
تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر
الله وهم كذلك" (6). وفي صحيح البخاري : "وهم بالشام" (7).
قال (8) أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : {
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ } يعني : أمة محمد صلى الله عليه
وسلم. فقيل له : قد استجيبت لك ، وهو كائن في آخر الزمان. وكذا قال السدي وقتادة.
وقوله تعالى : { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ } يعني : القرآن { وَالْحِكْمَةَ }
يعني : السنة ، قاله الحسن ،
__________
(1) في أ : "المؤمنين".
(2) المسند (4/127).
(3) في جـ ، ط : "وكذا".
(4) المسند (5/262).
(5) في جـ : "إبراهيم الخليل".
(6) هذا لفظ حديث ثوبان في صحيح مسلم برقم (1920) ورواه أيضا بنحوه من حديث معاوية
برقم (1037) وهو في صحيح البخاري برقم (7460) من حديث معاوية رضي الله عنه برقم
(7459) من حديث المغيرة رضي الله عنه.
(7) صحيح البخاري برقم (7460) من حديث معاذ رضي الله عنه.
(8) في جـ ، ط : "وقال".
(1/444)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
وقتادة
، ومقاتل بن حيان ، وأبو مالك وغيرهم. وقيل : الفهم في الدين. ولا منافاة.
{ وَيُزَكِّيهِمْ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني طاعة الله ،
والإخلاص.
وقال محمد بن إسحاق { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } قال : يعلمهم
الخير فيفعلوه ، والشر فيتقوه ، ويخبرهم برضاه عنهم إذا أطاعوه واستكثروا من طاعته
، وتجنبوا ما سخط من معصيته.
وقوله : { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي : العزيز الذي لا يعجزه شيء
، وهو قادر على كل شيء ، الحكيم في أفعاله وأقواله ، فيضع الأشياء في محالها ؛
وحكمته وعدله.
{ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ
اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ
(130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ
(131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) }
يقول تبارك وتعالى رَدًّا على الكفار فيما ابتدعوه وأحدثوه من الشرك بالله ،
المخالف لملة إبراهيم الخليل ، إمام الحنفاء ، فإنه جَرد توحيد ربه تبارك وتعالى ،
فلم يَدْع معه غيره ، ولا أشرك به طرفة عين ، وتبرأ من كل معبود سواه ، وخالف في
ذلك سائر قومه ، حتى تبرأ من أبيه ، فقال : { يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا
تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ
حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 78 ، 79 ] ، وقال تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا
تَعْبُدُونَ* إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } [ الزخرف : 26 ، 27
] ، وقال تعالى : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إلا عَنْ
مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إيَّاهُ فَلَمَا تَبَيَّنَ لَهُ أنَّه عَدُوٌ لله تَبَرَّأَ
مِنْهُ إنَّ إبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } [ التوبة : 114 ] وقال تعالى : {
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ* شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ* وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ
لَمِنَ الصَّالِحِينَ } [ النحل : 120 - 122] ، ولهذا وأمثاله قال تعالى : {
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ } أي : عن طريقته ومنهجه. فيخالفها
ويرغب عنها { إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } أي : ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه
الحق إلى الضلال ، حيث خالف طريق من اصطفي في الدنيا للهداية والرشاد ، من حَداثة
سنّه (1) إلى أن اتخذه الله خليلا وهو في الآخرة من الصالحين السعداء - فترك طريقه
هذا ومسلكه وملّته واتبع طُرُقَ الضلالة والغي ، فأي سفه أعظم من هذا ؟ أم أي ظلم
أكبر من هذا ؟ كما قال تعالى : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }
وقال أبو العالية وقتادة : نزلت هذه الآية في اليهود ؛ أحدثوا طريقًا ليست من عند
الله وخالفوا ملَّة إبراهيم فيما أخذوه (2) ، ويشهد لصحة هذا القول قول الله تعالى
: { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ
حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ
بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 67 ، 68 ].
__________
(1) في أ : "من حداثة بنيته".
(2) في جـ ، ط ، أ ، و : "فيما أحدثوه".
(1/445)
وقوله
تعالى : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ } أي : أمره الله (1) بالإخلاص له والاستسلام والانقياد ، فأجاب إلى
ذلك شرعًا وقدرًا.
وقوله : { وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ } أي : وصى بهذه الملة
(2) وهي الإسلام لله [أو يعود الضمير على الكلمة وهي قوله : { أَسْلَمْتُ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ } ] (3). لحرصهم عليها ومحبتهم لها حافظوا عليها إلى حين الوفاة
ووصوا أبناءهم بها من بعدهم ؛ كقوله تعالى : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي
عَقِبِهِ } [ الزخرف : 28 ] وقد قرأ بعض السلف "ويعقوب" بالنصب عطفًا
على بنيه ، كأن إبراهيم وصى بنيه وابن ابنه يعقوب بن إسحاق وكان حاضرًا ذلك ، وقد
ادعى القشيري ، فيما حكاه القرطبي عنه أن يعقوب إنما ولد بعد وفاة إبراهيم ،
ويحتاج مثل هذا إلى دليل صحيح ؛ والظاهر ، والله أعلم ، أن إسحاق ولد له يعقوب في
حياة الخليل وسارة ؛ لأن البشارة وقعت بهما في قوله : { فَبَشَّرْنَاهَا
بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] وقد قرئ بنصب يعقوب
هاهنا على نزع الخافض ، فلو لم يوجد يعقوب في حياتهما لما كان لذكره من بين ذرية
إسحاق كبير فائدة ، وأيضًا فقد قال الله تعالى في سورة العنكبوت : { وَوَهَبْنَا
لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ
وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ
لَمِنَ الصَّالِحِينَ } [ الآية : 27 ] وقال في الآية الأخرى : { وَوَهَبْنَا لَهُ
إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ] وهذا يقتضي أنه وجد في حياته
، وأيضًا فإنه باني بيت المقدس ، كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة ، وثبت في الصحيحين
من حديث أبي ذر قلت : يا رسول الله ، أي مسجد وضع أول ؟ قال : "المسجد
الحرام" ، قلت : ثم أي ؟ قال : "بيت المقدس". قلت : كم بينهما ؟
قال : "أربعون سنة" الحديث (4). فزعم ابن حبان أن بين سليمان الذي اعتقد
أنه باني بيت المقدس - وإنما كان جدّده بعد خرابه وزخرفه - وبين إبراهيم أربعين
سنة ، وهذا مما أنكر على ابن حبان ، فإن المدة بينهما تزيد على ألوف سنين ، والله
أعلم ، وأيضًا فإن ذكر وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريبًا ، وهذا يدل على أنه
هاهنا من جملة الموصين.
وقوله : { يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ
إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } أي : أحسنوا في حال الحياة والزموا هذا ليرزقكم (5)
الله الوفاة عليه. فإن المرء يموت غالبًا على ما كان عليه ، ويبعث على ما مات
عليه. وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قصد الخير وُفّق له ويسر (6) عليه. ومن
نوى صالحًا ثبت عليه. وهذا لا يعارض ما جاء ، في الحديث [الصحيح] (7) "إن
الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا بَاعٌ أو ذراع ، فيسبق
عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها (8). وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى
ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ،
__________
(1) في جـ ، ط ، أ ، و : "أمره تعالى".
(2) في أ : "أي رضي بهذه المسألة".
(3) زيادة من جـ ، ط ، أ.
(4) صحيح البخاري برقم (3366) وصحيح مسلم برقم (520).
(5) في جـ : "يرزقكم".
(6) في ط : "ويسره".
(7) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(8) في جـ ، ط ، أ ، و : "فيدخل النار".
(1/446)
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
فيعمل
بعمل أهل الجنة فيدخلها" ؛ لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث :
"فيعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو
للناس. وقد قال الله تعالى : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ
بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى*
وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } [ الليل : 5 - 10 ].
{ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا
كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) }
يقول تعالى محتجًّا على المشركين من العرب أبناء إسماعيل ، وعلى الكفار من بني
إسرائيل - وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم (1) السلام - بأن يعقوب لما حضرته
الوفاة وصى بنيه بعبادة الله وحده لا شريك له ، فقال لهم : { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ
بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ } وهذا من باب التغليب لأن إسماعيل عمه.
قال النحاس : والعرب تسمي العم أبًا ، نقله القرطبي ؛ وقد استدل بهذه الآية من جعل
الجد أبًا وحجب به الإخوة ، كما هو قول الصديق - حكاه البخاري عنه من طريق ابن
عباس وابن الزبير ، ثم قال البخاري : ولم يختلف عليه ، وإليه ذهبت عائشة أم
المؤمنين ، وبه يقول الحسن البصري وطاوس وعطاء ، وهو مذهب أبي حنيفة وغير واحد من
علماء السلف والخلف ؛ وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه أنه يقاسم الإخوة ؛
وحكى مالك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وجماعة من السلف والخلف ،
واختاره صاحبا أبي حنيفة القاضي : أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، ولتقريرها موضع
آخر.
وقوله : { إِلَهًا وَاحِدًا } أي : نُوَحِّدُه بالألوهية ، ولا نشرك به شيئا غيره
{ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي : مطيعون خاضعون كما قال تعالى : { وَلَهُ
أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ
يُرْجَعُونَ وسلم } [ آل عمران : 83 ] والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة ، وإن
تنوّعت شرائعهم واختلفت مناهجهم ، كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا
فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء : 25]. والآيات في هذا كثيرة والأحاديث ، فمنها قوله صلى
الله عليه وسلم : "نحن مَعْشَرَ الأنبياء أولاد عَلات ديننا واحد" (2).
وقوله تعالى : { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } أي : مضت { لَهَا مَا كَسَبَتْ
وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ } أي : إن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين
لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيرًا يعود
__________
(1) في ط : "عليه".
(2) صحيح البخاري برقم (3443) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأولاد العلات : هم
الأخوة من الأب وأمهاتهم شتى.
(1/447)
نفعهُ
عليكم ، فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم : { وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا
كَانُوا يَعْمَلُونَ }
وقال أبو العالية ، والربيع ، وقتادة : { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } يعني :
إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، والأسباط [ولهذا جاء ، في الأثر : من أبطأ
به عمله لم يسرع به نسبه] (1)
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(1/448)
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
{
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) }
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن
ابن عباس ، قال : قال عبد الله بن صُوريا الأعورُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
ما الهدى إلا ما نحن عليه ، فاتبعنا يا محمد تهتد (1). وقالت النصارى مثل ذلك.
فأنزل الله عز وجل : { وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا }
وقوله { بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } " أي : لا نريد ما دعوتم إليه
من اليهودية والنصرانية ، بل نتبع { مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } أي :
مستقيما. قاله محمد بن كعب القرظي ، وعيسى بن جارية.
وقال خَصِيف عن مجاهد : مخلصًا. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : حاجًّا. وكذا
روي عن الحسن والضحاك وعطية ، والسدي.
وقال أبو العالية : الحنيف الذي يستقبل البيت بصلاته ، ويرى أن حَجَّه عليه إن
استطاع إليه سبيلا.
وقال مجاهد ، والربيع بن أنس : حنيفًا ، أي : متبعًا. وقال أبو قلابة : الحنيف
الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم.
وقال قتادة : الحنيفية : شهادة أن لا إله إلا الله. يدخل فيها تحريمُ الأمهات
والبنات والخالات والعمات وما حرم الله ، عز وجل (2) والختانُ.
{ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ إِلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ
مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) }
أرشد الله تعالى عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أنزل إليهم بواسطة رسوله محمد صلى
الله عليه وسلم مفصلا وبما أنزل على الأنبياء المتقدمين مجملا ونص على أعيان من
الرسل ، وأجمل ذكر بقية الأنبياء ، وأن (3) لا يفرقوا بين أحد منهم ، بل يؤمنوا
بهم كلّهم ، ولا يكونوا كمن قال الله فيهم : { وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا
بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ
وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ
حَقًّا } [ النساء : 150 ، 151].
__________
(1) في جـ : "تهتدي" ، وفي ط : "تهدى".
(2) في جـ : "الله تعالى".
(3) في أ : "أنهم".
(1/448)
وقال
البخاري : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عثمان بن عُمَر ، أخبرنا علي بن المبارك ،
عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، قال : كان أهل
الكتاب يقرؤون التوراة بالعبْرَانيَّة ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تُكَذبوهم ،
وقولوا : آمنا بالله وما أنزل إلينا (1) " (2).
وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من حديث عثمان بن حكيم ، عن سعيد بن يَسار عن ابن
عباس ، قال ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما يصلى الركعتين اللتين قبل
الفجر بـ { آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا } الآية ، والأخرى بـ {
آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 52 ]. (3) وقال
أبو العالية والربيع وقتادة : الأسباط : بنو يعقوب اثنا عشر رجلا ؛ ولد كل (4) رجل
منهم أمة من الناس ، فسمّوا الأسباط.
وقال الخليل بن أحمد وغيره : الأسباط في بني إسرائيل ، كالقبائل في بني إسماعيل ؛
وقال الزمخشري في الكشاف : الأسباط : حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثنى عشر ، وقد
نقله الرازي عنه ، وقرره ولم يعارضه. وقال البخاري : الأسباط : قبائل بني إسرائيل
، وهذا يقتضي أن المراد بالأسباط هاهنا شعوب بني إسرائيل ، وما أنزل الله تعالى من
الوحي على الأنبياء الموجودين منهم ، كما قال موسى لهم : { اذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا
وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } [ المائدة : 20 ] وقال
تعالى : { وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا } [ الأعراف :
160 ] وقال القرطبي : وسموا الأسباط من السبط ، وهو التتابع ، فهم جماعة متتابعون.
وقيل : أصله من السبط ، بالتحريك ، وهو الشجر ، أي : هم في الكثرة بمنزلة الشجر
الواحدة سبطة. قال الزجاج : ويبين لك هذا : ما حدثنا محمد بن جعفر الأنباري ،
حدثنا أبو نجيد الدقاق ، حدثنا الأسود بن عامر ، حدثنا إسرائيل عن سماك ، عن عكرمة
، عن ابن عباس ، قال : كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة : نوح وهود وصالح
وشعيب وإبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمد - عليهم الصلاة والسلام. قال
القرطبي : والسبط : الجماعة والقبيلة ، الراجعون إلى أصل واحد.
وقال قتادة : أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا به ، ويصدقُوا بكتبه كلّها وبرسله.
وقال سليمان بن حبيب : إنما أمرنا أن نؤمن بالتوراة والإنجيل ، ولا نعمل بما
فيهما.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن محمد بن مُصْعب الصوري ، حدثنا مُؤَمَّل ، حدثنا
عبيد الله
__________
(1) في أ ، و : "وما أنزل الله" ، وفي جـ : "وما أنزل إلينا وما
أنزل إليكم".
(2) صحيح البخاري برقم (4485).
(3) صحيح مسلم برقم (727) وسنن أبي داود برقم (1259) وسنن النسائي (2/155).
(4) في جـ : "وكذا كل".
(1/449)
فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)
بن
أبي حميد ، عن أبي المليح ، عن مَعْقل بن يسار قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "آمنوا بالتوراة والزبور والإنجيل وليسَعْكمُ القرآن" (1).
{ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ
تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ
صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) }
يقول تعالى : { فَإِنْ آمَنُوا } أي (2) : الكفار من أهل الكتاب وغيرهم { بِمِثْلِ
مَا آمَنْتُمْ بِهِ } أيها المؤمنون ، من الإيمان بجميع كتب الله ورسله ، ولم
يفرقوا بين أحد منهم { فَقَدِ اهْتَدَوْا } أي : فقد أصابوا الحق ، وأرشدوا إليه {
وَإِنْ تَوَلَّوْا } أي : عن الحق إلى الباطل ، بعد قيام الحجة عليهم { فَإِنَّمَا
هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ } أي : فسينصرك عليهم ويُظْفِرُك بهم
{ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
وقال ابن أبي حاتم : قرئ على يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب ، حدثنا زياد بن
يونس ، حدثنا نافع بن أبي نُعَيم ، قال : أرسل إليَّ بعض الخلفاء مصحفَ عثمان بن
عفان ليصلحه. قال زياد : فقلت له : إن الناس يقولون : إن مصحفه كان في حجره حين
قُتِل ، فوقع الدم على { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
} فقال نافع : بَصُرت عيني بالدم على هذه الآية وقد قَدُم (3).
وقوله : { صِبْغَةَ اللَّهِ } قال الضحاك ، عن ابن عباس : دين الله وكذا روي عن
مجاهد ، وأبي العالية ، وعكرمة ، وإبراهيم ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وعبد
الله بن كثير ، وعطية العوفي ، والربيع بن أنس ، والسدي ، نحو ذلك.
وانتصاب { صِبْغَةَ اللَّهِ } إما على الإغراء كقوله { فِطْرَتَ اللَّهِ } [ الروم
: 30 ] أي : الزموا ذلك عليكموه. وقال بعضهم : بدل من قوله : { مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ } وقال سيبويه : هو مصدر مؤكد انتصب عن قوله : { آمَنَّا بِاللَّهِ }
كقوله { وَاعْبُدُوا اللَّهَ } [ النساء : 36 ].
وقد ورد (4) في حديث رواه ابن أبي حاتم وابن مَرْدُويه ، من رواية أشعث بن إسحاق
عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس أن نبي الله (5) قال :
"إن بني إسرائيل قالوا : يا موسى ، هل يَصْبُغ ربك ؟ فقال : اتقوا الله.
فناداه ربه : يا موسى ، سألوك هل يَصْبُغ ربك ؟ فقل : نعم ، أنا أصبُغ الألوان :
الأحمر والأبيض والأسود ، والألوان كلها من صَبْغي". وأنزل الله على نبيه صلى
الله عليه وسلم : { صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً }
(6).
كذا وقع في رواية ابن مردويه مرفوعًا ، وهو في رواية ابن أبي حاتم موقوف ، وهو
أشبه ، إن صح إسناده ، والله أعلم (7).
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (1/400) وفي إسناده عبيد الله بن أبي حميد متفق على ضعفه
ويروي عن أبي المليح عجائب. انظر : الميزان (3/5) والتهذيب (7/9).
(2) في و : "يعني".
(3) تفسير ابن أبي حاتم (1/402).
(4) في ط : "وقد روى".
(5) في جـ ، ط ، أ ، و : "نبي الله صلى الله عليه وسلم".
(6) تفسير ابن أبي حاتم (1/403) ومن طريقه أبو الشيخ في العظمة برقم (138).
(7) في جـ : "والله تبارك وتعالى أعلم".
(1/450)
قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
{
قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا
أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُوا
هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا
كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) }
يقول الله تعالى مرشدا نبيه صلوات الله وسلامه عليه (1) إلى درء مجادلة المشركين :
{ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ } أي : أتناظروننا في توحيد الله والإخلاص له
والانقياد ، واتباع أوامره وترك زواجره { وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } المتصرف
فينا وفيكم ، المستحق لإخلاص الإلهية له وحده لا شريك له! { وَلَنَا أَعْمَالُنَا
وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } أي : نحن برآء منكم ، وأنتم بُرَآء منا ، كما قال في
الآية الأخرى : { وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ
أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } [ يونس
: 41]وقال تعالى : { فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ
اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ
فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ
الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [ آل عمران : 20]وقال تعالى إخباراً
عن إبراهيم (2) { وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ
هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا
وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 80] وقال
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ } الآية[ البقرة :
258].
وقال في هذه الآية الكريمة : { [وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ] (3)
وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } أي : نحن (4) برآء منكم كما أنتم برآء منا ، ونحن له
مخلصون ، أي في العبادة والتوجه.
ثم أنكر تعالى عليهم ، في دعواهم أن إبراهيم ومن ذكر بعده من الأنبياء والأسباط
كانوا على ملتهم ، إما اليهودية وإما النصرانية (5) فقال : { قُلْ أَأَنْتُمْ
أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ } يعني : بل الله أعلم ، وقد أخبر أنهم لم يكونوا هودا ولا
نصارى ، كما قال تعالى : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا
وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } الآية والتي
بعدها[ آل عمران : 67 ، 68].
وقوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ } قال
الحسن البصري : كانوا يقرؤون في كتاب الله الذي أتاهم : إن الدين [عند الله] (6)
الإسلامُ ، وإن محمدا رسول الله ، وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط
كانوا برآء من اليهودية والنصرانية ، فشهِد الله بذلك ، وأقروا به على أنفسهم لله
، فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك.
__________
(1) في جـ : "صلى الله عليه وسلم".
(2) في جـ : "عن إبراهيم عليه السلام".
(3) زيادة من و.
(4) في جـ ، ط : "أي ونحن".
(5) في جـ ، ط ، أ ، و : "أو النصرانية".
(6) زيادة من جـ ، ط.
(1/451)
وقوله
: { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [فيه] (1) تهديد ووعيد شديد ،
أي : [أن] (2) علمه محيط بعملكم ، وسيجزيكم عليه.
ثم قال تعالى : { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } أي : قد مضت { لَهَا مَا كَسَبَتْ
وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ } أي : لهم أعمالهم ولكم أعمالكم { وَلا تُسْأَلُونَ
عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وليس يغني عنكم انتسابكم إليهم ، من غير متابعة منكم
لهم ، ولا تغتروا بمجرد النسبة إليهم حتى تكونوا مثلهم منقادين لأوامر الله واتباع
رسله ، الذين بعثوا مبشرين ومنذرين ، فإنه من كفر بنبي واحد فقد كفر بسائر الرسل ،
ولا سيما من كفر بسيد الأنبياء ، وخاتم المرسلين ورسول رب العالمين إلى جميع الإنس
والجن من سائر المكلفين ، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله (3)
أجمعين (4).
__________
(1) زيادة من جـ ، ط.
(2) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(3) في جـ : "وعلى سائر أنبيائه".
(4) في أ : "أجمعين أبدا دائما إلى يوم الدين ورضي الله تعالى عن أصحابه
وأصحابهم المتبعين إلى يوم الحشر واليقين".
(1/452)
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
{
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي
كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا
لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا
وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ
يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ
لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ
إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) }
[قيل المراد بالسفهاء هاهنا : المشركون ؛ مشركو العرب ، قاله الزجاج. وقيل : أحبار
يهود ، قاله مجاهد. وقيل : المنافقون ، قاله السدي. والآية عامة في هؤلاء كلهم ،
والله أعلم] (1).
قال البخاري : حدثنا أبو نُعَيم ، سمع زُهَيراً ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، رضي
الله عنه ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت (2) المقدس ستَّة عشر شهرا أو
سبعة عشر شهراً ، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ، وأنه صلى أول صلاة صلاها ،
صلاة العصر ، وصلى معه قوم. فخرج رجل (3) ممن كان صلى معه ، فمر على أهل المسجد
وهم راكعون ، فقال : أشهد بالله لقد صليتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم قبَل مكة ،
فدارُوا كما هم قبل البيت. وكان الذي مات على القبلة قبل أن تُحَوّل قبل البيت
رجالا قتلوا لم ندر ما نقول فيهم ، فأنزل الله عز وجل { وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }
انفرد به البخاري من هذا الوجه (4). ورواه مسلم من وجه آخر (5).
__________
(1) زيادة من جـ ، ط.
(2) في جـ : "إلى البيت".
(3) في ط : "فخرج قوم".
(4) صحيح البخاري برقم (4486).
(5) صحيح مسلم برقم (525).
(1/452)
وقال
محمد بن إسحاق : حدثني إسماعيل (1) بن أبي خالد ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال
: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس ، ويكثر النظر إلى السماء
ينتظر (2) أمر الله ، فأنزل الله : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي
السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } فقال رجال (3) من المسلمين : وَددْنا لو عَلمْنا علم من
مات منا قبل أن نُصْرف إلى القبلة ، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس ؟ فأنزل الله : {
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } وقال السفهاء من الناس ، وهم أهل
الكتاب : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ فأنزل الله : { سَيَقُولُ
السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ } إلى آخر الآية.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا الحسن بن عطية ، حدثنا إسرائيل ، عن
أبي إسحاق ، عن البراء قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى نحو بيت
المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ، وكان يحب أن يوجه نحو الكعبة ، فأنزل الله : {
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً
تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قال : فَوُجّه نحو
الكعبة. وقال السفهاء من الناس ، وهم اليهود : { مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ
الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } فأنزل الله { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ
يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا هاجر
إلى المدينة ، أمَره الله أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود ، فاستقبلها رسول
الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يُحِب قبلة إبراهيم ، فكان يدعو الله وينظر إلى السماء ، فأنزل الله عز وجل : {
فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } أي : نحوه. فارتاب من ذلك اليهود ، وقالوا : ما
ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ فأنزل الله : { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }.
وقد جاء في هذا الباب أحاديثُ كثيرة ، وحاصلُ الأمر أنه قد كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم أمِرَ باستقبال الصخرة من بيت المقدس ، فكان بمكة يُصَلِّي بين الركنين
، فتكون بين يديه الكعبة وهو مستقبل صخرة بيت المقدس ، فلما هاجر إلى المدينة
تَعَذَّر الجمعُ بينهما ، فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس ، قاله ابن عباس
والجمهور ، ثم اختلف هؤلاء هل كان الأمر به بالقرآن أو بغيره ؛ على قولين ، وحكى
القرطبي في تفسيره عن عكرمة وأبي العالية والحسن البصري أن التوجه إلى بيت المقدس
كان باجتهاده عليه الصلاة والسلام. والمقصود أن التوجه إلى بيت المقدس بعد مقدمه
صلى الله عليه وسلم المدينة ، فاستمرَّ الأمرُ على ذلك بضعة عَشَرَ شهراً ، وكان
يكثر الدعاءَ والابتهالَ أنْ يُوَجَّه إلى الكعبة ، التي هي قبلة إبراهيم ، عليه
السلام ، فأجيب إلى ذلك ، وأمر بالتوجِّه إلى البيت العتيق ، فخطب رسولُ الله صلى
الله عليه وسلم الناس ، وأعلمهم بذلك. وكان أول صلاة صلاها إليها صلاة العصر ، كما
تقدم في الصحيحين من رواية البراء. ووقع عند النسائي من رواية أبي سعيد بن المعلى
: أنها الظهر (4). وأما أهل قُبَاء ، فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر من اليوم
الثاني ، كما جاء في الصحيحين ، عن ابن عمر أنه قال : بينما الناس بقباء في صلاة
الصبح ، إذ جاءهم آت فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة
قرآن وقد
__________
(1) في أ : "حدثني المعلى".
(2) في ط : "وينتظر".
(3) في أ : "فقال رجل".
(4) سنن النسائي الكبرى برقم (11004).
(1/453)
أمر
أن يستقبل الكعبة ، فاستقبلوها. وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة (1).
وفي هذا دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به ، وإن تقدم نزوله
وإبلاغه ؛ لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء ، والله أعلم.
ولما وقع هذا حصل لبعض الناس - من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود - ارتياب
وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك ، وقالوا : { مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي
كَانُوا عَلَيْهَا } أي : ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا ، وتارة يستقبلون كذا ؟
فأنزل الله جوابهم في قوله : { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } أي :
الحكم والتصرف والأمر كله لله ، وحيثما تولوا فثمَّ وجه الله ، و { لَيْسَ
الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ
الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } [ البقرة : 177]أي : الشأن كله في امتثال أوامر
الله ، فحيثما وجهنا توجهنا ، فالطاعة في امتثال أمره ، ولو وجهنا في كل يوم مرات
إلى جهات متعددة ، فنحن عبيده وفي تصريفه وخُدَّامُه ، حيثما وجَّهَنا توجهنا ،
وهو تعالى له بعبده ورسوله محمد - صلوات الله وسلامه عليه (2) - وأمتِه عناية
عظيمة ؛ إذ هداهم إلى قبلة إبراهيم ، خليل الرحمن ، وجعل توجههم إلى الكعبة
المبنية على اسمه تعالى وحده لا شريك له ، أشرف بيوت الله في الأرض ، إذ هي بناء
إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، ولهذا قال : { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }.
وقد روى الإمام أحمد ، عن علي بن عاصم ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عُمَر (3) بن
قيس ، عن محمد بن الأشعث ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يعني في أهل الكتاب - : "إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم
الجمعة ، التي هدانا الله لها وضلوا عنها ، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا
عنها ، وعلى قولنا خلف الإمام : آمين" (4).
وقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ
عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } يقول تعالى : إنما
حَوّلناكم إلى قبلة (5) إبراهيم ، عليه السلام ، واخترناها لكم (6) لنجعلكم خيار
الأمم ، لتكونوا يوم القيامة شُهَداء على الأمم ؛ لأن الجميع (7) معترفون (8) لكم
بالفضل. والوسط هاهنا : الخيار والأجود ، كما يقال : قريش أوسطُ العرب نسباً
وداراً ، أي : خيرها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطا في قومه ، أي :
أشرفهم نسبا ، ومنه الصلاة الوسطى ، التي هي أفضل الصلوات ، وهي العصر ، كما ثبت
في الصحاح وغيرها ، ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً خَصَّها بأكمل الشرائع وأقوم
المناهج وأوضح (9) المذاهب ، كما قال تعالى : { هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ
سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا
عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } [ الحج : 78]
__________
(1) صحيح البخاري برقم (403) وصحيح مسلم برقم (526).
(2) في ط : "صلى الله عليه وسلم".
(3) في ط ، أ ، و : "عن عمرو".
(4) المسند (6/134).
(5) في ط : "ملة".
(6) في أ : "واحترفناها لكم" ، وفي و : "واخترناكم لها".
(7) في أ : "الأمم".
(8) في ط : "معترفين" وهو خطأ..
(9) في جـ : "وأصح".
(1/454)
وقال
الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يدعى نوح يوم القيامة فيقال له : هل بلَّغت
؟ فيقول : نعم. فيدعى قومه فيقال لهم : هل بلغكم ؟ فيقولون : ما أتانا من نذير وما
أتانا من أحد ، فيقال لنوح : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأمته" قال : فذلك قوله
: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } (1).
قال : الوسط (2) : العدل ، فتدعون ، فتشهدون له بالبلاغ ، ثم أشهد عليكم (3).
رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن الأعمش ، [به] (4) (5).
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي
سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يجيء النبي يوم
القيامة [ومعه الرجل والنبي] (6) ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه ، فيقال
[لهم] (7) هل بلغكم هذا ؟ فيقولون : لا. فيقال له : هل بلغت قومك ؟ فيقول : نعم.
فيقال [له] (8) من يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأمته فيدعى بمحمد وأمته ، فيقال لهم :
هل بلغ هذا قومه ؟ فيقولون : نعم. فيقال : وما علمكم ؟ فيقولون : جاءنا نبينا صلى
الله عليه وسلم فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا" فذلك قوله عز وجل : { وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } قال : "عدلا { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى
النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } " (9).
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي
سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً وَسَطًا } قال : "عدلا" (10).
وروى الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه وابن أبي حاتم من حديث عبد الواحد بن زياد ، عن
أبي مالك الأشجعي ، عن المغيرة بن عتيبة (11) بن نهاس : حدثني مكتب لنا (12) عن
جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : أنا وأمَّتي يوم القيامة
على كَوْم مُشرفين على (13) الخلائق. ما من الناس أحد إلا ودّ أنه منَّا. وما من
نبي كَذَّبه قومه إلا ونحن نشهدُ أنه قد بلغ رسالةَ ربه ، عز وجل (14).
__________
(1) المسند (3/32).
(2) في جـ ، ط : "قال : والوسط".
(3) في جـ : "بقول يشهد عليكم" وفي ط : "وأشهد عليكم".
(4) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(5) صحيح البخاري برقم (3339 ، 4487) وسنن الترمذي برقم (2961) وسنن النسائي
الكبرى برقم (11007) وسنن ابن ماجة برقم (4284).
(6) زيادة من جـ ، أ ، والمسند.
(7) زيادة من جـ ، أ ، والمسند.
(8) زيادة من جـ ، والمسند.
(9) المسند (3/58).
(10) المسند (3/9).
(11) في جـ : "بن عيينة".
(12) في و : "مكاتب لنا".
(13) في جـ : "مشرف على".
(14) ورواه الطبري في تفسيره (3/147) من طريق ابن فضيل عن أبي مالك الأشجعي به.
(1/455)
وروى
الحاكم ، في مستدركه وابن مَرْدُويَه أيضاً ، واللفظ له ، من حديث مصعب بن ثابت ،
عن محمد بن كعب القُرَظي ، عن جابر بن عبد الله ، قال : شهد رسولُ الله صلى الله
عليه وسلم جنازة ، في بني سلمة ، وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فقال بعضهم : والله - يا رسولَ الله - لنعم المرءُ كان ، لقد كان عفيفا مسلما
وكان... وأثنوا عليه خيراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنت بما
تقول". فقال الرجل : الله أعلم بالسرائر ، فأما الذي بدا لنا منه فذاك. فقال
النبي صلى الله عليه وسلم : "وجبت". ثم شَهِد جنازة في بني حَارِثة ، وكنتُ
إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم : يا رسولَ الله ، بئس المرءُ
كان ، إن كان لفَظّاً غليظاً ، فأثنوا عليه شراً فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم لبعضهم : "أنت بالذي تقول". فقال الرجل : الله أعلم بالسرائر ،
فأما الذي بدا لنا منه فذاك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"وجبت".
قال مصعب بن ثابت : فقال لنا عند ذلك محمد بن كَعْب : صدقَ رسُول الله صلى الله
عليه وسلم ، ثم قرأ : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }
ثم قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا داود بن أبي الفرات ، عن عبد الله
بن بُريدة ، عن أبي الأسود أنه قال : أتيتُ المدينة فوافقتها ، وقد وقع بها مرض ،
فهم يموتون موتاً ذَريعاً. فجلست إلى عمر بن الخطاب ، فمرّت به جنازة ، فَأثْنِيَ
على صاحبها خير. فقال : وجبت وجَبَت. ثم مُرّ بأخرى فَأُثْنِيَ عليها شرٌّ ، فقال
عمر : وجبت [وجبت] (2). فقال أبو الأسود : ما وجبت يا أمير المؤمنين ؟ قال : قلت
كما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : "أيّما مسلم شَهِد له أربعة بخير
أدخله الله الجنة". قال : فقلنا. وثلاثة ؟ قال : "وثلاثة". قال ،
فقلنا : واثنان ؟ قال : "واثنان" ثم لم نسأله عن الواحد.
وكذا رواه البخاري ، والترمذي ، والنسائي من حديث داود بن أبي الفرات ، به (3).
قال ابن مَرْدويه : حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى ، حدثنا أبو قِلابة الرقاشي ،
حدثني أبو الوليد ، حدثنا نافع بن عمر ، حدثني أمية بن صفوان ، عن أبي بكر بن أبي
زهير الثقفي ، عن أبيه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنَّباوَة (4)
يقول : "يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم" قالوا : بم يا رسول الله ؟
قال : بالثناء الحسن والثناء السَّيِّئ ، أنتم شهداء الله في الأرض". ورواه
ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يزيد بن هارون (5). ورواه الإمام أحمد ، عن
يزيد بن هارون ، وعبد الملك بن عمر (6) وشريح ، عن نافع عن ابن عمر ، به (7).
__________
(1) المستدرك (2/268) وتعقبه الذهبي بقوله : "فيه مصعب بن ثابت ليس
بالقوي".
(2) زيادة من أ.
(3) المسند ( 1/22) وصحيح البخاري برقم (1368) وسنن الترمذي برقم (1059) وسنن
النسائي (4/50).
(4) في جـ : "بالبناوة".
(5) سنن ابن ماجة برقم (4221) وقال البوصيري في الزوائد (3/301) "إسناد صحيح
، رجاله ثقات".
(6) في جـ ، ط : "بن عمرو".
(7) لم أجده في المطبوع من المسند بهذا الطريق ، وذكره الحافظ ابن حجر في أطراف
المسند (6/231).
(1/456)
وقوله
تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ
مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ
لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } يقول تعالى : إنما شرعنا لك -
يا محمد - التوجه أولا إلى بيت المقدس ، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة ، ليظهر حالُ
من يَتَّبعك ويُطيعك ويستقبل معك حيثما توجهتَ مِمَّن ينقلب على عَقبَيْه ، أي :
مُرْتَدّاً عن (1) دينه { وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً } أي : هذه الفعلة ، وهو صرف
التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة ، أي : وإن كان هذا الأمر عظيماً في النفوس ، إلا
على الذين هدى الله قلوبهم ، وأيقنُوا بتصديق الرسُول ، وأنَّ كلَّ ما جاء به فهو الحقّ
الذي لا مرْية فيه ، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فله أن يكلّف عباده
بما شاء (2) ، وينسخ ما يشاء ، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك ،
بخلاف الذين في قلوبهم مرض ، فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكّاً ، كما يحصل للذين
آمنوا إيقان وتصديق ، كما قال الله تعالى : { وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ
فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 124 ،
125] وقال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } [ فصلت : 44] وقال
تعالى : { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ
وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } [ الإسراء : 82]. ولهذا كان مَن (3)
ثَبَتَ على تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه في ذلك ، وتوجه حيثُ أمره
الله من غير شك ولا رَيْب ، من سادات الصحابة. وقد ذهب بعضُهم إلى أن السابقين
الأولين من المهاجرين والأنصار هم الذين صلّوا القبلتين.
وقال البخاري في تفسير هذه الآية :
حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا يحيى ، عن سُفيان ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر قال
: بينا الناسُ يصلون الصبح في مسجد قُباء إذ جاء رجل فقال : قد أنزل على النبي صلى
الله عليه وسلم قرآن ، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها. فتوجهوا إلى الكعبة
(4).
وقد رواه مسلم من وجه آخر ، عن ابن عمر (5). ورواه الترمذي من حديث سفيان الثوري
(6) وعنده : أنهم كانوا ركوعاً ، فاستداروا كما هم إلى الكعبة ، وهم ركوع. وكذا
رواه مسلم من حديث حَمّاد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، مثله (7) ، وهذا يدل على
كمال طاعتهم لله ورسوله ، وانقيادهم لأوامر الله عز وجل ، رضي الله عنهم أجمعين.
__________
(1) في جـ : "مرتدا على".
(2) في أ : "بما يشاء".
(3) في جـ : "من كان".
(4) صحيح البخاري برقم (4488).
(5) صحيح مسلم برقم (526).
(6) سنن الترمذي برقم (341).
(7) صحيح مسلم برقم (527).
(1/457)
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
وقوله
: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أي : صلاتكم إلى بيت المقدس قبل
ذلك لا يضيع (1) ثوابها عند الله ، وفي الصحيح من حديث أبي إسحاق السَّبِيعي ، عن
البراء ، قال : مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس فقال الناس : ما حالهم في ذلك
؟ فأنزل الله تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } (2).
[ورواه الترمذي عن ابن عباس وصححه (3) ] (4).
وقال ابن إسحاق : حَدّثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن
عباس : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أي : بالقبلة الأولى ،
وتصديقكم نبيكم ، واتباعه إلى القبلة الأخرى. أي : لَيُعْطيكم (5) أجرَهما جميعا.
{ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }
وقال الحسن البصري : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أي : ما كان
الله ليضيع محمدا صلى الله عليه وسلم وانصرافكم معه حيث انصرف { إِنَّ اللَّهَ
بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين
ولدها ، فجعلت كُلَّما وجدت صبيًا من السبي أخذته فألصقته بصدرها ، وهي تَدُور على
، ولدها ، فلما وجدته ضمته إليها وألقمته ثديها. فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "أترون هذه طارحة ولدها في النار ، وهي تقدر على ألا تطرحه ؟"
قالوا : لا يا رسول الله. قال : "فوالله ، لله أرحم بعباده من هذه
بولدها" (6).
{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً
تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ
فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
يَعْمَلُونَ (144) }
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : كان أوَّل ما نُسخَ من القرآن القبلة ، وذلك أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجرَ إلى المدينة ، وكان أكثر أهلها اليهود ،
فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود ، فاستقبلها رسول الله صلى الله
عليه وسلم بضْعَةَ عَشَرَ شهرًا ، وكان يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو إلى الله وينظر
إلى السماء ، فأنزل الله : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ } إلى
قوله : { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } فارتاب من ذلك اليهود ، وقالوا : { مَا
وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ [يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] (7) } وقال : {
فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } [البقرة : 115] وقال الله تعالى :
{ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ
يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ }
__________
(1) في ط ، أ : "ما يضيع".
(2) سبق تخريج الحديث قريبا.
(3) سنن الترمذي برقم (2964).
(4) زيادة من جـ ، ط ، أ.
(5) في أ : "ليضيعنكم" وفي و : "ليعطينكم".
(6) صحيح البخاري برقم (5999) وصحيح مسلم برقم (2754).
(7) زيادة من ط.
(1/458)
وروى
ابن مَرْدريه من حديث القاسم العُمَري ، عن عمه عُبيد الله بن عمر ، عن داود بن
الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من
صلاته إلى بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء فأنزل الله : { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ
قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } إلى الكعبة
إلى الميزاب ، يَؤُم به جبرائيل (1) عليه السلام.
وروى الحاكم ، في مستدركه ، من حديث شعبة عن يعلى بن عطاء ، عن يحيى بن قمطة قال :
رأيت عبد الله بن عمرو (2) جالسا في المسجد الحرام ، بإزاء الميزاب ، فتلا هذه
الآية : { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } قال : نحو ميزاب الكعبة.
ثم قال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه (3).
ورواه ابن أبي حاتم ، عن الحسن بن عرفة ، عن هُشَيْم ، عن يعلى بن عطاء ، به.
وهكذا قال غيره ، وهو أحد قولي الشافعي ، رحمه الله : إن الغرض إصابة عين القبلة.
والقول الآخر وعليه الأكثرون : أن المراد المواجهة (4) كما رواه الحاكم من حديث
محمد بن (5) إسحاق ، عن عمير بن زياد الكندي ، عن علي ، رضي الله عنه ، { فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قال : شطره : قبله. ثم قال : صحيح
الإسناد ولم يخرجاه.
وهذا قول أبي العالية ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جُبَير ، وقتادة ، والربيع بن
أنس ، وغيرهم. وكما تقدم في الحديث الآخر : ما بين المشرق والمغرب قبلة.
[وقال القرطبي : روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : "ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل
الحرم ، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي (6) "] (7).
وقال أبو نعيم الفضل بن دكين :
حدثنا زهير ، عن أبي إسحاق ، عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى قبلَ
بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا ، وكان يعجبه قبلته قبل البيت وأنه
صَلّى صلاة العصر ، وصلى معه قوم ، فخرج رجل ممن كان يصلي معه ، فمر على أهل
المسجد وهم راكعون ، فقال : أشهد بالله لقد صَلّيت مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم قبل مكَّة ، فداروا كما هم قبل البيت (8).
__________
(1) في ط : "جبريل".
(2) في أ : "بن عمر".
(3) المستدرك (2/269).
(4) في ط ، أ ، و : "الوجهة".
(5) في ط : "محمد أبي".
(6) رواه البيهقي في السنن الكبرى (2/ 9 ، 10) من طريق عمر بن حفص عن ابن جريج به
، وقال البيهقي : "تفرد به عمر بن حفص المكي وهو ضعيف لا يحتج به ، وروى
بإسناد آخر ضعيف ، عن عبد الله بن حبش كذلك مرفوعا ، ولا يحتج بمثله ، والله
أعلم".
(7) زيادة من ج ، ط ، أ.
(8) رواه البخاري في صحيحه برقم (4486) عن أبي نعيم.
(1/459)
وقال
عبد الرزاق : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء [قال] (1) لما قدم رسول
الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر
شهرًا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحِب أن يحوَّل نحو الكعبة ، فنزلت :
{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً
تَرْضَاهَا] (2) } فصرف إلى الكعبة.
وروى النسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال : كنا نَغْدُو إلى المسجد على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فنمر على المسجد فنصلي فيه ، فمررنا يومًا - ورسول الله
صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر - فقلت : لقد حَدث أمر ، فجلست ، فقرأ رسول
الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } حتى فرغ من الآية. فقلت لصاحبي : تعال
نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكون أول من صلى ،
فتوارينا فصليناهما. ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فصلى للناس الظهر يومئذ (3).
وكذا روى ابن مَرْدويه ، عن ابن عمر : أن أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى الكعبة صَلاةُ الظهر ، وأنها الصلاة الوُسطى. والمشهور أن أول صلاة صلاها
إلى الكعبة صلاة العصر ، ولهذا تأخر الخبر عن أهل قباء إلى صلاة الفجر.
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا الحسين بن إسحاق
التَّسْتَري ، حدثنا رجاء بن محمد السقطي ، حدثنا إسحاق بن إدريس ، حدثنا إبراهيم
بن جعفر ، حدثني أبي ، عن جدته أم أبيه نُوَيلة بنت مسلم ، قالت : صَلَّينا الظهر
- أو العصر (4) - في مسجد بني حارثة ، فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا ركعتين ، ثم
جاء مَنْ يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام ، فتحول
النساءُ مكان (5) الرجال ، والرجالُ مكان (6) النساء ، فصلينا السجدتين الباقيتين
، ونحن مستقبلون (7) البيت الحرام. فحدثني رجل من بني حارثة أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : "أولئك رجال يؤمنون بالغيب" (8).
وقال ابن مردويه أيضًا : حدثنا محمد بن علي بن دُحَيْم ، حدثنا أحمد بن حازم ،
حدثنا مالك بن إسماعيل النهدي ، حدثنا قيس ، عن زياد بن علاقة ، عن عُمَارة بن أوس
قال : بينما نحن في الصلاة نحو بيت المقدس ، ونحن ركوع ، إذ أتى مناد بالباب : أن
القبلة قد حُوِّلت إلى الكعبة. قال : فأشهد على إمامنا أنه انحرف فتحوَّل هو
والرِّجال والصبيان ، وهم ركوع ، نحو الكعبة (9).
وقوله : { وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } أمَرَ تعالى
باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض ، شرقًا وغربًا وشمالا وجنوبًا ، ولا يستثنى
من هذا شَيء ، سوى النافلة في حال السفر ، فإنه
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، و.
(2) زيادة من جـ.
(3) سنن النسائي الكبرى (11004).
(4) في جـ : "الظهر والعصر".
(5) في أ : "موضع".
(6) في أ : "موضع".
(7) في أ : "ونحن مستقبلو".
(8) المعجم الكبير (25/43) وقال الهيثمي في المجمع (2/14) "فيه إسحاق بن
إدريس الأسواري وهو ضعيف متروك".
(9) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (1/335) عن شبابة عن قيس عن زياد به
(1/460)
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
يصليها
حيثما توجه قَالبُه ، وقَلْبُه نحو الكعبة. وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي
على كل حال ، وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده ، وإن كان مخطئًا في نفس الأمر
، لأن الله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها.
مسألة : وقد استدل المالكية بهذه الآية على أن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع
سجوده كما ذهب إليه الشافعي وأحمد وأبو حنيفة ، قال المالكية لقوله : { فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } فلو نظر إلى موضع سجوده لاحتاج أن يتكلف
ذلك بنوع من الانحناء وهو ينافي كمال القيام. وقال بعضهم : ينظر المصلي في قيامه
إلى صدره. وقال شريك القاضي : ينظر في حال قيامه إلى موضع سجوده كما قال جمهور
الجماعة ، لأنه أبلغ في الخضوع وآكد في الخشوع وقد ورد به الحديث ، وأما في حال
ركوعه فإلى موضع قدميه ، وفي حال سجوده إلى موضع أنفه وفي حال قعوده إلى حجره.
وقوله : { وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّهِمْ } أي : واليهودُ - الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت
المقدس - يعلمون أن الله تعالى سَيُوجهك إليها ، بما في كتبهم عن أنبيائهم ، من
النعت والصفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمَّته ، وما خصه الله تعالى به
وشَرفه من الشريعة الكاملة العظيمة ، ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسدًا
وكفرًا وعنادًا ؛ ولهذا يهددهم تعالى بقوله : { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
يَعْمَلُونَ } (1).
{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا
قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ
قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ
الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) }
يخبر تعالى (2) عن كُفر اليهود وعنادهم ، ومخالفتهم ما (3) يعرفونه من شأن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه لو أقام عليهم كل دليل على صحة ما جاءهم به ، لما
اتبعوه وتركوا أهواءهم (4) كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا
الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 96 ، 97] ولهذا قال هاهنا : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ }.
وقوله { وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ [وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ
قِبْلَةَ بَعْضٍ] } إخبار عن شدة متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما أمره الله
تعالى به ، وأنه كما هم مُسْتَمْسكون (5) بآرائهم وأهوائهم ، فهو أيضًا مستمسك (6)
بأمر الله وطاعته واتباع مرضاته ، وأنه لا يتبع أهواءهم في جميع أحواله ، وما كان
(7) متوجها إلى بيت المقدس ؛ لأنها (8) قبلة اليهود ، وإنما ذلك عن أمر الله تعالى
(9). ثم حذر [الله] (10) تعالى عن مخالفة
__________
(1) في جـ ، ط : "تعلمون".
(2) في جـ : "يخبر تبارك وتعالى".
(3) في جـ : "ومخالفتهم لما".
(4) في جـ : "وتركوا أهوائهم " وهو خطأ.
(5) في جـ ، ط : "متمسكون".
(6) في جـ ، ط : "متمسك".
(7) في جـ ، ط : "ولا كان".
(8) في جـ ، ط : "لكونها".
(9) في جـ : "الله تعالى وطاعته".
(10) زيادة من جـ.
(1/461)
الحق الذي يعلمه العالم إلى الهوى ؛ فإن العالم الحجة عليه أقوم من غيره. ولهذا قال مخاطبا للرسول ، والمراد الأمة : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ } [البقرة : 145].
(1/462)
الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
{
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ
وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) }
يخبر تعالى (1) أنّ علماء أهل الكتاب يعرفون صِحّة ما جاءهم به الرسول صلى الله
عليه وسلم [كما يعرفون أبناءهم] (2) كما يعرف أحدُهم ولده ، والعربُ كانت تضرب
المثل في صحة الشيء بهذا ، كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
لرجل معه صغير : "ابنك هذا ؟" قال : نعم يا رسول الله ، أشهد به. قال :
"أما إنه لا يَجْنِي عليك ولا تجْنِي عليه" (3).
[قال القرطبي : ويروى أن عمر قال لعبد الله بن سلام : أتعرف محمدًا صلى الله عليه
وسلم كما تعرف ولدك ابنك ، قال : نعم وأكثر ، نزل الأمين من السماء على الأمين ،
في الأرض بنعته فعرفته ، وإني لا أدري ما كان من أمره. قلت : وقد يكون المراد {
يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } من بين أبناء الناس لا يشك أحد
ولا يتمارى في معرفة ابنه إذا رآه من بين أبناء الناس كلهم] (4).
ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقق (5) والإتقان العلمي { لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ }
أي : ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم { وَهُمْ
يَعْلَمُونَ }
ثم ثبّت تعالى نبيه (6) والمؤمنين وأخبرهم بأن ما جاء (7) به الرسول (8) صلى الله
عليه وسلم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ، فقال : { الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا
تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }
{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا
تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (148) }
قال العوفي ، عن ابن عباس : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } يعني بذلك :
أهل الأديان ، يقول : لكل قبلة يرضونها ، ووجهة الله حيث توجه المؤمنون.
وقال أبو العالية : لليهودي وجهة هو موليها ، وللنصراني وجهة هو موليها ، وهَداكم
أنتم أيتها الأمة [الموقنون] (9) للقبلة التي هي القبلة. وروي عن مجاهد ، وعطاء ،
والضحاك ، والربيع بن أنس ، والسدي نحو هذا.
__________
(1) في جـ : "يخبر تبارك وتعالى".
(2) زيادة من ط.
(3) رواه أحمد في المسند (2/226 ، 228) وأبو داود في السنن برقم (4495).
(4) زيادة من ج ، ط ، أ.
(5) في جـ ، ط ، أ ، و : "التحقيق".
(6) في جـ : "النبي صلى الله عليه وسلم".
(7) في ط : "ما جاءهم به".
(8) في جـ : "النبي".
(9) زيادة من جـ.
(1/462)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
وقال
مجاهد في الرواية الأخرى : ولكن أمَرَ كلَّ قوم أن يصلوا إلى الكعبة.
وقرأ ابن عباس ، وأبو جعفر الباقر ، وابن عامر : "ولكلٍ وجهة هو
مُوَلاها".
وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ
لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ
مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا } [المائدة : 48].
وقال هاهنا : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : هو قادر على جمعكم من الأرض ، وإن تفرقت
أجسادكم وأبدانكم.
{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
(149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ
وَاخْشَوْنِي وَلأتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) }
هذا أمر ثالث من الله تعالى (1) باستقبال المسجد الحرام ، من جميع أقطار الأرض.
وقد اختلفوا في حكمة هذا التكرار ثلاث مرات ، فقيل : تأكيد لأنه أول ناسخ وقع ، في
الإسلام على ما نص عليه ابن عباس وغيره ، وقيل : بل هو منزل على أحوال ، فالأمر
الأول لمن هو مشاهد الكعبة ، والثاني لمن هو في مكة غائبًا عنها ، والثالث لمن هو
في بقية البلدان ، هكذا وجهه فخر الدين الرازي. وقال القرطبي : الأول لمن هو بمكة
، والثاني لمن هو في بقية الأمصار ، والثالث لمن خرج ، في الأسفار ، ورجح هذا
الجواب القرطبي ، وقيل : إنما ذكر ذلك لتعلقه بما قبله أو بعده من السياق ، فقال :
أولا { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً
تَرْضَاهَا } إلى قوله : { وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ
أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ }
فذكر في هذا المقام إجابته إلى طلبته وأمره بالقبلة التي كان يود التوجه إليها
ويرضاها ؛ وقال في الأمر الثاني : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ
بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } فذكر أنه الحق من الله وارتقى عن المقام الأول ،
حيث كان موافقًا لرضا الرسول صلى الله عليه وسلم فبين أنه الحق أيضًا من الله يحبه
ويرتضيه ، وذكر في الأمر الثالث حكمة قطع حجة المخالف من اليهود الذين كانوا
يتحججون باستقبال الرسول إلى قبلتهم ، وقد كانوا يعلمون بما في كتبهم أنه سيصرف
إلى قبلة إبراهيم ، عليه السلام ، إلى الكعبة ، وكذلك مشركو العرب انقطعت حجتهم
لما صرف الرسول صلى الله عليه وسلم عن قبلة اليهود إلى قبلة إبراهيم التي هي أشرف
، وقد كانوا يعظمون الكعبة وأعجبهم استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم إليها ،
وقيل غير ذلك من الأجوبة عن حكمة التكرار ، وقد بسطها فخر الدين وغيره ، والله -
سبحانه وتعالى - أعلم.
__________
(1) في جـ : "من الله تبارك وتعالى".
(1/463)
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
وقوله
: { لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } أي : أهل الكتاب ؛ فإنهم
يعلمون من صفة هذه الأمة التوجه إلى الكعبة ، فإذا فقدوا ذلك من صفتها ربما احتجوا
بها على المسلمين أو لئلا يحتجوا بموافقة المسلمين إياهم في التوجه إلى بيت
المقدس. وهذا أظهر.
قال أبو العالية : { لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } يعني به أهل
الكتاب حين قالوا : صُرف محمد إلى الكعبة.
وقالوا : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه (1) ودين قومه. وكان حجتهم على النبي صلى الله
عليه وسلم انصرافه إلى البيت الحرام أن قالوا : سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى
قبلتنا.
قال ابن أبي حاتم : وروى عن مجاهد ، وعطاء ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، وقتادة ،
والسدي ، نحو هذا.
وقال هؤلاء في قوله : { إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } يعني : مشركي قريش.
ووجه بعضهم حُجّة الظلمة - وهي داحضة - أن قالوا : إن هذا الرجل يزعمُ أنه على دين
إبراهيم : فإن كان توجّهه إلى بيت المقدس على ملة إبراهيم ، فلم رجع عنه ؟ والجواب
: أن الله تعالى اختار له التوجه إلى بيت المقدس أولا لما له تعالى في ذلك من
الحكمة ، فأطاع ربه تعالى في ذلك ، ثم صرفه إلى قبلة إبراهيم - وهي الكعبة -
فامتثل أمر الله في ذلك أيضًا ، فهو ، صلوات الله وسلامه عليه ، مطيع لله في جميع
أحواله ، لا يخرج عن أمر الله طرفة عين ، وأمتهُ تَبَع له.
وقوله : { فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي } أي : لا تخشوا شُبَهَ الظلمة
المتعنتين ، وأفْرِدُوا الخشية لي ، فإنه تعالى هو أهل أن يخشى منه.
وقوله : { وَلأتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } عطف على { لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } أي : ولأتم نعمتي عليكم فيما شرعت لكم من استقبال الكعبة ،
لتكمل لكم الشريعة من جميع وجوهها { وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي : إلى ما
ضَلّت عنه الأمم هديناكم إليه ، وخَصصْناكم به ، ولهذا كانت هذه الأمة أشرفَ الأمم
وأفضلها.
{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا
وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا
لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي
وَلا تَكْفُرُونِ (152) }
يُذكر تعالى عباده المؤمنين ما أنعم به عليهم من بعثة الرسول محمد صلى الله عليه
وسلم إليهم ، يتلو عليهم آيات الله مبينات وَيُزَكِّيهم ، أي : يطهرهم من رذائل
الأخلاق ودَنَس النفوس وأفعال الجاهلية ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ، ويعلمهم
الكتاب - وهو القرآن - والحكمة - وهي السنة - ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون. فكانوا
في الجاهلية الجَهْلاء يُسفَهُون بالقول الفرَى ، فانتقلوا ببركة رسالته ، ويُمن
سفارته ، إلى حال الأولياء ، وسجايا العلماء فصاروا أعمق الناس علمًا ، وأبرهم
قلوبًا ، وأقلهم تكلفًا ، وأصدقهم لهجة. وقال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ }
__________
(1) في أ : "في بيت الله".
(1/464)
الآية
[آل عمران : 164]. وذم من لم يعرف قدر هذه النعمة ، فقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ
الْبَوَارِ } [ إبراهيم : 28].
قال ابن عباس : يعني بنعمة الله محمدًا صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا نَدَب الله
المؤمنين إلى الاعتراف بهذه النعمة ومقابلتها بذكره وشكره ، فقال : {
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ }.
قال مجاهد في قوله : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ } (1) يقول :
كما فعلت فاذكروني.
قال عبد الله بن وهب ، عن هشام بن سعيد ، عن زيد بن أسلم : أن موسى ، عليه السلام
، قال : يا رب ، كيف أشكرك ؟ قال له ربه : تذكرُني ولا تنساني ، فإذا ذكرتني فقد
شكرتني ، وإذا نسيتني فقد كفرتني.
وقال الحسن البصري ، وأبو العالية ، والسدي ، والربيع بن أنس ، إن الله يذكر من
ذكره ، ويزيد من شكره ويعذب من كفره.
وقال بعض السلف في قوله تعالى : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [آل عمران :
102] قال : هو أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا يُنْسَى ، ويُشْكَرَ فلا يُكْفَر.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، أخبرنا يزيد بن هارون ،
أخبرنا عمارة الصيدلاني ، حدثنا مكحول الأزدي قال : قلت لابن عمر : أرأيت قاتل
النفس ، وشارب الخمر والسارق والزاني يذكر الله ، وقد قال الله تعالى : {
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } ؟ قال : إذا ذكر الله هذا ذكره الله بلعنته ، حتى
يسكت.
وقال الحسن البصري في قوله : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } قال : اذكروني ، فيما
افترضت عليكم أذكركم فيما أوجبت لكم على نفسي.
وعن سعيد بن جبير : اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي ، وفي رواية : برحمتي.
وعن ابن عباس في قوله { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } (2) قال : ذكر الله إياكم
أكبر من ذكركم إياه.
وفي الحديث الصحيح : "يقول الله تعالى : من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ،
ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه".
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة ، عن أنس قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قال الله عز وجل : يا ابن آدم ، إن
ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي ، وإن ذكرتني في ملإ ذكرتك ، في ملإ من الملائكة -
أو قال : [في] (3) ملأ خير منهم - وإن دنوت مني شبرًا دنوت منك ذراعًا ، وإن دنوت
مني ذراعا دنوت منك باعا ، وإن أتيتني تمشي أتيتك أهرول"
صحيح الإسناد : أخرجه البخاري من حديث قتادة (4). وعنده قال قتادة : الله أقرب
بالرحمة.
وقوله تعالى : { وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ } أمر الله تعالى بشكره ، ووعده
على شكره بمزيد الخير ، فقال : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ
لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [إبراهيم : 7].
وقال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا شعبة ، عن الفضيل (5) بن فضالة - رجل من قيس
-
__________
(1) في ط : "فيكم" وهو خطأ.
(2) في هـ : "اذكروني" والمثبت من ط.
(3) زيادة من أ ، والمسند.
(4) المسند (3/138) وصحيح البخاري برقم (7536).
(5) في أ : "عن الفضل".
(1/465)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
حدثنا
أبو رجاء العطاردي ، قال : خرج علينا عمران بن حصين وعليه مطْرف من خز لم نره (1)
عليه قبل ذلك ولا بعده ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من
أنعم الله عليه نعمة فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على خلقه". وقال روح مرة
: "على عبده" (2).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ
اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) }
__________
(1) في أ : "لم يرد".
(2) المسند (4/438).
(1/446)
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
{
وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ
وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) }
لما فرغ تعالى (1) من بيان الأمر بالشكر شرع في بيان الصبر ، والإرشاد إلى
الاستعانة بالصبر والصلاة ، فإن العبد إما أن يكون في نعمة فيشكر عليها ، أو في
نقمة فيصبر عليها ؛ كما جاء في الحديث : "عجبًا للمؤمن. لا يقضي الله له قضاء
إلا كان خيرًا له : إن أصابته سراء ، فشكر ، كان خيرًا له ؛ وإن أصابته ضراء فصبر
كان خيرًا له".
وبين تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب الصبر والصلاة ، كما تقدم في
قوله : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا
عَلَى الْخَاشِعِينَ } [البقرة : 45]. وفي الحديث كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا حَزَبَه أمر صلى (2). والصبر صبران ، فصبر على ترك المحارم والمآثم وصبر
على فعل الطاعات والقربات. والثاني أكثر ثوابًا لأنه المقصود. كما قال عبد الرحمن
بن زيد بن أسلم : الصبر في بابين ، الصبر لله بما أحب ، وإن ثقل على الأنفس (3)
والأبدان ، والصبر لله عما كره وإن نازعت إليه الأهواء. فمن كان هكذا ، فهو من
الصابرين الذين يسلم عليهم ، إن شاء الله.
وقال علي بن الحسين زين العابدين : إذا جمع الله الأولين والآخرين ينادي مناد :
أين الصابرون ليدخلوا الجنة قبل الحساب ؟ قال : فيقوم عُنُق من الناس ، فتتلقاهم
الملائكة ، فيقولون : إلى أين يا بني آدم ؟ فيقولون : إلى الجنة. فيقولون : وقبل
الحساب ؟ قالوا : نعم ، قالوا : ومن أنتم ؟ قالوا : الصابرون ، قالوا : وما كان
صبركم ؟ قالوا : صبرنا على طاعة الله ، وصبرنا عن معصية الله ، حتى توفانا الله.
قالوا : أنتم كما قلتم ، ادخلوا الجنة ، فنعم أجر العاملين.
قلت : ويشهد لهذا قوله تعالى : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ
بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر : 10].
وقال سعيد بن جبير : الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب منه ، واحتسابه عند الله
رجاء ثوابه ، وقد يجزع الرجل وهو مُتَجَلّد لا يرى منه إلا الصبر.
وقوله تعالى : { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ
بَلْ أَحْيَاءٌ } يخبر تعالى أن الشهداء في بَرْزَخِهم أحياء يرزقون ، كما جاء في
صحيح مسلم : "إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت (4)
ثم تأوي إلى قناديل مُعَلَّقة تحت العرش ، فاطَّلع عليهم ربك اطِّلاعَة ،
__________
(1) في جـ : "لما فرغ تبارك وتعالى".
(2) رواه أبو داود في السنن برقم (1319) من حديث حذيفة رضي الله عنه.
(3) في جـ : "وإن تقتل عليه الأنفس" وفي ط : "فإن ثقل على
الأنفس".
(4) في أ : "حيث ما شاءت".
(1/446)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
فقال
: ماذا تبغون ؟ فقالوا : يا ربنا ، وأيّ شيء نبغي ، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا
من خلقك ؟ ثم عاد إليهم بمثل هذا ، فلما رأوا أنهم لا يُتْرَكُون من أن يسألوا ،
قالوا : نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا ، فنقاتل في سبيلك ، حتى نقتل فيك مرة
أخرى ؛ لما يرون من ثواب الشهادة - فيقول الرب جلّ جلاله : إني كتبتُ أنَّهم إليها
لا يرجعون" (1).
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، عن الإمام الشافعي ، عن الإمام مالك ، عن
الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "نَسَمَةُ المؤمن طائر تَعْلَقُ في شجر الجنة ، حتى يرجعه الله
إلى جسده يوم يبعثه" (2).
ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضًا ، وإن كان الشهداء قد خصِّصُوا (3) بالذكر في
القرآن ، تشريفًا لهم وتكريمًا وتعظيما (4).
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ
الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ
إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) }
أخبر تعالى أنه يبتلي عباده [المؤمنين] (5) أي : يختبرهم ويمتحنهم ، كما قال تعالى
: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ
وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [محمد : 31] فتارة بالسراء ، وتارة
بالضراء من خوف وجوع ، كما قال تعالى : { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ
وَالْخَوْفِ } [النحل : 112] فإن الجائع والخائف كل منهما يظهر ذلك عليه ؛ ولهذا
قال : لباس الجوع والخوف. وقال هاهنا { بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ } أي :
بقليل من ذلك { وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ } أي : ذهاب بعضها { وَالأنْفُسِ } كموت
الأصحاب والأقارب والأحباب { وَالثَّمَرَاتِ } أي : لا تُغِلّ الحدائق والمزارع
كعادتها. كما قال بعض السلف : فكانت بعض النخيل لا تثمر غير واحدة. وكل هذا
وأمثاله مما يختبر الله به عباده ، فمن صبر أثابه [الله] (6) ومن قنط أحل [الله]
(7) به عقابه. ولهذا قال : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ }
وقد حكى بعضُ المفسرين أن المراد من الخوف (8) هاهنا : خوف الله ، وبالجوع : صيام
رمضان ، ونقص (9) الأموال : الزكاة ، والأنفس : الأمراض ، والثمرات : الأولاد.
وفي هذا نظر ، والله أعلم.
ثم بيَنَّ تعالى مَنِ الصابرون (10) الذين شكرهم ، قال : { الَّذِينَ إِذَا
أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }
أي : تسلَّوا بقولهم هذا عما أصابهم ، وعلموا أنَّهم ملك لله يتصرف في عبيده
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1887) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ولفظه مختلف لكن معناه
واحد.
(2) المسند (3/455).
(3) في جـ : "قد خصوا".
(4) في جـ : "تعظيما وتكريما".
(5) زيادة من جـ.
(6) زيادة من جـ.
(7) زيادة من جـ.
(8) في جـ : "أن المراد بالخوف".
(9) في جـ : "وبنقص".
(10) في جـ : "الصابرين".
(1/467)
بما
(1) يشاء ، وعلموا أنه لا يضيع لديه مثْقال ذرَّة يوم القيامة ، فأحدث لهم ذلك
اعترافهم بأنهم عبيده ، وأنهم إليه راجعون في الدار الآخرة. ولهذا أخبر تعالى عما
(2) أعطاهم على ذلك فقال : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ } أي
: ثناء من الله عليهم ورحمة.
قال سعيد بن جبير : أي أَمَنَةٌ من العذاب { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ }
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : نعم العدْلان ونعمت العلاوة { أُولَئِكَ
عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } فهذان العدلان { وَأُولَئِكَ
هُمُ الْمُهْتَدُونَ } فهذه العلاوة ، وهي ما توضع بين العدلين ، وهي زيادة في
الحمل وكذلك هؤلاء ، أعطوا ثوابهم وزيدوا (3) أيضًا.
وقد ورد في ثواب الاسترجاع ، وهو قول (4) { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ } عند المصائب أحاديث كثيرة. فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد :
حدثنا يونس ، حدثنا ليث - يعني ابن سعد - عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد ،
عن عمرو بن أبي عَمْرو ، عن المطلب ، عن أم سلمة قالت : أتاني أبو سلمة يومًا من
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه
وسلم قولا سُررْتُ به. قال : "لا يصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند
مصيبته ، ثم يقول : اللهم أجُرني في مصيبتي واخلُف لي خيرًا منها ، إلا فُعِل ذلك
به". قالت أم سلمة : فحفظت ذلك منه ، فلما توفي أبو سلمة استرجعت وقلت :
اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منه ، ثم رجعت إلى نفسي. فقلت : من أين لي
خير (5) من أبي سلمة ؟ فلما انقضت عدَّتي استأذن علي رسول الله صلى الله عليه وسلم
- وأنا أدبغ إهابا لي - فغسلت يدي من القَرَظ (6) وأذنت له ، فوضعت له وسادة أدم
حَشْوُها ليف ، فقعد عليها ، فخطبني إلى نفسي ، فلما فرغ من مقالته قلت : يا رسول
الله ، ما بي ألا يكون بك الرغبة ، ولكني امرأة ، فيّ غَيْرة شديدة ، فأخاف أن ترى
مني شيئًا يعذبني الله به ، وأنا امرأة قد دخلتُ في السن ، وأنا ذات عيال ، فقال :
"أما ما ذكرت من الغيرة فسوف يُذهبها (7) الله ، عز وجل عنك. وأما ما ذكرت من
السِّن فقد أصابني مثلُ الذي أصابك ، وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك
عيالي". قالت : فقد سلَّمْتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فتزوجها رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت أم سلمة بعد : أبدلني الله بأبي سلمة خيرًا منه ،
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (8).
وفي صحيح مسلم ، عنها أنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
"ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ } اللهم أجُرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها ، إلا آجره الله من
مصيبته ، وأخلف له خيرا منها" قالت : فلما تُوُفي أبو سلمة قلت كما أمرني
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخلف الله لي خيرا منه : رسولَ الله صلى الله
عليه وسلم (9).
__________
(1) في جـ : "كيف".
(2) في جـ : "بما".
(3) في جـ : "ويزيدوا".
(4) في جـ : "وهو قوله".
(5) في ط : "خيرا".
(6) في أ : "القذى".
(7) في جـ : "من الغيرة فسيذهبها".
(8) المسند (4/27).
(9) صحيح مسلم برقم (918).
(1/468)
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
وقال
الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، وعَبَّاد بن عباد قالا حدثنا هشام بن أبي هشام ، حدثنا
عباد بن زياد ، عن أمه ، عن فاطمة ابنة (1) الحسين ، عن أبيها الحسين بن علي ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها
وإن طال عهدها - وقال عباد : قدم عهدها - فيحدث لذلك استرجاعا ، إلا جدد الله له
عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب" (2).
ورواه ابنُ ماجه في سُنَنه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن وَكِيع ، عن هشام بن
زياد ، عن أمه ، عن فاطمة بنت الحسين ، عن أبيها [الحسين] (3) (4).
وقد رواه إسماعيل بن عُلَية ، ويزيد بن هارون ، عن هشام بن زياد (5) عن أبيه ، كذا
عن ، فاطمة ، عن أبيها.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق السالحيني ، أخبرنا حماد بن سلمة ، عن أبي
سنان قال : دفنتُ ابنًا لي ، فإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة - يعني الخولاني
- فأخرجني ، وقال لي : ألا أبشرك ؟ قلت : بلى. قال : حدثني الضحاك بن عبد الرحمن
بن عرْزَب ، عن أبي موسى ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قال
الله (6) : يا ملك الموت ، قبضتَ ولد عبدي ؟ قبضت قُرَّة عينه وثمرة فؤاده ؟ قال
نعم. قال : فما (7) قال ؟ قال : حَمِدَك واسترجع ، قال : ابنو له بيتًا في الجنة ،
وسمُّوه بيتَ الحمد".
ثم رواه عن علي بن إسحاق ، عن عبد الله بن المبارك. فذكره (8). وهكذا رواه الترمذي
عن سُوَيد بن نصر ، عن ابن المبارك ، به. (9) وقال : حسن غريب. واسم أبي سنان :
عيسى بن سنان.
{ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ
أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ
خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) }
قال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود الهاشمي ، أخبرنا إبراهيم بن سعد ، عن
الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : قلت : أرأيت قول الله تعالى : { إِنَّ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ
اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } قلت : فوالله ما على
أحد جناح أن لا يطَّوف بهما ؟ فقالت عائشة : بئسما قلت يا ابن أختي إنها لو كانت
على ما أوّلتَها (10) عليه كانت : فلا جناح عليه
__________
(1) في جـ : "بنت".
(2) المسند (1/201).
(3) زيادة من ط.
(4) سنن ابن ماجة برقم (1600) وقال البوصيري في الزوائد (1/528) "هذا إسناد
فيه هشام بن زياد وهو ضعيف".
(5) في جـ ، ط : "بن يزيد".
(6) في و : "إذا مات ولد العبد قال الله".
(7) في جـ : "فماذا".
(8) المسند (4/415).
(9) سنن الترمذي برقم (1021).
(10) في جـ : "كما أولتها".
(1/469)
ألا
يطوف بهما ، ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يُهِلّون
لمناة الطاغية ، التي كانوا يعبدونها عند المُشلَّل. وكان من أهلَّ لها يتحرج أن
يطوَّف بالصفا والمروة ، فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا :
يا رسول الله ، إنا كنا نتحرج أن نطَّوف بالصفا والمروة في الجاهلية. فأنزل الله
عز وجل : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } إلى قوله : {
فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } قالت عائشة : ثم قد سنّ رسول
الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما ، فليس لأحد أن يَدع الطواف بهما. أخرجاه في
الصحيحين (1).
وفي رواية عن الزهري أنه قال : فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث
بن هشام ، فقال : إن هذا العلم ، ما كنت سمعته ، ولقد سمعتُ رجالا (2) من أهل
العلم يقولون (3) إن الناس - إلا من ذكرتْ عائشة - كانوا يقولون : إن طوافنا بين
هذين الحجرين من أمر الجاهلية. وقال آخرون من الأنصار : إنما أمرنا بالطواف بالبيت
، ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة ، فأنزل الله تعالى : { إِنَّ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } قال أبو بكر بن عبد الرحمن : فلعلها نزلت
في هؤلاء وهؤلاء.
ورواه البخاري من حديث مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة (4) بنحو ما
تقدم. ثم قال البخاري : حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن عاصم بن سُليمان
قال : سألت أنسًا عن الصفا والمروة قال : كنا نرى ذلك (5) من أمر الجاهلية ، فلما
جاء الإسلام أمسكنا عنهما ، فأنزل الله عز وجل : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ
مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } (6).
وذكر القرطبي (7) في تفسيره عن ابن عباس قال : كانت الشياطين تفرق بين الصفا
والمروة الليل كله ، وكانت بينهما آلهة ، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، عن الطواف بينهما ، فنزلت هذه الآية. وقال الشعبي : كان إساف على
الصفا ، وكانت نائلة على المروة ، وكانوا يستلمونهما فتحرجوا بعد الإسلام من
الطواف بينهما ، فنزلت هذه الآية. قلت : وذكر ابن إسحاق في كتاب السيرة (8) أن
إسافا ونائلة كانا بشرين ، فزنيا داخل الكعبة فمسخا حجرين فنصبتهما قُريش تجاه
الكعبة ليعتبر بهما الناس ، فلما طال عهدهما عبدا ، ثم حولا إلى الصفا والمروة ،
فنصبا هنالك ، فكان من طاف بالصفا والمروة يستلمهما ، ولهذا يقول أبو طالب ، في
قصيدته المشهورة :
وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم... بمفضى السيول من إساف ونائل...
وفي صحيح مسلم [من] (9) حديثُ جابر الطويلُ ، وفيه : أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لما فرغ من طوافه
__________
(1) المسند (6/144) وصحيح البخاري برقم (1643).
(2) في جـ : "رجلا".
(3) في جـ : "يقول".
(4) صحيح البخاري برقم (4495).
(5) في جـ : "أنها".
(6) صحيح البخاري برقم (4496).
(7) في أ : "وذكر الطبري".
(8) السيرة النبوية لابن إسحاق (رقم النص 4) ط ، حميد الله ، المغرب.
(9) زيادة من جـ.
(1/470)
بالبيت
، عاد إلى الركن فاستلمه ، ثم خرج من باب الصفا ، وهو يقول : { إِنَّ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } ثم قال : "أبدأ بما بدأ الله
به". وفي رواية النسائي : "ابدؤوا بما بدأ الله به" (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا شريح ، حدثنا عبد الله بن المؤمل ، عن عطاء بن أبي رباح
، عن صفية بنت شيبة ، عن حَبِيبة بنت أبي تجراة (2) قالت : رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة ، والناس بين يديه ، وهو وراءهم ، وهو يسعى
حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره ، وهو يقول : "اسعَوا ، فإن الله
كتب عليكم السعي" (3).
ثم رواه الإمام أحمد ، عن عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن واصل - مولى أبي
عُيَينة - عن موسى بن عبيدة (4) عن صفية بنت شيبة ، أن امرأة أخبرتها أنها سمعت
النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول : "كتب عليكم السعي ،
فاسعوا" (5).
وقد استُدلّ بهذا الحديث على مذهب من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج
، كما هو مذهب الشافعي ، ومن وافقه [ورواية عن أحمد وهو المشهور عن مالك] (6).
وقيل : إنه واجب ، وليس بركن [فإن تركه عمدًا أو سهوا جبره بدم وهو رواية عن أحمد
وبه تقول طائفة وقيل : بل مستحب ، وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري والشعبي وابن سيرين
، وروي عن أنس وابن عمر وابن عباس ، وحكي عن مالك في العتبية ، قال القرطبي : واحتجوا
بقوله : { فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا } ] (7). وقيل : بل مستحب. والقول الأول أرجح
، لأنه عليه السلام طاف بينهما ، وقال : "لتأخذوا عني مناسككم". فكل ما
فعله في حَجته تلك واجب لا بد من فعله في الحج ، إلا ما خرج بدليل ، والله أعلم
[وقد تقدم قوله عليه السلام : "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي"] (8).
فقد بين الله - تعالى - أن الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله ، أي : مما شرع
الله تعالى لإبراهيم الخليل في مناسك الحج ، وقد تقدم في حديث ابن عباس أن أصل ذلك
مأخوذ من تطواف (9) هاجر وتردادها بين الصفا والمروة في طلب الماء لولدها ، لما
نفد ماؤها وزادُها ، حين تركهما إبراهيم - عليه السلام - هنالك ليس عندهما أحد من
الناس ، فلما خافت الضيعة على ولدها هنالك ، ونفد ما عندها قامت تطلب الغوث من
الله ، عز وجل ، فلم تزل تردد (10) في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة متذللة
خائفة وجلة مضطرة فقيرة إلى الله ، عز وجل ، حتى كشف الله كربتها ، وآنس غربتها ،
وفرج شدتها ، وأنبع لها زمزم التي ماؤها طعام طعم ، وشفاء سقم ، فالساعي بينهما
ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله في هداية قلبه وصلاح حاله وغفران
ذنبه ، وأن يلتجئ إلى الله ،
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1218).
(2) في جـ : "بنت أبي تجر".
(3) المسند (6/421).
(4) في أ : "بن عبدة".
(5) المسند (6/437).
(6) زيادة من جـ ، ط ، أ.
(7) زيادة من جـ ، ط ، أ.
(8) زيادة من جـ ، ط ، أ.
(9) في جـ : "تطوف" وفي أ : "طواف".
(10) في جـ : "تزل تتردد".
(1/471)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
عز
وجل ، ليُزيح ما هو به من النقائص والعيوب ، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم (1)
وأن يثبته عليه إلى مماته ، وأن يحوّله من حاله الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي ،
إلى حال الكمال والغُفران والسداد والاستقامة ، كما فعل بهاجر - عليها السلام.
وقوله : { فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا } (2) قيل : زاد في طوافه بينهما على قدر
الواجب ثامنة وتاسعة ونحو ذلك. وقيل : يطوف بينهما (3) في حجة تطوع ، أو عمرة
تطوع. وقيل : المراد تطوع خيرًا في سائر العبادات. حكى ذلك [فخر الدين] (4) الرازي
، وعزي الثالث إلى الحسن البصري ، والله أعلم. وقوله : { فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ
عَلِيمٌ } أي : يثيب على القليل بالكثير { عَلِيمٌ } بقدر الجزاء فلا يبخس أحدا
ثوابه و { لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا
وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء : 40].
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ
بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ
وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ (159) إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا
فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ
اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لا
يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) }
هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسلُ من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة
والهدى النافع للقلوب ، من بعد ما بينه الله - تعالى - لعباده في كتبه ، التي
أنزلها على رسله.
قال (5) أبو العالية : نزلت في أهل الكتاب ، كتمُوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم
ثم أخبر أنهم (6). يلعنهم كلّ شيء على صنيعهم ذلك ، فكما أن العالم يستغفر له كلّ
شيء ، حتى الحوت في الماء والطير في الهواء ، فهؤلاء (7) بخلاف العلماء [الذين
يكتمون] (8) فيلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. وقد ورد في الحديث المسند من طرق يشد
بعضها بعضًا ، عن أبي هريرة ، وغيره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"من سُئِل عن علم فكتمه ، ألجم يوم القيامة بلجام من نار" (9). والذي في
الصحيح عن أبي هريرة أنه قال : لولا آية في كتاب الله ما حدثتُ أحدًا شيئًا : {
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى } الآية
(10).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا عمار بن محمد ، عن ليث بن أبي
سليم ،
__________
(1) في جـ : "إلى صراط مستقيم" ، وفي ط : "إلى صراطه
المستقيم".
(2) في أ ، و : "ومن".
(3) في أ : "بها".
(4) زيادة من جـ ، ط ، أ.
(5) في جـ : "وقال".
(6) في جـ : "أنه".
(7) في جـ : "فهو".
(8) زيادة من جـ ، ط.
(9) المسند (2/263) وقد توسع الحافظ الزيلعي في كتابه "تخريج أحاديث
الكشاف" (1/252 - 257) في ذكر طرق هذا الحديث.
(10) صحيح البخاري برقم (118) وصحيح مسلم برقم (2492).
(1/472)
عن
(1) المنهال بن عمرو ، عن زاذان أبي عُمَر (2) عن البراء بن عازب ، قال : كنا مع
النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة ، فقال : "إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه
، فيسمع كل (3) دابة غير الثقلين ، فتلعنه كل دابة سمعت صوته ، فذلك قول الله تعالى
: { أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ } يعني : دواب
الأرض" (4).
[ورواه ابن ماجة عن محمد بن الصباح عن عمار بن محمد به] (5).
وقال عطاء بن أبي رباح : كل دابة والجن والإنس. وقال مجاهد : إذا أجدبت الأرض قالت
البهائم : هذا من أجل عُصاة بني آدم ، لعن الله عصاة بني آدم.
وقال أبو العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة { وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ } يعني
تلعنهم ملائكة الله ، والمؤمنون.
[وقد جاء في الحديث ، أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان ، وجاء في هذه الآية
: أن كاتم العلم يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون ، واللاعنون أيضًا ، وهم كل
فصيح وأعجمي إما بلسان المقال ، أو الحال ، أو لو كان له عقل ، أو يوم القيامة ،
والله أعلم] (6).
ثم استثنى الله تعالى من هؤلاء من تاب إليه فقال : { إِلا الَّذِينَ تَابُوا
وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا } أي : رجعوا عما كانوا فيه وأصلحوا أعمالهم وأحوالهم
وبينوا للناس ما كانوا كتموه { فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } وفي هذا دلالة على أن الداعية إلى كفر ، أو بدعة إذا تاب
إلى الله تاب الله عليه.
وقد ورد أن الأمم السابقة لم تكن التوبة تقبل (7) من مثل هؤلاء منهم ، ولكن هذا من
شريعة نبي التوبة ونبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه.
ثم أخبر تعالى عمن كفر به واستمرّ به الحالُ إلى مماته بأن { عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ
اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا } أي : في
اللعنة التابعة (8) لهم إلى يوم القيامة (9) ثم المصاحبة لهم في نار جهنم التي {
لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ } فيها ، أي : لا ينقص عَمَّا هم فيه { وَلا
هُمْ يُنْظَرُونَ } أي : لا يغير (10) عنهم ساعة واحدة ، ولا يفتَّر ، بل هو
متواصل دائم ، فنعوذ بالله من ذلك.
وقال أبو العالية وقتادة : إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ، ثم تلعنه
الملائكة ، ثم يلعنه الناس أجمعون.
فصل : لا خلاف في جواز لعن الكفار ، وقد كان عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، وعمن
بعده
__________
(1) في جـ : "قال".
(2) في أ : "زاذان بن عمر".
(3) في جـ ، أ ، و : "يسمعها".
(4) هذا قطعة من حديث طويل رواه أبو داود في السنن برقم (4753 ، 4754) والنسائي في
السنن (4/78) من طريق زاذان به ، وسيأتي ذكره عند قوله تعالى : (يثبت الله الذين
آمنوا) في تفسير سور إبراهيم.
(5) زيادة من جـ ، ط ، أ.
(6) زيادة من جـ ، ط ، أ.
(7) في جـ : "تقبل منهم".
(8) في جـ : "الباقية".
(9) في أ : "يوم الدين".
(10) في جـ ، أ ، و : "لا يفتر".
(1/473)
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
من
الأئمة ، يلعنون الكفرة في القنوت وغيره ؛ فأما الكافر المعين ، فقد ذهب جماعة من
العلماء إلى أنه لا يلعن لأنا لا ندري بما يختم له ، واستدل بعضهم بهذه الآية : {
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ
لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } وقالت طائفة أخرى : بل
يجوز لعن الكافر المعين. واختار ذلك الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي ، ولكنه
احتج بحديث فيه ضعف ، واستدل غيره بقوله ، عليه السلام ، في صحيح البخاري في قصة
الذي كان يؤتى به سكران فيحده ، فقال رجل : لعنه الله ، ما أكثر ما يؤتى به ، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله" (1)
قالوا : فعلَّة المنع من لعنه ؛ بأنه يحب الله ورسوله فدل على أن من لا يحب الله
ورسوله يلعن ، والله أعلم.
{ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
}
يُخبرُ تعالى عن تفرده بالإلهية ، وأنه لا شريك له ولا عَديل له ، بل هو الله
الواحد الأحد الفرد الصمد ، الذي لا إله إلا هو وأنه الرحمن الرحيم. وقد تقدم
تفسير هذين الاسمين في أول السورة (2). وفي الحديث عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت
يزيد بن السكن ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "اسم الله الأعظم
في هاتين الآيتين : { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ
الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } و { الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ
الْقَيُّومُ } [آل عمران : 1 ، 2] " (3)
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (6780) من حديث عمر رضي الله عنه.
(2) في جـ ، ط ، أ ، و : "في أول الفاتحة".
(3) رواه أبو داود في السنن برقم (1496) والترمذي في السنن برقم (3478) وقال
الترمذي : "هذا حديث حسن صحيح".
(1/474)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
{
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزلَ
اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا
وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ
الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) }
ثم ذكر الدليل على تفرده بالإلهية [بتفرده] (1) بخلق السموات والأرض وما فيهما ،
وما بين ذلك مما ذرأ وبرأ من المخلوقات الدالة على وحدانيته ، فقال : { إِنَّ فِي
خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ
الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ
السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا
مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ
السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } يقول تعالى : { إِنَّ فِي
خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } تلك في [لطافتها و] (2) ارتفاعها واتساعها
وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها ، وهذه الأرض في [كثافتها و] (3) انخفاضها
وجبالها وبحارها وقفارها وَوِهَادها وعُمْرانها وما فيها من المنافع { وَاخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } هذا يجيء ثم يذهب ويخلفه الآخر ويعقبه ، لا (4) يتأخر
عنه لحظة ، كما قال تعالى : { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ
الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }
[يس : 40] وتارة يطول هذا ويقصر هذا ، وتارة يأخذ هذا من هذا ثم يتقارضان ، كما
قال تعالى : { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي
اللَّيْلِ } [الحج : 61] أي : يزيد من هذا في هذا ، ومن هذا في هذا { وَالْفُلْكِ
الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ }
__________
(1) زيادة من جـ ، ط.
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ.
(4) في ط : "ولا".
(1/474)
أي
: في تسخير البحر لحمل السفن من جانب إلى جانب لمعاش الناس ، والانتفاع بما عند
أهل ذلك الإقليم ، ونقل هذا إلى هؤلاء وما عند أولئك إلى هؤلاء (1) { وَمَا أَنزلَ
اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا }
كما قال تعالى : { وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا
وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ
مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا
مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ
الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ
وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ } [يس : 33 - 36]{ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ }
أي : على اختلاف أشكالها وألوانها ومنافعها وصغرها وكبرها ، وهو يعلم ذلك كله
ويرزقه لا يخفى عليه شيء من ذلك ، كما قال تعالى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي
الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا
وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [هود : 6]{ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ
} أي : تارة تأتي بالرحمة وتارة تأتي بالعذاب ، تارة (2) تأتي مبشرة (3) بين يدي
السحاب ، وتارة تسوقه ، وتارة تجمعه ، وتارة تفرقه ، وتارة تصرفه ، [ثم تارة تأتي
من الجنوب وهي الشامية ، وتارة تأتي من ناحية اليمن وتارة صبا ، وهي الشرقية التي
تصدم وجه الكعبة ، وتارة دبور وهي غربية تفد من ناحية دبر الكعبة والرياح تسمى
كلها بحسب مرورها على الكعبة. وقد صنف الناس في الرياح والمطر والأنواء كتبا كثيرة
فيما يتعلق بلغاتها وأحكامها ، وبسط ذلك يطول هاهنا ، والله أعلم] (4). {
وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ } [أي : سائر بين السماء
والأرض] (5) يُسَخَّر إلى ما يشاء الله (6) من الأراضي والأماكن ، كما يصرفه تعالى
: { لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي : في هذه الأشياء دلالات بينة على وحدانية
الله تعالى ، كما قال تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ
اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ
فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران : 190 ، 191]. وقال الحافظ أبو بكر بن
مَرْدُويه : أخبرنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا أبو سعيد الدَّشْتَكِيّ ،
حدثني أبي ، عن أبيه ، عن أشعث بن إسحاق ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن
جبير ، عن ابن عباس قال : أتت قريش محمدًا صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد
إنما نريد أن تدعو ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا ، فنشتري به الخيل والسلاح ، فنؤمن
بك ونقاتل معك. قال : "أوثقوا (7) لي لئِنْ دعوتُ ربي فجعلَ لكم الصفا ذهبًا
لتُؤْمنُنّ بي" فأوثقوا له ، فدعا ربه ، فأتاه جبريل فقال : إن ربك قد أعطاهم
الصفا ذهبًا على أنهم إن لم يؤمنوا بك عذبهم عذابًا لم يعذبه أحدًا من العالمين.
قال محمد صلى الله عليه وسلم : "ربّ لا بل دعني وقومي فلأدعهم يومًا
بيوم". فأنزل الله هذه الآية : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ
بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ } الآية.
__________
(1) في جـ : "أولئك لهؤلاء".
(2) في جـ : "وتارة".
(3) في أ : "مسيرة".
(4) زيادة من جـ ، ط ، أ.
(5) زيادة من جـ ، أ ، و.
(6) في جـ : "مسخرا إلى ما شاء الله" وفي ط : "مسخر إلى ما يشاء
الله".
(7) في أ : "أوقفوا".
(1/475)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
ورواه
ابن أبي حاتم من وجه آخر ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، به (1). وزاد في آخره : وكيف
يسألونك عن الصفا وهم يرون من الآيات ما هو أعظم من الصفا.
وقال ابن أبي حاتم أيضًا : حدثنا أبي ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي
نَجيح ، عن عطاء ، قال : نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة : {
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } فقال
كفار قريش بمكة : كيف يسع الناس إله واحد ؟ فأنزل الله تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي
تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ } إلى قوله : { لآيَاتٍ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ }
فبهذا يعلمون أنه إله واحد ، وأنه إله كل شيء وخالق كل شيء.
وقال وكيع : حدثنا سفيان ، عن أبيه ، عن أبي الضحى قال : لما نزلت : {
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } إلى آخر الآية ، قال المشركون : إن كان هكذا
فليأتنا بآية. فأنزل الله عز وجل : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } إلى قوله : { يَعْقِلُونَ }
ورواه آدم بن أبي إياس ، عن أبي جعفر - هو الرازي - عن سعيد بن مسروق ، والد سفيان
، عن أبي الضحى ، به.
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ
كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا
وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا
مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ
(166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ
مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ
حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) }
يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا وما لهم في الدار الآخرة ، حيث جعلوا [له]
(2) أندادًا ، أي : أمثالا ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه ، وهو الله لا إله
إلا هو ، ولا ضد له ولا ندَّ له ، ولا شريك معه. وفي الصحيحين عن عبد الله بن
مسعود قال : قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟ قال : "أن تجعل لله ندًا
وهو خلَقَك" (3).
وقوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } ولحبهم لله وتمام معرفتهم
به ، وتوقيرهم وتوحيدهم له ، لا يشركون به شيئًا ، بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه
، ويلجؤون في جميع أمورهم إليه. ثم تَوَعَّدَ تعالى المشركين به ، الظالمين
لأنفسهم بذلك فقال : { وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ
أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا }.
__________
(1) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (12/12) من طريق يحيى الحماني عن يعقوب القمي
، عن جعفر بن أبي المغيرة به نحوه.
(2) زيادة من جـ.
(3) صحيح البخاري برقم (4477) وصحيح مسلم برقم (68).
(1/476)
قال
بعضهم : تقدير الكلام : لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعًا ، أي :
إن الحكم له (1) وحده لا شريك له ، وأن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه {
وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } كما قال : { فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ
عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } [الفجر : 25 ، 26] يقول : لو
علموا ما يعاينونه (2) هنالك ، وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على
شركهم وكفرهم ، لانتهوا عما هم فيه من الضلال.
ثم أخبر عن كفرهم بأوثانهم وتبرؤ المتبوعين من التابعين ، فقال : { إِذْ تَبَرَّأَ
الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [وَرَأَوُا الْعَذَابَ
وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ] (3) } تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم
يعبدونهم في دار الدنيا ، فتقول الملائكة : { تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا
إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } [القصص : 63] ويقولون : { سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا
مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ
مُؤْمِنُونَ } [سبأ : 41] والجن أيضًا تتبرأ منهم ، ويتنصلون من عبادتهم لهم ، كما
قال تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا
يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ *
وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ
كَافِرِينَ } [الأحقاف : 5 ، 6] وقال تعالى : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ
آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ
وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } [مريم : 81 ، 82] وقال الخليل لقومه : { إِنَّمَا
اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ
بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }
[العنكبوت : 25] وقال تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ
عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ *
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ
عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ
الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ
أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا
الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ } [سبأ : 31 - 33] وقال تعالى : { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ
الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ
فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا
أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا
أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
[إبراهيم : 22].
وقوله : { وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ } أي : عَاينوا
عذاب الله ، وتقطَّعت بهم الحيَلُ وأسباب الخلاص ولم يجدوا عن النار مَعْدلا ولا
مَصْرفا.
قال عطاء عن ابن عباس : { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ } قال : المودة. وكذا
قال مجاهد في رواية ابن أبي نجيح.
وقوله : { وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ
مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا } أي : لو أن لنا عَوْدة (4) إلى
__________
(1) في جـ ، ط : "إن الحكم لله".
(2) في جـ : "ما يعاينوه".
(3) زيادة من جـ.
(4) في ط : "دعوة".
(1/477)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
الدار
الدنيا حتى نَتَبَرَّأ من هؤلاء ومن عبادتهم ، فلا نلتفت إليهم ، بل نوحد الله
وحده بالعبادة. وهم كاذبون في هذا ، بل لو رُدّوا لعادوا لما نهوا عنه. كما أخبر
الله تعالى عنهم بذلك ؛ ولهذا قال : { كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ
حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } أي : تذهب وتضمحل
كما قال الله تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ
هَبَاءً مَنْثُورًا } [الفرقان : 23].
وقال تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ
اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } الآية [إبراهيم : 18] ، وقال تعالى
: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ
الظَّمْآنُ مَاءً } الآية [النور : 39] ؛ ولهذا قال تعالى : { وَمَا هُمْ
بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ }.
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا
تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)
إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ
مَا لا تَعْلَمُونَ (169) }
لما بين تعالى أنه لا إله إلا هو ، وأنه المستقل بالخلق ، شرع يبين أنه الرزاق
لجميع خلقه ، فذكر [ذلك] (1) في مقام الامتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في
الأرض في حال كونه حلالا من الله طيبًا ، أي : مستطابًا في نفسه غير ضار للأبدان
ولا للعقول ، ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان ، وهي : طرائقه ومسالكه فيما أضل
أتباعه فيه من تحريم البَحَائر والسوائب والوصائل ونحوها مما زَينه لهم في
جاهليتهم ، كما في حديث عياض بن حمَار الذي في صحيح مسلم ، عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال : "يقول الله تعالى : إن كل ما أمنحُه (2) عبادي فهو لهم
حلال" وفيه : "وإني خلقت عبادي حُنَفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن
دينهم ، وحَرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم" (3).
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا محمد بن عيسى بن
شيبة (4) المصري ، حدثنا الحسين بن عبد الرحمن الاحتياطي ، حدثنا أبو عبد الله
الجوزجاني (5) - رفيق إبراهيم بن أدهم - حدثنا ابن جُرَيج ، عن عطاء ، عن ابن عباس
قال : تُليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ
كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا } فقام سعد بن أبي وقاص ، فقال : يا
رسول الله ، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة ، فقال. "يا سعد ، أطب مطعمك
تكن مستجاب الدعوة ، والذي نفس محمد بيده ، إن الرجل ليَقْذفُ اللقمة الحرام في
جَوْفه ما يُتَقبَّل منه أربعين يومًا ، وأيّما عبد نبت لحمه من السُّحْت والربا
فالنار أولى به" (6).
وقوله : { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } تنفير عنه وتحذير منه ، كما قال : {
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو
حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [فاطر : 6] وقال تعالى : {
أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ
بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا } [الكهف : 50].
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في جـ ، ط ، أ ، و : "كل مال منحته".
(3) صحيح مسلم برقم (2865).
(4) في جـ : "شعبة" وفي هـ : "شبة".
(5) في جـ : "الجرجاني".
(6) المعجم الأوسط للطبراني برقم (5026) "مجمع البحرين".
(1/478)
وقال
قتادة ، والسدي في قوله : { وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } كل معصية
لله فهي من خطوات الشيطان.
وقال عكرمة : هي نزغات الشيطان ، وقال مجاهد : خطاه ، أو قال : خطاياه.
وقال أبو مِجْلزَ : هي النذور في المعاصي.
وقال الشعبي : نذر رجل أن ينحر ابنه فأفتاه مسروق بذبح كبش. وقال : هذا من خطوات
الشيطان.
وقال أبو الضحى ، عن مسروق : أتى عبد الله بن مسعود بضَرْع وملح ، فجعل يأكل ،
فاعتزل رجل من القوم ، فقال ابن مسعود : ناولوا صاحبكم. فقال : لا أريده. فقال :
أصائم أنت ؟ قال : لا. قال : فما شأنك ؟ قال : حرمت أن آكل ضَرْعًا أبدا. فقال ابن
مسعود : هذا من خطوات الشيطان ، فاطْعَمْ وكفِّر عن يمينك.
رواه (1) ابن أبي حاتم ، وقال أيضًا :
حدثنا أبي ، حدثنا حَسَّان بن عبد الله المصْري ، عن سليمان التيمي ، عن أبي رافع
، قال : غضبت على امرأتي ، فقالت : هي يومًا يهودية ويوما نصرانية ، وكل مملوك لها
حر ، إن لم تطلق امرأتك. فأتيت عبد الله بن عمر فقال : إنما هذه من خطوات الشيطان.
وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة ، وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة. وأتيت عاصمًا
وابن عمر (2) فقالا مثل ذلك.
وقال عبد بن حميد : حدثنا أبو نعيم (3) عن شريك ، عن عبد الكريم ، عن عكرمة ، عن
ابن عباس قال : ما كان من يمين أو نذر في غَضَب ، فهو من خطوات الشيطان ، وكفارته
كفارة يمين.
[وقال سعيد بن داود في تفسيره : حدثنا عبادة بن عباد المهلبي عن عاصم الأحول ، عن
عكرمة في رجل قال لغلامه : إن لم أجلدك مائة سوط فامرأته طالق ، قال : لا يجلد
غلامه ، ولا تطلق امرأته هذا من خطوات الشيطان] (4).
وقوله : { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا
عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } أي : إنما يأمركم عدوّكم الشيطان بالأفعال
السيئة ، وأغلظ منها الفاحشة كالزنا ونحوه ، وأغلظ من ذلك وهو القول على الله بلا
علم ، فيدخل (5) في هذا كل كافر وكل مبتدع أيضًا.
__________
(1) في جـ : "روى هذا" وفي ط ، أ ، و : "رواهن".
(2) في ط : "عاصم بن عمر".
(3) في جـ : "عبد الله بن نعيم".
(4) زيادة من ج ، ط.
(5) في ط : "فدخل".
(1/479)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
{
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا
أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا
وَلا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ
بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا
يَعْقِلُونَ (171) }
يقول تعالى : { وَإِذَا قِيلَ } لهؤلاء الكفرة من المشركين : { اتَّبِعُوا مَا
أَنزلَ اللَّهُ } على رسوله ، واتركوا ما أنتم فيه (1) من الضلال والجهل ، قالوا
في جواب ذلك : { بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا } أي : وجدنا { عَلَيْهِ
آبَاءَنَا } أي : من عبادة الأصنام والأنداد. قال الله تعالى منكرًا عليهم : {
أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ } أي : الذين يقتدون بهم ويقتفون أثرهم { لا
يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ } أي : ليس لهم فهم ولا هداية!!.
وروى ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس :
أنها نزلت في طائفة من اليهود ، دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ،
فقالوا : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا. فأنزل الله هذه الآية.
ثم ضرب لهم تعالى مثلا كما قال تعالى : { لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ
مَثَلُ السَّوْءِ } [النحل : 60] فقال : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي :
فيما هم فيه من الغي والضلال والجهل كالدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها ،
بل إذا نعق بها راعيها ، أي : دعاها إلى ما يرشدها ، لا تفقه ما يقول ولا تفهمه ،
بل إنما تسمع صوته فقط.
هكذا روي عن ابن عباس ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة
، وعطاء الخراساني والربيع بن أنس ، نحو هذا.
وقيل : إنما هذا مثل ضرب لهم في دعائهم الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل
شيئًا ، اختاره ابن جرير ، والأول أولى ؛ لأن الأصنام لا تسمع شيئًا ولا تعقله ولا
تبصره ، ولا بطش لها ولا حياة فيها (2). وقوله : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } أي :
صُمٌّ عن سماع الحق ، بُكْمٌ لا يتفوهون به ، عُمْيٌ عن رؤية طريقه ومسلكه {
فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ } أي : لا يعقلون شيئًا ولا يفهمونه ، كما قال تعالى : {
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ
اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }
[الأنعام : 39].
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ
وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ
لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) }
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بالأكل من طَيبات ما رزقهم تعالى ، وأن يشكروه على
ذلك ، إن كانوا عبيده ، والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة ، كما أن
الأكل من الحرام يمنع قبولَ الدعاء والعبادة ، كما جاء في الحديث الذي رواه
الإمامُ أحمد :
حدثنا أبو النضر ، حدثنا الفُضَيل بن مرزوق ، عن عدَيِّ بن ثابت ، عن أبي حازم ،
عن أبي هريرة
__________
(1) في أ : "ما أنتم عليه".
(2) في أ : "لأن الأصنام لا تسمع دعاء ولا نداء بل هي جمادات لا تسمع
شيئا".
(1/480)
قال
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أيها الناس ، إن الله طيب لا يقبل إلا
طيبًا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : { يَا أَيُّهَا
الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ
عَلِيمٌ } [المؤمنون : 51] وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ
طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ثم ذكر الرجل يطيلُ السفر أشعث أغبر ، يمدُّ يديه
إلى السماء : يا رب ، يا رب ، ومطعمه حرام ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغُذي
بالحرام ، فأنى يستجاب لذلك".
ورواه مسلم في صحيحه ، والترمذي من حديث [فضيل] (1) بن مرزوق (2).
ولما امتن تعالى عليهم برزقه ، وأرشدهم إلى الأكل من طيبه ، ذكر أنه لم يحرم عليهم
من ذلك إلا الميتة ، وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية ، وسواء كانت منخنقة أو
موقوذة أو مُتَردِّية أو نطيحة أو قد عدا عليها السبع.
وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر لقوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ
الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } [المائدة : 96] على ما
سيأتي ، وحديث العنبر في الصحيح وفي المسند والموطأ والسنن قوله ، عليه السلام ،
في البحر : "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وروى الشافعي وأحمد وابن ماجة
والدارقطني من حديث ابن عمر مرفوعًا : "أحل لنا ميتتان ودمان : السمك والجراد
، والكبد والطحال" وسيأتي تقرير ذلك في سورة المائدة (3).
ولبن الميتة وبيضها المتصل بها نجس عند الشافعي وغيره ؛ لأنه جزء منها. وقال مالك
في رواية : هو طاهر إلا أنه ينجس بالمجاورة ، وكذلك أنفحة الميتة فيها الخلاف
والمشهور عندهم أنها نجسة ، وقد أوردوا على أنفسهم أكل الصحابة من جبن المجوس ،
فقال القرطبي في تفسيره هاهنا : يخالط اللبن منها يسير ، ويعفى عن قليل النجاسة إذا
خالط الكثير من المائع. وقد روى ابن ماجة من حديث سيف بن هارون ، عن سليمان التيمي
، عن أبي عثمان النهدي ، عن سلمان سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن
والجبن والفراء ، فقال : "الحلال ما أحل الله في كتابه ، والحرام ما حرم الله
في كتابه ، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه" (4).
وكذلك حرم عليهم لحم الخنزير ، سواء ذُكِّي أو مات حَتْف أنفه ، ويدخُلُ شَحْمه في
حكم لحمه (5) إما تغليبًا أو أن اللحم يشمل ذلك ، أو بطريق القياس على رأي.
و[كذلك] (6) حَرَّم عليهم ما أهِلَّ به لغير الله ، وهو ما ذبح على غير اسمه (7)
تعالى من الأنصاب والأنداد والأزلام ، ونحو ذلك
__________
(1) زيادة من أ.
(2) المسند (2/328) وصحيح مسلم برقم (1015) وسنن الترمذي برقم (2989).
(3) وسيأتي تخريج الحديثين عند تفسير أول سورة المائدة.
(4) سنن ابن ماجة برقم (3367) ورواه الترمذي في السنن برقم (1726) من طريق سيف بن
هارون به وقال : "هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه".
وروى سفيان وغيره عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، عن سلمان قوله ، وكأن الحديث
الموقوف أصح ، وسألت البخاري عن هذا الحديث فقال : ما أراه محفوظا ، روى سفيان عن
سليمان التيمي عن أبي عثمان ، عن سلمان موقوفا ، قال البخاري : "وسيف بن
هارون مقارب الحديث ، وسيف بن محمد ، عن عاصم ذاهب الحديث".
(5) في جـ : "ويدخل لحمه في حكم شحمه".
(6) زيادة من جـ ، أ ، و.
(7) في جـ : "غير اسم الله".
(1/481)
مما
كانت الجاهلية ينحرون له. [وذكر القرطبي عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري :
أنه سئل عن امرأة عملت عرسًا للعبها فنحرت فيه جزورًا فقال : لا تؤكل لأنها ذبحت
لصنم ؛ وأورد القرطبي عن عائشة أنها سئلت عما يذبحه العجم في أعيادهم فيهدون منه
للمسلمين ، فقالت : ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوه ، وكلوا من أشجارهم] (1). ثم
أباح تعالى تناول ذلك عند الضرورة والاحتياج إليها ، عند فقد غيرها من الأطعمة ،
فقال : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ } أي : في غير بغي ولا عدوان ،
وهو مجاوزة الحد { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } أي : في أكل ذلك { إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ }
وقال مجاهد : فمن اضطر غير باغ ولا عاد ، قاطعًا للسبيل ، أو مفارقًا للأئمة ، أو
خارجًا في معصية الله ، فله الرخصة ، ومن خرج باغيًا أو عاديًا أو في معصية الله
فلا رخصة له ، وإن اضطر إليه ، وكذا روي عن سعيد بن جبير.
وقال سعيد - في رواية عنه - ومقاتل بن حيان : غير باغ : يعني غير مستحله. وقال
السدي : غير باغ يبتغي فيه شهوته ، وقال عطاء الخراساني في قوله : { غَيْرَ بَاغٍ
} [قال] (2) لا يشوي من الميتة ليشتهيه ولا يطبخه ، ولا يأكل إلا العُلْقَة ،
ويحمل معه ما يبلغه الحلال ، فإذا بلغه ألقاه [وهو قوله : { وَلا عَادٍ } يقول :
لا يعدو به الحلال] (3).
وعن ابن عباس : لا يشبع منها. وفسره السدي بالعدوان. وعن ابن عباس { غَيْرَ بَاغٍ
وَلا عَادٍ } قال : { غَيْرَ بَاغٍ } في الميتة { وَلا عَادٍ } في أكله. وقال
قتادة : فمن اضطر غير باغ ولا عاد في (4) أكله : أن يتعدى حلالا إلى حرام ، وهو
يجد عنه مندوحة.
وحكى القرطبي عن مجاهد في قوله : { فَمَنِ اضْطُرَّ } أي : أكره على ذلك بغير
اختياره.
مسألة : ذكر القرطبي إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير بحيث لا قطع فيه ولا أذى ،
فإنه لا يحل له أكل الميتة بل يأكل طعام الغير بلا خلاف - كذا قال - ثم قال : وإذا
أكله ، والحالة هذه ، هل يضمنه أم لا ؟ فيه قولان هما روايتان عن مالك ، ثم أورد
من سنن ابن ماجه من حديث شعبة عن أبي إياس جعفر بن أبي وحشية : سمعت عباد بن
العنزي (5) قال : أصابتنا عامًا مخمصة ، فأتيت المدينة (6). فأتيت حائطا ، فأخذت
سنبلا ففركته وأكلته ، وجعلت منه في كسائي ، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي ،
فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال للرجل : "ما أطعمته إذ
كان جائعا أو ساعيا ، ولا علمته إذ كان جاهلا" (7). فأمره فرد إليه ثوبه ،
وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق ، إسناد صحيح قوي جيد وله شواهد كثيرة : من ذلك
حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الثمر المعلق ، فقال : "من أصاب منه من ذي حاجة بفيه غير متخذ خبنة (8) فلا
شيء عليه" (9) الحديث.
__________
(1) زيادة من جـ ، أ.
(2) زيادة من جـ.
(3) زيادة من و.
(4) في جـ : "ولا عاد أي".
(5) في أ : "شرحيل الفتوى" وفي ط : "بشر العنزي" والصواب ما
أثبتناه.
(6) في أ : "فأتيت الحتفية".
(7) سنن ابن ماجة برقم (2298).
(8) في أ : "غير منحن جيبه".
(9) رواه الترمذي في السنن برقم (1289) وقال : "هذا حديث حسن".
(1/482)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
وقال
مقاتل بن حيان في قوله : { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
فيما أكل من اضطرار ، وبلغنا - والله أعلم - أنه لا يزاد (1) على ثلاث لقم.
وقال سعيد بن جبير : غفور لما أكل من الحرام. رحيم إذ أحل له الحرام في الاضطرار.
وقال وَكِيع : حدثنا الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : من (2) اضطُرَّ فلم
يأكل ولم يشرب ، ثم مات دخل النار.
[وهذا يقتضي أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة. قال أبو الحسن الطبري - المعروف
بالكيا الهراسي رفيق الغزالي في الاشتغال : وهذا هو الصحيح عندنا ؛ كالإفطار
للمريض في رمضان ونحو ذلك] (3).
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ
بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ
وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى
وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ
بِأَنَّ اللَّهَ نزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي
الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) }
يقول تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ } [مما يشهد له بالرسالة] (4) { مَا
أَنزلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ } يعني اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه
وسلم في كتبهم التي بأيديهم ، مما تشهد (5) له بالرسالة والنبوة ، فكتموا ذلك لئلا
تذهب رياستهم وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتحف على تعظيمهم إياهم ،
فخشوا - لعنهم الله - إن أظهروا ذلك أن يَتَّبعه الناس ويتركوهم ، فكتموا ذلك
إبقاء على ما كان يحصل لهم من ذلك ، وهو نزرٌ يسير ، فباعوا أنفسهم بذلك ،
واعتاضوا عن الهدى واتباع الحق وتصديق الرسول والإيمان بما جاء عن الله بذلك النزر
اليسير ، فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة ؛ أما في الدنيا فإن الله أظهر لعباده
صِدْقَ رسوله ، بما نصبه وجعله معه من الآيات الظاهرات والدلائل القاطعات ، فصدقه
الذين كانوا يخافون أن يتبعوه ، وصاروا عونًا له على قتالهم ، وباؤوا بغضب على غضب
، وذمهم الله في كتابه في غير (6) موضع. من ذلك هذه الآية الكريمة : { إِنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ
ثَمَنًا قَلِيلا } وهو عرض الحياة الدنيا { أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي
بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ } أي : إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق
نارا تأجج في بطونهم يوم القيامة. كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا
وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [النساء : 10] وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال : "الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب
__________
(1) في أ : "أنه لا يزيد".
(2) في جـ : "فمن".
(3) زيادة من جـ.
(4) زيادة من جـ.
(5) في أ : "كالعهد".
(6) في جـ ، أ ، و : "في غير ما".
(1/483)
والفضة
، إنما يُجَرْجرُ في بطنه نار جهنم" (1).
وقوله : { وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وذلك لأنه غضبانُ عليهم ، لأنهم كتموا وقد علموا ،
فاستحقوا الغضب ، فلا ينظر إليهم ولا يزكيهم ، أي يثني (2) عليهم ويمدحهم بل
يعذبهم عذابا أليما.
وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مَرْدُوَيْه هاهنا [الحديث الذي رواه مسلم أيضًا من]
(3) حديث الأعمش ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"ثلاثة لا يكلمهم الله ، ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم [ولهم عذاب أليم] (4) شيخ
زان ، وملك كذاب ، وعائل مستكبر" (5).
ثم قال تعالى مخبرا عنهم : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ
بِالْهُدَى } أي : اعتاضوا عن الهدى ، وهو نشر ما في كتبهم من صفة الرسول وذكر
مبعثه والبشارة به من كتب الأنبياء واتباعه وتصديقه ، استبدلوا عن ذلك واعتاضوا
عنه بالضلالة ، وهو تكذيبه والكفر به وكتمان صفاته في كتبهم { وَالْعَذَابَ
بِالْمَغْفِرَةِ } أي : اعتاضوا عن المغفرة بالعذاب وهو ما تعاطَوْه من أسبابه
المذكورة.
وقوله تعالى : { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } يخبر تعالى أنَّهم في عذاب
شديد عظيم هائل ، يتعجَّبُ من رآهم فيها من صبرهم على ذلك ، مع (6) شدة ما هم فيه
من العذاب ، والنكال ، والأغلال عياذًا بالله من ذلك.
[وقيل معنى قوله : { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } أي : ما أدومهم لعمل
المعاصي التي تفضي بهم إلى النار] (7).
وقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } أي : إنما استحقوا
هذا العذاب الشديد لأن الله تعالى أنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى
الأنبياء قبله كتبه بتحقيق الحق وإبطال الباطل ، وهؤلاء اتخذوا آيات الله هزوًا ،
فكتابهم يأمرهم بإظهار العلم ونشره ، فخالفوه وكذبوه. وهذا الرسول الخاتم يدعوهم
إلى الله تعالى ، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، وهم يكذبونه ويخالفونه
ويجحدونه ، ويكتمون صفته ، فاستهزؤوا بآيات الله المنزلة على رسله ؛ فلهذا استحقوا
العذاب والنكال ؛ ولهذا (8) قال : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نزلَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ
}.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5634) وصحيح مسلم برقم (2065) من حديث أم سلمة رضي الله
عنها.
(2) في أ : "أي : لا يثني".
(3) زيادة من جـ ، أ.
(4) زيادة من جـ ، وصحيح مسلم.
(5) رواه مسلم في صحيحه رقم (107).
(6) في جـ ، أ ، و : "من".
(7) زيادة من أ.
(8) في جـ : "فلهذا".
(1/484)
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
{
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ
وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي
الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا
عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ
أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) }
اشتملت هذه الآية الكريمة ، على جمَل عظيمة ، وقواعد عميمة ، وعقيدة مستقيمة ، كما
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عُبيد (1) بن هشام الحلبي ، حدثنا عبيد الله
بن عمرو ، عن عامر بن شُفَي ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد ، عن أبي ذر : أنه سأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما الإيمان ؟ فتلا عليه : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ
تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } إلى آخر الآية. قال : ثم سأله أيضًا ، فتلاها عليه (2) ثم
سأله. فقال : "إذا عملت حسنة أحبها (3) قلبك ، وإذا عملت سيئة أبغضها (4)
قلبك" (5).
وهذا منقطع ؛ فإن (6) مجاهدًا لم يدرك أبا ذر ؛ فإنه مات قديمًا.
وقال المسعودي : حدثنا القاسم بن عبد الرحمن ، قال : جاء رجل إلى أبي ذر ، فقال :
ما الإيمان ؟ فقرأ (7) عليه هذه الآية : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ } حتى فرغ منها. فقال الرجل : ليس عن البر سألتُكَ. فقال أبو ذر : جاء
رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألتني عنه ، فقرأ عليه هذه الآية
، فأبى أن يرضى كما أبيت [أنت] (8) أ ن ترضى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم
- وأشار بيده - : "المؤمن إذا عمل حسنة سَرته ورجا ثوابها ، وإذا عمل سيئة
أحزنته وخاف عقابها" (9).
رواه ابن مَرْدُويه ، وهذا أيضًا منقطع ، والله أعلم.
وأما الكلام على تفسير هذه الآية ، فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولا بالتوجه
إلى بيت المقدس ، ثم حوَّلهم إلى الكعبة ، شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب
وبعض المسلمين ، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك ، وهو أن المراد إنما هو طاعة
الله عز وجل ، وامتثال أوامره ، والتوجه حيثما وجه ، واتباع ما شرع ، فهذا هو البر
والتقوى والإيمان الكامل ، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق إلى المغرب بر
ولا طاعة ، إن لم يكن عن أمر الله وشرعه ؛ ولهذا قال : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ
تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ
آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } الآية ، كما قال في الأضاحي والهدايا : {
لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى
مِنْكُمْ } [الحج : 37].
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية : ليس البر أن تُصَلُّوا ولا تعملوا. فهذا
حين تحول من مكة إلى المدينة ونزلت الفرائض والحدود ، فأمر الله بالفرائض والعمل
بها.
__________
(1) في جـ : "حدثنا عبيدة".
(2) في جـ : "فتلا عليه".
(3) في جـ : "فأحبها".
(4) في جـ : "فأبغضها".
(5) ورواه محمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" برقم (409) من طريق عبد
الرزاق ، عن معمر ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد به.
(6) في جـ : "لأن".
(7) في جـ : "فتلا".
(8) زيادة من أ.
(9) ورواه محمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" برقم (408) من طريق عبد
الله بن يزيد والملائي ، كلاهما عن المسعودي به نحوه ، ورواه الحاكم (2/272) من
طريق موسى بن أعين ، عن عبد الكريم به نحوه ، وقال : "هذا حديث صحيح على شرط
الشيخين ولم يخرجاه" وتعقبه الذهبي : "قلت : وهو منقطع".
(1/485)
وروي
عن الضحاك ومقاتل نحو ذلك.
وقال أبو العالية : كانت اليهود تُقْبل (1) قبل المغرب ، وكانت النصارى تُقْبل (2)
قبل المشرق ، فقال الله تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } يقول : هذا كلام الإيمان وحقيقته (3) العمل.
وروي عن الحسن والربيع بن أنس مثله.
وقال مجاهد : ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله ، عز وجل.
وقال الضحاك : ولكن البر والتقوى أن تؤدوا الفرائض على وجوهها.
وقال الثوري : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } الآية ، قال : هذه
أنواع البر كلها. وصدق رحمه الله ؛ فإن من اتصف بهذه الآية ، فقد دخل في عرى
الإسلام كلها ، وأخذ بمجامع الخير كله ، وهو الإيمان بالله ، وهو أنه لا إله إلا هو
، وصدق بوجود الملائكة الذين هم سفرة بين الله ورسله { وَالْكِتَابِ } وهو اسم جنس
يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء ، حتى ختمت بأشرفها ، وهو القرآن
المهيمن على ما قبله من الكتب ، الذي انتهى إليه كل خير ، واشتمل على كل سعادة في
الدنيا والآخرة ، ونسخ [الله] (4) به كل ما سواه من الكتب قبله ، وآمن بأنبياء
الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
وقوله : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } أي : أخرجه ، وهو مُحب له ، راغب فيه.
نص على ذلك ابن مسعود وسعيد بن جبير وغيرهما من السلف والخلف ، كما ثبت في
الصحيحين من حديث أبي هُرَيرة مرفوعًا : "أفضل الصدقة أن تَصَدَّقَ وأنت صحيح
شحيح ، تأمل الغنى ، وتخشى الفقر".
وقد روى الحاكم في مستدركه ، من حديث شعبة والثوري ، عن منصور ، عن زُبَيد ، عن
مُرَّة ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَآتَى
الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } أن (5) تعطيه وأنت صحيح شحيح ، تأمل الغنى (6) وتخشى
الفقر". ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه (7).
قلت وقد رواه وَكِيع عن الأعمش ، وسفيان عن زبيد ، عن مرة ، عن ابن مسعود ،
موقوفًا ، وهو أصح ، والله أعلم.
وقال تعالى : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا
وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً
وَلا شُكُورًا } [الإنسان : 8 ، 9].
وقال تعالى : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ }
[آل عمران : 92] وقوله : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ } [الحشر : 9] نمَط آخرُ أرفع من هذا [ومن هذا] (8) وهو أنهم آثروا بما
هم مضطرون إليه ، وهؤلاء أعطوا (9) وأطعموا ما هم محبون له.
وقوله : { ذَوِي الْقُرْبَى } وهم : قرابات الرجل ، وهم أولى من أعطى من الصدقة ،
كما ثبت في
__________
(1) في جـ : "تتقبل".
(2) في جـ : "تتقبل".
(3) في جـ : "وحقيقة".
(4) زيادة من جـ.
(5) في أ : "أي".
(6) في أ : "العيش".
(7) المستدرك (2/272).
(8) زيادة من جـ.
(9) في جـ : "وهؤلاء أعطوه".
(1/486)
الحديث
: "الصدقة على المساكين (1) صدقة ، وعلى ذوي الرحم ثنتان : صدقة وصلة".
فهم أولى الناس بك وببرك وإعطائك. وقد أمر الله تعالى بالإحسان إليهم في غير ما
موضع من كتابه العزيز.
{ وَالْيَتَامَى } هم : الذين لا كاسب (2) لهم ، وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار
دون البلوغ والقدرة على التكسب ، وقد قال عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمَر ، عن جويبر
، عن الضحاك ، عن النزال بن سبرة ، عن علي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
: "لا يُتْم بعد حُلُم".
{ وَالْمَسَاكِينَ } وهم : الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم ،
فيعطون ما تُسَدُّ به حاجتهم وخلتهم. وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : "ليس المسكين بهذا الطوَّاف الذي تَرده التمرة
والتمرتان واللقمة واللقمتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له
(3) فَيُتَصَدق عليه (4).
{ وَابْنَ السَّبِيلِ } وهو : المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته فيعطى ما يوصله
إلى بلده ، وكذا الذي يريد سفرا في طاعة ، فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه ، ويدخل
في ذلك الضيف ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس أنه قال : ابن السبيل هو
الضيف الذي ينزل بالمسلمين ، وكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبو جعفر الباقر ،
والحسن ، وقتادة ، والضحاك والزهري ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان.
{ وَالسَّائِلِينَ } وهم : الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات ، كما
قال الإمام أحمد :
حدثنا وَكِيع وعبد الرحمن ، قالا حدثنا سفيان ، عن مصعب بن محمد ، عن يعلى بن أبي
يحيى ، عن فاطمة بنت الحسين ، عن أبيها (5) - قال عبد الرحمن : حسين بن علي - قال
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "للسائل حق وإن جاء على فرس".
رواه أبو داود.
{ وَفِي الرِّقَابِ } وهم : المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم.
وسيأتي الكلام على كثير من هذه الأصناف (6) في آية الصدقات من براءة ، إن شاء الله
تعالى. وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثنا شريك
، عن أبي حمزة ، عن الشعبي ، حدثتني فاطمة بنت قيس : أنها سألت رسول الله صلى الله
عليه وسلم : أفي المال حق سوى الزكاة ؟ قالت : فتلا علي { وَآتَى الْمَالَ عَلَى
حُبِّهِ } (7).
ورواه ابن مَرْدُويه من حديث آدم بن أبي إياس ، ويحيى بن عبد الحميد ، كلاهما ، عن
شريك ،
__________
(1) في أ : "على المسلمين".
(2) في أ : "لا مكاسب".
(3) في أ : "لا يجد ما يغنيه ولا ينظر له".
(4) صحيح البخاري برقم (1479) وصحيح مسلم برقم (1039).
(5) في جـ : "فاطمة بنت حسين عن أبيها" وفي أ : "فاطمة بنت حسين بن
علي ، عن حسين بن علي".
(6) في جـ : "من الأصناف هذه".
(7) هو في صحيح البخاري برقم (33) وصحيح مسلم برقم (59) من حديث أبي هريرة رضي
الله عنه.
(1/487)
عن
أبي حمزة عن الشعبي ، عن فاطمة بنت قيس ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: "في المال حق سوى الزكاة" ثم تلا (1) { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ
تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } إلى قوله : { وَفِي
الرِّقَابِ }
[وقد أخرجه ابن ماجة والترمذي (2) وضعف أبا حمزة ميمونًا (3) الأعور ، قال : وقد
رواه بيان (4) وإسماعيل بن سالم عن الشعبي] (5).
وقوله : { وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } أي : وأتم أفعال الصلاة في
أوقاتها بركوعها ، وسجودها ، وطمأنينتها ، وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي.
وقوله : { وَآتَى الزَّكَاةَ } يُحْتَمَلُ أن يكون المراد به زكاة النفس ،
وتخليصها من الأخلاق الدنية (6) الرذيلة ، كقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا
* وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [الشمس : 9 ، 10] وقول موسى لفرعون : { هَلْ لَكَ
إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } [النازعات : 18 ،
19] وقوله تعالى : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ
الزَّكَاةَ } [فصلت : 6 ، 7].
ويحتمل أن يكون المرادُ زكاة المال (7) كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان ،
ويكون المذكور من إعطاء (8) هذه الجهات والأصناف المذكورين إنما هو التطوع والبر
والصلة ؛ ولهذا تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس : أن في المال حقا سوى الزكاة ،
والله أعلم.
وقوله : { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا } كقوله : { الَّذِينَ
يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ } [الرعد : 20] وعكس هذه
الصفة النفاق ، كما صح في الحديث : "آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا
وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان". وفي الحديث الآخر : "إذا حدث كذب وإذا عاهد
غدر ، وإذا خاصم فجر" (9).
وقوله : { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ } أي
: في حال الفقر ، وهو البأساء ، وفي حال المرض والأسقام ، وهو الضراء. { وَحِينَ
الْبَأْسِ } أي : في حال القتال والتقاء الأعداء ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ،
وأبو العالية ، ومُرّة الهمداني ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ،
والربيع بن أنس ، والسدي ، ومقاتل بن حيان ، وأبو مالك ، والضحاك ، وغيرهم.
وإنما نُصِبَ { وَالصَّابِرِينَ } على المدح والحث على الصبر في هذه الأحوال لشدته
وصعوبته ، والله أعلم ، وهو المستعان وعليه التكلان.
وقوله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا } أي : هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم
الذين صَدَقوا في إيمانهم ؛ لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال ،
فهؤلاء هم الذين صدقوا { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }
__________
(1) في جـ ، أ ، و : "ثم قرأ".
(2) سنن الترمذي برقم (659) وسنن ابن ماجة برقم (1789) وقال الترمذي : "هذا
حديث ليس إسناده بذاك ، وأبو حمزة يضعف في الحديث ، وقد روى بيان وإسماعيل بن سالم
عن الشعبي قوله ، وهو أصح".
(3) في أ : "عونا".
(4) في جـ : "سيار" والصواب ما أثبتناه".
(5) زيادة من جـ ، أ.
(6) في جـ : "الذميمة".
(7) في جـ : "زكاة الملك".
(8) في أ ، و : "من أعطى".
(9) رواه مسلم في صحيحه برقم (58) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
(1/488)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
لأنهم
اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى
الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى فَمَنْ عُفِيَ
لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ
بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ
ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي
الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) }
يقول تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ } العدلُ في القصاص - أيّها المؤمنون - حُرّكم
(1) بحركم ، وعبدكم بعبدكم ، وأنثاكم بأنثاكم ، ولا تتجاوزوا وتعتدوا ، كما اعتدى
من قبلكم وغيروا حكم الله فيهم ، وسبب ذلك قريظة و[بنو] (2) النضير ، كانت بنو
النضير قد غزت قريظة في الجاهلية وقهروهم ، فكان إذا قتل النضري القرظيَّ لا يقتل
به ، بل يُفَادَى بمائة وسق من التمر ، وإذا قتل القرظي النضري قتل به ، وإن
فادَوْه فَدَوه بمائتي وسق من التمر ضعْف دية (3) القرظي ، فأمر الله بالعدل في
القصاص ، ولا يتبع سبيل المفسدين المحرفين (4) ، المخالفين لأحكام الله فيهم ،
كفرا وبغيًا (5) ، فقال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى
الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى }.
وذكر في [سبب] (6) نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم : حدثنا أبو
زُرْعَة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَير (7) حدثني عبد الله بن لَهيعة ، حدثني
عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، في قول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } يعني : إذا كان عَمْدا ،
الحر بالحر. وذلك أن حيَّيْنِ من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل ،
فكان بينهم قتل وجراحات ، حتى قتلوا العبيد والنساء ، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى
أسلموا ، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال ، فحلفوا ألا يرضوا
حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم ، وبالمرأة منا الرجل منهم (8) ، فنزلت فيهم.
{ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى } منها
منسوخة ، نسختها { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } [المائدة : 45].
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { وَالأنْثَى بِالأنْثَى } وذلك أنهم
لا يقتلون الرجل بالمرأة ، ولكن يقتلون الرجل بالرجل ، والمرأة بالمرأة فأنزل الله
: النفس بالنفس والعين بالعين ، فجعل الأحرار في القصاص (9) سواء فيما بينهم من
العمد رجالهم ونساؤهم في النفس ، وفيما دون النفس ، وجعل العبيد مستوين (10) فيما
بينهم من العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم
__________
(1) في جـ ، أ ، و : "فاقتلوا حركم".
(2) زيادة من أ.
(3) في جـ : "ضعف دم".
(4) في أ : "المجرمين".
(5) في جـ : "لهوا ولعبا".
(6) زيادة من جـ.
(7) في جـ ، أ : "بكر".
(8) في جـ : "والمرأة منا بالرجل منهم".
(9) في جـ : "القصاص والعبيد".
(10) في أ ، و : "مستويين".
(1/489)
ونساؤهم
، وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله : { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ }.
مسألة : مذهب أبي حنيفة أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة ، وإليه ذهب الثوري
وابن أبي ليلى وداود ، وهو مروي عن علي ، وابن مسعود ، وسعيد بن المسيب ، وإبراهيم
النخعي ، وقتادة ، والحكم ، وقال البخاري ، وعلي بن المديني وإبراهيم النخعي
والثوري في رواية عنه : ويقتل السيد بعبده ؛ لعموم حديث الحسن عن سمرة : "من
قتل عبده قتلناه ، ومن جذعه جذعناه ، ومن خصاه خصيناه" (1) وخالفهم الجمهور
وقالوا : لا يقتل الحر بالعبد ؛ لأن العبد سلعة لو قتل خطأ لم تجب فيه دية ، وإنما
تجب فيه قيمته ، وأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق أولى ، وذهب الجمهور إلى أن
المسلم لا يقتل بالكافر ، كما ثبت في البخاري عن علي ، قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "لا يقتل مسلم بكافر" (2) ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا
، وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة.
مسألة : قال الحسن وعطاء : لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية ، وخالفهم الجمهور
لآية المائدة ؛ ولقوله عليه السلام : "المسلمون تتكافأ دماؤهم" (3) وقال
الليث : إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة.
مسألة : ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد ؛ قال عمر بن
الخطاب رضي الله عنه في غلام قتله سبعة فقتلهم ، وقال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء
لقتلتهم ، ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة ، وذلك كالإجماع. وحكي عن الإمام
أحمد رواية : أن الجماعة لا يقتلون بالواحد ، ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة.
وحكاه ابن المنذر عن معاذ وابن الزبير ، وعبد الملك بن مروان والزهري ومحمد بن
سيرين وحبيب بن أبي ثابت ؛ ثم قال ابن المنذر : وهذا أصح ، ولا حجة لمن أباح قتل
الجماعة (4). وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه ، وإذا اختلف الصحابة فسبيله النظر.
وقوله : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ
وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } قال مجاهد عن ابن عباس : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ
أَخِيهِ شَيْءٌ } فالعفو : أن يَقبل الدية في العمد ، وكذا روي عن أبي العالية ،
وأبي الشعثاء ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة ، ومقاتل بن
حيان.
وقال الضحاك عن ابن عباس : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } يقول : فمن
ترك له من أخيه شيء يعني : [بعد] (5) أخذ الدّية بعد استحقاق الدم ، وذلك العفو {
فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } يقول : فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قَبِل الدية
{ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } يعني : من القاتل من غير ضرر ولا مَعْك ، يعني
: المدافعة.
وروى الحاكم من حديث سفيان ، عن عمرو ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : ويؤدي المطلوب
__________
(1) رواه أبو داود في السنن برقم (4515 ، 4516) والترمذي في السنن برقم (1414)
وقال الترمذي : "هذا حديث حسن غريب".
(2) صحيح البخاري برقم (111).
(3) رواه ابن ماجة في السنن برقم (2683) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4) في أ : "قتل جماعة بواحد".
(5) زيادة من جـ ، أ.
(1/490)
بإحسان.
وكذا قال سعيد بن جُبَير ، وأبو الشعثاء جابر بن زَيد ، والحسن ، وقتادة ، وعطاء
الخراساني ، والربيع بن أنس ، والسدي ، ومقاتل بن حيان.
مسألة : قال مالك - رحمه الله - في رواية ابن القاسم عنه وهو المشهور ، وأبو حنيفة
وأصحابه والشافعي في أحد قوليه : ليس لولي الدم أن يعفو على الدية إلا برضا القاتل
، وقال الباقون : له أن يعفو عليها وإن لم يرض القاتل ، وذهب طائفة من السلف إلى
أنه ليس للنساء عفو ، منهم الحسن ، وقتادة ، والزهري ، وابن شبرمة ، والليث ،
والأوزاعي ، وخالفهم الباقون.
وقوله : { ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } يقول تعالى : إنما شرع
لكم أخذ الدية في العمد تخفيفًا من الله عليكم ورحمة بكم ، مما كان محتوما على
الأمم قبلكم من القتل أو العفو ، كما قال سعيد بن منصور :
حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، أخبرني مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : كتب على بني
إسرائيل القصاص في القتلى ، ولم يكن فيهم العفو ، فقال الله لهذه الأمة (1) {
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ
بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ }
فالعفو أن يقبل الدية في العمد ، ذلك تخفيف [من ربكم ورحمة] (2) مما كتب على من
كان قبلكم ، فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان (3).
وقد رواه غير واحد عن عمرو [بن دينار] (4) وأخرجه ابن حبان في صحيحه ، عن عمرو بن
دينار ، به (5). [وقد رواه البخاري والنسائي عن ابن عباس] (6) ؛ ورواه جماعة عن
مجاهد عن ابن عباس ، بنحوه.
وقال قتادة : { ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ } رحم الله هذه الأمة وأطعمهم
الدية ، ولم تحل لأحد قبلهم ، فكان أهل التوراة إنما هو القصاص وعفو ليس بينهم أرش
(7) وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به ، وجعل لهذه الأمة القصاص والعفو
والأرش.
وهكذا روي عن سعيد بن جبير ، ومقاتل بن حيان ، والربيع بن أنس ، نحو هذا.
وقوله : { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يقول تعالى :
فمن قتل بعد أخذ الدية أو قبولها ، فله عذاب من الله أليم موجع شديد.
وكذا رُوي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن
أنس ، والسدي ، ومقاتل بن حيان : أنه هو الذي يقتل بعد أخذ الدية ، كما قال محمد
بن إسحاق ، عن الحارث بن فضيل ، عن سفيان بن أبي العوجاء ، عن أبي شريح الخزاعي :
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
__________
(1) في أ : "فقال الله في هذه الآية".
(2) زيادة من جـ.
(3) سنن سعيد بن منصور برقم (246) بتحقيق د. الحميد.
(4) زيادة من جـ.
(5) صحيح ابن حبان (7/601) "الإحسان" وانظر لتمام تخريج هذا الحديث وذكر
طرقه : حاشية الدكتور سعد الحميد - حفظه الله - على سنن سعيد بن منصور.
(6) زيادة من جـ ، أ.
(7) في جـ : "أثر".
(1/491)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
"من
أصيب بقتل أو خَبْل (1) فإنه يختار إحدى ثلاث : إما أن يقتص ، وإما أن يعفو ، وإما
أن يأخذ الدية ؛ فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه. ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم
خالدا فيها" رواه (2) أحمد (3).
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ، قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية - يعني : لا أقبل منه
الدية - بل أقتله" (4).
وقوله : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } يقول تعالى : وفي شَرْع القصاص لكم -
وهو قتل القاتل - حكمة عظيمة لكم ، وهي بقاء المُهَج وصَوْنها ؛ لأنه إذا علم
القاتلُ أنه يقتل انكفّ عن صنيعه ، فكان في ذلك حياة النفوس. وفي الكتب المتقدمة :
القتلُ أنفى للقتل. فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح ، وأبلغ ، وأوجز.
{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } قال أبو العالية : جعل الله القصاص حياة ،
فكم من رجل يريد أن يقتُل ، فتمنعه مخافة أن يُقتل.
وكذا روي عن مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبي مالك ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن
أنس ، ومقاتل بن حيان ، { يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } يقول :
يا أولي العقول والأفهام والنهى ، لعلكم تنزجرون فتتركون محارم الله ومآثمه ،
والتقوى : اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات.
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا
الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ
عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) }
__________
(1) في أ : "أو ختل".
(2) في جـ : "ورواه".
(3) المسند (4/31).
(4) ذكره السيوطي في الدر المنثور (1/421) وعزاه لسمويه في فوائده ، وروى البيهقي
في السنن الكبرى (8/54) من طريق سعيد بن أبي عروبة عن مطر عن الحسن مرسلا بنحوه ،
وروى أبو داود في السنن برقم (4507) من طريق حماد عن مطر عن الحسن عن جابر بن عبد
الله رضي الله عنه مرفوعا بنحوه.
(1/492)
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
{
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ
عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) }
اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين. وقد كان ذلك
واجبًا - على أصح القولين - قبل نزول آية المواريث ، فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه
، وصارت المواريث المقدرة فريضة من الله ، يأخذها أهلوها حتمًا من غير وصية ولا
تحمل منَّة (1) الموصي ، ولهذا جاء الحديث في السنن وغيرها عن عَمْرو بن خارجة قال
: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول : "إن الله قد أعطى كلّ
ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث" (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عُلَية ، عن يونس بن عبيد ، عن
محمد بن
__________
(1) في و : "مآنة" ، وفي أ : "مانة".
(2) سنن الترمذي برقم (2121) وسنن النسائي (6/247) وسنن ابن ماجة برقم (2712).
(1/492)
سيرين
، قال : جلس ابن عباس فقرأ سورة البقرة حتى أتى [على] (1) هذه الآية : { إِنْ
تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ } فقال : نسخت هذه
الآية.
وكذا رواه سعيد بن منصور ، عن هشيم ، عن يونس ، به. ورواه الحاكم في مستدركه وقال
: صحيح على شرطهما (2).
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ
وَالأقْرَبِينَ } قال : كان لا يرث مع الوالدين غيرهما إلا وصية للأقربين ، فأنزل
الله آية الميراث (3) فبيَّن ميراث الوالدين ، وأقر وصية الأقربين في ثلث مال
الميت.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا حجاج بن محمد ، أخبرنا
ابن جريج ، وعثمان بن عطاء ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، في قوله : { الْوَصِيَّةُ
لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ } نسختها هذه الآية : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ
مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ
الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا
مَفْرُوضًا } [ النساء : 7].
ثم قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عمر (4) وأبي موسى ، وسعيد بن المسيَّب ،
والحسن ، ومجاهد ، وعطاء ، وسعيد بن جُبَير ، ومحمد بن سيرين ، وعكرمة ، وزيد بن
أسلم ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل بن حَيّان ، وطاوس ، وإبراهيم
النَّخَعي ، وشُرَيح ، والضحاك ، والزهري : أن هذه الآية منسوخة نسختها آية
الميراث.
والعجب من أبي عبد الله محمد بن عمر (5) الرازي - رحمه الله - كيف حكى في تفسيره
الكبير عن أبي مسلم الأصفهاني (6) أن هذه الآية غير منسوخة ، وإنما هي مُفَسرة
بآية المواريث ، ومعناه : كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث (7) الوالدين
والأقربين. من قوله : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ } [ النساء : 11] قال
: وهو قولُ أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء. قال : ومنهم من قال : إنها
منسوخة فيمن يرث ، ثابتة فيمن لا يرث ، وهو مذهب ابن عباس ، والحسن ، ومسروق ،
وطاوس ، والضحاك ، ومسلم بن يَسَار ، والعلاء بن زياد.
قلت : وبه قال أيضًا سعيدُ بن جُبَير ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان.
ولكن على قول هؤلاء (8) لا يسمى هذا نسخا في اصطلاحنا المتأخر ؛ لأن آية الميراث
إنما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم آية الوصاية ، لأن "الأقربين"
أعم ممن يرث ومن (9) لا يرث ، فرفع حكم من يرث بما عين له ، وبقي الآخر على ما دلت
عليه الآية الأولى. وهذا إنما يتأتى على قول بعضهم : أن الوصاية في ابتداء الإسلام
إنما كانت ندبا حتى نسخت. فأما من يقول : إنها كانت واجبة وهو الظاهر من
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) سنن سعيد بن منصور برقم (252) بتحقيق االدكتور الحميد ، والمستدرك (2/273).
(3) في أ : "المواريث".
(4) في جـ : "ابن أبي عمر".
(5) في جـ : "ابن أبي عمر".
(6) في أ : "الأصبهاني".
(7) في جـ : "من تواريث".
(8) في أ : "على قول هذا".
(9) في أ : "وممن".
(1/493)
سياق
الآية - فيتعين أن تكون منسوخة بآية الميراث ، كما قاله أكثر المفسرين والمعتبرين
من الفقهاء ؛ فإنّ وجوب الوصية للوالدين والأقربين [الوارثين] (1) منسوخ بالإجماع.
بل منهي عنه للحديث المتقدم : "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية
لوارث". فآية الميراث حكم مستقل ، ووجوب من عند الله لأهل الفروض وللعصبات
(2) ، رفع بها حكم هذه بالكلية. بقي الأقارب الذين لا ميراث لهم ، يستحب له أن
يُوصَى لهم من الثلث ، استئناسًا بآية الوصية وشمولها ، ولما ثبت في الصحيحين ، عن
ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما حق امرئ مسلم له شيء
يوصي فيه ، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده". قال ابن عمر ما مرت عَلَيّ
ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي (3).
والآيات والأحاديث بالأمر ببر الأقارب والإحسان إليهم ، كثيرة جدا.
وقال عبد بن حميد في مسنده : أخبرنا عبيد الله ، عن مبارك بن حسان ، عن نافع قال :
قال عبد الله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يقول الله تعالى : يا
ابن آدم ، ثنتان لم يكن لك واحدة منهما : جعلت لك نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك ؛
لأطهرك به وأزكيك ، وصلاة عبادي عليك بعد انقضاء أجلك".
وقوله : { إِنْ تَرَكَ خَيْرًا } أي : مالا. قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ،
وسعيد بن جُبَير ، وأبو العالية ، وَعَطية العَوْفي ، والضحاك ، والسدي ، والربيع
بن أنس ، ومقاتل بن حيان ، وقتادة ، وغيرهم.
ثم منهم من قال : الوصية مشروعة سواء قَلّ المال أو كثُر كالوراثة (4) ومنهم من
قال : إنما يُوصِي إذا ترك مالا جزيلا ثم اختلفوا في مقداره ، فقال ابن أبي حاتم :
حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، أخبرنا سفيان ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن
أبيه ، قال : قيل لعلي ، رضي الله عنه : إن رجلا من قريش قد مات ، وترك ثلاثمائة
دينار أو أربعمائة (5) ولم يوص. قال : ليس بشيء ، إنما قال الله : { إِنْ تَرَكَ
خَيْرًا }.
قال : وحدثنا هارون بن إسحاق الهمداني ، حدثنا عَبْدة - يعني ابن سليمان - عن هشام
بن عروة ، عن أبيه : أن عليا دخل على رجل من قومه يعوده ، فقال له : أوصي ؟ فقال
له علي : إنما قال الله تعالى : { إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ } إنما تركت
شيئًا يسيرا ، فاتركه لولدك.
وقال الحكم (6) بن أبان : حدثني عن عكرمة ، عن ابن عباس : { إِنْ تَرَكَ خَيْرًا }
قال ابن عباس : من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرًا ، قال الحكم (7) : قال طاوس
: لم يترك خيرًا من لم يترك ثمانين دينارا. وقال قتادة : كان يقال : ألفا فما
فوقها.
وقوله : { بِالْمَعْرُوفِ } أي : بالرفق والإحسان ، كما قال ابن أبي حاتم :
__________
(1) زيادة من جـ ، أ ، و.
(2) في جـ : "والعصبات".
(3) صحيح البخاري برقم (2738) وصحيح مسلم برقم (1627).
(4) في أ : "كالوارثة".
(5) في أ ، و : "أربعمائة دينار".
(6) في جـ : "الحاكم".
(7) في جـ : "الحاكم".
(1/494)
حدثنا
الحسن بن أحمد ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن يسار (1) ، حدثني سرور بن المغيرة
عن عباد بن منصور ، عن الحسن ، قوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } فقال : نَعَم ، الوصية حق ، على كل مسلم أن يوصي إذا حضره
الموت بالمعروف غير المُنكر.
والمراد بالمعروف : أن يوصي لأقربيه وَصيَّةً لا تجحف بورثته ، من غير إسراف ولا
تقتير ، كما ثبت في الصحيحين أن سعدا قال : يا رسول الله ، إن لي مالا ولا يرثني
إلا ابنة لي ، أفأوصي بثُلُثَيْ مالي ؟ قال : "لا" قال : فبالشَّطْر ؟
قال : "لا" قال : فالثلث (2) ؟ قال : "الثلث ، والثلث كثير ؛ إنك
أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس".
وفي صحيح البخاري : أن ابن عباس قال : لو أن الناس غَضوا من الثلث إلى الربع فإن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الثلث ، والثلث كثير" (3).
وروى الإمام أحمد ، عن أبي سعيد مولى بني هاشم ، عن ذيال بن عبيد بن حنظلة ، سمعت
حنظلة بن حذيم (4) بن حنيفة : أن جده حنيفة أوصى ليتيم في حجره بمائة من الإبل ،
فشقّ ذلك على بنيه ، فارتفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال حنيفة : إني
أوصيت ليتيم لي بمائة من الإبل ، كنا نسميها المطيبة. فقال النبي صلى الله عليه
وسلم ، "لا لا لا. الصدقة : خمس ، وإلا فعَشْر ، وإلا فخمس عشرة ، وإلا
فعشرون ، وإلا فخمس وعشرون ، وإلا فثلاثون ، وإلا فخمس وثلاثون ، فإن أكثرت
فأربعون".
وذكر الحديث بطوله (5).
وقوله : { فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى
الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ } يقول تعالى : فمن بدل الوصية وحرفها ، فغير حكمها وزاد
فيها أو نقص - ويدخل في ذلك الكتمان لها بطريق الأولى - { فَإِنَّمَا إِثْمُهُ
عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ } قال ابن عباس وغير واحد : وقد وقع أجر الميت على
الله ، وتعلَّق الإثم بالذين بدلوا ذلك { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : قد
اطلع على ما أوصى به الميت ، وهو عليم بذلك ، وبما بدله الموصى إليهم.
وقوله : { فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا } قال ابن عباس ، وأبو
العالية ، ومجاهد ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، والسدي : الجَنَف : الخطأ. وهذا
يشمل أنواع الخطأ كلها ، بأن زاد وارثا بواسطة أو وسيلة ، كما إذا أوصى ببيعه
الشيءَ الفُلانيّ محاباة ، أو أوصى لابن ابنته ليزيدها ، أو نحو ذلك من الوسائل ،
إما مخطئًا غير عامد ، بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر ، أو متعمدًا آثمًا في ذلك
، فللوصيّ - والحالة هذه - أن يصلح القضية (6) ويعدلَ في الوصية على الوجه الشرعي.
ويعدل عن الذي أوصى به الميت إلى ما هو أقرب الأشياء إليه وأشبه الأمور به (7)
جمعا بين مقصود الموصي
__________
(1) في أ ، و : "بن بشار".
(2) في جـ : "فبالثلث".
(3) صحيح البخاري برقم (2743).
(4) في أ : "جديم" ، وفي و : "جذيم".
(5) المسند (5/67).
(6) في أ : "القصة".
(7) في جـ : "المأمور به".
(1/495)
والطريق
الشرعي. وهذا الإصلاح والتوفيق ليس من التبديل في شيء. ولهذا عطف هذا - فبينه (1)
- على النهي لذلك ، ليعلم أنّ هذا ليس من ذلك بسبيل ، والله أعلم.
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا العباس بن الوليد بن مَزيد ، قراءة ، أخبرني أبي ،
عن الأوزاعي ، قال الزهري : حدثني عروة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم
: أنه قال : "يُرَدّ من صَدقة الحائف (2) في حياته ما يردّ من وصية المجنف
(3) عند موته" (4).
وهكذا رواه أبو بكر بن مَرْدُوَيه ، من حديث العباس بن الوليد ، به.
قال ابن أبي حاتم : وقد أخطأ فيه الوليد بن مزيد. وهذا الكلام إنما هو عن عروة
فقط. وقد رواه الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، فلم يجاوز به عروة.
وقال ابن مَرْدويه أيضًا : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا إبراهيم بن يوسف
، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا عمر بن المغيرة ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ،
عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الحيف في الوصية من
الكبائر" (5).
وهذا في رفعه أيضًا نظر (6). وأحسن ما ورد في هذا الباب ما قال عبد الرزاق :
حدثنا مَعْمَر ، عن أشعثَ بن عبد الله ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن أبي هريرة قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الرجل ليعملُ بعمل أهل الخير سبعينَ
سنة ، فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله ، فيدخل النار ، وإن الرجل ليعمل
بعَمَل أهل الشرّ سبعينَ سنة ، فيعدل في وصيته ، فيختم له بخير عمله ، فيدخل
الجنة" (7). قال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا
تَعْتَدُوهَا } [البقرة : 229].
__________
(1) في أ : "فنبه".
(2) في أ : "الخائف".
(3) في أ : "المخيف".
(4) ورواه أبو داود في المراسيل برقم (194) من طريق عباس بن الوليد بن مزيد ، عن
أبيه ، عن الأوزاعي ، به. قال العباس : حدثنا به مرة ، عن عروة ، ومرة عن عروة ،
عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم رواه أبو داود برقم (195) عن عروة
مرسلا ، وبرقم (196) عن الزهري مرسلا.
(5) ورواه الدارقطني في السنن (4/151) والعقيلي في الضعفاء (3/189) والبيهقي في
السنن الكبرى (6/271) من طريق عمر بن المغيرة به نحوه ، ورواه البيهقي في السنن
الكبرى (6/271) من طريق هشيم عن داود به موقوفا ، وقال : "هذا هو الصحيح
موقوف ، وكذلك رواه ابن عيينة وغيره عن داود موقوفا ، وروى من وجه آخر مرفوعا ،
ورفعه ضعيف".
(6) في جـ : "وهذا أيضا في رفعه نظر".
(7) في جـ : "تقديم وتأخير في العبارتين".
(1/496)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
{
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ
فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ
خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (184) }
يقول تعالى مخاطبًا للمؤمنين من هذه الأمة وآمرًا لهم بالصيام ، وهو : الإمساك عن
الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله (1) عز وجل ، لما فيه من زكاة النفس
وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة. وذكر أنه كما أوجبه عليهم
فقد أوجبه على من كان قبلهم ، فلهم فيه أسوة ، وَليَجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض
أكمل مما فعله أولئك ، كما قال تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ
لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } [المائدة : 48] ؛
ولهذا قال هاهنا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ
كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } لأن الصوم
فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان ؛ ولهذا ثبت في الصحيحين : "يا معشر
الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له
وجاء" (2) ثم بين مقدار الصوم ، وأنه ليس في كل يوم ، لئلا يشق على النفوس
فتضعف عن حمله (3) وأدائه ، بل في أيام معدودات. وقد كان هذا في ابتداء الإسلام
يصومون من كل شهر ثلاثة أيام ، ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان ، كما سيأتي بيانه. وقد
رُوي أن الصيام كان أولا كما كان عليه الأمم قبلنا ، من كل شهر ثلاثة أيام - عن
معاذ ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وعطاء ، وقتادة ، والضحاك بن مزاحم. وزاد : لم
يزل هذا مشروعًا من زمان نوح إلى أن نَسَخ الله ذلك بصيام شهر رمضان.
وقال عباد بن منصور ، عن الحسن البصري : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ } فقال : نعم ، والله لقد كُتب الصيام على كل
أمة قد خلت كما كتب (4) علينا شهرًا كاملا وأياما معدودات : عددا معلوما. وروي عن
السدي ، نحوه.
وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي عبد الرحمن المقري ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ،
حدثني عبد الله بن الوليد ، عن أبي الربيع ، رجل من أهل المدينة ، عن عبد الله بن
عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "صيام رمضان كتبه الله على
الأمم قبلكم.." في حديث طويل اختصر منه ذلك (5).
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عمن حدثه عن ابن عمر ، قال أنزلت : {
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
[لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (6) } كتب عليهم إذا صلى أحدهم العتمة ونام حرم [الله]
(7) عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها.
قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عباس ، وأبي العالية ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ،
ومجاهد ، وسعيد بن جُبَير ، ومقاتل بن حَيّان ، والربيع بن أنس ، وعطاء الخراساني
، نحو ذلك.
وقال عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : { كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ } يعني بذلك : أهل الكتاب. وروي عن الشعبي والسّدي (8) وعطاء الخراساني
، مثله.
__________
(1) في جـ : "خالصة لوجه الله تعالى".
(2) صحيح البخاري برقم (5066) وصحيح مسلم برقم (1400) من حديث عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه.
(3) في أ : "ليشق على النفوس فتضعف عن حكمه".
(4) في أ : "كما كتبه الله".
(5) عزاه الحافظ ابن حجر في الفتح (8/178) لابن أبي حاتم وقال : "في إسناده
مجهول".
(6) زيادة من جـ.
(7) زيادة من جـ.
(8) في جـ : "عن السدي والشعبي".
(1/497)
ثم
بين حكم الصيام على ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام ، فقال : { فَمَنْ كَانَ
مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } أي :
المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر ؛ لما في ذلك من المشقة عليهما ،
بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أخر. وأما الصحيح المقيم الذي يُطيق الصيام ،
فقد كان مخيَّرًا بين الصيام وبين الإطعام ، إن شاء صام ، وإن شاء أفطر ، وأطعم عن
كل يوم مسكينا ، فإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم ، فهو خير ، وإن صام فهو أفضل من
الإطعام ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، وطاوس ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم
من السلف ؛ ولهذا قال تعالى : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا المسعودي ، حدثنا عمرو بن مُرّة ، عن
عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن معاذ بن جبل ، رضي الله عنه ، قال : أحيلت الصلاة
ثلاثة أحوال ، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال ؛ فأما أحوال الصلاة فإن النبي صلى الله
عليه وسلم قدم المدينة ، وهو يصلي (1) سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس ، ثم إن الله
عز وجل أنزل عليه : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } [البقرة : 144] فوجهَهُ اللهُ إلى مكة.
هذا حول.
قال : وكانوا يجتمعون للصلاة ويُؤْذِنُ بها بعضهم بعضا حتى نَقَسُوا أو كادوا
يَنْقُسُون. ثم إنّ رجلا من الأنصار ، يقال له : عبد الله بن زيد ، أتى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إني رأيت فيما يرى النائم - ولو قلتُ
: إني لم أكن نائمًا لصدقتُ - أني (2) بينا أنا بين النائم واليقظان إذْ رأيت
شخصًا عليه ثوبان أخضران ، فاستقبل القبلة ، فقال : الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن
لا إله إلا الله - مثنى حتى فرغ من الأذان ، ثم أمهل ساعة ، ثم قال مثل الذي قال ،
غير أنه يزيد في ذلك : قد قامت الصلاة - مرتين - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: "علمها بلالا فَلْيؤذن بها". فكان بلال أول من أذن بها. قال : وجاء
عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فقال : يا رسول الله ، [إنه] (3) قد طاف بي مثل
الذي طاف به ، غير أنه سبقني ، فهذان حالان (4).
قال : وكانوا يأتون الصلاة - قد سبقهم النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ببعضها ، فكان
الرجل يشير إلى الرجل إذًا كم صلى ، فيقول : واحدة أو اثنتين ، فيصليهما ، ثم يدخل
مع القوم في صلاتهم. قال : فجاء معاذ فقال : لا أجده على حال أبدًا إلا كنتُ عليها
، ثم قضيتُ ما سبقني. قال : فجاء وقد سَبَقه النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها ،
قال : فثَبَتَ معه ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقضى ، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "إنه قَد سن لكم مُعَاذ ، فهكذا فاصنعوا".
فهذه ثلاثة أحوال (5).
وأما أحوال الصيام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة ، فجعل يصومُ من
كل شهر ثلاثة أيام ، وصام عاشوراء ، ثم إن الله فرض عليه الصيام ، وأنزل الله
تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا
كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ }.
__________
(1) في جـ : "فصلى".
(2) في جـ : "وأني".
(3) زيادة من جـ ، أ ، و.
(4) في جـ ، أ ، و : "حولان".
(5) المسند (5/246).
(1/498)
إلى
قوله : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } فكان مَنْ
شاء صام ، ومن شاء أطعم مسكينًا ، فأجزأ ذلك عنه. ثم إن الله عز وجل أنزل الآية
الأخرى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } إلى قوله : {
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } فأثبت اللهُ صيامَه على المقيم
الصحيح (1) ورخَّصَ فيه للمريض والمسافر ، وثبت الإطعامُ للكبير (2) الذي لا
يستطيع الصيام ، فهذان حالان (3).
قال : وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا ، فإذا ناموا امتنعوا ،
ثم إن رجلا من الأنصار يقال له : صرمة ، كان يعمل صائمًا حتى أمسى ، فجاء إلى أهله
فصلى العشاء ، ثم نام فلم يأكل ولم يشرب ، حتى أصبح فأصبح صائما ، فرآه رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهدًا شديدًا ، فقال : ما لي أراك قد جَهِدْت جهدًا
شديدا ؟ قال : يا رسول الله ، إني عملت أمس فجئتُ حين جئتُ فألقيتُ نفسي فنمت
فأصبحت حين أصبحت صائمًا. قال : وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام ، فأتى
النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فأنزل الله عز وجل : { أُحِلَّ لَكُمْ
لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } إلى قوله : { ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ }
وأخرجه أبو داود في سننه ، والحاكم في مستدركه ، من حديث المسعودي ، به (4).
وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أنها قالت : كان
عاشوراء يصام ، فلما نزل فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر (5). وروى البخاري
عن ابن عمر وابن مسعود ، مثله (6).
وقوله : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كما قال
معاذ : كان (7) في ابتداء الأمر : من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم
مسكينا. وهكذا روى البخاري عن سَلَمة بن الأكوع أنه قال : لما نزلت : { وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كان من أراد أن يُفْطر يفتدي
، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها (8).
وروي أيضًا من حديث عبيد الله (9) عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : هي منسوخة.
وقال السدي ، عن مرة ، عن عبد الله ، قال : لما نزلت هذه الآية : { وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } قال : يقول : { وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي : يتجشمونه ، قال عبد الله : فكان من شاء صام ومن شاء
أفطر وأطعم مسكينا { فَمَنْ تَطَوَّعَ } قال : يقول : أطعم مسكينا آخر { فَهُوَ
خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } فكانوا كذلك حتى نسختها : { فَمَنْ
شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }
__________
(1) في جـ : "الصحيح المقيم".
(2) في جـ : "للنفر".
(3) في أ : "الحولان".
(4) سنن أبي داود برقم (506 ، 507).
(5) صحيح البخاري برقم (4502) وصحيح مسلم برقم (1125).
(6) حديث ابن عمر في صحيح البخاري برقم (4501) وحديث ابن مسعود في صحيح البخاري
برقم (4503).
(7) في جـ : "وكان".
(8) صحيح البخاري برقم (4507).
(9) في جـ : "عبد الله".
(1/499)
وقال
البخاري أيضًا : حدثنا إسحاق ، أخبرنا روح ، حدثنا زكريا بن إسحاق ، حدثنا عَمْرو
بن دينار ، عن عطاء سمع ابن عباس يقرأ : " وعلى الذين يُطَوَّقُونه فدية طعام
مسكين ". قال ابن عباس : ليست منسوخة ، هو للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا
يستطيعان أن يصوما ، فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا (1).
وهكذا روى غير واحد عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، نحوه.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا عبد الرحيم ، عن أشعث بن سوار ، عن عكرمة ، عن
ابن عباس [قال] (2) نزلت هذه الآية : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ
طَعَامُ مِسْكِينٍ } في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ثم ضعف ، فرخص له أن يطعم
مكان كل يوم مسكينًا.
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن أحمد ، حدثنا الحسين بن محمد بن
بِهْرام المحرمي ، حدثنا وهب بن بَقِيَّة ، حدثنا خالد بن عبد الله ، عن ابن أبي
ليلى ، قال : دخلت على عطاء في رمضان ، وهو يأكل ، فقال : قال ابن عباس : نزلت هذه
الآية : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } فكان من
شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينًا ، ثم نزلت هذه الآية فنسخت الأولى ، إلا الكبير
الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكينًا وأفطر. فحاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق
الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه ، بقوله : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ } وأما الشيخ الفاني [الهرم] (3) الذي لا يستطيع الصيام فله أن يفطر
ولا قضاء عليه ، لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء ، ولكن هل يجب
عليه [إذا أفطر] (4) أن يطعم عن (5) كل يوم مسكينًا إذا كان ذا جِدة ؟ فيه قولان
للعلماء ، أحدهما : لا يجب عليه إطعام ؛ لأنه ضعيف عنه لسنّه ، فلم يجب عليه فدية
كالصبي ؛ لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها ، وهو أحد قولي الشافعي. والثاني - وهو
الصحيح ، وعليه أكثر العلماء - : أنه يجب عليه فدية عن كل يوم ، كما فسره ابن عباس
وغيره من السلف على قراءة من قرأ : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي :
يتجشمونه ، كما قاله ابن مسعود وغيره ، وهو اختيار البخاري فإنه قال : وأما الشيخ
الكبير إذا لم يطق الصيام ، فقد أطعم أنس - بعد أن (6) كبر عامًا أو عامين - كل
يوم مسكينًا خبزًا ولحما ، وأفطر (7).
وهذا الذي علقه البخاري قد أسنده الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده ، فقال : حدثنا
عُبَيد الله بن مُعَاذ ، حدثنا أبي ، حدثنا عمران ، عن أيوب بن أبي تميمة (8) قال
: ضعف أنس [بن مالك] (9) عن الصوم ، فصنع جفنة من ثريد ، فدعا ثلاثيِن مسكينًا
فأطعمهم (10).
ورواه عبد بن حميد ، عن روح بن عبادة ، عن عمران - وهو ابن حُدَير (11) - عن أيوب
، به.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4505).
(2) زيادة من أ ، و.
(3) زيادة من جـ ، أ ، و.
(4) زيادة من جـ ، أ ، و.
(5) في أ : "في".
(6) في جـ : "بعد ما".
(7) صحيح البخاري (8/179) "فتح".
(8) في جـ ، أ : "بن أبي تميم".
(9) زيادة من أ.
(10) مسند أبي يعلى (7/204) وقال الهيثمي في المجمع (3/164) : "رجاله رجال
الصحيح" لكنه منقطع.
(11) في و : "وهو ابن خدير".
(1/500)
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
ورواه
عبد أيضًا ، من حديث ستة من أصحاب أنس ، عن أنس - بمعناه.
ومما يلتحق بهذا المعنى : الحامل والمرضع ، إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما ،
ففيهما خلاف كثير بين العلماء ، فمنهم من قال : يفطران ويفديان ويقضيان. وقيل :
يفديان فقط ، ولا قضاء. وقيل : يجب القضاء بلا فدية. وقيل : يفطران ، ولا فدية ولا
قضاء. وقد بسطنا هذه المسألة مستقصاة في كتاب الصيام الذي أفردناه (1). ولله الحمد
والمنة.
{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ
مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ
وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ
اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا
الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ (185) }
يمدح تعالى شهرَ الصيام من بين سائر الشهور ، بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن
العظيم فيه ، وكما اختصه بذلك ، قد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية
تنزل فيه على الأنبياء.
قال الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا
عمْران أبو العوام ، عن قتادة ، عن أبي المليح ، عن واثلة - يعني ابن الأسقع - أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أنزلت صُحُف إبراهيم في أول ليلة من
رمضان. وأنزلت التوراة لسِتٍّ مَضَين من رمضان ، والإنجيل لثلاث عَشَرَةَ خلت من
رمضان (2) وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان" (3).
وقد روي من حديث جابر بن عبد الله وفيه : أن الزبور أنزل (4) لثنتَي عشرة [ليلة]
(5) خلت من رمضان ، والإنجيل لثماني عشرة ، والباقي كما تقدم. رواه ابن مَردُويه.
أما الصحف والتوراة والزبور والإنجيل - فنزل كل منها (6) على النبي الذي أنزل عليه
جملة واحدة ، وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا ،
وكان ذلك في شهر رمضان ، في ليلة القدر منه ، كما قال تعالى : { إِنَّا
أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } [القدر : 1]. وقال : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ
فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } [الدخان : 3] ، ثم نزل بعدُ مفرّقًا (7) بحسب الوقائع
على رسول الله صلى الله عليه وسلم. هكذا روي من غير وجه ، عن ابن عباس ، كما قال
إسرائيل ، عن السّدي ، عن محمد بن أبي المجالد عن مِقْسَم ، عن ابن عباس أنه سأله
عطية بن الأسود ، فقال : وقع (8) في قلبي الشك من قول الله تعالى : { شَهْرُ
رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } وقوله : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي
لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } وقوله : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ }
وقد (9) أنزل في شوال ، وفي ذي القعدة ، وفي ذي الحجة ، وفي المحرم ، وصفر ، وشهر
ربيع. فقال ابن عباس : إنه أنزل في رمضان ، في ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة
واحدة ، ثم أنزل (10) على مواقع النجوم ترتيلا (11) في الشهور والأيام. رواه ابن
أبي حاتم وابن مردويه ، وهذا لفظه.
__________
(1) في أ : "الذي أوردناه".
(2) في"أ" بعدها : "وأنزل الزبور لثماني عشرة خلت من رمضان".
(3) المسند (4/107).
(4) في جـ : "نزلت" ، وفي أ : "نزل".
(5) زيادة من أ.
(6) في جـ : "منهما".
(7) في و : "متفرقا".
(8) في و : "أوقع".
(9) في جـ : "وهذا".
(10) في جـ : "ثم نزل".
(11) في أ : "رسلا".
(1/501)
وفي
رواية سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : أنزل القرآن في النصف من شهر رمضان إلى
سماء الدنيا فجعل في بيت العِزَّة ، ثم أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في
عشرين سنة لجواب كلام الناس.
وفي رواية عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر إلى
هذه السماء الدنيا جملة واحدة ، وكان الله يُحْدثُ لنبيه ما يشاء ، ولا يجيء
المشركون بمثَل يخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه ، وذلك قوله : { وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ
لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ
إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } [الفرقان : 32 ، 33].
[قال فخر الدين : ويحتمل أنه كان ينزل في كل ليلة قدر ما يحتاج الناس إلى إنزاله
إلى مثله من اللوح إلى سماء الدنيا ، وتوقف ، هل هذا أولى أو الأول ؟ وهذا الذي
جعله احتمالا نقله القرطبي عن مقاتل بن حيان ، وحكى الإجماع على أن القرآن نزل
جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، وحكى الرازي عن
سفيان بن عيينة وغيره أن المراد بقوله : { الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } أي :
في فضله أو وجوب صومه ، وهذا غريب جدا] (1).
وقوله : { هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } هذا مدح
للقرآن الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه { وَبَيِّنَاتٍ
} أي : ودلائل وحُجَج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبَّرها دالة على صحة ما جاء به
من الهدى المنافي للضلال ، والرشد المخالف للغي ، ومفرقًا بين الحق والباطل ،
والحلال ، والحرام.
وقد روي عن بعض السلف أنه كَره أن يقال : إلا "شهر رمضان" ولا يقال :
"رمضان" ؛ قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن بكار بن الريَّان ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب
القُرَظي ، وسعيد - هو المقْبُري - عن أبي هريرة ، قال : لا تقولوا : رمضان ، فإن
رمضان اسم من أسماء الله تعالى ، ولكن قولوا : شهر رمضان.
قال (2) ابن أبي حاتم : وقد روي عن مجاهد ، ومحمد بن كعب نحو ذلك ، ورَخَّص فيه
ابن عباس وزيد بن ثابت.
قلت : أبو معشر هو نَجِيح بن عبد الرحمن المدني إمام [في] (3) المغازي ، والسير ،
ولكن فيه ضعف ، وقد رواه ابنه محمد عنه فجعله مرفوعا ، عن أبي هريرة ، وقد أنكره
عليه الحافظ ابن عدي (4) - وهو جدير بالإنكار - فإنه متروك ، وقد وهم في رفع هذا
الحديث ، وقد انتصر البخاري ، رحمه الله ، في كتابه لهذا فقال : "باب يقال
(5) رمضان" (6) وساق أحاديث في ذلك منها : "من صام رمضان إيمانًا
واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" ونحو ذلك.
__________
(1) زيادة من جـ ، أ.
(2) في جـ : "قال لي".
(3) زيادة من جـ.
(4) الكامل لابن عدي (7/53).
(5) في جـ : "باب بأن يقال".
(6) الترجمة في الصحيح (4/112) : "باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان ، ومن رأى
كله واسعا".
(1/502)
وقوله
: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } هذا إيجاب حَتْمٍ على من شهد
استهلال الشهر - أي كان مقيما في البلد حين دخل شهر رمضان ، وهو صحيح في بدنه - أن
يصوم لا محالة. ونَسَخت هذه الآية الإباحة المتقدمة لمن كان صحيحًا مقيما أن يفطر
ويفدي بإطعام مسكين عن كل يوم ، كما تقدم بيانه. ولما حتَّم الصيام أعاد ذكر
الرخصة للمريض وللمسافر في الإفطار ، بشرط القضاء فقال : { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا
أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } معناه : ومن كان به مرض في
بدنه يَشُقّ عليه الصيام معه ، أو يؤذيه (1) أو كان على سفر أي في حال سفر - فله
أن يفطر ، فإذا أفطر فعليه بعدة ما أفطره في السفر من الأيام ؛ ولهذا قال : {
يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } أي : إنما
رخَّصَ لكم في الفطر في حال المرض وفي السفر ، مع تحتمه في حق المقيم الصحيح ،
تيسيرًا عليكم ورحمة بكم.
وهاهنا مسائل تتعلق بهذه الآية :
إحداها : أنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أن من كان مقيما في أول الشهر ثم سافر في
أثنائه ، فليس له الإفطار بعذر السفر والحالة هذه ، لقوله : { فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وإنما يباح الإفطار لمسافر استهل الشهر وهو
مسافر ، وهذا القول غريب نقله أبو محمد بن حزم في كتابه المُحَلى ، عن جماعة من
الصحابة والتابعين. وفيما حكاه عنهم نظر ، والله أعلم. فإنه قد ثبتت السنة عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه خرَجَ في شهر رمضان لغزوة الفتح ، فسار (2) حتى بلغ
الكَديد ، ثم أفطر ، وأمر الناس بالفطر. أخرجه صاحبا الصحيح (3).
الثانية : ذهب آخرون من الصحابة والتابعين إلى وجوب الإفطار في السفر ، لقوله : {
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } والصحيح قول الجمهور ، أن الأمر في ذلك على
التخيير ، وليس بحَتْم ؛ لأنهم كانوا يخرجون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في
شهر رمضان. قال : "فَمنا الصائم ومنا المفطر ، فلم يعب الصائمُ على المفطر ،
ولا المفطر على الصائم (4) ". فلو كان الإفطار هو الواجب لأنكر عليهم (5)
الصيام ، بل الذي ثبت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان في مثل هذه
الحالة صائمًا ، لما ثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء [قال] (6) خرجنا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم [في شهر رمضان] (7) في حَرٍّ شديد ، حتى إن كان أحدنا ليضع يده
على رأسه [من شدة الحر] (8) وما فينا صائم إلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعبد
الله بن رواحة (9).
الثالثة : قالت طائفة منهم الشافعي : الصيام في السفر أفضل من الإفطار ، لفعل
النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، وقالت طائفة : بل الإفطار أفضل ، أخذا
بالرخصة ، ولما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه سئل عن الصوم في السفر
، فقال : "من أفطر فحَسَن ، ومن صام فلا جناح عليه" (10). وقال في حديث
آخر :
__________
(1) في جـ : "أو يمتد به".
(2) في أ ، و : "فصام".
(3) صحيح البخاري برقم (1948 ، 4279) وصحيح مسلم برقم (1113).
(4) رواه مسلم في صحيحه برقم (1118) من حديث أنس رضي الله عنه.
(5) في أ : "عليهم في الصيام".
(6) زيادة من و.
(7) زيادة من جـ ، أ ، و.
(8) زيادة من جـ ، أ ، و.
(9) صحيح البخاري برقم (1945) وصحيح مسلم برقم (1122).
(10) هذا لفظ حديث حمزة بن عمرو الأسلمي في صحيح مسلم برقم (1121).
(1/503)
"عليكم
برخصة الله التي رخص لكم" (1) وقالت طائفة : هما سواء لحديث عائشة : أن
حَمْرة بن عمرو الأسلمي قال : يا رسول الله ، إني كثير الصيام ، أفأصوم في السفر ؟
فقال : "إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر". وهو في الصحيحين (2). وقيل : إن
شق الصيام فالإفطار أفضل لحديث جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا
قد ظُلِّلَ عليه ، فقال : "ما هذا ؟ " قالوا : صائم ، فقال : " ليس
من البر الصيام في السفر". أخرجاه (3). فأما إن رغب عن السنة ، ورأى أن الفطر
مكروه إليه ، فهذا يتعين عليه الإفطار ، ويحرم عليه الصيام ، والحالة هذه ، لما
جاء في مسند الإمام أحمد وغيره ، عن ابن عمر وجابر ، وغيرهما : من لم يقبل
رُخْصَةَ الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة (4).
الرابعة : القضاء ، هل يجب متتابعًا أو يجوز فيه التفريق ؟ فيه قولان : أحدهما :
أنه يجب التتابع ، لأن القضاء يحكي الأداء. والثاني : لا يجب التتابع ، بل إن شاء
فَرّق ، وإن شاء تابع. وهذا قول جُمهور السلف والخلف ، وعليه ثبتت الدلائل (5) ؛
لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر ، فأما بعد انقضاء رمضان
فالمراد صيام أيام عدَّةَ ما أفطر. ولهذا قال تعالى : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ } ثم قال : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ } قال الإمام أحمد :
حدثنا أبو سلمة الخزاعي ، حدثنا ابن (6) هلال ، عن حميد بن هلال العدوي ، عن أبي
قتادة ، عن الأعرابي الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "إن خير دينكم
أيسره ، إن خير دينكم أيسره" (7).
وقال أحمد أيضًا : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا عاصم بن هلال ، حدثنا غاضرة بن
عُرْوة الفُقَيْمي ، حدثني أبي عُرْوَة ، قال : كنا ننتظر النبي صلى الله عليه
وسلم فخرج رَجلا (8) يَقْطُرُ رأسه من وضوء أو غسل ، فصلى ، فلما قضى الصلاة جعل
الناس يسألونه : علينا حرج في كذا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن
دين الله في يسر" ثلاثًا يقولها (9).
ورواه الإمام أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسير هذه الآية من حديث مسلم بن إبراهيم ،
عن عاصم بن هلال ، به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة قال : حدثنا أبو التيّاح ،
سمعت أنس بن مالك يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يسروا ، ولا
تعسروا ، وسكِّنُوا ولا تُنَفِّروا". أخرجاه في الصحيحين (10). وفي الصحيحين
أيضا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن
: "بشرا ولا تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا ، وتطاوعا ولا تختلفا". وفي السنن
والمسانيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) هذا لفظ حديث جابر وسيأتي.
(2) صحيح البخاري برقم (1943) وصحيح مسلم برقم (1121).
(3) صحيح البخاري برقم (1946) وصحيح مسلم برقم (1121).
(4) المسند (2/71).
(5) في جـ : "تثبت الأدلة".
(6) في أ ، و : "حدثنا أبو".
(7) المسند (3/479).
(8) في أ ، و : "فخرج رجل".
(9) المسند (5/69).
(10) صحيح البخاري برقم (69) وصحيح مسلم برقم(1734).
(1/504)
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
قال
: "بعثت بالحنيفيَّة السمحة" (1).
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره : حدثنا عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم ،
حدثنا يحيى ابن أبي طالب ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، حدثنا أبو مسعود الجُرَيري
، عن عبد الله بن شقيق ، عن مِحْجَن بن الأدرع : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
رأى رجلا يصلي فتراءاه ببصره (2) ساعة ، فقال : "أتراه يصلي صادقًا ؟"
قال : قلت : يا رسول الله ، هذا أكثر أهل المدينة صلاة ، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "لا تُسْمِعْه فَتُهلِكَه". وقال : "إن الله إنما أراد
بهذه الأمة اليُسْر ، ولم يرد بهم العُسْر" (3).
ومعنى قوله : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } أي : إنما أرْخَصَ لكم في الإفطار للمرض (4) والسفر
ونحوهما من الأعذار لإرادته بكم اليسر ، وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدّة شهركم.
وقوله : { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } أي : ولتذكروا الله عند
انقضاء عبادتكم ، كما قال : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا
اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } [البقرة : 200] وقال : [
{ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى
جُنُوبِكُمْ } ] (5) [ النساء : 103] ، { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ
فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ
كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [الجمعة : 10] وقال : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } [ق : 39 ، 40] ؛ ولهذا جاءت السنة باستحباب
التسبيح ، والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات.
وقال ابن عباس : ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا
بالتكبير ؛ ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية
: { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } حتى
ذهب داود بن علي الأصبهاني الظاهري إلى وجوبه في عيد الفطر ؛ لظاهر الأمر في قوله
{ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } وفي مقابلَته مذهبُ أبي حنيفة -
رحمه الله - أنه لا يُشْرَع التكبير في عيد الفطر. والباقون على استحبابه ، على
اختلاف في تفاصيل بعض الفروع بينهم.
وقوله : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : إذا قمتم بما أمركم الله من طاعته
بأداء فرائضه ، وترك محارمه ، وحفظ حدوده ، فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك.
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ
إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ
(186) }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، أخبرنا جرير ، عن عبدة بن
أبي برزة السِّجستاني (6) عن الصُّلْب (7) بن حَكيِم بن معاوية بن حيدة القشيري ،
عن أبيه ، عن جده ، أن
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4341 ، 4342) وصحيح مسلم برقم (1733).
(2) في أ ، و : "ببصره".
(3) ورواه أحمد في المسند (5/32) من طريق حماد عن الجريري ، عن عبد الله بن شقيق
عن محجن نحوه.
(4) في أ : "للمريض".
(5) زيادة من جـ.
(6) في جـ ، أ ، و : "السختياني".
(7) في جـ : "الصلت".
(1/505)
أعرابيًا
قال : يا رسول الله ، أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه ؟ فسكت النبي صلى الله
عليه وسلم ، فأنزل الله : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } (1).
ورواه ابن مَرْدُويه ، وأبو الشيخ الأصبهاني ، من حديث محمد بن أبي حميد ، عن جرير
، به. وقال عبد الرزاق : أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : سأل
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [النبي صلى الله عليه وسلم] (2) : أين ربنا ؟
فأنزل الله عز وجل : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ
دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } الآية (3).
وقال ابن جُرَيج عن عطاء : أنه بلغه لما نزلت : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر : 60] قال الناس : لو نعلم أي ساعة ندعو ؟ فنزلت : {
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ
إِذَا دَعَانِ }
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ، حدثنا خالد الحذاء ،
عن أبي عثمان النهدي ، عن أبي موسى الأشعري ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم في غَزَاة فجعلنا لا نصعد شَرَفًا ، ولا نعلو شَرَفًا ، ولا نهبط واديًا
إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير. قال : فدنا منا فقال : "يا أيها الناس ،
أرْبعُوا على أنفسكم ؛ فإنَّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبًا ، إنما تدعون سميعًا
بصيرًا ، إن الذي تدعون أقربُ إلى أحدكم من عُنُق راحلته. يا عبد الله بن قيس ،
ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله".
أخرجاه في الصحيحين ، وبقية الجماعة من حديث أبي عثمان النهدي ، واسمه عبد الرحمن
بن مُل (4) ، عنه ، بنحوه (5).
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا شعبة ، حدثنا قتادة ، عن أنس رضي
الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يقول الله تعالى : أنا عند ظن
عبدي بي ، وأنا معه إذا دعاني" (6).
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا عبد الرحمن بن
يزيد بن جابر ، حدثنا إسماعيل بن عبيد الله ، عن كريمة بنت الخشخاش المزنية ، قالت
: حدثنا أبو هريرة : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "قال الله
: أنا مع عبدي ما ذكرني ، وتحركت بي شفتاه" (7).
قلت : وهذا كقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ
هُمْ مُحْسِنُونَ } [النحل : 128] ، وكقوله لموسى وهارون ، عليهما السلام : {
إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [طه : 46]. والمراد من هذا : أنه تعالى لا
يخيب دعاء داع ، ولا يشغله عنه شيء ، بل هو سميع الدعاء. وفيه ترغيب في الدعاء ،
وأنه لا يضيع لديه تعالى ، كما قال الإمام أحمد :
__________
(1) ورواه الطبري في تفسيره (3/480) من طريق جرير به ، وانظر حاشيته ففيها كلام
جيد حول الصلب بن حكيم.
(2) زيادة من جـ ، أ ، و.
(3) ورواه الطبري في تفسيره (3/481) من طريق عبد الرزاق به.
(4) في جـ : "بن ملبك".
(5) المسند (4/402).
(6) المسند (3/210).
(7) المسند (2/540).
(1/506)
حدثنا
يزيد ، حدثنا رجل أنه سمع أبا عثمان - هو النهدي - يحدث عن سلمان - يعني الفارسي -
رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن الله تعالى
ليستحيي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيرا فيردّهما خائبتين".
قال يزيد : سموا لي هذا الرجل ، فقالوا : جعفر بن ميمون (1).
وقد رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة من حديث جعفر بن ميمون ، صاحب الأنماط ،
به (2). وقال الترمذي : حسن غريب. ورواه بعضهم ، ولم يرفعه.
وقال الشيخ الحافظ أبو الحجاج المِزّي ، رحمه الله ، في أطرافه : وتابعه أبو همام
محمد بن الزبرقان ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان النهدي ، به (3).
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا أبو عامر ، حدثنا عَليّ بن دُؤاد أبو المتوكل
الناجي ، عن أبي سعيد : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما من مسلم يدعو
الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم ، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث
خصال : إما أن يعجِّل له دعوته ، وإما أن يَدّخرها له في الآخرة ، وإما أن يصرف
عنه من السوء مثلها" قالوا : إذًا نكثر. قال : "الله أكثر (4) "
(5).
وقال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن منصور الكوسج ، أخبرنا محمد بن
يوسف ، حدثنا ابن ثوبان ، عن أبيه ، عن مكحول ، عن جُبَير بن نفير ، أن عُبَادة بن
الصامت حدّثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما على ظهر الأرض من رجل
مُسْلِم يدعو الله ، عز وجل ، بدعوة إلا آتاه الله إياها ، أو كف عنه من السوء
مثلها ، ما لم يَدعُ بإثم أو قطيعة رحم" (6).
ورواه الترمذي ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، عن محمد بن يوسف الفرْيابي ،
عن ابن ثوبان - وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان - به (7). وقال : حسن صحيح غريب
من هذا الوجه.
وقال الإمام مالك ، عن ابن شهاب ، عن أبي عبيد - مولى ابن أزهر - عن أبي هريرة :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يُسْتَجَاب لأحدكم ما لم يَعْجل ،
يقول : دعوتُ فلم يستجب لي".
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك ، به (8). وهذا لفظ البخاري ، رحمه الله ، وأثابه
الجنة.
وقال مسلم أيضًا (9) : حدثني أبو الطاهر ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني معاوية بن صالح
، عن ربيعة ابن يزيد ، عن أبي إدريس الخَوْلاني ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال : "لا يزال يستجاب للعبد ما لم يَدْعُ بإثم أو قطيعة
رحم ما لم يستعجل". قيل : يا رسول الله ، ما الاستعجال ؟ قال : "يقول :
قد
__________
(1) المسند (5/438).
(2) سنن أبي داود برقم (1488) وسنن الترمذي برقم (1488) وسنن ابن ماجة برقم
(3865).
(3) تحفة الأشراف (4/29).
(4) في جـ : "أكثروا".
(5) المسند (3/18).
(6) زوائد المسند (5/329).
(7) سنن الترمذي برقم (3573).
(8) الموطأ (1/213) وصحيح البخاري برقم (684).
(9) في جـ ، أ : "وقال مسلم في صحيحه".
(1/507)
دعوتُ
، وقد دَعَوتُ ، فلم أرَ يستجابُ لي ، فَيَسْتَحسر عند ذلك ، ويترك (1)
الدعاء" (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا ابن (3) هلال ، عن قتادة ، عن أنس :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا يزال العبد بخير ما لم
يستعجل". قالوا : وكيف يستعجل ؟ قال : "يقول : قد دعوتُ ربي فلم
يَسُتَجبْ لي" (4).
وقال الإمام أبو جعفر الطبري في تفسيره : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن
وهب ، حدثني أبو صخر : أن يزيد بن عبد الله بن قسَيط حدثه ، عن عروة بن الزبير ،
عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : ما من عَبْد مؤمن يدعو الله بدعوة فتذهب ،
حتى تُعَجَّل له في الدنيا أو تُدّخر له في الآخرة ، إذا لم (5) يعجل أو يقنط. قال
عروة : قلت : يا أمَّاه (6) كيف عجلته وقنوطه ؟ قالت : يقول : سألت فلم أعْطَ ،
ودعوت فلم أجَبْ.
قال ابن قُسَيْط : وسمعت سعيد بن المسيب يقول كقول عائشة سواء.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا بكر بن عمرو ، عن أبي
عبد الرحمن الحُبُليّ ، عن عبد الله بن عمرو ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : "القلوب أوعية ، وبعضها أوعى من بعض ، فإذا سألتم الله أيها الناس
فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة ، فإنه لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل"
(7).
وقال ابن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن إسحاق بن أيوب ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن
أبيَّ بن نافع ابن معد يكرب ببغداد ، حدثني أبي بن نافع ، حدثني أبي نافع بن معد
يكرب ، قال : كنت أنا وعائشة سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الآية : {
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } قال : "يا رب ، مسألة
عائشة". فهبط جبريل فقال : الله يقرؤك السلام ، هذا عبدي الصالح (8) بالنية
الصادقة ، وقلبُه نقي (9) يقول : يا رب ، فأقول : لبيك. فأقضي حاجته.
هذا حديث غريب من هذا الوجه (10).
وروى ابن مَرْدُويه من حديث الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : حدثني جابر بن
عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي
فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } الآية. فقال رسول
__________
(1) في جـ ، أ ، و : "ويدع".
(2) صحيح مسلم برقم (2735).
(3) في جـ : "حدثنا أبو".
(4) المسند (3/210).
(5) في جـ ، أ : "إذا هو لم".
(6) في أ ، و : "يا أمتاه".
(7) المسند (2/177).
(8) في جـ : "عبدي أصلح".
(9) في جـ : "وقلبه تقي".
(10) ذكره ابن الأثير في أسد الغابة (4/530) وقال : "روى حديثه محمد بن إسحاق
، عن إسحاق بن إبراهيم بن أبي بن نافع بن معد يكرب عن جده أبي ، عن أبيه نافع بن
معد يكرب أنه قال ، فذكر مثله" ثم قال ابن الأثير : "أخرجه أبو موسى
وقال : عند ابن إسحاق هذا ، وعند غيره : عن إسحاق بن إبراهيم أحاديث".
(1/508)
الله
صلى الله عليه وسلم : "اللهم أمرت بالدعاء ، وتوكَّلْتَ بالإجابة ، لبيك
اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك ، لبيك إن الحمد والنعمة لك ، والملك لا شريك لك ،
أشهد أنك فرد أحد صَمَد لم تلد ولم تولد ولم يكن لك كفوًا أحد ، وأشهد أن وعدك حق
، ولقاءك حق ، والجنة حق ، والنار حق ، والساعة آتية لا ريب فيها ، وأنت تبعث من
في القبور" (1).
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا الحسن بن يحيى الأرزي (2) ومحمد بن يحيى
القُطَعي (3) قالا حدثنا الحجاج بن مِنْهال ، حدثنا صالح المُرِّي ، عن الحسن ، عن
أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يقول الله تعالى : يا ابن آدم ،
واحدة لك وواحدة لي ، وواحدة فيما بيني وبينك ؛ فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي
شيئا ، وأما التي لك فما عملتَ من شيء وَفَّيْتُكَه (4) وأما التي بيني وبينك فمنك
الدعاء وعليّ الإجابة" (5).
وفي ذكره تعالى (6) هذه الآية الباعثة على الدعاء ، متخللة بين أحكام الصيام ،
إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العِدّة ، بل وعندَ كلّ فطر ، كما رواه
الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده :
حدثنا أبو محمد المليكي ، عن عَمْرو - هو ابن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو ،
عن أبيه ، عن جده عبد الله بن عمرو ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول : "للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة". فكان عبد الله بن عمرو إذ
أفطر دعا أهله ، وولده ودعا (7).
وقال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة في سننه : حدثنا هشام بن عمار ، أخبرنا
الوليد بن مسلم ، عن إسحاق بن عبيد الله (8) المدني ، عن عَبْد الله (9) بن أبي
مُلَيْكة ، عن (10) عبد الله بن عَمْرو ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :
"إن للصائم عند فطره دَعْوةً ما تُرَدّ". قال عَبْد الله (11) بن أبي
مُليَكة : سمعت عبد الله بن عَمْرو يقول إذا أفطر : اللهم إني أسألك برحمتك التي
وسعَتْ كل شيء أن تغفر لي (12).
وفي مسند الإمام أحمد ، وسنن الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، عن أبي هريرة قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإمام العادل ،
والصائم حتى (13) يفطر ، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون (14) الغمام يوم القيامة ،
وتفتح لها أبواب السماء ، ويقول : بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين" (15).
__________
(1) ورواه الديلمي في مسند الفردوس برقم (1798) وابن أبي الدنيا في الدعاء كما في
الدر المنثور (1/474) وإسناده واه.
(2) في جـ : "الأزدي".
(3) في جـ : "المقطعي".
(4) في أ ، و : "من شيء أو من عمل وفيتكه".
(5) مسند البزار برقم (19) "كشف الأستار" وقال البزار : "تفرد به
صالح المري ، وصالح المري ضعفه الأئمة".
(6) في جـ : "وفي ذكره تبارك وتعالى".
(7) مسند الطيالسي برقم (2262).
(8) في هـ : "عبد الله" ، والصواب ما أثبتناه.
(9) في و : "عبيد الله".
(10) في جـ : "سمعت".
(11) في و : "عبيد الله".
(12) سنن ابن ماجة برقم (1753) وقال البوصيري في الزوائد (2/38) : "هذا إسناد
صحيح رجاله ثقات" وحسنه الحافظ ابن حجر في "نتائج الأفكار".
(13) في و : "حين".
(14) في أ : "فوق".
(15) المسند (2/445) وسنن الترمذي برقم (3598) وسنن ابن ماجة برقم (1752)
(1/509)
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) }
(1/509)
هذه
رُخْصة من الله تعالى للمسلمين ، ورَفْع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام ،
فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو
ينام قبل ذلك ، فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى
الليلة القابلة. فوجدوا من ذلك مَشَقة كبيرة. والرفث هنا هو : الجماع. قاله (1)
ابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وطاوس ، وسالم بن عبد الله ، وعَمْرو
بن دينار (2) والحسن ، وقتادة ، والزهري ، والضحاك ، وإبراهيم النَّخَعي ، والسّدي
، وعطاء الخراساني ، ومقاتل بن حيان.
وقوله : { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } قال ابن عباس ،
ومجاهد ، وسعيد بن جُبَير ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل بن حيان : يعني هن
سَكَن لكم ، وأنتم سكن لهن.
وقال الربيع بن أنس : هن لحاف لكم وأنتم لحاف لهن.
وحاصله أنّ الرجل والمرأة كل منهما يخالط الآخر ويُمَاسه ويضاجعه ، فناسب أن
يُرَخَّص لهم في المجامعة في ليل رمضانَ ، لئلا يشقّ ذلك عليهم ، ويحرجوا ، قال
الشاعر (3) إذا ما الضجيع ثَنَى جيدها... تَدَاعَتْ فكانت عليه لباسا...
وكان السبب في نزول هذه الآية كما تقدم في حديث معاذ الطويلِ ، وقال أبو إسحاق عن
البراء ابن عازب قال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائمًا
فنام قبل أن يفطر ، لم يأكل إلى مثلها ، وإن قَيْس بن صِرْمة (4) الأنصاري كان
صائمًا ، وكان يومه ذاك يعمل في أرضه ، فلما حَضَر الإفطار أتى امرأته فقال : هل
عندك طعام ؟ قالت : لا ولكن أنطلق فأطلب لك. فغلبته عينُه فنام ، وجاءت امرأته ،
فلما رأته نائما قالت : خيبة لك! أنمت ؟ فلما انتصف النهار غُشي عليه ، فذكر ذلك
للنبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ
الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } إلى قوله : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ
} ففرحوا بها فرحًا شديدًا (5).
ولفظ البخاري هاهنا من طريق أبي إسحاق : سمعت البراء قال : لما نزل صومُ رمضان
كانوا لا
__________
(1) في أ : "كما قال".
(2) في جـ : "بن يسار".
(3) هو النابغة الجعدي ، والبيت في تفسير الطبري (3/490).
(4) في و : "قيس بن أبي صرمة".
(5) هذا اللفظ رواه الطبري في تفسيره (3/495).
(1/510)
يقرَبُون
النساء ، رَمَضَان كُلّه ، وكان رجَال يخونون أنفسهم ، فأنزل الله : { عَلِمَ
اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا
عَنْكُمْ } (1).
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : كان المسلمون في شهر رمضان إذا صَلُّوا
العشاء حَرُم عليهم (2) النساء والطعام إلى مثلها من القابلة ، ثم إن أناسًا من
المسلمين أصابوا من النساء والطعام في شهر رمضان بعد العشاء ، منهم عمر بن الخطاب
، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : { عَلِمَ
اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا
عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ } وكذا روى العوفي عن ابن عباس.
وقال موسى بن عقبة ، عن كُرَيْب ، عن ابن عباس ، قال : إن الناس كانوا قبل أن ينزل
في الصوم ما نزل فيهم يأكلون ويشربون ، ويحل لهم شأن النساء ، فإذا نام أحدهُم لم
يطعم ولم يشرَب ولا يأتي أهله حتى يفطر من القابلة ، فبلغنا أن عُمَر بن الخطاب
بعدما نام ووجب عليه الصوْمُ وَقَع على أهله ، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فقال : أشكو إلى الله وإليك الذي صنعت. قال : "وماذا صنعت ؟ " قال
: إني سَوَّلَتْ لي نفسي ، فوقعت على أهلي بعد ما نمت وأنا أريد الصوم. فزعموا أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما كنت خليقًا أن تفعل". فنزل الكتاب :
{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ }
وقال سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قيس بن سعد (3) ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن أبي
هريرة في قول الله تعالى (4) { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ
إِلَى نِسَائِكُمْ } إلى قوله : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ }
قال : كانَ المسلمون قبلَ أن تنزل هذه الآية إذا صلوا العشاء الآخرة حَرُمَ عليهم
الطعام والشراب والنساء حتى يفطروا ، وإن عمر بن الخطاب أصاب أهله بعد صلاة العشاء
، وأن صِرْمة بن قيس الأنصاري غلبته عينه بعد صلاة المغرب ، فنام ولم يشبع من
الطعام ، ولم يستيقظ حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ، فقام فأكل
وشرب ، فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره (5) بذلك ، فأنزل الله
عند ذلك : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ }
يعني بالرفث : مجامعة النساء { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ
عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } يعني : تجامعون
النساء ، وتأكلون وتشربون بعد العشاء { فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ
فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ } يعني : جامعوهن { وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ
} يعني : الولد { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ
الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ
إِلَى اللَّيْلِ } فكان ذلك عفوًا من الله ورحمة.
وقال هُشَيم ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عبد الرحمن بن أبِي ليلى ، قال : قام
عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فقال : يا رسول الله ، إني أردت أهلي البارحة (6)
على ما يريد الرجلُ أهلهُ فقالت : إنها قد نامت ، فظننتها تعْتلّ ، فواقعتها ،
فنزل في عمر : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ
}
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4508).
(2) في جـ : "حرم الله عليهم".
(3) في جـ : "سعد بن قيس".
(4) في جـ : "في قوله تعالى".
(5) في جـ : "فأخبراه".
(6) في جـ : "البارحة أهلي".
(1/511)
وهكذا
رواه شعبة ، عن عَمْرو بن مُرّة ، عن ابن أبي ليلى ، به (1).
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا سويد ، أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن
لَهِيعة ، حدثني موسى بن جبير - مولى بني سلمة - أنه سمع عبد الله بن كعب بن مالك
يحدث عن أبيه قال : كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسَى فنام ، حُرّم عليه
الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد. فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي صلى
الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سَمَرَ عنده ، فوجد امرأته قد نامت ، فأرادها ، فقالت
: إني قد نمت! فقال : ما نمت! ثم وقع بها. وصنع كعب بن مالك مثل ذلك. فغدا عمر بن
الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فأنزل الله : { عَلِمَ اللَّهُ
أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا
عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ } [الآية] (2) (3).
وهكذا روي عن مجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، والسدي ، وقتادة ، وغيرهم في سبب نزول هذه
الآية في عمر بن الخطاب ومن صنع كما صنع ، وفي صِرْمة بن قيس ؛ فأباح الجماعَ
والطعام والشراب في جميع الليل رحمة ورخصة ورفقًا.
وقوله : { وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } قال أبو هريرة ، وابن عباس (4)
وأنس ، وشُرَيح القاضي ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والربيع بن
أنس ، والسدي ، وزيد بن أسلم ، والحكم بن عتبة (5) ومقاتل بن حيان ، والحسن البصري
، والضحاك ، وقتادة ، وغيرهم : يعني الولد.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } يعني
: الجماع.
وقال عَمْرو بن مالك النَّكْري ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس : { وَابْتَغُوا
مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } قال : ليلة القدر. رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر قال : قال قتادة : وابتغوا الرخصة التي كتب الله
لكم. وقال سعيد عن قتادة : { وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } يقول : ما
أحل الله لكم.
وقال عبد الرزاق أيضًا : أخبرنا ابن عُيَيْنة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء بن أبي
رباح ، قال : قلت لابن عباس : كيف تقرأ هذه الآية : { وَابْتَغُوا } أو :
"اتبعوا" ؟ قال : أيتهما شئت : عليك بالقراءة الأولى.
واختار ابن جرير أنّ الآية أعمّ من هذا كله.
وقوله : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ
مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى
اللَّيْلِ } أباح تعالى الأكل والشرب ، مع ما تقدم من إباحة الجماع في أيّ الليل
شاء الصائمُ إلى أن يتبين ضياءُ الصباح من سواد الليل ، وعبر عن ذلك بالخيط الأبيض
من الخيط الأسود ، ورفع اللبس بقوله : { مِنَ الْفَجْرِ } كما جاء في الحديث الذي
رواه الإمام أبو عبد الله البخاري : حدثنا ابن أبي
__________
(1) رواه ابن مردويه في تفسيره من طريق عمرو بن عون ، عن هشيم به. قال الحافظ ابن
كثير في "مسند الفاروق" (2/566) : "هذا إسناد جيد وابن أبي ليلى
مختلف في سماعه من عمر ، ولكن قد روي من وجه آخر عن ابن أبي ليلى عن معاذ بن جبل
أن عمر فعل مثل هذا". ورواه الطبري في تفسيره (3/493) من طريق شعبة عن عمرو
بن مرة به.
(2) زيادة من جـ ، أ ، و.
(3) تفسير الطبري (3/496).
(4) في جـ : "قال الزهري عن ابن عباس".
(5) في أ : "عيينة" ، وفي و : "عتيبة".
(1/512)
مريم
، حدثنا أبو غَسَّان محمد بن مُطَرِّف ، حدثني أبو حازم ، عن سهل بن سعد ، قال :
أنزلت : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ
مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ } ولم يُنزلْ { مِنَ الْفَجْرِ } وكان رجال إذا أرادوا
الصوم ، رَبَطَ أحدُهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ، فلا يزال يأكل حتى
يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله بعد : { مِنَ الْفَجْرِ } فعلموا أنما يعني : الليل
والنهار (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيم ، أخبرنا حُصَين ، عن الشعبي ، أخبرني عَديّ بن
حاتم قال : لما نزلت هذه الآية : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ
الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ } عَمَدت إلى عقالين ، أحدُهما أسود
والآخر أبيض ، قال : فجعلتهما تحت وسادتي ، قال : فجعلت أنظر إليهما فلا تَبَيَّن
(2) لي الأسود من الأبيض ، ولا الأبيض من الأسود ، فلما أصبحت غدوت على رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعت. فقال : "إنّ وسادك إذًا لعريض ، إنما
ذلك بياض النهار وسواد (3) الليل" (4).
أخرجاه في الصحيحين من غير وجه ، عن عَديّ (5). ومعنى قوله : "إن وسادك إذًا
لعريض" أي : إن كان يسعُ لوضع الخيط الأسود والخيط الأبيض المرادين من هذه
الآية تحتها ، فإنهما بياض النهار وسواد الليل. فيقتضي أن يكون بعرض المشرق
والمغرب.
وهكذا وقع في رواية البخاري مفسرا بهذا : أخبرنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو
عوانة ، عن حُصَين ، عن الشعبي ، عن عَدِيّ قال : أخذ عَدي عقالا أبيض وعقالا أسود
، حتى كان بعض الليل نظر فلم يتبينا (6). فلما أصبح قال : يا رسول الله ، جعلت تحت
وسادتي. قال : "إن وسادك إذًا لعريض ، إنْ كان الخيط الأبيض والأسود تحت
وسادتك" (7).
وجاء في بعض الألفاظ : إنك لعريض القفا. ففسره بعضهم بالبلادة ، وهو ضعيف. بل يرجع
إلى هذا ؛ لأنه إذا كان وساده عريضا فقفاه أيضًا عريض ، والله أعلم. ويفسره رواية
البخاري أيضًا :
حدثنا قتيبة ، حدثنا جرير ، عن مُطَرّف ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم قال : قلت :
يا رسول الله ، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، أهما الخيطان ؟ قال : "إنك
لعريض القفا إن أبصرت الخيطين". ثم قال : "لا بل هو (8) سواد الليل
وبياض النهار" (9).
وفي إباحته تعالى جوازَ الأكل إلى طلوع الفجر ، دليل على استحباب السَّحُور ؛ لأنه
من باب الرخصة ، والأخذ بها محبوب ؛ ولهذا وردت السنة الثابتة عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم بالحث على السَّحور [لأنه من باب الرخصة والأخذ بها] (10) ففي
الصحيحين عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تَسَحَّرُوا فإن
في السَّحور بركة" (11). وفي صحيح مسلم ، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه ،
قال : قال
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4511).
(2) في جـ : "فلما يتبين".
(3) في جـ : "من سواد".
(4) المسند (4/377).
(5) صحيح البخاري برقم (1916 ، 4509) وصحيح مسلم برقم (1090).
(6) في أ ، و : "فلم يستبينا".
(7) صحيح البخاري برقم (4509).
(8) في جـ : "بل هما".
(9) صحيح البخاري برقم (4510).
(10) زيادة من جـ.
(11) صحيح البخاري برقم (1923) وصحيح مسلم برقم (1095).
(1/513)
رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "إن فَصْل (1) ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب
أكلة السَّحَر (2) " (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى (4) هو ابن الطباع ، حدثنا عبد الرحمن بن
زيد ، عن أبيه ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "السَّحور أكْلُهُ بركة ؛ فلا تدعوه ، ولو أنّ أحدكم يَجْرَع جرعة من
ماء ، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين" (5).
وقد ورد في الترغيب في السحور أحاديث كثيرة حتى ولو بجرعة من ماء ، تشبهًا (6)
بالآكلين. ويستحب تأخيره إلى قريب انفجار الفجر ، كما جاء في الصحيحين ، عن أنس بن
مالك ، عن زيد بن ثابت ، قال : تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قمنا
إلى الصلاة. قال أنس : قلت لزيد : كم كان بين الأذان والسحور ؟ قال : قدر خمسين
آية (7).
وقال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن سالم بن غيلان ،
عن سليمان (8) بن أبي عثمان ، عن عَديّ بن حاتم الحمصي ، عن أبي ذَرّ قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تزال أمتي بخير ما عَجَّلوا الإفطار
وأخَّروا السحور" (9). وقد ورد في أحاديث كثيرة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم سمَّاه الغَدَاء المبارك ، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، والنسائي ،
وابن ماجة من رواية حماد بن سلمة ، عن عاصم بن بهدلة ، عن زرّ بن حبيش ، عن حذيفة
بن اليمان قال : تسحَّرْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان النهار إلا أن
الشمس لم تطلع (10). وهو حديث تفرد به عاصم بن أبي النَّجُود ، قاله النسائي ،
وحمله على أن المراد قربُ النهار ، كما قال تعالى : { فَإِذَا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ }
[الطلاق : 2] أي : قاربن انقضاء العدة ، فإما إمساك (11) أو تَرْك للفرَاق. وهذا
الذي قاله هو المتعيَّن حملُ الحديث عليه : أنهم تسحروا ولم يتيقنوا طلوع الفجر ،
حتى أن بعضهم ظن طلوعه وبعضهم لم يتحقق ذلك. وقد رُوي عن طائفة كثيرة من السلف
أنَّهم تسامحوا (12) في السحور عند مقاربة الفجر. روي مثل هذا عن أبي بكر ، وعمر ،
وعلي ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وأبي هريرة ، وابن عمر ، وابن عباس ، وزيد بن ثابت
وعن طائفة كثيرة من التابعين ، منهم : محمد بن علي بن الحسين ، وأبو مِجْلز ،
وإبراهيم النَّخَعَي ، وأبو الضُّحَى ، وأبو وائل ، وغيره (13) من أصحاب ابن مسعود
وعطاء ، والحسن ، والحكم بن عيينة (14) ومجاهد ، وعروة بن الزبير ، وأبو الشعثاء
جابر بن زيد. وإليه ذهب الأعمش معمر (15) بن راشد. وقد حررنا أسانيد ذلك في كتاب
__________
(1) في أ : "إن أفضل".
(2) في أ : "السحور".
(3) صحيح مسلم برقم (1096).
(4) في جـ : "بن إسحاق".
(5) المسند (3/44).
(6) في أ : "تشبيها".
(7) صحيح البخاري برقم (1921) وصحيح مسلم برقم (1097).
(8) في جـ : "عن سلمان".
(9) المسند (5/172).
(10) المسند (5/396) وسنن النسائي (4/142) وسنن ابن ماجة برقم (1695).
(11) في جـ : "إمساك بمعروف".
(12) في أ : "أنهم سامحوا".
(13) في أ : "وغيرهما".
(14) في جـ : "ابن قتيبة" ، وفي و : "ابن عتيبة".
(15) في جـ ، أ : "ومعمر".
(1/514)
الصيام
المفرد ، ولله الحمد.
وحكى أبو جَعفر بن جرير في تفسيره ، عن بعضهم : أنَّه إنما يجب الإمساك من طلوع
الشمس كما يجوز الإفطار بغروبها.
قلت : وهذا القول ما أظنّ أحدًا من أهل العلم يستقر له قَدَم عليه ، لمخالفته نصّ
القرآن في قوله : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ
الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ
إِلَى اللَّيْلِ } وقد وَرَدَ في الصحيحين من حديث القاسم ، عن عائشة : أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا يمنعكم (1) أذانُ بلال عن سَحُوركم ، فإنه
ينادي بليل ، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع
الفجر". لفظ البخاري (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا محمد بن جابر ، عن قيس بن طَلْق ،
عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ليس الفجرُ المستطيل في
الأفق ولكنه المعترض الأحمر" (3). ورواه أبو داود ، والترمذي ولفظهما :
"كلوا واشربوا ولا يَهِيدَنَّكُمْ الساطع المصعد ، فكلوا واشربوا حتى يعترض
لكم الأحمر" (4).
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا شعبة ،
عن شيخ من بني قشير : سمعت سَمُرة بن جُنْدَب يقول : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "لا يغرنكم نداء بلال وهذا البياض حتى ينفجر الفجر ، أو يطلع
الفجر".
ثم رواه من حديث شعبة وغيره ، عن سوادة بن حنظلة ، عن سمرة قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "لا يمنعكم من سَحُوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ،
ولكن الفجر المستطير في الأفق" (5).
قال : وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَية ، عن عبد الله بن سَوادة
القُشَيري ، عن أبيه ، عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا البياض ، تعمدوا الصبح حين يستطير" (6).
ورواه مسلم في صحيحه عن زهير بن حرب ، عن إسماعيل بن إبراهيم - يعني (7) ابن علية
- مثله سواء (8).
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حمَيد ، حدثنا ابن المبارك ، عن سُلَيمان التيمي ، عن
أبي عثمان النهدي ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"لا يمنعَنّ أحدكم أذان بلال عن سحوره - أو قال نداء بلال - فإن بلالا يؤذن -
أو [قال] (9) ينادي - لينبه نائمكم وليَرْجع قائمكم ، وليس الفجر أن يقول
__________
(1) في و : "لا يمنعنكم".
(2) صحيح البخاري برقم (1918 ، 622) وصحيح مسلم برقم (1092) وقوله : "لا
يمنعنكم أذان بلال عن سحوركم" لم يقع في البخاري من حديث عائشة وإنما من حديث
عبد الله بن مسعود ، هذا ما ظهر لي بعد البحث ، والله أعلم.
(3) المسند (4/23).
(4) سنن أبي داود برقم (2348) وسنن الترمذي برقم (705).
(5) هذا الحديث لم أجده في تفسير الطبري المطبوع.
(6) في أ ، و : "لعمود الصبح حتى يستطير".
(7) في و : "هو".
(8) صحيح مسلم برقم (1094).
(9) زيادة من و.
(1/515)
هكذا
أوهكذا ، حتى يقول هكذا".
ورواه من وجه آخر عن التيمي ، به (1).
وحدثني الحسن بن الزبرقان النخعي ، حدثنا أبو أسامة عن محمد بن أبي ذئْب ، عن
الحارث بن عبد الرحمن ، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "الفجر فجران ، فالذي كأنه ذنب السرحان لا يُحَرِّم شيئًا ،
وأما المستطير الذي يأخذ الأفق ، فإنه يحل الصلاة ويحرّم الطعام" (2). وهذا
مرسل جيد.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء قال : سمعت ابن عباس يقول : هما
فجران ، فأما الذي يسطع في السماء فليس يُحِلّ ولا يحرِّم شيئا ، ولكن الفجر الذي
يستبين (3) على رؤوس الجبال ، هو الذي يحرّم الشراب. قال عطاء : فأما إذا سطع
سطوعًا في السماء ، وسطوعه أن يذهب في السماء طولا فإنه لا يحرم به شراب لصيام ولا
صلاة ، ولا يفوت به حج (4) ولكن إذا انتشر على رؤوس الجبال ، حرم الشراب للصيام
وفات الحج.
وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وعطاء ، وهكذا رُوي عن غير واحد من السلف ، رحمهم
الله.
مسألة : ومِن جَعْله تعالى الفجرَ غاية لإباحة الجماع والطعام والشراب لمن أراد
الصيام ، يُسْتَدَلّ على أنه من أصبح جُنُبًا فليغتسل ، وليتم صومه ، ولا حرج
عليه. وهذا مذهب الأئمة الأربعة وجمهور العلماء سلفًا وخلفًا ، لما رواه البخاري
ومسلم من حديث عائشة وأم سلمة ، رضي الله عنهما ، أنهما قالتا : كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يصبح جُنُبًا من جماع غير احتلام ، ثم يغتسل ويصوم (5). وفي حديث
أم سلمة عندهما : ثم لا يفطر ولا يقضي. وفي صحيح مسلم ، عن عائشة : أن رجلا قال :
يا رسول الله ، تُدْركني الصلاة وأنا جنب ، فأصوم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب ، فأصوم". فقال : لست مثلنا - يا
رسول الله - قد غفرَ اللهُ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال : "والله إني
لأرجو أن أكونَ أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي" (6). فأما الحديث الذي رواه
الإمام أحمد :
حدثنا عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن همام ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال : "إذا نودي للصلاة - صلاة الصبح - وأحدكم جنب فلا يصم
يومئذ" (7) فإنه حديث جيد الإسناد على شرط الشيخين ، كما ترى (8) وهو في
الصحيحين عن أبي هريرة ، عن الفضل بن عباس عن النبي
__________
(1) لم أجد هذا الحديث في المطبوع من تفسير الطبري ورواه البخاري في صحيحه برقم
(621 ، 5298) ومسلم في صحيحه برقم (1093) من طريق أبي عثمان النهدي به.
(2) تفسير الطبري (3/514).
(3) في أ : "حتى يستنير".
(4) في أ : "به الحج".
(5) صحيح البخاري برقم (1925 ، 1926) وصحيح مسلم برقم (1109).
(6) صحيح مسلم برقم (1109).
(7) المسند (2/314).
(8) في جـ : "كما ترى على شرط الشيخين".
(1/516)
صلى
الله عليه وسلم (1) وفي سنن النسائي (2) عنه ، عن أسامة بن زيد ، والفضل بن عباس
ولم يرفعه (3). فمن العلماء من علَّل هذا الحديث بهذا ، ومنهم من ذهب إليه ،
ويُحْكى هذا عن أبي هريرة ، وسالم ، وعطاء ، وهشام بن عروة ، والحسن البصري. ومنهم
من ذهب إلى التفرقة بين أن يصبح جنبًا نائمًا فلا عليه ، لحديث عائشة وأم سلمة ،
أو مختارًا فلا صومَ له ، لحديث أبي هريرة. يحكى (4) هذا عن عُروة ، وطاوس ،
والحسن. ومنهم من فرق بين الفرض فيتمه ويقضيه وأما النَّفْل فلا يضره. رواه الثوري
، عن منصور ، عن إبراهيم النخَعي. وهو رواية عن الحسن البصري أيضًا ، ومنهم من
ادعى نسخ حديث أبي هريرة بحديثي عائشة وأم سلمة ، ولكن لا تاريخ معه.
وادعى ابن حزم أنه منسوخ بهذه الآية الكريمة ، وهو بعيد أيضًا ، وأبعد ؛ إذ لا
تاريخ ، بل الظاهر من التاريخ خلافه. ومنهم من حمل حديث أبي هريرة على نفي الكمال
"فلا صوم له" لحديث عائشة وأم سلمة الدالين على الجواز. وهذا المسلك
أقرب الأقوال وأجمعها ، والله أعلم.
وقوله تعالى : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } يقتضي الإفطار عند
غُرُوب الشمس حكمًا شرعيًا ، كما جاء في الصحيحين ، عن أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا أقبل
الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا ، فقد أفطر الصائم" (5).
وعن سهل بن سعد الساعدي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" أخرجاه أيضًا (6).
وقال الإمام أحمد : حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، حدثنا قُرّة بن عبد
الرحمن ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم :
"يقول الله ، عز وجل : إن أحبّ عبادي إلي أعجلُهم فِطْرًا".
ورواه الترمذي من غير وجه ، عن الأوزاعي ، به (7). وقال : هذا حديث حسن غريب.
وقال أحمد أيضًا : حدثنا عفان ، حدثنا عبيد الله (8) بن إياد ، سمعت إياد بن لقيط
قال : سمعت ليلى امرأة بَشِير بن الخَصَاصِيَّة ، قالت : أردت أن أصومَ يومين
مواصلة ، فمنعني بشير وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه. وقال :
"يفعل ذلك النصارى ، ولكنْ صُوموا كما أمركم الله ، وأتموا الصيامَ إلى الليل
، فإذا كان الليل فأفطروا" (9).
[وروى الحافظ ابن عساكر ، حدثنا بكر بن سهل ، حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا يحيى
بن
__________
(1) صحيح البخاري برقم (1925) وصحيح مسلم برقم (1109).
(2) في أ : "وفي سنن أبي داود والنسائي".
(3) سنن النسائي الكبرى برقم (2933 ، 2934).
(4) في جـ : "ويحكي".
(5) صحيح البخاري برقم (1954) وصحيح مسلم برقم (1100).
(6) صحيح البخاري برقم (1957) وصحيح مسلم برقم (1098).
(7) المسند (2/238) وسنن الترمذي برقم (700 ، 701).
(8) في أ : "عبد الله".
(9) المسند (5/225).
(1/517)
حمزة
، عن ثور بن يزيد ، عن علي بن أبي طلحة ، عن عبد الملك بن أبي ذر ، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم واصل يومين وليلة ؛ فأتاه جبريل فقال : إن الله قد قبل وصالك ،
ولا يحل لأحدٍ بعدك ، وذلك بأن الله قال : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى
اللَّيْلِ } فلا صيام بعد الليل ، وأمرني بالوتر قبل الفجر ، وهذا إسناد لا بأس به
، أورده في ترجمة عبد الملك بن أبي ذر في تاريخه] (1) (2).
ولهذا ورد في الأحاديث الصحيحة النهي عن الوصال ، وهو أن يصل صوم يوم بيوم آخر ،
ولا يأكل بينهما شيئًا. قال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تواصلوا". قالوا : يا رسول الله
، إنك تواصل. قال : "فإني لست مثلكم ، إني أبِيتُ يُطْعمني ربي
ويسقيني". قال : فلم ينتهوا عن الوصال ، فواصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم
يومين وليلتين ، ثم رأوا الهلال ، فقال : "لو تأخر الهلال لزدتكم"
كالمُنكِّل بهم (3).
وأخرجاه في الصحيحين ، من حديث الزهري به (4). وكذلك أخرجا النهى عن الوصال من
حديث أنس وابن عمر (5).
وعن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال ،
رحمة لهم ، فقالوا : إنك تواصل. قال : "إني لست كهيئتكم ، إني يطعمني ربي
ويسقيني" (6).
فقد ثبت النهي عنه من غير وجه ، وثبت أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ،
وأنه كان يقوى على ذلك ويعان ، والأظهر أن ذلك الطعام والشراب في حقه إنما كان
معنويًا لا حسيًا ، وإلا فلا يكون مواصلا مع الحسي ، ولكن كما قال الشاعر :
لها أحاديثُ من ذكراك تَشْغَلها... عن الشراب وتُلْهيها عَن الزادِ...
وأما من أحبّ أن يُمْسك بعد غروب الشمس إلى وقت السحر فله ذلك ، كما في حديث أبي
سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا
تواصلوا ، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر". قالوا : فإنك تواصِل يا
رسول الله. قال : "إني (7) لست كهيئتكم ، إني أبيت لي مُطْعِم يطعمني ، وساق
يسقيني". أخرجاه في الصحيحين أيضًا (8).
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُريْب ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا أبو إسرائيل العَبْسي
(9) عن أبي بكر ابن حفص ، عن أمّ ولد حاطب بن أبي بَلْتعة : أنها مرت برسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر ، فدعاها إلى الطعام. فقالت : إني صائمة. قال : وكيف
تصومين ؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : "أين أنت من
__________
(1) زيادة من جـ أ ، و.
(2) انظر : مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (15/192).
(3) في جـ : "لهم".
(4) صحيح البخاري برقم (6851) وصحيح مسلم برقم (1105).
(5) حديث أنس في صحيح البخاري برقم (1961) وفي صحيح مسلم برقم (1104) ، وحديث ابن
عمر في صحيح البخاري برقم (1962) وفي صحيح مسلم برقم (1102).
(6) صحيح البخاري برقم (1964) وصحيح مسلم برقم (1105).
(7) في جـ : "فإني".
(8) صحيح البخاري برقم (1963) ولم أقع عليه في صحيح مسلم.
(9) في أ : "القيسي".
(1/518)
وصال
آل محمد ، من السَّحَر إلى السَّحَر" (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا إسرائيل ، عن عبد الأعلى ، عن محمد
بن علي ، عن علي : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل من السَّحَر إلى
السَّحَر (2).
وقد روى ابن جرير ، عن عبد الله بن الزّبير وغيره من السلف ، أنهم كانوا يواصلون
الأيام المتعددة [وقد روى ابن جرير عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف] (3)
وحمله منهم على أنهم كانُوا يفعلون ذلك رياضة لأنفسهم ، لا أنهم كانوا يفعلونه
عبادة. والله أعلم. ويحتمل أنهم كانوا يفهمون من النهي أنه إرْشَاد ، [أي] (4) من
باب الشفقة ، كما جاء في حديث عائشة : "رحمة لهم" ، فكان ابن الزبير
وابنُه عامر ومن سلك سبيلهم يتجشمون ذلك ويفعلونه ، لأنهم كانوا يجدون قُوة عليه.
وقد ذُكرَ عنهم أنهم كانوا أول ما يفطرون على السمن والصَّبِر لئلا تتخرق الأمعاء
بالطعام أولا. وقد رُوي عن ابن الزبير أنَّه كان يواصل سبعة أيام ويصبح في اليوم
السابع أقواهم وأجلدهم. وقال أبو العالية : إنما فرض الله الصيام بالنهار فإذا جاء
بالليل فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل.
وقوله تعالى : { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ }
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في
غير رمضان ، فحرّم الله عليه أن ينكح النساء ليلا ونهارا (5) حتى يقضي اعتكافه.
وقال الضحاك : كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد ، جامع إن شاء ، فقال الله
تعالى : { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } أي : لا
تقربوهن ما دمتم عاكفين في المسجد (6) ولا في غيره. وكذا قال مجاهد ، وقتادة وغير
واحد إنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت هذه الآية.
قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن مسعود ، ومحمد بن كعب ، ومجاهد ، وعطاء ، والحسن ،
وقتادة ، والضحاك والسُّدِّي ، والربيع بن أنس ، ومقاتل ، قالوا : لا يقربها وهو
معتكف. وهذا الذي حكاه عن هؤلاء هو الأمر المتفق عليه عند العلماء : أن المعتكف
يحرمُ عليه النساءُ ما دامَ معتكفًا في مسجده ، ولو ذهب إلى منزله لحاجة لا بد له
منها فلا يحل له أن يتلبَّث (7) فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك ، من قضاء
الغائط ، أو أكل ، وليس له أن يقبل امرأته ، ولا يضمها إليه ، ولا يشتغل بشيء سوى
اعتكافه ، ولا يعود المريض ، لكن يسأل عنه وهو مار في طريقه.
وللاعتكاف أحكام مفصلة في بابه ، منها ما هو مجمع عليه بين العلماء ، ومنها ما هو
مختلف فيه (8). وقد ذكرنا قِطْعَة صالحة من ذلك في آخر كتاب الصيام ، ولله الحمد
(9).
ولهذا كان الفقهاء المصنفون يُتْبِعون كتاب الصيام بكتاب الاعتكاف ، اقتداء
بالقرآن العظيم ، فإنه نبه على ذكر الاعتكاف بعد ذكر الصوم. وفي ذكره تعالى
الاعتكاف بعد الصيام إرشاد وتنبيه على
__________
(1) تفسير الطبري (3/537 ، 538).
(2) المسند (1/91 ، 141).
(3) زيادة من جـ.
(4) زيادة من جـ.
(5) في جـ ، أ : "أو نهارا".
(6) في أ : "في المساجد".
(7) في جـ : "أن يمكث".
(8) في أ : "فيها".
(9) في جـ : "ولله الحمد والمنة".
(1/519)
الاعتكاف
في الصيام ، أو في آخر (1) شهر الصيام ، كما ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم : أنه كان يعتكف العشرَ الأواخر من شهر رمضان ، حتى توفاه الله ، عز
وجل. ثم اعتكف أزواجُه من بعده. أخرجاه من حديث عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها
(2) ، وفي الصحيحين أن صَفيَّة بنت حُيي كانت (3) تزور النبي صلى الله عليه وسلم
وهو معتكف في المسجد ، فتحدثت عنده ساعة ، ثم قامت لترجع إلى منزلها - وكان ذلك
ليلا - فقام النبي صلى الله عليه وسلم ليمشي معها حتى تبلغ دارها ، وكان منزلها في
دار أسامة بن زيد في جانب المدينة ، فلما كان ببعض الطريق لقيه رجلان من الأنصار ،
فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا - وفي رواية : تواريا - أي حياء من
النبي صلى الله عليه وسلم لكون أهله معه (4) ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم
: "على رِسْلكما إنها صفية بنت حيي" أي : لا تسرعا ، واعلما أنها صفية
بنت حيي ، أي : زوجتي. فقالا سبحان الله يا رسول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام
: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما
شيئًا" أو قال : "شرًّا" (5).
قال الشافعي ، رحمه الله : أراد ، عليه السلام ، أنْ يعلم أمّته التبري من التُّهْمَة
في محلها ، لئلا يقعا في محذور ، وهما كانا أتقى لله أن يظنا بالنبي صلى الله عليه
وسلم شيئًا. والله أعلم.
ثم المراد بالمباشرة : إنما هو الجماع ودواعيه من تقبيل ، ومعانقة ونحو ذلك ، فأما
معاطاة الشيء ونحوه فلا بأس به ؛ فقد ثبت في الصحيحين ، عن عائشة ، رضي الله عنها
، أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُدْني إليّ رأسه فأرجِّلُه وأنا
حائض ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان. قالت عائشة : ولقد كان المريضُ يكون
في البيت فما أسأل عنه إلا وأنا مارة (6).
وقوله : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } أي : هذا الذي بيناه ، وفرضناه ، وحددناه من
الصيام ، وأحكامه ، وما أبحنا فيه وما حرّمنا ، وذِكْر (7) غاياته ورخصه وعزائمه ،
حدود الله ، أي : شرعها الله وبيَّنها بنفسه { فَلا تَقْرَبُوهَا } أي : لا
تجاوزوها ، وتعتدوها (8).
وكان الضحاك ومقاتل يقولان في قوله تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } أي :
المباشرة في الاعتكاف.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني هذه الحدود الأربعة ، ويقرأ (9) { أُحِلَّ
لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } حتى بلغ : { ثُمَّ
أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } قال : وكان أبي وغيره من مَشْيَختنا (10)
يقولون هذا ويتلونه علينا.
{ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ } أي : كما بين الصيام وأحكامه
وشرائعه وتفاصيله ، كذلك يبين سائر الأحكام على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله
عليه وسلم { لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي : يَعْرفون كيف يهتدون ، وكيف
يطيعون كما قال تعالى : { هُوَ الَّذِي يُنزلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ
لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ
لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } ] (11). [الحديد : 9].
__________
(1) في أ ، و : "أو في أواخر".
(2) صحيح البخاري برقم (2033) وصحيح مسلم برقم (1172) واللفظ لمسلم.
(3) في جـ ، أ : "جاءت".
(4) في جـ : "معه أهله".
(5) صحيح البخاري برقم (2035 ، 6219) وصحيح مسلم برقم (2175) من حديث صفية رضي
الله عنها.
(6) صحيح البخاري برقم (2029) وصحيح مسلم برقم (297).
(7) في جـ : "وذكرنا".
(8) في جـ : "تتجاوزوها أو تعتدوها".
(9) في جـ : "ويقول".
(10) في أ : "من مشايخنا".
(11) زيادة من و ، وفي جـ ، ط ، أ ، هـ : "الآية".
(1/520)
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
{
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى
الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (188) }
قال علي ابن أبي طلحة ، وعن ابن عباس : هذا في الرجل يكون عليه مال ، وليس عليه
فيه بَيِّنة ، فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام ، وهو يعرف أن الحق عليه ، وهو يعلم
أنه آثم آكل حرامٍ.
وكذا روي عن مجاهد ، وسعيد بن جُبَير ، وعكرمة ، والحسن ، وقتَادة ، والسدّي ،
ومقاتل بن حَيّان ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا : لا تُخَاصمْ وأنت
تعلمُ أنَّك ظالم. وقد ورد (1) في الصحيحين عن أم سلمة : أنّ رسولَ الله صلى الله
عليه وسلم قال : "ألا إنما أنا بَشَر ، وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن
يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له ، فمن قضيت له بحق مسلم ، فإنما هي قطعة من نار ،
فَلْيَحْملْهَا ، أو ليذَرْها" (2). فدلت هذه الآية الكريمة ، وهذا الحديث
على أنّ حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر ، فلا يُحلّ في نفس الأمر حرامًا
هو حرام ، ولا يحرم حلالا هو حلال ، وإنما هو يلزم (3) في الظاهر ، فإن طابق في
(4) نفس الأمر فذاك ، وإلا فللحاكم أجرُه وعلى المحتال وزْره ؛ ولهذا قال تعالى :
{ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى
الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا } [أي : طائفة] (5) { مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ
بِالإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : تعلمون بطلان ما تدعونه وتروجون في
كلامكم.
قال قتادة : اعلم - يا ابن آدم - أن قضاء القاضي لا يُحِل لك حرامًا ، ولا يُحقُّ
لك باطلا وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى (6) ويشهد به الشهود ، والقاضي بَشَر يخطئ
ويصيب ، واعلموا أنّ من قُضي له بباطل أنّ خصومته لم تَنْقَض حتى يجمع الله بينهما
يوم القيامة ، فيقضي على المبطل للمحق بأجودَ مما قضي به للمبطل على المحق في
الدنيا.
وقال أبو حنيفة : حكم الحاكم بطلاق الزوجة إذا شهد عنده شاهدا زور في نفس الأمر ،
ولكنهما عدلان عنده يحلها للأزواج حتى للشاهدين ويحرمها على زوجها الذي حكم
بطلاقها منه ، وقالوا : هذا كلعان المرأة ، إنه يبينها من زوجها ويحرمها عليه ،
وإن كانت كاذبة في نفس الأمر ، ولو علم الحاكم بكذبها لحدها ولما حرمها وهذا أولى.
مسألة : قال القرطبي : أجمع أهل السنة على أن من أكل مالا حرامًا ولو ما يصدق عليه
اسم المال أنه يفسق ، وقال بشر بن المعتمر في طائفة من المعتزلة : لا يفسق إلا
بأكل مائتى درهم فما زاد ، ولا يفسق بما دون ذلك ، وقال الجبائي : يفسق بأكل درهم
فما فوقه إلا بما دونه.
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ
وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ
مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) }
__________
(1) في جـ : "وقد روي".
(2) صحيح البخاري برقم (2458 ، 6967) وصحيح مسلم برقم (1713) من حديث أم سلمة رضي
الله عنها
(3) في جـ : "هو ملزم".
(4) في جـ : "ما في".
(5) زيادة من جـ ، أ.
(6) في جـ : "على نحو ما ترى".
(1/521)
قال
العوفي عن ابن عباس : سأل الناسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة ، فنزلت
هذه الآية : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ
[وَالْحَجِّ] (1) } يعلمون بها حِلَّ دَيْنهم ، وعدّة نسائهم ، ووقتَ حَجِّهم.
وقال أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : بلغنا أنَّهم قالوا : يا رسول الله
، لم خُلِقَتْ الأهلة ؟ فأنزل الله { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ
مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } يقول : جَعَلَهَا الله مواقيت لصَوْم المسلمين وإفطارهم ،
وعدة نسائهم ، ومَحَلّ دَيْنهم.
وكذا رُوي عن عَطَاء ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، والربيع بن أنس ، نحو ذلك.
وقال عبد الرزاق ، عن عبد العزيز بن أبي رَوّاد ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "جعل الله الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته
وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فَعُدُّوا ثلاثين يومًا".
ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث ابن أبي رواد ، به (2). وقال : كان ثقة عابدًا
مجتهدًا شريف النسب ، فهو صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه.
وقال محمد بن جابر ، عن قيس بن طلق ؛ عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "جعل الله الأهلَّة ، فإذا رأيتم الهلال فصُوموا ، وإذا رأيتموه
فأفطروا ، فإن أغْمي عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" (3). وكذا روي من حديث أبي
هريرة ، ومن كلام عليّ بن أبي طالب ، رضي الله عنه (4) (5).
وقوله : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } قال
البخاري : حدثنا عبيد الله (6) بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء
قال : كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتَوْا البيت من ظهره ، فأنزل الله { وَلَيْسَ
الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ
اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } (7).
وكذا رواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : كانت
الأنصار إذا قدموا من سَفَر لم يدخل الرجل من قبل بابه ، فنزلت هذه الآية.
وقال الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر : كانت قريش تدعى الحُمْس ، وكانوا يدخلون
من الأبواب في الإحرام ، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام ،
فبينا رسول الله
__________
(1) زيادة من أ.
(2) المستدرك (1/423).
(3) رواه أحمد في المسند (4/23) من طريق محمد بن جابر به.
(4) في جـ : "عنهم".
(5) حديث أبي هريرة رواه البخاري في صحيحه برقم (1909) ومسلم في صحيحه برقم
(1081).
(6) في أ : "عبد الله".
(7) صحيح البخاري برقم (4512).
(1/522)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)
صلى
الله عليه وسلم في بستان إذْ خرج من بابه ، وخرج معه قُطْبة بن عامر الأنصاري ،
فقالوا : يا رسول الله ، إن قطبة ابن عامر رجل تاجر (1) وإنه خرج معك من الباب.
فقال له : "ما حملك على ما صنعت ؟ " قال : رأيتك فعلتَه ففعلتُ كما
فعلتَ. فقال : "إني [رجل] (2) أحمس". قال له : فإن ديني دينك. فأنزل
الله { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ
الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } رواه ابن أبي
حاتم. ورواه العوفي عن ابن عباس بنحوه. وكذا روي عن مجاهد ، والزهري ، وقتادة ،
وإبراهيم النخعي ، والسدي ، والربيع بن أنس.
وقال الحسن البصري : كان أقوام من أهل الجاهليّة إذا أراد أحدُهم سَفرًا وخرج من
بيته يُريد سفره الذي خرج له ، ثم بدا له بَعْد خُروجه أن يُقيم ويدعَ سفره ، لم
يدخل البيت من بابه ، ولكن يتسوّره من قبل ظهره ، فقال (3) الله تعالى : {
وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا [وَلَكِنَّ
الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى] (4) } الآية.
وقال محمد بن كعب : كان الرجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت ، فأنزل الله
هذه الآية.
وقال عطاء بن أبي رباح : كان أهل يثرب إذا رجعوا من عيدهم دخلوا منازلهم من ظهورها
ويَرَوْنَ أن ذلك أدنى إلى البر ، فقال الله تعالى : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ
تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا }
وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : اتقوا الله فافعلوا
ما أمركم به ، واتركوا ما نهاكم عنه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } غدا إذا وقفتم
بين يديه ، فيجزيكم (5) بأعمالكم على التمام ، والكمال.
{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا
إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ
مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى
يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ
الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ
انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) }
قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله تعالى : {
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } قال : هذه أول آية
نزلت في القتال بالمدينة ، فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من
قاتله ، ويكف عَمَّن كف عنه حتى نزلت سورة براءة وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم حتى قال : هذه منسوخة بقوله : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ } [التوبة : 5] وفي هذا نظر ؛ لأن قوله : { الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ } إنما هو تَهْييج وإغراء بالأعداء الذين همّتْهم قتال الإسلام
وأهله ، أي : كما
__________
(1) في جـ : "فاجر".
(2) زيادة من جـ ، أ.
(3) في أ : "فأنزل".
(4) زيادة من جـ.
(5) في جـ ، أ : "فيجازيكم".
(1/523)
يقاتلونكم
فقاتلوهم أنتم ، كما قال : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا
يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } [التوبة : 36] ؛ ولهذا قال في هذه الآية : {
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ
} أي : لتكن همتكم منبعثة على قتالهم ، كما أن همتهم منبعثة على قتالكم ، وعلى
إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها ، قصاصًا.
وقد حكى عن أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، أن أول آية نزلت في القتال بعد الهجرة
، { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } الآية [الحج : 39] وهو
الأشهر وبه ورد الحديث.
وقوله : { وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } أي : قاتلوا
في سبيل الله ولا تعتدوا في ذلك ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي - كما قاله الحسن
البصري - من المَثُلة ، والغُلُول ، وقتل النساء والصبيان والشيوخ الذين لا رأي
لهم ولا قتال فيهم ، والرهبان وأصحاب الصوامع ، وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير
مصلحة ، كما قال ذلك ابن عباس ، وعمر بن عبد العزيز ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم.
ولهذا جاء في صحيح مسلم ، عن بُرَيدة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول :
"اغزوا في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تَغُلّوا ، ولا
تَغْدروا ، ولا تُمَثِّلُوا ، ولا تقتلوا وليدًا ، ولا أصحاب الصوامع". رواه
الإمام أحمد (1).
وعن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بَعَث جيوشه قال :
"اخرجوا بسم الله ، قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله ، لا تغدروا ولا تغلوا
، ولا تُمَثلوا ، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصّوامع". رواه الإمام أحمد
(2).
ولأبي داود ، عن أنس مرفوعًا ، نحوه (3). وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : وجُدت
امرأة في بعض مغازي النبيّ صلى الله عليه وسلم مقتولة ، فأنكر رسولُ الله صلى الله
عليه وسلم قتلَ النساء والصبيان (4).
وقال الإمام أحمد : حدثنا مُصعب بن سَلام ، حدثنا الأجلح ، عن قيس بن أبي مسلم ،
عن رِبْعي ابن حِرَاش ، قال : سمعت حُذَيفة يقول : ضرب لنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم أمثالا واحدًا ، وثلاثة ، وخمسة ، وسبعة ، وتسعة ، وأحدَ عشَرَ ، فضرب
لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منها مثلا وترك سائرَها ، قال : "إن قومًا
كانوا أهلَ ضَعْف ومسكنة ، قاتلهم أهلُ تجبر وعداء ، فأظهر الله أهل الضعف عليهم ،
فعمدوا إلى عَدُوهم فاستعملوهم وسلطوهم فأسخطوا الله عليهم إلى يوم يلقونه"
(5).
هذا حديث حَسَنُ الإسناد. ومعناه : أن هؤلاء الضعفاء لما قدروا على الأقوياء ،
فاعتَدوا عليهم واستعملوهم فيما لا يليق بهم ، أسخطوا الله عليهم بسبب (6) هذا
الاعتداء. والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدًا.
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1731) والمسند (5/352).
(2) المسند (1/300).
(3) سنن أبي داود برقم (2614).
(4) صحيح البخاري برقم (3015) وصحيح مسلم برقم (1744).
(5) المسند (5/407).
(6) في جـ : "لسبب".
(1/524)
ولما
كان الجهاد فيه إزهاق النفوس وقتلُ الرجال ، نبَّه تعالى على أنّ ما هم مشتملون
(1) عليه من
__________
(1) في جـ : "مقيمون".
(1/524)
الكفر
بالله والشرك به والصد عن سبيله أبلغ وأشد وأعظم وأطَم من القتل ؛ ولهذا قال : {
وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } قال أبو مالك : أي : ما أنتم مقيمون عليه
أكبر من القتل.
وقال أبو العالية ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك
، والربيع ابن أنس في قوله : { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } يقول :
الشرك أشد من القتل.
وقوله : { وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } كما جاء في
الصحيحين : "إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام
بحرمة الله إلى يوم القيامة ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار ، وإنها ساعتي هذه ،
حَرَام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يُعْضَد شجره ، ولا يُخْتَلى خَلاه. فإن
أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن
لكم" (1).
يعني بذلك - صلوات الله وسلامه عليه - قتالَه أهلها يومَ فتح مكة ، فإنه فتحها
عنوة ، وقتلت رجال منهم عند الخَنْدمَة ، وقيل : صلحًا ؛ لقوله : من أغلق بابه فهو
آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
[وقد حكى القرطبي : أن النهي عن القتال عند المسجد الحرام منسوخ. قال قتادة :
نسخها قوله : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ } [التوبة : 5]. قال مقاتل بن حيان : نسخها
قوله : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وفي هذا نظر] (2).
وقوله : { حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ
كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ } يقول تعالى : لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام إلا
أن يَبْدَؤوكم بالقتال فيه ، فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعا للصيال (3) كما بايع
النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال ، لَمَّا
تألبت عليه بطونُ قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ ، ثم كف الله
القتال بينهم فقال : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } [الفتح :
24] ، ، وقال : { وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ
تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ
لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [الفتح : 25].
وقوله : { فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : فإن تَركُوا
القتال في الحرم ، وأنابوا إلى الإسلام والتوبة ، فإن الله [غفور رحيم] (4) يغفر
ذنوبهم ، ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم الله ، فإنه تعالى لا يتعاظَمُه
ذَنْب أنْ يغفره لمن تاب منْه إليه.
ثم أمر تعالى بقتال الكفَّار : { حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي : شرك. قاله ابن
عباس ، وأبو العالية ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والربيع ، ومقاتل بن حيان ،
والسُّدي ، وزيد بن أسلم.
{ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } أي : يكونَ دينُ الله هو الظاهر [العالي] (5) على
سائر الأديان ، كما ثبت في الصحيحين : عن أبي موسى الأشعري ، قال : سُئِل النبي
(6) صلى الله عليه وسلم عن الرجل يُقاتل شجاعة ، ويقاتل حَميَّة ، ويقاتل رياء ،
أيّ ذلك في سبيل الله ؟ فقال : "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو
__________
(1) صحيح البخاري برقم (1834) وصحيح مسلم برقم (1353) من حديث ابن عباس رضي الله
عنهما.
(2) زيادة من جـ ، أ.
(3) في أ : "للقتال".
(4) زيادة من جـ.
(5) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(6) في جـ ، ط ، : "سئل رسول الله".
(1/525)
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
في
سبيل الله" (1). وفي الصحيحين : "أمرْتُ أنْ أقاتلَ الناس حتى يقولوا :
لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على
الله" (2) وقوله : { فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى
الظَّالِمِينَ } يقول : فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك ، وقتال المؤمنين ،
فكُفُّوا عنهم ، فإنّ مَنْ قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ، ولا عُدوانَ إلا على
الظالمين ، وهذا معنى قول مجاهد : لا يُقَاتَلُ إلا من قاتل. أو يكون تقديره ؛ فإن
انتهوا فقد تَخَلَّصُوا من الظلم ، وهو الشرك. فلا عدوان عليهم بعد ذلك ، والمراد
بالعُدْوان هاهنا المعاقبة والمقاتلة ، كقوله : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وقوله : { وَجَزَاءُ
سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [الشورى : 40] ، { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ
فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [النحل : 126]. ولهذا قال عكرمة
وقتادة : الظالم : الذي أبى أن يقول : لا إله إلا الله.
وقال البخاري : قوله : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [وَيَكُونَ
الدِّينُ لِلَّهِ] (3) } الآية : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا
عُبَيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا
(4) : إن الناس صنعوا (5) وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك
أن تخرج ؟ قال : يمنعني أن الله حرم دم أخي. قالا ألم يقل الله : { وَقَاتِلُوهُمْ
حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } ؟ قال : قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله ،
وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله. زاد عثمان ابن صالح
(6) عن ابن وهب قال : أخبرني فلان وحيوة بن شريح ، عن بكر بن عمرو المعافري (7) أن
بُكَير بن عبد الله حدثه ، عن نافع : أن رجلا أتى ابن عمر فقال [له] (8) يا أبا
عبد الرحمن ، ما حملك على أن تحج عامًا وتعتمر (9) عامًا ، وتترك الجهاد في سبيل
الله ، وقد علمت ما رغب الله فيه ؟ فقال : يا ابن أخي ، بُني الإسلام على خمس :
الإيمان بالله ورسوله ، والصلوات الخمس ، وصيام رمضان ، وأداء الزكاة ، وحج البيت.
قال : يا أبا عبد الرحمن ، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ
إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى
أَمْرِ اللَّهِ } [الحجرات : 9] ، { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ }
قال : فعلنا على عهد النبي (10) صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قليلا وكان الرجل
يفتن في دينه : إما قتلوه أو عذبوه (11) حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة ، قال : فما
قولك في علي وعثمان ؟ قال : أما عثمان فكان الله عفا عنه ، وأما أنتم فكرهتم أن
تعفوا (12) عنه ، وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه ، وأشار
بيده فقال : هذا بيته حيث ترون (13).
{ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) }
__________
(1) صحيح البخاري برقم (2810 ، 3126) وصحيح مسلم برقم (1904).
(2) صحيح البخاري برقم (25) وصحيح مسلم برقم (22) من حديث عبد الله بن عمرو رضي
الله عنهما.
(3) زيادة من جـ ، ط.
(4) في ط : "فقالوا".
(5) في و : "ضيعوا".
(6) في جـ : "عثمان بن أبي صالح".
(7) في أ : "المغافري".
(8) زيادة من جـ ، ط ، أ.
(9) في و : "وتقيم".
(10) في جـ : "رسول الله".
(11) في أ ، و : "أو يعذبوه".
(12) في جـ : "يعفو".
(13) صحيح البخاري برقم (4513 - 4515).
(1/526)
قال
عكرمة ، عن ابن عباس ، والضحاك ، والسدي ، ومِقْسَم ، والربيع بن أنس ، وعطاء
وغيرهم : لما سار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُعْتَمِرًا في سنة ست من الهجرة
، وحَبَسَه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت ، وصدّوه بمن معه من المسلمين في
ذي القعْدة ، وهو شهر حرام ، حتى قاضاهم على الدخول من قابل ، فدخلها في السنة
الآتية ، هو ومن كان [معه] (1) من المسلمين ، وأقَصه الله منهم ، فنزلت في ذلك هذه
الآية : { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ }
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا ليث بن سعد ، عن أبي الزبير ، عن
جابر بن عبد الله ، قال : لم يكن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر
الحرام إلا أن يُغْزى ويُغْزَوا (2) فإذا حضره أقام حتى ينسلخ (3).
هذا إسناد صحيح ؛ ولهذا لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم - وهو مُخَيِّم
بالحديبية - أن عثمان قد قتل - وكان قد بعثه في رسالة إلى المشركين - بايع أصحابه
، وكانوا ألفًا وأربعمائة تحتَ الشجرة على قتال المشركين ، فلما بلغه أن عثمان لم
يقْتل كفّ عن ذلك ، وجنح إلى المسالمة والمصالحة ، فكان ما كان.
وكذلك لما فرغ من قتال هَوازِن يوم حنين وتَحَصَّن فَلُّهم بالطائف ، عَدَل إليها
، فحاصَرَها ودخل ذو القَعْدة وهو محاصرها بالمنجنيق ، واستمر عليها إلى كمال
أربعين يومًا ، كما ثبت في الصحيحين عن أنس (4). فلما كثر القتل في أصحابه انصرف
عنها ولم تُفْتَحْ ، ثم كر راجعًا إلى مكة واعتمر من الجعرانه ، حيث قسم غنائم
حُنين. وكانت عُمْرته هذه في ذي القعدة أيضًا عام ثمان ، صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ } أمْر بالعدل حتى في المشركين : كما قال : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ
فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [النحل : 126]. وقال : { وَجَزَاءُ
سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [الشورى : 40].
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن قوله : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } نزلت بمكة حيث لا شوكة
ولا جهَاد ، ثم نسخ بآية الجهاد (5) بالمدينة. وقد رَدّ هذا القول ابنُ جرير ،
وقال : بل [هذه] (6) الآية مدنية بعد عُمْرة القَضيَّة ، وعزا ذلك إلى مجاهد ،
رحمه الله.
وقد أطلق هاهنا الاعتداء على الاقتصاص ، من باب المقابلة ، كما قال عمرو بن أم
كلثوم :
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا... فنجهل فوق جهل الجاهلينا...
وقال ابن دريد :
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(2) في جـ : "إلا يغزوا الغزو" ، وفي أ : "إلا أن يقر
ويقروا".
(3) المسند (3/345).
(4) الحديث بهذا المعنى في صحيح مسلم برقم (1059).
(5) في جـ ، ط ، أ ، و : "بآية القتال".
(6) زيادة من جـ ، ط ، أ.
(1/527)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
لي
استواء إن موالى استوا... لي التواء إن تعادى التوا...
وقال غيره :
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم... ولي فرس للجهل بالجهل مسرج...
ومن رام تقويمي فإني مقوم... ومن رام تعويجي فإني معوج...
وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }
أمْرٌ لهم بطاعة الله وتقواه ، وإخبارٌ بأنه تعالى مع الذين اتقوا بالنصر والتأييد
في الدنيا والآخرة.
{ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) }
قال البخاري : حدثنا إسحاق ، أخبرنا النضر ، أخبرنا شعبة عن سليمان قال : سمعت أبا
وائل ، عن حذيفة : { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } قال : نزلت في النفقة (1).
ورواه ابن أبي حاتم ، عن الحسن بن محمد بن الصباح ، عن أبي معاوية عن الأعمش ، به
مثله. قال : وروي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ،
والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل بن حَيَّان ، نحو ذلك.
وقال الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أسلم أبي عمران قال : حمل رجل من
المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خَرَقه ، ومعنا أبو أيوب الأنصاري ، فقال
ناس : ألقى بيده إلى التهلكة. فقال أبو أيوب : نحن أعلم بهذه الآية إنما نزلت فينا
، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشَهِدنا معه المشاهد ونصرناه ، فلما فشا
الإسلام وظهر ، اجتمعنا معشر الأنصار نَجِيَا ، فقلنا : قد أكرمنا الله بصحبة نبيه
صلى الله عليه وسلم ونَصْرِه ، حتى فشا الإسلام وكثر أهلُه ، وكنا قد آثرناه على
الأهلين والأموال والأولاد ، وقد وضعت الحرب أوزارها ، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا
فنقيم فيهما. فنزل (2) فينا : { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } فكانت التهلكة [في] (3) الإقامة في الأهل
والمال وترك الجهاد.
رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وعَبْدُ بن حُمَيد في تفسيره ، وابن أبي
حاتم ، وابن جرير (4) وابن مَرْدُويه ، والحافظ أبو يعلى في مسنده ، وابن حبان في
صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، كلهم من حديث يزيد بن أبي حبيب ، به (5).
وقال الترمذي : حسن صحيح غريب. وقال الحاكم : على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه. ولفظ
أبي داود عن أسلم أبي عمران : كنا (6) بالقسطنطينية - وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ؛
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4516).
(2) في جـ : "فنقيم فيهم فنزلت".
(3) زيادة من و.
(4) في جـ : "وابن جرير وابن أبي حاتم".
(5) سنن أبي داود برقم (2512) وسنن الترمذي برقم (2972) وسنن النسائي الكبرى برقم
(11029) وتفسير الطبري (3/590) وصحيح ابن حبان برقم (1667) "موارد"
والمستدرك (2/275).
(6) في جـ : "إنا كنا".
(1/528)
وعلى
أهل الشام رجل ، يريد بن فَضَالة بن عُبَيد - فخرج من المدينة صَف عظيم من الروم ،
فصففنا لهم فحَمَل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيهم : ثم خرج إلينا فصاح
الناس إليه فقالوا : سبحان الله ، ألقى بيده إلى التهلكة. فقال أبو أيوب : يا أيها
الناس ، إنكم لتتأولون هذه الآية على غير التأويل ، وإنما نزلت فينا معشر الأنصار
، وإنا لما أعز الله دينه ، وكثر ناصروه قلنا فيما بيننا : لو أقبلنا على أموالنا
فأصلحناها. فأنزل الله هذه الآية.
وقال أبو بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق السَّبِيعي قال : قال رجل للبراء بن عازب :
إن حملتُ على العدوّ وحدي فقتلوني أكنت ألقيتُ بيدي إلى التهلكة ؟ قال : لا قال
الله لرسوله : { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ }
[النساء : 84] ، إنما هذا في النفقة. رواه ابن مردويه وأخرجه الحاكم في مستدركه من
حديث إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، به. وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه (1).
ورواه الثوري ، وقيس بن الربيع ، عن أبي إسحاق ، عن البراء - فذكره. وقال بعد قوله
: { لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ } ولكن التهلكة أن يُذْنِبَ الرجلُ الذنبَ ، فيلقي
بيده إلى التهلكة ولا يتوب.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح - كاتب الليث - حدثني الليث ،
حدثنا عبد الرحمن بن خالد بن مسافر ، عن ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن
الحارث بن هشام : أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث أخبره : أنهم حاصروا دمشق ،
فانطلق رجل من أزد شنوءة ، فأسرع إلى العدو وحده ليستقبل ، فعاب ذلك عليه المسلمون
ورفعوا حديثه إلى عَمْرو بن العاص ، فأرسل إليه عمرو فَرَدّه ، وقال عمرو : قال
الله : { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ }
وقال عطاء بن السائب (2) عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { وَأَنْفِقُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } ليس (3)
ذلك في القتال ، إنما هو في النفقة أن تُمْسكَ بيدك عن النفقة في سبيل الله. ولا
تلق بيدك إلى التهلكة.
وقال حماد بن سلمة ، عن داود ، عن الشعبي ، عن الضحاك بن أبي جُبَيْرة (4) قال :
كانت الأنصار يتصدقون وينفقون من أموالهم ، فأصابتهم سَنَة ، فأمسكوا عن النفقة في
سبيل الله فنزلت : { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ }
وقال الحسن البصري : { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } قال :
هو البخل.
وقال سِمَاك بن حرب ، عن النعمان بن بشير في قوله : { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ
إِلَى التَّهْلُكَةِ } أن يذنب الرجل الذنب ، فيقول : لا يغفر لي ، فأنزل الله : {
وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } رواه ابن مَرْدويه.
وقال ابن أبي حاتم : ورُويَ عن عُبيدَة السلماني ، والحسن ، وابن سيرين ، وأبي
قلابة - نحو ذلك. يعني : نحوُ قول النعمان بن بشير : إنها في الرجل يذنب الذنب
فيعتقد أنه لا يغفر له ، فيلقي بيده إلى التهلكة ، أي : يستكثر من الذنوب فيهلك.
ولهذا رَوَى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس :
__________
(1) المستدرك (2/275).
(2) في أ : "عطاء بن أبي السائب".
(3) في جـ : "وليس".
(4) في أ : "بن أبي صبرة".
(1/529)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
التهلكة
: عذاب الله.
وقال ابن أبي حاتم وابن جرير جميعًا : حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني أبو
صخر ، عن القُرَظي : أنه كان يقول في هذه الآية : { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ
إِلَى التَّهْلُكَةِ } قال : كان القوم في سبيل الله ، فيتزود الرجل. فكان أفضل
زادًا من الآخر ، أنفق البائس (1) من زاده ، حتى لا يبقى من زاده شيء ، أحب أن
يواسي صاحبه ، فأنزل الله : { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } (2).
وقال (3) ابن وهب أيضًا : أخبرني عبد الله بن عياش (4) عن زيد بن أسلم في قول الله
: { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ } وذلك أنّ رجالا كانوا يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، بغير نفقة ، فإما يُقْطَعُ بهم ، وإما كانوا عيالا فأمرهم الله أن
يستنفقوا مما رزقهم الله ، ولا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة ، والتهلكة أن يهلك رجال
من الجوع أو العطش أو من المشي. وقال لمن بيده فضل : { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }
ومضمون الآية : الأمرُ بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القُرُبات ووجوه
الطاعات ، وخاصّة (5) صرفَ الأموال في قتال الأعداء وبذلهَا فيما يَقْوَى به
المسلمون على عدوهم ، والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار إن (6) لزمه
واعتاده. ثم عطف بالأمر بالإحسان ، وهو أعلى مقامات الطاعة ، فقال : {
وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }
{ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ
مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ
فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ
تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ
لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا
رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ
حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) }
لما ذكر تعالى أحكام الصيام وعَطَفَ بذكر الجِهَاد ، شرَعَ في بيان المناسك ،
فأمرَ بإتمام الحجّ والعُمْرة ، وظاهر السياق إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما (7)
؛ ولهذا قال بعده : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } أي : صُدِدْتم عن الوصول إلى البيت
ومنعتم من إتمامهما. ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع في الحج والعمرة مُلْزِمٌ ،
سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها ، كما هما قولان للعلماء. وقد ذكرناهما
__________
(1) في جـ ، ط ، و : "أنفقوا الباقين".
(2) تفسير الطبري (3/584).
(3) في جـ ، ط ، أ : "وبه قال".
(4) في أ : "بن عباس".
(5) في جـ : "وحاصله".
(6) في جـ : "كمن" ، وفي ط ، أ : "لمن".
(7) في ط : "فيها".
(1/530)
بدلائلهما
في كتابنا "الأحكام" مستقصى (1) ولله الحمد والمنة.
وقال شعبة ، عن عمرو بن مُرّة ، عن عبد الله بن سَلَمة ، عن علي : أنه قال في هذه
الآية : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } قال : أن تُحْرِم من
دُوَيرة أهلك.
وكذا قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وطاوس. وعن سفيان الثوري أنه قال في هذه
الآية : إتمامهما (2) أن تحرم من أهلك ، لا تريد إلا الحج والعمرة ، وتُهِلّ من
الميقات ليس أن تخرج لتجارة ولا لحاجة ، حتى إذا كنت قريبًا من مكة قلت : لو حججت
أو اعتمرت ، وذلك يجزئ ، ولكن التمام أن تخرج له ، ولا تخرج لغيره.
وقال مكحول : إتمامهما إنشاؤهما جميعًا من الميقات.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر عن الزهري قال : بلغنا أنّ عمر قال في قول الله
(3) : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [قال] (4) : من تمامهما أن
تُفْرد كُلَّ واحد منهما من الآخر ، وأن تعتمر في غير أشهر الحج ؛ إن الله تعالى
يقول : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ }.
وقال هُشَيْم عن ابن عون قال : سمعت القاسم بن محمد يقول : إن العمرة في أشهر الحج
ليست بتامة (5) فقيل له : العمرة في المحرم ؟ قال : كانوا يرونها تامة. وكذا روي
عن قتادة بن دعامة ، رحمهما الله.
وهذا القول فيه نظر ؛ لأنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع
عُمَرٍ كلها في ذي القعدة : عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست ، وعمرة القضاء في
ذي القعدة سنة سبع ، وعمرة الجِعرّانة في ذي القعدة سنة ثمان ، وعمرته التي مع
حجته أحرم بهما معًا في ذي القعدة سنة عشر ، ولا اعتمر قَطّ في غير ذلك بعد هجرته
، ولكن قال لأم هانئ (6) "عُمْرة في رمضان تعدل حجة معي" (7). وما ذاك
إلا لأنها [كانت] (8) قد عزمت على الحج معه ، عليه السلام ، فاعتاقَتْ عن ذلك بسبب
الطهر ، كما هو مبسوط في الحديث عند البخاري ، ونَصّ سعيد بن جبير على أنه من
خصائصها ، والله أعلم.
وقال السدي في قوله : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } أي : أقيموا
الحج والعمرة. وقال علي بن أبي طلحة (9) عن ابن عباس في قوله : { وَأَتِمُّوا
الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } يقول : من أحرم بالحج أو بالعمرة (10) فليس له
أن يحل حتى يتمهما ، تمام الحج يوم النحر ، إذا رمى جمرة العقبة ، وطاف (11)
بالبيت ، وبالصفا ، والمروة ، فقد حل.
وقال قتادة ، عن زُرَارة ، عن ابن عباس أنه قال : الحج عرفة ، والعمرة الطواف.
وكذا روى الأعمش ، عن إبراهيم عن علقمة في قوله : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } قال : هي [في] (12) قراءة عبد الله :
__________
(1) في جـ : "المستقصى".
(2) في جـ : "تمامهما".
(3) في جـ : "في قوله".
(4) زيادة من جـ.
(5) في جـ : "تامة" ، وفي أ : "بتمامها".
(6) في جـ ، ط ، أ : "ولكن قال لتلك المرأة".
(7) كذا وقع هنا أم هانئ وهو وهم ، والصواب : أم سنان ، والحديث في صحيح البخاري
برقم (1863).
(8) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(9) في أ : "ابن أبي صالح".
(10) في جـ ، ط : "بحج أو عمرة".
(11) في جـ ، ط ، و : "وزار".
(12) زيادة من أ.
(1/531)
"وأقيموا
(1) الحج والعمرة إلى البيت" لا تُجاوز بالعمرة البيت. قال إبراهيم : فذكرت
ذلك لسعيد ابن جبير ، فقال : كذلك قال ابن عباس.
وقال سفيان عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة أنه قال : "وأقيموا الحج
والعمرة إلى البيت" وكذا روى الثوري أيضًا عن إبراهيم ، عن منصور ، عن
إبراهيم أنه قرأ : "وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت".
وقرأ الشعبي : "وأتموا (2) الحج والعمرةُ لله" برفع العمرة ، وقال :
ليست بواجبة. وروي عنه خلاف ذلك.
وقد وردت أحاديث كثيرة من طرق متعددة ، عن أنس وجماعة من الصحابة : أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم جمع في إحرامه بحج وعمرة ، وثبت عنه في الصحيح أنه قال لأصحابه
: "من كان معه هَدْي فليهل بحج وعمرة" (3).
وقال في الصحيح أيضًا : "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة".
وقد روى الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية حديثًا غريبًا فقال :
حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو عبد الله الهروي ، حدثنا غسان الهروي ، حدثنا
إبراهيم بن طَهْمَان ، عن عطاء ، عن صفوان بن أمية أنه قال : جاء رجل إلى النبي
صلى الله عليه وسلم متضمخ بالزعفران ، عليه جبة ، فقال : كيف تأمرنى يا رسول الله
في عمرتي ؟ قال : فأنزل الله : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ }
فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : "أين السائل عن العُمْرة ؟ " فقال
: ها أنا ذا. فقال له : "ألق عنك ثيابك ، ثم اغتسل ، واستنشق ما استطعت ، ثم
ما كنت صانعًا في حَجّك فاصنعه في عمرتك" (4) هذا حديث غريب وسياق عجيب ،
والذي ورد في الصحيحين ، عن يعلى بن أمية في قصة الرجل الذي سأل النبي صلى الله
عليه وسلم وهو بالجعرانة فقال : كيف ترى في رجل أحرم بالعمرة وعليه جُبة وخَلُوق ؟
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جاءه الوحي ، ثم رفع رأسه فقال :
"أين السائل ؟ " فقال : ها أنا ذا ، فقال : "أما الجبة فانزعها ،
وأما الطيب الذي بك فاغسله ، ثم ما كنت صانعًا في حجك فاصنعه في عُمْرتك"
(5). ولم يذكر فيه الغسل والاستنشاق (6) ولا ذكر نزول الآية (7) ، وهو عن يعلى بن
أمية ، لا [عن] (8) صفوان بن أمية ، والله أعلم.
وقوله : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } ذكروا أنّ هذه
الآية نزلت في سنة ست ، أيْ عام الحديبية ، حين حال المشركون بين رسُول الله صلى
الله عليه وسلم وبين الوصول إلى البيت ، وأنزل الله في ذلك سورةَ الفتح بكمالها ،
وأنزل لهم رُخْصَةً : أن يذبحوا ما معهم من الهدي وكان سبعين بدنة ، وأن
يَتَحَللوا من
__________
(1) في أ ، و : "وأتموا".
(2) في جـ : "وأقيموا".
(3) صحيح مسلم برقم (1236) من حديث أسماء رضي الله عنها.
(4) صحيح مسلم برقم (1218) من حديث جابر رضي الله عنه.
(5) ورواه ابن عبد البر في التمهيد (2/251) من طريق محمد بن سابق ، عن إبراهيم بن
طهمان ، عن أبي الزبير ، عن عطاء ، عن صفوان بن أمية به.
(6) في جـ : "ولا الاستنشاق".
(7) في ط : "نزول الحق".
(8) زيادة من جـ ، ط.
(1/532)
إحرامهم
، فعند ذلك أمرهم عليه السلام بأن يحلقوا رؤوسهم ويتحللوا. فلم يفعلوا انتظارا
للنسخ حتى خرج فحلق رأسه ، ففعل الناس وكان منهم من قَصّر رأسه ولم يحلقه ، فلذلك
قال صلى الله عليه وسلم : "رَحِم الله المُحَلِّقين". قالوا : والمقصرين
يا رسول الله ؟ فقال في الثالثة : "والمقصرين" (1). وقد كانوا اشتركوا
في هديهم ذلك ، كُلُّ سبعة في بَدَنة ، وكانوا ألفًا وأربعمائة ، وكان منزلهم
بالحديبية خارج الحرم ، وقيل : بل كانوا على طَرف الحرم ، فالله أعلم.
ولهذا اختلف العلماء هل يختص الحصر بالعدو ، فلا يتحلل إلا من حصره عَدُو ، لا مرض
ولا غيره ؟ على قولين :
فقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان ، عَنْ
عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، وابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، وابن أبي
نَجِيح [ومجاهد] (2) عن ابن عباس ، أنه قال : لا حَصْرَ إلا حصرُ العدو ، فأما من
أصابه مرض أو وجع أو ضلال فليس عليه شيء ، إنما قال الله تعالى : { فَإِذَا
أَمِنْتُمْ } فليس الأمن حصرًا.
قال : وروي عن ابن عمر ، وطاوس ، والزهري ، وزيد بن أسلم ، نحو ذلك.
والقول الثاني : أن الحصر أعمّ من أن يكون بعدُوّ أو مرض أو ضلال - وهو التَّوَهان
عن الطريق أو نحو ذلك. قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا حَجَّاج بن
الصوّافُ ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عكرمة ، عن الحجاج بن عمرو (3) الأنصاري ،
قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من كُسِر أو عَرِج فقد حل ،
وعليه حجة أخرى".
قال : فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا صدق.
وأخرجه (4) أصحاب الكتب الأربعة من حديث يحيى بن أبي كثير ، به (5). وفي رواية
لأبي داود وابن ماجة : من عرج أو كُسر أو مَرض - فذكر معناه. ورواه ابن أبي حاتم ،
عن الحسن بن عرفة ، عن إسماعيل بن عُلَيَّة ، عن الحجاج بن أبي عثمان الصواف ، به.
ثم قال : وروي عن ابن مسعود ، وابن الزبير ، وعلقمة ، وسعيد بن المسيب ، وعروة بن
الزبير ، ومجاهد ، والنخعي ، وعطاء ، ومقاتل بن حيان ، أنهم قالوا : الإحصار من
عدو ، أو مرض ، أو كسر.
وقال الثوري : الإحصار من كل شيء آذاه. وثبت في الصحيحين عن عائشة : أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم دَخَل على ضُبَاعة بنت الزبير بن عبد المطلب ، فقالت : يا رسول
الله ، إني أريد الحج وأنا شاكية. فقال : "حُجِّي واشترطي : أنَّ مَحِلِّي
حيثُ حبَسْتَني" (6). ورواه مسلم عن ابن عباس بمثله (7). فذهب من ذهب من
العلماء إلى صحة الاشتراط في الحج لهذا الحديث. وقد علق الإمام محمد بن إدريس
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه برقم (1301) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه.
(2) زيادة من جـ ، ط.
(3) في أ : "بن عمر".
(4) في جـ : "وقد أخرجه".
(5) المسند (3/450) وسنن أبي داود برقم (1862) وسنن الترمذي برقم (940) وسنن
النسائي (5/ 198) وسنن ابن ماجة برقم (3078).
(6) صحيح البخاري برقم (5089) وصحيح مسلم برقم (1207).
(7) صحيح مسلم برقم (1208).
(1/533)
الشافعي
القولَ بصحة هذا المذهب على صحة هذا الحديث. قال البيهقي وغيره من الحفاظ : فقد صح
، ولله الحمد.
وقوله : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } قال الإمام مالك ، عن جعفر بن محمد
، عن أبيه ، عن علي ابن أبي طالب أنه كان يقول : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ
الْهَدْيِ } شاة. وقال ابن عباس : الهَدْي من الأزواج الثمانية : من الإبل والبقر
والمعز والضأن.
وقال الثوري ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } قال : شاة. وكذا قال عطاء ، ومجاهد ، وطاوس ، وأبو
العالية ، ومحمد بن علي بن الحسين ، وعبد الرحمن بن القاسم ، والشعبي ، والنّخعي ،
والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم مثلَ ذلك ، وهو مذهب الأئمة
الأربعة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن يحيى بن
سعيد ، عن القاسم ، عن عائشة وابن عمر : أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي
إلا من الإبل والبقر.
قال : ورُوِي عن سالم ، والقاسم ، وعروة بن الزبير ، وسعيد بن جبير - نحوُ ذلك.
قلت : والظاهر أن مستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه قضية (1) الحديبية ، فإنه لم
يُنْقَل عن أحد منهم أنه ذبح في تحلله ذاك شاة ، وإنما ذبحوا الإبل والبقر ، ففي
الصحيحين عن جابر قال : أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل
والبقر كل سبعة منا في بقرة (2).
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله
: { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } قال : بقدر يَسَارته (3).
وقال العوفي ، عن ابن عباس : إن كان موسرًا فمن الإبل ، وإلا فمن البقر ، وإلا فمن
الغنم. وقال هشام بن عروة ، عن أبيه : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } قال :
إنما ذلك فيما بين الرّخص والغلاء.
والدليل على صحة قول الجمهور فيما ذهبوا إليه من إجْزَاء ذبح الشاة في الإحصار :
أن الله أوجب ذبح ما استيسر من الهدي ، أي : مهما تيسر مما يسمى هديًا ، والهَدْي
من بهيمة الأنعام ، وهي الإبل والبقر والغنم ، كما قاله الحَبْر البحر (4) ترجمان
القرآن وابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد ثَبتَ في الصحيحين عن عائشة أمّ
المؤمنين ، رضي الله عنها ، قالت : أهْدَى النبي صلى الله عليه وسلم مَرة غنمًا
(5).
وقوله : { وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ }
معطوف على قوله : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } وليس معطوفًا
على قوله : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } كما زعمه
ابن جرير ، رحمه الله ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية لما
حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم ، حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم ، فأما في
حال الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق { حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ
مَحِلَّهُ }
__________
(1) في جـ ، أ : "قصة".
(2) صحيح مسلم برقم (1318).
(3) في أ : "يساره".
(4) في ط : "البحر الحبر".
(5) صحيح البخاري برقم (1701) وصحيح مسلم برقم (1321).
(1/534)
ويفرغ
الناسك من أفعال الحج والعمرة ، إن كان قارنًا ، أو من فعْل أحدهما إن كان
مُفْردًا أو متمتعًا ، كما ثبت في الصحيحين عن حَفْصَةَ أنها قالت : يا رسول الله
، ما شأن (1) الناس حَلّوا من العمرة ، ولم تَحِلّ أنت من عمرتك ؟ فقال :
"إني لَبَّدْتُ رأسي وقلَّدت هَدْيي ، فلا أحلّ حتى أنحر" (2).
وقوله : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ
فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } قال البخاري : حدثنا آدم ،
حدثنا شعبة ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني : سمعت عبد الله بن مَعْقل ، قال : فعدت
إلى كعب بن عُجْرَةَ في هذا المسجد - يعني مسجد الكوفة - فسألته عن { فَفِدْيَةٌ
مِنْ صِيَامٍ } فقال : حُملْتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقملُ يتناثر على
وجهي. فقال : "ما كنتُ أرَى أن الجَهد بلغ بك هذا! أما تجد شاة ؟ " قلت
: لا. قال : "صُمْ ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع من
طعام ، واحلق رأسك". فنزلت فيّ خاصة ، وهي لكم عامة (3).
وقال الإمام أحمدُ : حدثنا إسماعيلُ ، حدثنا أيوب ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن
أبي ليلى ، عن كعب بن عُجْرَة قال : أتى عَلَيّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا
أوقد تحت قدر ، والقَمْلُ يتناثَرُ على وجهي - أو قال : حاجبي - فقال :
"يُؤْذيك (4) هَوَامُّ رأسك ؟ ". قلت : نعم. قال : "فاحلقه ، وصم
ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، أو انسك نسيكة". قال أيوب : لا أدري
بأيتهن بدأ (5).
وقال أحمد أيضا : حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا أبو بشر (6) عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن
أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ،
ونحن محرمون وقد حصره المشركون (7) وكانت لي وَفْرة ، فجعلت الهوام تَسَاقَطُ على
وجهي ، فمر بي رسول الله (8) صلى الله عليه وسلم فقال : "أيؤذيك هوام رأسك ؟
" فأمره أن يحلق. قال : ونزلت هذه الآية : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا
أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ
} (9).
وكذا رواه عفان ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، وهو جعفر بن إياس ، به. وعن شعبة ، عن
الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، به (10). وعن شعبة ، عن داود ، عن الشعبي ،
عن كعب بن عُجْرَة ، نحوه.
ورواه الإمام مالك عن حميد بن قيس ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن
كعب ابن عجرة - فذكر نحوه (11).
وقال سعد (12) بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن أبان بن صالح ، عن الحسن البصري : أنه
__________
(1) في جـ : "ما بال".
(2) صحيح البخاري برقم (1725) وصحيح مسلم برقم (1229).
(3) صحيح البخاري برقم (4517).
(4) في جـ : "أيؤذيك".
(5) المسند (4/241).
(6) في جـ : "حدثنا يونس".
(7) في جـ : "العدو".
(8) في جـ ، ط ، أ : "فمر بي النبي".
(9) المسند (4/241).
(10) رواه أحمد في المسند كما في أطرافه لابن حجر (5/219).
(11) الموطأ (1/417).
(12) في طـ ، أ : "وقال سعيد".
(1/535)
سمع
كعب بن عُجْرَة يقول : فذبحت شاة. رواه ابن مَرْدُوَيه. وروي أيضًا من حديث عمر بن
قيس ، سندل - وهو ضعيف (1) - عن عطاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "النسك شاة ، والصيام ثلاثة أيام ، والطعام (2) فَرَق ، بين
ستة" (3).
وكذا رُوي عن علي ، ومحمد بن كعب ، وعكرمة (4) وإبراهيم [النخعي] (5) ومجاهد ،
وعطاء ، والسدي ، والربيع بن أنس.
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا عبد الله بن وهب : أن
مالك بن أنس حدثه (6) عن عبد الكريم بن مالك الجَزَري ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن
بن أبي ليلى ، عن كعب ابن عُجْرة : أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فآذاه القَمْل في رأسه ، فأمره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه ، وقال
: "صم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، مُدّين مدّين لكل إنسان ، أو انسُك
شاة ، أيَّ ذلك فعلتَ أجزأ عنك" (7).
وهكذا روى ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : { فَفِدْيَةٌ مِنْ
صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } قال : إذا كان "أو" فأيه أخذتَ
أجزأ عنك.
قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، وطاوس ، والحسن ، وحُميد
الأعرج ، وإبراهيم النخَعي ، والضحاك ، نحو ذلك.
قلت : وهو مذهب الأئمة الأربعة وعامة العلماء أنه يُخَيَّر (8) في هذا المقام ، إن
شاء صام ، وإن شاء تصدّق بفَرق ، وهو ثلاثة آصع ، لكل مسكين نصفُ صاع ، وهو مُدّان
، وإن شاء ذبح شاة وتصدّق بها على الفقراء ، أيّ ذلك فعل أجزأه. ولما كان لفظ
القرآن في بيان الرخصة جاءَ بالأسهل فالأسهل : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ
صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } ولما أمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم كعبَ بن عجرة بذلك ،
أرشده إلى الأفضل ، فالأفضل فقال : انسك شاة ، أو أطعم ستة مساكين أو صم ثلاثة
أيام. فكلّ حسن في مقامه. ولله الحمد والمنة.
وقال ابن جرير : حدّثنا أبو كُرَيْب ، حدّثنا أبو بكر بن عياش قال : ذكر الأعمشُ
قال : سأل إبراهيمُ سعيدَ بن جبير عن هذه الآية : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ
صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } فأجابه يقول : يُحْكَم عليه طعام ، فإن كان عنده اشترى شاة
، وإن لم يكن قوّمت الشاة دراهم ، وجعل مكانها طعام فتصدق ، وإلا صام بكل نصف صاع
يومًا ، قال إبراهيم : كذلك سمعت علقمة يذكر. قال : لما قال لي سعيد بن جبير : من
هذا ؟ ما أظرفه! قال : قلت : هذا إبراهيم. فقال : ما أظرفه! كان يجالسنا. قال :
فذكرت ذلك لإبراهيم ، قال : فلما قلت : "يجالسنا" انتفض منها (9).
__________
(1) في جـ : "سنده عنه ضعيف".
(2) في جـ : "والإطعام".
(3) ذكره السيوطي في الدر المنثور (1/515) وعزاه لابن مردويه والواحدي.
(4) في جـ ، ط ، أ : "وعلقمة".
(5) زيادة من جـ ، ط.
(6) في جـ : "حدثهم".
(7) الحديث في الموطأ (1/417).
(8) في جـ ، ط : "مخيرا" ، وفي و : "محير".
(9) تفسير الطبري (4/74).
(1/536)
وقال
ابن جرير أيضًا : حدثنا ابن أبي عمران ، حدثنا عبُيَد الله (1) بن معاذ ، عن أبيه
، عن أشعث ، عن الحسن في قوله : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ
نُسُكٍ } قال : إذا كان بالمُحْرِم أذى من رأسه ، حَلَق وافتدى بأيّ هذه الثلاثة
شاء ، والصيام عشرة أيام ، والصدقة على عشرة مساكين ، كلّ مسكين مَكُّوكين : مكوكا
من تمر ، ومكوكا من بُر ، والنسك شاة.
وقال قتادة ، عن الحسن وعكرمة في قوله : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ
أَوْ نُسُكٍ } قال : إطعام عشرة مساكين.
وهذان القولان من سعيد بن جبير ، وعلقمة ، والحسن ، وعكرمة قولان غريبان فيهما نظر
؛ لأنه قد ثَبَتت السنةُ في حديث كعب بن عُجْرة بصيام ثلاثة أيام ، [لا عشرة و]
(2) لا ستة ، أو إطعام ستة مساكين أو نسك شاة ، وأن ذلك على التخيير كما دَلّ عليه
سياق القرآن. وأما هذا الترتيبُ فإنما هو معروفٌ في قَتْل الصيد ، كما هو نص
القرآن. وعليه أجمع الفقهاء هناك ، بخلاف هذا ، والله أعلم.
وقال هُشَيم : أخبرنا ليث ، عن طاوس : أنه كان يقول : ما كان من دم أو طعام (3)
فبمكة ، وما كان من صيام فحيث شاء. وكذا قال عطاء ، ومجاهد ، والحسن.
وقال هُشَيم : أخبرنا حجاج وعبد الملك وغيرهما عن عطاء : أنه كان يقول : ما كان من
دم فبمكة ، وما كان من طعام وصيام فحيث شاء.
وقال هشيم : أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن يعقوب بن خالد ، أخبرنا أبو أسماء مولى ابن
جعفر ، قال : حج عثمان بن عفان ، ومعه علي والحسين (4) بن علي ، فارتحل عثمان. قال
أبو أسماء : وكنت مع ابن جعفر ، فإذا نحن برجل نائم وناقته عند رأسه ، قال : فقلت
: أيها النؤوم (5). فاستيقظ ، فإذا الحسين (6) بن علي. قال : فحمله ابنُ جعفر حتى
أتينا به السُّقْيا قال : فأرسل إلى علي ومعه أسماء بنت عميس. قال : فمرضناه نحوا
من عشرين ليلة. قال : قال علي للحسين : ما الذي تجد ؟ قال : فأومأ بيده إلى رأسه.
قال : فأمر به عَليّ فَحَلَق رأسه ، ثم دعا ببدنَةٍ فنحرها. فإن كانت هذه الناقة
عن الحلق ففيه أنه نحرها دون مكة. وإن كانت عن (7) التحلل فواضح.
وقوله : { فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } أي : إذا تمكنتم من أداء المناسك ، فمن كان
منكم مُتَمتِّعًا بالعُمرة إلى الحج ، وهو يشمل من أحرم بهما ، أو أحرم بالعمرة
أولا فلما فرغ منها أحرم بالحج وهذا هو التمتع الخاص ، وهو المعروف في كلام
الفقهاء. والتمتع العام يشمل القسمين ، كما دلت عليه الأحاديثُ الصحاح ، فإن من
الرُواة من يقولُ : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وآخر يقول : قَرَن. ولا
خلاف أنّه ساق الهدي (8).
وقال تعالى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ } أي : فليذبح ما قدر عليه من الهدي ، وأقله شاة ، وله أن يذبح
البقر ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح عن نسائه البقر. وقال الأوزاعي ،
__________
(1) في جـ ، أ : "عبد الله".
(2) زيادة من جـ ، أ.
(3) في جـ : "أو إطعام".
(4) في جـ : "الحسن".
(5) في أ : "أيها النائم".
(6) في جـ : "الحسن".
(7) في أ : "من".
(8) في أ ، و : "أنه ساق هديا".
(1/537)
عن
يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة (1) عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ذبح بقرة عن نسائه ، وكن متمتعات. رواه أبو بكر بن مَرْدويه (2).
وفي هذا دليل على شرعية (3) التمتع ، كما جاء في الصحيحين عن عمْران بن حُصين قال
: نزلت آية المتعة (4) في كتاب الله ، وفعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم لم يُنزل قرآن يُحَرّمه ، ولم يُنْهَ عنها ، حتى مات. قال رجل بِرَأيه ما شاء
(5). قال البخاري : يقال : إنه عُمَر. وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرحًا به أن
عمر ، رضي الله عنه ، كان ينهى الناس عن التمتع ، ويقول : إن (6) نأخذ بكتاب الله
فإنّ الله يأمر بالتمام. يعني قوله : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ
لِلَّهِ } وفي نفس الأمر لم يكن عمر ، رضي الله عنه ، ينهى عنها محَرِّمًا لها ،
إنما كان يَنْهَى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجين ومعتمرين ، كما قد صرح به ،
رضي الله عنه.
وقوله : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ
وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } يقول تعالى : فمن لم يجد
هَدْيًا فَلْيصمْ ثلاثة أيام في الحج ، أي : في أيام المناسك. قال العلماء :
والأولى أن يصومها قبل يوم عَرَفة في العشر (7) ، قاله عطاء. أو من حين يحرم ،
قاله ابن عباس وغيره ، لقوله : { فِي الْحَجِّ } ومنهم من يجوِّز صيامها من أول
شوال ، قاله طاوس ومجاهد وغير واحد. وجوز الشعبي صيام يوم عرفة وقبله يومين ، وكذا
قال مجاهد ، وسعيد بن جُبَير ، والسّدّي ، وعطاء ، وطاوس ، والحكم ، والحسن ،
وحماد ، وإبراهيم ، وأبو جعفر الباقر ، والربيع ، ومقاتل بن حَيّان. وقال العوفي ،
عن ابن عباس : إذا لم يجد هَدْيًا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة ،
فإذا كان يومُ عرفة الثالث فقد تم صومه وسبعة إذا رجع إلى أهله. وكذا رَوَى أبو إسحاق
عن وبرة ، عن ابن عمر ، قال : يصوم يومًا قبل التروية ، ويوم التروية ، ويوم عرفة.
وكذا رَوَى عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي أيضًا.
فلو لم يَصُمْها أو بعضها قبل [يوم] (8) العيد فهل يجوز أن يصومها في أيام التشريق
؟ فيه قولان للعلماء ، وهما للإمام الشافعي أيضًا ، القديم منهما أنه يجوزُ له
صيامها لقول عائشة وابن عمر في صحيح البخاري : لم يرَخّص في أيام التشريق أن
يُصَمن (9) إلا لمن لا يجد الهَدي (10). وكذا رواه مالك ، عن الزّهري ، عن عروة ،
عن عائشة. وعن سالم ، عن ابن عمر [إنما قالوا ذلك لعموم قوله : { فَصِيَامُ
ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ } ] (11). (12) وقد روي من غير وجه
عنهما. ورواه سفيان ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي أنه كان يقول : من فاته
صيام ثلاثة أيام في الحج صامهن أيام
__________
(1) في هـ : "أبي مسلم" ، والصواب ما أثبتناه من جـ ، أ.
(2) ورواه أبو داود في السنن برقم (1751) من طريق الوليد عن الأوزاعي به.
(3) في جـ : "على مشروعية".
(4) في أ : "آية التمتع".
(5) صحيح البخاري برقم (4518) وصحيح مسلم برقم (1226).
(6) في أ : "إنا".
(7) في أ : "في العشرة".
(8) زيادة من أ.
(9) في أ : "أن يصوم".
(10) صحيح البخاري برقم (1997).
(11) زيادة من جـ ، أ.
(12) الموطأ : (1/426).
(1/538)
التشريق.
وبهذا يقول عُبَيد بن عُمَير الليثي (1) وعكرمة ، والحسن البصري ، وعروة بن الزبير
؛ وإنما قالوا ذلك لعموم قوله : { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } والجديد
من القولين : أنه لا يجوز صيامها أيام التشريق ، لما رواه مسلم عن نبَيْشَة (2)
الهذلي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أيام
التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله" (3).
وقوله : { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } فيه قولان :
أحدهما : إذا رجعتم في الطريق. ولهذا قال مجاهد : هي رخصة إذا شاء صامها في
الطريق. وكذا قال عطاء بن أبي رباح.
والقول الثاني : إذا رجعتم إلى أوطانكم ؛ قال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري ، عن
يحيى بن سعيد ، عن سالم ، سمعت ابن عمر قال : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ
ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } قال : إذا رَجَع
إلى أهله (4) ، وكذا رُوي عن سعيد بن جُبَير ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وعطاء ،
وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والزهري ، والربيع بن أنس. وحكى على ذلك أبو جعفر بن
جرير الإجماع.
وقد قال البخاري : حدثنا يحيى بن بُكَير ، حدثنا الليث ، عن عُقَيل ، عن ابن شهاب
، عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر قال : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في
حَجَّة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهَدْي من ذي الحُلَيفة ، وبدأ
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهلَّ بالعمرة ، ثم أهلَّ بالحج ، فتمتع الناس مع
النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج. فكان مِنَ الناس مَنْ أهدى فساق
الهَدْي ، ومنهم من لم يُهْد. فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس :
"من كان منكم أهدى فإنه لا يَحل لشيء حَرُم منه حتَى يقضي حَجّه ، ومَنْ لم
يكن منكم أهدى فَلْيَطُفْ بالبيت وبالصفا والمروة ، وَلْيُقَصِّر وليَحللْ (5) ثم
ليُهِلّ بالحج ، فمن لم يجد هديًا فليصُمْ ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى
أهله". وذكر تمام الحديث (6).
قال الزهري : وأخبرني عروة ، عن عائشة بمثل ما أخبرني سالم عن أبيه والحديث مخرج
في الصحيحين من حديث الزهري ، به (7).
وقوله : { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } قيل : تأكيد ، كما تقول العرب : رأيت بعيني
، وسمعت بأذني وكتبت بيدي. وقال الله تعالى : { وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ
بِجَنَاحَيْهِ } [الأنعام : 38] وقال : { وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } [العنكبوت
: 48] ، وقال : { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا
بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } [الأعراف : 142].
وقيل : معنى { كَامِلَةٌ } الأمْرُ بإكمالها وإتمامها ، اختاره ابنُ جرير. وقيل :
معنى { كَامِلَةٌ } أي : مُجْزئة عن الهَدْي. قال (8) هُشَيْم ، عن عباد بن راشد ،
عن الحسن البصري ، في قوله : { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } قال : مِنَ الهَدْي.
__________
(1) في جـ : "المكثي".
(2) في جـ : "عن ابن نبيشة".
(3) صحيح مسلم برقم (1141).
(4) تفسير عبد الرزاق (1/93).
(5) في جـ : "وليتحلل".
(6) صحيح البخاري برقم (1691).
(7) صحيح البخاري برقم (1692) وصحيح مسلم برقم (1228).
(8) في أ : "قاله".
(1/539)
وقوله
: { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قال
ابن جرير : اختلف أهلُ التأويل فيمن عُني بقوله : { لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ
حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم مَعْنِيُّون
به ، وأنه لا متعة لهم ، فقال بعضهم : عني بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم.
حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان - هو الثوري - قال : قال ابن
عباس ومجاهد : هم أهل الحَرَم. وكذا روى ابن المبارك ، عن الثوري ، وزاد : الجماعة
عليه.
وقال قتادة : ذُكر لنا أن ابن عباس كان يقول : يا أهل مكة ، لا متعة لكم ، أحلت
لأهل الآفاق وحُرِّمت عليكم ، إنما يقطع أحدكم واديا - أو قال : يجعل بينه وبين
الحرم واديًا (1) - ثم يُهِلّ بعمرة.
وقال عبد الرزاق : حدثنا (2) مَعْمَر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : المتعةُ للناس
- لا لأهل مكة - مَنْ لم يكن أهله من الحرم. وذلك قول الله عز وجل : { ذَلِكَ
لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قال : وبلغني عن
ابن عباس مثلُ قول طاوس.
وقال آخرون : هم أهل الحرم ومن بَيْنه وبين المواقيت ، كما قال عبد الرزاق :
أخبرنا معمر عن رجل ، عن عطاء ، قال : من كان أهله دون المواقيت ، فهو كأهل مكة ،
لا يتمتع (3).
وقال عبد الله بن المبارك ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن مكحول ، في قوله :
{ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قال : من
كان دون الميقات.
وقال ابن جُرَيْج عن عطاء : { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قال : عرفة ، ومَرّ ، وعُرَنة ، وضَجْنان ، والرجيع (4).
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، سمعت الزهري يقول : من كان أهله على يوم أو
نَحْوه تَمتَّع. وفي رواية عنه : اليوم واليومين. واختار ابن جرير في ذلك مذهب
الشافعي أنهم أهل الحرم ، ومن كان منه على مسافة لا تُقْصَر منها (5) الصلاة ؛ لأن
من كان كذلك يعد حاضرا لا مسافرًا ، والله أعلم.
وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : فيما أمركم (6) وما نهاكم { وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي : لمن خالف (7) أمره ، وارتكب ما عنه زجره.
__________
(1) في ط : "واديا واديا".
(2) في ط : "أخبرنا".
(3) تفسير عبد الرزاق (1/ 93).
(4) في و : "الضجيع".
(5) في جـ ، ط ، أ ، و : "فيها".
(6) في ط : "فيما أمركم به".
(7) في ط : "لمن خاف".
(1/540)
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
{
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا
فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ
اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي
الألْبَابِ (197) }
اختلف أهل العربية في قوله : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } فقال بعضهم :
[تقديره] (1) الحج حَجُّ أشهر معلومات ، فعلى هذا التقدير يكون الإحرام بالحج فيها
أكمل من الإحرام به فيما عداها ، وإن كان ذاك صحيحا ، والقول بصحة الإحرام بالحج
في جميع السّنَةِ مذهبُ مالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد
__________
(1) زيادة من جـ ، أ ، و.
(1/540)
بن
حنبل ، وإسحاق بن رَاهويه ، وبه يقول إبراهيم النخَعي ، والثوري ، والليث بن سعد.
واحْتَجّ لهم بقوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ
لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } [البقرة : 189] وبأنه أحد النسكين. فصح الإحرام به في جميع
السَّنَةِ كالعمرة.
وذهب الشافعي ، رحمه الله ، إلى أنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره (1) فلو
أحرم به قبلها لم ينعقد إحرامه به ، وهل ينعقد عُمْرة ؟ فيه قولان عنه. والقول
بأنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره مَرْويّ عن ابن عباس ، وجابر ، وبه يقول
عطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، رحمهم الله ، والدليل عليه قوله تعالى : { الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } وظاهره التقدير الآخر الذي ذهب إليه النحاة ، وهو أن :
وقت الحج أشهر مَعْلُومات ، فخصصه بها من بين سائر شهور السنة ، فدلّ على أنه لا
يصح قبلها ، كميقات الصلاة.
قال الشافعي ، رحمه الله : أخبرنا مسلم بن خالد ، عن ابن جريج ، أخبرني عُمَر بن
عَطَاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه قال : لا ينبغي لأحد أن يُحْرِم بالحج إلا
في شهور (2) الحج ، من أجل قول الله : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } وكذا
رواه ابن أبي حاتم ، عن أحمد بن يحيى بن مالك السوسي ، عن حجاج بن محمد الأعور ،
عن ابن جريج ، به. ورواه ابن مَرْدويه في تفسيره من طريقين ، عن حجاج بن أرطاة ،
عن الحكم بن عُتَيبة (3) عن مِقْسَم ، عن ابن عباس : أنه قال : من السُّنَّة ألا
يحرم [بالحج] (4) إلا في أشهر الحج.
وقال ابن خزيمة في صحيحه : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن شعبة ،
عن الحكم ، عن مقْسَم ، عن ابن عباس ، قال : لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج ، فإن
من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج (5). وهذا إسناد صحيح ، وقول الصحابي :
"من السنة كذا" في حكم المرفوع عند الأكثرين ، ولا سيما قول ابن عباس تفسيرا
للقرآن ، وهو ترجمانه.
وقد ورد فيه حديث مرفوع ، قال (6) ابن مردويه : حدثنا عبد الباقي بن قانع (7)
حدثنا الحسن بن المُثَنى ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا سفيان ، عن أبي الزبير ، عن
جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج
إلا في أشهر الحج".
وإسناده لا بأس به. لكن (8) رواه الشافعي ، والبيهقي من طُرق ، عن ابن جريج ، عن
أبي الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل : أيُهَلّ بالحج قبل أشهر الحج ؟ فقال
: لا (9).
وهذا الموقوف أصحّ وأثبت من المرفوع ، ويبقى حينئذ مذهب صحابي ، يتقوّى بقول ابن
عباس : "من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهره". والله أعلم.
وقوله : { أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } قال البخاري : قال ابن عمر : هي شوال ، وذو
القَعْدة ، وعشر من ذي الحجة (10). وهذا الذي علقه البخاري عنه بصيغة الجزم رواه
ابن جرير موصولا حدثنا أحمد بن
__________
(1) في جـ : "إلا في أشهر الحج".
(2) في أ : "في أشهر".
(3) في أ ، و : "بن عيينة".
(4) زيادة من جـ.
(5) صحيح ابن خزيمة برقم (2596).
(6) في جـ : "وقال".
(7) في جـ : "بن نافع".
(8) في جـ : "ولكن".
(9) الأم للشافعي (2/136) والسنن الكبرى للبيهقي (4/343).
(10) صحيح البخاري (3/419) "فتح".
(1/541)
حازم
بن أبي غَرْزة (1) حدثنا أبو نعيم ، حدثنا ورقاء ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن
عمر : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } قال : شوال ، وذو القعدة وعشر من ذي
الحجة (2).
إسناد (3) صحيح ، وقد رواه الحاكم أيضًا في مستدركه ، عن الأصم ، عن الحسن بن علي
بن عفان ، عن عبد الله بن نمير ، عن عبيد الله (4) عن نافع ، عن ابن عمر - فذكره
وقال : على شرط الشيخين (5).
قلت : وهو مَرْويّ عن عُمَر ، وعليّ ، وابن مسعود ، وعبد الله بن الزبير ، وابن
عباس ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، وإبراهيم النخعي ، والشعبي ، والحسن ، وابن سيرين
، ومكحول ، وقتادة ، والضحاك بن مزاحم ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حَيّان. وهو
مذهب الشافعي ، وأبي حنيفة ، وأحمد بن حنبل ، وأبي يوسف ، وأبي ثَوْر ، رحمهم
الله. واختار هذا القول ابن جرير ، قال : وصح إطلاق الجمع (6) على شهرين وبعض
الثالث للتغليب ، كما تقول العرب : "زرته العام ، ورأيته اليوم". وإنما
وقع ذلك في بعض العام واليوم ؛ قال الله تعالى : { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي
يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } [البقرة : 203] وإنما تعجل في يوم ونصف.
وقال الإمام مالك بن أنس [والشافعي في القديم] (7) : هي (8) : شوال وذو القعدة وذو
الحجة بكماله. وهو رواية عَن ابن عُمَر أيضًا ؛ قال ابن جرير :
حدثنا أحمد بن إسحاق ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا شريك ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن
مجاهد ، عن ابن عمر قال : شوال وذو القعدة وذو الحجة.
وقال ابن أبي حاتم في تفسيره : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني
ابن جريج ، قال : قلت لنافع : أسمعت عبد الله بن عُمَر يسمي شُهُور الحج ؟ قال :
نعم ، كان عبد الله يسمي : "شوال وذو القعدة وذو الحجة". قال (9) ابن
جريج : وقال ذلك ابن شُهاب ، وعطاء ، وجابر بن عبد الله صاحب النبي صلى الله عليه
وسلم ، وهذا إسناد صحيح إلى ابن جريج. وقد حُكي هذا أيضًا عن طاوس ، ومجاهد ،
وعروة بن الزبير ، والربيع بن أنس ، وقتادة. وجاء فيه حديث مرفوع ، ولكنه موضوع ،
رواه الحافظ بن مَرْدويه ، من طريق حُصَين بن مخارق - وهو متهم بالوضع - عن يونس بن
عبيد ، عن شهر بن حَوْشَب ، عن أبي أمامة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "الحج أشهر معلومات : شوال وذو القعدة وذو الحجة" (10).
وهذا كما رأيت لا يَصح رفعه ، والله أعلم.
وفائدة مذهب مالك أنَّه إلى آخر ذي الحجة ، بمعنى أنه مختص بالحج ، فيكره الاعتمار
في بقية
__________
(1) في جـ : "بن أبي عزرة".
(2) تفسير الطبري (4/116).
(3) في جـ : "إسناده".
(4) في هـ ، أ : "عبد الله" ، والصواب ما أثبتناه من جـ ، ط ، و.
(5) المستدرك (2/276).
(6) في ط : "الجميع".
(7) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(8) في جـ : "هو".
(9) في جـ : "وقال".
(10) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (1693) "مجمع البحرين" من
طريق محمد بن ثواب عن حصين بن مخارق به.
(1/542)
ذي
الحجة ، لا أنه يصح الحج بعد ليلة النحر.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنان ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن قيس
بن مُسلم ، عن طارق بن شهاب ، قال : قال عبد الله : الحج أشهر معلومات ، ليس فيها
عمرة. وهذا إسناد صحيح.
قال ابن جرير : إنما أراد من ذَهَب إلى أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة
أنّ هذه الأشهر ليست أشهر العمرة ، إنما هي للحج ، وإن كان عمل الحج قد انقضى
بانقضاء أيام منى ، كما قال محمد بن سيرين : ما أحد مِن أهل العلم يَشُكّ في أن
عمرة في غير أشهر الحجّ أفضل من عمرة في أشهر الحج.
وقال ابن عون : سألت القاسم بن محمد ، عن العمرة في أشهر الحج ، فقال : كانوا لا
يرونها تامة.
قلت : وقد ثبت عن عمر وعثمان ، رضي الله عنهما ، أنهما كانا يحبان (1) الاعتمار في
غير أشهر الحج ، وينهيان عن ذلك في أشهر الحج ، والله أعلم.
وقوله : { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } أي : أوجب بإحرامه حَجًّا. فيه دلالة
على لزوم الإحرام بالحج والمضي فيه. قال ابن جرير : أجمعوا على أن المراد من
الفَرْض هاهنا الإيجاب والإلزام.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } يقول :
من أحرم بحَجّ أو عمرة. وقال عطاء : الفرضُ الإحرامُ. وكذا قال إبراهيم ، والضحاك
، وغيرهم.
وقال ابن جُرَيج : أخبرني عمر بن عطاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أنه قال {
فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } فلا ينبغي أن يلبي بالحج ثم يقيم بأرض. قال ابن
أبي حاتم : ورَوُي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن الزبير ، ومجاهد ، وعطاء ،
وإبراهيم النخَعي ، وعكرمة ، والضحاك ، وقتادة ، وسفيان الثوري ، والزهري ، ومقاتل
بن حَيّان - نحو ذلك.
وقال طاوس ، والقاسمُ بن محمد : هو التلبية.
وقوله : { فَلا رَفَثَ } أي : من أحرم بالحج أو العمرة ، فليجتنب الرفث ، وهو
الجماع ، كما قال تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى
نِسَائِكُمْ } [البقرة : 187] ، وكذلك يحرم تعاطي دواعيه من المباشرة والتقبيل
ونحو ذلك ، وكذا التكلم به بحضرة النساء.
قال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس : أن نافعا أخبره : أن
عبد الله بن عمر كان يقول : الرفثُ إتيانُ النساء ، والتكلم بذلك : الرجالُ
والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم.
قال ابن وهب : وأخبرني أبو صخر ، عن محمد بن كَعْب ، مثله.
قال ابن جرير : وحدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن قتادة
، عن رجل ، عن أبي العالية الرَّياحي ، عن ابن عباس : أنه كان يحدو - وهو محرم -
وهو يقول :
وَهُنَّ يَمْشينَ بنَا هَمِيسَا... إنْ يَصْدُق الطَّيْرُ نَنَلْ لَميسَا...
قال أبو العالية فقلت : تَكَلّمُ بالرفث وأنت محرم ؟! قال : إنما الرفث ما قيل عند
النساء (2).
__________
(1) في أ : "يحثان".
(2) تفسير الطبري (4/126).
(1/543)
ورواه
الأعمش ، عن زياد بن حصين ، عن أبي العالية ، عن ابن عباس ، فذكره.
وقال ابن جرير أيضًا : حدثنا ابن أبي عدي ، عن عَون (1) حدثني زياد بن حصين ،
حدثني أبي حصين بن قيس ، قال : أصْعَدْتُ مع ابن عباس في الحاجِّ ، وكنت خليلا له
، فلما كان بعد إحرامنا قال ابن عباس ، فأخذ بذَنَب بعيره فجعل يلويه و[هو] (2)
يرتجز ، ويقول :
وَهُنَّ يَمْشِينَ بنَا هَمِيسَا... إنْ يَصْدُق الطَّيْرُ نَنَلْ لَميسَا...
قال : فقلت : أترفث وأنت محرم ؟ فقال : إنما الرفث ما قيل عند النساء (3).
وقال عبد الله بن طاوس ، عن أبيه : سألت ابن عباس عن قول الله تعالى : { فَلا
رَفَثَ وَلا فُسُوقَ } قال : الرفث التعريض بذكر الجماع ، وهي العَرَابَة في كلام
العرب ، وهو أدنى الرفث.
وقال عطاء بن أبي رباح : الرفثُ : الجماع ، وما دونه من قول الفحش ، وكذا قال عمرو
بن دينار. وقال عطاء : كانوا يكرهون العَرَابة ، وهو التعريض بذكر الجماع وهو
مُحْرِم.
وقال طاوس : هو أن تقُول للمرأة : إذا حَلَلْت أصبتُك. وكذا قال أبو العالية.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الرفث : غِشْيان النساء والقُبَل والغَمْز ،
وأن يُعَرّض لهَا بالفحش (4) من الكلام ، ونحو ذلك.
وقال ابن عباس أيضًا وابن عمر : الرفثُ : غشيانُ النساء. وكذا قال سعيدُ بن جُبَير
، وعكرمة ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وأبو العالية ، وعطاء ، ومكحول ، وعطاء بن يسار ،
وعطية ، وإبراهيم النَّخَعي ، والربيع ، والزهري ، والسدي ، ومالك بن أنس ، ومقاتل
بن حَيَّان ، وعبد الكريم بن مالك ، والحسن ، وقتادة والضحاك ، وغيرهم.
وقوله : { وَلا فُسُوقَ } قال مِقْسَم وغير واحد ، عن ابن عباس : هي المعاصي. وكذا
قال عطاء ، ومجاهد ، وطاوس ، وعكرمة ، وسعيد بن جُبَير ، ومحمد بن كعب ، والحسن ،
وقتادة ، وإبراهيم النخعي ، والزهري ، ومكحول ، وابن أبان ، والربيع بن أنس ،
وعطاء بن يسار ، وعطاء الخراساني ، ومقاتل بن حيان.
وقال محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر (5) قال : الفسوق : ما أصيبَ من معاصي
الله به صَيْد أو غيره. وكذا روى ابن وهب ، عن يونس ، عن نافع أن عبد الله بن عمر
كان يقول : الفسوق إتيان معاصي الله في الحرم.
وقال آخرون : الفسوقُ هاهنا السباب ، قاله ابن عباس ، وابن عمر ، وابن الزبير ،
ومجاهد ، والسدي ، وإبراهيم والحسن. وقد يتمسك لهؤلاء (6) بما ثبت في الصحيح (7)
"سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر".
__________
(1) في جـ ، ط ، أ : "عن عوف".
(2) زيادة من جـ ، ط ، أ.
(3) تفسير الطبري (4/126).
(4) في جـ : "يعرض لها الفحشاء".
(5) في جـ : "أن عبد الله بن عمر".
(6) في جـ : "هؤلاء".
(7) في أ : "الصحيحين".
(1/544)
ولهذا
رواه هاهنا الحبرُ أبو محمد بن أبي حاتم ، رحمه الله ، من حديث سفيان الثوري عن
يزيد (1) عن أبي وائل ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر" (2). وروي من حديث عبد الرحمن بن عبد
الله بن مسعود عن أبيه (3) ومن حديث أبي إسحاق عن محمد بن سعد عن أبيه (4) ] (5).
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الفسوق هاهنا : الذبح للأصنام. قال الله تعالى :
{ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } [الأنعام : 145].
وقال الضحاك : الفسوق : التنابز بالألقاب.
والذين قالوا : الفسوق هاهنا هو جميع المعاصي ، معهم الصواب ، كما نهى تعالى عن
الظلم في الأشهر الحرم ، وإن كان في جميع السنة منهيًا عنه ، إلا أنه في الأشهر
الحرم آكَدُ ؛ ولهذا قال : { مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } [التوبة : 36] ، وقال في
الحرم : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ
أَلِيمٍ } [الحج : 25].
واختار ابن جرير أن الفسوق هاهنا : هو ارتكاب ما نُهي عنه في الإحرام ، من قتل
الصيد ، وحَلْق الشعر ، وقَلْم الأظفار ، ونحو ذلك ، كما تقدم عن ابن عمر. وما
ذكرناه أولى ، والله أعلم. وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي حازم ، عن أبي هريرة
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من حج هذا البيت فلم يرفث ولم
يفسق ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" (6).
وقوله : { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } فيه قولان :
أحدهما : ولا مجادلة في وقت الحج وفي مناسكه ، وقد بينه الله أتَمّ بيان ووضحه
أكمل إيضاح. كما قال وَكِيع ، عن العلاء بن عبد الكريم : سمعت مجاهدًا يقول : {
وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قد بين الله أشهر الحَج ، فليس فيه جدال بين الناس.
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قال : لا شهر
يُنْسَأ ، ولا جدال في الحج ، قد تَبَيَّن ، ثم ذكر كيفية ما كان المشركون يصنعون
في النسيء الذي ذمهم الله به.
وقال الثوري ، عن عبد العزيز بن رُفَيع ، عن مجاهد في قوله : { وَلا جِدَالَ فِي
الْحَجِّ } قال : قد استقام الحج ، فلا جدَال فيه. وكذا قال السدي.
وقال هُشَيم : أخبرنا حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ
} قال : المراء في الحج.
__________
(1) في أ : "عن زيد" ، وفي و : "عن زبيد".
(2) ورواه البخاري في صحيحه برقم (6044) ومسلم في صحيحه برقم (63) من طريق منصور
بن المعتمر عن أبي وائل به.
(3) رواه الترمذي في السنن برقم (2634) والنسائي في السنن (7/ 122).
(4) رواه ابن ماجة في السنن برقم (3941).
(5) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(6) صحيح البخاري برقم (1521) وصحيح مسلم برقم (1350).
(1/545)
وقال
عبد الله بن وهب : قال مالك : قال الله تعالى : { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ }
فالجدال في الحج - والله أعلم - أنّ قريشًا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة
، وكانت العرب ، وغيرهم يقفون بعَرفَة ، وكانوا يتجادلون ، يقول هؤلاء : نحن أصوب.
ويقول هؤلاء : نحن أصوب. فهذا فيما نرى ، والله أعلم.
وقال ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كانوا يقفُون مَوَاقف مختلفة
يتجادلون ، كُلّهم يدعي أن موقفه موقف إبراهيم فقطعه الله حين أعلم نَبَّيه
بالمناسك.
وقال ابن وهب ، عن أبي صخر ، عن محمد بن كعب ، قال : كانت قريش إذا اجتمعت بمنى
قال هؤلاء : حجُّنا أتّم من حجكم. وقال هؤلاء : حجّنا أتم من حَجكم.
وقال حماد بن سلمة عن جبر (1) بن حبيب ، عن القاسم بن محمد أنه قال : الجِدَال في
الحج أن يقول بعضهم : الحجّ غدًا. ويقول بعضهم : اليوم.
وقد اختار ابن جرير مضمونَ هذه الأقوال ، وهو قطع التنازع في مناسك الحج.
والقول الثاني : أن المراد بالجدال هاهنا : المخاصمة.
قال ابن جرير : حدثنا عبد الحميد بن بيان (2) حدثنا إسحاق ، عن شريك ، عن أبي
إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - في قوله : { وَلا جِدَالَ
فِي الْحَجِّ } قال : أنْ تماري صاحبك حتى تغضبه.
وبهذا الإسناد إلى أبي إسحاق ، عن التميمي : سألت ابن عباس عن "الجدال"
قال : المراء ، تماري صاحبك حتى تغضبه. وكذا روى مِقْسَم والضحاك ، عن ابن عباس.
وكذا قال أبو العالية ، وعطاء ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وجابر بن زيد ،
وعطاء الخراساني ، ومكحول ، وعمرو بن دينار ، والسدي ، والضحاك ، والربيع بن أنس ،
وإبراهيم النَّخَعي ، وعطاء بن يسار ، والحسن ، وقتادة ، والزهري ، ومقاتل بن
حيّان.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قال الجدال :
المراء والملاحاة ، حتى تغضب أخاك وصاحبك ، فنهى الله عن ذلك.
وقال إبراهيم النخعي : { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قال : كانوا يكرهون الجدال.
وقال محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : الجدال : السباب والمنازعة.
وكذا روى ابن وهب ، عن يونس ، عن نافع : أن ابن عمر كان يقول : الجدال في الحج :
السباب ، والمراء ، والخصومات ، وقال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن الزبير ، والحسن
، وإبراهيم ، وطاوس ، ومحمد بن كعب ، قالوا : الجدال المراء.
وقال عبد الله بن المبارك ، عن يحيى بن بشر (3) عن عكرمة : { وَلا جِدَالَ فِي
الْحَجِّ } والجدال الغضب ، أن تُغْضب عليك مسلمًا ، إلا أن تستعتب مملوكًا
فتُغْضبه من غير أن تضربه ، فلا بأس عليك ، إن شاء الله.
__________
(1) في جـ : "عن حسين" ، وفي أ : "عن جبير".
(2) في جـ : "بن سنان".
(3) في أ : "بن بشير".
(1/546)
قلت
: ولو ضربه لكان جائزًا سائغًا. والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد : حدثنا عبد
الله بن إدريس ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ،
عن أبيه : أنّ أسماء بنت أبي بكر قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
حُجّاجًا ، حتى إذا كنا بالعَرْج نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلست عائشةُ
إلى جنب رسول الله ، وجلستُ إلى جَنْب أبي. وكانت (1) زِمَالة أبي بكر وزِمَالة
رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة مع غلام أبي بكر ، فجلس أبو بكر ينتظره إلى أن
يطلع عليه ، فأطْلَعَ وليس معه بعيره ، فقال : أين بعيرك ؟ فقال : أضللتُه
البارحة. فقال أبو بكر : بعير واحد تُضلَّه ؟ فطفق يضربه ، ورسول الله صلى الله
عليه وسلم يتبسم ويقول : "انظروا إلى هذا المُحْرِم ما يصنع ؟ ".
وهكذا أخرجه أبو داود ، وابن ماجة ، من حديث ابن إسحاق (2). ومن هذا الحديث حكى
بعضُهم عن بعض السلف أنه قال : من تمام الحج ضَرْبُ الجمال. ولكن يستفاد من قول
النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر : "انظروا إلى هذا المُحْرِم ما يصنع ؟
" - كهيئة الإنكار اللطيف - أن الأولى تركُ ذلك ، والله أعلم.
وقد قال الإمام عبد بن حميد في مسنده : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن موسى بن
عبيدة ، عن أخيه عبد الله بن عبيدة (3) عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "من قضَى نُسُكَه وسلِم المسلمون من لسانه ويده ، غفر
له ما تقدم من ذنبه (4) " (5).
وقوله : { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } لما نهاهم عن إتيان
القبيح قولا وفعْلا حَثَّهم على فعل الجميل ، وأخبرهم أنه عالم به ، وسيجزيهم عليه
أوفرَ الجزاء يوم القيامة.
وقوله : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } قال العوفي ، عن
ابن عباس : كان أناس يخرجون من أهليهم ليست (6) معهم أزْودة ، يقولون : نَحُجُّ
بيت الله ولا يطعمنا.. فقال الله : تزودوا (7) ما يكف وجوهكم عن الناس.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان ، عن
عمرو بن دينار ، عن عكرمة : قال : إن ناسًا كانوا يحجون بغير زاد ، فأنزل الله : {
وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى }
وكذا رواه ابن جرير عن عمرو - وهو الفَلاس (8) - عن ابن عيينة.
قال ابن أبي حاتم : وقد روى هذا الحديث ورَقْاء ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ،
عن ابن عباس. قال : وما يرويه عن ابن عيينة أصح.
__________
(1) في ط : "وكان".
(2) المسند (6/344) وسنن أبي داود برقم (1818) وسنن ابن ماجة برقم (2933).
(3) في جـ : "عن أخيه عن عبد الله".
(4) في جـ : "ما تقدم من ذنبه وما تأخر".
(5) المنتخب لعبد بن حميد برقم (1148) وموسى بن عبيدة ضعيف.
(6) في جـ : "ليس".
(7) في أ : "وتزودوا".
(8) في جـ : "وهو ابن العلاء" وفي أ : "أبو الفلاس".
(1/547)
قلت
: قد رواه النسائي ، عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي ، عن سفيان بن عيينة ، عن
عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس [قال] (1) كان نَاس يحجون بغير زاد ،
فأنزل الله : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } (2). وأما
حديث ورقاء فأخرجه البخاري ، عن (3) يحيى بن بشر ، عن (4) شَبَابة (5). وأخرجه أبو
داود ، عن أبي مسعود أحمد بن الفرات الرازي ، ومحمد بن عبد الله المُخَرَّمي ، عن
شبابة ، عن ورقاء ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان أهل
اليمن يَحُجون ولا يتزودون ، ويقولون : نحن المتوكلون (6). فأنزل الله : {
وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } (7).
ورواه عبد بن حميد في تفسيره ، عن شَبابة [به] (8). ورواه ابن حبان في صحيحه من
حديث شبابة ، به.
وروى ابن جرير وابن مَرْدُويه من حديث عَمْرو بن عبد الغفار [عن محمد بن سوقة] (9)
عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كانوا إذا أحرموا - ومعهم أزوادهم - رموا بها ،
واستأنفوا زادًا آخر (10) ؛ فأنزل الله تعالى : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ
الزَّادِ التَّقْوَى } فَنُهوا عن ذلك ، وأمِرُوا أن يتزودوا الكعك والدقيق
والسويق. وكذا قال ابن الزبير ، وأبو العالية ، ومجاهد ، وعكرمة ، والشعبي ،
والنخعي ، وسالم بن عبد الله ، وعطاء الخراساني ، وقتادة ، والربيع بن أنس ،
ومقاتل بن حيان.
وقال سعيد بن جبير : فتزودوا (11) الدقيق والسويق والكعك (12) وقال وكيع [بن
الجراح] (13) في تفسيره : حدثنا سفيان ، عن محمد بن سوقة (14) عن سعيد بن جبير : {
وَتَزَوَّدُوا } قال : الخشكنانج والسويق. وقال وكيع أيضًا : حدثنا إبراهيم المكي
، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : إن من كَرَم الرجل طيب زاده
في السفر. وزاد فيه حماد بن سلمة ، عن أبي ريحانة أنّ ابن عمر كان يشترط على من
صحبه الجَوْزَة (15).
وقوله : { فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا
أرشدهم إلى زاد الآخرة ، وهو استصحاب التقوى إليها ، كما قال : { وَرِيشًا
وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } [الأعراف : 26]. لما ذكر اللباس الحسي نَبّه
مرشدًا إلى اللباس المعنوي ، وهو الخشوع ، والطاعة (16) والتقوى ، وذكر أنه خير من
هذا ، وأنفع.
قال عطاء الخراساني في قوله : { فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } يعني : زاد
الآخرة.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا عبدان ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا
مروان بن
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) سنن النسائي الكبرى برقم (11033).
(3) في ط : "حدثنا".
(4) في أ : "بن بشير نبا".
(5) في ط : "شبابة قال".
(6) في ط : "نحن متوكلون".
(7) صحيح البخاري برقم (1523) وسنن أبي داود برقم (1730).
(8) زيادة من أ ، و.
(9) زيادة من الطبري.
(10) تفسير الطبري (4/ 156).
(11) في جـ ، ط ، و : "يتزودوا" وفي أ : "تزودوا".
(12) في أ : "كما بينه".
(13) زيادة من أ.
(14) في جـ : "صوفة".
(15) في ط ، أ ، و : "الجودة".
(16) في أ : "الخشوع في الطاعة".
(1/548)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
معاوية
، عن إسماعيل عن قيس ، عن جرير بن عبد الله ، عن النبي ، صلى الله عليه وسلم [قال
] : (1) "من يتزود في الدنيا يَنْفَعه في الآخرة" (2).
وقال مقاتل بن حيان : لما نزلت هذه الآية : { وَتَزَوَّدُوا } قام رجل من فقراء
المسلمين فقال : يا رسول الله ، ما نجد زادًا نتزوده. فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "تزود ما تكف به وجهك عن الناس ، وخير ما تزودتم التقوى".
رواه ابن أبي حاتم.
وقوله : { وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ } يقول : واتقوا عقابي ، ونكالي ،
وعذابي ، لمن خالفني ولم يأتمر بأمري ، يا ذوي العقول والأفهام.
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا
أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ
وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ
(198) }
قال البخاري : حدثنا محمد ، أخبرني ابن عيينة ، عن عَمْرو ، عن ابن عباس ، قال :
كانت عكاظ ومَجَنَّة ، وذو المجاز أسواق الجاهلية ، فتأثَّموا أن يتجروا في
المواسم (3) فنزلت : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ
رَبِّكُمْ } في مواسم الحج (4).
وهكذا رواه عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وغير واحد ، عن سفيان بن عيينة ، به
(5).
ولبعضهم : فلما جاء الإسلام تأثموا أن يتجروا ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن ذلك ، فأنزل الله هذه الآية. وكذلك (6) رواه ابن جريج ، عن عمرو بن دينار
، عن ابن عباس ، قال : كان متجر الناس في الجاهلية عكاظُ ومَجّنةُ وذو المجاز ،
فلما كان (7) الإسلام كأنهم كرهوا ذلك ، حتى نزلت هذه الآية.
وروى أبو داود ، وغيره ، من حديث يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال
: كانوا يَتَّقون البيوع والتجارة في الموسم ، والحج ، يقولون : أيام ذكر ، فأنزل
الله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ } (8).
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا حجاج ، عن عطاء
، عن ابن عباس : أنه قال : "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم
الحج".
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية : لا حرج عليكم في الشراء والبيع
قبل
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(2) المعجم الكبير (2/305) وقال الهيثمي في المجمع (10/ 311) : "رجاله رجال الصحيح".
(3) في جـ ، ط : "في الموسم".
(4) صحيح البخاري برقم (4519).
(5) تفسير عبد الرزاق (1/65) وسنن سعيد بن منصور برقم (347).
(6) في ط : "وكذا".
(7) في جـ ، ط : "فلما جاء".
(8) سنن أبي داود برقم (1731).
(1/549)
الإحرام
وبعده. وهكذا رَوَى العوفي ، عن ابن عباس.
وقال وَكِيع : حدثنا طلحة بن عمرو الحضرمي ، عن عطاء ، عن ابن عباس أنه كان يقرأ :
"ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج". [وقال عبد
الرزاق : عن أبيه عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد : سمعت ابن الزبير يقول :
"ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج" ] (1).
ورواه عبد بن حميد ، عن محمد بن الفضل ، عن حماد بن زيد ، عن عبيد الله (2) بن أبي
يزيد ، سمعت ابن الزبير يقرأ (3) - فذكر مثله سواء (4). وهكذا فسرها مجاهد ، وسعيد
بن جبير ، وعكرمة ، ومنصور بن المعتمر ، وقتادة ، وإبراهيم النخعي ، والربيع بن
أنس ، وغيرهم.
وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا شبابة بن سَوّار ، حدثنا شعبة ، عن
أبي أميمة (5) قال : سمعت ابن عمر - وسُئِل عن الرجل يحجُّ ومعه تجارة - فقرأ ابن
عمر : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ }
وهذا موقوف ، وهو قوي جيد (6). وقد روي مرفوعًا قال أحمد : حدثنا [أحمد بن] (7)
أسباط ، حدثنا الحسن بن عَمْرو الفُقَيمي ، عن أبي أمامة التيمي ، قال : قلت لابن
عمر : إنا نُكْرَي ، فهل لنا من حج ، قال : أليس تطوفون بالبيت ، وتأتون
المُعَرَّفَ ، وترمون الجمار ، وتحلقون رؤوسكم ؟ قال : قلنا (8) : بلى. فقال ابن
عمر : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني فلم يجبه ، حتى
نزل عليه جبريل بهذه الآية : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا
مِنْ رَبِّكُمْ } فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : "أنتم حجاج"
(9).
وقال (10) عبد الرزاق : أخبرنا الثوري ، عن العلاء بن المسيب ، عن رجل من بني تيم
الله قال : جاء رَجُل إلى عبد الله بن عمر ، فقال : يا أبا عبد الرحمن ، إنا قوم
نُكْرَي ، ويزعمون أنه ليس لنا حج. قال : ألستم تحرمون كما يحرمون ، وتطوفون كما
يطوفون ، وترمون كما يرمون ؟ قال : بلى. قال : فأنت حاج (11). ثم قال ابن عمر :
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله عما سألت عنه ، فنزلت هذه الآية : {
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ } (12).
ورواه عَبْد [بن حميد في تفسيره] (13) عن عبد الرزاق به. وهكذا روى هذا الحديث ابن
(14)
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، و.
(2) في جـ : "عبد الله".
(3) في جـ : "يقول".
(4) في و : يقرأ : "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم
الحج".
(5) في جـ ، ط : "عن أبي أمامة".
(6) في أ : "جدا".
(7) زيادة من أ.
(8) في ط : "قال : قلت".
(9) المسند (2/155).
(10) في جـ ، ط ، أ ، و : "وقد قال".
(11) في جـ : "فأنتم حجاج".
(12) ورواه الطبري في تفسيره (4/169) من طريق عبد الرزاق به.
(13) زيادة من و.
(14) في جـ ، ط ، أ ، و : "أبو".
(1/550)
حذيفة
، عن الثوري ، مرفوعًا. وهكذا روي من غير هذا الوجه مرفوعًا (1).
وقال (2) ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا عباد بن العوام ، عن العلاء
بن المسيب ، عن أبي أمامة التيمي ، قال : قلت لابن عمر : إنا أناس نُكْرَي في هذا
الوجه إلى مكة ، وإن أناساً يزعمون أنّه لا حج لنا ، فهل ترى لنا حجاً ؟ قال :
ألستم تحرمون ، وتطوفون بالبيت ، وتقفون (3) المناسك ؟ قال : قلت : بلى. قال :
فأنتم حجاج. ثم قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن [مثل] (4)
الذي سألت ، فلم يَدْر ما يعود عليه - أو قال : فلم يَرُدّ عليه شيئا - حتى نزلت :
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ } فدعا الرجل
، فتلاها عليه ، وقال : "أنتم حجاج" (5).
وكذا رواه مسعود بن سعد ، وعبد الواحد بن زياد ، وشَريك القاضي ، عن العلاء بن
المسيب به مرفوعاً.
وقال ابن جرير : حدثني طليق (6) بن محمد الواسطي ، حدثنا أسباط - هو ابن محمد -
أخبرنا الحسن بن عَمْرو - هو الفقَيْمِي - عن أبي أمامة التيمي. قال : قلت لابن
عمر : إنا قوم نُكْرَي ، فهل لنا من حج ؟ فقال : أليس تطوفون بالبيت ، وتأتون
المُعَرّف ، وترمون الجمار ، وتحلقون رؤوسكم ؟ قلنا : بلى. قال (7) جاء رجل إلى
النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله عن الذي سألتني عنه ، فلم يدر ما يقول له ، حتى
نزل جبريل ، عليه السلام ، بهذه الآية : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ
تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ } إلى آخر الآية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم
: "أنتم حجاج" (8).
وقال ابن جرير : حدثني أحمد بن إسحاق ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا مَنْدل ، عن عبد
الرحمن بن المهاجر ، عن أبي صالح مولى عمر ، قال : قلت : يا أمير المؤمنين ، كنتم
تتجرون في الحج ؟ قال : وهل كانت معايشهم إلا في الحج ؟
وقوله تعالى : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ
الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ }
إنما صَرَفَ "عرفات" وإن كان علما على مؤنث ؛ لأنه في الأصل جَمْع
كمسلمات ومؤمنات ، سمي به بقعة معينة ، فروعي فيه الأصل ، فصرف. اختاره ابن جرير.
وعرفة : موضع الموقف (9) في الحج ، وهي عمدة أفعال الحج ؛ ولهذا روى الإمام أحمدُ
، وأهل السنن ، بإسناد صحيح ، عن الثوري ، عن بكير بن (10) عطاء ، عن عبد الرحمن
بن يَعْمر الديَلي ،
__________
(1) وانظر ذكر هذه الطرق في : حاشية الشيخ سعد الحميد على سنن سعيد بن منصور برقم
(352) فقد أجاد وأفاد ، ولولا خشية الإطالة لنقلته هاهنا.
(2) في جـ ، ط ، أ ، و : "فقال".
(3) في جـ ، ط ، أ ، و : "تقضون".
(4) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(5) ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (3051) من طريق مروان بن معاوية عن العلاء بن
المسيب به ، ورواه أبو داود في السنن برقم (1733) من طريق عبد الواحد بن زياد عن
العلاء بن المسيب به.
(6) في جـ : "طلق".
(7) في جـ ، ط : "فقال".
(8) تفسير الطبري (4/164).
(9) في جـ ، ط ، و : "موضع الوقوف" وفي أ : "مواضع الوقوف".
(10) في جـ ، ط ، أ ، و : "عن" والمثبت من أ.
(1/551)
قال
: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "الحج عرفات - ثلاثا - فمن أدرك
عرفة قبل أن يطلع الفجر ، فقد أدرك. وأيام منى ثلاثة (1) فمن تعجل في يومين فلا
إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه" (2).
ووقت الوقوف من الزوال يومَ عرفة إلى طُلُوع الفجر الثاني من يوم النحر ؛ لأنّ
النبيّ صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع ، بعد أن صلى الظهر إلى أن غربت
الشمس ، وقال : "لتأخُذوا عني مناسككم" (3).
وقال في هذا الحديث : "فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك" وهذا
مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، والشافعي رحمهم الله. وذهب الإمام أحمد إلى أن وقت
الوقوف من أول يوم عَرَفة. واحتجوا بحديث الشعبي ، عن عروة بن مُضَرِّس بن حارثة
بن لام (4) الطائي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة ، حين خرج
إلى الصلاة ، فقلت : يا رسول الله ، إني جئت من جَبَليْ (5) طيئ ، أكللت (6)
راحلتي ، وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه ، فهل لي من حَج ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من شَهِد صلاتنا هذه ، فوقف معنا حتى
ندفع ، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا ، فقد تم حَجّه ، وقضى تَفَثَه".
رواه الإمام أحمد ، وأهل السنن ، وصححه الترمذي (7).
ثم قيل : إنما سميت عَرَفات لما رواه عبد الرزاق : أخبرني ابن جريج قال : قال ابن
المسيب : قال علي بن أبي طالب : بعث الله جبريل ، عليه السلام ، إلى إبراهيم ،
عليه السلام ، فحج به ، حتى إذا أتى عرفة قال : عرفت ، وكان قد (8) أتاها مرة قبل
ذلك ، فلذلك سميت عَرَفة.
وقال ابن المبارك ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، قال : إنما سميت عرفة
، أنّ جبريل كان يُرِي إبراهيم المناسك ، فيقول : عَرَفْتُ عَرَفْتُ. فسمي
"عرفات". وروي نحوه عن ابن عباس ، وابن عمر وأبي مِجْلز ، فالله أعلم.
وتسمى عرفات المشعر الحلال ، والمشعر (9) الأقصى ، وإلال - على وزن هلال - ويقال
للجبل في وسطها : جَبَلُ الرحمة. قال أبو طالب في قصيدته المشهورة :
وبالمشعَر الأقصى إذا قصدوا له... إلال إلى تلك الشِّراج القَوَابل (10)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا حماد بن الحسن بن عَنْبَسَة ، حدثنا أبو عامر ، عن زمعة
- هو ابن
__________
(1) في أ : "ثلاث".
(2) المسند (4/335) وسنن أبي داود برقم (1949) وسنن الترمذي برقم (2975) وسنن
النسائي (5/264) وسنن ابن ماجة برقم (3015).
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (1297) من حديث جابر رضي الله عنه.
(4) في جـ : "ابن الإمام".
(5) في جـ ، ط ، أ : : من جبل".
(6) في جـ : "أظللت".
(7) المسند (4/15) وسنن أبي داود برقم (1950) وسنن الترمذي برقم (891) وسنن
النسائي (5/263) وسنن ابن ماجة برقم (3016).
(8) في جـ : "وقد كان".
(9) في ط : "المشعر الحرام".
(10) البيت في السيرة النبوية لابن هشام (1/274).
(1/552)
صالح
- عن سلمة - هو ابن وَهْرَام (1) - عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان أهل
الجاهلية يقفون بعرفة حتى إذا كانت الشمس على رؤوس الجبال ، كأنها العمائم على
رؤوس الرجال ، دفعوا ، فأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدفعة من عرفة حتى غربت
الشمس.
ورواه ابن مَرْدُويه ، من حديث زمعة بن صالح ، وزاد : ثم وقف بالمزدلفة ، وصلى
الفجر بغَلَس ، حتى إذا أسفر (2) كل شيء وكان في الوقت الآخر ، دفع. وهذا حَسَنُ
الإسناد.
وقال ابن جُرَيْج ، عن محمد بن قيس ، عن المسْوَر بن مَخْرَمة قال : خَطَبنا رسولُ
الله صلى الله عليه وسلم ، وهو بعرفات ، فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال : "أما
بعد - وكان إذا خطب خطبة قال : أما بعد - فإن هذا اليوم الحجَ الأكبر ، ألا وإن
أهلَ الشرك والأوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل أن تغيب الشمس ، إذا كانت
الشمس في رؤوس الجبال ، كأنها عمائم الرجال في وجوهها ، وإنا ندفع بعد أن تغيب
الشمس ، وكانوا يدفعون من المشعر الحرام بعد أن تطلع الشمس ، إذا كانت الشمس في
رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس ،
مُخَالفاً هَدْيُنَا هَدْي أهل الشرك".
هكذا رواه ابن مَرْدُيَه وهذا لفظه ، والحاكم في مستدركه ، كلاهما من حديث عبد
الرحمن بن المبارك العيشي ، عن عبد الوارث بن سعيد ، عن ابن جريج ، به. وقال
الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه. قال : وقد صح وثَبَت بما ذكرناه سماع
المِسْوَر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا كما يتوهمه رعاع أصحابنا أنّه ممن
له رؤية (3) بلا سماع (4).
وقال وَكِيع ، عن شعبة ، عن إسماعيل بن رجاء [الزبيدي] (5) عن المعرور بن سويد ،
قال : رأيت عمر ، رضي الله عنه ، حين دفع من عرفة ، كأني أنظر إليه رَجُلا أصلع
على بعير له ، يُوضِع (6) وهو يقول : إنا وجدنا الإفاضة هي الإيضاع.
وفي حديث جابر بن عبد الله الطويل ، الذي في صحيح مسلم ، قال فيه : فلم يزل واقفا
- يعني بعرفة - حتى غربت الشمس ، وذهبت (7) الصُّفْرَة قليلا حتى غاب القُرْصُ ،
وأردف أسامة خلفه ، ودفعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شَنَقَ للقصواء
الزّمام ، حتى إنّ رأسها ليصيب مَوْرك رحله ، ويقول بيده اليمنى : "أيها
الناس ، السكينة السكينة". كلما أتى جبلا من الجبال أرْخَى لها قليلا حتى
تصعد ، حتى أتى المُزْدَلِفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ، ولم
يُسَبِّحْ بينهما شيئا ، ثم اضطجع حتى طلع الفَجرُ فصلى الفجر حين تَبَيَّن له
الصبح بأذان وإقامة ، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعرَ الحرام ، فاستقبل القبلة ،
فدعا الله وكبره وهَلَّله ووحَّده ، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً ، فدفع قبل أن
تطلُع الشمس (8) وفي الصحيح (9) عن أسامة بن زيد ، أنه سُئِل كيف كان يسير رسول
الله صلى الله عليه وسلم حين دَفَعَ ؟
__________
(1) في جـ : "هو ابن هشام".
(2) في أ : "إذا استقر".
(3) في جـ : "ممن له رواية".
(4) المستدرك (2/277).
(5) زيادة من و.
(6) في أ : "فوضع".
(7) في جـ ، ط ، أ ، و : "وبدت".
(8) صحيح مسلم برقم (1218).
(9) في جـ ، ط ، أ ، و : "وفي الصحيحين".
(1/553)
قال
: "كان يسير العَنَق ، فإذا وجد فَجْوَة نَص" (1). والعنق : هو انبساط
السير ، والنص ، فوقه.
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبو محمد ابن بنت الشافعي ، فيما كَتَب إليّ ، عن أبيه
أو عمه ، عن سفيان بن عيينة قوله : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ
فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } وهي الصلاتين (2) جميعاً.
وقال أبو إسحاق السَّبِيعي ، عن عمرو بن ميمون : سألت عبد الله بن عَمْرو عن
المشعر الحرام ، فسكت حتى إذا هبطت أيدي رواحلنا بالمزدلفة قال : أين السائل عن
المشعر الحرام ؟ هذا المشعر الحرام.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن سالم قال : قال ابن عمر :
المشعر الحرام المزدلفة كلها (3).
وقال هُشَيم ، عن حجاج (4) عن نافع ، عن ابن عمر : أنه سئل عن قوله : {
فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } قال : فقال : هو الجبل وما
حوله.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن المغيرة ، عن إبراهيم قال : رآهم ابن عُمَر
يزدحمون على قُزَحَ ، فقال : عَلام يزدحم هؤلاء ؟ كل ما هاهنا مشعر (5).
وروي عن ابن عباس ، وسعيد بن جُبير ، وعكرمة ، ومجاهد ، والسدي ، والربيع بن أنس ،
والحسن ، وقتادة أنهم قالوا : هو ما بين الجبلين.
وقال ابن جريج : قلت لعطاء : أين المزدلفة ؟ قال : إذا أفَضْت (6) من مَأزمي عرفة
فذلك إلى مُحَسِّر. قال : وليس المأزمان مَأزما عرفة من المزدلفة ، ولكن
مُفَاضَاهما (7). قال : فقِف (8) بينهما إن شئت ، قال : وأحب أن تَقفَ دون قُزَح ،
هَلُمّ إلينا من أجل طريق الناس.
قلت : والمشاعر هي المعالم الظاهرة ، وإنما سميت المزدلفة المشعر الحرام ؛ لأنها
داخل الحرم ، وهل الوقوف بها ركن في الحج لا يصح إلا به ، كما ذهب إليه طائفة من
السلف ، وبعض أصحاب الشافعي ، منهم : القفال ، وابن خُزَيمة ، لحديث عُرْوة بن
مُضَرَس ؟ أو واجب ، كما هو أحد قولي الشافعي يجْبَر بدم ؟ أو مستحب لا يجب (9)
بتركه شيء كما هو القول الآخر ؟ في ذلك ثلاثة أقوال للعلماء ، لبسطها موضع آخر غير
هذا ، والله أعلم.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (1666 ، 4413) وصحيح مسلم برقم (1286).
(2) كذا في جـ ، ط ، وهو خطأ ، والصواب : "الصلاتان".
(3) رواه الطبري في تفسيره (4/176) من طريق عبد الرزاق به.
(4) في جـ : "عن الحجاج".
(5) رواه الطبري في تفسيره (4/177 ، 178) من طريق عبد الرزاق به.
(6) في جـ ، ط : "إذا أفضيت" ، وفي أ : "إذا قضيت".
(7) في أ ، و : "مقضاهما".
(8) في جـ : "فتقف".
(9) في جـ : "لا يجبره".
(1/554)
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
وقال
عبد الله بن المبارك ، عن سفيان الثوري ، عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : "عَرَفَةُ كلها موقف ، وارفعوا عن عُرَنة (1) ، وجَمْع كلها
مَوقف إلا مُحَسرًا" (2).
هذا حديث مرسل. وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا سعيد بن عبد
العزيز ، حدثني سليمان بن موسى ، عن جبير بن مطعم (3) ، عن النبي صلى الله عليه
وسلم : قال : "كل عرفات موقف ، وارفعوا عن عُرَنة (4). وكل مزدلفة موقف
وارفعوا عن مُحَسِّر ، وكل فجاج مكة مَنْحر ، وكل أيام التشريق ذبح" (5).
وهذا أيضا منقطع ، فإن سليمان بن موسى هذا - وهو الأشدق - لم يدرك جُبَير بن مطعم.
ولكن رواه الوليد بن مسلم ، وسويد بن عبد العزيز ، عن سعيد بن عبد العزيز ، عن
سليمان ، فقال الوليد : عن ابن لجبير (6) بن مطعم ، عن أبيه. وقال سويد : عن نافع
بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره ، والله أعلم.
وقوله : { وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ
الضَّالِّينَ } تنبيه لهم على ما أنْعَم به عليهم ، من الهداية والبيان والإرشاد
إلى مشاعر الحج ، على ما كان عليه إبراهيم الخليل ، عليه السلام ؛ ولهذا قال : {
وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ } قيل : من قبل هذا الهدي ،
وقبل القرآن ، وقبل الرسول ، والكل متقارب ، ومتلازم ، وصحيح.
{ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) }
"ثم" هاهنا لعطف خبر على خبر وترتيبه عليه ، كأنه تعالى أمر الواقف
بعرفات أن يَدْفَع إلى المزدلفة ، ليذكر الله عند المشعر الحرام ، وأمره أن يكون
وقوفه مع جمهور الناس بعرفات ، كما كان جمهور الناس يصنعون ، يقفون بها إلا قريشًا
، فإنهم لم يكونوا يخرجون من الحرم ، فيقفون في طرف الحرم عند أدنى الحِل (7) ،
ويقولون : نحن أهل الله في بلدته ، وقُطَّان بيته.
وقال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا محمد بن حازم ، حدثنا هشام ، عن
أبيه ، عن عائشة قالت : كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ، وكانوا
يُسَمّون الحُمْس ، وكان (8) سائر العرب يقفون بعرفات. فلما جاء الإسلام أمر الله
نبيه صلى الله عليه وسلم أن يَأتَي عرفات ، ثم يقف بها ثم يُفيض
__________
(1) في أ ، و : "عن عرفة".
(2) رواه الطبري في التفسير (4/179) وقد جاء موصولا من حديث جابر رضي الله عنه ،
ورواه ابن ماجة في السنن برقم (3012) وأصله في صحيح مسلم برقم (1218) أ. هـ
مستفادا من حاشية الشيخ أحمد شاكر على تفسير الطبري.
(3) في ط : "عن جبير بن مطعم عن أبيه".
(4) في أ : "عرفات" وفي و : "عرنات".
(5) المسند (4/82).
(6) في أ : "عن جبير".
(7) في أ : "الجبل".
(8) في جـ ، ط ، أ : "وكانت".
(1/555)
منها
، فذلك قوله : { مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } (1).
وكذا قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وقتادة ، والسدي ، وغيرهم. واختاره ابن جرير
، وحكى عليه الإجماع ، رحمهم الله.
وقال الإمام أحمد ، حدثنا سُفْيان ، عن عمرو ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه
، قال : أضللتُ بعيرًا لي بعرفة ، فذهبت أطلبه ، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم
واقف ، قلت : إن هذا من الحَمْس (2) ما شأنه هاهنا ؟
أخرجاه في الصحيحين (3). ثم روى البخاري من حديث موسى بن عقبة ، عن كُرَيب ، عن
ابن عباس ما يقتضي أن المراد بالإفاضة هاهنا هي الإفاضة من المزدلفة إلى منى لرمي
الجمار (4). فالله أعلم. وحكاه ابنُ جرير ، عن الضحاك بن مزاحم فقط. قال : والمراد
بالناس : إبراهيم ، عليه السلام. وفي رواية عنه : الإمام. قال ابن جرير (5) ولولا
إجماع الحجة على خلافه لكان هو الأرجح.
وقوله : { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } كثيرًا ما
يأمر الله بذكره بعد قضاء العبادات ؛ ولهذا ثبت في صحيح مسلم أنّ رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر ثلاثًا. وفي الصحيحين أنَّه ندب إلى
التسبيح والتحميد والتكبير ، ثلاثًا وثلاثين ، ثلاثًا وثلاثين (6).
وقد روى ابن جرير هاهنا حديث (7) ابن عباس (8) بن مرداس السلمي في استغفاره ، عليه
السلام ، لأمته عَشِيَّةَ عرفة ، وقد أوردناه (9) في جُزْء جمعناه في فضل يوم عرفة
(10).
وأورد ابن مَرْدويه هاهنا الحديث الذي رواه البخاري ، عن شداد بن أوس قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت
ربي ، لا إله إلا أنت ، خلقتني وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ
بك من شر ما صنعت ، أبوءُ لك بنعمتك عَلَيّ ، وأبوء بذنبي ، فاغفر لي ، فإنه لا
يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها في ليلة فمات في ليلته دخل الجنة ، ومن قالها في
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4520).
(2) في أ : "الحميس".
(3) المسند (4/80) وصحيح البخاري برقم (1664) وصحيح مسلم برقم (1220).
(4) صحيح البخاري برقم (4521).
(5) في جـ : "ابن جريج".
(6) في جـ : "ثلاث وثلاثين وثلاث وثلاثين".
(7) في ط : "هاهنا حديثا حديث".
(8) في ط : "حديث العباس".
(9) في جـ : "أفردناه".
(10) قال الطبري في تفسيره (4/192) : "حدثني إسماعيل بن سيف العجلي قال :
حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي قال : حدثنا ابن كنانة - ويكنى أبا كنانة - عن
أبيه ، عن العباس بن مرداس السلمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"دعوت الله يوم عرفة أن يغفر لأمتي ذنوبها ، فأجابني : أن قد غفرت ، إلا
ذنوبها بينها وبين خلقي ، فأعدت الدعاء يومئذ ، فلم أجب بشيء ، فلما كان غداة
المزدلفة قلت : يا رب ، إنك قادر أن تعوض هذا المظلوم من ظلامته وتغفر لهذا الظالم
، فأجابني : أن قد غفرت" قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال :
فقلنا : يا رسول الله ، رأيناك تضحك في يوم لم تكن تضحك فيه !! قال : "ضحكت
من عدو الله إبليس لما سمع بما سمع ، إذ هو يدعو بالويل والثبور ، ويضع التراب على
رأسه".
(1/556)
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
يومه
فمات دخل الجنة" (1).
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عَمْرو : أن أبا بكر قال : يا رسول الله ، عَلمني
دعاء أدعو به في صلاتي ؟ فقال : "قل : اللهمّ إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا
يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مَغْفِرةً من عندك وارحمني ، إنَّك أنت الغفور
الرحيم" (2).
والأحاديث في الاستغفار كثيرة.
{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ
أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي
الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ
سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) }
يأمرُ تعالى بذكره والإكثار منه بعد قَضَاء المناسك وفراغها.
وقوله : { كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ } اختلفوا في معناه ، فقال ابن جُرَيج ، عن
عطاء : هو (3) كقول الصبي : "أبَهْ أمَّهْ" ، يعني : كما يَلْهَج الصبي
بذكر أبيه وأمه ، فكذلك أنتم ، فالهجوا بذكر الله بعد قضاء النسك. وكذا قال الضحاك
والربيع بن أنس. وروى ابنُ جرير من طريق العوفي ، عن ابن عباس - نحوه.
وقال سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس [قال] (4) : كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم
(5) فيقول الرجل منهم : كان أبي يطعم ويحمل الحَمَالات [ويحمل الديات] (6). ليس
لهم ذكر غير فعال آبائهم. فأنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم : { فَاذْكُرُوا
اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا }
قال ابن أبي حاتم : ورُوي عن أنس بن مالك ، وأبي وائل ، وعطاء بن أبي رباح في أحد
قوليه ، وسعيد بن جُبَير ، وعكرمة في إحدى رواياته ، ومجاهد ، والسدي ، وعطاء
الخراساني ، والربيع بن أنس ، والحسن ، وقتادة ، ومحمد بن كعب ، ومقاتل بن حيان ،
نحو ذلك. وهكذا حكاه ابن جرير أيضًا عن جماعة ، والله أعلم.
والمقصود منه الحث على كثرة الذكر لله عز وجل ؛ ولهذا كان انتصاب قوله : { أَوْ
أَشَدَّ ذِكْرًا } على التمييز ، تقديره كذكركم آباءكم أو أشد منه ذكرًا.
و"أو" هاهنا لتحقيق المماثلة في الخبر ، كقوله : { فَهِيَ
كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [البقرة : 74] ، وقوله : { يَخْشَوْنَ
النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [النساء : 77] ،
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6306).
(2) صحيح البخاري برقم (7378) وصحيح مسلم برقم (2705).
(3) في جـ : "وهو".
(4) زيادة من جـ ، ط.
(5) في أ : "في المواسم".
(6) زيادة من أ ، و.
(1/557)
{
وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [الصافات : 147] ، {
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } [النجم : 9]. فليست هاهنا للشك قطعًا ،
وإنما هي لتحقيق الخبر عنه بأنه كذلك أو أزْيَد منه. ثم إنه تعالى أرشد إلى
دُعَائه بعد كثرة ذكره ، فإنه مظنة الإجابة ، وذَمَّ من لا يسأله إلا في أمر دنياه
، وهو معرض عن أخراه ، فقال : { فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي
الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } أي : مِنْ نَصِيب ولا حظ.
وتضمَّن هذا الذمّ التنفير عن التشبه (1) بمن هو كذلك. قال سعيد بن جبير ، عن ابن
عباس : كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف ، فيقولون : اللهم اجعله عام غَيث
وعام خصْب وعام ولاد حسن. لا يذكرون (2) من أمر الآخرة شيئًا ، فأنزل الله فيهم :
{ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي
الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } (3) وكان يجيء بعدهم آخرون [من المؤمنين] (4) فيقولون : {
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ } فأنزل الله : { أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا
وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } ولهذا مدح من يسأله للدنيا والأخرى ، فقال : {
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ
حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } فجمعت هذه الدعوةُ كلَّ خير في الدنيا ،
وصرَفت كلّ شر فإن الحسنة في الدنيا تشملُ كلّ مطلوب دنيوي ، من عافية ، ودار رحبة
، وزوجة حسنة ، ورزق واسع ، وعلم نافع ، وعمل صالح ، ومركب هنيء ، وثناء جميل ،
إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عباراتُ المفسرين ، ولا منافاة بينها ، فإنها كلها
مندرجة في الحسنة في الدنيا. وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه
من الأمن (5) من الفزع الأكبر في العَرَصات ، وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور
الآخرة الصالحة ، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا ، من
اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات والحرام (6).
وقال القاسم بن (7) عبد الرحمن : من أعطي قلبا شاكرًا ، ولسانًا ذاكرًا ، وجسدًا
صابرًا ، فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، ووقي عذاب النار.
ولهذا وردت السنة بالترغيب في هذا الدعاء. فقال البخاري : حدثنا أبو معمر ، حدثنا
عبد الوارث ، عن عبد العزيز ، عن أنس بن مالك قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم
يقول : "اللَّهم ربَّنا ، آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب
النار" (8).
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس
(9) قال : كان أكثر دعوة يدعو بها رسول الله صلى الله عليه وسلم [يقول] (10) :
"اللهم ربَّنا ، آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب
النار" (11).
__________
(1) في أ : "عن التشبيه".
(2) في جـ : "لا يذرون".
(3) في و : "فمن الناس من" وهو الصواب.
(4) زيادة من أ ، و.
(5) في جـ : "وتوابع ذلك الأمن".
(6) في جـ : "في الحرام" ، وفي أ : "واجتناب الحرام".
(7) في أ ، و : "قال القاسم أبو".
(8) صحيح البخاري برقم (4522).
(9) في و : "حدثنا عبد العزيز بن صهيب قال : سأل قتادة أنسا : أي دعوة كان
أكثر يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ".
(10) زيادة من و.
(11) المسند (3/101).
(1/558)
[وكان
أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها ، وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه] (1).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا عبد السلام بن شداد -
يعني أبا طالوت - قال : كنت عند أنس بن مالك ، فقال له ثابت : إن إخوانك يحبون أن
تدعو لهم. فقال : اللهم آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار.
وتحدثوا ساعة حتى إذا أرادوا القيام ، قال (2) : يا أبا حمزة ، إن إخوانك يريدون
القيام فادع لهم فقال : تريدون أن أشَققَ لكم الأمور ، إذا آتاكم الله في الدنيا
حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، ووقاكم عذاب النار فقد آتاكم الخير كله.
وقال أحمد أيضًا : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن حميد ، [وعبد الله بن بكر السهمي ،
حدثنا حميد] (3) عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رَجُلا من المسلمين
قد صار مثل الفَرْخ. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هل تدعو (4)
الله بشيء أو تسأله إيَّاه ؟ " قال : نعم ، كنت أقول : اللهم ما كنت معاقبي
به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"سبحان الله! لا تطيقه - أو لا تستطيعه - فهلا قلت : { رَبَّنَا (5) آتِنَا
فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } ".
قال : فدعا الله ، فشفاه.
انفرد بإخراجه مسلم ، فرواه من حديث ابن أبي عدي - به (6).
وقال الإمام الشافعي : أخبرنا سعيد بن سالم القداح ، عن ابن جريج ، عن يحيى بن
عبيد - مولى السائب - عن أبيه ، عن عبد الله بن السائب : أنه سمع النبي صلى الله
عليه وسلم يقول فيما بين الركن اليماني والركن الأسود : { رَبَّنَا آتِنَا فِي
الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } (7).
ورواه الثوري عن ابن جريج كذلك.
وروى ابن ماجة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحو ذلك. وفي سنده
ضعف (8) والله أعلم.
وقال ابن مَرْدويه : حدثنا عبد الباقي ، أخبرنا أحمد بن القاسم بن مساور ، حدثنا
سعيد بن سليمان ، عن إبراهيم بن سليمان ، عن عبد الله بن هرمز ، عن مجاهد ، عن ابن
عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما مررت على الركن إلا رأيت
عليه ملكًا يقول : آمين. فإذا مررتم عليه فقولوا : { رَبَّنَا آتِنَا فِي
الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }
__________
(1) زيادة من أ ، و.
(2) في أ : "قالوا".
(3) زيادة من مسند الإمام أحمد (3/107).
(4) في جـ ، ط : "هل كنت تدعو".
(5) في جـ ، ط : "اللهم" وهو خطأ.
(6) المسند (3/107).
(7) ورواه البغوي في شرح السنة (7/128) من طريق الشافعي به ، ورواه ابن حبان في
صحيحه برقم (1001) "موارد" من طريق يحيى القطان عن ابن جريج به نحوه.
(8) سنن ابن ماجة برقم (2957).
(1/559)
وقال
الحاكم في مستدركه : أخبرنا أبو زكريا العنبري ، حدثنا محمد بن عبد السلام ، حدثنا
إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا جرير ، عن الأعمش ، عن مُسْلم البطين ، عن سعيد بن جبير
قال : جاء رَجُل إلى ابن عباس فقال : إني أجرت نفسي من قوم على أن يحملوني ، ووضعت
لهم من أجرتي على أن يَدعُوني أحج معهم ، أفيجزي ذلك ؟ فقال : أنت من الذين قال
الله [فيهم] (1) : { أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ
الْحِسَابِ } ثم قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه (2).
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) المستدرك (2/277).
(1/560)
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
{
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ
فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) }
قال ابن عباس : "الأيام المعدودات" أيام التشريق ، و"الأيام
المعلومات" أيام العَشْر. وقال عكرمة : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ
مَعْدُودَاتٍ } يعني : التكبير أيامَ التشريق بعد الصلوات المكتوبات : الله أكبر ،
الله أكبر.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا موسى بن علي ، عن أبيه ، قال : سمعت عقبة
بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يوم عَرَفة ويوم النحر
وأيام التشريق عيدُنا أهل الإسلام ، وهي أيام أكل وشرب" (1).
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا هُشَيم ، أخبرنا خالد ، عن أبي المليح ، عن
نُبَيشة الهذلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أيام التشريق
أيامُ أكل وشرب وذكر الله". رواه (2) مسلم أيضًا (3) وتقدم حديث جبير بن مطعم
: "عَرَفَة كلها موقف ، وأيام التشريق كلها ذبح". وتقدم [أيضًا] (4)
حديث عبد الرحمن بن يَعْمَر الدِّيلي (5) "وأيام منى ثلاثة ، فمن تعجل في
يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه".
وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم وخلاد بن أسلم ، قالا حدثنا هُشَيم ، عن
عَمْرو بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : "أيام التشريق أيام طُعْم وذكر (6) " (7).
وحدثنا خلاد بن أسلم ، حدثنا رَوْح ، حدثنا صالح ، حدثني ابن شهاب ، عن سعيد بن
المسيب ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن حُذافة
يطوف في منى : "لا تصوموا هذه الأيام ، فإنها أيام أكل وشرب ، وذكر الله ، عز
وجل" (8).
__________
(1) المسند (4/153).
(2) في جـ ، ط : "ورواه".
(3) المسند (5/75) وصحيح مسلم برقم (1141).
(4) زيادة من و.
(5) في أ : "معمر الديلمي".
(6) في جـ ، ط ، أ ، و : "وذكر الله".
(7) تفسير الطبري (4/211).
(8) تفسير الطبري (4/211).
(1/560)
وحدثنا
يعقوب ، حدثنا هُشَيم ، عن سفيان بن حسين ، عن الزهري ، قال : بعث رسول الله صلى
الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة ، فنادى في أيام التشريق فقال : "إن هذه
الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله ، إلا من كان عليه صَوْم من هَدْي".
زيادة حسنة ولكن مرسلة. وبه قال هُشَيم ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عمرو بن
دينار : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بشْرَ بن سحيم ، فنادى في أيام
التشريق فقال : "إن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله".
وقال هُشَيم ، عن ابن أبي ليلى ، عن عطاء ، عن عائشة قالت : نهى رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن صوم أيام التشريق ، قال : "هي أيام أكل وشرب وذكر
الله".
وقال محمد بن إسحاق ، عن حكيم بن حكيم ، عن مسعود بن الحاكم الزُّرَقي ، عن أمه
قالت : لكأني (1) أنظر إلى عليّ على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء ،
حتى وقف (2) على شعب الأنصار وهو يقول : "يا أيها الناس ، إنها ليست بأيام
صيام ، إنما هي أيام أكل وشرب وذكر" (3).
وقال مِقْسَم عن ابن عباس : الأيام المعدودات : أيام التشريق ، أربعة أيام : يوم
النحر ، وثلاثة [أيام] (4) بعده ، ورُوي عن ابن عمر ، وابن الزبير ، وأبي موسى ،
وعطاء ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد ابن جُبَير ، وأبي مالك ، وإبراهيم النخَعي ،
[ويحيى بن أبي كثير] (5) والحسن ، وقتادة ، والسدي ، والزهري ، والربيع بن أنس ،
والضحاك ، ومقاتل بن حيّان ، وعطاء الخراساني ، ومالك بن أنس ، وغيرهم - مثل ذلك.
وقال علي بن أبي طالب (6) : هي ثلاثة ، يوم النحر ويومان بعده ، اذبح في أيِّهنّ
شئت ، وأفضلها أولها.
والقول الأول هو المشهور وعليه دل ظاهر الآية الكريمة ، حيث قال : { فَمَنْ
تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ
عَلَيْهِ } فدل على ثلاثة بعد النحر.
ويتعلق بقوله : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } ذكْرُ الله على
الأضاحي ، وقد تقدم ، وأن الراجح في ذلك مذهب الشافعي ، رحمه الله ، وهو أن وقت
الأضحية من يوم النحر إلى آخر أيام التشريق. ويتعلق به أيضًا الذكر المؤقت خلف
الصلوات ، والمطلق في سائر الأحوال. وفي وقته أقوال (7) للعلماء ، وأشهرها الذي
عليه العمل أنَّه من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق ،
وهو آخر النَّفْر الآخِر. وقد جاء فيه حديث رواه الدارقطني ، ولكن لا يصح مرفوعا
(8) والله أعلم. وقد ثبت أن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، كان يكبر في قبته ،
فيكبر أهل السوق
__________
(1) في أ : "وكأني".
(2) في أ : "حتى وقفت".
(3) رواه الطبري في تفسيره (4/213) من طريق ابن علية عن ابن إسحاق به.
(4) زيادة من أ ، و.
(5) زيادة من أ ، و.
(6) في أ : "وقال علي بن أبي طلحة رضي الله عنه".
(7) في جـ : "وفيه أقوال".
(8) سنن الدارقطني (2/49 ، 50) من طرق عن جابر رضي الله عنه.
(1/561)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
بتكبيره
، حتى ترتج منى تكبيرًا.
ويتعلق بذلك أيضًا التكبيرُ وذكر الله عند رمي الجمرات كلّ يوم من أيام التشريق.
وقد جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره : "إنما جعل الطواف بالبيت ،
والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار ، لإقامة ذكر الله عز وجل" (1).
ولما ذكر الله تعالى النَّفْر الأول والثاني ، وهو تفرق الناس من موسم الحج إلى
سائر الأقاليم والآفاق بعد اجتماعهم في المشاعر والمواقف ، قال : { وَاتَّقُوا
اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [أي : تجتمعون يوم القيامة]
(2) ، كما قال : { وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
} [المؤمنون : 79].
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ
اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى
سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ
لا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ
الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ
بِالْعِبَادِ (207) }
قال السدي : نزلت في الأخنس بن شَرِيق الثقفي ، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، وأظهر الإسلام وفي باطنه خلاف ذلك. وعن ابن عباس : أنها نزلت في نفر من
المنافقين تكلموا في خُبَيب وأصحابه الذين قتلوا بالرّجيع وعابُوهم ، فأنزل الله
في ذم المنافقين ومدح خُبَيب وأصحابه : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ
ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ }
وقيل : بل ذلك عام في المنافقين كلهم وفي المؤمنين كلهم. وهذا قول قتادة ، ومجاهد
، والرّبيع ابن أنس ، وغير واحد ، وهو الصحيح.
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني الليث بن سعد ، عن خالد بن
يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن القرظي ، عن نَوْف - وهو البكالي ، وكان ممن يقرأ
الكتب - قال : إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل : قَوم يحتالون
على الدنيا بالدين ، ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم أمَرّ من الصّبرِ ، يلبسون
للناس (3) مُسوك الضأن ، وقلوبهم قلوب الذئاب. يقول الله تعالى : فعليّ يجترئون!
وبي يغتَرون! حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيها (4) حيران. قال
القرظي : تدبرتها في القرآن ، فإذا هم المنافقون ، فوجدتها : { وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا
فِي قَلْبِهِ } الآية.
وحدثني محمد بن أبي معشر ، أخبرني أبي أبو معشر نَجِيح قال : سمعت سعيدًا المقبري
يذاكر محمد بن كعب القرظي ، فقال سعيد : إن في بعض الكتب : إنّ [لله] (5) عبادًا
ألسنتهم أحلى من
__________
(1) سنن أبي داود برقم (1888).
(2) زيادة من جـ.
(3) في جـ ، ط ، أ ، و : "يلبسون لباس".
(4) في أ : "فيهم".
(5) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(1/562)
العسل
، وقلوبهم أمَرّ من الصّبر ، لبسوا للناس مُسُوك الضأن من اللين ، يَجْترّون
الدنيا بالدين. قال الله تعالى : عليّ (1) تجترئون! وبي تغترون!. وعزتي لأبعثنّ
عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران. فقال محمد بن كعب : هذا في كتاب الله. فقال
سعيد : وأين هو من كتاب الله ؟ قال : قول الله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } الآية. فقال سعيد : قد عرفتُ
فيمن أنزلت هذه الآية. فقال محمد بن كعب : إن الآية تنزل في الرجل ، ثم تكون عامة
بعد. وهذا الذي قاله القرظي حسن صحيح.
وأما قوله : { وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } فقرأه ابن محيصن :
"ويَشْهَدُ اللهُ" بفتح الياء ، وضم الجلالة { عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ }
ومعناها : أن هذا وإن أظهر لكم الحيل (2) لكن الله يعلم من قلبه القبيح ، كقوله
تعالى : { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ
اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ
لَكَاذِبُونَ } [المنافقون : 1].
وقراءة الجمهور بضم الياء ، ونصب الجلالة { وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي
قَلْبِهِ } ومعناه : أنه يُظْهرُ للناس الإسلام ويبارزُ الله بما في قلبه من الكفر
والنفاق ، كقوله تعالى : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ
اللَّهِ } الآية [النساء : 108] هذا معنى ما رواه ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد
، عن (3) عكرمة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس.
وقيل : معناه أنه إذا أظهر للناس الإسلام حَلَف وأشهد الله لهم : أن الذي في قلبه
موافق للسانه. وهذا المعنى صحيح ، وقاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، واختاره ابن
جرير ، وعزاه إلى ابن عباس ، وحكاه عن مجاهد ، والله أعلم.
وقوله : { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } الألد في اللغة : [هو] (4) الأعوج ، {
وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا } [مريم : 97] أي : عُوجًا. وهكذا المنافق في حال
خصومته ، يكذب ، ويَزْوَرّ عن الحق ولا يستقيم معه ، بل يفتري ويفجر ، كما ثبت في
الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "آية المنافق ثلاث : إذا
حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر".
وقال البخاري : حدثنا قَبيصةُ ، حدثنا سفيان ، عن ابن جُرَيج ، عن ابن أبي
مُلَيْكة ، عن عائشة تَرْفَعُه قال : "أبغض الرجال إلى الله الألَدُّ
الخَصم" (5).
قال : وقال عبد الله بن يزيد : حدثنا سفيان ، حدثني ابن جريج ، عن ابن أبي مُلَيكة
، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن أبغض الرجال إلى الله
الألد الخصم" (6).
وهكذا رواه عبد الرزاق ، عن مَعْمَر في قوله : { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } عن
ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" (7).
__________
(1) في أ : "أعلي".
(2) في جـ ، و : "الجميل".
(3) في جـ ، ط : "أو".
(4) زيادة من جـ ، ط.
(5) صحيح البخاري برقم (4523).
(6) صحيح البخاري برقم (4523).
(7) تفسير عبد الرزاق (1/97).
(1/563)
وقوله
: { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ
وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ } أي : هو أعوج المقال ، سيّئ
الفعَال ، فذلك قوله ، وهذا فعله : كلامه كَذِب ، واعتقاده فاسد ، وأفعاله قبيحة.
والسعي هاهنا هو : القَصْد. كما قال إخبارًا عن فرعون : { ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى*
فَحَشَرَ فَنَادَى* فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى* فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ
الآخِرَةِ وَالأولَى* إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى } [النازعات :
22 - 26] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ
لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } [الجمعة :
9] أي : اقصدوا واعمدوا ناوين بذلك صلاة الجمعة ، فإن السعي الحسي إلى الصلاة
منهيّ عنه بالسنة النبوية : "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تَسْعَوْن ،
وأتوها وعليكم السكينةُ والوقار".
فهذا المنافق ليس له همة إلا الفساد في الأرض ، وإهلاك الحرث ، وهو : مَحل نماء
الزروع والثمار والنسل ، وهو : نتاج الحيوانات الذين لا قوَام للناس إلا بهما.
وقال مجاهد : إذا سُعى في الأرض فسادًا ، منع الله القَطْرَ ، فهلك الحرث والنسل.
{ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ } أي : لا يحب من هذه صفَته ، ولا من يصدر منه
ذلك.
وقوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ }
أي : إذا وُعظ هذا الفاجر في مقاله وفعاله ، وقيل له : اتق الله ، وانزع عن قولك
وفعلك ، وارجع إلى الحق - امتنع وأبى ، وأخذته الحميَّة والغضب بالإثم ، أي : بسبب
ما اشتمل عليه من الآثام ، وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى
عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا
قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [الحج : 72] ، ولهذا قال في هذه الآية :
{ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } أي : هي كافيته عقوبة في ذلك.
وقوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ }
لما أخبر عن المنافقين بصفاتهم الذميمة ، ذَكَر صفات المؤمنين الحميدة ، فقال : {
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ }
قال ابن عباس ، وأنس ، وسعيد بن المسيب ، وأبو عثمان النّهدي ، وعكرمة ، وجماعة :
نزلت في صُهيب بن سنَان الرومي ، وذلك أنَّه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة ، منعه
الناس أن يهاجر بماله ، وإنْ أحب أن يتجرّد منه ويهاجر ، فَعَل. فتخلص منهم
وأعطاهم ماله ، فأنزل الله فيه هذه الآية ، فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف
الحرّة. فقالوا (1) : رَبح البيع. فقال : وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم ، وما ذاك ؟
فأخبروه أنّ الله أنزل فيه هذه الآية. ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
له : "ربِح البيع صهيب ، ربح البيع صهيب".
قال ابن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن عبد الله بن رُسْتَة ،
حدثنا سليمان ابن داود ، حدثنا جعفر بن سليمان الضَبَعي ، حدثنا عوف ، عن أبي
عثمان النهدي ، عن صهيب قال : لما أردتُ الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه
وسلم قالت لي قريش : يا صهيبُ ، قَدمتَ إلينا ولا مَالَ لك ،
__________
(1) في جـ ، و : "فقالوا له".
(1/564)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
وتخرج
أنت ومالك! والله لا يكون ذلك أبدًا. فقلت لهم : أرأيتم إن دَفَعْتُ إليكم مالي
تُخَلُّون عني ؟ قالوا : نعم. فدفعتُ إليهم مالي ، فخلَّوا عني ، فخرجت حتى قدمتُ
المدينة. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "رَبح صهيبُ ، ربح
صهيب" مرتين (1).
وقال حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب قال : أقبل صهيب مهاجرًا
نحو النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نَفَر من قريش ، فنزل عَنْ راحلته ، وانتثل
ما في كنانته. ثم قال (2) يا معشر قريش ، قد علمتم أنّي من أرماكم رجلا وأنتم
والله لا تصلون إلي حتى أرمي كُلّ سهم في كنانتي ، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي
منه شَيْء ، ثم افعلوا ما شئتم ، وإن شئتم دللتكم على مالي وقُنْيتي بمكة وخلَّيتم
سبيلي ؟ قالوا : نعم. فلما قَدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ربح
البيع ، ربح البيع". قال : ونزلت : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ
ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }
وأما الأكثرون فحمَلوا ذلك على أنها نزلت في كل مُجَاهد في سبيل الله ، كما قال
تعالى : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ
وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ
وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا
بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
[التوبة : 111]. ولما حمل هشام بن عامر بين الصفين ، أنكر عليه بعضُ الناس ، فردّ
عليهم عُمَر بن الخطاب وأبو هريرة وغيرهما ، وتلوا هذه الآية : { وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ
بِالْعِبَادِ }
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا
تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ
زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) }
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين به المصدّقين برسوله : أنْ يأخذوا بجميع عُرَى
الإسلام وشرائعه ، والعمل بجميع أوامره ، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك.
قال العوفي ، عن ابن عباس ، ومجاهد ، وطاوس ، والضحاك ، وعكرمة ، وقتادة ،
والسُّدّي ، وابن زيد ، في قوله : { ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ } يعني : الإسلام.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس ، وأبو العالية ، والربيعُ بن أنس : { ادْخُلُوا فِي
السِّلْمِ } يعني : الطاعة. وقال قتادة أيضًا : الموادعة.
وقوله : { كَافَّةً } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو العالية ، وعكرمة ، والربيع ،
والسّدي ، ومقاتل بن حَيَّان ، وقتادة والضحاك : جميعًا ، وقال مجاهد : أي اعملوا
بجميع الأعمال ووجوه البر.
وزعم عكرمة أنها نزلت في نفر ممن أسلم من اليهود وغيرهم ، كعبد الله بن سلام ،
وثعلبة وأسَد
__________
(1) ورواه ابن سعد في الطبقات (2/227) عن هوذة ، عن عوف ، عن أبي عثمان قال :
بلغني أن صهيبا ، فذكر نحوه ، ورواه ابن سعد في الطبقات (2/228) وأبو نعيم في
الحلية (1/151) من طريق علي بن زيد عن سعيد بن المسيب ، فذكر نحو القصة.
(2) في جـ : "وقال" ، وفي أ ، و : "كما قال".
(1/565)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
بن
عُبَيد وطائفة استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يُسْبتوا ، وأن يقوموا
بالتوراة ليلا. فأمرهم الله بإقامة شعائر الإسلام والاشتغال بها عما عداها. وفي
ذكر عبد الله بن سلام مع هؤلاء نظر ، إذْ يبعد أن يستأذن في إقامة السبت ، وهو مع
تمام إيمانه يتحقق نسخه ورفعه وبطلانه ، والتعويض عنه بأعياد الإسلام.
ومن المفسرين من يجعل قوله : { كَافَّةً } حالا من الداخلين ، أي : ادخلوا في
الإسلام كلكم. والصحيح الأول ، وهو أنَّهم أمروا [كلهم] (1) أن يعملوا بجميع شعب
الإيمان وشرائع الإسلام ، وهي كثيرة جدًا ما استطاعوا منها. وقال (2) ابن أبي حاتم
: أخبرنا علي بن الحسين ، أخبرنا أحمد بن الصباح ، أخبرني الهيثم بن يمان ، حدثنا
إسماعيل بن زكريا ، حدثني محمد بن عون ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً } - كذا قرأها بالنصب - يعني
مؤمني أهل الكتاب ، فإنهم كانوا مع الإيمان بالله مستمسكين ببعض أمْر التوراة
والشرائع التي أنزلت فيهم ، فقال الله : { ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً }
يقول : ادخلوا في شرائع دين محمد صلى الله عليه وسلم ولا تَدَعَوا منها شيئًا
وحسبكم بالإيمان بالتوراة وما فيها.
وقوله : { وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي : اعملوا الطاعات (3) ،
واجتنبوا ما يأمركم به الشيطان فـ { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ
وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [البقرة :
169] ، و { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ }
[فاطر : 6] ؛ ولهذا قال : { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } قال مُطَرِّف : أغش
عباد الله لعَبِيد الله الشيطان.
وقوله : { فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ } أي :
عدلتم عن الحق بعد ما قامت عليكم الحُجَجُ ، فاعلموا أن الله عزيز [أي] (4) في
انتقامه ، لا يفوته هارب ، ولا يَغلبه غالب. حكيم في أحكامه ونقضه وإبرامه ؛ ولهذا
قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس : عزيز في نقمته ، حكيم في أمره. وقال محمد
بن إسحاق : العزيز في نصره ممن كفر به إذا شاء ، الحكيم في عذره وحجته إلى عباده.
{ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ
وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (210) }
يقول تعالى مُهَدّدًا للكافرين بمحمد صلوات الله وسلامه عليه : { هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ }
يعني : يوم القيامة ، لفصل القضاء بين الأولين والآخرين ، فيجزي كُلّ عامل بعمله ،
إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر ، ولهذا قال : { وَقُضِيَ الأمْرُ وَإِلَى اللَّهِ
تُرْجَعُ الأمُورُ } كما قال : { كَلا إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا*
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا* وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ
يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى } [الفجر : 21 - 23]
، وقال : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ
رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ
رَبِّكَ } الآية [الأنعام : 158].
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(2) في جـ ، ط : "كما قال".
(3) في أ : "اعملوا بالطاعات".
(4) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(1/566)
وقد
ذكر الإمام أبو جعفر بن جرير هاهنا حديث الصور بطوله من أوله ، عن أبي هريرة ، عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو حديث مشهور ساقه غير واحد من أصحاب المسانيد
وغيرهم ، وفيه : "أنّ الناس إذا اهتموا لموقفهم (1) في العرصات تشفعوا إلى
ربهم بالأنبياء واحدًا واحدًا ، من آدم فمن بعده ، فكلهم يحيد عنها حتى ينتهوا إلى
محمد ، صلوات الله وسلامه عليه ، فإذا جاؤوا إليه قال : أنا لها ، أنا لها. فيذهب
فيسجد لله تحت العرش ، ويشفع عند الله في أن يأتي لفصل القضاء بين العباد ،
فيُشفّعه الله ، ويأتي في ظُلَل من الغمام بعد ما تنشق (2) السماء الدنيا ، وينزل
من فيها من الملائكة ، ثم الثانية ، ثم الثالثة إلى السابعة ، وينزل (3) حملة
العرش والكَرُوبيّون (4) ، قال : وينزل الجبار ، عز وجل ، في ظُلَل من الغمام
والملائكةُ ، ولهم زَجَل مِنْ تسبيحهم يقولون : سبحان ذي الملك والملكوت ، سبحان
رب العرش ذي الجبروت (5) سبحان الحي الذي لا يموت ، سبحان الذي يميت الخلائق ولا
يموت ، سُبّوح قدوس ، رب الملائكة والروح ، قدوس قدوس ، سبحان ربنا الأعلى ، سبحان
ذي السلطان والعظمة ، سبحانه أبدًا أبدًا" (6).
وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه هاهنا أحاديث فيها غرابة والله أعلم ؛ فمنها
ما رواه من حديث المنهال بن عمرو ، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، عن مسروق
، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يجمع الله الأولين
والآخرين لميقات يوم معلوم ، قيامًا شاخصة أبصارهم إلى السماء ، ينتظرون فَصْل
القضاء ، وينزل الله في ظُلَل من الغمام من العرش إلى الكرسي" (7).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا أبو بكر بن عطاء بن مقدم ، حدثنا معتمر
بن سليمان ، سمعت عبد الجليل القَيْسي ، يحدّث عن عبد الله بن عمرو : { هَلْ
يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } الآية ،
قال : يهبط حين يهبط ، وبينه وبين خَلْقه سبعون ألف حِجَاب ، منها : النور ،
والظلمة ، والماء. فيصوت الماء في تلك الظلمة صوتًا تنخلع له القلوب.
قال : وحدثنا أبي : حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي ، حدثنا الوليد قال : سألت زهير
بن محمد ، عن قول الله : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي
ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } قال : ظلل من الغمام ، منظوم من الياقوت (8) مكلَّل
بالجوهر والزبَرْجَد.
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد { فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } قال : هو غير السحاب
، ولم يكن قَطّ إلا لبني إسرائيل في تيههم حين تاهوا.
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية : { هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ }
__________
(1) في ط : "لمواقفهم".
(2) في جـ : "بعد ما تشقق".
(3) في طـ : "وتنزل".
(4) في أ : "الكرسيون".
(5) في جـ : "والجبروت".
(6) تفسير الطبري (4/266) وسيأتي الحديث بطوله عند تفسير الآية : 73 من سورة
الأنعام.
(7) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (9/416 ، 417) من طريقين عن المنهال بن عمرو
به مطولا ، وقال الذهبي : "إسناده حسن".
(8) في أ ، و : "منظوم بالياقوت".
(1/567)
[قال]
(1) : يقول : والملائكة يجيئون في ظلل من الغمام ، والله تعالى يجيء فيما يشاء -
وهي في بعض القراءة : "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظُلَل من
الغمام" وهي كقوله : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنزلَ
الْمَلائِكَةُ تَنزيلا } [الفرقان : 25].
__________
(1) زيادة من جـ ، ط.
(1/568)
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
{
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ
نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
(211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) }
يقول تعالى مُخْبرًا عن بني إسرائيل : كم قد شاهدوا مع موسى { مِنْ آيَةٍ
بَيِّنَةٍ } أي : حجة قاطعة على صدقه فيما جاءهم به ، كَيَدهِ وعصاه وفَلْقه البحر
وضَرْبه الحجر ، وما كان من تظليل الغمام عليهم في شدة الحر ، ومن إنزال المَنّ
والسلوى وغير ذلك من الآيات الدالات على وجود الفاعل المختار ، وصدق من جرت هذه
الخوارق على يَدَيه ، ومع هذا أعرض كثير منهم عنها ، وبَدلوا نعمة الله [كفرًا]
(1) أي : استبدلوا بالإيمان بها الكفر بها ، والإعراض عنها. { وَمَنْ يُبَدِّلْ
نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
كما قال إخبارًا عن كفار قريش : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ
يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ } [إبراهيم : 28 ، 29].
ثم أخبر تعالى عن تزيينه الحياة الدنيا للكافرين الذين رُضُوا بها واطمأنّوا إليها
، وجمعوا الأموال ومنعوها عَنْ مصارفها التي أمروا بها مما يُرْضِي الله عنهم ،
وسخروا من الذين آمنوا الذين أعرضوا عنها ، وأنفقوا ما حصل لهم منها في طاعة ربهم
، وبذلوا ابتغاء وجه الله ؛ فلهذا فازوا بالمقام الأسعد والحظ الأوفر يوم معادهم ،
فكانوا فوق أولئك في محشرهم ومَنْشَرهم ، ومسيرهم ومأواهم ، فاستقروا في الدرجات
في أعلى علّيين ، وخلد أولئك في الدركات في أسفل السافلين ؛ ولهذا قال تعالى : {
وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : يرزق من يشاء من خَلْقه
، ويعطيه عطاء كثيرًا جزيلا بلا حصر ولا تعداد في الدنيا والآخرة (2) كما جاء في
الحديث : "ابن آدم ، أَنْفقْ أُنْفقْ عليك" ، وقال النبي صلى الله عليه
وسلم : "أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا" (3). وقال تعالى : {
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } [سبأ : 39] ، وفي (4) الصحيح
أن مَلَكين ينزلان من السماء صَبيحة كل يوم ، يقول (5) أحدهما : اللهم أعط منفقًا
خلفًا. ويقول الآخر : اللهم أعط مُمْسكا تلفًا. وفي الصحيح (6) "يقول
__________
(1) زيادة من جـ ، ط ، أ ، و.
(2) في طـ : "في الدنيا ولا في الآخرة".
(3) رواه الطبراني في المعجم الكبير (10/192) من طريق يحيى بن وثاب ، عن مسروق ،
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعا ، وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب
(2/51).
(4) في جـ ، أ ، و : "وهو في".
(5) في جـ ، ط : "فيقول".
(6) في أ : "وفي الصحيحين".
(1/568)
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
ابن
آدم : مالي ، مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، وما لَبسْتَ فأبليتَ ،
وما تصدقت فأمضيت (1) ؟ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس".
وفي مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "الدنيا دار من
لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يَجمَعُ من لا عقل له" (2).
{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ وَأَنزلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ
مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ
يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) }
قال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبو داود ، أخبرنا هَمَّام ، عن قتادة
، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان بين نوح وآدم (3) عشرة قرون ، كلهم على
شريعة من الحق. فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. قال : وكذلك هي في
قراءة عبد الله : "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا".
ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث بُنْدَار عن محمد بن بشار. ثم قال : صحيح ولم
يخرجاه (4).
وكذا روى أبو جعفر الرازي ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب : أنه كان يقرؤها :
"كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ
النَّبِيِّيِّنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ".
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة في قوله : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً
وَاحِدَةً } قال : كانوا على الهدى جميعًا ، "فاختلفوا فبعث الله النبيين
مبشرين منذرين" فكان أول نَبي بعث نوحًا. وهكذا قال مجاهد ، كما قال ابن عباس
أولا.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } يقول : كانوا
كفارًا ، { فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ }
والقول الأول عن ابن عباس أصح سندًا ومعنى ؛ لأن الناس كانوا على ملة آدم ، عليه
السلام ، حتى عبدوا الأصنام ، فبعث الله إليهم نوحًا ، عليه السلام ، فكان أول
رسول بعثه الله إلى أهل الأرض.
ولهذا قال : { وَأَنزلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ
مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ }
__________
(1) في أ : "فأبقيت".
(2) المسند (6/71) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) في ط : "كان بين آدم ونوح".
(4) تفسير الطبري (4/275) والمستدرك (2/546).
(1/569)
أي
: من بعد ما قامت عليهم الحجج وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض ، {
فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ
بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }
وقال عبد الرزاق : حدثنا مَعْمَر ، عن سليمان الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة
في قوله : { فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ
الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "نحن الآخرون
الأولون (1) يوم القيامة ، نحن أوّلُ الناس دخولا الجنة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب
من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق ، فهذا اليوم
الذي اختلفوا فيه ، فهدانا له (2) فالناس لنا فيه تبع ، فغدًا لليهود ، وبعد غد للنصارى".
ثم رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة (3).
وقال ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه في قوله : { فَهَدَى
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ }
فاختلفوا في يوم الجمعة ، فاتخذ اليهود يوم السبت ، والنصارى يوم الأحد. فهدى الله
أمة محمد ليوم الجمعة. واختلفوا في القبلة ؛ فاستقبلت النصارى المشرق ، واليهود
بيت المقدس ، فهدى الله أمة محمد للقبلة. واختلفوا في الصلاة ؛ فمنهم من يركع ولا
يسجد ، ومنهم من يسجد ولا يركع ، ومنهم من يصلي وهو يتكلم ، ومنهم من يصلي وهو
يمشي ، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في الصيام ، فمنهم من يصوم بعض
النهار ، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام ، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا
في إبراهيم ، عليه السلام ، فقالت اليهود : كان يهوديًا ، وقالت النصارى : كان
نصرانيًا ، وجعله الله حنيفًا مسلمًا ، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا
في عيسى ، عليه السلام ، فكذّبت به اليهود ، وقالوا لأمه بهتانًا عظيمًا ، وجعلته
النصارى إلهًا وولدًا ، وجعله الله روحه ، وكلمته ، فهدى الله أمة محمد صلى الله
عليه وسلم للحق من ذلك.
وقال الربيع بن أنس في قوله : { فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } أي : عند الاختلاف أنهم كانوا على
ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف ، أقاموا على الإخلاص لله عز وجل وحده ، وعبادته لا
شريك له ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل
الاختلاف ، واعتزلوا الاختلاف ، وكانوا شهداء على الناس يوم القيامة شهودًا (4)
على قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم شعيب ، وآل فرعون ، أنّ رسلهم قد
بلغوهم ، وأنهم قد كذبوا رسلهم.
وفي (5) قراءة أبي بن كعب : "وَلِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" ،
وكان أبو العالية يقول : في هذه الآية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن.
وقوله : { بِإِذْنِهِ } أي : بعلمه ، بما هداهم له. قاله ابن جرير : { وَاللَّهُ
يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } أي : منْ
__________
(1) في أ : "السابقون".
(2) في أ : "فهدانا الله له".
(3) تفسير عبد الرزاق (1/99) والحديث مخرج في الصحيحين.
(4) في أ : "شهدوا".
(5) في أ ، و : "وهي في".
(1/570)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
خلقه
{ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي : وله الحكم (1) والحجة البالغة. وفي صحيح
البخاري ومسلم عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل
يصلي يقول : "اللهم ، رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السموات والأرض ،
عالم الغيب والشهادة أنت تحكم (2) بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما
اختلفَ فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" (3). وفي
الدعاء المأثور : اللهم ، أرنا الحق حَقّا وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلا
ووفّقنا لاجتنابه ، ولا تَجْعَلْه ملتبسًا علينا فنضل ، واجعلنا للمتقين إمامًا.
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ
الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ
وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ
اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) }
يقول تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ } قبل أن تُبتَلُوا
وتختبروا وتمتحنوا ، كما فعل بالذين من قبلكم من الأمم ؛ ولهذا قال : { وَلَمَّا
يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ
وَالضَّرَّاءُ } وهي : الأمراض ؛ والأسقام ، والآلام ، والمصائب والنوائب.
قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو العالية ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، ومُرّة
الهَمْداني ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، والربيع ، والسّدي ، ومقاتل بن حَيّان :
{ الْبَأْسَاءُ } الفقر. قال ابن عباس : { وَالضَّرَّاءُ } السّقم.
{ وَزُلْزِلُوا } خَوْفًا من الأعداء زلْزالا شديدًا ، وامتحنوا امتحانًا عظيمًا ،
كما جاء في الحديث الصحيح عن خَبَّاب بن الأرَتّ قال : قلنا : يا رسول الله ، ألا
تستنصر لنا ؟ ألا تدعو الله لنا ؟ فقال : "إنّ من كان قبلكم كان أحدهم يوضع
المنشار على مفْرَق رأسه فيخلص إلى قدميه ، لا يَصْرفه (4) ذلك عن دينه ،
ويُمْشَطُ بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ، لا يصرفه ذلك عن دينه". ثم قال
: "والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف
إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم قوم تستعجلون".
وقال الله تعالى : { الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا
آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [العنكبوت
: 1 - 3].
وقد حصل من هذا (5) جانب عظيم للصحابة ، رضي الله عنهم ، في يوم الأحزاب ، كما قال
الله تعالى : { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ
زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ
الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا
شَدِيدًا* وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا
وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا }
__________
(1) في و : "وله الحكمة".
(2) في أ : "أنت الحكيم".
(3) صحيح مسلم برقم (770).
(4) في ط : "لا يفتنه".
(5) في أ : "من ذلك".
(1/571)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
الآيات
[الأحزاب : 10 - 12].
ولما سأل هرقلُ أبا سفيان : هل قاتلتموه ؟ قال : نعم. قال : فكيف كان (1) الحرب
بينكم ؟ قال : سِجَالا يدال علينا ونُدَال عليه. قال : كذلك الرسل تُبْتَلى ، ثم
تكون لها العاقبة (2) (3).
وقوله : { مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ } أي : سنتهم. كما قال تعالى
: { فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ } [الزخرف
: 8].
وقوله : { وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } أي : يستفتحون على أعدائهم ، ويَدْعون بقُرْب الفرج
والمخرج ، عند ضيق الحال والشدة. قال الله تعالى : { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ
قَرِيبٌ } كما قال : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ
يُسْرًا } [ الشرح : 5 ، 6].
وكما تكون الشدة ينزل من النصر (4) مثلُها ؛ ولهذا قال تعالى : { أَلا إِنَّ
نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } وفي حديث أبي رَزين : "عَجب ربّك (5) من قُنُوط
عباده ، وقُرْب غيثه (6) فينظر إليهم قَنطين ، فيظل يضحك ، يعلم أنّ فرجهم (7)
قريب" الحديث (8).
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ
فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) }
قال مُقَاتل بن حَيّان : هذه الآية في نفقة التطوّع. وقال السدي : نَسَختها
الزكاة. وفيه نظر. ومعنى الآية : يسألونك كيف ينفقون ؟ قاله ابن عباس ومجاهد ،
فبين لهم تعالى ذلك ، فقال : { قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ
فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ } أي : اصرفُوها في هذه الوجوه. كما جاء في الحديث : "أمك وأباك ،
وأختك وأخاك ، ثم أدناك أدناك". وتلا ميمون بن مِهْرَان هذه الآية ، ثم قال :
هذه مواضع النفقة ما ذكر فيها طبلا ولا مزمارًا ، ولا تصاوير الخشب ، ولا كُسوة
الحيطان.
ثم قال تعالى : { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } أي
: مهما صَدَرَ منكم من فعل معروف ، فإن الله يعلَمُه ، وسيجزيكم على ذلك أوفرَ
الجزاء ؛ فإنه لا يظلم أحدًا مثقالَ ذَرّة.
__________
(1) في أ ، و : "فكيف كانت".
(2) في أ : "الرجل يبتلى ثم تكون له العاقبة".
(3) حديث هرقل رواه البخاري في صحيحه برقم (7).
(4) في أ ، و : "الصبر".
(5) في أ : "عجب ربكم".
(6) في أ : "وقرب خيره".
(7) في أ : "أن فرجكم".
(8) رواه ابن ماجة في السنن برقم (181) من طريق يعلى بن عطاء ، عن وكيع بن عدس ،
عن أبي رزين به ، وقال البوصيري في الزوائد (1/85) : "هذا إسناد فيه
مقال".
(1/572)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
{
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا
شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) }
هذا إيجاب من الله تعالى للجهاد على المسلمين : أن يكُفُّوا شرّ الأعداء عن حَوْزة
الإسلام.
(1/572)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
وقال
الزهري : الجهادُ واجب على كلّ أحد ، غزا أو قعد ؛ فالقاعد عليه إذَا استعين أن
يَعينَ ، وإذا استُغيثَ أن يُغيثَ ، وإذا استُنْفرَ أن ينفر ، وإن لم يُحتَجْ إليه
قعد.
قلت : ولهذا ثَبَت في الصحيح (1) "من مات ولم يغز ، ولم يحدث نفسه بغزو مات
ميتة جاهلية" (2). وقال عليه السلام يوم الفتح : "لا هجرة ، ولكن جهاد
ونيَّة ، إذا استنفرتم فانفروا" (3).
وقوله : { وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ } أي : شديد عليكم ومشقة. وهو كذلك ، فإنه إما أن
يُقْتَلَ أو يجرحَ مع (4) مشقة السفر ومجالدَة الأعداء.
ثم قال تعالى : { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } أي :
لأنّ القتالَ يعقبه النصر والظفر على الأعداء ، والاستيلاء على بلادهم ، وأموالهم
، وذرَاريهم ، وأولادهم.
{ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ } وهذا عام في الأمور كلّها
، قد يُحِبّ المرءُ شيئًا ، وليس له فيه خيرة ولا مصلحة. ومن ذلك القُعُود عن
القتال ، قد يَعْقُبُه استيلاء العدو على البلاد والحكم.
ثم قال تعالى : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } أي : هو أعلم
بعواقب الأمور منكم ، وأخبَرُ بما فيه صلاحكم في دنياكم وأخراكم ؛ فاستجيبوا له ،
وانقادوا لأمره ، لعلكم ترشدون.
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ
وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ
أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ
وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ
اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ
فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ
رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا المعتمر بن
سليمان ، عن أبيه ، حدثني الحَضْرَمي ، عن أبي السَّوار ، عن جُنْدَب بن عبد الله
، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَهْطًا ، وبعث عليهم أبا عبيدة بن
الجَرّاح [أو عبيدة بن الحارث] (5) فلما ذهب ينطلق ، بَكَى صَبَابة (6) إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فَجَلَس ، فبعث عليهم مكانه عبد الله بن جحش ، وكتب له
كتابًا ، وأمره ألا يقرأ
__________
(1) في أ : "في الصحيحين".
(2) صحيح مسلم برقم (1910) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (1834 ، 2783 ، 2825) ومسلم في صحيحه برقم (1353)
من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4) في أ : "على".
(5) زيادة من طـ ، أ ، و.
(6) في جـ : "بكى صبيانه".
(1/573)
الكتاب
حتى يبلغ مكان كذا وكذا ، وقال : لا تُكْرِهَنّ أحدًا على السير معك من أصحابك.
فلما قرأ الكتابَ استرجع ، وقال : سمعًا وطاعة لله ولرسوله. فخبَّرهم الخبر ، وقرأ
عليهم الكتاب ، فرجع رجلان ، وبقي بقيَّتُهم ، فلقوا ابن الحَضْرَمي فقتلوه ، ولم
يَدْرُوا أن ذلك اليوم من رجب أو من جُمَادى. فقال المشركون للمسلمين : قتلتم في
الشهر الحرام! فأنزل الله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ
فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } الآية.
وقال السدي ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرّة ، عن ابن
مسعود : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ
فِيهِ كَبِيرٌ } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سَرِيَّة ، وكانوا
سَبْعَة نفر ، عليهم عبد الله بن جَحْش الأسدي ، وفيهم عَمَّار بن ياسر ، وأبو
حذيفة بن عُتْبَة بن ربيعة ، وسعد بن أبي وَقَّاص ، وعتبة بن غَزْوان السُّلمي -
حليف لبني نَوْفل - وسُهَيل بن بيضاء ، وعامر بن فُهيرة ، وواقد بن عبد الله
اليَرْبوعي ، حليف لعمر بن الخطاب. وكتب لابن جحش كتابًا ، وأمره ألا يقرأه حتى
ينزل بطن مَلَل (1) فلما نزل بطن مَلَل (2) فتح الكتاب ، فإذا فيه : أنْ سِرْ حتى
تنزل بطن نخلة. فقال لأصحابه : مَنْ كان يريد الموت فَلْيمض ولْيوص ، فإنني مُوص
وماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسار ، فتخلف عنه سعد بن أبي وقَّاص ،
وعتبة ، وأضلا راحلة لهما فَأتيا بُحْران (3) يطلبانها ، وسار ابنُ جحش إلى بطن
نخلة ، فإذا هو بالحكم بن كيسان ، والمغيرة بن عثمان ، وعمرو بن الحضرمي ، وعبد
الله بن المغيرة. وانفلت [ابن] (4) المغيرة ، [فأسروا الحكم بن كيسان والمغيرة]
(5) وقُتِل عَمْرو ، قتله واقد بن عبد الله. فكانت أوّل غنيمة غنمها أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم.
فلما رجعوا إلى المدينة بالأسيرين (6) وما أصابوا المال ، أراد أهل مكة أن يفادوا
الأسيرين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "حتى ننظر ما فعل صاحبانا"
فلما رجع سعد وصاحبه ، فادى بالأسيرين ، ففجر عليه المشركون وقالوا : إن محمدًا
يزعم أنه يتبع طاعة الله ، وهو أول من استحل الشهر الحرام ، وقتل صاحبنا في رجب.
فقال المسلمون : إنما قتلناه في جمادى - وقيل : في أول رجب ، وآخر ليلة من جمادى -
وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل شهر رجب. فأنزل الله يُعَيِّر أهل مكة : {
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ
كَبِيرٌ } لا يحل ، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر
الحرام ، حين كفرتم بالله ، وصدَدْتم عنه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابَه ،
وإخراجُ أهل المسجد الحرام منه ، حين أخرجوا محمدًا صلى الله عليه وسلم أكبر من
القتل عند الله.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ
فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } وذلك أنّ المشركين صَدّوا رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، وَرَدوه عن المسجد [الحرام] (7) في شهر حرام ، ففتح الله على نبيه في
شهر حَرَام من العام المقبل. فعاب المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم
القتالَ في شهر حرام. فقال الله : { وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ
وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ } من القتال فيه.
وأنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم بعث سرية فلقوا عَمْرو بن الحضرمي ، وهو مقبل من
الطائف في آخر ليلة من جمادى ، وأوّل ليلة من
__________
(1) في جـ : "مالك".
(2) في جـ : "مالك".
(3) في أ ، و : "يجوبان".
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من أ.
(6) في جـ ، ط ، أ ، و : "بأسيرين".
(7) زيادة من أ.
(1/574)
رجب.
وأنّ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يظنون أن تلك الليلة من جمادى ، وكانت
أول رجب ولم يشعروا ، فقتله رجل منهم وأخذوا ما كان معه. وأنّ المشركين أرسلوا
يعيرونه بذلك. فقال الله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ
فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } وغير ذلك أكبر منه : صَدّ عن سبيل الله ، وكفر
به والمسجد الحرام ، وإخراجُ أهله منه (1) ، إخراج أهل المسجد الحرام أكبر من الذي
أصابَ أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم ، والشرك أشد منه.
وهكذا روى أبو سَعد (2) البقَّال ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنها أنزلت (3) في
سَريَّة عبد الله بن جحش ، وقتْل عمرو بن الحضرمي.
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن السائب الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس
قال : نزل فيما كان من مصاب عَمْرو بن الحضرمي : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ
الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } إلى آخر الآية.
وقال عبد الملك بن هشام راوي السيرة ، عن زياد بن عبد الله البكائي ، عن محمد بن
إسحاق بن يسار المدني ، رحمه الله ، في كتاب السيرة له ، أنَّه قال : وبعث - يعني
رسول الله صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن جَحش بن رئاب الأسدي في رجب ،
مَقْفَله من بدر الأولى ، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ، ليس فيهم من الأنصار
أحد ، وكتب له كتابًا ، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه ، فيمضي
لما أمره به ، ولا يَسْتكره من أصحابه أحدًا. وكان أصحاب عبد الله بن جحش من
المهاجرين. ثم من بني عبد شمس بن عبد مناف : أبو حذيفة بن عُتبة بن ربيعة بن عبد
شمس بن عبد مناف ، ومن حلفائهم : عبد الله بن جحش ، وهو أمير القوم ، وعُكَّاشة بن
محْصن بن حُرْثان ، أحد بني أسد ابن خزيمة ، حليف لهم. ومن بني نَوفل بن عبد مناف
: عتبة بن غَزْوَان بن جابر ، حليف لهم. ومن بني زُهرة بن كلاب : سعد بن أبي وقاص.
ومن بني عدي بن كعب : عامر بن ربيعة ، حليف لهم من عَنز بن وائل ، وواقد بن عبد
الله بن عبد مناف بن عَرِين بن ثعلبة بن يربوع ، أحد بني تميم ، حليف لهم. وخالد
بن البُكَير أحد بني سعد بن ليث ، حليف لهم. ومن بني الحارث بن فِهْر : سُهَيل بن
بيضاء.
فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فيه فإذا فيه : "إذا نظرت في
كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة ، بين مكة والطائف ، ترصد بها قريشًا ، وتعلم لنا من
أخبارهم". فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال : سمعًا وطاعة. ثم قال
لأصحابه : قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة ، أرصد بها
قريشًا ، حتى آتيه منهم بخبر ، وقد نهاني أن أستكره أحدًا منكم. فمن كان منكم يريد
الشهادةَ ويرغب فيها فَلْيَنطلق ، ومن كره ذلك فليرجع ، فأما أنا فماض لأمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد.
فسلك على الحجاز ، حتى إذا كان بِمَعْدن ، فوق الفُرْع ، يقال له : بُحْران (4)
أضلّ سعد بن
__________
(1) في جـ : "منه أكبر عند الله".
(2) في ط : "أبو سعيد".
(3) في جـ ، أ : "أنها نزلت".
(4) في جـ : "نجران".
(1/575)
أبي
وقاص وعُتبة بن غزوان بعيرًا لهما ، كانا يَعْتقبانه ، فتخلفا عليه في طلبه ، ومضى
عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة ، فمرت به عير لقريش تحمل زبيبًا
وأدمًا وتجارة من تجارة قريش ، فيها : عمرو بن الحضرمي ، وعثمان بن عبد الله بن
المغيرة ، وأخوه نوفل بن عبد الله المخزوميان ، والحكم بن كَيسان ، مولى هشام بن
المغيرة.
فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبًا منهم ، فأشرف لهم عكاشة بن محصن ، وكان
قد حلق رأسه ، فلما رأوه أمنُوا وقالوا : عُمَّار ، لا بأس عليكم منهم. وتشاور
القوم فيهم ، وذلك في آخر يوم من رجب ، فقال القوم : والله لئن تركتم القوم هذه
الليلةَ ليدخلن الحرم ، فليمتنعنّ منكم به ، ولئن قتلتموهم لتقْتُلنَّهم في الشهر
الحرام. فتردد القوم ، وهابوا الإقدام عليهم ، ثم شجعوا أنفسهم عليهم ، وأجمعوا
على قتل من قَدروا عليه منهم ، وأخْذ ما معهم. فرمى واقدُ بن عبد الله التميمي (1)
عمرَو بن الحضرمي بسهم فقتله ، واستأسر عثمانَ بن عبد الله والحكم بن كيسان ،
وأفلت القوم نوفلُ بن عبد الله فأعجزهم. وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير
والأسيرين ، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.
قال ابن إسحاق : وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش : أن عبد الله قال لأصحابه : إن
لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس ، وذلك قبل أن يَفْرض الله الخمس
من المغانم ، فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير ، وقسم سائرها بين
أصحابه.
قال ابن إسحاق : فلما قدموا على رسول الله قال : "ما أمرتكم بقتال في الشهر
الحرام". فوقَّف العير والأسيرين ، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا ، فلما قال ذلك
رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط في أيدي القوم ، وظنوا أنهم قد هلكوا ،
وعنَّفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا. وقالت قريش : قد استحلّ محمد وأصحابه
الشهرَ الحرام ، وسفكوا فيه (2) الدم ، وأخذوا فيه الأموال ، وأسروا فيه الرجال.
فقال من يَرُدّ عليهم من المسلمين ممن كان بمكة : إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان.
وقالت : يهودُ تَفَاءلُ بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم : عمرو بن الحضرمي
قتله واقد بن عبد الله : عمرو : عمرت الحرب ، والحضرمي : حضرت الحرب ، وواقد بن
عبد الله : وقدت الحرب. فجعل الله عليهم ذلك لا لهم.
فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم : { يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ
مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } أي : إن
كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به ، وعن المسجد
الحرام ، وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم (3) منهم ، {
وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } أي : قد كانوا يفتنون المسلم في دينه ،
حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه (4) فذلك أكبر عند الله من القتل :
__________
(1) في أ : "السهمي".
(2) في جـ : "فيها".
(3) في جـ : "من قتل".
(4) في أ : "يفتنون المسلمين في دينهم حتى يردوهم إلى الكفر بعد
إيمانهم".
(1/576)
{
وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ
اسْتَطَاعُوا } أي : ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه ، غير تائبين ولا نازعين.
قال ابن إسحاق : فلما نزل القرآن بهذا من الأمر ، وفرج الله عن المسلمين ما كانوا
فيه من الشَّفَق قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين ، وبعثت إليه
قريش في فداء عثمان بن عبد الله ، والحكم بن كيسان ، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : لا نُفْديكموهما حتى يقدم صاحبانا - يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة ابن
غَزْوان - فإنا نخشاكم عليهما ، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم. فقدم سعد وعتبة ،
فأفداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم.
فأما الحكم بن كيسان فأسلم وحسُن إسلامه ، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى قتل يوم بئر معونة شهيدًا. وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة ، فمات بها
كافرًا.
قال ابن إسحاق : فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل
القرآن ، طَمعُوا في الأجر ، فقالوا : يا رسول الله ، أنطمع أن تكون لنا غزوة
نُعطَى فيها أجر المجاهدين [المهاجرين] (1) ؟ فأنزل الله عز وجل : { إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فوضعهم الله من
ذلك على أعظم الرجاء.
قال ابن إسحاق : والحديث في هذا عن الزهري ، ويزيد بن رُومان ، عن عروة.
وقد روى يونس بن بُكَيْر ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان ، عن عروة بن
الزبير قريبًا من هذا السياق. وروى موسى بن عقبة عن الزهري نفسه ، نحو ذلك.
وروى شعيب بن أبي حَمزة ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير نحوا من هذا أيضًا ، وفيه
: فكان ابن الحضرمي أول قتيل قتل بين المسلمين والمشركين ، فركب وفد من كفار قريش
حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقالوا : أيحلّ القتالُ في
الشهر الحرام ؟ فأنزل الله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ [قِتَالٍ
فِيهِ] (2) } الآية. وقد استقصى ذلك الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب "دلائل
النبوة".
ثم قال ابن هشام عن زياد ، عن ابن إسحاق : وقد ذكر عن بعض آل عبد الله [بن جحش]
(3) أن الله قسم الفيء حين أحلَّه ، فجعل أربعة أخماس لمن أفاءه ، وخمسًا إلى الله
ورسوله. فوقع على ما كان عبد الله بن جحش صنع في تلك العير (4).
قال ابن هشام : وهي أول غنيمة غنمها المسلمون. وعمرو بن الحضرمي أول من قتل
المسلمون ، وعثمان بن عبد الله ، والحكم بن كَيْسان أول من أسر المسلمون (5).
قال ابن إسحاق : فقال أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه ، في غزوة عبد الله بن جحش ،
ويقال : بل عبد الله بن جحش قالها ، حين قالت قريش : قد أحلّ محمد وأصحابه الشهر
الحرام ، فسفكوا فيه
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) زيادة من جـ ، ط.
(3) زيادة من أ.
(4) السيرة النبوية لابن هشام (1/605).
(5) السيرة النبوية لابن هشام (1/605).
(1/577)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
الدم
، وأخذوا فيه المال ، وأسروا فيه الرجال. قال ابن هشام : هي لعبد الله بن جحش :
تَعُدّون قَتْلا في الحرام عظيمةً... وأعظم منه لو يَرى الرشد راشد...
صدودُكمُ عما يقول محمد... وكفر به والله راءٍ وشاهدُ...
وإخراجُكمْ من مسجد الله أهلَه... لئلا يُرَى لله في البيت ساجدُ...
فإنَّا وإن عَيَّرْتمونا بقتله... وأرجف بالإسلام باغٍ وحاسدُ...
سَقَيَنْا من ابن الحضرميّ رماحَنَا... بنخلةَ لمَّا أوقَدَ الحربَ واقدُ...
دما وابنُ عبد الله عثمانُ بيننا... ينازعه غُلٌّ من القدّ عاندُ...
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ
مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ
لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) }
(1/578)
فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
{
فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ
لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) }
قال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي
ميسرة ، عن عمر أنَّه قال : لما نزل تحريم الخمر قال : اللهم بَيِّن لنا في الخمر
بيانًا شافيًا. فنزلت هذه الآية التي في البقرة : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ [وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ] (1) } فدُعي
عمر فقرئتْ عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت الآية التي
في النساء : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ
سُكَارَى } [النساء : 43] ، فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام
الصلاة نادى : ألا يقربنّ الصلاة سكرانُ. فدُعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين
لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت الآية التي في المائدة. فدعي عمر ، فقرئت عليه
، فلما بلغ : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } [المائدة : 91] ؟ قال عمر : انتهينا
، انتهينا (2).
وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي من طرق ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق
(3). وكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مَرْدويه من طريق الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن
أبي ميسرة ، واسمه عمرو بن شُرَحْبِيل الهَمْداني الكوفي ، عن عمر. وليس له عنه
سواه ، لكن قال أبو زُرْعَة : لم يسمع منه. والله أعلم. وقال علي بن المديني : هذا
إسناد صالح وصحّحه الترمذي. وزاد ابن أبي حاتم - بعد قوله : انتهينا - : إنها تذهب
المال وتذهب العقل. وسيأتي هذا الحديث أيضا مع ما رواه أحمد من
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) المسند (1/53).
(3) سنن أبي داود برقم (3670) وسنن الترمذي برقم (3049) وسنن النسائي (8/286).
(1/578)
طريق
أبي هريرة أيضًا (1) - عند قوله في سورة المائدة : { إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [المائدة : 90] الآيات.
فقوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } أما الخمر فكما قال أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب : إنه كل ما خامر العقل. كما سيأتي بيانُه في سورة المائدة
، وكذا الميسر ، وهو القمار.
وقوله : { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } أما إثمهما فهو
في الدين ، وأما المنافع فدنيوية ، من حيث إن (2) فيها نفع البدن ، وتهضيم الطعام
، وإخراجَ الفضلات ، وتشحيذ بعض الأذهان ، ولذّة الشدّة المطربة التي فيها ، كما
قال حسان بن ثابت في جاهليته :
ونشربها فتتركنا ملوكًا... وأسْدًا لا يُنَهْنهها اللقاءُ...
وكذا بيعها والانتفاع بثمنها. وما كان يُقَمِّشه بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه
أو عياله. ولكن هذه المصالح لا توازي مضرّته ومفسدته الراجحة ، لتعلقها بالعقل
والدين ، ولهذا قال : { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } ؛ ولهذا كانت
هذه الآية ممهدة لتحريم الخمر على البتات ، ولم تكن مصرحة بل معرضة ؛ ولهذا قال
عمر ، رضي الله عنه ، لما قرئت عليه : اللهم بَين لنا في الخمر بيانًا شافيًا ،
حتى نزل التصريح بتحريمها في سورة المائدة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ
الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ
أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } [المائدة : 90 ، 91] وسيأتي الكلام على ذلك في سورة
المائدة إن شاء الله ، وبه الثقة.
قال ابن عمر ، والشعبي ، ومجاهد ، وقتادة ، والرّبيع بن أنس ، وعبد الرحمن بن زيد
بن أسلم : هذه (3) أوّل آية نزلت في الخمر : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ [وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ] (4) } ثم
نزلت الآية التي في سورة النساء ، ثم التي في المائدة ، فحرمت الخمر (5).
وقوله : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } قُرئ بالنصب
وبالرفع (6) وكلاهما حسن متَّجَه قريب.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبان ، حدثنا يحيى
أنه بلغه : أنّ معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا يا
رسول الله ، إن لنا أرقاء وأهلين [فما ننفق] (7) من أموالنا. فأنزل الله : {
وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ } (8).
وقال الحكم ، عن مِقْسَم ، عن ابن عباس : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ
قُلِ الْعَفْوَ } قال : ما يفضل عن أهلك.
__________
(1) في جـ : "عنه".
(2) في و : "إن كان فيها".
(3) في أ : "هذا".
(4) زيادة من جـ.
(5) في أ : "فحرمت الخمر فلله الحمد".
(6) في جـ : "بالرفع والنصب".
(7) زيادة من أ.
(8) وهذا منقطع ، فإن يحيى بن سعيد بينه وبين معاذ قرن من الزمان.
(1/579)
وكذا
روي عن ابن عمر ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن كعب ،
والحسن ، وقتادة ، والقاسم ، وسالم ، وعطاء الخراساني ، والربيع بن أنس ، وغير
واحد : أنهم قالوا في قوله : { قُلِ الْعَفْوَ } يعني الفضل.
وعن طاوس : اليسير من كل شيء ، وعن الربيع أيضًا : أفضل مالك ، وأطيبه.
والكل يرجع إلى الفضل.
وقال عبد بن حميد في تفسيره : حدثنا هوذة بن خليفة ، عن عوف ، عن الحسن : { وَيَسْأَلُونَكَ
مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } قال : ذلك ألا تجهد مالك ثم تقعد تسأل الناس.
ويدل على ذلك ما رواه ابنُ جرير : حدثنا علي بن مسلم ، حدثنا أبو عاصم ، عن ابن
عَجْلان ، عن المَقْبُريّ ، عن أبي هريرة قال : قال رجل : يا رسول الله ، عندي
دينار ؟ قال : "أنفقه على نفسك". قال : عندي آخر ؟ قال : "أنفقه
على أهلك". قال : عندي آخر ؟ قال : "أنفقه على ولدك". قال : عندي
آخر ؟ قال : "فأنت أبصَرُ".
وقد رواه مسلم في صحيحه (1). وأخرج مسلم أيضًا عن جابر : أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال لرجل : "ابدأ بنفسك فتصدّق عليها ، فإن فَضَل شيء فلأهلك ، فإن
فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا" (2).
وعنده عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"خير الصدقة ما كان عن ظَهْر غنى ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ
بمن تعول" (3).
وفي الحديث أيضًا : "ابن آدم ، إنك إن تبذُل الفضلَ خيرٌ لك ، وإن تمسكه شر
لك ، ولا تُلام على كَفَافٍ" (4).
ثم قد قيل : إنها منسوخة بآية الزكاة ، كما رواه علي بن أبي طلحة ، والعوفي عن ابن
عباس ، وقاله عطاء الخراساني والسدي ، وقيل : مبينة بآية الزكاة ، قاله مجاهد
وغيره ، وهو أوجه.
وقوله : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
* فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } أي : كما فصَّل لكم هذه الأحكام وبينَها وأوضحها ،
كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه ووعده ، ووعيده ، لعلكم تتفكرون في الدنيا
والآخرة.
__________
(1) تفسير الطبري (4/340) ، وأما قول الحافظ بأنه في صحيح مسلم ، فقد قال الشيخ
أحمد شاكر - رحمه الله - : "وهم - رحمه الله - فإن الحديث ليس في صحيح مسلم
على اليقين بعد طول التتبع مني ومن أخي السيد محمود". قلت : لم يذكره المزي
في تحفة الأشراف معزوا لمسلم ، وإنما عزاه لأبي داود وغيره.
(2) صحيح مسلم برقم (997).
(3) هو في صحيح البخاري برقم (1428) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وهو في صحيح
مسلم برقم (1034) من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه.
(4) رواه مسلم في صحيحه برقم (1036) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.
(1/580)
قال
علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني في زوال الدنيا وفنائها ، وإقبال الآخرة
وبقائها.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافسي ، حدثنا أبو أسامة
، عن الصعَّق العيشي (1) قال : شهدت الحسن - وقرأ هذه الآية من البقرة : {
لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } قال : هي والله لمن
تفكر فيها ، ليعلم أن الدنيا دار بلاء ، ثم دار فناء ، وليعلم أن الآخرة دار جزاء
، ثم دار بقاء.
وهكذا قال قتادة ، وابن جُرَيْج ، وغيرهما.
وقال عبد الرزاق عن مَعْمَر ، عن قتادة : لتعلموا فضل الآخرة على الدنيا. وفي
رواية عن قتادة : فآثرُوا الآخرة على الأولى.
[وقد ذكرنا عند قوله تعالى في سورة آل عمران : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ } [آل
عمران : 190] آثارًا كثيرة عن السلف في معنى التفكر والاعتبار] (2).
وقوله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ
تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأعْنَتَكُمْ } الآية : قال ابن جرير :
حدثنا سفيان بن وَكِيع ، حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن
ابن عباس قال : لما نزلت : { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ } [الإسراء : 34] و { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ
الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ
سَعِيرًا } [النساء : 10] انطلق من كان عنده يتيم فعزَل طعامه من طعامه ، وشرابه
من شرابه ، فجعل يفضُل له الشيء من طعامه فيُحبَس له حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد
ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : {
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ
تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم (3).
وهكذا رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، وابن مَرْدويه ، والحاكم في
مستدركه من طرق ، عن عطاء بن السائب ، به (4). وكذا رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن
عباس. وكذا رواه السدي ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن
ابن مسعود - بمثله. وهكذا ذكر (5) غير واحد في سبب نزول هذه الآية كمجاهد ، وعطاء
، والشعبي ، وابن أبي ليلى ، وقتادة ، وغير واحد من السلف والخلف.
قال وَكِيع بن الجراح : حدثنا هشام الدَّسْتَوائي (6) عن حماد ، عن إبراهيم قال :
قالت عائشة :
__________
(1) في جـ ، أ ، و : "التميمي".
(2) زيادة من جـ.
(3) تفسير الطبري (4/350).
(4) سنن أبي داود برقم (2871) وسنن النسائي (6/256) والمستدرك (2/278).
(5) في جـ : "وهكذا رواه".
(6) في جـ : "حدثنا صاحب الدستوائي" ، وفي أ : "حدثنا هشام صاحب
الدستوائي".
(1/581)
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
إني
لأكره أن يكون مال اليتيم عندي عُرّة (1) حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي.
فقوله : { قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ } أي : على حدَة { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ
فَإِخْوَانُكُمْ } أي : وإن خلطتم طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم ، فلا بأس عليكم
؛ لأنهم إخوانكم في الدين ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ
الْمُصْلِحِ } أي : يعلم مَنْ قَصْدُه ونيته الإفسادَ أو الإصلاح.
وقوله : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي
: ولو شاء لضيّق عليكم وأحرجَكم (2) ولكنه وَسَّع عليكم ، وخفَّف عنكم ، وأباح لكم
مخالطتهم بالتي هي أحسن ، كما قال : { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [الأنعام : 152] ، ، بل قد جوز الأكل منه للفقير
بالمعروف ، إما بشرط ضمان البدل لمن أيسر ، أو مجانًا كما سيأتي بيانه في سورة
النساء ، إن شاء الله ، وبه الثقة.
{ وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ
مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى
يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ
أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ
وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ (221) }
هذا تحريم من الله عزّ وجل على المؤمنين أن يتزوّجوا المشركات من عبدة الأوثان. ثم
إن كان عمومُها مرادًا ، وأنَّه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية ، فقد خَص من
ذلك نساء أهل الكتاب بقوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ [وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ] (3) }
[المائدة : 5].
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ
حَتَّى يُؤْمِنَّ } استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب. وهكذا قال مجاهد ، وعكرمة
، وسعيد بن جبير ، ومكحول ، والحسن ، والضحاك ، وزيد بن أسلم ، والربيع بن أنس ،
وغيرهم.
وقيل : بل المراد بذلك المشركون (4) من عبدة الأوثان ، ولم يُردْ أهل الكتاب
بالكلية ، والمعنى قريب من الأول ، والله أعلم.
فأما ما رواه ابن جرير : حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني ، حدثنا أبي ،
حدثنا عبد الحميد بن بَهْرَام الفزاري ، حدثنا شَهْر بن حَوْشَب قال : سمعت عبد
الله بن عباس يقول : نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء ، إلا ما
كان من المؤمنات المهاجرات ، وحرّم كل ذات دين غير الإسلام ، قال الله عز وجل : {
وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [المائدة : 5]. وقد نكح
طلحة بن عُبَيد الله يهودية ، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية ، فغضب عمر بن الخطاب
غضبًا شديدًا ، حتى هَمَّ أن يسطو عليهما. فقالا نحن نطَلق يا أمير المؤمنين ، ولا
تغضب! فقال : لئن حَلّ طلاقهن لقد حل نكاحهن ، ولكني أنتزعهن منكم صَغَرَة قَمأة
(5) - فهو حديث غريب جدًا. وهذا الأثر عن عمر غريب أيضًا.
__________
(1) في جـ : "عندي حدة".
(2) في أ ، و : "وأخرجكم".
(3) زيادة من جـ.
(4) في أ ، و : "المشركين".
(5) تفسير الطبري (4/364).
(1/582)
قال
أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله ، بعد حكايته الإجماع على إباحة تزويج الكتابيات :
وإنما كره عمر ذلك ، لئلا يزهد الناس في المسلمات ، أو لغير ذلك من المعاني ، كما
حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا ابن إدريس ، حدثنا الصلت بن بهرام ، عن شقيق قال : تزوج
حذيفة يهودية ، فكتب إليه عمر : خَل سبيلها ، فكتب إليه : أتزعم أنها حرام فأخَلي
سبيلها ؟ فقال : لا أزعم أنها حرام ، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن (1).
وهذا إسناد صحيح ، وروى الخلال عن محمد بن إسماعيل ، عن وَكِيع ، عن الصلت (2)
نحوه.
وقال ابن جرير : حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، حدثنا محمد بن بشر ، حدثنا
سفيان (3) بن سعيد ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن زيد بن وهب قال : قال [لي] (4) عمر
بن الخطاب : المسلم يتزوج النصرانية ، ولا يتزوج النصراني المسلمة.
قال : وهذا أصح إسنادًا من الأول (5) (6).
ثم قال : وقد حدثنا تميم بن المنتصر ، أخبرنا إسحاق الأزرق (7) عن شريك ، عن أشعث
بن سوار ، عن الحسن ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: "نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا".
ثم قال : وهذا الخبر - وإن كان في إسناده ما فيه - فالقول به لإجماع الجميع من
الأمة على صحة القول (8) به (9).
كذا قال ابن جرير ، رحمه الله.
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا وَكِيع ، عن جعفر
بن بُرْقان ، عن ميمون بن مِهْران ، عن ابن عمر : أنه كره نكاح أهل الكتاب ، وتأول
(10) { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ }
وقال البخاري : وقال ابن عمر : لا أعلم شركًا أعظم من أن تقول : ربها (11) عيسى
(12).
وقال أبو بكر الخلال الحنبلي : حدثنا محمد بن هارون (13) حدثنا إسحاق بن
إبراهيم(ح) وأخبرني محمد بن علي ، حدثنا صالح بن أحمد : أنهما سألا أبا عبد الله
أحمد بن حنبل ، عن قول
__________
(1) تفسير الطبري (4/366).
(2) في جـ : "عن الفضل".
(3) في أ : "شقيق".
(4) زيادة من جـ.
(5) في جـ : "وهذا إسناد أصح من الأول".
(6) تفسير الطبري (4/367).
(7) في أ : "وقد حدثنا تميم بن المنتصر ، أخبرنا عثمان بن المنتصر ، أخبرنا
إسحاق الأزرق".
(8) في جـ ، أ ، و : "الجميع من الأمة عليه".
(9) تفسير الطبري (4/367).
(10) في جـ : "ولا يتأول".
(11) في أ : "ربنا".
(12) صحيح البخاري برقم (5285) وهو هنا موصولا عن ابن عمر.
(13) في أ ، و : "محمد بن أبي هارون".
(1/583)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
الله
: { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } قال : مشركات العرب الذين
يعبدون الأوثان (1).
وقوله : { وَلأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ }
قال السدي : نزلت في عبد الله بن رواحة ، كانت له أمة سوداء ، فغضب عليها فلطمها ،
ثم فزع ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره خبرها. فقال له : "ما
هي ؟" قال : تصوم ، وتصلي ، وتحسن الوضوءَ ، وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك
رسول الله. فقال : "يا أبا عبد الله ، هذه مؤمنة". فقال : والذي بعثك
بالحق لأعتقَنَّها ولأتزوجَنها (2). ففعل ، فطعن عليه ناس من المسلمين ، وقالوا :
نكح أمَة. وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين ، ويُنكحوهم رغبة في أحسابهم ،
فأنزل الله : { وَلأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ
} { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ }
وقال عبد بن حميد : حدثنا جعفر بن عون ، حدثنا عبد الرحمن بن زياد الإفريقي ، عن
عبد الله بن يزيد ، عن عبد الله بن عَمْرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"لا تنكحوا النساء لحسنهن ، فعسى حسنهن أن يرديهن ، ولا تنكحوهن على أموالهن
فعسى أموالهن أن تطغيهن (3) وانكحوهن على الدين ، فلأمة سوداء خَرْماء ذات دين
أفضل" (4). والإفريقي ضعيف.
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "تنكح
المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ولجمالها ، ولدينها ؛ فاظفر بذات الدين تربت
يداك" (5). ولمسلم عن جابر مثله (6). وله ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : "الدنيا متاع ، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة"
(7).
وقوله : { وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا } أي : لا تُزَوّجوا
الرجال المشركين النساء المؤمنات ، كما قال تعالى : { لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا
هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } [الممتحنة : 10].
ثم قال تعالى : { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ }
أي : ولرجل مؤمن - ولو كان عبدًا حبشيًا - خير من مشرك ، وإن كان رئيسًا سَرِيًا
(8) { أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } أي : معاشَرتهم ومخالطتهم تبعث على حب
الدنيا واقتنائها وإيثارها على الدار الآخرة ، وعاقبة ذلك وخيمة { وَاللَّهُ
يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ } أي : بشرعه وما أمر به وما
نهى عنه { وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي
الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ
فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ
فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) }
__________
(1) في جـ ، أ ، و : "الأصنام".
(2) في أ : "لأعتقها ولأتزوجنها".
(3) في جـ : "أن يطغيهن".
(4) المنتخب لعبد بن حميد برقم (328).
(5) صحيح البخاري برقم (5090) وصحيح مسلم برقم (1466).
(6) صحيح مسلم برقم (715).
(7) صحيح مسلم برقم (1457).
(8) في جـ : "شريفا".
(1/584)
قال
الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس
: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يُؤَاكلوها ولم يجامعوها في البيوت ،
فسأل أصحابُ النبي [النبيَّ] (1) صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل : {
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي
الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } حتى فرغ
من الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اصنعوا كل شيء إلا
النكاح". فبلغ ذلك اليهود ، فقالوا : ما يريد هذا الرجل أن يَدع من أمرنا
شيئًا إلا خالفنا فيه! فجاء أسيد بن حُضَير وعبَّاد بن بشر فقالا يا رسول الله ،
إن اليهود قالت كذا وكذا ، أفلا نجامعهن ؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى ظننا أن (2) قد وَجَدَ عليهما ، فخرجا ، فاستقبلتهما (3) هدية من لبن إلى رسول
(4) الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل في آثارهما ، فسقاهما ، فعرفا أن لم يَجدْ
عليهما.
رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة (5).
فقوله : { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } يعني [في] (6) الفَرْج ،
لقوله : "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" (7) ؛ ولهذا ذهب كثير من العلماء أو
أكثرهم إلى أنه تجوز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج.
قال أبو داود : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن بعض
أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد من
الحائض شيئًا ، ألقى على فرجها ثوبًا (8).
وقال أبو داود أيضًا : حدثنا القَعْنَبِيّ ، حدثنا عبد الله - يعني ابن عمر بن
غانم - عن عبد الرحمن - يعني ابن زياد - عن عمارة بن غُرَاب : أن عمَّة له حدثته :
أنها سألت عائشة قالت : إحدانا تحيض ، وليس لها ولزوجها فراش إلا فراش واحد ؟ قالت
: أخبرك بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم : دخل فمضى إلى مسجده - قال أبو
داود : تعني مسجد بيتها - فما انصرف حتى غلبتني عيني ، وأوجعه البرد ، فقال : "ادني
مني". فقلت : إني حائض. فقال : "اكشفي عن فخذيك". فكشفت فخذي ،
فوضع خدّه وصدره على فخذي ، وحنَيت (9) عليه حتى دفئ ونام صلى الله عليه وسلم
(10).
وقال : أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا أيوب عن
كتاب أبي قلابة : أن مسروقًا ركب إلى عائشة ، فقال : السلام على النبي وعلى أهله
(11). فقالت عائشة : أبو (12)
__________
(1) زيادة من أ ، و.
(2) في جـ : "أنه".
(3) في أ ، و : "فاستقبلهما".
(4) في جـ : "من لبن لرسول".
(5) المسند (3/132) وصحيح مسلم برقم (302).
(6) زيادة من أ.
(7) في جـ ، أ ، و : "إلا الجماع".
(8) سنن أبي داود برقم (272)
(9) في أ : "وحننت".
(10) سنن أبي داود برقم (270).
(11) في جـ : "الصلاة على النبي وعلى آله".
(12) في أ : "ابن".
(1/585)
عائشة!
مرحبًا مرحبًا. فأذنوا له فدخل ، فقال : إني أريد أن أسألك (1) عن شيء ، وأنا
أستحي. فقالت : إنما أنا أمّك ، وأنت ابني. فقال : ما للرجل من امرأته وهي حائض ؟
فقالت : له كل شيء إلا فرجها (2).
ورواه أيضًا عن حميد بن مسعدة ، عن يزيد بن زريع ، عن عيينة بن عبد الرحمن بن
جَوْشن ، عن مروان الأصفر ، عن مسروق قال : قلت لعائشة : ما يحل للرجل من امرأته
إذا كانت حائضًا ؟ قالت : كل شيء إلا الجماع.
وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وعكرمة.
وروى ابن جرير أيضًا ، عن أبي كُرَيْب ، عن ابن أبي زائدة ، عن حجاج ، عن ميمون بن
مِهْران ، عن عائشة قالت : له ما فوق الإزار.
قلت : وتحل مضاجعتها ومؤاكلتها بلا خلاف. قالت عائشة : كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يأمرني فأغسل رأسه وأنا حائض ، وكان يتكئ في حجري وأنا حائض ، فيقرأ
القرآن (3). وفي الصحيح عنها قالت : كنت أتعرّق العَرْق وأنا حائض ، فأعطيه النبي
صلى الله عليه وسلم ، فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه ، وأشرب الشراب
فأناوله ، فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب (4).
وقال أبو داود : حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا يحيى ، عن جابر بن صُبْح (5) سمعت خلاسًا
الهَجَري قال : سمعت عائشة تقول : كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نبيت في
الشعار الواحد ، وإني حائض طامث ، فإن أصابه مني شيء ، غسل مكانه لم يَعْدُه ، وإن
أصاب - يعني ثوبه - شيء غسل مكانه لم يَعْدُه ، وصلى فيه (6).
فأما ما رواه أبو داود : حدثنا سعيد بن عبد الجبار ، حدثنا عبد العزيز - يعني ابن
محمد - عن أبي اليمان ، عن أم ذرة ، عن عائشة : أنها قالت : كنتُ إذا حضْتُ نزلت
عن المثَال على الحصير ، فلم نقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ندن منه حتى
نطهر (7) - فهو محمول (8) على التنزه والاحتياط.
وقال آخرون : إنما تحل له مباشرتها فيما عدا ما تحت الإزار ، كما ثبت في الصحيحين
، عن ميمونة بنت الحارث الهلالية قالت : كان النبي (9) صلى الله عليه وسلم إذا
أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض (10). وهذا لفظ البخاري.
ولهما عن عائشة نحوه (11).
وروى الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة من حديث العلاء بن الحارث ،
عن حزام
__________
(1) في أ : "إني سائلك".
(2) تفسير الطبري (4/378).
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (297).
(4) صحيح مسلم برقم (300).
(5) في جـ ، أ ، و : "صبيح".
(6) سنن أبي داود برقم (269).
(7) سنن أبي داود برقم (271).
(8) في جـ : "فمحمول".
(9) في جـ : "كان رسول الله".
(10) صحيح البخاري برقم (303) وصحيح مسلم برقم (294).
(11) صحيح البخاري برقم (300) وصحيح مسلم برقم (293).
(1/586)
بن
حكيم ، عن عمه عبد الله بن سعد الأنصاري : أنه سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم
: ما يَحِل لي من امرأتي وهي حائض ؟ قال : "ما (1) فوق الإزار" (2).
ولأبي داود أيضًا ، عن معاذ بن جبل قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما
يحل لي من امرأتي وهي حائض (3). قال : "ما فوق الإزار والتعفف عن ذلك
أفضل". وهو رواية عن عائشة - كما تقدم - وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ،
وشريح.
فهذه الأحاديث وما شابهها حجة من ذهب إلى أنه يحل ما فوق الإزار منها ، وهو أحد
القولين في مذهب الشافعي رحمه الله ، الذي رجحه كثير من العراقيين وغيرهم. ومأخذهم
(4) أنه حريم الفرج ، فهو حرام ، لئلا يتوصل إلى تعاطي ما حرم الله عز وجل ، الذي
أجمع العلماء على تحريمه ، وهو المباشرة في الفرج. ثم من فعل ذلك فقد أثم ،
فيستغفر الله ويتوب إليه. وهل يلزمه مع ذلك كفارة أم لا ؟ فيه قولان :
أحدهما : نعم ، لما رواه الإمام أحمد ، وأهل السنن ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض : "يتصدق بدينار ، أو نصف
دينار" (5). وفي لفظ للترمذي : "إذا كان دمًا أحمر فدينار ، وإن كان
دمًا أصفر فنصف دينار". وللإمام أحمد أيضًا ، عنه : أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم جعل في الحائض تصاب ، دينارًا فإن أصابها وقد أدبر الدم عنها ولم تغتسل
، فنصف دينار.
والقول الثاني : وهو الصحيح الجديد من مذهب الشافعي ، وقول الجمهور : أنه لا شيء
في ذلك ، بل يستغفر الله عز وجل ، لأنه لم يصح عندهم رفع هذا الحديث ، فإنه [قد]
(6) روي مرفوعًا كما تقدم وموقوفًا ، وهو الصحيح عند كثير من أئمة الحديث ، فقوله
تعالى : { وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } تفسير لقوله : { فَاعْتَزِلُوا
النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } ونهي عن قربانهن بالجماع ما دام الحيض موجودًا ،
ومفهومه حله إذا انقطع ، [وقد قال به طائفة من السلف. قال القرطبي : وقال مجاهد
وعكرمة وطاوس : انقطاع الدم يحلها لزوجها ولكن بأن تتوضأ] (7).
وقوله : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } فيه
ندب وإرشاد إلى غشيانهن بعد الاغتسال. وذهب ابن حزم إلى وجوب الجماع بعد كل حيضة ،
لقوله : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ }
وليس له في ذلك مستند ، لأن هذا أمر بعد الحظر. وفيه أقوال لعلماء الأصول ، منهم
من يقول : إنه للوجوب كالمطلق. وهؤلاء يحتاجون إلى جواب ابن حزم ، ومنهم من يقول :
إنه للإباحة ، ويجعلون تقدم النهي عليه قرينة صارفة له عن الوجوب ، وفيه نظر.
والذي ينهض عليه الدليل أنه يُرَدّ الحكم إلى ما كان عليه الأمر قبل النهي ، فإن
كان واجبًا فواجب ، كقوله تعالى :
__________
(1) في جـ : "لك ما".
(2) المسند (4/342) وسنن أبي داود برقم (212) وسنن الترمذي برقم (133) وسنن ابن
ماجة برقم (651).
(3) سنن أبي داود برقم (213).
(4) في أ ، و : "ومأخذه".
(5) المسند (1/230) وسنن أبي داود برقم (266) وسنن الترمذي برقم (136) وسنن النسائي
الكبرى برقم (282).
(6) زيادة من جـ.
(7) زيادة من جـ ، أ.
(1/587)
{
فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } [التوبة : 5]
، أو مباحًا فمباح ، كقوله تعالى : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } [المائدة
: 2] ، { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ } [الجمعة : 10]
وعلى هذا القول تجتمع الأدلة ، وقد حكاه الغزالي وغيره ، واختاره بعض أئمة
المتأخرين ، وهو الصحيح.
وقد اتفق العلماء (1) على أن المرأة إذا انقطع حيضُها لا تحل حتى تغتسل بالماء أو
تتيمم ، إن (2) تعذر ذلك عليها بشرطه ، [إلا يحيى بن بكير من المالكية وهو أحد
شيوخ البخاري ، فإنه ذهب إلى إباحة وطء المرأة بمجرد انقطاع دم الحيض ، ومنهم من
ينقله عن ابن عبد الحكم أيضا ، وقد حكاه القرطبي عن مجاهد وعكرمة عن طاوس كما
تقدم] (3). إلا أن أبا حنيفة ، رحمه الله ، يقول (4) فيما إذا انقطع دمها لأكثر
الحيض ، وهو عشرة أيام عنده : إنها تحل بمجرد الانقطاع ولا تفتقر إلى غسل [ولا يصح
لأقل من ذلك المزيد في حلها من الغسل ويدخل عليها وقت صلاة إلا أن تكون دمثة ،
فيدخل بمجرد انقطاعه] (5) والله أعلم.
وقال ابن عباس : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } أي : من الدم { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } أي :
بالماء. وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، ومقاتل بن حيان ، والليث بن سعد ،
وغيرهم.
وقوله : { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وغير واحد :
يعني الفَرْج ؛ قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
أَمَرَكُمُ اللَّهُ } يقول في الفرج ولا تَعْدوه (6) إلى غيره ، فمن فعل شيئا من
ذلك فقد اعتدى.
وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ }
أي : أن تعتزلوهن. وفيه دلالة حينئذ على تحريم الوطء في الدبر ، كما سيأتي تقريره
قريبًا.
وقال أبو رَزين ، وعكرمة ، والضحاك وغير واحد : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
أَمَرَكُمُ اللَّهُ } يعني : طاهرات غير حُيَّض ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } أي : من الذنب وإن تكرر (7) غشْيانه ، {
وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } أي : المتنزهين عن (8) الأقذار والأذى ، وهو ما
نهوا عنه من إتيان الحائض ، أو في غير المأتى.
وقوله : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } قال ابن عباس : الحرث موضع الولد {
فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } أي : كيف شئْتم مقبلة ومدبرة في صِمام واحد
، كما ثبتت بذلك الأحاديث.
قال البخاري : حدثنا أبو نُعيم ، حدثنا سفيان عن ابن المنْكَدر قال : سَمعت جابرًا
قال : كانت اليهود تقول : إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول ، فنزلت : {
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } ورواه داود (9)
من حديث سفيان الثوري به (10).
__________
(1) في جـ : "جمهور العلماء".
(2) في جـ : "أو".
(3) زيادة من جـ ، أ.
(4) في جـ : "إلا أبا حنيفة وصاحبيه فإنهم رحمهم الله يقولون".
(5) زيادة من جـ.
(6) في جـ : "ولا تعداه".
(7) في جـ : "وإن تكون".
(8) في جـ ، أ : "من".
(9) في جـ ، أ ، و : "ورواه مسلم وأبو داود".
(10) صحيح البخاري برقم (4528).
(1/588)
وقال
ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني مالك بن أنس
وابن جريج وسفيان بن سعيد الثوري : أن محمد بن المنكدر حدثهم : أن (1) جابر بن عبد
الله أخبره : أن اليهود قالوا للمسلمين : من أتى امرأة وهي مدبرة جاء الولد أحول ،
فأنزل الله عز وجل : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى
شِئْتُمْ }
قال ابن جريج في الحديث : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مقبلة ومدبرة
، إذا كان ذلك في الفرج".
وفي حديث بَهْز بن حكيم بن معاوية بن حَيْدة القشيري ، عن أبيه ، عن جده أنه قال :
يا رسول الله ، نساؤنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال : "حرثك ، ائت حرثك أنى
شئت ، غير ألا تضربَ الوجه ، ولا تقبح ، ولا تهجر إلا في المبيت (2). الحديث ،
رواه أحمد ، وأهل السنن (3).
حديث آخر : قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن لَهِيعة
عن يزيد ابن أبي حبيب ، عن عامر بن يحيى ، عن حنش بن عبد الله ، عن عبد الله بن
عباس قال : أتى ناس من حمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألوه عن أشياء ،
فقال له رجل : إني أجبي النساء ، فكيف ترى في ذلك ، فأنزل الله : { نِسَاؤُكُمْ
حَرْثٌ لَكُمْ } (4).
حديث آخر : قال أبو جعفر الطحاوي في كتابه "مشكل الحديث" : حدثنا أحمد
بن داود بن موسى ، حدثنا يعقوب بن كاسب ، حدثنا عبد الله بن نافع ، عن هشام بن سعد
، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري : أن رجلا أصاب امرأة في
دبرها ، فأنكر الناس عليه ذلك ، فأنزل الله : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ
فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } ورواه ابن جرير عن يونس وعن يعقوب ، به
(5).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا وهيب ، حدثنا عبد الله بن عثمان
بن خُثَيْم (6) عن عبد الرحمن بن سابط قال : دخلت على حفصة ابنة (7) عبد الرحمن بن
أبي بكر فقلت : إني سائلك عن أمر ، وإنى (8) أستحيي أن أسألك. قالت : فلا تستحي يا
ابن أخي. قال : عن إتيان النساء في أدبارهن ؟ قالت : حدثتني أم سلمة أن الأنصار
كانوا لا يَجُبّون النساء ، وكانت اليهود تقول : إنه من جَبَّى امرأته كان الولد
أحول ، فلما قدم المهاجرون المدينة نكحوا في نساء الأنصار ، فجبَّوهُنّ ، فأبت
امرأة أن تطيع زوجها وقالت : لن تفعل ذلك حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فدخلت على أم سلمة فذكرت لها ذلك ، فقالت : اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم استحيت الأنصارية أن تسأله ،
فخرجت ، فحدثت أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "ادعي
الأنصارية" : فدُعيَتْ ، فتلا عليها هذه الآية : " { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ
لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } صمامًا واحدًا".
__________
(1) في جـ : "عن".
(2) في جـ ، أ ، و : "في البيت".
(3) المسند (5/3) وسنن أبي داود برقم (2143) وسنن النسائي الكبرى برقم (9160).
(4) ورواه الطبري في تفسيره (4/413) والطبراني في المعجم الكبير (12/237) من طريق
ابن لهيعة به.
(5) مشكل الآثار برقم (6118).
(6) في جـ : "بن خيثم".
(7) في أ : "بنت".
(8) في جـ : "وأنا".
(1/589)
ورواه
الترمذي ، عن بُنْدَار ، عن ابن مهدي ، عن سفيان ، عن ابن خُثَيْم (1) به (2).
وقال : حسن.
قلت : وقد روي من طريق حماد بن أبي حنيفة ، عن أبيه ، عن ابن خُثَيْم (3) عن يوسف
بن ماهَك ، عن حفصة أم المؤمنين : أن امرأة أتتها فقالت : إن زوجي يأتيني مُحيّيَة
ومستقبلة فكرهته ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : "لا بأس إذا
كان في صمام واحد" (4).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا يعقوب - يعني القَمي (5) - عن
جعفر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، هلكت! قال : "ما الذي أهلكك ؟ "
قال : حولت رحلي البارحة! قال : فلم يرد عليه شيئًا. قال : فأوحى الله إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا
حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } أقبل وأدبر ، واتق الدبر والحيضة".
رواه الترمذي ، عن عبد بن حميد ، عن حسن بن موسى الأشيب ، به (6). وقال : حسن غريب.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن غَيْلان ، حدثنا رِشْدين ، حدثني الحسن بن ثوبان
، عن عامر بن يحيى المعافري ، عن حَنَش ، عن ابن عباس قال : أنزلت هذه الآية : {
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } في أناس من الأنصار ، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم
، فسألوه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "آتها على كل حال ، إذا كان في
الفرج" (7).
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا الحارث بن سريج (8) حدثنا عبد الله بن نافع ، حدثنا
هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد قال : أثفر رجل
امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : أثفر فلان امرأته ، فأنزل
الله عز وجل : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ }
(9).
وقال أبو داود : حدثنا عبد العزيز بن يحيى أبو الأصبغ ، قال : حدثني محمد - يعني
ابن سلمة - عن محمد ابن إسحاق ، عن أبان بن صالح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال :
إن ابن عمر - والله يغفر له - أوهم ، إنما كان أهل هذا الحي من الأنصار - وهم أهل
وثن - مع أهل هذا الحي من يهود - وهم أهل كتاب - وكانوا يرون لهم فضلا عليهم في
العلم ، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم ، وكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء
إلا على حرف ، وذلك أستر ما تكون المرأة ، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك
من فعلهم ، وكان هذا الحي من قريش يَشْرَحون النساء شرحًا منكرًا ، ويتلذذون بهن
مقبلات ومدبرات ومستلقيات. فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من
__________
(1) في جـ : "خيثم".
(2) المسند (6/304) وسنن الترمذي برقم (2979).
(3) في جـ : "خيثم".
(4) مسند أبي حنيفة برقم (102).
(5) في جـ : "العمى".
(6) المسند (1/297) وسنن الترمذي برقم (2980).
(7) المسند (1/268).
(8) في هـ : "شريح".
(9) مسند أبي يعلى (2/354) وقال الهيثمي في المجمع (6/319) : "شيخه الحارث بن
سريج ، ضعيف كذاب" ولكنه توبع ، تابعه يعقوب بن حميد ، فرواه عن عبد الله بن
نافع عن هشام ، عن زيد بن أسلم به ، أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار برقم (6118) وقد
سبق.
(1/590)
الأنصار
، فذهب يصنع بها ذلك ، فأنكرته عليه ، وقالت : إنما كنا نُؤتى على حرف. فاصنع ذلك
وإلا فاجتنبني ، فسرى أمرهما ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل
الله : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } أي :
مقبلات ، ومدبرات ، ومستلقيات - يعني بذلك موضع الولد (1).
تفرد به أبو داود ، ويشهد (2) له بالصحة ما تقدم من الأحاديث ، ولا سيما رواية أم
سلمة ، فإنها مشابهة لهذا السياق.
وقد روى هذا الحديث الحافظ أبو القاسم الطبراني من طريق محمد بن إسحاق ، عن أبان
بن صالح ، عن مجاهد قال : عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته ، أوقفه
(3) عند كل آية منه (4) وأسأله عنها ، حتى انتهيت إلى هذه الآية : { نِسَاؤُكُمْ
حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } فقال ابن عباس : إن هذا الحي
من قريش كانوا يشرحون (5) النساء بمكة ، ويتلذذون بهن.. فذكر القصة بتمام سياقها
(6).
وقول ابن عباس : "إن ابن عمر - والله يغفر له - أوهم". كأنه يشير إلى ما
رواه البخاري :
حدثنا إسحاق ، حدثنا النضر بن شميل ، أخبرنا ابن عون عن نافع قال : كان ابن عمر
إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغُ منه ، فأخذت عليه يومًا فقرأ سورة البقرة ، حتى
انتهى إلى مكان قال (7) : أتدري فيم أنزلت ؟ قلت : لا. قال : أنزلت في كذا وكذا.
ثم مضى. وعن عبد الصمد قال : حدثني أبي ، حدثني أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر : {
فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } قال : يأتيها في.. (8).
هكذا رواه البخاري ، وقد تفرد به من هذه الوجوه (9).
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، حدثنا ابن عون ،
عن نافع قال : قرأت ذات يوم : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ
أَنَّى شِئْتُمْ } فقال ابن عمر : أتدري فيم نزلت ؟ قلت : لا. قال : نزلت في إتيان
النساء في أدبارهن (10).
وحدثني أبو قلابة ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، حدثني أبي ، عن أيوب ، عن
نافع ، عن ابن عمر : { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } قال : في الدبر
(11).
وروي من حديث مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، ولا يصح.
وروى النسائي ، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، عن أبي بكر بن أبي أويس ، عن
سليمان بن بلال ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر : أن رجلا أتى امرأته في دبرها ،
فوجد في نفسه من ذلك
__________
(1) سنن أبي داود برقم (2164).
(2) في جـ : "وشهد".
(3) في حـ ، أ ، و : "أوقفه عليه".
(4) في جـ : "فيه".
(5) في جـ : "يشرخون".
(6) المعجم الكبير (11/77).
(7) في جـ : "فقال".
(8) بياض في جميع النسخ ، وفي فتح الباري 8/130 : "كذا وقع في جميع النسخ ،
لم يذكر ما بعد الظرف وهو المجرور ، ووقع في الجمع بين الصحيحين للحميدي : يأتيها
في الفرج. وهو من عنده بحسب ما فهمه" ومستفادا من هامش ط. الشعب.
(9) صحيح البخاري برقم (4526).
(10) تفسير الطبري (4/404).
(11) تفسير الطبري (4/406).
(1/591)
وجدًا
شديدًا ، فأنزل الله : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى
شِئْتُمْ } (1).
قال أبو حاتم الرازي : لو كان هذا عند زيد بن أسلم ، عن ابن عمر لما أولع (2)
الناس بنافع. وهذا تعليل منه لهذا الحديث.
وقد رواه عبد الله بن نافع ، عن داود بن قيس ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ،
عن ابن عمر - فذكره.
وهذا محمول على ما تقدم ، وهو أنه يأتيها في قبلها من دبرها ، لما رواه النسائي
أيضًا عن علي بن عثمان النفيلي ، عن سعيد بن عيسى ، عن المفضل (3) بن فضالة عن عبد
الله بن سليمان الطويل ، عن كعب بن علقمة ، عن أبي النضر : أنه أخبره أنه قال
لنافع مولى ابن عمر : إنه قد أكثر عليك القول : إنك تقول عن ابن عمر إنه أفتى أن
تؤتى النساء في أدبارهن قال : كذبوا علي ، ولكن سأحدثك كيف كان الأمر : إن ابن عمر
عرض المصحف يومًا وأنا عنده ، حتى بلغ : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا
حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } فقال : يا نافعُ ، هل تعلم من أمر هذه الآية ؟ قلت
(4) : لا. قال : إنا كنا معشر قريش نُجبِّي (5) النساء ، فلما دخلنا المدينة
ونكحنا نساء الأنصار ، أردنا منهن مثل ما كنا نريد فإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه ،
وكانت نساء الأنصار قد أخذن بحال اليهود ، إنما يؤتين على جنوبهن ، فأنزل الله : {
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } (6).
وهذا إسناد صحيح ، وقد رواه ابن مردويه ، عن الطبراني ، عن الحسين بن إسحاق ، عن
زكريا (7) بن يحيى الكاتب العمري ، عن مفضل بن فضالة ، عن عبد الله بن عياش (8) عن
كعب بن علقمة ، فذكره. وقد روينا عن ابن عمر خلاف ذلك صريحا ، وأنه لا يباح ولا
يحل كما سيأتي ، وإن كان قد نسب هذا القول إلى طائفة من فقهاء المدينة وغيرهم ،
وعزاه بعضهم إلى الإمام مالك في كتاب السر (9) وأكثر الناس ينكر أن يصح ذلك عن
الإمام مالك ، رحمه الله. وقد وردت الأحاديث المروية من طرق متعددة بالزجر عن فعله
وتعاطيه ؛ فقال الحسن بن عرفة :
حدثنا إسماعيل بن عياش (10) عن سهيل (11) بن أبي صالح ، عن محمد بن المنكدر ، عن
جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "استحيوا ، إن الله لا يستحيي
من الحق ، لا يحل مأتى النساء في حشوشهن" (12).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن عبد (13) بن شداد عن رجل
عن خزيمة بن ثابت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يأتي الرجل امرأته في
دبرها (14).
__________
(1) سنن النسائي الكبرى برقم (8981).
(2) في جـ : "لما ولع".
(3) في جميع المخطوطات : "الفضل" ، والصواب ما أثبتناه.
(4) في جـ ، أ : "قال".
(5) في أ : "نجب".
(6) سنن النسائي الكبرى برقم (8978).
(7) في أ : "عن أبي زكريا".
(8) في أ : "عباس".
(9) في أ : "السير".
(10) في أ : "عباس".
(11) في جـ ، أ : "عن سهل".
(12) ورواه الدارقطني في السنن (3/288) من طريق الحسن بن عرفة به.
(13) في جـ ، أ : "عن عبد الله".
(14) المسند (5/215) وسنن النسائي الكبرى برقم (8985 ، 8986) وسنن ابن ماجة برقم
(1924) وانظر الاختلاف فيه في : سنن النسائي (5/316 - 319).
(1/592)
طريق
أخرى : قال أحمد : حدثنا يعقوب ، سمعت أبي يحدث ، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة
ابن الهاد : أن عبيد الله بن الحصين الوالبي حَدَّثه أن هرمي بن عبد الله الواقفي
حدثه : أن خزيمة بن ثابت الخطمي حدثه : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"لا يستحيي الله من الحق ، لا يستحي الله من الحق - ثلاثا - لا تأتوا النساء
في أعجازهن".
ورواه النسائي ، وابن ماجة من طرق ، عن خزيمة بن ثابت. وفي إسناده اختلاف كثير.
حديث آخر : قال أبو عيسى الترمذي ، والنسائي : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو
خالد الأحمر ، عن الضحاك بن عثمان ، عن مَخْرمة بن سليمان ، عن كُرَيْب ، عن ابن
عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا ينظر الله إلى رجل أتى
رجلا أو امرأة في الدبر". ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب (1). وهكذا
أخرجه ابن حبان في صحيحه (2). وصححه ابن حزم أيضًا. ولكن رواه النسائي ، عن هناد ،
عن وكيع ، عن الضحاك ، به (3) موقوفًا.
وقال عبد : أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن ابن طاوس ، عن أبيه : أن رجلا سأل
ابن عباس عن إتيان المرأة في دبرها ، قال (4) : تسألني عن الكفر! [إسناد صحيح]
(5).
وكذا رواه النسائي ، من طريق ابن المبارك ، عن معمر (6) - به نحوه.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، عن
عَمْرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"الذي يأتي امرأته في دبرها هي اللوطية الصغرى" (7).
وقال عبد الله بن أحمد : حدثني هدبة ، حدثنا همام ، قال : سُئل قتادة عن الذي يأتي
امرأته في دبرها. فقال قتادة : حدثنا عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده : أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال : "هي اللوطية الصغرى".
قال قتادة : وحدثني عقبة بن وسَّاج ، عن أبي الدرداء قال : وهل يفعل ذلك إلا كافر
؟ (8).
وقد روى هذا الحديث يحيى بن سعيد القطان ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن
أبي أيوب ، عن عبد الله بن عمرو (9) بن العاص ، قوله. وهذا أصح ، والله أعلم.
وكذلك رواه عبد بن حميد ، عن يزيد بن هارون ، عن حميد الأعرج ، عن عمرو بن شعيب ،
عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو ، موقوفًا من قوله.
طريق أخرى : قال جعفر الفريابي : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لهيعة ، عن عبد الرحمن
بن زياد بن العم ، عن أبي عبد الرحمن الحُبلي ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سبعة لا ينظر
__________
(1) سنن الترمذي برقم (1165) وسنن النسائي الكبرى برقم (9001).
(2) صحيح ابن حبان برقم (1302) "موارد".
(3) سنن النسائي الكبرى برقم (9002).
(4) في جـ : "فقال".
(5) زيادة من جـ ، أ ، و.
(6) في هـ : "عن عكرمة" وهو خطأ.
(7) المسند (2/210).
(8) زوائد المسند (2/210).
(9) في جـ : "عمر".
(1/593)
الله
إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ، ويقول : ادخلوا النار مع الداخلين : الفاعل
والمفعول به ، والناكح يده ، وناكح البهيمة ، وناكح المرأة في دبرها ، وجامع بين
المرأة وابنتها ، والزاني بحليلة جاره ، والمؤذي جاره حتى يلعنه" (1).
ابن لَهيعة وشيخه ضعيفان.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان ، عن عاصم ، عن
عيسى بن حطان ، عن مُسْلم بن سَلام ، عن علي بن طلق ، قال : نهى رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن تؤتى النساء في أدبارهن ؛ فإن الله لا يستحيي من الحق (2).
وأخرجه أحمد أيضًا ، عن أبي معاوية ، وأبو عيسى الترمذي من طريق أبي معاوية أيضًا
، عن عاصم الأحول [به] (3) وفيه زيادة ، وقال : هو حديث حسن (4).
ومن الناس من يورد هذا الحديث في مسند علي بن أبي طالب ، كما وقع في مسند الإمام
أحمد بن حنبل (5) والصحيح أنه علي بن طلق.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن سُهَيل بن
أبي صالح ، عن الحارث بن مُخلَّد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "إن الذي يأتي امرأته في دبرها لا ينظر الله إليه".
وحدثنا عفان ، حدثنا وهيب ، حدثنا سهيل ، عن الحارث بن مخلد ، عن أبي هريرة قال :
قال رسول الله (6) صلى الله عليه وسلم : "لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته
في دبرها".
وكذا رواه ابن ماجة من طريق سهيل (7).
وحدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان عن سهيل بن أبي صالح ، عن الحارث بن مخلد ، عن أبي
هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ملعون من أتى امرأة في
دبرها".
وهكذا رواه أبو داود ، والنسائي من طريق وَكِيع ، به (8).
طريق أخرى : قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني : أخبرنا أحمد بن القاسم بن الريان ،
حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي ، حدثنا هناد ، ومحمد بن إسماعيل - واللفظ له - قالا
حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ملعون من أتى امرأة في دبرها" (9).
__________
(1) ورواه أبو الشيخ في مجلس من حديثه (62/1 ، 2) ، وابن بشران في الأمالي (86/1 ،
2) من طرق عن عبد الرحمن بن زياد الأفريقي به. أ. هـ مستفادا من إرواء الغليل
للألباني (8/59).
(2) ذكره ابن حجر في أطراف المسند (4/384) ولم أجده في المطبوع.
(3) زيادة من جـ ، أ.
(4) ذكره الحافظ ابن حجر في أطراف المسند (4/384) وسنن الترمذي برقم (1164).
(5) المسند (1/86).
(6) في أ ، و : "عن أبي هريرة عن النبي".
(7) المسند (2/344) وسنن ابن ماجة برقم (1923).
(8) المسند (2/444) وسنن أبي داود برقم (2162) وسنن النسائي الكبرى برقم (9015).
(9) رواه أبو نعيم في جزء له عال عن أحمد بن القاسم بن الريان ، قال الذهبي :
"فيه ما ينكر".
(1/594)
ليس
هذا الحديث هكذا في سنن النسائي ، وإنما الذي فيه عن سهيل ، عن الحارث بن مخلد ،
كما تقدم.
قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي : ورواية أحمد بن القاسم بن الريان هذا
الحديث بهذا السند ، وَهْمٌ منه ، وقد ضعفوه.
طريق أخرى : رواها (1) مسلم بن خالد الزِّنْجي ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن
أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى عليه وسلم قال : "ملعون من أتى النساء في
أدبارهن".
ومسلم بن خالد فيه كلام ، والله أعلم.
طريق أخرى : رواها الإمام أحمد ، وأهل السنن من حديث حماد بن سلمة ، عن حكيم
الأثرم ، عن أبي تميمة الهُجيْمي ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : "من أتى حائضًا أو امرأة في دبرها ، أو كاهنًا فصدقه ، فقد كفر
بما أنزل على محمد" (2).
وقال الترمذي : ضعف البخاري هذا الحديث. والذي قاله البخاري في حديث حكيم [الأثرم]
(3) عن أبي تميمة : لا يتابع في حديثه (4).
طريق أخرى : قال النسائي : حدثنا عثمان بن عبد الله ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن
من كتابه ، عن عبد الملك بن محمد الصنعاني ، عن سعيد بن عبد العزيز ، عن الزهري ،
عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "استحيوا من
الله حق الحياء ، لا تأتوا النساء في أدبارهن" (5).
تفرد به النسائي من هذا الوجه.
قال حمزة بن محمد الكنَاني الحافظ : هذا حديث منكر باطل من حديث الزهري ، ومن حديث
أبي سلمة ومن حديث سعيد ؛ فإن كان عبد الملك سمعه من سعيد ، فإنما سمعه بعد
الاختلاط ، وقد رواه الزهري عن أبي سلمة أنه كان ينهى عن ذلك ، فأما عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا. انتهى كلامه.
وقد أجاد وأحسن الانتقاد ؛ إلا أن عبد الملك [بن محمد] (6) الصنعاني لا يعرف أنه
اختلط ، ولم يذكر ذلك أحد غير حمزة الكناني ، وهو ثقة ، ولكن تكلم فيه دُحَيْم ،
وأبو حاتم ، وابن حبان ، وقال : لا يجوز الاحتجاج به ، فالله أعلم. وقد تابعه زيد
بن يحيى بن (7) عبيد ، عن سعيد بن عبد العزيز. وروي من طريقين آخرين ، عن أبي
سلمة. ولا يصح منها شيء.
طريق أخرى : قال النسائي : حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن
سفيان الثوري ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن أبي هريرة قال : إتيان الرجال
النساء (8) في
__________
(1) في جـ : "رواية" ، وفي أ ، و : "ورواه".
(2) المسند (2/408) وسنن أبي داود برقم (3904) وسنن الترمذي برقم (135) وسنن
النسائي الكبرى برقم (9016) وسنن ابن ماجة برقم (639).
(3) زيادة من جـ ، أ ، وفي و : "حكيم الترمذي".
(4) التاريخ الكبير (3/17).
(5) سنن النمسائي الكبرى برقم (9010).
(6) زيادة من جـ ، أ ، و.
(7) في جـ : "عن".
(8) في جـ ، أ : "والنساء".
(1/595)
أدبارهن
كفر (1).
ثم رواه ، عن بُنْدَار ، عن عبد الرحمن ، به. قال : من أتى امرأة (2) في دبرها ملك
(3) كفره (4). هكذا رواه النسائي ، من طريق الثوري ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن أبي
هريرة موقوفًا. وكذا رواه من طريق علي بن بذيمة ، عن مجاهد ، عن أبي هريرة -
موقوفًا (5). ورواه بكر بن خنيس ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن أبي هريرة ، عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال : "من أتى شيئًا من الرجال والنساء في الأدبار فقد
كفر" والموقوف أصح ، وبكر بن خنيس ضعفه غير واحد من الأئمة ، وتركه آخرون
(6).
حديث آخر : قال محمد بن أبان البلخي : حدثنا وكيع ، حدثنا زمعة بن صالح ، عن ابن
طاوس ، عن أبيه - وعن عمرو بن دينار ، عن عبد الله بن يزيد بن الهاد قالا قال عمر
بن الخطاب : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله لا يستحيي من الحق
، لا تأتوا النساء في أدبارهن" (7).
وقد رواه النسائي : حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني ، عن عثمان بن اليمان ، عن زمعة
بن صالح ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن الهاد ، عن عمر قال : "لا تأتوا
النساء في أدبارهن" (8).
وحدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا يزيد بن أبي حكيم ، عن زمعة بن صالح ، عن عمرو بن
دينار ، عن طاوس ، عن عبد الله بن الهاد الليثي قال : قال عمر رضي الله عنه :
استحيوا من الله ، فإن الله لا يستحيي من الحق ، لا تأتوا النساء في أدبارهن (9).
الموقوف أصح.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا غُنْدَر ومعاذ بن معاذ قالا حدثنا شعبة عن
عاصم الأحول ، عن عيسى بن حطان ، عن مسلم بن سلام ، عن طلق بن يزيد - أو يزيد بن
طلق - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله لا يستحيي من الحق ، لا
تأتوا النساء في أستاههن" (10).
وكذا رواه غير واحد ، عن شعبة. ورواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن عاصم الأحول ، عن
عيسى بن حطان ، عن مسلم بن سلام ، عن طلق بن علي ، والأشبه أنه علي بن طلق ، كما
تقدم ، والله أعلم.
حديث آخر : قال أبو بكر الأثرم في سننه : حدثنا أبو مسلم الحَرَميّ ، حدثنا أخي
أنيس بن إبراهيم (11) أن أباه إبراهيم بن عبد الرحمن بن القعقاع أخبره ، عن أبيه
أبي القعقاع ، عن ابن مسعود ،
__________
(1) سنن النسائي الكبرى برقم (9018).
(2) في جـ ، أ ، و : "امرأته".
(3) في جـ : "تلك" ، وفي أ : "وذلك".
(4) سنن النسائي الكبرى برقم (9019).
(5) سنن النسائي الكبرى برقم (9021).
(6) رواه العقيلي في الضعفاء الكبير (1/149).
(7) ذكره الدارقطني في العلل (2/167) قال : "ولم يذكر طاوسا في حديث عمرو بن
دينار ، وقول عثمان بن اليمان أصحها".
(8) سنن النسائي الكبرى برقم (9008).
(9) سنن النسائي الكبرى برقم (9009).
(10) ذكره الحافظ ابن حجر في أطراف المسند (4/384) من طريق غندر في مسند علي بن
طلق ، ولا أدري كيف وقع هنا يزيد بن طلق ، وقد بين الحافظ الصواب في ذلك ، والله
أعلم.
(11) في أ : "أخي أنيس بن أبي تميم".
(1/596)
رضي
الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "محاش النساء حرام" (1).
وقد رواه إسماعيل بن علية ، وسفيان الثوري ، وشعبة ، وغيرهم ، عن أبي عبد الله
الشقري - واسمه سلمة بن تمام : ثقة - عن أبي القعقاع ، عن ابن مسعود - موقوفًا.
وهو أصح.
طريق أخرى : قال ابن عدي : حدثنا أبو عبد الله المحاملي ، حدثنا سعيد بن يحيى
الأموي ، حدثنا محمد بن حمزة ، عن زيد بن رفيع عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تأتوا النساء في أعجازهن" (2)
محمد بن حمزة هو الجزري وشيخه ، فيهما مقال.
وقد روي من حديث أبي بن كعب (3) والبراء بن عازب ، وعقبة بن عامر (4) وأبي ذر ،
وغيرهم. وفي كل منها (5) مقال لا يصح معه الحديث ، والله أعلم.
وقال الثوري ، عن الصَّلت بن بَهْرام ، عن أبي المعتمر ، عن أبي جويرية (6) قال :
سأل رجل عليا عن إتيان امرأة في دبرها ، فقال : سفلت ، سَفَّلَ الله بك! ألم تسمع
إلى قول الله عز وجل : { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ
أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ } [الأعراف : 80].
وقد تقدم قول ابن مسعود ، وأبي الدرداء ، وأبي هريرة ، وابن عباس ، وعبد الله بن
عمرو في تحريم ذلك ، وهو الثابت بلا شك عن عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، أنه
يحرمه.
قال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الدارمي في مسنده : حدثنا عبد الله بن
صالح ، حدثنا الليث ، عن الحارث بن يعقوب ، عن سعيد بن يسار أبي الحباب قال : قلت
لابن عمر : ما تقول في الجواري ، أنحمض لهن ؟ قال : وما التحميض ؟ فذكر الدُّبر.
فقال : وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين ؟
وكذا رواه ابن وهب وقتيبة ، عن الليث ، به. وهذا إسناد صحيح ونص صريح منه بتحريم
ذلك ، فكل ما ورد عنه مما يحتمل ويحتمل فهو مردود إلى هذا المحكم (7).
وقال ابن جرير : حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا أبو زيد عبد
الرحمن بن أحمد بن أبي الغمر (8) حدثني عبد الرحمن بن القاسم ، عن مالك بن أنس أنه
قيل له : يا أبا عبد الله ، إن الناس يروون عن سالم بن عبد الله أنه قال : كذب
العبد ، أو العلج ، على أبي [عبد الله] (9) فقال مالك : أشهد على يزيد بن رومان
أنه أخبرني ، عن سالم بن عبد الله ، عن ابن عمر مثل ما قال نافع. فقيل له : فإن الحارث
بن يعقوب يروي عن أبي الحباب سعيد بن يسار : أنه سأل ابن عمر فقال له : يا أبا عبد
الرحمن ، إنا نشتري الجواري أفنحمض لهن ؟ فقال : وما التحميض ؟ فذكر له الدبر.
فقال ابن عمر : أف! أف! أيفعل ذلك مؤمن - أو قال : مسلم - فقال مالك : أشهد على
ربيعة
__________
(1) ورواه الدولابي في الكنى (2/85).
(2) الكامل لابن عدي (3/206).
(3) حديث أبي بن كعب رواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (5457) من طريق أبي قلابة ،
عن زر بن حبيش ، عن أبي بن كعب به
(4) حديث عقبة بن عامر رواه ابن عدي في الكامل (4/148) من طريق ابن لهيعة ، عن مشرح
بن هاعان ، عن عقبة به.
(5) في أ : "منهما".
(6) في جـ : "عن أبي جرير به" ، وفي أ : "عن أبي جويرة".
(7) في جـ ، أ : "هذا الحكم".
(8) في جـ ، أ ، و : "أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن أبي الغمر".
(9) زيادة من جـ.
(1/597)
لأخبرني
عن أبي الحباب ، عن ابن عمر ، مثل ما قال نافع (1).
وروى النسائي ، عن الربيع بن سليمان ، عن أصبغ بن الفرج الفقيه ، حدثنا عبد الرحمن
بن القاسم قال : قلت لمالك : إن عندنا بمصر الليث بن سعد يحدث عن الحارث بن يعقوب
، عن سعيد (2) بن يسار ، قال : قلت لابن عمر : إنا نشتري الجواري ، فنحمض لهن ؟
قال : وما التحميض ؟ قلت : نأتيهن في أدبارهن. فقال : أف! أف! أو يعمل هذا مسلم ؟
فقال لي مالك : فأشهد على ربيعة لحدثني عن سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر ، فقال :
لا بأس به (3).
وروى النسائي أيضًا من طريق يزيد بن رومان ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أن
ابن عمر (4) كان لا يرى بأسًا أن يأتي الرجل المرأة في دبرها (5).
وروى معن (6) بن عيسى ، عن مالك : أنّ ذلك حرام.
وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري : حدثني إسماعيل بن حصين ، حدثني إسماعيل (7) بن
روح : سألت مالك بن أنس : ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن : قال : ما أنتم قوم
عرب. هل يكون الحرث إلا موضع الزرع ، لا تعدو الفرج.
قلت : يا أبا عبد الله ، إنهم يقولون : إنك تقول ذلك ؟! قال : يكذبون علي ، يكذبون
علي.
فهذا هو الثابت عنه ، وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل وأصحابهم
قاطبة. وهو قول سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة ، وعكرمة ، وطاوس ، وعطاء ، وسعيد بن
جبير ، وعروة بن الزبير ، ومجاهد بن جبر (8) والحسن وغيرهم من السلف : أنهم أنكروا
ذلك أشد الإنكار ، ومنهم من يطلق على فاعله (9) الكفر ، وهو مذهب جمهور العلماء.
وقد حكي في هذا شيء عن بعض فقهاء المدينة ، حتى حكوه عن الإمام مالك ، وفي صحته
عنه نظر.
[وقد روى ابن جرير في كتاب النكاح له وجمعه عن يونس بن عبد الأحوص بن وهب إباحته]
(10).
قال الطحاوي : روى أصبغ بن الفرج ، عن عبد الرحمن بن القاسم قال : ما أدركت أحدًا
أقتدي به في ديني يشك أنه حلال. يعني وطء المرأة في دبرها ، ثم قرأ : {
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } ثم قال : فأي شيء أبين من هذا ؟ هذه حكاية الطحاوي.
وقد روى (11) الحاكم ، والدارقطني ، والخطيب البغدادي ، عن الإمام مالك من طرق ما
يقتضي
__________
(1) تفسير الطبري (4/405).
(2) في أ : "عن سفيان".
(3) سنن النسائي الكبرى برقم (8979).
(4) في أ ، و : "أن عبد الله بن عمر".
(5) سنن النسائي الكبرى برقم (8980).
(6) في هـ : "معمر" والصواب ما أثبتناه من جـ ، أ ، و.
(7) في جـ ، أ ، و : "حدثني إسرائيل".
(8) في جـ : "بن جبير".
(9) في أ ، و : "على فعله".
(10) زيادة من جـ ، أ ، و.
(11) في جـ : "وقد أورد".
(1/598)
وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
إباحة
ذلك. ولكن في الأسانيد ضعف شديد ، وقد استقصاها شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي
في جزء جمعه في ذلك ، فالله أعلم.
وقال الطحاوي : حكى لنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أنه سمع الشافعي يقول : ما
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحليله ولا تحريمه شيء. والقياس أنه حلال. وقد
روى ذلك أبو بكر الخطيب ، عن أبي سعيد الصيرفي ، عن أبي العباس الأصم ، سمعت محمد
بن عبد الله بن عبد الحكم ، سمعت الشافعي يقول... فذكر. قال أبو نصر الصباغ : كان
الربيع يحلف بالله الذي لا إله إلا هو : لقد كذب - يعني ابن عبد الحكم - على
الشافعي في ذلك فإن الشافعي نص على تحريمه في ستة (1) كتب من كتبه ، والله أعلم.
وقال القرطبي في تفسيره : وممن ينسب إليه هذا القول - وهو إباحة وطء المرأة في
دبرها - سعيد ابن المسيب ونافع وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وعبد الملك بن
الماجشون. وهذا القول في العتبية. وحكى ذلك عن مالك في كتاب له أسماه كتاب السر ،
وحذاق أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب ، ومالك أجل من أن يكون له كتاب السر
ووقع هذا القول في العتبية ، وذكر ابن العربي أن ابن شعبان أسند هذا القول إلى
زمرة كبيرة من الصحابة والتابعين وإلى مالك من رواية كثيرة من كتاب جماع النسوان
وأحكام القرآن هذا لفظه قال : وحكى الكيا الهراسي الطبري عن محمد بن كعب القرظي
أنه استدل على جواز ذلك بقوله : { أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ*
وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
عَادُونَ } الشعراء : [165 ، 166].
يعني مثله من المباح ثم رده بأن المراد بذلك من خلق الله لهم من فروج النساء لا
أدبارهن قلت : وهذا هو الصواب وما قاله القرظي إن كان صحيحًا إليه فخطأ. وقد صنف
الناس في هذه المسألة مصنفات منهم أبو العباس القرطبي وسمى كتابه إطهار إدبار من
أجاز الوطء في الأدبار.
وقوله تعالى : { وَقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ } أي : من فعل الطاعات ، مع امتثال ما
نهاكم عنه من ترك المحرمات ؛ ولهذا قال : { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ } أي : فيحاسبكم على أعمالكم جميعًا.
{ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } أي : المطيعين لله فيما أمرهم ، التاركين ما عنه (2)
زجرهم.
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا حسين ، حدثني محمد بن كثير ، عن عبد الله بن
واقد ، عن عطاء - قال : أراه عن ابن عباس - : { وَقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ } قال :
يقول : " باسم الله" ، التسمية عند الجماع.
وقد ثبت في صحيح البخاري ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال : باسم الله ، اللهم جَنِّبنا
الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان
أبدًا" (3).
{ وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا
وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) }
__________
(1) في جـ : "في ست".
(2) في أ : "ما عنهم".
(3) صحيح البخاري برقم (141).
(1/599)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
{ لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) }
(1/599)
يقول
تعالى : لا تجعلوا أيمانكم بالله تعالى مانعة لكم من البر وصلة الرحم إذا حلفتم
على تركها ، كقوله تعالى : { وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ
أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ
لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [النور : 22] ، فالاستمرار على اليمين آثَمُ
لصاحبها من الخروج منها بالتكفير. كما قال البخاري :
حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن همام بن منبه ،
قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "نحن
الآخرون السابقون يوم القيامة" ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"والله لأن يلجَّ أحدكم بيمينه في أهله آثمُ له عند الله من أن يُعطي كفارته
التي افترض الله عليه".
وهكذا رواه مسلم ، عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق ، به. ورواه أحمد ، عنه ، به.
ثم قال البخاري : حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا يحيى بن صالح ، حدثنا معاوية ، هو
ابن سلام ، عن يحيى ، وهو ابن أبي كثير ، عن عكرمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "من استلج في أهله بيمين ، فهو أعظم إثمًا ، ليس
تغني الكفارة".
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ
عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ } قال : لا تجعلن عرضة ليمينك ألا تصنع الخير ، ولكن كفر
عن يمينك واصنع الخير.
وهكذا قال مسروق ، والشعبي ، وإبراهيم النخعي ، ومجاهد ، وطاوس ، وسعيد بن جبير ،
وعطاء ، وعكرمة ، ومكحول ، والزهري ، والحسن ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان ، والربيع
بن أنس ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، والسدي. ويؤيد ما قاله هؤلاء الجمهور ما ثبت
في الصحيحين ، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "إني والله - إن شاء الله - لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا
منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها" وثبت فيهما أيضًا أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة : "يا عبد الرحمن بن سمرة ، لا تسأل
الإمارة ، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها ، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت
إليها ، وإذا حلفت على يمين فرأيت خيرًا منها فأت الذي هو خير وكفر عن
يمينك".
وروى مسلم ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من حلف على
يمين فرأى غيرها خيرًا
(1/600)
منها
، فليكفر عن يمينه ، وليفعل الذي هو خير".
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا خليفة بن خياط ، حدثني
عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من
حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فتركها كفارتها".
ورواه أبو داود من طريق عبيد الله بن الأخنس ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن
آدم ، ولا في معصية الله ، ولا في قطيعة رحم ، ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا
منها فليدعها ، وليأت الذي هو خير ، فإن تركها كفارتها".
ثم قال أبو داود : والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها : " فليكفر عن
يمينه" وهي الصحاح.
وقال ابن جرير : حدثنا علي بن سعيد الكندي ، حدثنا علي بن مُسْهِر ، عن حارثة بن
محمد ، عن عمرة ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من
حلف على قطيعة رحم أو معصية ، فبره أن يحنث فيها ويرجع عن يمينه".
وهذا حديث ضعيف ؛ لأن حارثة [هذا] هو ابن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن ، متروك
الحديث ، ضعيف عند الجميع.
ثم روى ابن جرير عن ابن جبير وسعيد بن المسيب ، ومسروق ، والشعبي : أنهم قالوا :
لا يمين في معصية ، ولا كفارة عليها.
وقوله : { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } أي : لا
يعاقبكم ولا يلزمكم بما صدر منكم من الأيمان اللاغية ، وهي التي لا يقصدها الحالف
، بل تجري على لسانه عادة من غير تعقيد ولا تأكيد ، كما ثبت في الصحيحين من حديث
الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : "من حلف فقال في حلفه : واللات والعزى ، فليقل : لا إله إلا الله"
فهذا قاله لقوم حديثي عهد بجاهلية ، قد أسلموا وألسنتهم قد ألفت ما كانت عليه من
الحلف باللات من غير قصد ، فأمروا أن يتلفظوا بكلمة الإخلاص ، كما تلفظوا بتلك الكلمة
من غير قصد ، لتكون هذه بهذه ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا
كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } كما قال في الآية الأخرى في
المائدة : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ } [المائدة :
89].
قال أبو داود : باب لغو اليمين : حدثنا حميد بن مسعدة الشامي حدثنا حسان - يعني
ابن
(1/601)
إبراهيم
- حدثنا إبراهيم - يعني الصائغ - عن عطاء : في اللغو في اليمين ، قال : قالت عائشة
: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "هو كلام الرجل في بيته : كلا والله
وبلى والله".
ثم قال أبو داود : رواه داود بن أبي الفرات ، عن إبراهيم الصائغ ، عن عطاء ، عن
عائشة موقوفًا. ورواه الزهري ، وعبد الملك ، ومالك بن مِعْول ، كلهم عن عطاء ، عن
عائشة ، موقوفًا أيضًا.
قلت : وكذا رواه ابن جريج ، وابن أبي ليلى ، عن عطاء ، عن عائشة ، موقوفًا.
ورواه ابن جرير ، عن هناد ، عن وَكِيع ، وعبدة ، وأبي معاوية ، عن هشام بن عروة ،
عن أبيه ، عن عائشة في قوله : { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ } [المائدة : 89] قالت : لا والله ، بلى والله.
ثم رواه عن محمد بن حميد ، عن سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن هشام ، عن أبيه ، عنها.
وبه ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن القاسم ، عنها. وبه ، عن سلمة عن ابن أبي
نَجِيح ، عن عطاء ، عنها.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة عن عائشة في قوله : { لا
يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } قالت : هم القوم يتدارؤون
في الأمر ، فيقول هذا : لا والله ، وبلى والله ، وكلا والله يتدارؤون في الأمر :
لا تعقد عليه قلوبهم.
وقد قال ابن أبي حاتم : أخبرنا هارون بن إسحاق الهمداني ، حدثنا عبدة - يعني ابن
سليمان - عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة في قول الله : { لا يُؤَاخِذُكُمُ
اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } قالت : هو قول الرجل : لا والله ، وبلى
والله.
وحدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، حدثني ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن
عروة قال : كانت عائشة تقول : إنما اللغو في المزاحة والهزل ، وهو قول الرجل : لا
والله ، وبلى والله. فذاك لا كفارة فيه ، إنما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن
يفعله ، ثم لا يفعله.
ثم قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عمر ، وابن عباس في أحد أقواله ، والشعبي ،
وعكرمة في أحد قوليه ، وعطاء ، والقاسم بن محمد ، ومجاهد في أحد قوليه ، وعروة بن
الزبير ، وأبي صالح ، والضحاك في أحد قوليه ، وأبي قلابة ، والزهري ، نحو ذلك.
الوجه الثاني : قرئ على يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني الثقة ، عن
ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة : أنها كانت تتأول هذه الآية - يعني قوله : { لا
يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } وتقول : هو الشيء يحلف
عليه أحدكم ، لا يريد منه إلا الصدق ، فيكون على غير ما حلف عليه.
ثم قال : وروي عن أبي هريرة ، وابن عباس - في أحد قوليه - وسليمان بن يسار ، وسعيد
بن جبير ، ومجاهد - في أحد قوليه - وإبراهيم النخعي - في أحد قوليه - والحسن ،
وزرارة بن أوفى ،
(1/602)
وأبي
مالك ، وعطاء الخراساني ، وبكر بن عبد الله ، وأحد قولي عكرمة ، وحبيب بن أبي ثابت
، والسدي ، ومكحول ، ومقاتل ، وطاوس ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، ويحيى بن سعيد ،
وربيعة ، نحو ذلك.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن موسى الحرشي حدثنا عبد الله بن ميمون المرالي ،
حدثنا عوف الأعرابي عن الحسن بن أبي الحسن ، قال : مر رسول الله صلى الله عليه
وسلم بقوم ينتضلون - يعني : يرمون - ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من
أصحابه ، فرمى رجل من القوم فقال : أصبت والله وأخطأت والله. فقال الذي مع النبي
صلى الله عليه وسلم : حنث الرجل يا رسول الله. قال : "كلا أيمان الرماة لغو
لا كفارة فيها ولا عقوبة" هذا مرسل حسن عن الحسن.
وقال ابن أبي حاتم : وروي عن عائشة القولان جميعًا.
حدثنا عصام بن رواد ، أخبرنا آدم ، أخبرنا شيبان ، عن جابر ، عن عطاء بن أبي رباح
، عن عائشة قالت : هو قوله : لا والله ، وبلى والله ، وهو يرى أنه صادق ، ولا يكون
كذلك.
أقوال أخر : قال عبد الرزاق ، عن هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : هو الرجل يحلف
على الشيء ثم ينساه.
وقال زيد بن أسلم : هو قول الرجل : أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا وكذا ، أخرجني
الله من مالي إن لم آتك غدا ، فهو هذا.
قال ابن أبي حاتم : وحدثنا علي بن الحسين ، حدثنا مسدد ، حدثنا خالد ، أخبرنا عطاء
، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان.
وأخبرني أبي ، أخبرنا أبو الجماهر ، حدثنا سعيد بن بشير ، حدثني أبو بشر ، عن سعيد
بن جبير ، عن ابن عباس قال : لغو اليمين أن تحرم ما أحل الله لك ، فذلك ما ليس
عليك فيه كفارة ، وكذا روي عن سعيد بن جبير.
وقال أبو داود "باب اليمين في الغضب" : حدثنا محمد بن المنهال ، أنبأنا
يزيد بن زريع ، حدثنا حبيب المعلم ، عن عمرو بن شعيب ، عن سعيد بن المسيب : أن
أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث ، فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال : إن عدت
تسألني عن القسمة ، فكل مالي في رتاج الكعبة. فقال له عمر : إن الكعبة غنية عن
مالك ، كفر عن يمينك وكلم أخاك ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا
يمين عليك ، ولا نذر في معصية الرب عز وجل ، ولا في قطيعة الرحم ، ولا فيما لا
تملك".
وقوله : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } قال ابن عباس
ومجاهد وغير واحد : هو أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب. قال مجاهد وغيره :
وهي كقوله : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ } الآية
[المائدة : 89]
(1/603)
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
{
وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } أي : غفور لعباده ، حليم عليهم.
{ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ
فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)}
الإيلاء : الحلف ، فإذا حلف الرجل ألا يجامع زوجته مدة ، فلا يخلو : إما أن يكون
أقل من أربعة أشهر ، أو أكثر منها ، فإن كانت أقل ، فله أن ينتظر انقضاء المدة ثم
يجامع امرأته ، وعليها أن تصبر ، وليس لها مطالبته بالفيئة في هذه المدة ، وهذا
كما ثبت في الصحيحين عن عائشة : أن رسول الله آلى من نسائه شهرًا ، فنزل لتسع
وعشرين ، وقال : "الشهر تسع وعشرون" ولهما عن عمر بن الخطاب نحوه. فأما
إن زادت المدة على أربعة أشهر ، فللزوجة مطالبة الزوج عند انقضاء أربعة أشهر : إما
أن يفيء - أي : يجامع - وإما أن يطلق ، فيجبره الحاكم على هذا أو هذا لئلا يضر
بها. ولهذا قال تعالى : { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ } أي : يحلفون على ترك الجماع من
نسائهم ، فيه دلالة على أن الإيلاء يختص بالزوجات دون الإماء كما هو مذهب الجمهور.
{ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } أي : ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف ، ثم
يوقف ويطالب بالفيئة أو الطلاق. ولهذا قال : { فَإِنْ فَاءُوا } أي : رجعوا إلى ما
كانوا عليه ، وهو كناية عن الجماع ، قاله ابن عباس ، ومسروق والشعبي ، وسعيد بن
جبير ، وغير واحد ، ومنهم ابن جرير رحمه الله { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
أي : لما سلف من التقصير في حقهن بسبب اليمين.
وقوله : { فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فيه دلالة لأحد قولي
العلماء - وهو القديم عن الشافعي : أن المولي إذا فاء بعد الأربعة الأشهر أنه لا
كفارة عليه. ويعتضد بما تقدم في الآية التي قبلها ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن
جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من حلف على يمين فرأى غيرها
خيرًا منها فتركها كفارتها" كما رواه أحمد وأبو داود والذي عليه الجمهور وهو
الجديد من مذهب الشافعي أن عليه الكفارة لعموم وجوب التكفير على كل حالف ، كما
تقدم أيضا في الأحاديث الصحاح. والله أعلم.
وقد ذكر الفقهاء وغيرهم - في مناسبة تأجيل المولي بأربعة أشهر - الأثر الذي رواه
الإمام مالك بن أنس ، رحمه الله ، في الموطأ ، عن عمرو بن دينار قال : خرج عمر بن
الخطاب من الليل فسمع امرأة تقول :
تطاوَلَ هذا الليلُ واسودّ جانِبُهْ... وأرقني ألا خليلَ ألاعِبُهْ...
فوالله لولا الله أني أراقبهْ... لحرِّكَ من هذا السرير جوانبه...
(1/604)
فسأل
عمر ابنته حفصة ، رضي الله عنها : كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها ؟ فقالت : ستة
أشهر أو أربعة أشهر. فقال عمر : لا أحبس أحدًا من الجيوش أكثر من ذلك.
وقال : محمد بن إسحاق ، عن السائب بن جبير ، مولى ابن عباس - وكان قد أدرك أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم - قال : ما زلت أسمع حديث عمر أنه خرج ذات ليلة يطوف
بالمدينة ، وكان يفعل ذلك كثيرا ؛ إذ مر بامرأة من نساء العرب مغلقة بابها [وهي]
تقول. تطاول هذا الليل وازورّ جانبه... وأرقني ألا ضجيعَ ألاعِبُهْ...
ألاعبه طورًا وطورًا كأنما... بدا قمرًا في ظلمة الليل حاجبه...
يسرّ به من كان يلهو بقربه... لطيف الحشا لا يحتويه أقاربه...
فوالله لولا الله لا شيء غيره... لنقض من هذا السرير جوانبه...
ولكنني أخشى رقيبًا موكلا... بأنفسنا لا يَفْتُر الدهرَ كاتبه...
ثم ذكر بقية ذلك كما تقدم ، أو نحوه. وقد روى هذا من طرق ، وهو من المشهورات.
وقوله : { وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ } فيه دلالة على أنه لا يقع الطلاق بمجرد مضي
الأربعة أشهر كقول الجمهور ، وذهب آخرون إلى أنه يقع بمضي الأربعة أشهر تطليقة ،
وهو مروي بأسانيد صحيحة عن عمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وابن
عمر ، وزيد بن ثابت ، وبه يقول ابن سيرين ، [ومسروق] والقاسم ، وسالم ، والحسن ،
وأبو سلمة ، وقتادة ، وشريح القاضي ، وقبيصة بن ذؤيب ، وعطاء ، وأبو سلمة بن عبد
الرحمن ، وسليمان بن طرخان التيمي ، وإبراهيم النخعي ، والربيع بن أنس ، والسدي.
ثم قيل : إنها تطلق بمضي الأربعة أشهر طلقة رجعية ؛ قاله سعيد بن المسيب ، وأبو
بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، ومكحول ، وربيعة ، والزهري ، ومروان بن
الحكم. وقيل إنها تطلق طلقة بائنة ، روي عن علي ، وابن مسعود ، وعثمان ، وابن عباس
، وابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وبه يقول : عطاء وجابر بن زيد ، ومسروق وعكرمة ،
والحسن ، وابن سيرين ، ومحمد بن الحنفية ، وإبراهيم ، وقبيصة بن ذؤيب ، وأبو حنيفة
، والثوري ، والحسن بن صالح ، وكل من قال : إنها تطلق بمضي الأربعة أشهر أوجب
عليها العدة ، إلا ما روي عن ابن عباس وأبي الشعثاء : أنها إن كانت حاضت ثلاث حيض
فلا عدة عليها ، وهو قول الشافعي ، والذي عليه الجمهور أنه يوقف فيطالب إما بهذا
أو هذا ولا يقع عليها بمجرد مضيها طلاق.
(1/605)
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
وروى
مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أنه قال : إذا آلى الرجل من امرأته لم يقع
عليه طلاق وإن مضت أربعة أشهر ، حتى يوقف ، فإما أن يطلق ، وإما أن يفيء. وأخرجه
البخاري.
وقال الشافعي ، رحمه الله : أخبرنا سفيان بن عيينة ، عن يحيى بن سعيد ، عن سليمان
بن يسار قال : أدركت بضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يوقف المولي
قال الشافعي : وأقل ذلك ثلاثة عشر. ورواه الشافعي عن علي رضي الله عنه : أنه وقف
المولي. ثم قال : وهكذا نقول ، وهو موافق لما رويناه عن عمر ، وابن عمر ، وعائشة ،
وعن عثمان ، وزيد بن ثابت ، وبضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. هكذا
قال الشافعي ، رحمه الله.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا يحيى بن أيوب ، عن عبيد الله بن عمر ،
عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه قال : سألت اثني عشر رجلا من الصحابة عن الرجل يولي
من امرأته ، فكلهم يقول : ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر فيوقف ، فإن فاء وإلا
طلق.
ورواه الدارقطني من طريق سهيل.
قلت : وهو مروي عن عمر ، وعثمان ، وعلي ، وأبي الدرداء ، وعائشة أم المؤمنين ،
وابن عمر ، وابن عباس. وبه يقول سعيد بن المسيب ، وعمر بن عبد العزيز ، ومجاهد ،
وطاوس ، ومحمد بن كعب ، والقاسم. وهو مذهب مالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ،
وأصحابهم ، رحمهم الله ، وهو اختيار ابن جرير أيضًا ، وهو قول الليث [بن سعد]
وإسحاق بن راهويه ، وأبي عبيد ، وأبي ثور ، وداود ، وكل هؤلاء قالوا : إن لم يفئ
ألزم بالطلاق ، فإن لم يطلق طلق عليه الحاكم ، والطلقة تكون رجعية له رجعتها في
العدة.
وانفرد مالك بأن قال : لا يجوز له رجعتها حتى يجامعها في العدة وهذا غريب جدا.
{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ
لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ
يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ
فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ
بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
(228)}
هذا الأمر من الله سبحانه وتعالى للمطلقات المدخول بهن من ذوات الأقراء ، بأن
يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، أي : بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء
؛ ثم تتزوج إن شاءت ، وقد أخرج الأئمة الأربعة من هذا العموم الأمَة إذا طُلِّقت ،
فإنها تعتدّ عندهم بقرءين ، لأنها على النصف من الحرة ، والقُرْء لا يتبعض فكُمّل
لها قرءان. ولما رواه ابن جريح عن مُظاهر بن أسلم المخزومي المدني ، عن القاسم ،
عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "طلاق الأمة تطليقتان
وعدتها حيضتان".
(1/606)
رواه
أبو داود ، والترمذي وابن ماجة. ولكن مظاهر هذا ضعيف بالكلية. وقال الحافظ
الدارقطني وغيره : الصحيحُ أنه من قول القاسم بن محمد نفسه.
ورواه ابن ماجة من طريق عطية العَوْفِي عن ابن عمر مرفوعًا. قال الدارقطني :
والصحيح ما رواه سالم ونافع ، عن ابن عمر قوله. وهكذا رُوي عن عمر بن الخطاب.
قالوا : ولم يعرف بين الصحابة خلاف. وقال بعض السلف : بل عدتها كعدة الحرة لعموم
الآية ؛ ولأن هذا أمر جِبِلي فكان الإماء والحرائر في هذا سواء ، والله أعلم ، حكى
هذا القول الشيخُ أبو عمر بن عبد البر ، عن محمد بن سيرين وبعض أهل الظاهر ،
وضعفه.
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا إسماعيل - يعني ابن
عَيّاش - عن عمرو بن مهاجر ، عن أبيه : أن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية قالت
: طُلّقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن للمطلقة عدة ، فأنزل
الله ، عز وجل ، حين طلقت أسماء العدة للطلاق ، فكانت أول من نزلت فيها العدة
للطلاق ، يعني : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ
قُرُوءٍ }.
هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقد اختلف السلف والخلف والأئمة في المراد بالأقْرَاء ما هو ؟ على قولين :
أحدهما : أن المراد بها : الأطهار ، وقال مالك في الموطأ عن ابن شهاب ، عن عروة ،
عن عائشة أنها قالت : انتقلت حفصة بنتُ عبد الرحمن بن أبي بكر ، حين دخلت في الدم
من الحيضة الثالثة ، قال الزهري : فذكرتُ ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن ، فقالت : صدق
عروة. وقد جادلها في ذلك ناس فقالوا : إن الله تعالى يقول في كتابه : " ثلاثة
قروء " فقالت عائشة : صدقتم ، وتدرون ما الأقراءُ ؟ إنما الأقراء : الأطهارُ.
وقال مالك : عن ابن شهاب ، سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول : ما أدركت أحدًا من
فقهائنا إلا وهو يقول ذلك ، يريد قول عائشة. وقال مالك : عن نافع ، عن عبد الله بن
عمر ، أنه كان يقول : إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد
بَرئت منه وبرئ منها. وقال مالك : وهو الأمر عندنا. ورُوي مثله عن ابن عباس وزيد
بن ثابت ، وسالم ، والقاسم ، وعروة ، وسليمان بن يسار ، وأبي بكر بن عبد الرحمن ،
وأبان بن عثمان ، وعطاء ابن أبي رباح ، وقتادة ، والزهري ، وبقية الفقهاء السبعة ،
وهو مذهب مالك ، والشافعي [وغير واحد ، وداود وأبي ثور ، وهو رواية عن أحمد ،
واستدلوا عليه بقوله تعالى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [الطلاق : 1] أي
: في الأطهار. ولما كان الطهر الذي يطلق فيه محتسبًا ، دل على أنه أحد الأقراء
الثلاثة المأمور بها ؛ ولهذا قال هؤلاء : إن المعتدة
(1/607)
تنقضي
عدتها وتبين من زوجها بالطعن في الحيضة الثالثة ، وأقل مدة تصدق فيها المرأة في
انقضاء عدتها اثنان وثلاثون يومًا ولحظتان].
واستشهد أبو عُبَيْد وغيره على ذلك بقول الشاعر - وهو الأعشى - :
ففي كل عام أنت جَاشِمُ غَزْوة... تَشُدّ لأقصاها عَزِيمَ عَزَائِكا...
مُوَرَّثة عدَّا ، وفي الحيّ رفعة... لما ضاع فيها من قُروء نسائكا...
يمدح أميرًا من أمراء العرب آثر الغزو على المقام ، حتى ضاعت أيام الطهر من نسائه
لم يواقعهن فيها.
والقول الثاني : أن المراد بالأقراء : الحيض ، فلا تنقضي العدة حتى تطهر من الحيضة
الثالثة ، زاد آخرون : وتغتسل منها. وأقل وقت تصدق فيه المرأة في انقضاء عدتها
ثلاثة وثلاثون يومًا ولحظة. قال الثوري : عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال :
كنا عند عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فجاءته امرأة فقالت : إن زوجي فارقني
بواحدة أو اثنتين فجاءني [وقد وضعت مائي] وقد نزعت ثيابي وأغلقت بابي. فقال عمر
لعبد الله - يعني ابن مسعود - [ما ترى ؟ قال] : أراها امرأته ، ما دون أن تحل لها
الصلاة. قال [عمر : ] وأنا أرى ذلك.
وهكذا روي عن أبي بكر الصديق ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وأبي الدرداء ، وعبادة بن
الصامت ، وأنس بن مالك ، وابن مسعود ، ومعاذ ، وأبي بن كعب ، وأبي موسى الأشعري ،
وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة ، والأسود ، وإبراهيم ، ومجاهد ، وعطاء ،
وطاوس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومحمد بن سيرين ، والحسن ، وقتادة ، والشعبي ،
والربيع ، ومقاتل بن حيان ، والسدي ، ومكحول ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، أنهم
قالوا : الأقراء : الحيض.
وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه ، وأصح الروايتين عن الإمام أحمد بن حنبل ، وحكى عنه
الأثرم أنه قال : الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : الأقراء
الحيض. وهو مذهب الثوري ، والأوزاعي ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، والحسن بن
صالح بن حي ، وأبي عبيد ، وإسحاق بن راهويه.
ويؤيد هذا ما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي ، من طريق المنذر بن
المغيرة ، عن عروة بن الزبير ، عن فاطمة بنت أبي حُبَيش أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال لها : "دعي الصلاة أيام
(1/608)
أقرائك".
فهذا لو صح لكان صريحًا في أن القرء هو الحيض ، ولكن المنذر هذا قال فيه أبو حاتم
: مجهول ليس بمشهور. وذكره ابن حبان في الثقات.
وقال ابن جرير : أصلُ القرء في كلام العرب : "الوقت لمجيء الشيء المعتاد
مجيئه في وقت معلوم ، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم". وهذه
العبارة تقتضي أن يكون مشتركًا بين هذا وهذا ، وقد ذهب إليه بعض [العلماء]
الأصوليين فالله أعلم. وهذا قول الأصمعي : أن القرء هو الوقت. وقال أبو عمرو بن
العلاء : العرب تسمي الحيض : قُرْءًا ، وتسمي الطهر : قرءا ، وتسمي الحيض مع الطهر
جميعًا : قرءا. وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر : لا يختلف أهل العلم بلسان العرب
والفقهاء أن القرء يراد به الحيض ويراد به الطهر ، وإنما اختلفوا في المراد من
الآية ما هو على قولين.
وقوله : { وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي
أَرْحَامِهِنَّ } أي : من حَبَل أو حيض. قاله ابن عباس ، وابن عُمَر ، ومجاهد ،
والشعبي ، والحكم بن عيينة والربيع بن أنس ، والضحاك ، وغير واحد.
وقوله : { إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } تهديد لهن على
قول خلاف الحق. ودل هذا على أن المرجع في هذا إليهن ؛ لأنه أمر لا يعلم إلا من
جهتين ، وتتعذر إقامة البينة غالبًا على ذلك ، فردّ الأمر إليهن ، وتُوُعِّدْنَ
فيه ، لئلا تخبر بغير الحق إما استعجالا منها لانقضاء العدة ، أو رغبة منها في
تطويلها ، لما لها في ذلك من المقاصد. فأمرت أن تخبر بالحق في ذلك من غير زيادة
ولا نقصان.
وقوله : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا
إِصْلاحًا } أي : وزوجها الذي طلقها أحق بردتها ما دامت في عدتها ، إذا كان مراده
بردتها الإصلاح والخير. وهذا في الرجعيات. فأما المطلقات البوائن فلم يكنْ حالَ
نزول هذه الآية مطلقة بائن ، وإنما صار ذلك لما حُصروا في الطلقات الثلاث ، فأما
حال نزول هذه الآية فكان الرجل أحقّ برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة ، فلما قصروا
في الآية التي بعدها على ثلاث تطليقات صار للناس مطلقة بائن وغير بائن. وإذا تأملت
هذا تبين لك ضعف ما سلكه بعض الأصوليين ، من استشهادهم على مسألة عود الضمير - هل
يكون مخصصا لما تقدمه من لفظ العموم أم لا ؟ - بهذه الآية الكريمة ، فإن التمثيل
بها غير مطابق لما ذكروه ، والله أعلم.
وقوله : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي : ولهن على
الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن ، فلْيؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه
بالمعروف ، كما ثبت في صحيح مسلم ، عن جابر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
في خطبته ، في حجة الوداع : "فاتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهُنّ
بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن ألا يُوطِئْنَ فُرُشَكم
أحدًا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مُبَرِّح ، ولهن رزقهن وكسوتهن
بالمعروف". وفي حديث بهز بن حكيم ، عن معاوية بن حَيْدَة القُشَيري ، عن أبيه
، عن جده ، أنه قال : يا رسول الله ، ما حق زوجة أحدنا ؟
(1/609)
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
قال
: "أن تطعمها إذا طعمْتَ ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ، ولا
تُقَبِّح ، ولا تهجر إلا في البيت". وقال وَكِيع عن بشير بن سليمان ، عن
عكرمة ، عن ابن عباس قال : إني لأحب أن أتزيَّن للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة
؛ لأن الله يقول : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } رواه
ابن جرير ، وابن أبي حاتم.
وقوله : { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } أي : في الفضيلة في الخُلُق ،
والمنزلة ، وطاعة الأمر ، والإنفاق ، والقيام بالمصالح ، والفضل في الدنيا والآخرة
، كما قال تعالى : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ
اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } [النساء
: 34].
وقوله : { وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : عزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره
، حكيم في أمره وشرعه وقدره.
{ الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا
يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ
يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ
اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى
تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ
يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)}
هذه الآية الكريمة رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام ، من أن الرجل كان
أحق برجعة امرأته ، وإن طلقها مائة مرة ما دامت في العدة ، فلما كان هذا فيه ضرر
على الزوجات قصرهم الله عز وجل إلى ثلاث طلقات ، وأباح الرجعة في المرة والثنتين ،
وأبانها بالكلية في الثالثة ، فقال : { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ
أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ }
قال أبو داود ، رحمه الله ، في سننه : "باب في نسخ المراجعة بعد الطلقات
الثلاث" : حدثنا أحمد ابن محمد المروزي ، حدثني علي بن الحسين بن واقد ، عن
أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا
خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } الآية : وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته
فهو أحق برجعتها ، وإن طلقها ثلاثا ، فنسخ ذلك فقال : { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ }
الآية.
ورواه النسائي عن زكريا بن يحيى ، عن إسحاق بن إبراهيم ، عن علي بن الحسين ، به.
(1/610)
وقال
ابن أبي حاتم : حدثنا هارون بن إسحاق ، حدثنا عبدة - يعني ابن سليمان - عن هشام بن
عروة ، عن أبيه ، أن رجلا قال لامرأته : لا أطلقك أبدًا ولا آويك أبدًا. قالت :
وكيف ذلك ؟ قال : أطلقك ، حتى إذا دنا أجلك راجعتك. فأتت رسول الله صلى الله عليه
وسلم فذكرت ذلك فأنزل الله عز وجل : { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ }
وهكذا رواه ابن جرير في تفسيره من طريق جَرير بن عبد الحميد ، وابن إدريس. ورواه
عبد بن حُمَيد في تفسيره ، عن جعفر بن عون ، كلهم عن هشام ، عن أبيه. قال : كان
الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها ما شاء ، ما دامت في العدة ، وإن رجلا من
الأنصار غضب على امرأته فقال : والله لا آويك ولا أفارقك. قالت : وكيف ذلك. قال :
أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك ، ثم أطلقك ، فإذا دنا أجلك راجعتك. فذكرت ذلك لرسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ } قال :
فاستقبل الناس الطلاق ، من كان طلق ومن لم يكن طلق.
وقد رواه أبو بكر بن مَرْدُوَيه ، من طريق محمد بن سليمان ، عن يعلى بن شبيب -
مولى الزبير - عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة فذكره بنحو ما تقدم. ورواه الترمذي ،
عن قتيبة ، عن يعلى بن شبيب به. ثم رواه عن أبي كريب ، عن ابن إدريس ، عن هشام ،
عن أبيه مرسلا. قال : هذا أصح. ورواه الحاكم في مستدركه ، من طريق يعقوب بن حميد
بن كاسب ، عن يعلى بن شبيب به ، وقال صحيح الإسناد.
ثم قال ابن مَردُويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا إسماعيل بن عبد الله
، حدثنا محمد بن حميد ، حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن هشام بن عروة
، عن أبيه ، عن عائشة قالت : لم يكن للطلاق وقت ، يطلقُ الرجل امرأته ثم يراجعها
ما لم تنقض العدة ، وكان بين رَجل من الأنصار وبين أهله بعضُ ما يكون بين الناس
فقال : والله لأتركنك لا أيِّمًا ولا ذات زوج ، فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن
تنقضي راجعها ، ففعل ذلك مرارًا ، فأنزل الله عز وجل فيه : { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ
فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } فوقَّتَ الطلاق ثلاثًا لا
رجعة فيه بعد الثالثة ، حتى تنكح زوجًا غيره. وهكذا رُوي عن قتادة مرسلا. وذكره
السدي ، وابن زيد ، وابن جرير كذلك ، واختار أن هذا تفسير هذه الآية.
وقوله : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } أي : إذا طلقتها
واحدة أو اثنتين ، فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية ، بين أن تردها إليك ناويًا
الإصلاح بها والإحسان إليها ، وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها ، فتبين منك ، وتطلق
سراحها محسنًا إليها ، لا تظلمها من حقها شيئًا ، ولا
(1/611)
تُضارّ
بها.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين ، فليتق
الله في الثالثة ، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها أو يسرحها [بإحسان] فلا
يظلمها من حقها شيئا.
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني
سفيان الثوري ، حدثني إسماعيل بن سميع ، قال : سمعت أبا رَزِين يقول : جاء رجل إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أرأيت قول الله عز وجل : {
فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } أين الثالثة ؟ قال :
"التسريح بإحسان".
ورواه عبد بن حميد في تفسيره ، ولفظه : أخبرنا يزيد بن أبي حكيم ، عن سفيان ، عن
إسماعيل بن سميع ، أن أبا رزين الأسدي يقول : قال رجل : يا رسول الله ، أرأيت قول
الله : " الطلاق مرتان " ، فأين الثالثة ؟ قال : "التسريح بإحسان
الثالثة".
ورواه الإمام أحمد أيضًا. وهكذا رواه سعيد بن منصور ، عن خالد بن عبد الله ، عن
إسماعيل بن زكريا وأبي معاوية ، عن إسماعيل بن سميع ، عن أبي رزين ، به. وكذا رواه
قيس بن الربيع ، عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين به مرسلا. ورواه ابن مردويه
[أيضا] من طريق عبد الواحد بن زياد ، عن إسماعيل بن سميع ، عن أنس بن مالك ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره. ثم قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرحيم
، حدثنا أحمد بن يحيى ، حدثنا عبيد الله بن جرير بن جبلة حدثنا ابن عائشة حدثنا
حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فقال : يا رسول الله ، ذكر الله الطلاق مرتين ، فأين الثالثة ؟ قال :
"إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان".
وقوله : { وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا [
إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ] } أي : لا
(1/612)
يحل
لكم أن تُضَاجِروهن وتضيّقوا عليهن ، ليفتدين منكم بما أعطيتموهن من الأصدقة أو
ببعضه ، كما قال تعالى : { وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا
آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } [النساء : 19]
فأما إن وهبته المرأة شيئًا عن طيب نفس منها. فقد قال تعالى : { فَإِنْ طِبْنَ
لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } [النساء : 4]
وأما إذا تشاقق الزوجان ، ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على
معاشرته ، فلها أن تفتدي منه بما أعطاها ، ولا حرج عليها في بذلها ، ولا عليه في
قبول ذلك منها ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا
آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ
خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا
افْتَدَتْ بِهِ } الآية.
فأما إذا لم يكن لها عذر وسألت الافتداء منه ، فقد قال ابن جرير :
حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الوهاب - وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية -
قالا جميعا : حدثنا أيوب ، عن أبي قِلابة ، عمن حدثه ، عن ثوبان ، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال : "أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير بأس فحرام عليها
رائحة الجنة".
وهكذا رواه الترمذي ، عن بندار ، عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي به. وقال حسن
: قال : ويروى ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء ، عن ثوبان. ورواه بعضهم ،
عن أيوب بهذا الإسناد. ولم يرفعه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي
قلابة - قال : وذكر أبا أسماء وذكر ثوبان - قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة
الجنة".
وهكذا رواه أبو داود ، وابن ماجة ، وابن جرير ، من حديث حماد بن زيد ، به.
طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا المعتمر بن سليمان ،
عن ليث ، عن أبي إدريس ، عن ثوبان مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال : "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس ،
حَرّم الله عليها رائحة الجنة". وقال : "المختلعات هن المنافقات".
ثم رواه ابن جرير والترمذي جميعًا ، عن أبي كريب ، عن مزاحم بن ذَوّاد بن عُلْبَة
، عن أبيه ، عن ليث ، هو ابن أبي سليم عن أبي الخطاب ، عن أبي زُرْعَة ، عن أبي
إدريس ، عن ثوبان قال :
(1/613)
قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "المختلعات هن المنافقات". ثم قال
الترمذي : غريب من هذا الوجه ، وليس إسناده بالقوي.
حديث آخر : قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب حدثنا حفص بن بشر ، حدثنا قيس بن
الربيع ، عن أشعث بن سوار ، عن الحسن عن ثابت بن يزيد ، عن عقبة بن عامر قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن المختلعات المنتزعات هن المنافقات"
غريب من هذا الوجه ضعيف.
حديث آخر : قال ابن ماجة : حدثنا بكر بن خلف أبو بشر ، حدثنا أبو عاصم ، عن جعفر
بن يحيى بن ثَوْبان ، عن عمه عمارةَ بن ثوبان ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تسألُ امرأة زوجها الطلاق في غير كُنْهِه
فَتَجِدَ ريح الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا".
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا وهيب ، حدثنا أيوب ، عن الحسن عن
أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : "المختلعات والمنتزعات هن
المنافقات".
ثم قد قال طائفة كثيرة من السلف وأئمة الخلف : إنه لا يجوز الخلع إلا أن يكون
الشقاق والنشوز من جانب المرأة ، فيجوز للرجل حينئذ قبول الفدية ، واحتجوا بقوله :
{ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا [إِلا أَنْ
يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ] }. قالوا : فلم يشرع الخلع إلا في هذه
الحالة ، فلا يجوز في غيرها إلا بدليل ، والأصل عَدَمُه ، وممن ذهب إلى هذا ابن
عباس ، وطاوس ، وإبراهيم ، وعطاء ، [والحسن] والجمهور ، حتى قال مالك والأوزاعي :
لو أخذ منها شيئًا وهو مضارّ لها وجب ردّه إليها ، وكان الطلاق رجعيًا. قال مالك :
وهو الأمر الذي أدركتُ الناسَ عليه. وذهب الشافعي ، رحمه الله ، إلى أنه يجوز
الخلع في حالة الشقاق ، وعند الاتفاق بطريق الأولى والأحرى ، وهذا قول جميع أصحابه
قاطبة. وحكى الشيخ أبو عمر بن عبد البر في كتاب "الاستذكار" له ، عن بكر
بن عبد الله المزني ، أنه ذهب إلى أن الخلع منسوخ بقوله : { وآتَيْتُمْ
إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } [النساء : 20]. ورواه
ابن جرير عنه وهذا قول ضعيف ومأخذ مردود على قائله. وقد ذكر ابن جرير ، رحمه الله
، أن هذه الآية نزلت في شأن ثابت بن قيس بن شَمَّاس وامرأته حبيبة بنت عبد الله بن
أبي ابن سلول. ولنذكر طرق حديثها ، واختلاف ألفاظه :
(1/614)
قال
الإمام مالك في موطئه : عن يحيى بن سعيد ، عن عَمْرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن
زرارة ، أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصارية ، أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن
شماس ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصّبح فوجد حبيبة بنت سهل عند
بابه في الغَلَس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من هذه ؟ "
قالت : أنا حبيبة بنت سهل. فقال : "ما شأنك ؟ " فقالت : لا أنا ولا ثابت
بن قيس - لزوجها - فلما جاء زوجها ثابت بن قيس قال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر". فقالت حبيبة :
يا رسول الله ، كل ما أعطاني عندي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خذ
منها". فأخذ منها وجلست في أهلها.
وهكذا رواه الإمام أحمد ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن مالك بإسناده - مثله. ورواه
أبو داود ، عن القعنبي ، عن مالك. والنسائي ، عن محمد بن مسلمة ، عن ابن القاسم ،
عن مالك به.
حديث آخر : عن عائشة : قال أبو داود وابن جرير : حدثنا محمد بن معمر ، حدثنا أبو
عامر ، حدثنا أبو عمرو السدوسي ، عن عبد الله - بن أبي بكر - عن عمرة ، عن عائشة ،
أن حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس ، فضربها فكسر نُغضها فأتت رسول
الله صلى الله عليه وسلم بعد الصبح فاشتكته إليه ، فدعا رسول الله صلى الله عليه
وسلم ثابتا فقال : "خذ بعض مالها وفارقها". قال : ويصلح ذلك يا رسول
الله ؟ قال : "نعم". قال : فإني أصدقتها حديقتين ، فهما بيدها. فقال
النبي صلى الله عليه وسلم : "خذهما وفارقها". ففعل.
وهذا لفظ ابن جرير. وأبو عمرو السدوسي هو سعيد بن سلمة بن أبي الحسام.
حديث آخر فيه : عن ابن عباس رضي الله عنه :
قال البخاري : حدثنا أزهر بن جميل ، أخبرنا عبد الوهاب الثقفي ، حدثنا خالد ، عن
عكرمة ، عن ابن عباس : أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي صلى الله عليه وسلم
، فقالت : يا رسول الله ، ما أعتب عليه في خلق ولا دين ، ولكن أكره الكفر في
الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتردين عليه حديقته ؟ "
قالت : نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اقبل الحديقة وطلقها
تطليقة".
وكذا رواه النسائي ، عن أزهر بن جميل بإسناده ، مثله. ورواه البخاري أيضًا ، عن
إسحاق الواسطي ، عن خالد هو ابن عبد الله الطحان ، عن خالد ، هو ابن مهران الحذاء
، عن عكرمة به ،
(1/615)
نحوه.
وهكذا رواه البخاري أيضًا من طرق ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، به. وفي
بعضها أنها قالت : لا أطيقه ، تعني : بغضًا. وهذا الحديث من أفراد البخاري من هذا
الوجه.
ثم قال : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عكرمة ، أن
جميلة رضي الله عنها. كذا قال ، والمشهور أن اسمها حبيبة [كما تقدم].
قال الحافظ أبو بكر بن مَردويه في تفسيره : حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا أزهر بن
مروان الرقاشي ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن
عباس ، أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : والله ما أعتب على
ثابت بن قيس بن شماس في دين ولا خلق ، ولكنني أكره الكفر بعد الإسلام ، لا أطيقه
بغضًا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "تردين عليه حديقته ؟ " قالت :
نعم ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد.
وهكذا رواه ابن ماجة عن أزهر بن مروان ، بإسناده مثله سواء ، وهو إسناد جيد مستقيم
ورواه أيضا أبو القاسم البغوي ، عن عبيد الله القواريري ، عن عبد الأعلى ، مثله ،
لكن قال ابن جرير :
حدثنا ابن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا الحسين بن واقد ، عن ثابت ، عن عبد
الله بن رباح عن جميلة بنت أبي ابن سلول : أنها كانت تحت ثابت بن قيس ، فنشزت عليه
، فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "يا جميلة ، ما كرهت من ثابت
؟ " قالت : والله ما كرهت منه دينًا ولا خلقًا ، إلا أني كرهت دمامته! فقال
لها : "أتردين الحديقة ؟ " قالت : نعم. فردت الحديقة ، وفرق بينهما.
قال ابن جرير أيضا : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال :
قرأت على فضيل ، عن أبي جرير أنه سأل عكرمة : هل كان للخلع أصل ؟ قال : كان ابن
عباس يقول : إن أول خلع كان في الإسلام في أخت عبد الله بن أبي ، أنها أتت رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدًا ،
إني رفعتُ جانب الخباء ، فرأيته أقبل في عدة ، فإذا هو أشدهم سوادًا ، وأقصرهم
قامة وأقبحهم وجهًا. قال زوجها : يا رسول الله ، إني قد أعطيتها أفضل مالي ، حديقة
لي ، فإن ردت عليَّ حديقتي ؟ قال : "ما تقولين ؟ " قالت : نعم ، وإن شاء
زدته. قال : ففرق بينهما.
(1/616)
حديث
آخر : قال ابن ماجة : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن حجاج ، عن
عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : كانت حبيبة بنت سهل تحت ثابت بن قيس بن
شماس ، وكان رجلا دميمًا ، فقالت : يا رسول الله ، والله لولا مخافة الله إذا دخل
عليَّ بصقت في وجهه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتردين عليه
حديقته ؟ " قالت : نعم. فردت عليه حديقته. قال ففرق بينهما رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
وقد اختلف الأئمة ، رحمهم الله ، في أنه : هل يجوز للرجل أن يفاديها بأكثر مما
أعطاها ؟ فذهب الجمهور إلى جواز ذلك ، لعموم قوله تعالى : { فَلا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ،
حدثنا ابن علية ، أخبرنا أيوب ، عن كثير مولى سمرة : أن عمر أتي بامرأة ناشز ،
فأمر بها إلى بيت كثير الزبل ، ثم دعا بها فقال : كيف وجدت ؟ فقالت : ما وجدت راحة
منذ كنت عنده إلا هذه الليلة التي حبستني. فقال لزوجها : اخلعها ولو من قرطها
ورواه عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن أيوب ، عن كثير مولى سمرة ، فذكر مثله ، وزاد
: فحبسها فيه ثلاثة أيام.
قال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة ، عن حميد بن عبد الرحمن : أن امرأة أتت عمر
بن الخطاب ، فشكت زوجها ، فأباتها في بيت الزبل. فلما أصبحت قال لها : كيف وجدت
مكانك ؟ قالت : ما كنت عنده ليلة أقر لعيني من هذه الليلة. فقال : خذ ولو عقاصها.
وقال البخاري : وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل : أن الربيع بنت
معوذ بن عفراء حدثته قالت : كان لي زوج يُقِلّ عليَّ الخير إذا حضرني ، ويحرمني إذا
غاب عني. قالت : فكانت مني زلة يومًا ، فقلت له : أختلع منك بكل شيء أملكه ؟ قال :
نعم. قالت : ففعلت. قالت فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان ، فأجاز الخلع
، وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه ، أو قالت : ما دون عقاص الرأس.
ومعنى هذا : أنه يجوز أن يأخذ منها كل ما بيدها من قليل وكثير ، ولا يترك لها سوى
عقاص شعرها. وبه يقول ابن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وإبراهيم النخعي ،
وقبيصة بن ذؤيب ، والحسن بن صالح ، وعثمان البتي. وهذا مذهب مالك ، والليث ،
والشافعي ، وأبي ثور ، واختاره ابن جرير.
(1/617)
وقال
أصحاب أبي حنيفة ، رحمهم الله : إن كان الإضرار من قبلها جاز أن يأخذ منها ما
أعطاها ، ولا تجوز الزيادة عليه ، فإن ازداد جاز في القضاء : وإن كان الإضرار من
جهته لم يجز أن يأخذ منها شيئا ، فإن أخذ جاز في القضاء.
وقال الإمام أحمد ، وأبو عبيد ، وإسحاق بن راهويه : لا يجوز أن يأخذ منها أكثر مما
أعطاها. وهذا قول سعيد بن المسيب ، وعطاء ، وعمرو بن شعيب ، والزهري ، وطاوس ،
والحسن ، والشعبي ، وحماد بن أبي سليمان ، والربيع بن أنس.
وقال معمر ، والحكم : كان علي يقول : لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها. وقال
الأوزاعي : القضاة لا يجيزون أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها.
قلت : ويستدل لهذا القول بما تقدم من رواية قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في
قصة ثابت بن قيس : فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها الحديقة ولا
يزداد ، وبما روى عبد بن حميد حيث قال : أخبرنا قبيصة ، عن سفيان ، عن ابن جريج ،
عن عطاء : أن النبي صلى الله عليه وسلم كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها يعني
المختلعة وحملوا معنى الآية على معنى { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ
بِهِ } أي : من الذي أعطاها ؛ لتقدم قوله : { وَلا [يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ ]
تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا
حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } أي : من ذلك. وهكذا كان يقرؤها الربيع بن أنس
: "فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِه مِنْهُ" رواه ابن
جرير ؛ ولهذا قال بعده : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
فصل
قال الشافعي : اختلف أصحابنا في الخلع ، فأخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار ، عن طاوس
، عن ابن عباس في رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه بعد ، يتزوجها إن شاء ؛
لأن الله تعالى يقول : { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ } قرأ إلى : { أَنْ يَتَرَاجَعَا }
قال الشافعي : وأخبرنا سفيان ، عن عمرو [بن دينار] عن عكرمة قال : كل شيء أجازه
المال فليس بطلاق.
وروى غير الشافعي ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس
: أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله فقال : رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت
منه ، أيتزوجها ؟ قال : نعم ، ليس الخلع بطلاق ، ذكر الله الطلاق في أول الآية
وآخرها ، والخلع فيما بين ذلك ، فليس الخلع بشيء ، ثم قرأ : { الطَّلاقُ
مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } وقرأ : { فَإِنْ
طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ }
(1/618)
وهذا
الذي ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما - من أن الخلع ليس بطلاق ، وإنما هو فسخ -
هو رواية عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، وابن عمر. وهو قول طاوس ، وعكرمة. وبه
يقول أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو ثور ، وداود بن علي الظاهري. وهو
مذهب الشافعي في القديم ، وهو ظاهر الآية الكريمة.
والقول الثاني في الخلع : إنه طلاق بائن إلا أن ينوي أكثر من ذلك. قال مالك ، عن
هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن جُمْهان مولى الأسلميين عن أم بكر الأسلمية : أنها
اختلعت من زوجها عبد الله بن خالد بن أسيد ، فأتيا عثمان بن عفان في ذلك ، فقال :
تطليقة ؛ إلا أن تكون سميت شيئًا فهو ما سميت. قال الشافعي : ولا أعرف جُمْهان.
وكذا ضعف أحمد بن حنبل هذا الأثر ، والله أعلم.
وقد روي نحوه عن عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عمر. وبه يقول سعيد بن المسيب ،
والحسن ، وعطاء ، وشريح ، والشعبي ، وإبراهيم ، وجابر بن زيد. وإليه ذهب مالك ،
وأبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري ، والأوزاعي ، وعثمان التبي ، والشافعي في الجديد.
غير أن الحنفية عندهم أنه متى نوى المخالع بخلعه تطليقة أو اثنتين أو أطلق فهو
واحدة بائنة. وإن نوى ثلاثًا فثلاث. وللشافعي قول آخر في الخلع ، وهو : أنه متى لم
يكن بلفظ الطلاق ، وعري عن النية فليس هو بشيء بالكلية.
مسألة :
وذهب مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد وإسحاق في رواية عنهما ، وهي المشهورة
؛ إلى أن المختلعة عدتها عدة المطلقة بثلاثة قروء ، إن كانت ممن تحيض. وروي ذلك عن
عمر ، وعلي ، وابن عمر. وبه يقول سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، وعروة ،
وسالم ، وأبو سلمة ، وعمر بن عبد العزيز ، وابن شهاب ، والحسن ، والشعبي ،
وإبراهيم النخعي ، وأبو عياض ، وجُلاس بن عمرو ، وقتادة ، وسفيان الثوري ،
والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وأبو عبيد. قال الترمذي : وهو قول أكثر أهل العلم من
الصحابة وغيرهم. ومأخذهم في هذا أن الخلع طلاق ، فتعتد كسائر المطلقات.
والقول الثاني : أنها تعتد بحيضة واحدة تستبرئ بها رحمها. قال ابن أبي شيبة :
حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع أن الربيع اختلعت من زوجها ،
فأتى عمها عثمان ، رضي الله عنه ، فقال : تعتد حيضة. قال : وكان ابن عمر يقول :
تعتد ثلاث حيض ، حتى قال هذا عثمان ، فكان ابن عمر يفتي به ويقول : عثمان خيرنا
وأعلمنا.
وحدثنا عبدة ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : عدة المختلعة حيضة.
وحدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن ليث ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : عدتها
حيضة. وبه يقول عكرمة ، وأبان بن عثمان ، وكل من تقدم ذكره ممن يقول : إن الخلع
فسخ - يلزمه
(1/619)
القول
بهذا ، واحتجوا لذلك بما رواه أبو داود ، والترمذي ، حيث قال كل واحد منهما :
حدثنا محمد بن عبد الرحيم البغدادي ، حدثنا علي بن بحر ، حدثنا هشام بن يوسف ، عن
معمر ، عن عمرو بن مسلم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت
من زوجها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن
تعتد بحيضة. ثم قال الترمذي : حسن غريب. وقد رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن عمرو
بن مسلم ، عن عكرمة مرسلا.
حديث آخر : قال الترمذي : حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا الفضل بن موسى ، عن سفيان
، حدثنا محمد بن عبد الرحمن وهو مولى آل طلحة ، عن سليمان بن يسار ، عن الربيع بنت
معوذ بن عفراء : أنها اختلعت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرها النبي
- أو أمرت - أن تعتد بحيضة. قال الترمذي : الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة.
طريق أخرى : قال ابن ماجة : حدثنا علي بن سلمة النيسابوري ، حدثنا يعقوب بن
إبراهيم بن سعد ، حدثنا أبي عن ابن إسحاق ، أخبرني عبادة بن الوليد بن عبادة بن
الصامت ، عن الربيع بنت معوذ بن عفراء قال : قلت لها : حدثيني حديثك. قالت :
اختلعت من زوجي ، ثم جئت عثمان ، فسألت : ماذا علي من العدة ؟ قال : لا عدة عليك ،
إلا أن يكون حديث عهد بك فتمكثين عنده حتى تحيضي حيضة. قالت : وإنما تبع في ذلك
قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مريم المغالية ، وكانت تحت ثابت بن قيس ،
فاختلعت منه.
وقد روى ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن أبي سلمة ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ،
عن الربيع بنت معوذ قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر امرأة ثابت بن
قيس حين اختلعت منه أن تعتد بحيضة.
مسألة :
وليس للمخالع أن يراجع المختلعة في العدة بغير رضاها عند الأئمة الأربعة وجمهور
العلماء ؛ لأنها قد ملكت نفسها بما بذلت له من العطاء. وروي عن عبد الله بن أبي
أوفى ، وماهان الحنفي ، وسعيد بن المسيب ، والزهري أنهم قالوا : إن رد إليها الذي
أعطاها جاز له رجعتها في العدة بغير رضاها ، وهو اختيار أبي ثور ، رحمه الله. وقال
سفيان الثوري : إن كان الخلع بغير لفظ الطلاق فهو فرقة ولا سبيل له عليها. وإن كان
سمى طلاقا فهو أملك لرجعتها ما دامت في العدة. وبه يقول داود بن علي الظاهري :
واتفق الجميع على أن للمختلع أن يتزوجها في العدة. وحكى الشيخ أبو عمر
(1/620)
بن
عبد البر ، عن فرقة أنه لا يجوز له ذلك ، كما لا يجوز لغيره ، وهو قول شاذ مردود.
مسألة :
وهل له أن يوقع عليها طلاقا آخر في العدة ؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء :
أحدهما : ليس له ذلك ؛ لأنها قد ملكت نفسها وبانت منه. وبه يقول ابن عباس ، وابن
الزبير ، وعكرمة ، وجابر بن زيد ، والحسن البصري ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ،
وإسحاق بن راهويه ، وأبو ثور.
والثاني : قال مالك : إن أتبع الخلع طلاقا من غير سكوت بينهما وقع ، وإن سكت
بينهما لم يقع. قال ابن عبد البر : وهذا يشبه ما روي عن عثمان ، رضي الله عنه.
والثالث : أنه يقع عليها الطلاق بكل حال ما دامت في العدة ، وهو قول أبي حنيفة
وأصحابه ، والثوري ، والأوزاعي. وبه يقول سعيد بن المسيب ، وشريح ، وطاوس ،
وإبراهيم ، والزهري ، والحكم وحماد بن أبي سليمان. وروي ذلك عن ابن مسعود ، وأبي
الدرداء قال ابن عبد البر : وليس ذلك بثابت عنهما.
وقوله : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ
اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } أي : هذه الشرائع التي شرعها لكم هي
حدوده ، فلا تتجاوزوها. كما ثبت في الحديث الصحيح : "إن الله حد حدودًا فلا
تعتدوها ، وفرض فرائض فلا تضيعوها ، وحرم محارم فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة
لكم من غير نسيان ، فلا تسألوا عنها".
وقد يستدل بهذه الآية من ذهب إلى أن جمع الطلقات الثلاث بكلمة واحدة حرام ، كما هو
مذهب المالكية ومن وافقهم ، وإنما السنة عندهم أن يطلق واحدة واحدة ، لقوله : { الطَّلاقُ
مَرَّتَانِ } ثم قال : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ويُقَوُّون ذلك بحديث
محمود بن لبيد الذي رواه النسائي في سننه حيث قال : حدثنا سليمان بن داود ، أخبرنا
ابن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه ، عن محمود بن لبيد قال : أخبر رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا فقام غضبان ، ثم قال :
"أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟! " حتى قام رجل فقال يا رسول الله
، ألا أقتله ؟ فيه انقطاع.
وقوله تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ
زَوْجًا غَيْرَهُ } أي : أنه إذا طلق الرجل امرأته طلقة ثالثة بعد ما أرسل عليها
الطلاق مرتين ، فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره ، أي : حتى يطأها
(1/621)
زوج
آخر في نكاح صحيح ، فلو وطئها واطئ في غير نكاح ، ولو في ملك اليمين لم تحل للأول
؛ لأنه ليس بزوج ، وهكذا لو تزوجت ، ولكن لم يدخل بها الزوج لم تحل للأول ، واشتهر
بين كثير من الفقهاء عن سعيد بن المسيب ، رحمه الله ، أنه يقول : يحصل المقصود من
تحليلها للأول بمجرد العقد على الثاني. وفي صحته عنه نظر ، على أن الشيخ أبا عمر
بن عبد البر قد حكاه عنه في الاستذكار ، فالله أعلم.
وقد قال أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله : حدثنا ابن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن
شعبة ، عن علقمة بن مرثد ، عن سالم بن رزين ، عن سالم بن عبد الله عن سعيد بن
المسيب ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل يتزوج المرأة فيطلقها
قبل أن يدخل بها البتة ، فيتزوجها زوج آخر فيطلقها ، قبل أن يدخل بها : أترجع إلى
الأول ؟ قال : "لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها".
هكذا وقع في رواية ابن جرير ، وقد رواه الإمام أحمد فقال :
حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن علقمة بن مرثد ، سمعت سالم بن رزين يحدث عن
سالم بن عبد الله ، يعني : ابن عمر ، عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عمر ، عن النبي
صلى الله عليه وسلم : في الرجل تكون له المرأة فيطلقها ، ثم يتزوجها رجل فيطلقها
قبل أن يدخل بها ، فترجع إلى زوجها الأول ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"حتى يذوق العسيلة".
وهكذا رواه النسائي ، عن عمرو بن علي الفلاس ، وابن ماجة عن محمد بن بشار بندار
كلاهما عن محمد بن جعفر غندر ، عن شعبة ، به كذلك. فهذا من رواية سعيد بن المسيب
عن ابن عمر مرفوعًا ، على خلاف ما يحكى عنه ، فبعيد أن يخالف ما رواه بغير مستند ،
والله أعلم.
وقد روى أحمد أيضا ، والنسائي ، وابن جرير هذا الحديث من طريق سفيان الثوري ، عن
علقمة بن مرثد ، عن رزين بن سليمان الأحمري ، عن ابن عمر قال : سئل النبي صلى الله
عليه وسلم عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا فيتزوجها آخر ، فيغلق الباب ويرخي الستر ثم
يطلقها ، قبل أن يدخل بها : هل تحل للأول ؟ قال : "لا حتى يذوق
العسيلة".
وهذا لفظ أحمد ، وفي رواية لأحمد : سليمان بن رزين.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا محمد بن دينار ، حدثنا يحيى بن
يزيد الهنائي ، عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل كانت
تحته امرأة فطلقها ثلاثا فتزوجت بعده رجلا فطلقها قبل أن يدخل بها : أتحل لزوجها
الأول ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا حتى يكون الآخر قد ذاق من
عسيلتها وذاقت من عسيلته".
(1/622)
ورواه
ابن جرير ، عن محمد بن إبراهيم الأنماطي ، عن هشام بن عبد الملك ، حدثنا محمد بن
دينار ، فذكره.
قلت : ومحمد بن دينار بن صندل أبو بكر الأزدي ثم الطاحي البصري ، ويقال له : ابن
أبي الفرات : اختلفوا فيه ، فمنهم من ضعفه ، ومنهم من قواه وقبله وحسن له. وقال
أبو داود : أنه تغير قبل موته ، فالله أعلم.
حديث آخر : قال ابن جرير : حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني ، حدثنا أبي ،
حدثنا شيبان ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن أبي الحارث الغفاري عن أبي هريرة قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرأة يطلقها زوجها ثلاثا فتتزوج زوجا غيره
، فيطلقها قبل أن يدخل بها ، فيريد الأول أن يراجعها ، قال : "لا حتى يذوق
الآخر عسيلتها".
ثم رواه من وجه آخر عن شيبان ، وهو ابن عبد الرحمن ، به. وأبو الحارث غير معروف.
حديث آخر : قال ابن جرير :
حدثنا ابن مثنى ، حدثنا يحيى ، عن عبيد الله ، حدثنا القاسم ، عن عائشة : أن رجلا
طلق امرأته ثلاثا ، فتزوجت زوجا فطلقها قبل أن يمسها ، فسئل رسول الله صلى الله
عليه وسلم : أتحل للأول ؟ فقال : "لا حتى يذوق من عسيلتها كما ذاق
الأول".
أخرجه البخاري ، ومسلم ، والنسائي ، من طرق ، عن عبيد الله بن عمر العمري ، عن
القاسم بن عبد الرحمن بن أبي بكر ، عن عمته عائشة ، به.
طريق أخرى : قال ابن جرير :
حدثنا عبيد الله بن إسماعيل الهباري ، وسفيان بن وكيع ، وأبو هشام الرفاعي قالوا :
حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : سئل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ، فتزوجت رجلا غيره ، فدخل بها ثم
طلقها قبل أن يواقعها : أتحل لزوجها الأول ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"لا تحل لزوجها الأول حتى يذوق الآخر عسيلتها وتذوق عسيلته".
وكذا رواه أبو داود عن مسدد ، والنسائي عن أبي كريب ، كلاهما عن أبي معاوية ، وهو
محمد بن حازم الضرير ، به.
طريق أخرى : قال مسلم في صحيحه :
(1/623)
حدثنا
محمد بن العلاء الهمداني ، حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة : أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن المرأة يتزوجها الرجل فيطلقها ، فتتزوج رجلا
فيطلقها قبل أن يدخل بها : أتحل لزوجها الأول ؟ قال : "لا حتى يذوق
عسيلتها".
قال مسلم : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا ابن فضيل : وحدثنا أبو كريب ،
حدثنا أبو معاوية جميعا ، عن هشام بهذا الإسناد.
وقد رواه البخاري من طريق أبي معاوية محمد بن حازم ، عن هشام به. وتفرد به مسلم من
الوجهين الآخرين. وهكذا رواه ابن جرير من طريق عبد الله بن المبارك ، عن هشام بن
عروة ، عن أبيه ، عن عائشة مرفوعا بنحوه أو مثله. وهذا إسناد جيد. وكذا رواه ابن
جرير أيضا ، من طريق علي بن زيد بن جدعان ، عن امرأة أبيه أمينة أم محمد عن عائشة
، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله وهذا السياق مختصر من الحديث الذي رواه
البخاري : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا يحيى ، عن هشام ، حدثني أبي ، عن عائشة ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم. وحدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا عبدة ، عن هشام بن
عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : أن رفاعة القرظي تزوج امرأة ثم طلقها ، فتزوجت آخر
فأتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكرت له أنه لا يأتيها ، وأنه ليس معه إلا مثل
هدبة الثوب فقال : "لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ".
تفرد به من هذين الوجهين.
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الأعلى ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة
، عن عائشة قالت : دخلت امرأة رفاعة القرظي - وأنا وأبو بكر عند النبي صلى الله
عليه وسلم - فقالت : إن رفاعة طلقني البتة ، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني ،
وإنما عنده مثل الهدبة ، وأخذت هدبة من جلبابها ، وخالد بن سعيد بن العاص بالباب لم
يؤذن له ، فقال : يا أبا بكر ، ألا تنهي هذه عما تجهر به بين يدي رسول الله صلى
الله عليه وسلم! فما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التبسم ، وقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "كأنك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة ، لا حتى تذوقي
عسيلته ويذوق عسيلتك".
وهكذا رواه البخاري من حديث عبد الله بن المبارك ، ومسلم من حديث عبد الرزاق ،
والنسائي من حديث يزيد بن زريع ، ثلاثتهم عن معمر به. وفي حديث عبد الرزاق عند
مسلم : أن
(1/624)
رفاعة
طلقها آخر ثلاث تطليقات. وقد رواه الجماعة إلا أبا داود من طريق سفيان بن عيينة ،
والبخاري من طريق عقيل ، ومسلم من طريق يونس بن يزيد [وعنده ثلاث تطليقات ،
والنسائي من طريق أيوب بن موسى ، ورواه صالح بن أبي الأخضر] كلهم عن الزهري ، عن
عروة ، عن عائشة ، به.
وقال مالك عن المسور بن رفاعة القرظي عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير : أن
رفاعة بن سموال طلق امرأته تميمة بنت وهب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثلاثا ، فنكحت عبد الرحمن بن الزبير ، فاعترض عنها فلم يستطع أن يمسها ، ففارقها ،
فأراد رفاعة أن ينكحها ، وهو زوجها الأول الذي كان طلقها ، فذكر ذلك لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فنهاه عن تزويجها ، وقال : "لا تحل لك حتى تذوق
العسيلة" كذا رواه أصحاب الموطأ عن مالك وفيه انقطاع. وقد رواه إبراهيم بن
طَهْمَان ، وعبد الله بن وهب ، عن مالك ، عن رفاعة ، عن الزبير بن عبد الرحمن ، عن
أبيه ، فوصله.
فصل
والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغبا في المرأة ، قاصدا لدوام عشرتها ، كما هو
المشروع من التزويج ، واشترط الإمام مالك مع ذلك أن يطأها الثاني وطئا مباحًا ،
فلو وطئها وهي محرمة أو صائمة أو معتكفة أو حائض أو نفساء أو والزوج صائم أو محرم
أو معتكف ، لم تحل للأول بهذا الوطء. وكذا لو كان الزوج الثاني ذميًا لم تحل للمسلم
بنكاحه ؛ لأن أنكحة الكفار باطلة عنده. واشترط الحسن البصري فيما حكاه عنه الشيخ
أبو عمر بن عبد البر أن ينزل الزوج الثاني ، وكأنه تمسك بما فهمه من قوله عليه
السلام : "حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" ، ويلزم على هذا أن تنزل
المرأة أيضا. وليس المراد بالعسيلة المني لما رواه الإمام أحمد والنسائي ، عن
عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ألا إن
العسيلة الجماع" فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول ، فهذا هو
المحلل الذي وردت الأحاديث بذمه ولعنه ، ومتى صرح بمقصوده في العقد بطل النكاح عند
جمهور الأئمة.
ذكر الأحاديث الواردة في ذلك
الحديث الأول : عن ابن مسعود. قال الإمام أحمد :
(1/625)
حدثنا
الفضل بن دُكَيْن ، حدثنا سفيان ، عن أبي قيس ، عن الهذيل ، عن عبد الله قال : لعن
رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة ، والمحلل
والمحلل له ، وآكل الربا وموكله.
ثم رواه أحمد ، والترمذي ، والنسائي من غير وجه ، عن سفيان ، وهو الثوري ، عن أبي
قيس واسمه عبد الرحمن بن ثروان الأودي ، عن هزيل بن شرحبيل الأودي ، عن عبد الله
بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم به. ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.
قال : والعمل على هذا عند أهل العلم من الصحابة ، منهم : عمر ، وعثمان ، وابن عمر.
وهو قول الفقهاء من التابعين ، ويروى ذلك عن علي ، وابن مسعود ، وابن عباس.
طريق أخرى : عن ابن مسعود. قال الإمام أحمد : حدثنا زكريا بن عدي ، حدثنا عبيد
الله ، عن عبد الكريم ، عن أبي الواصل ، عن ابن مسعود ، عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : "لعن الله المحلل والمحلل له".
طريق أخرى : روى الإمام أحمد ، والنسائي ، من حديث الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ،
عن الحارث الأعور ، عن عبد الله بن مسعود قال : آكل الربا وموكله ، وشاهداه وكاتبه
إذا علموا به ، والواصلة ، والمستوصلة ، ولاوي الصدقة ، والمتعدي فيها ، والمرتد
على عقبيه إعراضا بعد هجرته ، والمحلل والمحلل له ، ملعونون على لسان محمد صلى
الله عليه وسلم يوم القيامة.
الحديث الثاني : عن علي رضي الله عنه. قال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان ، عن جابر [وهو ابن يزيد الجعفي] عن الشعبي ، عن
الحارث ، عن علي قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله ،
وشاهديه وكاتبه ، والواشمة والمستوشمة للحُسْن ، ومانع الصدقة ، والمحلل ، والمحلل
له ، وكان ينهى عن النوح.
وكذا رواه عن غندر ، عن شعبة ، عن جابر ، وهو ابن يزيد الجعفي ، عن الشعبي عن
الحارث ، عن علي ، به.
وكذا رواه من حديث إسماعيل بن أبي خالد ، وحصين بن عبد الرحمن ، ومجالد بن سعيد ،
وابن عون ، عن عامر الشعبي ، به.
(1/626)
وقد
رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة من حديث الشعبي ، به. ثم قال أحمد :
حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي قال
: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الربا ، وآكله ، وكاتبه ، وشاهده ،
والمحلل ، والمحلل له.
الحديث الثالث : عن جابر : قال الترمذي :
حدثنا أبو سعيد الأشج ، أخبرنا أشعث بن عبد الرحمن بن زبيد اليامي ، حدثنا مجالد ،
عن الشعبي ، عن جابر بن عبد الله وعن الحارث ، عن علي : أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم لعن المحلل والمحلل له ثم قال : وليس إسناده بالقائم ، ومجالد ضعفه غير
واحد من أهل العلم ، منهم أحمد بن حنبل. قال : ورواه ابن نمير ، عن مجالد ، عن
الشعبي ، عن جابر بن عبد الله ، عن علي. قال : وهذا وهم من ابن نمير ، والحديث
الأول أصح.
الحديث الرابع : عن عقبة بن عامر : قال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة :
حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري ، حدثنا أبي ، سمعت الليث بن سعد يقول : قال
أبو مصعب مشرح هو : ابن عاهان ، قال عقبة بن عامر : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "ألا أخبركم بالتيس المستعار ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله. قال
: "هو المحلِّل ، لعن الله المحلل والمحلل له".
تفرد به ابن ماجة. وكذا رواه إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ، عن عثمان بن صالح ، عن
الليث ، به ، ثم قال : كانوا ينكرون على عثمان في هذا الحديث إنكارًا شديدًا.
قلت : عثمان هذا أحد الثقات ، روى عنه البخاري في صحيحه. ثم قد تابعه غيره ، فرواه
جعفر الفريابي عن العباس المعروف بابن فريق عن أبي صالح عبد الله بن صالح ، عن
الليث به ، فبرئ من عهدته والله أعلم.
الحديث الخامس : عن ابن عباس. قال ابن ماجة :
حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبو عامر ، عن زمعة بن صالح ، عن سلمة بن وهرام ، عن
عكرمة ، عن ابن عباس قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له.
طريق أخرى : قال الإمام الحافظ خطيب دمشق أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني
السعدي : حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن
الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح
المحلل قال : "لا إلا نكاح
(1/627)
رغبة
، لا نكاح دُلْسَة ولا استهزاء بكتاب الله ، ثم يذوق عسيلتها".
ويتقوى هذان الإسنادان بما رواه أبو بكر بن أبي شيبة ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن
موسى بن أبي الفرات ، عن عمرو بن دينار ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من هذا
فيتقوى كل من هذا المرسل والذي قبله بالآخر ، والله أعلم.
الحديث السادس : عن أبي هريرة. قال الإمام أحمد :
حدثنا أبو عامر ، حدثنا عبد الله ، هو ابن جعفر ، عن عثمان بن محمد ، المقبري ، عن
أبي هريرة قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له.
وهكذا رواه أبو بكر بن أبي شيبة ، والجوزجاني ، والبيهقي ، من طريق عبد الله بن
جعفر القرشي. وقد وثقه أحمد بن حنبل ، وعلي بن المديني ، ويحيى بن معين وغيرهم.
وأخرج له مسلم في صحيحه ، عن عثمان بن محمد الأخنسي - وثقه ابن معين - عن سعيد
المقبري ، وهو متفق عليه.
الحديث السابع : عن ابن عمر. قال الحاكم في مستدركه :
حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني حدثنا سعيد بن أبي مريم ،
حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف المدني ، عن عمر بن نافع ، عن أبيه أنه قال : جاء رجل
إلى ابن عمر ، فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا ، فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ،
ليحلها لأخيه : هل تحل للأول ؟ فقال : لا إلا نكاح رغبة ، كنا نعد هذا سفاحا على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه.
وقد رواه الثوري ، عن عبد الله بن نافع ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، به. وهذه الصيغة
مشعرة بالرفع. وهكذا روى أبو بكر بن أبي شيبة ، والجوزجاني ، وحرب الكرماني ، وأبو
بكر الأثرم ، من حديث الأعمش ، عن المسيب بن رافع ، عن قبيصة بن جابر ، عن عمر أنه
قال : لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما.
وروى البيهقي من حديث ابن لهيعة ، عن بكير بن الأشج ، عن سليمان بن يسار : أن
عثمان بن عفان رفع إليه رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها ، ففرق بينهما. وكذا روي عن
علي ، وابن عباس ،
(1/628)
وغير
واحد من الصحابة ، رضي الله عنهم.
وقوله : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } أي : الزوج الثاني بعد الدخول بها { فَلا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا } أي : المرأة والزوج الأول { إِنْ ظَنَّا أَنْ
يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } أي : يتعاشرا بالمعروف [وقال مجاهد : إن ظنا أن
نكاحهما على غير دلسة] { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } أي : شرائعه وأحكامه {
يُبَيِّنُهَا } أي : يوضحها { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }
وقد اختلف الأئمة ، رحمهم الله ، فيما إذا طلق الرجل امرأته طلقة أو طلقتين ،
وتركها حتى انقضت عدتها ، ثم تزوجت بآخر فدخل بها ، ثم طلقها فانقضت عدتها ، ثم
تزوجها الأول : هل تعود إليه بما بقي من الثلاث ، كما هو مذهب مالك ، والشافعي ،
وأحمد بن حنبل ، وهو قول طائفة من الصحابة ، رضي الله عنهم ؟ أو يكون الزوج الثاني
قد هدم ما قبله من الطلاق ، فإذا عادت إلى الأول تعود بمجموع الثلاث ، كما هو مذهب
أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله ؟ وحجتهم أن الزوج الثاني إذا هدم الثلاث فلأن يهدم
ما دونها بطريق الأولى والأحرى ، والله أعلم.
(1/629)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
{
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا
لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا
آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزلَ
عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) }
هذا أمر من الله عز وجل للرجال إذا طلق أحدهم المرأة طلاقا له عليها فيه رجعة ، أن
يحسن في أمرها إذا انقضت عدتها ، ولم يبق منها إلا مقدار ما يمكنه فيه رجعتها ،
فإما أن يمسكها ، أي : يرتجعها إلى عصمة نكاحه بمعروف ، وهو أن يشهد على رجعتها ،
وينوي عشرتها بالمعروف ، أو يسرحها ، أي : يتركها حتى تنقضي عدتها ، ويخرجها من
منزله بالتي هي أحسن ، من غير شقاق ولا مخاصمة ولا تقابح ، قال الله تعالى : { وَلا
تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا } قال ابن عباس ، ومجاهد ، ومسروق ، والحسن
، وقتادة ، والضحاك ، والربيع ، ومقاتل بن حيان وغير واحد : كان الرجل يطلق المرأة
، فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها ضرارًا ، لئلا تذهب إلى غيره ، ثم يطلقها فتعتد
، فإذا شارفت على انقضاء العدة طلق لتطول عليها العدة ، فنهاهم الله عن ذلك ،
وتوعدهم عليه فقال : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } أي :
بمخالفته أمر الله تعالى.
وقوله : { وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } قال ابن جرير : عند هذه
الآية :
أخبرنا أبو كُرَيْب ، أخبرنا إسحاق بن منصور ، عن عبد السلام بن حرب ، عن يزيد بن
عبد الرحمن ، عن أبي العلاء الأودي ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي موسى : أن
رسول الله
(1/629)
صلى
الله عليه وسلم غضب على الأشعريين ، فأتاه أبو موسى فقال : يا رسول الله ، أغضبت
على الأشعريين ؟! فقال : يقول أحدكم : قد طلقت ، قد راجعت ، ليس هذا طلاق المسلمين
، طلقوا المرأة في قُبُل عدتها" (1).
ثم رواه من وجه آخر (2) عن أبي خالد الدالاني ، وهو يزيد بن عبد الرحمن ، وفيه
كلام.
وقال مسروق : هو (3) الذي يطلق في غير كنهه ، ويضار امرأته بطلاقها وارتجاعها ،
لتطول عليها العدة.
وقال الحسن ، وقتادة ، وعطاء الخراساني ، والربيع ، ومقاتل بن حيان : هو الرجل
يطلق ويقول : كنت لاعبًا أو يعتق أو ينكح ويقول : كنت لاعبًا. فأنزل الله : { وَلا
تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } فألزم الله بذلك.
وقال ابن مردويه : حدثنا إبراهيم بن محمد ، حدثنا أبو أحمد الصيرفي ، حدثني جعفر
بن محمد السمسار ، عن إسماعيل بن يحيى ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن
عباس قال : طلق رجل امرأته وهو يلعب ، لا يريد الطلاق ؛ فأنزل الله : { وَلا
تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } فألزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم
الطلاق.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عصام بن زوَّاد ، حدثنا آدم ، حدثنا المبارك بن فضالة ،
عن الحسن ، هو البصري ، قال : كان الرجل يطلق ويقول : كنت لاعبًا أو يعتق (4)
ويقول : كنت لاعبًا وينكح ويقول : كنت لاعبًا فأنزل الله : { وَلا تَتَّخِذُوا
آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من طلق أو
أعتق أو نكح أو أنكح ، جادًا أو لاعبًا ، فقد جاز عليه".
وكذا رواه ابن جرير من طريق الزهري ، عن سليمان بن أرقم ، عن الحسن ، مثله. وهذا
مرسل (5). وقد رواه ابن مردويه من طريق عمرو بن عبيد ، عن الحسن ، عن أبي الدرداء
، موقوفًا عليه. وقال أيضًا :
حدثنا أحمد بن الحسن (6) بن أيوب ، حدثنا يعقوب بن أبي يعقوب ، حدثنا يحيى بن عبد
الحميد ، حدثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل بن سلمة ، عن الحسن ، عن عبادة بن الصامت
، في قول الله تعالى : { وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } قال : كان
الرجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقول للرجل زوجتك ابنتي ثم يقول : كنت
لاعبًا. ويقول : قد أعتقت ، ويقول : كنت لاعبًا فأنزل الله : { وَلا تَتَّخِذُوا
آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثلاث من
قالهن لاعبًا أو غير لاعب ، فهن جائزات عليه : الطلاق ، والعتاق ، والنكاح"
(7).
__________
(1) تفسير الطبري (5/14).
(2) في جـ : "ثم رواه ابن ماجة من وجه آخر".
(3) في جـ : "وهو".
(4) في جـ : "ويعتق".
(5) تفسير الطبري (5/13) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (5/106) من طريق آخر ،
فرواه عن عيسى بن يونس ، عن عمرو ، عن الحسن به.
(6) في جـ : "بن الحسين".
(7) ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده برقم (501) "زوائده" من طريق
آخر ، فرواه من طريق ابن لهيعة ، عن عبيد الله بن أبي جعفر ، عن عبادة بن الصامت
به مرفوعا.
(1/630)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
والمشهور
في هذا الحديث الذي رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة من طريق عبد الرحمن بن
حبيب بن أردك ، عن عطاء ، عن ابن ماهك ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "ثلاث جدهن جد ، وهزلهن جد : النكاح ، والطلاق ،
والرجعة" (1). وقال الترمذي : حسن غريب.
وقوله : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي : في إرساله الرسول
بالهدى والبينات إليكم { وَمَا أَنزلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ }
أي : السنة { يَعِظُكُمْ بِهِ } أي : يأمركم وينهاكم ويتوعدكم على ارتكاب المحارم
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : فيما تأتون وفيما تذرون { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : فلا يخفى عليه شيء من أموركم السرية والجهرية ،
وسيجازيكم على ذلك.
{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ
أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ
ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ
(232) }
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو
طلقتين ، فتنقضي عدتها ، ثم يبدو له أن يتزوجها (2) وأن يراجعها ، وتريد المرأة
ذلك ، فيمنعها أولياؤها من ذلك ، فنهى الله أن يمنعوها. وكذا (3) روى العوفي ، عنه
، وكذا قال مسروق ، وإبراهيم النخعي ، والزهري والضحاك إنها أنزلت في ذلك. وهذا
الذي قالوه ظاهر من الآية ، وفيها دلالة على أن المرأة لا تملك أن تزوج نفسها ،
وأنه لا بد في تزويجها (4) من ولي ، كما قاله الترمذي وابن جرير عند هذه الآية ، كما
جاء في الحديث : لا تزوج المرأةُ المرأةَ ، ولا تزوج المرأة نفسها ، فإن الزانية
هي التي تزوج نفسها (5). وفي الأثر الآخر : لا نكاح إلا بولي مرشد ، وشاهدي عدل.
وفي هذه المسألة نزاع بين العلماء محرر في موضعه من كتب الفروع ، وقد قررنا ذلك في
كتاب "الأحكام" ، ولله الحمد والمنة.
وقد روي أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار المزني وأخته ، فقال البخاري ، رحمه
الله ، في كتابه الصحيح عند تفسير هذه الآية :
حدثنا عبيد الله بن سعيد ، حدثنا أبو عامر العقدي ، حدثنا عباد بن راشد ، حدثنا
الحسن قال : حدثني معقل بن يسار قال : كانت لي أخت تخطب إلي - قال البخاري : وقال
إبراهيم ، عن يونس ، عن الحسن : حدثني معقل بن يسار. وحدثنا أبو مَعْمَر ، حدثنا
عبد الوارث ، حدثنا يونس ، عن الحسن : أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها ، فتركها
حتى انقضت عدتها ، فخطبها ، فأبى معقل ،
__________
(1) سنن أبي داود برقم (2194) وسنن الترمذي برقم (1184) وسنن ابن ماجة برقم
(2039).
(2) في جـ : "ثم يبدو له تزويجها".
(3) في جـ : "وكذلك".
(4) في جـ ، أ : "في النكاح".
(5) رواه ابن ماجة في السنن برقم (1882) من طريق محمد بن مروان عن هشام بن حسان ،
عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة مرفوعا به ، وقال البوصيري في الزوائد (2/84) :
"هذا إسناد مختلف فيه".
(1/631)
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
فنزلت
: { فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } (1).
وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وابن
مردويه من طرق متعددة ، عن الحسن ، عن معقل بن يسار ، به (2). وصححه الترمذي أيضًا
، ولفظه عن معقل ابن يسار : أنه زوج أخته رجلا من المسلمين ، على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فكانت عنده ما كانت ، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت
العدة ، فهويها وهويته ، ثم خطبها مع الخطاب ، فقال له : يا لكع (3) أكرمتك بها
وزوجتكها ، فطلقتها! والله لا ترجع إليك أبدًا ، آخر ما عليك قال : فعلم الله
حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها ، فأنزل الله : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ
فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } إلى قوله : { وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } فلما سمعها
معقل قال : سَمْعٌ لربي وطاعة ثم دعاه ، فقال : أزوجك وأكرمك ، زاد ابن مردويه :
وكفرت عن يميني.
وروى ابن جرير (4) عن ابن جريج قال : هي جمل بنت يسار كانت تحت أبي البداح ، وقال
سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق السبيعي قال : هي فاطمة بنت يسار. وهكذا ذكر غير واحد
من السلف : أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار وأخته. وقال السدي : نزلت في جابر
بن عبد الله ، وابنة عم له ، والصحيح الأول ، والله أعلم.
وقوله : { ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : هذا الذي نهيناكم عنه من منع الولايا أن يتزوجن
أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ، يأتمر به ويتعظ به وينفعل له { مَنْ كَانَ
مِنْكُمْ } أيها الناس { يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : يؤمن
بشرع الله ، ويخاف وعيد الله وعذابه في الدار الآخرة (5) وما فيها من الجزاء {
ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ } أي : اتباعكم شرع الله في رد الموليات إلى
أزواجهن ، وترك الحمية في ذلك ، أزكى لكم وأطهر لقلوبكم { وَاللَّهُ يَعْلَمُ } أي
: من المصالح فيما يأمر به وينهى عنه { وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } أي : الخيرة
فيما تأتون ولا فيما تذرون.
{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ
أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ
وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ
ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) }
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4529).
(2) سنن أبي داود برقم (2087) وسنن الترمذي برقم (2981) وتفسير الطبري (5/17 ، 18)
ولم يعزه المزي في تحفة الأشراف لسنن ابن ماجة.
(3) في أ : "فقال له وكيع".
(4) في جـ : "ابن جريج".
(5) في جـ : "في الدنيا والآخرة".
(1/632)
هذا
إرشاد من الله تعالى (1) للوالدات : أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة ، وهي سنتان ،
فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك ؛ ولهذا (2) قال : { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ
الرَّضَاعَةَ } وذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يحرم من الرضاعة إلا ما كان دون
الحولين ، فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما لم يحرم.
قال (3) الترمذي : "باب ما جاء أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر (4) دون
الحولين" : حدثنا قتيبة ، حدثنا أبو عوانة ، عن هشام بن عروة ، عن فاطمة بنت
المنذر ، عن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يحرم من
الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي ، وكان قبل الفطام". وقال : هذا حديث حسن
صحيح ، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وغيرهم : أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين ، وما كان بعد الحولين
الكاملين فإنه لا يحرم شيئًا. وفاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام ، وهي امرأة
هشام بن عروة (5).
قلت : تفرد الترمذي برواية هذا الحديث ، ورجاله على شرط الصحيحين ، ومعنى قوله :
إلا ما كان في الثدي ، أي : في محل (6) الرضاعة قبل الحولين ، كما جاء في الحديث ،
الذي رواه أحمد ، عن وَكِيع وغندر ، عن شعبة ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب
قال : لما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن له مرضعًا (7)
في الجنة". وهكذا أخرجه البخاري من حديث شعبة (8) وإنما قال ، عليه السلام ،
ذلك ؛ لأن ابنه إبراهيم ، عليه السلام ، مات وله سنة وعشرة أشهر ، فقال : "إن
له مرضعًا في الجنة" يعني : تكمل رضاعه ، ويؤيده ما رواه الدارقطني ، من طريق
الهيثم بن جميل ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في
الحولين" ، ثم قال : لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل ، وهو ثقة
حافظ (9).
قلت : وقد رواه الإمام مالك في الموطأ ، عن ثور بن زيد ، عن ابن عباس موقوفًا (10)
(11). ورواه الدراوردي عن ثور ، عن عكرمة ، عن ابن عباس وزاد : "وما كان بعد
الحولين فليس بشيء" ، وهذا أصح.
وقال أبو داود الطيالسي ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"لا رضاع بعد فصال ، ولا يُتْم بعد احتلام" ، وتمام الدلالة من هذا
الحديث في قوله : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [لقمان : 14]. وقال : {
وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا } [الأحقاف : 15]. والقول بأن الرضاعة
لا تحرم بعد الحولين مروي عن
__________
(1) في جـ : "من الله تبارك وتعالى".
(2) في جـ : "فلهذا".
(3) في جـ : "وقال".
(4) في أ : "في الصغير".
(5) سنن الترمذي برقم (1152).
(6) في جـ ، أ : "في حال".
(7) في أ ، و : "إن ابني مات وإن له مرضعا".
(8) المسند (4/300) وصحيح البخاري برقم (1382).
(9) سنن الدارقطني (4/174).
(10) في هـ : "مرفوعا" والصواب ما أثبتناه من جـ ، أ ، و ، وهو ما نبه
عليه الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله.
(11) الموطأ (2/602).
(1/633)
علي
، وابن عباس ، وابن مسعود ، وجابر ، وأبي هريرة ، وابن عمر ، وأم سلمة ، وسعيد بن
المسيب ، وعطاء ، والجمهور. وهو مذهب الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، والثوري ، وأبي
يوسف ، ومحمد ، ومالك في رواية ، وعنه : أن مدته سنتان وشهران ، وفي رواية :
وثلاثة أشهر. وقال أبو حنيفة : سنتان وستة أشهر ، وقال زفر بن الهذيل : ما دام
يرضع فإلى ثلاث سنين ، وهذا رواية عن الأوزاعي. قال مالك : ولو فطم الصبي دون
الحولين فأرضعته امرأة بعد فصاله لم يحرم ؛ لأنه قد صار بمنزلة الطعام ، وهو رواية
عن الأوزاعي ، وقد روي عن عمر وعلي أنهما قالا لا رضاع بعد فصال ، فيحتمل أنهما
أرادا الحولين كقول الجمهور ، سواء فطم أو لم يفطم ، ويحتمل أنهما أرادا الفعل ،
كقول مالك ، والله أعلم.
وقد روي في الصحيح (1) عن عائشة ، رضي الله عنها : أنها كانت ترى رضاع الكبير يؤثر
في التحريم ، وهو قول عطاء بن أبي رباح ، والليث بن سعد ، وكانت عائشة تأمر بمن
تختار أن يدخل عليها من الرجال لبعض نسائها فترضعه ، وتحتج في ذلك بحديث سالم مولى
أبي حذيفة حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم امرأة أبي حذيفة أن ترضعه ، وكان
كبيرًا ، فكان يدخل عليها بتلك الرضاعة ، وأبى ذلك سائر أزواج النبي صلى الله عليه
وسلم ، ورأين (2) ذلك من الخصائص ، وهو قول الجمهور. وحجة الجمهور - منهم الأئمة
الأربعة ، والفقهاء السبعة ، والأكابر من الصحابة ، وسائر أزواج رسول الله صلى
الله عليه وسلم سوى عائشة - ما ثبت في الصحيحين ، عن عائشة : أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : "انظرْنَ من إخوانكن ، فإنما الرضاعة من المجاعة"
(3). وسيأتي الكلام على مسائل الرضاع ، وفيما يتعلق برضاع الكبير ، عند قوله تعالى
: { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ } [النساء : 23]
وقوله : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ
} أي : وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف ، أي : بما جرت به عادة
أمثالهن في بلدهنّ من غير إسراف ولا إقتار ، بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره ،
كما قال تعالى : { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ
رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا
مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } [الطلاق : 7]. قال الضحاك
: إذا طلَّقَ [الرجل] (4) زوجته وله منها ولد ، فأرضعت له ولده ، وجب على الوالد
نفقتها وكسوتها بالمعروف.
وقوله : { لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } أي : لا تدفعه (5) عنها لتضر أباه
بتربيته ، ولكن ليس لها دفعُه إذا ولدته حتى تسقيه اللّبأ (6) الذي لا يعيش بدون
تناوله غالبًا ، ثم بعد هذا لها رفعه عنها إذا شاءت ، ولكن إن كانت مضارة لأبيه
فلا يحل لها ذلك ، كما لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضّرار لها. ولهذا قال : {
وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ } أي : بأن يريد أن ينتزع الولد منها إضرارًا بها
، قاله مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والزهري ، والسدي ، والثوري ، وابن زيد ،
وغيرهم.
__________
(1) في أ : "في الصحيحين".
(2) في جـ : "ويروى".
(3) صحيح البخاري برقم (2647) وصحيح مسلم برقم (1455).
(4) زيادة من جـ.
(5) في أ ، و : "بأن تدفعه".
(6) في جـ : "اللبأة".
(1/634)
وقوله
: { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } قيل : في عدم الضرار لقريبه (1) قاله
مجاهد ، والشعبي ، والضحاك. وقيل : عليه مثل ما على والد الطفل من الإنفاق على
والدة الطفل ، والقيام بحقوقها وعدم الإضرار بها ، وهو قول الجمهور. وقد استقصى ذلك
ابن جرير في تفسيره. وقد استدل بذلك من ذهب من الحنفية والحنبلية إلى وجوب نفقة
الأقارب بعضهم على بعض ، وهو مروي عن عمر بن الخطاب ، وجمهور السلف ، ويرشح ذلك
بحديث الحسن ، عن سَمرة مرفوعًا : من ملك ذا رحم محرم عُتِق عليه (2).
وقد ذُكر أن الرضاعة بعد الحولين ربما ضرت (3) الولد إما في بدنه أو عقله ، وقد
قال سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة : أنه رأى امرأة تُرضع بعد
الحولين. فقال : لا ترضعيه.
وقوله : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } أي : فإن اتفقا والدا الطفل على فطامه قبل الحولين ، ورأيا
في ذلك مصلحة له ، وتشاورا في ذلك ، وأجمعا (4) عليه ، فلا جناح عليهما في ذلك ،
فيؤْخَذُ منه : أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي ، ولا يجوز لواحد منهما
أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر ، قاله الثوري وغيره ، وهذا فيه احتياط للطفل ،
وإلزام للنظر في أمره ، وهو من رحمة الله (5) بعباده ، حيث حجر على الوالدين في
تربية طفلهما وأرشدهما إلى ما يصلحه ويصلحهما كما قال في سورة الطلاق : { فَإِنْ
أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ
وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى } [الطلاق : 6].
وقوله : { وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ } أي : إذا اتفقت
الوالدة والوالد على أن يتسلم منها الولد (6) إما لعذر منها ، أو عذر له ، فلا
جناح عليهما في بذله ، ولا عليه في قبوله منها إذا سلمها أجرتها الماضية بالتي هي
أحسن ، واسترضع لولده غيرها بالأجرة بالمعروف. قاله غير واحد.
وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : في جميع أحوالكم { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم وأقوالكم.
__________
(1) في أ : "بقرينه" ، وفي و : "بقريبه".
(2) رواه أبو داود في السنن برقم (3949) والترمذي في السنن برقم (1365) من طريق
عاصم الأحول عن الحسن به ، وقال الترمذي : "هذا حديث لا نعرفه مسندا إلا من
حديث حماد بن سلمة ، وقد روى بعضهم هذا الحديث عن قتادة عن الحسن ، عن عمر شيئا من
هذا" ، ولفظه عندهما : "من ملك ذا رحم محرم فهو حر".
(3) في أ : "جزت".
(4) في جـ ، أ : "واجتمعا".
(5) في جـ : "من رحمه الله تعالى".
(6) في أ ، و : "الولد ويسترضع له غيرها".
(1/635)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
{
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) }
هذا أمر من الله (1) للنساء اللاتي يُتَوّفى عنهن أزواجهن : أن يعتددن أربعة أشهر
وعشر ليال (2) وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن بالإجماع ،
ومستنده في غير
__________
(1) في جـ : "من الله تعالى".
(2) في جـ : "ليالي".
(1/635)
المدخول
بها عُمُوم الآية الكريمة ، وهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن وصححه
الترمذي : أن ابن مسعود سُئِل عن رجل تزوّج امرأة فمات ولم يدخل بها ، ولم يفرض
لها ؟ فترددوا إليه مرارًا (1) في ذلك فقال : أقول فيها برأيي ، فإن يكن صوابًا
فمن الله ، وإن يكُن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه : [أرى] (2)
لها الصداق كاملا. وفي لفظ : لها صداق مثلها ، لا وكس ، ولا شَطَط ، وعليها العدّة
، ولها الميراث. فقام معقل بن سنان (3) الأشجعي فقال : سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم قَضى به في بَرْوَع بنت واشق. ففرح عبد الله بذلك فرحًا شديدًا. وفي
رواية : فقام رجال من أشجع ، فقالوا : نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى
به في بَرْوَع بنت وَاشِق (4).
ولا يخرج من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها ، وهي حامل ، فإن عدّتها بوضع الحمل ، ولو
لم تمكث بعده سوى لحظة ؛ لعموم قوله : { وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [الطلاق : 4]. وكان ابن عباس يرى : أن عليها أن تتربص
بأبعد الأجلين من الوضع ، أو أربعة أشهر وعشر ، للجمع بين الآيتين ، وهذا مأخذ جيد
ومسلك قوي ، لولا ما ثبتت به السنة في حديث سبيعة الأسلمية ، المخرج في الصحيحين
من غير وجه : أنه توفي عنها زوجها سعد بن خولة ، وهي حامل ، فلم تنشب أن وضعت
حملها بعد وفاته ، وفي رواية : فوضعت حملها بعده بليال ، فلما تَعَلَّتْ من نفاسها
تجملت للخُطَّاب ، فدخل عليها أبو السنابل بن بَعْكَك ، فقال لها : ما لي أراك
مُتَجَمِّلة ؟ لعلك ترجين النكاح. والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر
وعَشْر. قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت ، فأتيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فسألته عن ذلك ، فأفتاني بأني قد حلَلَتُ حين وضعتُ ،
وأمرني بالتزويج إن بدا لي (5).
قال أبو عمر بن عبد البر : وقد روي أن ابن عباس رجع إلى حديث سُبَيعة ، يعني لما
احتج عليه به. قال : ويصحح ذلك عنه : أن أصحابه أفتوا بحديث سبيعة ، كما هو (6)
قول أهل العلم قاطبة.
وكذلك يستثنى من ذلك الزوجة إذا كانت أمة ، فإن عدتها على النصف من عدة الحرة ،
شهران وخمس ليال ، على قول الجمهور ؛ لأنها لما كانت على النصف من الحرة في الحَدّ
، فكذلك (7) فلتكن على النصف منها في العدة. ومن العلماء - كمحمد بن سيرين وبعض
الظاهرية - من يسوي بين الزوجات الحرائر والإماء في هذا المقام ؛ لعموم الآية ،
ولأن العدة من باب الأمور الجبلية (8) التي تستوي فيها الخليقة. وقد ذكر سعيدُ بن
المسيب ، وأبو العالية وغيرهما : أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا ؛
لاحتمال اشتمال الرحم على حمل ، فإذا انتظر به هذه المدة ظهر إن كان موجودًا ، كما
جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين وغيرهما : "إن خلق أحدكم يُجمع في
بطن أمه أربعين يومًا نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم
يبعث إليه الملك
__________
(1) في جـ ، أ ، و : "إليه شهرا".
(2) زيادة من أ ، و.
(3) في هـ ، جـ ، ط ، أ : "معقل بن يسار" والمثبت هو الصواب.
(4) المسند (4/280) وسنن أبي داود برقم (2214 ، 2215) وسنن الترمذي برقم (1145)
وسنن النسائي (6/121) وسنن ابن ماجة برقم (1891).
(5) صحيح البخاري برقم (5319) وصحيح مسلم برقم (1484).
(6) في جـ : "وهو".
(7) في جـ : "وكذلك".
(8) في أ : "الجلية".
(1/636)
فينفخ
فيه الروح" (1). فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر ، والاحتياط بعشر بعدها لما
قد ينقص بعض الشهور ، ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه ، والله أعلم.
قال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة : سألت سعيد بن المسيب : ما بال العشرة ؟ قال :
فيه ينفخ الروح. وقال الربيع بن أنس : قلت لأبي العالية : لِمَ صارت هذه العشر مع
الأشهر الأربعة ؟ قال : لأنه ينفخ فيها الروح. رواهما ابن جرير. ومن هاهنا ذهب
الإمام أحمد ، في رواية عنه ، إلى أن عدة أم الولد عدة الحرة هاهنا ؛ لأنها صارت
فراشا كالحرائر ، وللحديث الذي رواه الإمام أحمد ، عن يزيد بن هارون ، عن سعيد بن
أبي عَرُوبَة ، عن قتادة ، عن رجاء بن حيوة ، عن قبيصة بن ذؤيب ، عن عمرو بن العاص
أنه قال : لا تُلْبِسوا علينا سنة نبينا ، عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة
أشهر وعشر (2) ورواه أبو داود ، عن قتيبة ، عن غُنْدَر - وعن ابن المثنى ، عن عبد
الأعلى. وابن ماجة ، عن علي بن محمد ، عن وَكِيع - ثلاثتهم عن سعيد بن أبي عَرُوبة
، عن مَطَر الوراق ، عن رجاء بن حيوة ، عن قبيصة ، عن عمرو بن العاص ، فذكره (3).
وقد روي عن الإمام أحمد أنه أنكر هذا الحديث ، وقيل : إن قبيصة لم يسمع عَمْرًا ،
وقد ذهب إلى القول بهذا الحديث طائفة من السلف ، منهم : سعيد بن المسيب ، ومجاهد ،
وسعيد بن جبير ، والحسن ، وابن سيرين ، وأبو عياض (4) ، والزهري ، وعمر بن عبد
العزيز. وبه كان يأمر يزيد بن عبد الملك بن مروان ، وهو أمير المؤمنين. وبه يقول
الأوزاعي ، وإسحاق بن رَاهْوَيه ، وأحمد بن حنبل ، في رواية عنه. وقال طاوس وقتادة
: عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها نصفُ عدة الحرة : شهران وخمس ليال. وقال أبو
حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والحسن بن صالح بن حَيّ : تعتد بثلاث حيض. وهو قول علي
، وابن مسعود ، وعطاء ، وإبراهيم النخَعي. وقال مالك ، والشافعي ، وأحمد في
المشهور عنه : عدتها حيضة. وبه يقول ابن عمر ، والشعبي ، ومكحول ، والليث ، وأبو
عبيد ، وأبو ثَور ، والجمهور.
قال الليث : ولو مات وهي حائض أجزأتها. وقال مالك : فلو كانت ممن لا تحيض فثلاثة
أشهر. وقال الشافعي والجمهور : شهر ، وثلاثة أحب إلي. والله أعلم.
وقوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ
فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } يستفاد
من هذا وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها مدة عدتها ، لما ثبت في الصحيحين ، من
غير وجه ، عن أم حبيبة وزينب بنت جحش أمي المؤمنين ، أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : "لا يحل لامرأة تؤمن
__________
(1) صحيح البخاري برقم (3208) وصحيح مسلم برقم (2643).
(2) المسند (4/203).
(3) سنن أبي داود برقم (2308) وسنن ابن ماجة برقم (2083).
(4) في جـ : "وأبو عاص".
(1/637)
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
بالله
واليوم الآخر أن تُحد على ميت فوق ثلاث ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا"
(1). وفي الصحيحين أيضا ، عن أم سلمة : أن امرأة قالت : يا رسول الله ، إن ابنتي
تُوفي عنها زوجها ، وقد اشتكت عينُها ، أفنكْحُلُها ؟ فقال : "لا ". كل
ذلك يقول : "لا" مرتين أو ثلاثًا. ثم قال : "إنما هي أربعة أشهر
وعشر (2) وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة". قالت زينب بنت أم سلمة :
كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفْشًا ، ولبست شر ثيابها ، ولم تمس طيبًا
ولا شيئًا ، حتى تمر بها سنة ، ثم تخرج فتعطى بَعْرة فترمي بها ، ثم تؤتى بدابة -
حمار أو شاة أو طير - فَتَفْتَضَّ به فقلما تفتض بشيء إلا مات (3).
ومن هاهنا ذهب كثير من العلماء إلى أن هذه الآية ناسخة للآية التي بعدها ، وهي
قوله : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً
لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ } [البقرة : 240] ، كما
قاله ابن عباس وغيره ، وفي هذا نظر كما سيأتي تقريره.
والغرض أن الإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب ، ولبس ما يدعوها إلى الأزواج
من ثياب وحُلِيٍّ وغير ذلك وهو واجب في عدة الوفاة قولا واحدًا ، ولا يجب في عدة
الرجعية قولا واحدًا ، وهل يجب في عدة البائن ؟ فيه قولان.
ويجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن ، سواء في ذلك الصغيرة
والآيسة (4) والحرة والأمة ، والمسلمة والكافرة ، لعموم الآية. وقال الثوري وأبو
حنيفة وأصحابه : لا إحداد على الكافرة. وبه يقول أشهبُ ، وابنُ نافع من أصحاب
مالك. وحجة قائل هذه المقالة قولهُ صلى الله عليه وسلم (5) : "لا يحل لامرأة
تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدّ على ميت فوق ثلاث ، إلا على زوج أربعة أشهر
وعشرًا" : قالوا : فجعله تعبدًا (6). وألحق أبو حنيفة وأصحابه والثوري
الصغيرة بها ، لعدم التكليف. وألحق أبو حنيفة وأصحابه الأمة المسلمة لنقصها (7).
ومحل تقرير ذلك كله في كتب الأحكام والفروع ، والله الموفق للصواب.
وقوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي : انقضت عدتهن (8). قاله الضحاك
والربيع بن أنس ، { فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } قال الزهري : أي : على أوليائها {
فِيمَا فَعَلْنَ } يعني : النساء اللاتي انقضت عدتهن. قال العوفي (9) عن ابن عباس
: إذا طلقت المرأة أو مات عنها زوجها ، فإذا انقضت عدتها فلا جناح عليها أن تتزين
وتتصنَّع وتتعرض للتزويج ، فذلك المعروف. روي عن مقاتل بن حيان نحوه ، وقال ابن
جريج عن مجاهد : { فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ
بِالْمَعْرُوفِ } قال : هو النكاح الحلال الطيب. وروي عن الحسن ، والزهري ، والسدي
نحو ذلك.
{ وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ
أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ
وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا وَلا
تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) }
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5337) وصحيح مسلم برقم (1486) من حديث زينب بنت جحش رضي
الله عنها ، وصحيح البخاري برقم (5334) وصحيح مسلم برقم (1486) من حديث أم حبيبة
رضي الله عنها.
(2) في جـ : "وعشرا".
(3) صحيح البخاري برقم (5336) وصحيح مسلم برقم (1488).
(4) في جـ : "الصغير والكبير".
(5) في جـ : "عليه السلام".
(6) في جـ : "مقيدا".
(7) في جـ : "لبعضها".
(8) في جـ ، أ ، و : "عدتها".
(9) في جـ : "قال الوالبي".
(1/638)
يقول
تعالى : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أن تُعَرّضوا بخطبة النساء في عدتهن من وفاة
أزواجهن من غير تصريح. قال الثوري وشعبة وجرير وغيرهم ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن
ابن عباس في قوله : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ
خِطْبَةِ النِّسَاءِ } قال : التعريض أن تَقُول : إني أريد التزويج ، وإني أحب امرأة
من أمرها ومن أمرها - يعرض لها بالقول بالمعروف - وفي رواية : وددت أن الله رزقني
امرأة ونحو هذا. ولا يَنْصِبُ للخِطْبة. وفي رواية : إني لا أريد أن أتزوج غيرَك
إن شاء الله ، ولوددت أني وجدت امرأة صالحة ، ولا ينصب لها ما دامت في عدتها.
ورواه البخاري تعليقًا ، فقال : قال لي طلق بن غَنَّام ، عن زائدة ، عن منصور ، عن
مجاهد ، عن ابن عباس : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ
خِطْبَةِ النِّسَاءِ } هو أن يقول : إني أريد التزويج ، وإن النساء لمن حاجتي ،
ولوددت أنه تَيَسَّر لي امرأة صالحة (1).
وهكذا قال مجاهد ، وطاوس ، وعكرمة ، وسعيد بن جُبير ، وإبراهيم النخَعي ، والشعبي
، والحسنُ ، وقتادة ، والزهري ، ويزيد بن قُسَيط ، ومقاتل بن حيَّان ، والقاسم بن
محمد ، وغير واحد من السلف والأئمة في التعريض : أنه يجوز للمتوفى عنها زوجها من
غير تصريح لها بالخطبة. وهكذا حكم المطلقة المبتوتة يجوز التعريض لها ، كما قال
النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس ، حين طلقها زوجها أبو عَمْرو بن حَفْص :
آخر ثلاث تطليقات. فأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم ، وقال لها : "فإذا
حَلَلْت فآذنيني". فلما حلَّتْ خطب عليها أسامة بن زيد مولاه ، فزَوّجها إياه
(2).
فأما المطلقة الرجعية : فلا خلاف في أنه لا يجوز لغير زوجها التصريح بخطبتها ولا
التعريض لها ، والله أعلم.
وقوله : { أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ } أي : أضمرتم في أنفسكم
خطْبَتَهُنّ (3) وهذا كقوله تعالى : { وَرَبُّكَ (4) يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ
صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } [القصص : 69] وكقوله : { وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا
أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ } [المتحنة : 1] ولهذا قال : { عَلِمَ اللَّهُ
أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } أي : في أنفسكم ، فرفع الحرج عنكم في ذلك ، ثم قال
: { وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا } قال أبو مِجْلَز ، وأبو الشعثاء - جابر
بن زيد - والحسن البصري ، وإبراهيم النخعي وقتادة ، والضحاك ، والربيع بن أنس ،
وسليمان التيمي ، ومقاتل بن حيان ، والسدي : يعني الزنا. وهو معنى رواية العَوفي
عن ابن عباس ، واختاره ابن جرير.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5124).
(2) رواه مسلم في صحيحه برقم (1480).
(3) في جـ ، أ ، و : "من خطبتهن".
(4) في جـ : "والله" وهو خطأ.
(1/639)
وقال
علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا } لا تقل
لها : إني عاشق ، وعاهديني ألا تتزوجي غيري ، ونحو هذا. وكذا رُوي عن سعيد بن
جُبير ، والشعبي ، وعكرمة ، وأبي الضحى ، والضحاك ، والزهري ، ومجاهد ، والثوري :
هو أن يأخذ ميثاقها ألا تتزوج غيره ، وعن مجاهد : هو قول الرجل للمرأة : لا
تفوتيني بنفسك ، فإني ناكحك.
وقال قتادة : هو أن يأخذ عهد المرأة ، وهي في عدتها ألا تنكح غيره ، فنهى الله عن
ذلك وقدم فيه ، وأحل الخطبة والقول بالمعروف.
وقال ابن زيد : { وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا } هو أن يتزوجها في العدة
سرًا ، فإذا حلت أظهر ذلك.
وقد يحتمل أن تكون الآية عامة في جميع ذلك ؛ ولهذا قال : { إِلا أَنْ تَقُولُوا
قَوْلا مَعْرُوفًا } قال (1) ابن عباس ، ومجاهد وسعيد بن جبير ، والسدي ، والثوري
، وابن زيد : يعني به : ما تقدم من إباحة التعريض. كقوله : إني فيك لراغب. ونحو
ذلك.
وقال محمد بن سيرين : قلت لعَبِيدة : ما معنى قوله : { إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا
مَعْرُوفًا } ؟ قال : يقول لوليها : لا تسبِقْني بها ، يعني : لا تزوجها حتى
تُعلمني. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله : { وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ
أَجَلَهُ } يعني : ولا تعقدوا العقد بالنكاح حتى تنقضي العدة. قال ابن عباس ،
ومجاهد ، والشعبي ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، وأبو مالك ، وزيد بن أسلم ، ومقاتل
بن حيان ، والزهري ، وعطاء الخراساني ، والسدي ، والثوري ، والضحاك : { حَتَّى
يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } يعني : حتى تنقضي العدة.
وقد أجمع العلماء على أنه لا يصح العقد في مدة العدة. واختلفوا فيمن تزوج امرأة في
عدتها فدخل بها ، فإنه يفرق بينهما ، وهل تحرم عليه أبدا ؟ على قولين : الجمهور
على أنها لا تحرم عليه ، بل له أن يخطبها إذا انقضت عدتها. وذهب الإمام مالك إلى
أنها تحرم عليه على التأبيد. واحتج في ذلك بما رواه عن ابن شهاب ، وسليمان بن يسار
: أن عمر ، رضي الله عنه ، قال : أيما امرأة نكحت في عدتها ، فإن زوجها الذي
تزوجها (2) لم يدخل بها ، فرق بينهما ، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول ، ثم
كان الآخر خاطبا من الخطاب ، وإن كان دخل بها فرق بينهما ، ثم اعتدت بقية عدتها من
الأول (3) ثم اعتدت من الآخر ، ثم لم ينكحها أبدًا (4).
قالوا : ومأخذ هذا : أن الزوج لما استعجل ما أجل الله ، عوقب بنقيض قصده ، فحرمت
عليه على التأبيد ، كالقاتل يحرم (5) الميراثَ. وقد روى الشافعي هذا الأثر عن
مالك. قال البيهقي : وذهب إليه في القديم ورجع عنه في الجديد ، لقول علي : إنها
تحل له.
قلت : ثم هو (6) منقطع عن عمر. وقد روى الثوري ، عن أشعث ، عن الشعبي ، عن مسروق :
__________
(1) في جـ : "وقال".
(2) في جـ ، أ ، و : "زوجها التي تزوج بها".
(3) في جـ : "من زوجها الأول".
(4) الموطأ (2/535).
(5) في جـ : "يحرم عليه".
(6) في جـ : "قلت وهو".
(1/640)
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)
أن
عمر رجع عن ذلك وجعل لها مهرها ، وجعلهما يجتمعان.
وقوله : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ
} توعدهم على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء ، وأرشدهم إلى إضمار الخير دون
الشر ، ثم لم يُؤْيِسْهُم من رحمته ، ولم يُقْنطهم من عائدته ، فقال : {
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } (1).
{ لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ
تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى
الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)
}
أباح تبارك وتعالى طلاق المرأة بعد العقد عليها وقبل الدخول بها. قال ابن عباس ،
وطاوس ، وإبراهيم ، والحسن البصري : المس : النكاح. بل ويجوز أن يطلقها قبل الدخول
بها ، والفرض لها إن كانت مفوضة ، وإن كان في هذا انكسار لقلبها ؛ ولهذا أمر تعالى
بإمتاعها ، وهو تعويضها عما فاتها بشيء تعطاه من زوجها بحسب حاله ، على الموسع
قدره وعلى المقتر قدره.
وقال سفيان الثوري ، عن إسماعيل بن أمية ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : متعة
الطلاق أعلاه الخادم ، ودون ذلك الورق ، ودون ذلك الكسوة.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : إن (2) كان موسرا متعها بخادم ، أو شبه ذلك
، وإن كان معسرا أمتعها بثلاثة أثواب.
وقال الشعبي : أوسط ذلك : درع وخمار وملحفة وجلباب. قال : وكان شريح يمتع
بخمسمائة. وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين قال : كان
يُمتع بالخادم ، أو بالنفقة ، أو بالكسوة ، قال : ومتع الحسن بن علي بعشرة آلاف
(3) ويروى أن المرأة قالت :
متاعٌ قليلٌ من حَبِيبٍ مُفَارق...
وذهب أبو حنيفة ، رحمه الله ، إلى أنه متى تنازع الزوجان في مقدار المتعة وجب لها
عليه نصف مهر مثلها. وقال الشافعي في الجديد : لا يجبر الزوج على قدر معلوم ، إلا
على أقل ما يقع عليه اسم المتعة ، وأحب ذلك إليَّ أن يكون أقله ما تجزئ فيه
الصلاة. وقال في القديم : لا أعرف في المتعة قدرًا (4) إلا أني أستحسن ثلاثين
درهمًا ؛ لما روي عن ابن عمر ، رضي الله عنهما (5).
وقد اختلف العلماء أيضًا : هل تجب المتعة لكل مطلقة ، أو إنما تجب المتعة لغير
المدخول بها التي لم يفرض لها ؟ على أقوال :
أحدها : أنه تجب المتعة لكل مطلقة ، لعموم قوله تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ
مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } [البقرة : 241] ولقوله تعالى
: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا
جَمِيلا } [الأحزاب : 28] وقد كن مفروضا لهن ومدخولا بهن ، (6) وهذا
__________
(1) في جـ ، أ ، و : "غفور حليم" وهو الصواب.
(2) في أ : "إذا".
(3) ورواه الطبري في تفسيره (5/123) من طريق عبد الرزاق به.
(4) في جـ ، أ ، و : "وقتا".
(5) في جـ : "عنه".
(6) في جـ : "وقد كن مدخولا بهن ومفروضا لهن".
(1/641)
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
قول
سعيد بن جُبير ، وأبي العالية ، والحسن البصري. وهو أحد قولي الشافعي ، ومنهم من
جعله الجديد الصحيح ، فالله أعلم.
والقول الثاني : أنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس ، وإن كانت مفروضًا لها
لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ
ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ
مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا }
[الأحزاب : 49] قال شعبة وغيره ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب قال : نسخت هذه
الآية التي في الأحزاب الآية التي في البقرة.
وقد روى البخاري في صحيحه ، عن سهل بن سعد ، وأبي أسَيد أنهما قالا تزوج رسول الله
صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل ، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها فكأنما (1)
كرهت ذلك ، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازِقِيَّين (2) (3).
والقول الثالث : أن المتعة إنما تجب للمطلقة إذا لم يدخل بها ، ولم يفرض (4) لها ،
فإن كان قد دخل بها وجب لها مهر مثلها إذا كانت مفوضة ، وإن كان قد فرض لها وطلقها
قبل الدخول ، وجب لها عليه شطره ، فإن دخل بها استقر الجميع ، وكان ذلك عوضًا لها
عن المتعة ، وإنما المصابة التي لم يفرض لها ولم يدخل بها فهذه التي دلت هذه الآية
الكريمة على وجوب متعتها. وهذا قول ابن عمر ، ومجاهد. ومن العلماء : من استحبها
لكل مطلقة ممن عدا المفوضة المفارقة قبل الدخول : وهذا ليس بمنكور (5) وعليه تحمل
آية التخيير في الأحزاب ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } [البقرة : 241].
ومن العلماء من يقول : إنها مستحبة مطلقًا. قال ابن أبي حاتم : حدثنا كثير بن شهاب
القزويني ، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق ، حدثنا عمرو - يعني ابن أبي قيس - عن أبي
إسحاق ، عن الشعبي قال : ذكروا له المتعة ، أيحبس فيها ؟ فقرأ : { عَلَى
الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ } قال الشعبي : والله ما رأيت
أحدا حبس (6) فيها ، والله لو كانت واجبة لحبس فيها القضاة.
{ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ
لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ
الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا
تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) }
وهذه الآية الكريمة مما يدل على اختصاص المتعة بما دلت عليه الآية الأولى (7) حيث
إنما أوجب في هذه الآية نصف المهر المفروض ، وإذا طلق الزوج قبل الدخول ، فإنه لو
كان ثم واجب آخر من
__________
(1) في أ ، و : "فكأنها".
(2) في جـ : "درافتين".
(3) صحيح البخاري برقم (5226).
(4) في جـ : "ولم يعرض"
(5) في جـ : "بمعلوم".
(6) في جـ : "أحسن".
(7) في أ : "الكريمة".
(1/642)
متعة
لبينها (1) لا سيما وقد قرنها بما قبلها من اختصاص المتعة بتلك الحالة (2) والله
أعلم.
وتشطير الصداق - والحالة هذه - أمر مجمع عليه بين العلماء ، لا خلاف بينهم في ذلك
، فإنه متى كان قد سمى لها صداقًا ثم فارقها قبل دخوله بها ، فإنه يجب لها نصف ما
سمى من الصداق ، إلا أن عند الثلاثة أنه يجب جميع الصداق إذا خلا بها الزوج ، وإن
لم يدخل بها ، وهو مذهب الشافعي في القديم ، وبه حكم الخلفاء الراشدون ، لكن (3)
قال الشافعي : أخبرنا مسلم بن خالد ، أخبرنا ابن جريج ، عن ليث بن أبي سليم ، عن
طاوس ، عن ابن عباس أنه قال : - في الرجل يتزوج المرأة فيخلو بها ولا يمسها ثم
يطلقها - ليس لها إلا نصف الصداق ؛ لأن الله يقول : { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا
فَرَضْتُمْ } قال الشافعي : هذا أقوى (4) وهو ظاهر الكتاب.
قال البيهقي : وليث بن أبي سليم وإن كان غير محتج (5) به ، فقد رويناه من حديث ابن
أبي طلحة ، عن ابن عباس فهو يقوله (6).
وقوله : { إِلا أَنْ يَعْفُونَ } أي : النساء عما وجب لها على زوجها من النصف ،
فلا يجب لها عليه شيء.
قال السدي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس في قوله : { إِلا أَنْ يَعْفُونَ } قال :
إلا أن تعفو الثيب فتدع حقها. قال الإمام أبو محمد بن أبي حاتم ، رحمه الله : وروي
عن شريح ، وسعيد بن المسيب ، وعكرمة ، ومجاهد ، والشعبي ، والحسن ، ونافع ، وقتادة
، وجابر بن زيد ، وعطاء الخراساني ، والضحاك ، والزهري ، ومقاتل بن حيان ، وابن
سيرين ، والربيع بن أنس ، والسدي ، نحو ذلك. قال : وخالفهم محمد بن كعب القرظي
فقال : { إِلا أَنْ يَعْفُونَ } يعني : الرجال ، وهو قول شاذ لم يتابع عليه. انتهى
كلامه.
وقوله : { أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } قال ابن أبي حاتم
: ذكر عن ابن لهيعة ، حدثني عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله
عليه وسلم [قال] (7) : "ولي عقدة النكاح الزوج".
وهكذا أسنده ابن مردويه من حديث عبد الله بن لهيعة ، به (8). وقد أسنده ابن جرير ،
عن ابن لهيعة ، عن عمرو بن شعيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكره (9) ولم
يقل : عن أبيه ، عن جده فالله أعلم.
ثم قال ابن أبي حاتم ، رحمه الله : وحدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا
جرير ، يعني ابن حازم ، (10) عن عيسى - يعني ابن عاصم - قال : سمعت شريحًا يقول :
سألني علي بن طالب (11)
__________
(1) في أ : "لمسها".
(2) في جـ : "المتعة مهما دلت عليه الآية الأولى بتلك الحالة".
(3) في جـ : "ولكن".
(4) في جـ ، و : "بهذا أقول" ، وفي أ : "بهذا القول".
(5) في جـ : "غير صحيح".
(6) في أ ، و : "فهو مقوله".
(7) زيادة من جـ ، أ ، و.
(8) ورواه الدارقطني في السنن (3/279) من طريق قتيبة عن ابن لهيعة به ، وذكر
البيهقي في السنن الكبرى (7/251) وقال : "هذا غير محفوظ ، وابن لهيعة غير
محتج به ، والله أعلم".
(9) تفسير الطبري (5/157).
(10) في جـ : "يعني ابن أبي حازم".
(11) في أ : "علي بن أبي طلحة" ، وفي و : "علي بن أبي طالب".
(1/643)
عن
الذي بيده عقدة النكاح. فقلت له : هو ولي المرأة. فقال علي : لا بل هو الزوج.
ثم قال : وفي إحدى الروايات عن ابن عباس ، وجبير بن مطعم ، وسعيد بن المسيب ،
وشريح - في أحد قوليه - وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والشعبي ، وعكرمة ، ونافع ،
ومحمد بن سيرين ، والضحاك ، ومحمد بن كعب القرظي ، وجابر بن زيد ، وأبي مِجْلز ،
والربيع بن أنس ، وإياس بن معاوية ، ومكحول ، ومقاتل بن حيان : أنه الزوج.
قلت : وهذا هو الجديد من قولي (1) الشافعي ، ومذهب أبي حنيفة. وأصحابه ، والثوري ،
وابن شبرمة ، والأوزاعي ، واختاره ابن جرير. ومأخذ هذا القول : أن الذي بيده عقدة
النكاح حقيقة الزوج ، فإن بيده (2) عقدها وإبرامها ونقضها وانهدامها ، وكما أنه لا
يجوز للولي أن يهب شيئًا من مال المولية للغير ، فكذلك في الصداق.
قال (3) والوجه الثاني : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا محمد بن مسلم ،
حدثنا عمرو بن دينار ، عن ابن عباس - في الذي ذكر الله بيده عقدة النكاح - قال : ذلك
أبوها أو أخوها ، أو من لا تنكح إلا بإذنه ، وروي عن علقمة ، والحسن ، وعطاء ،
وطاوس ، والزهري ، وربيعة ، وزيد بن أسلم ، وإبراهيم النخعي ، وعكرمة في أحد قوليه
، ومحمد بن سيرين - في أحد قوليه : أنه الولي. وهذا مذهب مالك ، وقول (4) الشافعي
في القديم ؛ ومأخذه أن الولي هو الذي أكسبها إياه ، فله التصرف فيه بخلاف سائر
مالها.
وقال ابن جرير : حدثنا سعيد بن الربيع الرازي ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ،
عن عكرمة قال : أذن الله في العفو وأمر به ، فأي امرأة عفت جاز عفوها ، فإن شحت
وضنت عفا وليها وجاز عفوه.
وهذا يقتضي صحة عفو الولي ، وإن كانت رشيدة ، وهو مروي عن شريح. لكن أنكر عليه
الشعبي ، فرجع عن ذلك ، وصار إلى أنه الزوج وكان يباهل عليه.
وقوله : { وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } قال ابن جرير : قال بعضهم :
خُوطب به الرجال ، والنساء. حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، سمعت ابن جريج يحدث عن
عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس : { وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } قال :
أقربهما للتقوى الذي يعفو.
وكذا روي عن الشعبي وغيره ، وقال مجاهد ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، والربيع بن
أنس ، والثوري : الفضل (5) هاهنا أن تعفو المرأة عن شطرها ، أو إتمام الرجل الصداق
لها. ولهذا قال : { وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ [بَيْنَكُمْ ] (6) } أي : الإحسان ،
قاله سعيد. وقال الضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وأبو وائل : المعروف ، يعني : لا
تهملوه بل استعملوه بينكم.
وقد قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن إسحاق
،
__________
(1) في جـ : "من مذهب".
(2) في جـ : "فإن بيدها".
(3) في جـ : "وقال".
(4) في جـ : "وهو قول".
(5) في جـ : والفضل".
(6) زيادة من جـ.
(1/644)
حدثنا
عقبة بن مكرم ، حدثنا يونس بن بكير ، حدثنا عبيد الله (1) بن الوليد الوصافي ، عن
عبد الله بن عبيد ، عن علي بن أبي طالب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"ليأتينَّ على الناس زمان عَضُوض ، يَعَضّ المؤمن على ما في يديه وينسى الفضل
، وقد قال الله تعالى : { وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } شرار يبايعون كل
مضطر ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر ، وعن بيع الغَرَر ،
فإن كان عندك خير فعُدْ به على أخيك ، ولا تزده هلاكًا إلى هلاكه ، فإن المسلم أخو
المسلم لا يَحْزُنه (2) ولا يحرمه" (3).
وقال سفيان ، عن أبي هارون قال : رأيت عون بن عبد الله في مجلس القرظي ، فكان عون
يحدثنا ولحيته تُرَش من البكاء ويقول : صحبت الأغنياء فكنت من أكثرهم هَمًّا ، حين
رأيتهم أحسن ثيابًا ، وأطيب ريحًا ، وأحسن مركبًا [منى] (4). وجالست الفقراء
فاسترحت بهم ، وقال : { وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } إذا أتاه السائل
وليس عنده شيء فَلْيَدْعُ له : رواه ابن أبي حاتم.
{ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : لا يخفى عليه شيء من أموركم (5)
وأحوالكم ، وسيجزي كل عامل بعمله.
__________
(1) في أ ، و : "عبد الله".
(2) في أ : "لا يخزيه".
(3) وقد جاء من وجه آخر ، رواه أحمد في المسند (1/116) وأبو داود في السنن برقم
(3382) من طريق أبي عامر المزني عن شيخ من بني تميم عن علي موقوفا عليه بنحوه.
(4) زيادة من جـ ، أ ، و.
(5) في جـ : "من أعمالكم".
(1/645)
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
{
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ
قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ
فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) }
يأمر الله تعالى بالمحافظة على الصلوات في أوقاتها ، وحفظ حدودها وأدائها في
أوقاتها ، كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال : سألت رسول الله صلى الله عليه
وسلم : أي العمل أفضل ؟ قال : "الصلاة على وقتها". قلت : ثم أي ؟ قال :
"الجهاد في سبيل الله". قلت : ثم أي ؟ قال : "بر الوالدين".
قال : حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو استزدتُه لزادني (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا ليث ، عن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم ،
عن القاسم بن غنام ، عن جدته أم أبيه الدنيا ، عن جدته أم فَرْوَة - وكانت ممن
بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وذكر الأعمال ، فقال : "إن أحب الأعمال (2) إلى الله تعجيلُ الصلاة لأول وقتها".
وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي (3) وقال : لا نعرفه إلا من طريق العمري ، وليس
بالقوي عند أهل الحديث :
وخص تعالى من بينها بمزيد التأكيد الصلاة الوسطى. وقد اختلف السلف والخلف فيها :
أي
__________
(1) صحيح البخاري برقم (527 ، 5970) وصحيح مسلم برقم (85).
(2) في جـ : "العمل".
(3) المسند (6/274) وسنن أبي داود برقم (426) وسنن الترمذي برقم (170).
(1/645)
صلاة
هي ؟ فقيل : إنها الصبح. حكاه مالك في الموطأ بلاغًا عن علي ، وابن عباس [قال :
مالك : وذلك رأيى] (1). وقال هشيم ، وابن عُليَّة ، وغُنْدَر ، وابن أبي عدي ،
وعبد الوهاب ، وشَريك وغيرهم ، عن عوف الأعرابي ، عن أبي رجاء العطاردي قال : صليت
خلف ابن عباس الفجر ، فقنتَ فيها ، ورفع يديه ، ثم قال : هذه الصلاة الوسطى التي
أمرنا أن نقوم فيها قانتين. رواه ابن جرير (2). ورواه أيضًا من حديث عوف ، عن
خِلاس بن عمرو ، عن ابن عباس ، مثله سواء (3).
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا عوف ، عن أبي المنهال
، عن أبي العالية ، عن ابن عباس : أنه صلى الغداة في مسجد (4) البصرة ، فقنت قبل
الركوع وقال : هذه الصلاة الوسطى التي ذكرها الله في كتابه فقال : { حَافِظُوا
عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ }
وقال أيضًا : حدثنا محمد بن عيسى الدامغاني ، أخبرنا ابن المبارك ، أخبرنا الربيع
بن أنس ، عن أبي العالية قال : صليت خلف عبد الله بن قيس بالبصرة (5) صلاة الغداة
، فقلت لرجل من أصحاب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، إلى جانبي : ما الصلاة
الوسطى ؟ قال : هذه الصلاة (6).
وروي من طريق أخرى عن الربيع ، عن أبي العالية : أنه صلى مع أصحاب رسول الله ، صلى
الله عليه وسلم ، صلاة الغداة ، فلما فرغوا قال ، قلت لهم : أيَّتهُنَّ الصلاة
الوسطى ؟ قالوا : التي قد صليتها قبل.
وقال أيضًا : حدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن عَتمَةَ ، عن سعيد بن بشير ، عن قتادة ،
عن جابر بن عبد الله قال : الصلاة الوسطى : صلاة الصبح.
وحكاه ابن أبي حاتم ، عن ابن عمر ، وأبي أمامة ، وأنس ، وأبي العالية ، وعُبَيد بن
عمير ، وعطاء ، ومجاهد ، وجابر بن زيد ، وعكرمة ، والربيع بن أنس. ورواه ابن جرير
، عن عبد الله بن شداد بن الهاد أيضا وهو الذي نص عليه الشافعي ، رحمه الله ،
محتجا بقوله : { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } والقنوت عنده في صلاة الصبح.
[ونقله الدمياطي عن عمر ، ومعاذ ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعائشة على خلاف منهم ،
وأبي موسى ، وجابر ، وأنس ، وأبي الشعثاء ، وطاوس ، وعطاء ، وعكرمة ، ومجاهد] (7).
ومنهم من قال : هي الوسطى باعتبار أنها لا تقصر ، وهي بين صلاتين رباعيتين
مقصورتين. وترد المغرب. وقيل : لأنها بين صلاتَيْ ليل (8) جهريتين ، وصلاتي نهار
(9) سريتين.
وقيل : إنها صلاة الظهر. قال أبو داود الطيالسي في مسنده : حدثنا ابن أبي ذئب ، عن
الزبرقان -
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) تفسير الطبري (5/215 ، 216).
(3) تفسير الطبري (5/218).
(4) في جـ : "في جامع".
(5) في أ ، و : "بالبصرة وفرغت".
(6) في أ : "هذه الصلاة الوسطى".
(7) زيادة من جـ ، أ.
(8) في أ ، و : "بين صلاتين ليليتين".
(9) في أ ، و : "وصلاتين نهاريتين".
(1/646)
يعني
ابن عمرو - عن (1) زهرة - يعني ابن معبد - قال : كنا جلوسا عند زيد بن ثابت ،
فأرسلوا إلى أسامة ، فسألوه عن الصلاة الوسطى ، فقال : هي الظهر ، كان النبي (2)
صلى الله عليه وسلم ، يصليها بالهجير (3).
وقال [الإمام] (4) أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، حدثني عمْرو بن أبي
حكيم ، سمعت الزبرقان يحدث عن عروة بن الزبير ، عن زيد بن ثابت قال : كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ، ولم يكن يُصَلِّي صلاة أشد على
أصحاب النبي ، صلى الله عليه وسلم ، منها ، فنزلت : { حَافِظُوا عَلَى
الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى } وقال : "إن قبلها صلاتين وبعدها
صلاتين" ، ورواه أبو داود في سننه ، من حديث شعبة ، به (5).
وقال أحمد أيضا : حدثنا يزيد ، حدثنا ابن أبي ذئب (6) عن الزبرقان (7) أن رهطًا من
قريش مر بهم زيد بن ثابت ، وهم مجتمعون ، فأرسلوا إليه غلامين لهم ؛ يسألانه عن
الصلاة الوسطى ، فقال : هي العصر. فقام إليه رجلان منهم فسألاه ، فقال : هي الظهر.
ثم انصرفا إلى أسامة بن زيد فسألاه ، فقال : هي الظهر ؛ إن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يصلي الظهر بالهجير ، فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان ، والناس في
قائلتهم وفي تجارتهم ، فأنزل الله : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ
الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } قال : فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "ليَنْتَهيَنَّ رجال أو لأحرقن بيوتهم" (8).
الزبرقان هو ابن عمرو بن أمية الضمري ، لم يدرك أحدا من الصحابة. والصحيح ما تقدم
من روايته ، عن زهرة بن معبد ، وعروة بن الزبير.
وقال شعبة وهمام ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عمر ، عن زيد بن ثابت
قال : الصلاة الوسطى : صلاة الظهر.
وقال أبو داود الطيالسي وغيره ، عن شعبة ، أخبرني عمر بن سليمان ، من ولد عمر بن
الخطاب قال : سمعت عبد الرحمن بن أبان بن عثمان ، يحدث عن أبيه ، عن زيد بن ثابت
قال : الصلاة الوسطى هي الظهر.
ورواه ابن جرير ، عن زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، عن عبد الصمد ، عن شعبة ، عن
عمر بن سليمان ، به ، عن زيد بن ثابت ، في حديث رفعه قال : الصلاة الوسطى صلاة
الظهر.
وممن روي عنه أنها الظهر : ابن عمر ، وأبو سعيد ، وعائشة على اختلاف عنهم. وهو قول
عروة بن الزبير ، وعبد الله بن شداد بن الهاد. ورواية عن أبي حنيفة ، رحمهم الله.
وقيل : إنها صلاة العصر. قال الترمذي والبغوي ، رحمهما الله : وهو قول أكثر علماء
الصحابة وغيرهم ، وقال القاضي الماوردي : وهو قول جمهور التابعين. وقال الحافظ أبو
عمر بن عبد البر : هو قول أكثر أهل الأثر. وقال أبو محمد بن عطية في تفسيره : هو
قول جمهور الناس. وقال الحافظ
__________
(1) في جـ : "وعن".
(2) في جـ : "رسول الله".
(3) مسند الطيالسي برقم (628).
(4) زيادة من جـ.
(5) المسند (5/183) وسنن أبي داود برقم (411).
(6) في أ : "حدثنا ابن أبي وهب" ، وفي و : "أنبأنا أبي وهب".
(7) في أ : "ابن الزبرقان".
(8) المسند (5/206).
(1/647)
أبو
محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي في كتابه المسمى : "كشف المغطى ، في تبيين
الصلاة الوسطى" : وقد نصر فيه أنها العصر ، وحكاه عن عمر ، وعلي ، وابن مسعود
، وأبي أيوب ، وعبد الله ابن عمرو ، وسَمُرة بن جُنْدُب ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد
، وحفصة ، وأم حبيبة ، وأم سلمة. وعن ابن عمر ، وابن عباس ، وعائشة على (1) الصحيح
عنهم. وبه قال عبيدة ، وإبراهيم النخعي ، وزر بن حبيش ، وسعيد بن جبير ، وابن
سيرين ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، والكلبي ، ومقاتل ، وعبيد بن أبي مريم ،
وغيرهم وهو مذهب أحمد بن حنبل. قال القاضي الماوردي : والشافعي. قال ابن المنذر :
وهو الصحيح عن أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، واختاره ابن حبيب المالكي ، رحمهم
الله.
ذكر الدليل على ذلك :
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن مسلم ، عن شتير بن شكل (2)
عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : "شغلونا عن
الصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارًا". ثم صلاها بين
العشاءين : المغرب والعشاء (3).
وكذا رواه مسلم ، من حديث أبي معاوية محمد بن حازم الضرير ، والنسائي من طريق عيسى
بن يونس ، كلاهما عن الأعمش عن مسلم بن صبيح عن أبي الضحى ، عن شتير بن شكل (4) بن
حميد ، عن علي بن أبي طالب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله (5).
وقد رواه مسلم أيضا ، من طريق شعبة ، عن الحكم بن عتيبة (6) عن يحيى بن الجزار ،
عن علي ، به (7).
وأخرجه الشيخان ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وغير واحد من أصحاب المساند
(8) والسنن ، والصحاح من طرق يطول ذكرها ، عن عبيدة السلماني ، عن علي ، به (9).
ورواه الترمذي ، والنسائي من طريق الحسن البصري ، عن علي ، به (10). قال الترمذي :
ولا يعرف سماعه منه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ،
عن عاصم ، عن زر : قال قلت لعبيدة : سل عليًا عن صلاة الوسطى ، فسأله ، فقال : كنا
نراها الفجر - أو الصبح - حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب
: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، ملأ الله قبورهم وأجوافهم - أو
بيوتهم - نارًا" ورواه ابن جرير ، عن بندار ، عن ابن مهدي ،
__________
(1) في جـ : "في".
(2) في جـ : "بشير بن نكل".
(3) المسند (1/81).
(4) في جـ : "بشير بن نكل".
(5) صحيح مسلم برقم (627) وسنن النسائي الكبرى برقم (11045).
(6) في أ : "بن عيينة".
(7) صحيح مسلم برقم (627).
(8) في أ : "المسانيد".
(9) صحيح البخاري برقم (2931 ، 4111) وصحيح مسلم برقم (627) وسنن أبي داود برقم
(409) وسنن الترمذي برقم (2984) وسنن النسائي (1/236).
(10) لم أقع على هذا الطريق ولم يذكره المزي في تحفة الأشراف.
(1/648)
به
(1).
وحديث يوم الأحزاب ، وشَغْل المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه عن
أداء صلاة العصر يومئذ ، مروي عن جماعة من الصحابة يطول ذكرهم ، وإنما المقصود
رواية من نص منهم في روايته أن الصلاة الوسطى : هي صلاة العصر. وقد رواه مسلم أيضا
، من حديث ابن مسعود ، والبراء بن عازب - رضي الله عنهما (2).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا همام ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن
سَمُرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "صلاة الوسطى : صلاة
العصر" (3).
وحدثنا بهز ، وعفان قالا حدثنا أبان ، حدثنا قتادة ، عن الحسن ، عن سَمُرة : أن
رسول الله ، صلى الله عليه وسلم قال : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ
الْوُسْطَى } وسماها لنا أنها هي : صلاة العصر (4).
وحدثنا محمد بن جعفر ، وروح ، قالا حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سَمُرة
بن جندب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "هي العصر". قال ابن
جعفر : سئل عن صلاة الوسطى (5).
ورواه الترمذي ، من حديث سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة. (6)
وقال : حسن صحيح : وقد سُمِعَ منه.
[حديث آخر] (7) : وقال ابن جرير : حدثنا أحمد بن منيع ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء
، عن التيمي ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: "الصلاة الوسطى صلاة العصر" (8).
طريق أخرى ، بل حديث آخر : وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا سليمان بن أحمد
الجرشي الواسطي ، حدثنا الوليد بن مسلم. قال : أخبرني صدقة بن خالد ، حدثني خالد
بن دهقان ، عن خالد بن سبلان ، عن كهيل بن حرملة. قال : سئل أبو هريرة عن الصلاة
الوسطى ، فقال : اختلفنا فيها كما اختلفتم فيها ، ونحن بفناء بيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، وفينا الرجل الصالح : أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ،
فقال : أنا أعلم لكم ذلك : فقام فاستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل
عليه ، ثم خرج إلينا فقال : أخبرنا أنها صلاة العصر (9) غريب من هذا الوجه جدًا.
حديث آخر : قال ابن جرير : حدثنا أحمد بن إسحاق ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا عبد
السلام ، عن سالم مولى أبي بصير (10) حدثني إبراهيم بن يزيد الدمشقي قال : كنت
جالسًا عند عبد العزيز بن
__________
(1) تفسير الطبري (5/184).
(2) صحيح مسلم برقم (628) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وبرقم (630) من حديث
البراء رضي الله عنه.
(3) المسند (5/22).
(4) المسند (5/8).
(5) المسند (5/7 ، 12 ، 13).
(6) سنن الترمذي برقم (182 ، 2983).
(7) زيادة من جـ ، أ.
(8) تفسير الطبري (5/189).
(9) تفسير الطبري (5/191).
(10) في أ : "أبي نصير".
(1/649)
مروان
فقال : يا فلان ، اذهب إلى فلان فقل له : أي شيء سمعت من رسول الله ، صلى الله
عليه وسلم. في الصلاة الوسطى ؟ فقال رجل جالس : أرسلني أبو بكر وعمر - وأنا غلام
صغير - أسأله عن الصلاة الوسطى ، فأخذ إصبعي الصغيرة فقال : هذه الفجر ، وقبض التي
تليها ، فقال : هذه الظهر. ثم قبض الإبهام ، فقال : هذه المغرب. ثم قبض التي تليها
، فقال : هذه العشاء. ثم قال : أي أصابعك بقيت ؟ فقلت : الوسطى. فقال : أي الصلاة
بقيت ؟ فقلت : العصر. فقال : هي العصر (1). غريب أيضًا.
حديث آخر : قال ابن جرير : حدثني محمد بن عوف الطائي ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن
عياش (2) حدثني أبي ، حدثني ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعري
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الصلاة الوسطى صلاة العصر"
(3). إسناده لا بأس به.
حديث آخر : قال أبو حاتم بن حبان في صحيحه : حدثنا أحمد بن يحيى بن زهير ، حدثنا
الجراح بن مخلد ، حدثنا عمرو بن عاصم ، حدثنا همام عن قتادة عن مُوَرِّق (4)
العِجْلي ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"صلاة الوسطى صلاة العصر" (5).
وقد روى الترمذي ، من حديث محمد بن طلحة بن مصرف ، عن زبيد اليامي ، عن مُرَّة
الهَمداني ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صلاة
الوسطى صلاة العصر " (6) ثم قال : حسن صحيح.
وأخرجه مسلم في صحيحه ، من طريق (7) محمد بن طلحة ، به (8) ولفظه : "شغلونا
عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" الحديث.
فهذه نصوص في المسألة لا تحتمل شيئا ، ويؤكد ذلك الأمر بالمحافظة عليها ، وقوله
صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ، من رواية الزهري ، عن سالم ، عن أبيه : أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله
وماله (9) " (10). وفي الصحيح أيضًا ، من حديث الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي
كثير ، عن أبي قِلابة ، عن أبي المهاجر (11) عن بُرَيدة بن الحُصَيْب ، عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال : "بكروا بالصلاة في يوم الغيم ، فإنه من ترك صلاة
العصر فقد حبط عمله" (12) (13).
__________
(1) تفسير الطبري (5/196).
(2) في أ : "بن عباس".
(3) تفسير الطبري (5/198) وقول الحافظ : إسناده لا بأس به ، متعقب ؛ فإن في إسناده
ضعف وانقطاع ، وهذه نسخة مشهورة خرجها الطبراني في المعجم الكبير.
(4) وقع في هـ : "همام بن مورق" والتصحيح من الإحسان.
(5) صحيح ابن حبان (3/121) "الإحسان".
(6) سنن الترمذي برقم (181).
(7) في جـ : "من حديث".
(8) صحيح مسلم برقم (628).
(9) في جـ : "ماله وأهله".
(10) صحيح مسلم برقم (626).
(11) في جـ : "عن أبي المهاجر عن أبي المليح".
(12) الذي في الصحيح إنما هو عن هشام عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي قلابة ، عن أبي
المليح ، عن بريدة رضي الله عنه ، وهو في صحيح البخاري برقم (553) ، وهذا الثاني
إنما هو في سنن ابن ماجة برقم (694) ، والأول هو المحفوظ ، وقد وقع في نسخة
"جـ" إثباته على الصواب ، كما بينته ، لكن وقع تخليط في ذلك ؛ لأنه أثبت
كلمة : "وفي الصحيح" ثم تدارك ذلك.
(13) جاء في جـ : "كذا رواه ابن ماجة من حديث الأوزاعي ، ورواه البخاري والنسائي
من حديث هشام الدستوائي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي قلابة ، عن أبي المليح بن
أسامة ، عن بريدة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : "من ترك صلاة العصر فقد
حبط عمله".
(1/650)
وقال
الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، أخبرنا ابن لهيعة ، عن عبد الله بن هبيرة ،
عن أبي تميم ، عن أبي بصرة (1) الغفاري قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم في واد من أوديتهم ، يقال له : المخَمَّص صلاة العصر ، فقال : "إن هذه
الصلاة صلاة العصر عُرِضَت على الذين من قبلكم فضيعوها ، ألا ومن صلاها ضُعِّف له
أجره مرتين ، ألا ولا صلاة بعدها حتى تروا (2) الشاهد".
ثم قال : رواه عن يحيى بن إسحاق ، عن الليث ، عن خير (3) بن نُعيِم ، عن عبد الله
بن هبيرة ، به (4).
وهكذا رواه مسلم والنسائي جميعا ، عن قتيبة ، عن الليث (5). ورواه مسلم أيضاً من
حديث محمد بن إسحاق ، حدثني يزيد بن أبي حبيب كلاهما عن خير بن نعيم الحضرمي ، عن
عبد الله ابن هبيرة السبائي (6) (7).
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد أيضا : حدثنا إسحاق ، أخبرني مالك ، عن زيد بن
أسلم ، عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي يونس مولى عائشة قال : أمرتني عائشة أن أكتب
لها مصحفاً ، قالت : إذا بلغت هذه الآية : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ
وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى } فآذني. فلما بلغتها آذنتها ، فأملت علي : "حافظوا
على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين" قالت : سمعتها من
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا رواه مسلم ، عن يحيى بن يحيى ، عن مالك ، به
(8).
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا الحجاج ، حدثنا حماد ، عن هشام بن عروة عن
أبيه قال : كان في مصحف عائشة : "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة
العصر". (9) وهكذا رواه من طريق الحسن البصري : أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قرأها كذلك. وقد روى الإمام مالك أيضا ، عن زيد بن أسلم عن عمرو بن رافع قال
: كنت أكتب مصحفا لحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : إذا بلغت هذه
الآية فآذني : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى } فلما
بلغتها آذنتها. فأملت علي : "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر
وقوموا لله قانتين" (10).
وهكذا رواه محمد بن إسحاق بن يسار (11) فقال : حدثني أبو جعفر محمد بن علي ، ونافع
مولى بن عمر : أن عمر بن نافع قال... فذكر مثله ، وزاد : كما حفظتها من النبي صلى
الله عليه وسلم.
__________
(1) جـ : "عن أبي نضرة".
(2) في أ : "حتى يزول".
(3) في جـ : "عن حسن".
(4) المسند (6/397).
(5) صحيح مسلم برقم (830) وسنن النسائي (1/259).
(6) في أ : "الشيباني".
(7) صحيح مسلم برقم (830).
(8) المسند (6/73) وصحيح مسلم برقم (629).
(9) تفسير الطبري (5/175).
(10) الموطأ (1/139).
(11) في جـ : "بن بشار".
(1/651)
طريق
أخرى عن حفصة : قال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا
شعبة ، عن أبي بشر ، عن عبد الله بن يزيد الأزدي ، عن سالم بن عبد الله : أن حفصة
أمرت إنساناً أن يكتب لها مصحفا ، فقالت : إذا بلغت هذه الآية : { حَافِظُوا عَلَى
الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى } فآذني. فلما بلغ آذنها فقالت : اكتب :
"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر" (1).
طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثني ابن المثنى عبد الوهاب ، حدثنا عبيد الله ، عن
نافع ، أن حفصة أمرت مولى لها أن يكتب لها مصحفا فقالت : إذا بلغت هذه الآية :
" حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " فلا تكتبها حتى أمليها عليك كما
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها. فلما بلغها أمرته فكتبها :
"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين". قال
نافع : فقرأت ذلك المصحف فرأيت فيه "الواو" (2).
وكذا روى ابن جرير ، عن ابن عباس وعبيد بن عمير أنهما قرآ كذلك.
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا عبدة ، حدثنا محمد بن عمرو ، حدثني أبو
سلمة ، عن عمرو بن رافع مولى عمر قال : كان في مصحف حفصة : "حافظوا على
الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين" (3). وتقرير المعارضة
أنه عطف صلاة العصر على الصلاة الوسطى بواو العطف التي تقتضي المغايرة ، فدل ذلك
على أنها غيرها وأجيب عن ذلك بوجوه : أحدها أن هذا إن روي على أنه خبر ، فحديث علي
أصح وأصرح منه ، وهذا يحتمل أن تكون الواو زائدة ، كما في قوله : { وَكَذَلِكَ
نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } [الأنعام : 55] ، {
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ
مِنَ الْمُوقِنِينَ } [الأنعام : 75] ، أو تكون لعطف الصفات لا لعطف الذوات ،
كقوله : { وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } [الأحزاب : 40] ،
وكقوله : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي
قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى } [الأعلى 1 - 4] وأشباه ذلك
كثيرة ، وقال الشاعر :
إلى الملك القرم وابن الهمام... وليث الكتيبة في المزدحم...
وقال أبو دؤاد الإيادي :
سلط الموت والمنون عليهم... فلهم في صدى المقابر هام (4)
والموت هو المنون ؛ قال عدي بن زيد العبادي :
فقدمت الأديم لراهشيه... فألفى قولها كذبا ومينا (5)
والكذب : هو المين ، وقد نص سيبويه شيخ النحاة على جواز قول القائل : مررت بأخيك
وصاحبك ، ويكون الصاحب هو الأخ نفسه ، والله أعلم.
__________
(1) تفسير الطبري (5/208 ، 209).
(2) تفسير الطبري (5/209).
(3) تفسير الطبري (5/211).
(4) البيت في لسان العرب لابن منظور ، مادة "منن".
(5) البيت في لسان العرب لابن منظور ، مادة "مين".
(1/652)
وأما
إن روي على أنه قرآن فإنه لم يتواتر ، فلا يثبت بمثل خبر الواحد قرآن ؛ ولهذا لم
يثبته أمير المؤمنين عثمان بن عفان في المصحف الإمام ، ولا قرأ بذلك أحد من القراء
الذين تثبت الحجة بقراءتهم ، لا من السبعة ولا غيرهم. ثم قد روي ما يدل على نسخ
هذه التلاوة المذكورة في هذا الحديث. قال مسلم : حدثنا إسحاق بن راهويه ، أخبرنا
يحيى بن آدم ، عن فضيل بن مرزوق ، عن شقيق بن عقبة ، عن البراء بن عازب ، قال :
نزلت : "حافظوا على الصلوات وصلاة العصر (1) " فقرأناها على رسول الله
صلى الله عليه وسلم ما شاء الله ، ثم نسخها الله ، عز وجل ، فأنزل : { حَافِظُوا
عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى } فقال له زاهر - رجل كان مع شقيق - :
أفهي العصر ؟ قال : قد حدثتك كيف نزلت ، وكيف نسخها الله ، عز وجل.
قال مسلم : ورواه الأشجعي ، عن الثوري ، عن الأسود ، عن شقيق (2).
قلت : وشقيق هذا لم يرو له مسلم سوى هذا الحديث الواحد ، والله أعلم. فعلى هذا
تكون هذه التلاوة ، وهي تلاوة الجادة ، ناسخة للفظ رواية عائشة وحفصة ، ولمعناها ،
إن كانت الواو دالة على المغايرة ، وإلا فللفظها فقط ، والله أعلم.
وقيل : إن الصلاة الوسطى هي صلاة المغرب. رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس. وفي
إسناده نظر ؛ فإنه رواه عن أبيه ، عن أبي الجُمَاهر (3) عن سعيد بن بشير ، عن
قتادة ، عن أبي الخليل ، عن عمه ، عن ابن عباس قال : صلاة الوسطى : المغرب. وحكى
هذا القول ابن جرير عن قبيصة بن ذؤيب وحكي أيضاً عن قتادة على اختلاف عنه. ووجه
هذا القول بعضهم بأنها : وسطى في العدد بين الرباعية والثنائية ، وبأنها وتر
المفروضات ، وبما جاء فيها من الفضيلة ، والله أعلم.
وقيل : إنها العشاء الآخرة ، اختاره علي بن أحمد الواحدي في تفسيره المشهور : وقيل
: هي واحدة من الخمس ، لا بعينها ، وأبهمت فيهن ، كما أبهمت ليلة القدر في الحول
أو الشهر أو العشر. ويحكى هذا القول عن سعيد بن المسيب ، وشريح القاضي ، ونافع
مولى ابن عمر ، والربيع بن خيثم ، ونقل أيضاً عن زيد بن ثابت ، واختاره إمام
الحرمين الجويني في نهايته.
وقيل : بل الصلاة الوسطى مجموع الصلوات الخمس ، رواه ابن أبي حاتم عن ابن عمر ،
وفي صحته أيضاً نظر والعجب أن هذا القول اختاره الشيخ أبو عمر بن عبد البر
النَّمري ، إمام ما وراء البحر ، وإنها لإحدى الكبر ، إذ اختاره - مع اطلاعه وحفظه
- ما لم يقم عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا أثر. وقيل : إنها صلاة العشاء وصلاة
الفجر ، وقيل : بل هي صلاة الجماعة. وقيل : صلاة الجمعة. وقيل : صلاة الخوف. وقيل
: بل صلاة عيد الفطر. وقيل : بل صلاة عيد الأضحى. وقيل : الوتر. وقيل : الضحى.
وتوقف فيها آخرون لما تعارضت عندهم الأدلة ، ولم يظهر لهم وجه الترجيح. ولم يقع
الإجماع على قول واحد ، بل لم يزل التنازع (4) فيها موجودا من زمن الصحابة وإلى
الآن.
__________
(1) في جـ ، أ : "والصلاة الوسطى صلاة العصر".
(2) صحيح مسلم برقم (63).
(3) في أ : "عن أبي الجماهير".
(4) في أ ، و : "النزاع".
(1/653)
قال
ابن جرير : حدثني محمد بن بشار وابن مثنى ، قالا حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة
قال : سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا ، وشَبَّك بين أصابعه (1).
[وقد حكى فخر الدين الرازي في تفسيره قولا عن جمع من العلماء منهم زيد بن ثابت ،
وربيع ابن خيثم : أنها لم يرد بيانها ، وإنما أريد إبهامها ، كما أبهمت ليلة القدر
في شهر رمضان ، وساعة الإجابة في يوم الجمعة ، والاسم الأعظم في أسماء الله تعالى
، ووقت الموت على المكلف ؛ ليكون في كل وقت مستعداً ، وكذا أبهمت الليلة التي ينزل
فيها من السماء وباء ليحذرها الناس ، ويعطوا الأهبة دائماً ، وكذا وقت الساعة
استأثر الله بعلمه ؛ فلا تأتي إلا بغته] (2).
وكل هذه الأقوال فيها ضعف بالنسبة إلى التي قبلها ، وإنما المدار ومعترك النزاع في
الصبح والعصر. وقد ثبتت السنة بأنها العصر ، فتعين المصير إليها.
وقد روى الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في كتاب "فضائل
الشافعي" رحمه الله : حدثنا أبي ، سمعت حرملة بن يحيى التجيبي يقول : قال
الشافعي : كل ما قلت فكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح ، فحديث
النبي صلى الله عليه وسلم أولى ، ولا تقلدوني. وكذا روى الربيع والزعفراني وأحمد
بن حنبل ، عن الشافعي. وقال موسى أبو الوليد بن أبي الجارود ، عن الشافعي : إذا صح
الحديث وقلت قولا فأنا راجع عن قولي وقائل بذلك. فهذا من سيادته وأمانته ، وهذا
نفس إخوانه من الأئمة ، رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين آمين. ومن هاهنا قطع القاضي
الماوردي بأن مذهب الشافعي ، رحمه الله ، أن صلاة الوسطى هي صلاة العصر ، وإن كان
قد نص في الجديد وغيره أنها الصبح ، لصحة الأحاديث أنها العصر ، وقد وافقه على هذه
الطريقة جماعة من محدثي المذهب ، ولله الحمد والمنة. ومن الفقهاء في المذهب من
ينكر أن تكون هي العصر مذهباً للشافعي ، وصمموا على أنها الصبح قولا واحداً. قال
الماوردي : ومنهم من حكى في المسألة قولين ، ولتقرير المعارضات والجوابات موضع آخر
غير هذا ، وقد أفردناه على حدة ، ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى : { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } أي : خاشعين ذليلين مستكينين بين
يديه ، وهذا الأمر مستلزم (3) ترك الكلام في الصلاة ، لمنافاته إياها ؛ ولهذا لما
امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الرد على ابن مسعود حين سلم عليه ، وهو في
الصلاة ، اعتذر إليه بذلك ، وقال. "إن في الصلاة لشغلا" ، وفي صحيح مسلم
أنه عليه السلام قال لمعاوية بن الحكم [السلمي] (4) حين تكلم في الصلاة : "إن
هذه الصلاة لا يصلح (5) فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي التسبيح والتكبير وذكر
الله" (6).
__________
(1) تفسير الطبري (5/221).
(2) زيادة من جـ.
(3) في جـ : "يستلزم".
(4) زيادة من جـ ، أ ، و.
(5) في أ : "لا يصح".
(6) صحيح مسلم برقم (537).
(1/654)
وقال
الإمام أحمد ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن إسماعيل ، حدثني الحارث بن شبيل ، عن أبي
عمرو الشيباني ، عن زيد بن أرقم قال : كان الرجل يكلم صاحبه في عهد النبي صلى الله
عليه وسلم ، في الحاجة في الصلاة ، حتى نزلت هذه الآية : { وَقُومُوا لِلَّهِ
قَانِتِينَ } فأمرنا بالسكوت. رواه الجماعة - سوى ابن ماجة ، به ، من طرق عن
إسماعيل ، به (1).
وقد أشكل هذا الحديث على جماعة من العلماء ، حيث ثبت عندهم أن تحريم الكلام في
الصلاة كان بمكة ، قبل الهجرة إلى المدينة وبعد الهجرة إلى أرض الحبشة ، كما دل
على ذلك حديث ابن مسعود الذي في الصحيح ، قال : كنا نسلم على النبي صلى الله عليه
وسلم قبل أن نهاجر إلى الحبشة وهو في الصلاة ، فيرد علينا ، قال : فلما قدمنا سلمت
عليه ، فلم يرد علي ، فأخذني ما قرب وما بعد ، فلما سلم قال : "إني لم أرد
عليك إلا أني كنت في الصلاة ، وإن الله يحدث من أمره ما يشاء ، وإن مما أحدث ألا
تكلموا في الصلاة" (2).
وقد كان ابن مسعود ممن أسلم قديماً ، وهاجر إلى الحبشة ، ثم قدم منها إلى مكة مع
من قدم ، فهاجر إلى المدينة ، وهذه الآية : { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ }
مدنية (3) بلا خلاف ، فقال قائلون : إنما أراد زيد بن أرقم بقوله : "كان
الرجل يكلم أخاه في حاجته في الصلاة" الإخبار عن جنس الناس ، واستدل على
تحريم ذلك بهذه الآية بحسب ما فهمه منها ، والله أعلم.
وقال آخرون : إنما أراد أن ذلك قد وقع بالمدينة بعد الهجرة إليها ، ويكون ذلك فقد
أبيح مرتين ، وحرم مرتين ، كما اختار ذلك قوم من أصحابنا وغيرهم ، والأول أظهر.
والله أيضاً أعلم.
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا بشر بن الوليد ، حدثنا إسحاق بن يحيى ، عن المسيب ،
عن ابن مسعود قال : كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة ، فمررت برسول الله صلى الله
عليه وسلم فسلمت عليه ، فلم يرد علي ، فوقع في نفسي أنه نزل فيَّ شيء ، فلما قضى
النبي صلى الله عليه وسلم صلاته قال : "وعليك السلام ، أيها المسلم ، ورحمة
الله ، إن الله ، عز وجل ، يحدث من أمره ما يشاء فإذا كنتم في الصلاة فاقنتوا ولا
تكلموا" (4).
وقوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ
فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } لما أمر
تعالى عباده بالمحافظة على الصلوات ، والقيام بحدودها ، وشدد الأمر بتأكيدها ذكر
الحال التي يشتغل الشخص فيها عن أدائها على الوجه الأكمل ، وهي حال القتال والتحام
الحرب فقال : { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا } (5) أي : فصلوا على
أي حال كان ، رجالا أو ركبانا : يعني : مستقبلي القبلة
__________
(1) المسند (4/368) وصحيح البخاري برقم (1200 ، 4534) وصحيح مسلم برقم (539) وسنن
أبي داود برقم (949) وسنن الترمذي برقم (2986) وسنن النسائي الكبرى برقم (11047).
(2) صحيح البخاري برقم (1199 ، 3875) وصحيح مسلم برقم (538).
(3) في و : "نزلت بالمدينة".
(4) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (10/137) من طريق عاصم عن المسيب عن ابن
مسعود به نحوه.
(5) في جـ : "وإن" وهو خطأ.
(1/655)
وغير
مستقبليها كما قال مالك ، عن نافع : أن (1) ابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف
وصفها. ثم قال : فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا على أقدامهم ، أو ركبانا
مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها. قال نافع : لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي
صلى الله عليه وسلم. ورواه البخاري - وهذا لفظه (2) - ومسلم ورواه البخاري أيضاً
من وجه آخر عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن النبي ، صلى الله
عليه وسلم : نحوه أو قريباً منه (3) ولمسلم أيضاً عن ابن عمر قال : فإن كان خوف
أشد من ذلك فصل راكباً أو قائماً تومئ إيماء (4).
وفي حديث عبد الله بن أنيس الجهني لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ، إلى خالد
بن سفيان الهذلي ليقتله وكان نحو عرفة - أو عرفات - فلما واجهه حانت صلاة العصر
قال : فخشيت أن تفوتني فجعلت أصلي وأنا أومئ إيماء. الحديث بطوله رواه أحمد وأبو
داود بإسناد جيد (5) وهذا من رخص الله التي رخص لعباده ووَضْعِه الآصار والأغلال
عنهم.
وقد روى ابن أبي حاتم من طريق شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس قال في هذه الآية
: يصلي الراكب على دابته والراجل على رجليه. قال : وروي عن الحسن ومجاهد ومكحول
والسدي والحكم ومالك والأوزاعي والثوري والحسن بن صالح نحو ذلك وزادوا : يومئ
برأسه أينما توجه (6).
ثم قال : حدثنا أبي حدثنا أبو غسان حدثنا داود - يعني ابن علية - عن مطرف عن عطية
عن جابر بن عبد الله قال : إذا كانت المسايفة فليومئ برأسه [إيماء] (7) حيث كان
وجهه فذلك قوله : { فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا }
وروي عن الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وعطية والحكم وحماد وقتادة نحو ذلك. وقد
ذهب الإمام أحمد فيما نص عليه ، إلى أن صلاة الخوف تفعل في بعض الأحيان ركعة واحدة
إذا تلاحم الجيشان ، وعلى ذلك ينزل الحديث الذي رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن
ماجه وابن جرير من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري - زاد مسلم والنسائي
: وأيوب بن عائذ - كلاهما عن بكير بن الأخنس الكوفي ، عن مجاهد عن ابن عباس قال :
فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعًا ، وفي السفر
ركعتين وفي الخوف ركعة (8) وبه قال الحسن البصري وقتادة والضحاك وغيرهم.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا ابن مهدي عن شعبة قال : سألت الحكم وحمادا
وقتادة عن صلاة المسايفة ، فقالوا : ركعة وهكذا روى الثوري عنهم سواء.
__________
(1) في جـ : "عن".
(2) صحيح البخاري برقم (4535).
(3) صحيح البخاري برقم (943).
(4) صحيح مسلم برقم (839).
(5) المسند (3/496) وسنن أبي داود برقم (1249).
(6) في أ : "إيماء بوجه".
(7) زيادة من و.
(8) صحيح مسلم برقم (687) وسنن أبي داود برقم (1247) وسنن النسائي (1/226 ، 3/118
، 119 ، 169) وسنن ابن ماجة برقم (1068) وتفسير الطبري (5/247).
(1/656)
وقال
ابن جرير أيضا : حدثني سعيد بن عمرو السكوني حدثنا بقية بن الوليد حدثنا المسعودي
حدثنا يزيد الفقير عن جابر بن عبد الله قال : صلاة الخوف. ركعة واختار هذا القول
ابن جرير.
وقال البخاري : "باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو" وقال
الأوزاعي : إن كان تهيأ الفتح ، ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء كل امرئ لنفسه
فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال أو يأمنوا فيصلوا ركعتين
فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين فإن لم يقدروا لا يجزئهم التكبير ويؤخرونها حتى
يأمنوا. وبه قال مكحول - وقال أنس بن مالك : حضرت مناهضة حصن تسْتَر عند إضاءة
الفجر ، واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار
فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا. قال أنس : وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما
فيها.
هذا لفظ البخاري (1) ثم استشهد على ذلك بحديث تأخيره ، عليه السلام ، صلاة العصر
يوم الخندق بعذر المحاربة إلى (2) غيبوبة الشمس وبقوله عليه السلام ، بعد ذلك لأصحابه
لما جهزهم إلى بني قريظة : "لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة"
، فمنهم من أدركته الصلاة في الطريق فصلوا وقالوا : لم يرد منا رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، إلا تعجيل السير ومنهم من أدركته فلم يصل إلى أن غربت الشمس في بني
قريظة فلم يعنف واحداً (3) من الفريقين. وهذا يدل على اختيار البخاري لهذا القول
والجمهور على خلافه ويعولون على أن صلاة الخوف على الصفة التي ورد بها القرآن في
سورة النساء ووردت (4) بها الأحاديث لم تكن مشروعة في غزوة الخندق ، وإنما شرعت
بعد ذلك. وقد جاء مصرحاً بهذا في حديث أبي سعيد وغيره وأما مكحول والأوزاعي
والبخاري فيجيبون بأن مشروعية صلاة الخوف بعد ذلك لا تنافي جواز ذلك ؛ لأن هذا حال
نادر خاص فيجوز فيه مثل ما قلنا بدليل صنيع الصحابة زمن عمر في فتح تستر وقد اشتهر
ولم ينكر ، والله أعلم.
وقوله : { فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ } أي : أقيموا صلاتكم كما أمرتم
فأتموا (5) ركوعها وسجودها وقيامها وقعودها وخشوعها وهجودها { كَمَا عَلَّمَكُمْ
مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } أي : مثل ما أنعم عليكم وهداكم للإيمان وعلمكم
ما ينفعكم في الدنيا والآخرة ، فقابلوه بالشكر والذكر ، كقوله بعد ذكر صلاة الخوف
: { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } [النساء : 103] وستأتي الأحاديث الواردة في
صلاة الخوف وصفاتها في سورة النساء عند قوله تعالى : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ
فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ } الآية [النساء : 102].
__________
(1) صحيح البخاري (2/434).
(2) في جـ ، و : "إلى بعد".
(3) في جـ : "أحدا".
(4) في جـ : "وورد".
(5) في جـ : "وأتموا".
(1/657)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
{
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً
لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ (242) }
قال الأكثرون : هذه الآية منسوخة بالتي قبلها وهي قوله : { يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا }
قال البخاري : حدثنا أمية حدثنا يزيد بن زُرَيع عن حبيب عن ابن أبي مُلَيْكة ، قال
ابن الزبير : قلت لعثمان بن عفان : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا } قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها - أو تدعها ؟ قال :
يا ابن أخي لا أغير شيئاً منه من مكانه (1).
ومعنى هذا الإشكال الذي قاله ابن الزبير لعثمان : إذا كان حكمها قد نسخ بالأربعة
الأشهر فما الحكمة في إبقاء رسمها مع زوال حكمها ، وبقاء رسمها بعد التي نسختها
يوهم بقاء حكمها ؟ فأجابه أمير المؤمنين بأن هذا أمر توقيفي ، وأنا وجدتها مثبتة
في المصحف كذلك بعدها فأثبتها حيث وجدتها.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج
وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس في قوله : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ
إِخْرَاجٍ } فكان للمتوفى عنها زوجها نفقتها وسكناها في الدار سنة ، فنسختها آية
المواريث فجعل لهن الربع أو الثمن مما ترك الزوج. ثم قال : وروي عن أبي موسى
الأشعري ، وابن الزبير ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك وزيد
بن أسلم والسدي ومقاتل بن حيان ، وعطاء الخراساني والربيع بن أنس : أنها منسوخة.
وروي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : كان الرجل إذا مات وترك امرأته
اعتدت سنة في بيته ينفق عليها من ماله ثم أنزل الله بعد : { وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا }
فهذه عدة المتوفي عنها زوجها إلا أن تكون حاملا فعدتها أن تضع ما في بطنها وقال :
{ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ
كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ [مِمَّا تَرَكْتُمْ ] (2) } [النساء :
12] فبين ميراث المرأة وترك الوصية والنفقة.
قال : وروي عن مجاهد والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك والربيع ومقاتل بن حيان ، قالوا
: نسختها { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا }
قال : وروي عن سعيد بن المسيب قال : نسختها التي في الأحزاب : { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ]
(3) } [الأحزاب : 49].
قلت : وروي عن [مقاتل و] (4) قتادة : أنها منسوخة بآية الميراث.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4530).
(2) زيادة من و.
(3) زيادة من جـ.
(4) زيادة من أ ، و.
(1/658)
وقال
البخاري : حدثنا إسحاق بن راهويه ، حدثنا روح حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد
: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا } قال : كانت هذه
العدة ، تعتد عند أهل زوجها واجب فأنزل الله : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ
مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى
الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا
فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ } قال : جعل الله لها تمام السنة سبعة
أشهر وعشرين ليلة وصية إن شاءت سكنت في وصيتها ، وإن شاءت خرجت وهو قول الله : {
غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } فالعدة كما هي واجب
عليها زعم ذلك عن مجاهد : رحمه الله. وقال عطاء : وقال ابن عباس : نسخت هذه الآية
عدتها عند أهلها فتعتد حيث شاءت وهو قول الله تعالى : { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } قال
عطاء : إن شاءت اعتدت عند أهلها وسكنت في وصيتها ، وإن شاءت خرجت لقول الله : {
فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ [فِي أَنْفُسِهِنَّ] (1) } قال عطاء : ثم
جاء الميراث فنسخ السكنى ، فتعتد حيث شاءت ولا سكنى لها ثم أسند البخاري عن ابن
عباس مثل ما تقدم عنه (2).
فهذا القول الذي عول عليه مجاهد وعطاء من أن هذه الآية لم تدل على وجوب الاعتداد
سنة كما زعمه الجمهور حتى يكون ذلك منسوخاً بالأربعة الأشهر (3) وعشرا ، وإنما دلت
على أن ذلك كان من باب الوصاة بالزوجات أن يمكنَّ من السكنى في بيوت أزواجهن بعد
وفاتهم حولا كاملا إن اخترن ذلك ولهذا قال : { وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ } أي :
يوصيكم الله بهن وصية كقوله : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ } الآية [النساء
: 11] وقال : { وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ } [النساء : 12] وقيل : إنما انتصب على
معنى : فلتوصوا بهن وصية. وقرأ آخرون بالرفع "وَصِيَّةٌ" على معنى : كتب
عليكم وصية واختارها ابن جرير ولا يمنعن من ذلك لقوله : { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } فأما
إذا انقضت عدتهن بالأربعة الأشهر والعشر أو بوضع الحمل ، واخترن الخروج والانتقال
من ذلك المنزل فإنهن لا يمنعن من ذلك لقوله { فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ } وهذا القول له
اتجاه ، وفي اللفظ مساعدة له ، وقد اختاره جماعة منهم : الإمام أبو العباس بن
تيمية (4) ورده آخرون منهم : الشيخ أبو عمر بن عبد البر.
وقول عطاء ومن تابعه على أن ذلك منسوخ بآية الميراث إن أرادوا ما زاد على الأربعة
أشهر والعشر فمسلم ، وإن أرادوا أن سكنى الأربعة الأشهر وعشر (5) لا تجب في تركة
الميت فهذا محل خلاف بين الأئمة ، وهما قولان للشافعي رحمه الله ، وقد استدلوا على
وجوب السكنى في منزل الزوج بما رواه مالك في موطئه عن سعد بن إسحاق بن كعب بن
عُجْرَة ، عن عمته زينب بنت كعب بن عُجْرَة : أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت
أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أخبرتها : أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خُدرة ، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا
، حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم فقتلوه. قالت : فسألت رسول الله صلى الله عليه
وسلم
__________
(1) زيادة من أ.
(2) صحيح البخاري برقم (4531).
(3) في جـ : "أشهر".
(4) في جـ : "بن تيمية رحمه الله".
(5) في أ : "والعشر".
(1/659)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
أن
أرجع إلى أهلي في بني خُدرة فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة قالت :
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نعم" قالت : فانصرفت ، حتى إذا
كنت في الحجرة ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو أمر بي فنوديت له - فقال
: "كيف قلت ؟" فرددت عليه القصة التي ذكرت (1) له من شأن زوجي. فقال :
"امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهر
وعشرا. قالت : فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته ، فاتبعه
وقضى به (2).
وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث مالك به (3) ، ورواه النسائي أيضاً
وابن ماجه من طرق عن سعد بن إسحاق به (4) ، وقال الترمذي : حسن صحيح.
وقوله : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ
} قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : لما نزل قوله : { مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ
حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ } [البقرة : 236] قال رجل : إن شئتُ أحسنت ففعلت وإن
شئتُ لم أفعل. فأنزل الله هذه الآية : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } وقد استدل بهذه الآية من ذهب من
العلماء إلى وجوب المتعة لكل مطلقة ، سواء كانت مفوضة أو مفروضًا لها أو مطلقًا
(5) قبل المسيس أو مدخولا بها ، وهو قول عن الشافعي ، رحمه الله. وإليه ذهب سعيد
بن جبير. وغيره من السلف واختاره ابن جرير. ومن لم يوجبها مطلقا يخصص من هذا
العموم بمفهوم قوله : { لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا
لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى
الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا
عَلَى الْمُحْسِنِينَ } وأجاب الأولون : بأن هذا من باب ذكر بعض أفراد العموم فلا تخصيص
على المشهور المنصور ، والله أعلم.
وقوله : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ } أي : في إحلاله وتحريمه
وفروضه وحدوده فيما أمركم به ونهاكم عنه بيَّنه (6) ووضحه وفسره ولم يتركه مجملا
في وقت احتياجكم إليه { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي : تفهمون وتتدبرون.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ
الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو
فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا
كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) }
روي عن ابن عباس أنهم كانوا أربعة آلاف وعنه : كانوا ثمانية آلاف. وقال أبو صالح :
تسعة آلاف وعن ابن عباس : أربعون ألفًا وقال وهب بن منبه وأبو مالك : كانوا بضعة
وثلاثين ألفًا
__________
(1) في جـ : "ما ذكرت".
(2) الموطأ (2/591).
(3) سنن أبي داود برقم (2300) وسنن الترمذي برقم (1204) وسنن النسائي الكبرى برقم
(11044).
(4) سنن النسائي (6/199 ، 200) وسنن ابن ماجة برقم (203).
(5) في أ ، و : "أو مطلقة".
(6) في جـ : "وبينه".
(1/660)
وروى
ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كانوا أهل قرية يقال لها : داوردان. وكذا قال
السدي وأبو صالح وزاد : من قبل واسط. وقال سعيد بن عبد العزيز : كانوا من أهل
أذرعات ، وقال ابن جريج عن عطاء قال : هذا مثل. وقال علي بن عاصم : كانوا : من أهل
داوردان : قرية على فرسخ من واسط.
وقال وكيع بن الجراح في تفسيره : حدثنا سفيان عن ميسرة بن حبيب النهدي ، عن
المنهال بن عمرو الأسدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : { أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ } قال :
كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارًا من الطاعون قالوا : نأتي أرضًا ليس بها (1) موت حتى
إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال الله لهم (2) موتوا فماتوا فمر عليهم نبي من
الأنبياء فدعا ربه أن يحييهم فأحياهم ، فذلك قوله عز وجل : { أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ } الآية.
وذكر غير واحد من السلف أن هؤلاء القوم كانوا أهل بلدة في زمان بني إسرائيل
استوخموا (3) أرضهم وأصابهم بها وباء شديد فخرجوا فرارًا من الموت إلى البرية ،
فنزلوا واديًا أفيح ، فملأوا ما بين عدوتيه فأرسل الله إليهم ملكين أحدهما من أسفل
الوادي والآخر من أعلاه فصاحا بهم صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم موتة رجل واحد
فحيزوا إلى حظائر وبني عليهم جدران وقبور [وفنوا] (4) وتمزقوا وتفرقوا فلما كان
بعد دهر مَرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له : حزقيل فسأل الله أن يحييهم
على يديه فأجابه إلى ذلك وأمره أن يقول : أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن
تجتمعي فاجتمع عظام كل جسد بعضها إلى بعض ، ثم أمره فنادى : أيتها العظام إن الله
يأمرك بأن تكتسي لحمًا وعصبًا وجلدًا. فكان ذلك ، وهو يشاهده ثم أمره فنادى :
أيتها الأرواح إن الله يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره. فقاموا
أحياء ينظرون قد أحياهم الله بعد رقدتهم الطويلة ، وهم يقولون : سبحانك [اللهم
ربنا وبحمدك] (5) لا إله إلا أنت.
وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة ولهذا قال
: { إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } أي : فيما يريهم من الآيات
الباهرة والحجج القاطعة والدلالات الدامغة ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَشْكُرُونَ } أي : لا يقومون بشكر ما أنعم الله به عليهم في دينهم ودنياهم.
وفي هذه القصة عبرة ودليل على أنه لن يغني حذر من قدر وأنه ، لا ملجأ من الله إلا
إليه ، فإن هؤلاء فروا (6) من الوباء طلبًا (7) لطول الحياة فعوملوا بنقيض قصدهم
وجاءهم الموت سريعًا في آن واحد.
ومن هذا القبيل الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى أخبرنا
مالك وعبد الرزاق أخبرنا معمر كلاهما عن الزهري عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن
زيد [ابن أسلم] (8) بن الخطاب عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن عبد الله بن عباس
: أن عمر بن
__________
(1) في جـ : "ليس فيها".
(2) في جـ : "قال لهم الله".
(3) في جـ : "فاستوخموا".
(4) زيادة من أ ، و
(5) زيادة من أ.
(6) في أ ، و : "خرجوا فرارا".
(7) في أ ، و : "وطلبا".
(8) زيادة من جـ.
(1/661)
الخطاب
خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد : أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه
فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام فذكر الحديث فجاءه عبد الرحمن بن عوف وكان
متغيبًا لبعض حاجته فقال : إن عندي من هذا علما ، سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول : "إذا كان بأرض وأنتم فيها (1) فلا تخرجوا فرارًا منه ، وإذا
سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه" فحمد الله عمر ثم انصرف.
وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به (2).
طريق أخرى لبعضه : قال أحمد : حدثنا حجاج ويزيد العمِّي قالا أخبرنا ابن أبي ذئب
عن الزهري عن سالم عن عبد الله بن عامر بن ربيعة : أن عبد الرحمن بن عوف أخبر عمر
، وهو في الشام عن النبي صلى الله عليه وسلم : "أن هذا السقم عذب به الأمم
قبلكم فإذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم فيها (3) فلا تخرجوا
فرارًا منه" قال : فرجع عمر من الشام.
وأخرجاه في الصحيحين من حديث مالك عن الزهري بنحوه (4).
وقوله : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ } أي : كما أن الحذر لا يغني من القدر كذلك الفرار من الجهاد وتجنبه لا
يقرب أجلا ولا يباعده ، بل الأجل المحتوم والرزق المقسوم مقدر مقنن لا يزاد فيه
ولا ينقص منه كما قال تعالى : { الَّذِينَ قَالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ
أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [آل عمران : 168] وقال تعالى : { وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ
كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ
مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ
فَتِيلا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي
بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } [النساء : 77 ، 78] وروينا عن أمير الجيوش ومقدم العساكر
وحامي حوزة الإسلام وسيف الله المسلول على أعدائه أبي سليمان خالد بن الوليد رضي
الله عنه ، أنه قال : - وهو في سياق الموت : لقد شهدت كذا وكذا موقفًا وما من عضو
من أعضائي إلا وفيه رمية أو طعنة أو ضربة وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت
العير!! فلا نامت أعين الجبناء (5) يعني : أنه يتألم لكونه ما مات قتيلا في الحرب
ويتأسف على ذلك ويتألم أن يموت على فراشه.
وقوله : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ
أَضْعَافًا كَثِيرَةً } يحث تعالى عباده على الإنفاق في سبيله ، وقد كرر تعالى هذه
الآية في كتابه العزيز في غير موضع. وفي حديث النزول [أنه يقول تعالى] (6)
"من يقرض غير عديم ولا ظلوم" وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن
عرفة حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن
مسعود قال :
__________
(1) في أ ، و : "وأنتم بها".
(2) المسند (1/194) وصحيح البخاري برقم (5729) وصحيح مسلم برقم (2219).
(3) في جـ ، و : "وأنتم بها".
(4) المسند (1/193) وصحيح البخاري برقم (5730) وصحيح مسلم برقم (2219).
(5) انظر : مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (8/26).
(6) زيادة من و.
(1/662)
لما
نزلت : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ }
قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله وإن الله ليريد منا القرض ؟ قال :
"نعم يا أبا الدحداح" قال : أرني يدك يا رسول الله. قال : فناوله يده
قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي. قال : وحائط له فيه ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه
وعيالها. قال : فجاء أبو الدحداح فناداها : يا أم الدحداح. قالت : لبيك قال :
اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل. وقد رواه ابن مردويه من حديث عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم عن أبيه عن عمر مرفوعًا بنحوه (1).
وقوله : { قَرْضًا حَسَنًا } روي عن عمر وغيره من السلف : هو النفقة في سبيل الله.
وقيل : هو النفقة على العيال.
وقيل : هو التسبيح والتقديس وقوله : { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً }
كما قال : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ
حَبَّةٍ } الآية [البقرة : 261]. وسيأتي الكلام عليها.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد (2) أخبرنا مبارك بن فضالة عن علي بن زيد عن أبي
عثمان النهدي ، قال : أتيت أبا هريرة فقلت له : إنه بلغني أنك تقول : إن الحسنة
تضاعف ألف ألف حسنة. فقال : وما أعجبك من ذلك ؟ لقد سمعته من النبي صلى الله عليه
وسلم يقول : "إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة" (3).
هذا حديث غريب ، وعلي بن زيد بن جدعان عنده مناكير ، لكن رواه ابن أبي حاتم من وجه
آخر فقال :
حدثنا أبو خلاد سليمان بن خلاد المؤدب ، حدثنا يونس بن محمد المؤدب ، حدثنا محمد
بن عقبة الرباعي (4) عن زياد الجصاص عن أبي عثمان النهدي ، قال : لم يكن أحد أكثر
مجالسة لأبي هريرة مني فقدم قبلي حاجا قال : وقدمت بعده فإذا أهل البصرة يأثرون
عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله يضاعف الحسنة ألف
ألف حسنة" فقلت : ويحكم ، والله ما كان أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني ، فما
سمعت هذا الحديث. قال : فتحملت أريد أن ألحقه فوجدته قد انطلق حاجا فانطلقت إلى
الحج أن ألقاه في هذا الحديث ، فلقيته لهذا فقلت : يا أبا هريرة ما حديث سمعت أهل
البصرة يأثرون عنك ؟ قال : ما هو ؟ قلت : زعموا أنك تقول : إن الله يضاعف الحسنة
ألف ألف
__________
(1) جزء الحسن بن عرفة برقم (87) ورواه سعيد بن منصور في السنن برقم (417) تحقيق
الدكتور الحميد ، ومن طريقه رواه الطبراني في المعجم الكبير (22/301) عن خلف به
نحوه ، وحميد الأعرج ضعيف ، لكن للحديث شواهد من حديث أنس وعمر رضي الله عنهما.
(2) في جـ : "يزيد بن هارون".
(3) المسند (2/296).
(4) كذا في أ ، و ، هـ. وفي الجرح لابن أبي حاتم (4/1/36) : "محمد بن عقبة ،
روى عن زياد الجصاص ، وروى عنه يونس بن محمد المؤدب. حدثنا عبد الرحمن قال : سألت
أبي عنه فقال : شيخ. قلت : فإن يونس بن محمد يقول : الرفاعي. قال : ليس هو الرفاعي
، هو من قبيلة أخرى" ، مستفادا من هامش ط. الشعب.
(1/663)
حسنة.
قال : يا أبا عثمان وما تعجب (1) من ذا والله يقول : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ
اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } ويقول : {
فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ } [التوبة : 38]
والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله
يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة" (2).
وفي معنى هذا الحديث ما رواه الترمذي وغيره من طريق عمرو بن دينار عن سالم عن عبد
الله بن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من دخل سوقًا
من الأسواق فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل
شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة" الحديث (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعة حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن بسام حدثنا أبو
إسماعيل المؤدب ، عن عيسى بن المسيب عن نافع عن ابن عمر قال : لما نزلت { مَثَلُ
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ
أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ } [البقرة : 261] إلى آخرها فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "رب زد أمتي" فنزلت : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ
قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } قال : رب زد أمتي.
فنزل : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر :
10]. (4).
وروى ابن أبي حاتم أيضاً عن كعب الأحبار : أنه جاءه رجل فقال : إني سمعت رجلا يقول
: من قرأ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص : 1] مرة واحدة بنى الله له
عشرة (5) آلاف ألف غرفة من در وياقوت في الجنة أفأصدق بذلك ؟ قال : نعم ، أو عجبت
من ذلك ؟ قال : نعم وعشرين ألف ألف وثلاثين ألف ألف وما يحصي ذلك إلا الله ثم قرأ
{ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ
أَضْعَافًا كَثِيرَةً } فالكثير من الله لا يحصى.
وقوله : { وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } أي : أنفقوا ولا تبالوا فالله هو
الرزاق يضيق على من يشاء من عباده في الرزق ويوسعه على آخرين ، له الحكمة البالغة
في ذلك { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي : يوم القيامة.
__________
(1) في جـ : "وما يعجبك".
(2) ورواه أحمد في المسند (5/521) من طريق علي بن زيد ، عن أبي عثمان به.
(3) سنن الترمذي برقم (3429) وقال : "عمرو بن دينار هذا هو شيخ بصري ، وقد
تكلم فيه بعض أصحاب الحديث من غير هذا الوجه".
(4) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (1648) "موارد" من طريق حفص المقرئ ،
عن أبي إسماعيل المؤدب به.
(5) في جـ : "عشر".
(1/664)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
{
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ
قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا
قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ
دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا
قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) }
قال عبد الرزاق عن مَعْمَر عن قتادة : هذا النبي هو يوشع بن نون. قال ابن جرير :
يعني ابن أفراثيم (1) بن يوسف بن يعقوب. وهذا القول بعيد ؛ لأن هذا كان بعد موسى
بدهر طويل ، وكان
__________
(1) في جـ : "إفراثيم" ، وفي أ : "إبراهيم".
(1/664)
ذلك
في زمان داود عليه السلام ، كما هو مصرح به في القصة وقد كان بين داود وموسى ما
ينيف عن ألف سنة والله أعلم.
وقال السدي : هو شمعون (1) وقال مجاهد : هو شمويل عليه السلام. وكذا قال محمد بن
إسحاق عن وهب بن منبه وهو : شمويل بن بالي بن علقمة بن يرخام (2) بن إليهو بن تهو
بن صوف (3) بن علقمة بن ماحث (4) بن عمرصا بن عزريا بن صفنيه (5) بن علقمة بن أبي
ياسف بن قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه
السلام.
وقال وهب بن منبه وغيره : كان بنو إسرائيل بعد موسى عليه السلام على طريق (6)
الاستقامة مدة الزمان ، ثم أحدثوا الأحداث وعبد بعضهم الأصنام ، ولم يزل بين
أظهرهم من الأنبياء من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويقيمهم على منهج التوراة
إلى أن فعلوا ما فعلوا فسلط الله عليهم أعداءهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، وأسروا
خلقًا كثيرا وأخذوا منهم بلادًا كثيرة ، ولم يكن أحد يقاتلهم إلا غلبوه وذلك أنهم
كان عندهم التوراة والتابوت الذي كان في قديم (7) الزمان وكان ذلك موروثًا لخلفهم
عن سلفهم إلى موسى الكليم عليه الصلاة والسلام (8) فلم يزل بهم تماديهم (9) على
الضلال حتى استلبه (10) منهم بعض الملوك في بعض الحروب وأخذ التوراة من أيديهم ولم
يبق من يحفظها فيهم إلا القليل وانقطعت النبوة من أسباطهم ولم يبق من سبط (11)
لاوي الذي يكون فيه الأنبياء إلا امرأة حامل من بعلها وقد قتل فأخذوها فحبسوها في
بيت واحتفظوا بها لعل الله يرزقها غلامًا يكون نبيًّا لهم ولم تزل [تلك] (12)
المرأة تدعو الله عز وجل أن يرزقها غلامًا فسمع الله لها ووهبها غلامًا ، فسمته
شمويل : أي : سمع الله. ومنهم من يقول : شمعون وهو بمعناه فشب ذلك الغلام ونشأ
فيهم وأنبته (13) الله نباتًا حسنًا فلما بلغ سن الأنبياء أوحى الله إليه وأمره
بالدعوة إليه وتوحيده ، فدعا بني إسرائيل فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكًا يقاتلون
معه أعداءهم وكان الملك أيضًا قد باد فيهم (14) فقال لهم النبي : فهل عسيتم إن
أقام الله لكم ملكًا ألا تفوا بما التزمتم من القتال معه { قَالُوا وَمَا لَنَا
أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا
وَأَبْنَائِنَا } أي : وقد أخذت منا البلاد وسبيت الأولاد ؟ قال الله تعالى : {
فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } أي : ما وفوا بما وعدوا بل نكل عن الجهاد
أكثرهم والله عليم بهم.
__________
(1) في و : "شمويل".
(2) في جـ : "حام" وفي و : "نزخام".
(3) في جـ : "قهوص" ، وفي أ : "قهرص" ، وفي و :
"بهرص".
(4) في أ : "بن ماحب".
(5) في جـ ، و : "بن صفيه".
(6) في جـ : "على طريقة".
(7) في و : "في قيد".
(8) في جـ ، أ ، و : "عليه أفضل الصلاة والسلام".
(9) في جـ : "يردهم" ، وفي و : "عادتهم".
(10) في جـ : "حتى أسلبه".
(11) في جـ : "من وسط".
(12) زيادة من جـ ، أ.
(13) في جـ ، "فأنبته".
(14) في جـ : "منهم".
(1/665)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
{
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا
قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ
مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ
عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي
مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) }
أي : لما طلبوا من نبيهم أن يعين لهم ملكًا منهم فعين لهم طالوت وكان رجلا من
أجنادهم ولم يكن من بيت الملك فيهم ؛ لأن الملك فيهم كان في سبط يهوذا ، ولم يكن
هذا من ذلك السبط فلهذا قالوا : { أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا } أي :
كيف يكون ملكًا علينا { وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً
مِنَ الْمَالِ } أي : ثم هو مع هذا فقير لا مال له يقوم بالملك ، وقد ذكر بعضهم
أنه كان سقاء وقيل : دباغًا. وهذا اعتراض منهم على نبيهم وتعنت وكان الأولى بهم
طاعة وقول معروف ثم قد أجابهم النبي قائلا { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ
} أي : اختاره لكم من بينكم والله أعلم به منكم. يقول : لست أنا الذي عينته من
تلقاء نفسي بل الله أمرني به لما طلبتم مني ذلك { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي
الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } أي : وهو مع هذا أعلم منكم ، وأنبل وأشكل منكم وأشد قوة
وصبرًا (1) في الحرب ومعرفة بها أي : أتم علمًا وقامة منكم. ومن هاهنا ينبغي أن
يكون الملك ذا علم وشكل حسن وقوة شديدة في بدنه ونفسه ثم قال : { وَاللَّهُ
يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ } أي : هو الحاكم الذي ما شاء فعل ولا يُسأل عما
يفعل وهم يسألون لعلمه [وحكمته] (2) ورأفته بخلقه ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أي : هو واسع الفضل يختص برحمته من يشاء عليم بمن يستحق الملك
ممن لا يستحقه.
{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ
فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ
هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (248) }
يقول نبيهم لهم : إن علامة بركة ملك طالوت عليكم أن يرد الله عليكم التابوت الذي
كان أخذ منكم.
{ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } قيل : معناه فيه وقار ، وجلالة.
قال عبد الرزاق عن مَعْمَر عن قتادة { فِيهِ سَكِينَةٌ } أي : وقار. وقال الربيع :
رحمة (3). وكذا روي عن العوفي عن ابن عباس وقال ابن جريج : سألت عطاء عن قوله : {
فِيهِ سَكِينَةٌ [مِنْ رَبِّكُمْ] (4) } قال : ما يعرفون من آيات الله فيسكنون (5)
إليه.
وقيل : السكينة طست من ذهب كانت تغسل فيه قلوب الأنبياء ، أعطاها الله موسى عليه
السلام فوضع فيها الألواح. ورواه السدي عن أبي مالك عن ابن عباس.
وقال سفيان الثوري : عن سلمة بن كُهَيْل عن أبي الأحوص عن علي قال : السكينة لها
وجه كوجه الإنسان ثم هي روح هفافة.
وقال ابن جرير : حدثني [ابن] (6) المثنى حدثنا أبو داود حدثنا شعبة وحماد بن سلمة
، وأبو الأحوص كلهم عن سِماك عن (7) خالد بن عرعرة عن علي قال : السكينة ريح خجوج
ولها
__________
(1) في أ : "وخبرا".
(2) زيادة من جـ ، و ، وفي أ : "وحلمه".
(3) في جـ : "رحمة الله".
(4) زيادة من جـ ، و.
(5) في أ : "تسكنون".
(6) زيادة من تفسير الطبري (5/327).
(7) في جـ : "عن سماك بن".
(1/666)
رأسان.
وقال مجاهد : لها جناحان وذنب. وقال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه : السكينة رأس
هرة ميتة إذا صرخت في التابوت بصراخ هر ، أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا بكار بن عبد الله أنه سمع وهب بن منبه (1) يقول :
السكينة روح من الله تتكلم إذا اختلفوا في شيء تكلم فأخبرهم ببيان ما يريدون.
وقوله : { وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ } قال ابن جرير :
أخبرنا ابن المثنى حدثنا أبو الوليد حدثنا حماد عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن
ابن عباس في هذه الآية : { وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ }
قال : عصاه ورضاض الألواح. وكذا قال قتادة والسدي والربيع بن أنس وعكرمة وزاد :
والتوراة.
وقال أبو صالح { وَبَقِيَّةٌ } يعني : عصا موسى وعصا هارون ولوحين (2) من التوراة
والمن.
وقال عطية بن سعد : عصا موسى وعصا هارون وثياب موسى وثياب هارون ورضاض الألواح.
وقال عبد الرزاق : سألت الثوري عن قوله : { وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى
وَآلُ هَارُونَ } فقال : منهم من يقول قفيز من مَنٍّ ، ورضاض الألواح. ومنهم من
يقول : العصا والنعلان.
وقوله : { تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ } قال ابن جريج : قال ابن عباس : جاءت
الملائكة تحمل التابوت (3) بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدي طالوت ، والناس
ينظرون.
وقال السدي : أصبح التابوت في دار طالوت فآمنوا بنبوة شمعون وأطاعوا طالوت.
وقال عبد الرزاق عن الثوري عن بعض أشياخه : جاءت به الملائكة تسوقه على عجلة على
بقرة وقيل : على بقرتين.
وذكر غيره أن التابوت كان بأريحا (4) وكان المشركون لما أخذوه وضعوه في بيت آلهتهم
تحت صنمهم الكبير ، فأصبح التابوت على رأس الصنم فأنزلوه فوضعوه تحته فأصبح كذلك
فسمروه تحته فأصبح الصنم مكسور القوائم ملقى بعيدا ، فعلموا أن هذا أمر من الله لا
قبل لهم به فأخرجوا التابوت من بلدهم ، فوضعوه في بعض القرى (5) فأصاب أهلها داء
في رقابهم (6) فأمرتهم جارية من سبي بني إسرائيل أن يردوه إلى بني إسرائيل حتى
يخلصوا من هذا الداء ، فحملوه على بقرتين فسارتا به لا يقربه أحد إلا مات ، حتى
اقتربتا من بلد بني إسرائيل فكسرتا النيرين (7) ورجعتا وجاء بنو إسرائيل فأخذوه
فقيل : إنه تسلمه داود عليه السلام وأنه لما قام إليهما (8) حجل من فرحه بذلك. وقيل
: شابان منهم فالله أعلم. وقيل : كان التابوت بقرية من قرى فلسطين يقال لها :
أزدرد.
وقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ } أي : على صدقي فيما جئتكم به من
النبوة ، وفيما أمرتكم به من
__________
(1) في أ : "بن منصور".
(2) في جـ : "ولوحان".
(3) في جـ : "وتحمل التوابيت".
(4) في جـ : "كان تاريخا".
(5) في و : "بعض القرايا".
(6) في جـ : "في قلوبهم".
(7) في جـ : "النيرير".
(8) في جـ : "قام إليه" وفي و : "قام إليهما".
(1/667)
طاعة طالوت : { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي : بالله واليوم الآخر.
(1/668)
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
{
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ
بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ
مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا
مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ
لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ
مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ
اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) }
يقول تعالى مخبرًا عن طالوت ملك بني إسرائيل حين خرج في جنوده ومن أطاعه من ملأ
بني إسرائيل وكان جيشه يومئذ فيما ذكره السدي ثمانين ألفًا فالله أعلم ، أنه قال :
{ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم [بِنَهَر] (1) } قال ابن عباس وغيره : وهو نهر بين
الأردن وفلسطين يعني : نهر الشريعة المشهور { فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ
مِنِّي } أي : فلا يصحبني اليوم في هذا الوجه { وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ
مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } أي : فلا بأس عليه قال الله تعالى
{ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ } قال ابن جريج : قال ابن عباس : من
اغترف منه بيده روي ، ومن شرب منه لم يرو. وكذا رواه السدي عن أبي مالك ، عن ابن
عباس. وكذا قال قتادة وابن شوذب.
وقال السدي : كان الجيش ثمانين ألفًا فشرب ستة وسبعون ألفًا وتبقى معه أربعة آلاف
كذا قال.
وقد روى ابن جرير من طريق إسرائيل وسفيان الثوري ومِسْعَر (2) بن كدام عن أبي
إسحاق السبيعي ، عن البراء بن عازب قال : كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى الله عليه
وسلم الذين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه
النهر ، وما جازه معه إلا مؤمن. ورواه البخاري عن عبد الله بن رجاء عن إسرائيل بن
يونس عن أبي إسحاق عن البراء (3) قال : "كنا - أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
- نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت ، الذين جازوا معه النهر ، ولم
يجاوز معه إلا مؤمن بضعة عشر وثلاثمائة" (4).
ثم رواه من حديث سفيان الثوري وزهير ، عن أبي إسحاق عن البراء بنحوه (5) ولهذا قال
تعالى : { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ
لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ } أي : استقلوا أنفسهم عن لقاء عدوهم
لكثرتهم فشجعهم علماؤهم [وهم] (6) العالمون بأن وعد الله حق فإن النصر من عند الله
ليس عن (7) كثرة عدد ولا عدد. ولهذا قالوا : { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ
غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }
__________
(1) زيادة من أ ، و.
(2) في جـ : "ومسعود".
(3) في هـ ، أ ، و : "عن أبي إسحاق عن جده عن البراء" والمثبت من
البخاري.
(4) صحيح البخاري برقم (3958).
(5) صحيح البخاري برقم (3957) من حديث زهير وبرقم (3959) من حديث سفيان.
(6) زيادة من جـ.
(7) في أ : "لا من".
(1/668)
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
{
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا
صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ
الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ
عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ
وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) }
أي : لما واجه حزب الإيمان - وهم قليل - من أصحاب طالوت لعدوهم أصحاب جالوت - وهم
عدد كثير - { قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } أي : أنزل علينا
صبرًا من عندك { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } أي : في لقاء الأعداء وجنبنا الفرار
والعجز { وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }
قال الله تعالى : { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ } أي : غلبوهم وقهروهم بنصر
الله لهم { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ } ذكروا في الإسرائيليات : أنه قتله بمقلاع
كان في يده رماه به فأصابه فقتله ، وكان طالوت قد وعده إن قتل جالوت أن يزوجه
ابنته ويشاطره نعمته ويشركه (1) في أمره فوفى له ثم آل (2) الملك إلى داود عليه
السلام مع ما منحه الله به من النبوة العظيمة ؛ ولهذا قال تعالى : { وَآتَاهُ
اللَّهُ الْمُلْكَ } الذي كان بيد طالوت { والحكمة } أي : النبوة بعد شمويل {
وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ } أي : مما يشاء الله من العلم الذي اختصه به صلى الله
عليه وسلم ثم قال تعالى : { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
لَفَسَدَتِ الأرْضُ } أي : لولاه يدفع عن قوم بآخرين ، كما دفع عن بني إسرائيل
بمقاتلة طالوت وشجاعة داود لهلكوا كما قال : { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ
يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } الآية [الحج : 40].
وقال ابن جرير ، رحمه الله : حدثني أبو حميد الحمصي أحمد بن المغيرة حدثنا يحيى بن
سعيد حدثنا حفص بن سليمان عن محمد بن سوقة عن وبرة بن عبد الرحمن عن ابن عمر قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة
أهل بيت من جيرانه البلاء". ثم قرأ ابن عمر : { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ } (3) وهذا إسناد ضعيف فإن يحيى
بن سعيد [هذا] (4) هو أبو زكريا العطار الحمصي وهو ضعيف جدًّا.
ثم قال ابن جرير : حدثنا أبو حميد الحمصي حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا عثمان بن عبد
الرحمن عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "إن الله ليصلح بصلاح الرجل المسلم ولده وولد ولده وأهل دويرته
ودويرات حوله ، ولا يزالون في حفظ الله عز وجل ما دام فيهم" (5).
وهذا أيضًا غريب ضعيف لما تقدم أيضا. وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد
بن إبراهيم أخبرنا علي بن إسماعيل بن حماد أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد
أخبرنا زيد بن الحباب ، حدثني حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء (6)
عن ثوبان - رفع
__________
(1) في جـ : "ويشاركه".
(2) في جـ : "بما آل".
(3) تفسير الطبري (5/374).
(4) زيادة من أ ، و.
(5) تفسير الطبري (5/375).
(6) في جـ : "بن أبي أسامة".
(1/669)
الحديث
- قال : "لا يزال فيكم سبعة بهم تنصرون وبهم تمطرون وبهم ترزقون حتى يأتي أمر
الله" (1).
وقال ابن مردويه أيضًا : وحدثنا محمد بن أحمد (2) حدثنا محمد بن جرير بن يزيد ،
حدثنا أبو معاذ نهار بن عثمان الليثي أخبرنا زيد بن الحباب أخبرني عمر البزار ، عن
عنبسة الخواص ، عن قتادة عن أبي قِلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الأبدال في أمتي ثلاثون بهم تقوم
الأرض ، وبهم تمطرون وبهم تنصرون" قال قتادة : إني لأرجو أن يكون الحسن منهم
(3).
وقوله : { وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } أي : مَنٌّ عليهم
ورحمة بهم ، يدفع عنهم ببعضهم بعضا وله الحكم والحكمة والحجة على خلقه في جميع
أفعاله وأقواله.
ثم قال تعالى : { تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } أي : هذه آيات الله التي قصصناها عليك من (4) أمر الذين
ذكرناهم بالحق أي : بالواقع الذي كان عليه الأمر ، المطابق لما بأيدي أهل الكتاب
من الحق الذي يعلمه علماء بني إسرائيل { وَإِنَّكَ } يا محمد { لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ } وهذا توكيد وتوطئة للقسم.
__________
(1) ورواه عبد الرزاق في المصنف برقم (20457) عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة مرسلا.
(2) في جـ : "وحدثنا أحمد بن محمد".
(3) ورواه الطبراني في المعجم الكبير من طريق محمد بن الفرج عن زيد بن الحباب به ،
وقال الهيثمي في المجمع (10/63) : "رواه الطبراني من طريق عمرو البزار عن
عنبسة الخواص وكلاهما لم أعرفه ، وبقية رجاله رجال الصحيح".
فائدة : قال الإمام ابن القيم في المنار المنيف (ص136) : "أحاديث الأبدال
والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والاوتاد كلها باطلة على رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأقرب ما فيها : "لا تسبوا أهل الشام فإن فيهم البدلا ، كلما مات
رجل منهم أبدل الله مكانه رجلا آخر" ذكره أحمد ولا يصح أيضا ، فإنه
منقطع".
(4) في جـ : "في".
(1/670)
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
{
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ
اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ
وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) }
يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض كما قال : { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ
النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا } [الإسراء : 55] وقال
هاهنا : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ
كَلَّمَ اللَّهُ } يعني : موسى ومحمدا صلى الله عليه وسلم وكذلك آدم ، كما ورد به
الحديث المروي في صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ
دَرَجَاتٍ } كما ثبت في حديث الإسراء حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء
في السموات (1) بحسب تفاوت منازلهم عند الله عز وجل.
فإن قيل : فما الجمع بين هذه الآية وبين الحديث الثابت في الصحيحين عن أبي هريرة
قال : استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودي في قسم يقسمه : لا والذي
اصطفى موسى
__________
(1) في جـ : "في السماء".
(1/670)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
على
العالمين. فرفع المسلم يده فلطم بها وجه اليهودي فقال : أي خبيث وعلى محمد صلى
الله عليه وسلم! فجاء اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتكى على المسلم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تفضلوني على الأنبياء فإن الناس
يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشا بقائمة العرش فلا أدري أفاق
قبلي أم جوزي بصعقة الطور ؟ فلا تفضلوني على الأنبياء" (1) وفي رواية :
"لا تفضلوا بين الأنبياء".
فالجواب من وجوه :
أحدها : أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل وفي هذا نظر.
الثاني : أن هذا قاله من باب الهضم والتواضع.
الثالث : أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم
والتشاجر.
الرابع : لا تفضلوا بمجرد الآراء والعصبية.
الخامس : ليس مقام التفضيل إليكم وإنما هو إلى الله عز وجل وعليكم الانقياد
والتسليم له والإيمان به.
وقوله : { وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ } أي : الحجج والدلائل
القاطعات على صحة ما جاء بني إسرائيل به ، من أنه عبد الله ورسوله إليهم {
وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } يعني : أن الله أيده بجبريل عليه السلام ثم
قال تعالى : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ
وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا } أي : بل كل ذلك عن
قضاء الله وقدره ؛ ولهذا قال : { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ
وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) }
يأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم في سبيله سبيل الخير ليدخروا ثواب ذلك عند
ربهم ومليكهم وليبادروا إلى ذلك في هذه الحياة الدنيا { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ
يَوْمٌ } يعني : يوم القيامة { لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ } أي
: لا يباع أحد من نفسه ولا يفادى بمال لو بذله ، ولو جاء بملء الأرض ذهبًا ولا
تنفعه خلة أحد ، يعني : صداقته بل ولا نسابته كما قال : { فَإِذَا نُفِخَ فِي
الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } [المؤمنون :
101]{ وَلا شَفَاعَةٌ } أي : ولا تنفعهم شفاعة الشافعين.
وقوله : { وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } مبتدأ محصور في خبره أي : ولا
ظالم أظلم ممن وافى الله يومئذ كافرا. وقد روى ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار أنه
(2) قال : الحمد لله الذي قال : { وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ولم يقل :
والظالمون هم الكافرون.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (3408) وصحيح مسلم برقم (2373).
(2) في جـ : "به".
(1/671)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
{
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا
نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ
عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا
يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ
(255) }
هذه آية الكرسي ولها شأن عظيم قد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها
أفضل آية في كتاب الله. قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا سفيان عن سعيد
الجريري عن أبي السليل عن عبد الله بن رباح ، عن أبي - هو ابن كعب - أن النبي صلى
الله عليه وسلم سأله : "أي آية في كتاب الله أعظم" ؟ قال : الله ورسوله
أعلم. فرددها مرارًا ثم قال أبى : آية الكرسي. قال : "لِيَهْنك العلم أبا
المنذر ، والذي نفسي بيده إن لها لسانًا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش"
وقد رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن الجريري -
به (1) وليس عنده زيادة : "والذي نفسي بيده..." إلخ.
حديث آخر : عن أبي أيضاً في فضل آية الكرسي ، قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا
أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثنا مبشر عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن عبدة بن
أبي لبابة (2) عن عبد الله بن أبي بن كعب : أن أباه أخبره : أنه كان له جرن فيه
تمر قال : فكان أبي يتعاهده فوجده ينقص قال : فحرسه (3) ذات ليلة فإذا هو بدابة
شبيه الغلام المحتلم قال : فسلمت عليه فرد السلام. قال : فقلت : ما أنت ، جني أم
إنسي ؟ قال : جني. قلت : ناولني يدك. قال : فناولني ، فإذا يد (4) كلب وشعر كلب.
فقلت : هكذا خَلْقُ الجن ؟ قال : لقد علمت الجن ما فيهم أشد مني ، قلت : فما حملك
على ما صنعت ؟ قال : بلغني أنك رجل تحب الصدقة فأحببنا أن نصيب من طعامك. قال :
فقال له (5) فما الذي يجيرنا (6) منكم ؟ قال : هذه الآية : آية الكرسي. ثم غدا إلى
النبي (7) صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "صدق
الخبيث".
وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي داود الطيالسي عن حرب بن شداد عن يحيى
بن أبي كثير عن الحضرمي بن لاحق ، عن محمد بن عمرو بن أبي بن كعب عن جده به (8).
وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا عثمان بن غياث (9) قال :
سمعت أبا السليل قال : كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحدث الناس حتى
يكثروا عليه فيصعد على سطح بيت فيحدث الناس قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "أي آية في القرآن أعظم ؟" فقال رجل :
__________
(1) المسند (5/141) وصحيح مسلم برقم (810).
(2) في جـ : "بن أبي كنانة".
(3) في جـ : ""فحرسته".
(4) في جـ ، و : "فإذا يده يد".
(5) في أ ، و : "فقال له أبي".
(6) في أ : "يحرسنا".
(7) في جـ : "إلى رسول الله".
(8) المستدرك (1/562) وفيه انقطاع ، وقد جاء من طريق آخر ، فرواه ابن حبان في
صحيحه برقم (1724) "موارد" من طريق الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير ، عن
ابن لأبي بن كعب ، عن أبيه كعب أنه أخبره فذكر نحوه.
(9) في أ : "بن عتاب".
(1/672)
{
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } قال : فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي ، أو
قال : فوضع يده بين ثديي فوجدت بردها بين كتفي وقال : "ليهنك العلم يا أبا
المنذر" (1).
حديث آخر : عن الأسفع (2) البكري. قال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أبو
يزيد القراطيسي حدثنا يعقوب بن أبي عباد المكي حدثنا مسلم بن خالد ، عن ابن جريج
أخبرني عمر بن عطاء أن مولى ابن الأسفع (3) - رجل صدق - أخبره عن الأسفع (4)
البكري : أنه سمعه يقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم في صفة المهاجرين
فسأله إنسان : أي آية في القرآن أعظم ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { اللَّهُ
لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } حتى
انقضت الآية. (5).
حديث آخر : عن أنس قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن الحارث حدثني سلمة بن
وردان أن أنس بن مالك حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل رجلا من صحابته
فقال : "أي فلان هل تزوجت" ؟ قال : لا وليس عندي ما أتزوج به. قال :
"أوليس معك : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } " ؟ قال : بلى. قال :
"ربع القرآن. أليس معك : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } " ؟ قال :
بلى. قال : "ربع القرآن. أليس معك { إِذَا زُلْزِلَتِ } " ؟ قال : بلى.
قال : "ربع القرآن أليس معك : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ[وَالْفَتْحُ] (6)
} " ؟ قال : بلى. قال : "ربع القرآن. أليس معك آية الكرسي : { اللَّهُ
لا إِلَهَ إِلا هُوَ (7) } " ؟ قال : بلى. قال : "ربع القرآن" (8).
حديث آخر : عن أبي ذر جُنْدَب بن جنادة قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع بن الجراح
حدثنا المسعودي أنبأني أبو عمر الدمشقي عن عبيد بن الخشخاش عن أبي ذر رضي الله عنه
قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست. فقال : "يا أبا ذر
هل صليت ؟" قلت : لا. قال : "قم فصل" قال : فقمت فصليت ثم جلست
فقال : "يا أبا ذر تَعَوَّذ بالله من شر شياطين الإنس والجن" قال : قلت
: يا رسول الله أوللإنس شياطين ؟ قال : "نعم" قال : قلت : يا رسول الله
الصلاة ؟ قال : "خير موضوع من شاء أقل ومن شاء أكثر". قال : قلت : يا
رسول الله فالصوم ؟ قال : "فرض مُجْزِئ وعند الله مزيد" قلت : يا رسول
الله فالصدقة ؟ قال : "أضعاف مضاعفة". قلت : يا رسول الله فأيها أفضل ؟
قال : "جهد من مقل أو سر إلى فقير" قلت : يا رسول الله أي الأنبياء كان
أول ؟ قال : "آدم" قلت : يا رسول الله ونبي (9) كان ؟ قال : "نعم
نبي مكلم" قال : قلت : يا رسول الله كم المرسلون ؟ قال : "ثلثمائة وبضعة
عشر جمًّا غفيرًا" وقال مرة : "وخمسة عشر" قال : قلت : يا رسول
الله أيما أنزل عليك أعظم ؟ قال : "آية الكرسي : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا
هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } " ورواه النسائي (10).
__________
(1) المسند (5/58).
(2) في جـ ، أ : "عن الأسقع".
(3) في جـ : "ابن الأسقع".
(4) في جـ : "عن الأسقع".
(5) المعجم الكبير (1/334) وقال الهيثمي في المجمع (6/321) : "فيه راو لم يسم
وقد وثق ، وبقية رجاله ثقات".
(6) زيادة من و.
(7) في أ : "هو الحي القيوم".
(8) المسند (3/221).
(9) في جـ : "ونبي الله".
(10) المسند (5/178) وسنن الترمذي (8/275).
(1/673)
حديث
آخر : عن أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري ، رضي الله عنه وأرضاه قال الإمام أحمد :
حدثنا سفيان (1) عن ابن أبي ليلى عن أخيه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي أيوب :
أنه كان (2) في سهوة له ، وكانت الغول تجيء فتأخذ فشكاها إلى النبي صلى الله عليه
وسلم : فقال : "فإذا رأيتها فقل : باسم الله أجيبي رسول الله". قال :
فجاءت فقال لها : فأخذها فقالت : إني لا أعود. فأرسلها فجاء فقال له النبي صلى
الله عليه وسلم : "ما فعل أسيرك ؟" قال : أخذتها فقالت لي : إني لا أعود
، إني لا أعود. فأرسلتها ، فقال (3) : "إنها عائدة" فأخذتها مرتين أو
ثلاثا كل ذلك تقول : لا أعود. وأجيء (4) إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول :
"ما فعل أسيرك ؟" فأقول : أخذتها فتقول : لا أعود. فيقول : "إنها
عائدة" فأخذتها فقالت : أرسلني وأعلمك شيئًا تقوله فلا يقربك شيء : آية
الكرسي ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : "صدقت وهي كذوب".
ورواه الترمذي في فضائل القرآن عن بُنْدار عن أبي أحمد الزبيري به (5) ، وقال :
حسن غريب.
وقد ذكر البخاري هذه القصة عن أبي هريرة فقال في كتاب "فضائل القرآن"
وفي كتاب "الوكالة" وفي "صفة إبليس" من صحيحه : قال عثمان بن
الهيثم أبو عمرو حدثنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : وكلني رسول الله
صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت :
لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة
شديدة. قال : فخليت عنه. فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "يا أبا هريرة
ما فعل أسيرك البارحة ؟" قال : قلت يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا
فَرحِمْتُه وخليت سبيله. قال : "أما إنه قد كَذَبك وسيعود" فعرفت أنه
سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنه سيعود" فرصدته فجاء
يحثو من الطعام فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
دعني فإني محتاج وعلي عيال لا أعود. فرحمته وخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ؟" قلت (6) :
يا رسول الله شكا حاجة وعيالا فرحمته فخليت سبيله. قال : "أما إنه قد كذبك وسيعود"
فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم. وهذا آخر ثلاث مرات أنَّك تزعم أنك لا تعود ثم تعود. فقال : دعني أعلمك
كلمات ينفعك الله بها. قلت : ما هن (7). قال : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية
الكرسي : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } حتى تختم الآية
فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله فأصبحت فقال
لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما فعل أسيرك البارحة ؟" قلت : يا
رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله. قال : "ما هي
؟" قال : قال لي : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم
الآية : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } وقال لي : لن يزال
عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح. وكانوا أحرص شيء على الخير ، فقال
النبي
__________
(1) في جـ ، أ ، و : "قال الإمام أحمد : حدثنا أبو أحمد ، حدثنا سفيان".
(2) في جـ : "أنه بات".
(3) في جـ : "فقال النبي صلى الله عليه وسلم".
(4) في جـ : ."وتجيء"
(5) المسند (5/423) وسنن الترمذي برقم (2880).
(6) في جـ : "فقلت".
(7) في أ ، و : "ما هي".
(1/674)
صلى
الله عليه وسلم : "أما إنه صدقك (1) وهو كذوب تعلم من تخاطب مُذْ (2) ثلاث
ليال يا أبا هريرة ؟" قلت (3) : لا قال : "ذاك شيطان".
كذا رواه البخاري معلقا بصيغة الجزم (4) وقد رواه النسائي في "اليوم
والليلة" عن إبراهيم بن يعقوب عن عثمان بن الهيثم فذكره (5) وقد روي من وجه
آخر عن أبي هريرة بسياق آخر قريب من هذا فقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره
:
حدثنا محمد بن عبد الله بن عمرويه الصفار ، حدثنا أحمد بن زهير بن حرب أخبرنا مسلم
بن إبراهيم أخبرنا إسماعيل بن مسلم العبدي أخبرنا أبو المتوكل الناجي : أن أبا
هريرة كان معه مفتاح بيت الصدقة وكان فيه تمر فذهب يوما ففتح الباب فوجد التمر قد
أخذ منه ملء كف ودخل يوما آخر فإذا قد أخذ منه ملء كف ثم دخل يومًا آخر ثالثًا
فإذا قد أخذ منه مثل ذلك. فشكا ذلك أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال
له النبي صلى الله عليه وسلم : "تحب أن تأخذ صاحبك هذا ؟" قال : نعم.
قال : "فإذا فتحت الباب فقل : سبحان من سخرك محمد" (6) فذهب ففتح الباب
فقال (7) : سبحان من سخرك محمد (8). فإذا هو قائم بين يديه قال : يا عدو الله أنت
صاحب هذا ؟ قال : نعم دعني فإني لا أعود ما كنت آخذا إلا لأهل بيت من الجن فقراء ،
فخلى عنه ثم عاد الثانية ثم عاد الثالثة. فقلت : أليس قد عاهدتني ألا تعود ؟ لا
أدعك اليوم حتى أذهب بك إلى النبي (9) صلى الله عليه وسلم قال : لا تفعل فإنك إن
تدعني علمتك كلمات إذا أنت قلتها لم يقربك أحد من الجن صغير ولا كبير ذكر ولا أنثى
قال له : لتفعلن ؟ قال : نعم. قال : ما هن ؟ قال : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ
الْحَيُّ الْقَيُّومُ } قرأ آية الكرسي حتى ختمها فتركه فذهب فأبعد فذكر ذلك أبو
هريرة للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما
علمت أن ذلك كذلك ؟".
وقد رواه النسائي عن أحمد بن محمد بن عبيد الله عن شعيب بن حرب عن إسماعيل بن مسلم
عن أبي المتوكل عن أبي هريرة به (10) وقد تقدم لأبي بن كعب كائنة مثل هذه أيضًا
فهذه ثلاث وقائع.
قصة أخرى : قال أبو عبيد في كتاب "الغريب" : حدثنا أبو معاوية عن أبي
عاصم الثقفي عن الشعبي عن عبد الله بن مسعود قال : خرج رجل من الإنس فلقيه رجل من
الجن فقال : هل لك أن تصارعني ؟ فإن صرعتني علمتك آية إذا قرأتها حين تدخل بيتك لم
يدخل شيطان ؟ فصارعه فصرعه (11) فقال : إني أراك ضئيلا شخيتا (12) كأن ذراعيك
ذراعا كلب أفهكذا أنتم أيها الجن. كلكم أم أنت من بينهم ؟ فقال : إني بينهم (13)
لضليع فعاودني فصارعه (14) فصرعه الإنسي. فقال : تقرأ آية الكرسي فإنه لا يقرؤها
أحد إذا دخل بيته إلا خرج الشيطان وله خَبَخٌ كخبج (15) الحمار.
__________
(1) في جـ : "صدق".
(2) في و : "من" ، وفي أ : "منذ".
(3) في جـ : "قال".
(4) صحيح البخاري برقم (2311 ، 3275).
(5) سنن النسائي الكبرى برقم (10795).
(6) في جـ : "لمحمد".
(7) في جـ : "وقال".
(8) في جـ : "لمحمد".
(9) في جـ : "إلى رسول الله".
(10) سنن النسائي الكبرى برقم (10794).
(11) في جـ ، أ ، و : "فصرعه عمر".
(12) في جـ : "صحيتا".
(13) في أ ، و : "إني منهم".
(14) في جـ : "فصارعن".
(15) في جـ : "وله خنيج كخنيج الحمار".
(1/675)
فقيل
لابن مسعود : أهو عمر ؟ فقال : من عسى أن يكون إلا عمر.
قال أبو عبيد : الضئيل : النحيف الجسم والخَبَج (1) بالخاء المعجمة ويقال : بالحاء
المهملة : الضراط (2).
حديث آخر عن أبي هريرة : قال الحاكم أبو عبد الله في مستدركه : حدثنا علي بن حمشاذ
(3) حدثنا بشر بن موسى حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثني حكيم بن جُبَير الأسدي عن
أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "سورة البقرة
فيها آية سيدة آي القرآن لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه! آية الكرسي".
وكذا رواه من طريق أخرى عن زائدة عن حكيم بن جبير ثم قال : صحيح الإسناد ولم
يخرجاه (4) كذا قال ، وقد رواه الترمذي من حديث زائدة [به] (5) ولفظه : "لكل
شيء سنام وسنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن : آية
الكرسي". ثم قال : غريب لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير ، وقد تكلم فيه
شعبة وضعفه (6).
قلت : وكذا ضعفه أحمد ويحيى بن معين وغير واحد من الأئمة وتركه ابن مهدي وكذبه
السعدي.
حديث آخر : قال ابن مَرْدُويه : حدثنا عبد الباقي بن نافع أخبرنا عيسى بن محمد
المروزي أخبرنا عمر بن محمد البخاري ، أخبرنا أبي أخبرنا عيسى بن موسى غُنْجَار عن
عبد الله بن كَيْسان ، أخبرنا يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر (7) عن ابن عمر عن عمر
بن الخطاب : أنه خرج ذات يوم إلى الناس وهم سماطات فقال : أيكم يخبرني بأعظم آية
في القرآن ؟ فقال ابن مسعود : على الخبير سَقَطْتَ سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول : "أعظم آية في القرآن : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ
الْقَيُّومُ } (8).
حديث آخر في اشتماله على اسم الله الأعظم : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكر
(9) أخبرنا عبيد الله (10) بن أبي زياد حدثنا شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن
السكن قالت (11) : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هاتين الآيتين {
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } و { الم * اللَّهُ لا إِلَهَ
إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [آل عمران : 1 ، 2] "إن فيهما اسم الله
الأعظم" (12).
وكذا رواه أبو داود عن مُسدَّد والترمذي عن علي بن خَشْرم (13) وابن ماجة عن أبي
بكر بن أبي شيبة ثلاثتهم عن عيسى بن يونس عن عبيد الله بن أبي زياد به (14) وقال
الترمذي : حسن صحيح.
__________
(1) في جـ : "والخنيج".
(2) غريب الحديث لأبي عبيد (3/316).
(3) في أ : "حماد" وفي و : "جمشاذ".
(4) المستدرك (2/259).
(5) زيادة من جـ ، أ ، و.
(6) المستدرك (2/259).
(7) في أ : "ابن معمر".
(8) ورواه الجورقاني في الأباطيل برقم (712) من طريق عيسى بن موسى غنجار به.
(9) في أ : "بن بكير".
(10) في جـ ، أ : "عبد الله".
(11) في جـ : "قال".
(12) المسند (6/461).
(13) في أ ، و : "ابن حزم".
(14) سنن أبي داود برقم (1496) وسنن الترمذي برقم (3478) وسنن ابن ماجة برقم
(3855).
(1/676)
حديث
آخر في معنى هذا عن أبي أمامة رضي الله عنه : قال ابن مَرْدُويه : أخبرنا عبد
الرحمن بن نمير أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل أخبرنا هشام بن عمار أخبرنا
الوليد بن مسلم ، أخبرنا عبد الله بن العلاء بن زيد : أنه سمع القاسم بن عبد
الرحمن يحدث عن أبي أمامة يرفعه قال : "اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب
في ثلاث : سورة البقرة وآل عمران وطه" وقال هشام - وهو ابن عمار خطيب دمشق -
: أما البقرة فـ { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } وفي آل
عمران : { الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } وفي طه : {
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } [طه : 111] (1).
حديث آخر عن أبي أمامة في فضل قراءتها بعد الصلاة المكتوبة : قال أبو بكر بن
مَرْدُويه : حدثنا محمد بن محرز بن مساور الأدمي أخبرنا جعفر بن محمد بن الحسن
أخبرنا الحُسَين بن بشر (2) بطَرسُوس أخبرنا محمد بن حمير أخبرنا محمد بن زياد عن
أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قرأ دُبُر كل صلاة
مكتوبة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت".
وهكذا رواه النسائي في "اليوم والليلة" عن الحسين بن بشر به (3) وأخرجه
ابن حبان في صحيحه من حديث محمد بن حِمْير وهو الحمصي من رجال البخاري أيضًا فهو
إسناد على شرط البخاري ، وقد زعم أبو الفرج بن الجوزي أنه حديث موضوع (4) فالله
أعلم. وقد روى ابن مردويه من حديث علي (5) والمغيرة بن شعبة (6) وجابر بن عبد الله
نحو هذا الحديث. ولكن في إسناد كل منها ضعف.
وقال ابن مردويه أيضا : حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري أخبرنا يحيى بن
دُرُسْتُوَيه المروزي (7) أخبرنا زياد بن إبراهيم أخبرنا أبو حمزة السكري عن
المثنى عن قتادة عن الحسن عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"أوحى الله إلى موسى بن عمران عليه السلام أن اقرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة
مكتوبة فإنه من يقرؤها في دبر كل صلاة مكتوبة أجعلْ له (8) قلب الشاكرين ولسان
الذاكرين وثواب المنيبين (9) وأعمال الصديقين ولا يواظب على ذلك إلا نبي أو صديق
أو عبد امتحنتُ (10) قلبه للإيمان أو أريد قتله في سبيل الله" (11) وهذا حديث
منكر جدًّا.
حديث آخر في أنها تحفظ من قرأها أول النهار وأول الليل : قال أبو عيسى الترمذي :
حدثنا يحيى بن المغيرة أبو سلمة المخزومي المديني أخبرنا ابن أبي فديك عن عبد
الرحمن المليكي عن
__________
(1) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/282) والطحاوي في مشكل الآثار برقم (176)
من طرق عن هشام بن عمار به نحوه.
(2) في أ : "بشير".
(3) سنن النسائي الكبرى برقم (9928).
(4) الموضوعات (1/244).
(5) حديث علي رواه أيضا البيهقي في شعب الإيمان برقم (2395) من طريق نهشل عن أبي
إسحاق الهمداني عن حبة العرني عن علي رضي الله عنه.
(6) حديث المغيرة رواه أبو نعيم في الحلية (3/221) من طريق عمر بن إبراهيم عن محمد
بن كعب ، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(7) في جـ : "بن ساسويه المروبي".
(8) في جـ : "جعل الله".
(9) في جـ : "وثواب النبيين".
(10) في أ : "متحبب".
(11) وفيه محمد بن الحسن النقاش ، قال البرقاني كل حديثه منكر. وقال الخطيب :
حديثه مناكير. وروى نحوه من حديث جابر رضي الله عنه لكنه ضعيف.
(1/677)
زرارة
بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"من قرأ : { حم } المؤمن إلى : { إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } وآية الكرسي حين يصبح
حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح" ثم قال : هذا حديث
غريب وقد تكلم بعض أهل العلم في عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مُلَيْكة المليكي من
قبل حفظه (1).
وقد ورد في فضيلتها (2) أحاديث أخر تركناها اختصارًا لعدم صحتها وضعف أسانيدها
كحديث على قراءتها عند الحجامة : أنها تقوم مقام حجامتين وحديث أبي هريرة في
كتابتها في اليد اليسرى بالزعفران سبع مرات وتلحس للحفظ وعدم النسيان أوردهما ابن
مردويه وغير ذلك. وهذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة.
فقوله : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } إخبار بأنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق
{ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } أي : الحي في نفسه الذي لا يموت أبدًا القيم لغيره وكان
عمر يقرأ : "القَيَّام" فجميع الموجودات مفتقرة إليه وهو غني عنها ولا
قوام لها بدون أمره كقوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ
بِأَمْرِهِ } [الروم : 25] وقوله : { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } أي : لا
يعتريه نقص ولا غفلة ولا ذهول عن خلقه بل هو قائم على كل نفس بما كسبت شهيد على كل
شيء لا يغيب عنه شيء ولا يخفى عليه خافية (3) ، ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه
سنة ولا نوم ، فقوله : { لا تَأْخُذُهُ } أي : لا تغلبه سنة وهي الوسن والنعاس
ولهذا قال : { وَلا نَوْمٌ } لأنه أقوى من السنة. وفي الصحيح عن أبي موسى قال :
قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال : "إن الله لا ينام
ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل وعمل
الليل قبل عمل النهار حجابه النور - أو النار - لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما
انتهى إليه بصره من خلقه" (4).
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر أخبرني الحكم بن أبان عن عكرمة مولى ابن عباس في
قوله : { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } أن موسى عليه السلام سأل الملائكة هل
ينام الله عز وجل ؟ فأوحى الله إلى الملائكة وأمرهم أن يؤرقوه ثلاثا (5) فلا
يتركوه ينام ففعلوا ثم أعطوه قارورتين فأمسكهما ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما. قال :
فجعل ينعس وهما في يده (6) في كل يد واحدة قال : فجعل ينعس وينبه (7) وينعس وينبه
(8) حتى نعس نعسة فضرب إحداهما بالأخرى فكسرهما قال معمر : إنما هو مثل ضربه الله
عز وجل يقول : فكذلك السموات والأرض في يديه.
وهكذا رواه ابن جرير عن الحسن بن يحيى عن عبد الرزاق فذكره (9) وهو من أخبار بني
إسرائيل وهو مما يعلم أن موسى عليه السلام لا يخفى عليه مثل هذا من أمر الله عز
وجل وأنه منزه عنه.
__________
(1) سنن الترمذي برقم (2879).
(2) في أ : "في فضلها".
(3) في أ : "عليه شيء".
(4) صحيح مسلم برقم (179).
(5) في أ : "قليلا".
(6) في أ : "يديه".
(7) في أ : "وينتبه".
(8) في أ : "وينتبه".
(9) تفسير الطبري (5/393).
(1/678)
وأغرب
من هذا كله الحديث الذي رواه ابن جرير :
حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل حدثنا هشام بن يوسف عن أمية بن شبل عن الحكم بن أبان
عن عكرمة عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى عليه
السلام على المنبر ، قال : "وقع في نفس موسى : هل ينام الله ؟ فأرسل الله
إليه ملكًا فأرقه ثلاثًا ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره أن يحتفظ
بهما". قال : "فجعل ينام تكاد يداه تلتقيان فيستيقظ فيحبس إحداهما على
الأخرى ، حتى نام نومة فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان" قال : "ضرب
الله له مثلا عز وجل : أن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض" (1).
وهذا حديث غريب جدا والأظهر أنه إسرائيلي لا مرفوع ، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن
الدَّشْتكي حدثني أبي عن أبيه حدثنا أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد
بن جبير عن ابن عباس : أن بني إسرائيل قالوا : يا موسى هل ينام ربك ؟ قال : اتقوا
الله. فناداه ربه عز وجل : يا موسى سألوك : هل ينام ربك فخذ زجاجتين في يديك فقم
الليلة ففعل موسى فلما ذهب من الليل ثلث نعس فوقع لركبتيه ، ثم انتعش فضبطهما حتى
إذا كان آخر الليل نعس فسقطت الزجاجتان فانكسرتا. فقال : يا موسى ، لو كنت أنام
لسقطت السموات والأرض فهلكن كما هلكت الزجاجتان في يديك. وأنزل الله على نبيه صلى
الله عليه وسلم آية الكرسي.
وقوله : { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } إخبار بأن الجميع عبيده
وفي ملكه وتحت قهره وسلطانه كقوله :
{ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا
لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فَرْدًا } [مريم : 93 - 95].
وقوله : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } كقوله : { وَكَمْ
مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ
أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } [النجم : 26] وكقوله : { وَلا
يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى } [الأنبياء : 28] وهذا من عظمته وجلاله
وكبريائه عز وجل أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع عنده إلا بإذنه له (2) في الشفاعة
كما في حديث الشفاعة : "آتي تحت العرش فأخر (3) ساجدًا فيدعني ما شاء الله أن
يدعني ثم يقال : ارفع رأسك وقل تسمع واشفع تشفع" قال : "فيحد لي حدا
فأدخلهم الجنة" (4).
وقوله : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } دليل على إحاطة
علمه بجميع الكائنات : ماضيها وحاضرها ومستقبلها كقوله إخبارًا عن الملائكة : {
وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا
وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } [مريم : 64].
وقوله : { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ } أي : لا
يطلع أحد من علم الله على شيء إلا
__________
(1) تفسير الطبري (5/394) وقال الحافظ ابن حجر في ترجمة أمية بن شبل : "له
حديث منكر رواه عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن أبي هريرة مرفوعا قال : "وقع في
نفس موسى عليه السلام : هل ينام الله ؟" الحديث رواه هشام بن يوسف وخالفه
معمر ، عن الحكم عن عكرمة فوقفه ، وهذا أقرب ولا يسوغ أن يكون هذا وقع في نفس موسى
عليه السلام وإنما روى أن بني إسرائيل سألوا موسى عن ذلك".
(2) في أ ، و : "إلا أن يأذن له".
(3) في أ ، و : "فأخر لله".
(4) حديث الشفاعة مخرج في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه ، وسيأتي سياقه وذكر
طرقه عند تفسير الآية : 79 من سورة الإسراء.
(1/679)
بما
أعلمه الله عز وجل وأطلعه عليه. ويحتمل أن يكون المراد لا يطلعون على شيء من علم
ذاته وصفاته إلا بما أطلعهم الله عليه كقوله : { وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا }
[طه : 110].
وقوله : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا
أبو سعيد الأشج حدثنا ابن إدريس عن مطرف بن طريف عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد
بن جبير عن ابن عباس في قوله : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ } قال : علمه ، وكذا رواه ابن
جرير من حديث عبد الله بن إدريس وهشيم كلاهما عن مطرف بن طريف به.
قال ابن أبي حاتم : وروي عن سعيد بن جبير مثله. ثم قال ابن جرير : وقال آخرون :
الكرسي موضع القدمين ثم رواه عن أبي موسى والسدي والضحاك ومسلم البطين.
وقال شجاع بن مخلد في تفسيره : أخبرنا أبو عاصم عن سفيان عن عمار الدُّهْني عن
مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن
قول الله : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ } قال : "كرسيه
موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل".
كذا أورد هذا الحديث الحافظ أبو بكر بن مردويه من طريق شجاع بن مخلد الفلاس ،
فذكره (1) وهو غلط وقد رواه وَكِيع في تفسيره : حدثنا سفيان عن عمار الدُّهْنِي
(2) عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : الكرسي موضع القدمين والعرش
لا يقدر أحد قدره. وقد رواه الحاكم في مستدركه عن أبي العباس محمد بن أحمد
المحبوبي عن محمد بن معاذ عن أبي عاصم عن سفيان - وهو الثوري - بإسناده عن ابن
عباس موقوفًا مثله وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (3) وقد رواه ابن
مردويه من طريق الحاكم بن ظُهَيْر الفزاري الكوفي - وهو متروك - عن السدي عن أبيه
عن أبي هريرة مرفوعًا ولا يصح أيضًا.
وقال السدي عن أبي مالك : الكرسي تحت العرش. وقال السدي : السموات والأرض في جوف
الكرسي والكرسي بين يدي العرش. وقال الضحاك عن ابن عباس : لو أن السموات السبع
والأرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة
في المفازة.
ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير : حدثني يونس أخبرني ابن وهب قال : قال ابن زيد : حدثني أبي قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم
سبعة ألقيت في تُرْس". قال : وقال أبو ذر : سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول : "ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من
الأرض" (4).
وقال أبو بكر بن مردويه : أخبرنا سليمان بن أحمد أخبرنا عبد الله بن وهيب (5)
الغزي
__________
(1) ورواه الخطيب في تاريخ دمشق (9/251) من طريق شجاع بن مخلد به.
(2) في أ : "عن علي الذهبي".
(3) المستدرك (2/282) ورواه ابن أبي شيبة في صفة العرش برقم (61) من طريق أبي عاصم
عن سفيان به موقوفا.
(4) تفسير الطبري (5/399) وهو منقطع وقد جاء موصولا فرواه ابن أبي شيبة في صفة
العرش برقم (58) من طريق المختار بن غسان ، عن إسماعيل بن مسلم عن أبي إدريس
الخولاني عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه ، مرفوعا بنحوه. وسيأتي أيضا موصولا من
طريق آخر وهو الذي يليه من رواية ابن مردويه.
(5) في هـ : "بن وهب" والتصويب من الإكمال.
(1/680)
أخبرنا
محمد بن أبي السَّرِيّ العسقلاني أخبرنا محمد بن عبد الله (1) التميمي عن القاسم
بن محمد الثقفي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر الغفاري ، أنه سأل النبي صلى الله
عليه وسلم عن الكرسي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده
ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وإن فضل
العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة" (2).
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا زهير حدثنا ابن أبي بُكَيْر (3)
حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة عن عمر ، رضي الله عنه قال : أتت
امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : ادع الله أن يدخلني الجنة. قال :
فعظم الرب تبارك وتعالى وقال : "إن كرسيه وسع السموات والأرض وإن له أطيطًا
كأطيط الرَّحل الجديد من ثقله" (4).
وقد رواه الحافظ البزار في مسنده المشهور وعبد بن حميد وابن جرير في تفسيريهما
والطبراني وابن أبي عاصم في كتابي السنة لهما والحافظ الضياء في كتاب
"المختار" من حديث أبي إسحاق (5) السبيعي عن عبد الله بن خليفة وليس
بذاك المشهور وفي سماعه من عمر نظر (6) ثم منهم من يرويه عنه عن عمر موقوفًا ومنهم
من يرويه عنه مرسلا (7) ومنهم من يزيد في متنه زيادة غريبة ومنهم من يحذفها.
وأغرب من هذا حديث جبير بن مطعم في صفة العرش كما رواه أبو داود في كتابه السنة من
سننه (8) ، والله أعلم.
وقد روى ابن مردويه وغيره أحاديث عن بريدة وجابر وغيرهما في وضع الكرسي يوم
القيامة لفصل القضاء ، والظاهر أن ذلك غير المذكور في هذه الآية.
وقد زعم بعض المتكلمين على علم الهيئة من الإسلاميين : أن الكرسي عندهم هو الفلك
الثامن وهو فلك الثوابت الذي فوقه الفلك التاسع وهو الفلك الأثير ويقال له :
الأطلس. وقد رد ذلك عليهم آخرون.
وروى ابن جرير من طريق جُويبر عن الحسن البصري أنه كان يقول : الكرسي هو العرش.
والصحيح أن الكرسي غير العرش والعرش أكبر منه ، كما دلت على ذلك الآثار والأخبار ،
وقد اعتمد ابن جرير على حديث عبد الله بن خليفة ، عن عمر في ذلك وعندي في صحته نظر
والله أعلم.
وقوله : { وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا } أي : لا يثقله ولا يُكْرثُهُ حفظ السموات
والأرض ومن فيهما ومن
__________
(1) في أ : "بن عبيد الله".
(2) وفي إسناده محمد بن أبي السري العسقلاني ، ضعفه أبو حاتم ووثقه ابن معين ،
وقال ابن عدي : كثير الغلط.
(3) في أ : "ابن أبي بكر".
(4) ورواه من طريقه الضياء في المختارة برقم (151).
(5) في أ : "عن أبي القاسم".
(6) مسند البزار برقم (39) "كشف الأستار" وتفسير الطبري (5/400) والسنة
لابن أبي عاصم برقم (574) والمختارة للضياء المقدسي برقم (151 - 154).
(7) الرواية المرسلة في تفسير الطبري (5/400).
(8) سنن أبي داود برقم (4726).
(1/681)
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
بينهما
، بل ذلك سهل عليه يسير لديه وهو القائم على كل نفس بما كسبت ، الرقيب على جميع
الأشياء ، فلا يعزب عنه شيء ولا يغيب عنه شيء والأشياء كلها حقيرة بين يديه
متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه ، محتاجة فقيرة وهو الغني الحميد الفعال لما
يريد ، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وهو القاهر لكل شيء الحسيب على كل شيء
الرقيب العلي العظيم لا إله غيره ولا رب سواه فقوله : { وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْعَظِيمُ } كقوله : { وَهُو [الْعَلِيُّ الْكَبِير } وكقوله] (1) : { الْكَبِيرُ
الْمُتَعَال } [الرعد : 9].
وهذه الآيات وما في معناها من الأحاديث الصحاح الأجود فيها طريقة السلف الصالح
إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه.
{ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ
يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ
الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) }
يقول تعالى : { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين } أي : لا تكرهوا أحدًا على الدخول في
دين الإسلام فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على
الدخول فيه ، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة ،
ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها
مقسورًا. وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار ، وإن كان حكمها
عامًّا.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن أبي بشر ، عن سعيد
بن جبير عن ابن عباس قال : كانت المرأة تكون مِقْلاتًا فتجعل على نفسها إن عاش لها
ولد أن تهوده ، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا : لا ندع
أبناءنا فأنزل الله عز وجل : { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ
الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ }
وقد رواه أبو داود والنسائي جميعا عن بُنْدَار به (2) ومن وجوه أخر عن شعبة به
نحوه. وقد رواه ابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه من حديث شعبة به (3) ، وهكذا ذكر
مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وغيرهم : أنها نزلت في ذلك.
وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد الجرشي عن (4) زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن
سعيد [بن جبير] (5) عن ابن عباس قوله : { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } قال : نزلت
في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له : الحصيني كان له ابنان نصرانيان ،
وكان هو رجلا مسلمًا فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا أستكرههما فإنهما قد
أبيا إلا النصرانية ؟ فأنزل الله فيه ذلك.
رواه ابن جرير وروى السدي نحو ذلك وزاد : وكانا قد تنصرا على يدي تجار قدموا من
الشام يحملون زيتًا فلما عزما على الذهاب معهم أراد أبوهما أن يستكرههما ، وطلب من
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث في آثارهما ، فنزلت هذه الآية.
__________
(1) زيادة من أ ، و.
(2) تفسير الطبري (5/407 ، 408) وسنن أبي داود برقم (2682) وسنن النسائي الكبرى
برقم (11048).
(3) صحيح ابن حبان برقم (1725) "موارد".
(4) في و : "مولى".
(5) زيادة من جـ ، أ.
(1/682)
وقال
ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عوف أخبرنا شريك عن أبي هلال عن أُسَق قال
: كنت في دينهم مملوكًا نصرانيًا لعمر بن الخطاب فكان يعرض علي الإسلام فآبى فيقول
: { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ويقول : يا أُسَق لو أسلمت لاستعنا بك على بعض
أمور المسلمين.
وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء أن هذه محمولة على أهل الكتاب ومن دخل في دينهم
قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية. وقال آخرون : بل هي منسوخة بآية القتال وأنه
يجب أن يدعى جميع الأمم إلى الدخول في الدين الحنيف دين الإسلام فإن أبى أحد منهم
الدخول فيه ولم ينقد له أو يبذل الجزية ، قوتل حتى يقتل. وهذا معنى الإكراه قال
الله تعالى : { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ
أَوْ يُسْلِمُون } [الفتح : 16] وقال تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ
الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } [التحريم : 9] وقال تعالى :
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ
الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ
الْمُتَّقِينَ } [التوبة : 123] وفي الصحيح : "عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة
في السلاسل" (1) يعني : الأسارى الذين يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثائق
والأغلال والقيود والأكبال ثم بعد ذلك يسلمون وتصلح أعمالهم وسرائرهم فيكونون من
أهل الجنة.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا يحيى عن حميد عن أنس : أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال لرجل : "أسلم" قال : إني أجدني كارها. قال :
"وإن كنت كارها" (2) فإنه ثلاثي صحيح ، ولكن ليس من هذا القبيل فإنه لم
يكرهه النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام بل دعاه إليه فأخبر أن نفسه ليست
قابلة له بل هي كارهة فقال له : "أسلم وإن كنت كارهًا فإن الله سيرزقك حسن
النية والإخلاص".
وقوله : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي :
من خلع الأنداد والأوثان (3) وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون
الله ، ووحد الله فعبده وحده وشهد أن لا إله إلا هو { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } أي : فقد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى
والصراط المستقيم.
قال أبو القاسم البغوي : حدثنا أبو روح البلدي حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم ، عن
أبي إسحاق عن حسان - هو ابن فائد العبسي - قال : قال عمر رضي الله عنه : إن الجِبت
: السحر والطاغوت : الشيطان ، وإن الشجاعة والجبن غرائز تكون في الرجال يقاتل
الشجاع عمن لا يعرف ويفر الجبان من (4) أمه ، وإن كرم الرجل دينه ، وحسبه خلقه ،
وإن كان فارسيًّا أو نبطيا. وهكذا رواه ابن جرير (5) وابن أبي حاتم من حديث الثوري
عن أبي إسحاق عن حسان بن فائد العبسي عن عمر فذكره.
ومعنى قوله في الطاغوت : إنه الشيطان قوي جدًّا فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل
الجاهلية ، من عبادة الأوثان والتحاكم إليها والاستنصار بها.
وقوله : { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا } أي
: فقد استمسك من الدين بأقوى سبب ،
__________
(1) صحيح البخاري برقم (3010) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) المسند (3/181).
(3) في أ : "والأديان".
(4) في جـ ، أ ، و : "عن".
(5) تفسير الطبري (5/417).
(1/683)
وشبه
ذلك بالعروة الوثقى التي لا تنفصم فهي في نفسها محكمة مبرمة قوية وربطها قوي شديد
ولهذا قال : { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }.
قال مجاهد : { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } يعني : الإيمان.
وقال السدي : هو الإسلام وقال سعيد بن جبير والضحاك : يعني لا إله إلا الله. وعن
أنس (1) بن مالك : { بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } : القرآن. وعن سالم بن أبي الجعد
قال : هو الحب في الله والبغض في الله.
وكل هذه الأقوال صحيحة ولا تنافي بينها.
وقال معاذ بن جبل في قوله : { لا انْفِصَامَ لَهَا } أي : لا انقطاع لها دون دخول
الجنة.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير : { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا
انْفِصَامَ لَهَا } ثم قرأ : { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد : 11].
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن يوسف حدثنا ابن عون عن محمد عن قيس بن عباد قال
: كنت في المسجد فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع ، فدخل فصلى ركعتين أوجز فيهما فقال
القوم : هذا رجل من أهل الجنة. فلما خرج اتبعته حتى دخل منزله فدخلت معه فحدثته
فلما استأنس (2) قلت له : إن القوم لما دخلت قبل المسجد قالوا كذا وكذا. قال :
سبحان الله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم وسأحدثك لم : إني رأيت رؤيا على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه : رأيت كأني في روضة خضراء - قال ابن
عون : فذكر من خضرتها وسعتها - وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء
في أعلاه عروة ، فقيل لي : اصعد عليه فقلت : لا أستطيع. فجاءني مِنْصَف - قال ابن
عون : هو الوصيف (3) - فرفع ثيابي من خلفي ، فقال : اصعد. فصعدت حتى أخذت بالعروة
فقال : استمسك بالعروة. فاستيقظت وإنها لفي يدي فأتيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقصصتها عليه. فقال : "أما الروضة فروضة الإسلام وأما العمود فعمود
الإسلام وأما العروة فهي العروة الوثقى ، أنت على الإسلام حتى تموت" (4).
قال : وهو عبد الله بن سلام أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الله بن عون (5)
وأخرجه البخاري من وجه آخر ، عن محمد بن سيرين به (6).
طريق أخرى وسياق آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى وعفان قالا حدثنا حماد
بن سلمة ، عن عاصم بن بهدلة عن المسيب بن رافع عن خرشة بن الحُرِّ قال : قدمت
المدينة فجلست إلى مشيخة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. فجاء شيخ يتوكأ على
عصًا له فقال القوم : من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا. فقام
خلف سارية فصلى ركعتين فقمت إليه ، فقلت له : قال بعض القوم : كذا وكذا. فقال :
الجنة لله يُدخلها (7) من يشاء وإني رأيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
رؤيا ، رأيت كأن رجلا أتاني فقال : انطلق. فذهبت معه فسلك بي منهجًا عظيمًا فعرضت
لي طريق عن يساري ، فأردت أن أسلكها. فقال : إنك لست من أهلها. ثم عرضت لي طريق عن
__________
(1) في أ : "وعن يونس".
(2) في جـ : "فلما أنس".
(3) في أ : "هو الوصف".
(4) المسند (5/452).
(5) صحيح البخاري برقم (3813) وصحيح مسلم برقم (2484).
(6) صحيح البخاري برقم (7010).
(7) في جـ : "سيدخلها".
(1/684)
يميني
فسلكتها حتى انتهت إلى جبل زلق فأخذ بيدي فزجل (1) فإذا أنا على ذروته ، فلم أتقار
ولم أتماسك فإذا عمود حديد في ذروته حلقة من ذهب فأخذ بيدي فزجل (2) حتى أخذت
بالعروة فقال : استمسك. فقلت : نعم. فضرب العمود برجله فاستمسكت بالعروة ، فقصصتها
على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "رأيت خيرًا أما المنهج العظيم
فالمحشر (3) ، وأما الطريق التي عرضت عن يسارك فطريق أهل النار ، ولست من أهلها ،
وأما الطريق التي عرضت عن يمينك فطريق أهل الجنة ، وأما الجبل الزلق فمنزل الشهداء
، وأما العروة التي استمسكت بها فعروة الإسلام فاستمسك بها حتى تموت". قال :
فإنما أرجو أن أكون من أهل الجنة. قال : وإذا هو عبد الله بن سلام (4).
وهكذا رواه النسائي عن أحمد بن سليمان عن عفان ، وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة
، عن الحسن بن موسى الأشيب كلاهما عن حماد بن سلمة به نحوه (5). وأخرجه مسلم في
صحيحه من حديث الأعمش عن سليمان بن مُسْهِر عن خرشة بن الحُرّ الفزاري به (6).
__________
(1) في جـ ، أ ، و : "فدحا بي".
(2) في جـ ، أ ، و : "فدحا بي".
(3) في جـ : "فالمحن".
(4) المسند (5/452 ، 453).
(5) سنن النسائي الكبرى برقم (7633) وسنن ابن ماجة برقم (3920).
(6) صحيح مسلم برقم (2484).
(1/685)
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
{
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ
إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) }
يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سُبُل السلام فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات
الكفر والشك والريب إلى نور الحق الواضح الجلي المبين السهل المنير ، وأن الكافرين
إنما وليهم الشياطين تزين لهم ما هم فيه من الجهالات والضلالات ، ويخرجونهم
ويحيدون بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك { أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ }
ولهذا وحد تعالى لفظ النور وجمع الظلمات ؛ لأن الحق واحد والكفر أجناس كثيرة وكلها
باطلة كما قال : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا
تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ
بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام : 153] وقال تعالى : { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ
وَالنُّور } [الأنعام : 1] وقال تعالى : { عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ }
[النحل : 48] إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق ، وانتشار
الباطل وتفرده وتشعبه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا علي بن ميسرة حدثنا عبد العزيز بن أبي عثمان
عن موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد قال : يبعث أهل الأهواء (1) - أو قال : يبعث أهل
الفتن - فمن كان هواه الإيمان كانت فتنته بيضاء مضيئة ، ومن كان هواه الكفر كانت
فتنته سوداء مظلمة ، ثم قرأ هذه الآية : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا
يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا
أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ
أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
__________
(1) في أ : "الأسواق".
(1/685)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
{
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ
الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا
أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ
الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) }
هذا الذي حاج إبراهيم في ربه وهو ملك بابل : نمروذ بن كنعان بن كُوش بن سام بن
نوح. ويقال : نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح والأول قول
مجاهد وغيره.
قال مجاهد : وملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة : مؤمنان وكافران فالمؤمنان :
سليمان بن داود وذو القرنين. والكافران : نمرود [بن كنعان] (1) وبختنصر. فالله
أعلم.
ومعنى قوله : { أَلَمْ تَرَ } أي : بقلبك يا محمد { إِلَى الَّذِي حَاجَّ
إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ } أي : [في] (2) وجود ربه. وذلك أنه أنكر أن يكون ثم إله
غيره كما قال بعده فرعون لملئه : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي }
[القصص : 38] وما حمله على هذا الطغيان والكفر الغليظ والمعاندة الشديدة إلا تجبره
، وطول مدته في الملك ؛ وذلك أنه يقال : إنه مكث أربعمائة سنة في ملكه ؛ ولهذا قال
: { أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ } وكأنه طلب من إبراهيم دليلا على وجود الرب
الذي يدعو إليه فقال إبراهيم : { رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي : الدليل
على وجوده حدوث هذه الأشياء المشاهدة بعد عدمها ، وعدمها بعد وجودها. وهذا دليل
على وجود الفاعل المختار ضرورة ؛ لأنها لم تحدث بنفسها فلا بد لها من موجد أوجدها
وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له. فعند ذلك قال المحاج (3) - وهو
النمروذ - : { أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ }
قال قتادة ومحمد بن إسحاق والسدي وغير واحد : وذلك أني (4) أوتى بالرجلين قد
استحقا القتل فآمر بقتل أحدهما فيقتل ، وبالعفو عن الآخر فلا يقتل. فذلك معنى
الإحياء والإماتة.
والظاهر - والله أعلم - أنه ما أراد هذا ؛ لأنه ليس جوابًا لما قال إبراهيم ولا في
معناه ؛ لأنه غير مانع لوجود الصانع. وإنما أراد أن يَدّعي لنفسه هذا المقام
عنادًا ومكابرة ويوهم أنه الفاعل لذلك وأنه هو الذي يحيي ويميت ، كما اقتدى به
فرعون في قوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } ولهذا قال له
إبراهيم لما ادعى هذه المكابرة : { فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ
الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ } أي : إذا كنت كما تدعي من أنك [أنت
الذي] (5) تحيي وتميت فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود في خلق ذواته
وتسخير كواكبه وحركاته فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق ، فإن كنت إلهًا كما
ادعيت تحيي وتميت فأت بها من المغرب. فلما علم عجزه وانقطاعه ، وأنه لا يقدر على
المكابرة في هذا المقام بهت أي : أخرس فلا يتكلم ، وقامت عليه الحجة. قال الله
تعالى (6) { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } أي : لا يلهمهم حجة
ولا برهانًا بل حجتهم داحضة عند ربهم ، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد.
وهذا التنزيل على هذا المعنى أحسن مما ذكره كثير من المنطقيين : أن عدول إبراهيم
عن المقام الأول إلى المقام الثاني انتقال من دليل إلى أوضح منه ، ومنهم من قد
يطلق عبارة ردية. وليس كما قالوه بل المقام الأول يكون كالمقدمة للثاني ويُبَيّن
بطلان ما ادعاه نمروذ في الأول والثاني ، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) زيادة من أ ، و.
(3) في جـ ، أ ، و : "الحاج".
(4) في أ : "وذلك أنه".
(5) زيادة من أ ، و.
(6) في جـ ، أ : "عز شأنه".
(1/686)
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
وقد
ذكر السدي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم ونمروذ بعد خروج إبراهيم من النار ولم
يكن اجتمع بالملك إلا في ذلك اليوم فجرت بينهما هذه المناظرة.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم : أن النمروذ كان عنده (1) طعام وكان
الناس يغدون (2) إليه للميرة فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة فكان بينهما هذه
المناظرة ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس بل خرج وليس معه شيء من الطعام
، فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب فملأ منه عدليه وقال : أشغل أهلي عني
إذا قدمت عليهم فلما قدم وضع رحاله وجاء فاتكأ فنام. فقامت امرأته سارة إلى
العدلين فوجدتهما ملآنين طعامًا طيبًا فعملت منه طعاما. فلما استيقظ إبراهيم وجد
الذي قد أصلحوه فقال : أنى لكم هذا ؟ قالت : من الذي جئت به. فعرف أنه رزق رزقهموه
الله عز وجل. قال (3) زيد بن أسلم : وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكا يأمره
بالإيمان بالله فأبى عليه ثم دعاه الثانية فأبى ثم الثالثة فأبى وقال : اجمع جموعك
وأجمع جموعي. فجمع النمروذ جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس ، وأرسل الله عليهم بابا من
البعوض بحيث لم يروا عين الشمس وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم
عظاما بادية ، ودخلت واحدة منها في منخري الملك فمكثت في منخريه أربعمائة سنة ،
عذبه الله بها فكان يضرب رأسه بالمرازب في هذه المدة كلها حتى أهلكه الله بها.
{ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ
أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ
عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ
يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ
لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ
وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا
تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) }
تقدم قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ
[أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ] (4) } وهو في قوة قوله : هل رأيت مثل الذي حاج
إبراهيم في ربه ؟ ولهذا عطف عليه بقوله : { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ
وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } اختلفوا في هذا المار من هو ؟ فروى ابن أبي
حاتم عن عصام بن رَوَّاد عن آدم بن أبي إياس عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن ناجية بن
كعب عن علي بن أبي طالب أنه قال : هو عزير.
ورواه ابن جرير عن ناجية نفسه. وحكاه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن
وقتادة والسدي وسليمان بن بُرَيْدَة وهذا القول هو المشهور.
وقال وهب بن منبه وعبد الله بن عبيد بن عمير : هو أرميا بن حلقيا. قال محمد بن
إسحاق ؛ عمن لا يتهم عن وهب بن منبه أنه قال : وهو اسم الخضر عليه السلام.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي قال : سمعت (5) سليمان بن محمد اليساري الجاري - من
أهل الجار ، ابن عم مطرف - قال : سمعت رجلا من أهل الشام يقول : إن الذي أماته
الله مائة عام ثم بعثه اسمه : حزقيل بن بورا.
وقال مجاهد بن جبر : هو رجل من بني إسرائيل.
__________
(1) في أ : "كان بيده".
(2) في أ : "يبدون" وفي و : "يفدون".
(3) في جـ : "وقال".
(4) زيادة من جـ ، أ.
(5) في جـ : "حدثنا".
(1/687)
[وذكر
غير واحد أنه مات وهو ابن أربعين سنه ؛ فبعثه الله وهو كذلك ، وكان له ابن فبلغ من
السن مائة وعشرين سنة ، وبلغ ابن ابنه تسعين وكان الجد شابا وابنه وابن ابنه شيخان
كبيران قد بلغا الهرم ، وأنشدني به بعض الشعراء :
واسوَدّ رأس شاب من قبل ابنه... ومن قبله ابن ابنه فهو أكبر...
يرى أنه شيخا يدب على عصا... ولحيته سوداء والرأس أشعر...
وما لابنه حبل ولا فضل قوة... يقوم كما يمشي الصغير فيعثر...
وعمر ابنه أربعون أمرها... ولابن ابنه في الناس تسعين غبر] (1)
وأما القرية : فالمشهور أنها بيت المقدس مر عليها بعد تخريب بختنصر لها وقتل
أهلها. { وَهِيَ خَاوِيَة } أي : ليس فيها أحد من قولهم : خوت الدار تخوي خواءً
وخُويا.
وقوله : { عَلَى عُرُوشِهَا } أي : ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها ، فوقف
متفكرا فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة وقال : { أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ
اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } وذلك لما رأى من دثورها وشدة خرابها وبعدها عن العود
إلى ما كانت عليه قال الله تعالى : { فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ
بَعَثَه } قال (2) : وعمرت البلدة بعد مضي سبعين سنة من موته وتكامل ساكنوها
وتراجعت بنو إسرائيل إليها. فلما بعثه الله عز وجل بعد موته كان أول شيء أحيا الله
فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه كيف يحيي بدنه ؟ فلما استقل سويا قال الله
له - أي بواسطة الملك - : { كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ
يَوْم } قالوا : وذلك أنه مات أول النهار ثم بعثه الله في آخر نهار ، فلما رأى
الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم فقال : { أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ
لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ }
وذلك : أنه كان معه فيما ذكر عنب وتين وعصير فوجده كما فقده لم يتغير منه شيء ، لا
العصير استحال ولا التين حمض ولا أنتن ولا العنب تعفن { وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِك
} أي : كيف يحييه الله عز وجل وأنت تنظر { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ } أي :
دليلا على المعاد { وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا } أي : نرفعها
فتركب بعضها على بعض.
وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث نافع بن أبي نُعَيْم عن إسماعيل بن أبي حكيم عن
خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : { كَيْفَ
نُنشِزُهَا } بالزاي ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه (3).
وقرئ : (ننشرها) أي : نحييها قاله مجاهد { ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا }.
وقال السدي وغيره : تفرقت عظام حماره حوله يمينًا ويسارًا (4) فنظر إليها وهي تلوح
من بياضها فبعث الله ريحًا فجمعتها من كل موضع من تلك المحلة ، ثم ركب (5) كل عظم
في موضعه حتى صار حمارًا قائمًا من عظام لا لحم عليها ثم كساها الله لحمًا وعصبًا
وعروقًا وجلدًا ، وبعث الله ملكًا فنفخ في منخري الحمار فنهق كله بإذن الله عز وجل
وذلك كله بمرأى من العزير فعند ذلك لما تبين له هذا كله { قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : أنا عالم بهذا وقد رأيته عيانًا فأنا
أعلم أهل زماني بذلك وقرأ آخرون : "قَالْ اعْلَمْ" على أنه أمر له
بالعلم.
__________
(1) زيادة من جـ ، أ.
(2) في أ ، و : "قالوا".
(3) المستدرك (2/234) وتعقبه الذهبي بقوله : "فيه إسماعيل بن قيس من ولد بن
ثابت وقد ضعفوه".
(4) في أ ، و : "وشمالا".
(5) في جـ ، أ : "ثم ركبت".
(1/688)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) }
(1/688)
ذكروا
لسؤال إبراهيم عليه السلام ، أسبابا ، منها : أنه لما قال لنمروذ : { رَبِّيَ
الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } أحب أن يترقى من علم اليقين في ذلك إلى عين اليقين ،
وأن يرى ذلك مشاهدة فقال : { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ
أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي }
فأما الحديث الذي رواه البخاري عند هذه الآية : حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن
وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة وسعيد ، عن أبي هريرة ، رضي الله
عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نحن أحق بالشك من إبراهيم ،
إذ قال : رب أرني كيف تحيى الموتى ؟ قال : أو لم تؤمن. قال : بلى ، ولكن ليطمئن
قلبي" وكذا رواه مسلم ، عن حرملة بن يحيى ، عن ابن وهب (1) به - فليس المراد
هاهنا بالشك ما قد يفهمه من لا علم عنده ، بلا خلاف. وقد أجيب عن هذا الحديث
بأجوبة ، أحدها... (2).
وقوله : { قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } اختلف
المفسرون في هذه الأربعة : ما هي ؟ وإن كان لا طائل تحت تعيينها ، إذ لو كان في
ذلك مُتَّهم لنص عليه القرآن ، فروي عن ابن عباس أنه قال : هي الغرنوق ، والطاوس ،
والديك ، والحمامة. وعنه أيضًا : أنه أخذ وزًّا ، ورألا - وهو فرخ النعام - وديكا
، وطاووسًا. وقال مجاهد وعكرمة : كانت حمامة ، وديكا ، وطاووسًا ، وغرابًا.
وقوله : { فَصُرْهُنَّ إِلَيْك } أي : قطعهن. قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن
جبير ، وأبو
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4537) وصحيح مسلم برقم (151).
(2) وقع هنا بياض بجميع النسخ ، ووقع في نسخة مساعدة من مؤسسة الملك فيصل الخيرية
في هذا الموضع ، وقد أجيب عن هذا الحديث بأجوبة
أحدها : قول إسماعيل المزني : لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم ولا إبراهيم ، عليه
السلام ، في أن الله سبحانه قادر على إحياء الموتى ، وإنما بدأ لجاهل يجيبهما إلى
ما سألاه. وقال الخطابي في قوله : "نحن أحق بالشك من إبراهيم" : ليس
اعتراف بالشك على نفسه ولا على إبراهيم ، ولكن فيه نفي الشك عنهما يقول : إذا لم
أشك في قدرة الله على إحياء الموتى ، فإبراهيم أولى بألا يشك ، قال ذلك على سبيل
التواضع والهضم من النفس ، وكذلك قوله : "لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت
الداعي" وفيه الإعلام بأن المسألة من جهة إبراهيم لم تعرض من جهة الشك ، لكن
من قبل زيادة العلم بالعيان ، لأنه يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيد
الاستدلال ، وقيل : قال هذا صلى الله عليه وسلم تواضعا وتقديما لإبراهيم قوله :
"أو لم تؤمن قال : بلى قد آمنت".
وأظن هذا من تصرف الناسخ ، لأنه كتب بالجانب بياض في الأصل. قال الشيخ أحمد شاكر
عند هذا الموضع من كتابه "العمدة" الذي هو مختصر تفسير ابن كثير
(2/170).
"هنا بياض في المخطوطة الأزهرية والمطبوعة ، لعل الحافظ ابن كثير تركه ليكتب
الأقوال في ذلك ، ثم لم يفعل سهوا أو نسيانا وقد أفاض الحافظ ابن حجر في الفتح
(6/294 ، 295) في ذكر أقوال العلماء في ذلك. وأجود ذلك عندي قول ابن عطية :
"إن الحديث مبني على نفي الشك ، والمراد بالشك فيه : الخواطر التي لا تثبت.
وأما الشك المصطلح - وهو التوقف بين الأمرين من غير مزية لأحدهما على الآخر - فهو
منفي عن الخليل قطعا ؛ لأنه يبعد وقوعه ممن رسخ الإيمان في قلبه ، فكيف بمن بلغ
رتبة النبوة ؟! وأيضا فإن السؤال لما وقع بـ (كيف) دل على حال شيء موجود مقرر عند
السائل والمسئول ، كما تقول : كيف علم فلان فـ (كيف) في الآية سؤال عن هيئة
الإحياء لا عن نفس الإحياء فإنه ثابت مقرر. وقال غيره : معناه : إذا لم نشك نحن ،
فإبراهيم أولى ألا يشك ، أي : لو كان الشك متطرفا إلى الأنبياء ؛ لكنت أنا أحق به
منه ، وقد علمتم أني لم أشك فاعلموا أنه لم يشك وإنما قال ذلك تواضعا منه".
(1/689)
مالك
، وأبو الأسود الدؤلي ، ووهب بن منبه ، والحسن ، والسدي ، وغيرهم.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { فَصُرْهُنَّ إِلَيْك } أوثقهن ، فلما أوثقهن ذبحهن
، ثم جعل على كل جبل منهن جزءًا ، فذكروا أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن ، ثم
قطعهن ونتف ريشهن ، ومزقهن (1) وخلط بعضهن في ببعض ، ثم جزأهن أجزاءً ، وجعل على
كل جبل منهن جزءًا ، قيل : أربعة أجبل (2). وقيل : سبعة. قال ابن عباس : وأخذ
رؤوسهن بيده ، ثم أمره الله عز وجل ، أن يدعوهن ، فدعاهن كما أمره الله عز وجل ،
فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش ، والدم إلى الدم ، واللحم إلى اللحم ،
والأجزاء من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض ، حتى قام كل طائر على حدته ، وأتينه
يمشين سعيا ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها ، وجعل كل طائر يجيء ليأخذ رأسه
الذي في يد إبراهيم ، عليه السلام ، فإذا قدم له غير رأسه يأباه ، فإذا قدم إليه
رأسه تركب مع بقية جثته بحول الله وقوته ؛ ولهذا قال : { وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : عزيز لا يغلبه شيء ، ولا يمتنع منه شيء ، وما شاء كان بلا
ممانع لأنه العظيم القاهر لكل شيء ، حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.
قال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن أيوب في قوله : { وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ
قَلْبِي } قال : قال ابن عباس : ما في القرآن آية أرجى عندي منها (3).
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت
زيد بن علي يحدث ، عن رجل ، عن سعيد بن المسيب قال : اتعد عبد الله بن عباس وعبد
الله بن عمرو بن العاص أن يجتمعا. قال : ونحن شببة ، فقال أحدهما لصاحبه : أي آية
في كتاب الله أرجى لهذه الأمة ؟ فقال عبد الله بن عمرو : قول الله تعالى : {
يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ
رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } الآية [الزمر :
53]. فقال ابن عباس : أما إن كنت تقول : إنها ، وإن أرجى منها لهذه الأمة قول
إبراهيم : { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ
قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } (4).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن صالح كاتب الليث ، حدثني ابن
أبي سلمة عن محمد بن المنْكَدِر ، أنه قال : التقى عبد الله بن عباس ، وعبد الله
بن عمرو بن العاص ، فقال ابن عباس لابن عمرو بن العاص : أي آية في القرآن أرجى
عندك ؟ فقال عبد الله بن عمرو : قول الله عز وجل : { يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ
أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا [مِنْ رَحْمَةِ اللَّه] (5) } الآية
- فقال ابن عباس : لكن أنا أقول (6) : قول الله : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ
رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى }
فرضي من إبراهيم قوله : { بَلَى } قال : فهذا لما يعترض (7) في النفوس (8) ويوسوس
به الشيطان.
وهكذا رواه الحاكم في المستدرك ، عن أبي عبد الله محمد بن يعقوب بن الأخرم ، عن
إبراهيم بن عبد الله السعدي ، عن بشر بن عمر الزهراني ، عن عبد العزيز بن أبي سلمة
، بإسناده ، مثله. ثم قال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه (9).
__________
(1) في أ : "وفرقهن".
(2) في أ : "أربعة أجزاء".
(3) في ج : "أرجى آية منها".
(4) تفسير الطبري (5/489).
(5) زيادة من ج ، أ.
(6) في ج ، أ : "إن كنت تقول".
(7) في جـ : "لما يعرض".
(8) في أ ، و : "في الصدور".
(9) المستدرك (1/60) وتعقبه الذهبي بأن فيه انقطاعا.
(1/690)
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)
{
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ
أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ
يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) }
هذا مثل ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته ، وأن
الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، فقال : { مَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } قال سعيد بن جبير : في طاعة
الله. وقال مكحول : يعني به : الإنفاق في الجهاد ، من رباط الخيل وإعداد السلاح
وغير ذلك ، وقال شبيب بن بشر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : الجهاد والحج ، يضعف
الدرهم فيهما إلى سبعمائة ضعف ؛ ولهذا قال الله تعالى : { كَمَثَلِ حَبَّةٍ
أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ }
وهذا المثل أبلغ في النفوس ، من ذكر عدد السبعمائة ، فإن هذا فيه إشارة إلى أن
الأعمال الصالحة ينميها الله عز وجل ، لأصحابها ، كما ينمي الزرع لمن بذره في
الأرض الطيبة ، وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف ، قال الإمام أحمد :
حدثنا زياد بن الربيع أبو خِدَاش ، حدثنا واصل مولى ابن عيينة ، عن بشار بن أبي
سيف الجرمي ، عن عياض بن غطيف قال : دخلنا على أبي عبيدة [بن الجراح] (1) نعوده من
شكوى أصابه - وامرأته تُحَيْفَة قاعدة عند رأسه - قلنا : كيف بات أبو عبيدة ؟ قالت
: والله لقد بات بأجر ، قال أبو عبيدة : ما بت بأجر ، وكان مقبلا بوجهه على الحائط
، فأقبل على القوم بوجهه ، وقال : ألا تسألوني عما قلت ؟ قالوا : ما أعجبنا ما قلت
فنسألك عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من أنفق نفقة
فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة ، ومن أنفق على نفسه وأهله ، أو عاد مريضا أو مازَ
أذى ، فالحسنة بعشر أمثالها ، والصوم جنة ما لم يخرقها ، ومن ابتلاه الله عز وجل ،
ببلاء في جسده فهو له حطة".
وقد روى النسائي في الصوم بعضه من حديث واصل به ، ومن وجه آخر موقوفا (2).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن سليمان ، سمعت
أبا عمرو الشيباني ، عن ابن مسعود : أن رجلا تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله ،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لتأتين يوم القيامة بسبعمائة ناقة
مخطومة".
ورواه مسلم والنسائي ، من حديث سليمان بن مِهْران ، عن الأعمش ، به (3). ولفظ مسلم
: جاء رجل بناقة مخطومة ، فقال : يا رسول الله ، هذه في سبيل الله. فقال :
"لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة".
حديث آخر : قال أحمد : حدثنا عمرو بن مَجْمَع أبو المنذر الكندي ، أخبرنا إبراهيم
الهجري ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "إن الله عز وجل ، جعل حسنة ابن آدم بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ،
إلا الصوم ، والصوم لي وأنا أجزي به ، وللصائم فرحتان : فرحة عند إفطاره وفرحة يوم
القيامة ، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" (4).
__________
(1) زيادة من المسند (1/195).
(2) المسند (1/195) وسنن النسائي (4/167 ، 168).
(3) صحيح مسلم برقم (1892) وسنن النسائي (6/49).
(4) المسند (1/446).
(1/691)
حديث
آخر : قال [الإمام] (1) أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن
أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كل عمل ابن آدم يضاعف ،
الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، إلى ما شاء (2) الله ، يقول الله : إلا
الصوم ، فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع طعامه وشهوته من أجلي ، وللصائم فرحتان : فرحة
عند فطره ، وفرحة عند لقاء ربه ، ولخُلُوف فِيه (3) أطيب عند الله من ريح المسك.
الصوم جنة ، الصوم جنة". وكذا رواه مسلم ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، وأبي
سعيد الأشج ، كلاهما عن وكيع ، به (4).
حديث آخر : قال أحمد : حدثنا حسين بن علي ، عن زائدة ، عن الركين ، عن يُسَيْر بن
عميلة (5) عن خريم بن فاتك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من
أنفق نفقة في سبيل الله تضاعف بسبعمائة (6) ضعف" (7).
حديث آخر : قال أبو داود : حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح ، حدثنا ابن وهب ، عن يحيى
بن أيوب وسعيد بن أبي أيوب ، عن زبان بن فائد ، عن سهل بن معاذ ، عن أبيه قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الصلاة والصيام والذكر يضاعف على
النفقة في سبيل الله سبعمائة ضعف" (8).
حديث آخر : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هارون بن عبد الله بن مروان ،
حدثنا ابن أبي فديك ، عن الخليل بن عبد الله ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين ، عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من أرسل بنفقة في سبيل الله ، وأقام في
بيته (9) فله بكل درهم سبعمائة درهم يوم القيامة ومن غزا (10) في سبيل الله ،
وأنفق في جهة ذلك (11) فله بكل درهم (12) سبعمائة ألف درهم". ثم تلا هذه
الآية : { وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } وهذا حديث غريب (13).
وقد تقدم حديث أبي عثمان النهدي ، عن أبي هريرة في تضعيف الحسنة إلى ألفي ألف حسنة
، عند قوله : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ
لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } [البقرة : 245].
حديث آخر : قال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن عبيد الله بن العسكري البزاز ،
أخبرنا الحسن بن علي بن شبيب ، أخبرنا محمود بن خالد الدمشقي ، أخبرنا أبي ، عن
عيسى بن المسيب ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : لما نزلت هذه الآية : { مَثَلُ
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه } قال النبي صلى الله
عليه وسلم : "رب زد أمتي" قال : فأنزل الله : { مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } قال : "رب زد أمتي" قال : فأنزل
الله : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر :
10 ].
وقد رواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه ، عن حاجب بن أركين ، عن أبي عمر حفص بن عمر
بن عبد العزيز المقرئ ، عن أبي إسماعيل المؤدب ، عن عيسى بن المسيب ، عن نافع ، عن
ابن عمر ، فذكره (14).
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في جـ ، أ ، و : "إلى ما يشاء".
(3) في جـ : "ولخلوف فمه".
(4) صحيح مسلم برقم (1151).
(5) في أ : "عن الركن بن بشير بن جميلة" ، وفي و : "عن الركين ، عن
بشير بن عميلة".
(6) في جـ ، و : "بسبعمائة وهو الصواب.
(7) المسند (4/345).
(8) سنن أبي داود برقم (2498).
(9) في أ : "في بنيته".
(10) في أ ، و : "من غزا بنفسه".
(11) في جـ ، أ ، و : "في وجهه ذلك".
(12) في جـ ، أ ، و : "درهم يوم القيامة".
(13) ورواه ابن ماجة في السنن برقم (2761) عن هارون بن عبد الله به.
(14) صحيح ابن حبان برقم (1648) "موارده".
(1/692)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
وقوله
هاهنا : { وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } أي : بحسب إخلاصه في عمله {
وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أي : فضله واسع كثير أكثر من خلقه ، عليم بمن يستحق
ومن لا يستحق.
{ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ
مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ
مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي
يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ
صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) }
يمدح تعالى الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ، ثم لا يتبعون ما أنفقوا من
الخيرات والصدقات منا على من (1) أعطوه ، فلا يمنون على أحد ، ولا يمنون به لا
بقول ولا فعل.
وقوله : { وَلا أَذًى } أي : لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروها يحبطون به ما سلف
من الإحسان. ثم وعدهم تعالى الجزاء الجزيل على ذلك ، فقال : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِنْدَ رَبِّهِم } أي : ثوابهم على الله ، لا على أحد سواه { وَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِم } أي : فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ }
أي : [على] (2) ما خلفوه من الأولاد وما فاتهم من الحياة الدنيا وزهرتها (3) لا
يأسفون عليها ؛ لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك.
ثم قال تعالى : { قَوْلٌ مَعْرُوفٌ } أي : من كلمة طيبة ودعاء لمسلم { وَمَغْفِرَة
} أي : غفر (4) عن ظلم قولي أو فعلي { خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نفيل قال : قرأت على معقل بن عبيد الله
، عن عمرو بن دينار قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ما من
صدقة أحب إلى الله من قول معروف ، ألم تسمع قوله : { قول معروف ومغفرة خير من صدقة
يتبعها أذى } " { وَاللَّهُ غَنِيٌّ } [أي] (5) : عن خلقه.
{ حَلِيمٌ } أي : يحلم ويغفر ويصفح ويتجاوز عنهم.
وقد وردت الأحاديث بالنهي عن المن في الصدقة ، ففي صحيح مسلم ، من حديث شعبة ، عن
الأعمش عن سليمان بن مُسْهِر ، عن خرشة بن الحر ، عن أبي ذر قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا ينظر إليهم ،
ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم : المنان بما أعطى ، والمسبل إزاره ، والمنفق سلعته
بالحلف الكاذب" (6).
وقال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى ، أخبرنا عثمان بن محمد الدوري ،
أخبرنا هشيم (7) بن خارجة ، أخبرنا سليمان بن عقبة ، عن يونس بن ميسرة ، عن أبي
إدريس ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا يدخل الجنة
عاق ، ولا منان ، ولا مدمن خمر ، ولا مكذب بقدر"
__________
(1) في ج ، أ : "على ما".
(2) زيادة من جـ ، أ ، و.
(3) في و : "وزينتها".
(4) في جـ ، أ ، و : "أي عفو".
(5) زيادة من ج.
(6) صحيح مسلم برقم (106).
(7) في و : "الهيثم".
(1/693)
وروى
أحمد وابن ماجه ، من حديث يونس بن ميسرة نحوه (1).
ثم روى (2) ابن مردويه ، وابن حبان ، والحاكم في مستدركه ، والنسائي من حديث عبد
الله بن يسار الأعرج ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه
، ومدمن الخمر ، والمنان بما أعطى" (3).
وقد روى النسائي ، عن مالك بن سعد ، عن عمه روح بن عبادة ، عن عتاب بن بشير ، عن
خصيف الجزري ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"لا يدخل الجنة مدمن خمر ، ولا عاق لوالديه ، ولا منان" (4).
وقد رواه ابن أبي حاتم ، عن الحسن بن المنهال (5) عن محمد بن عبد الله بن عمار
الموصلي ، عن عتاب ، عن خُصَيف ، عن مجاهد ، عن ابن عباس (6).
ورواه النسائي من حديث ، عبد الكريم بن مالك الجزري ، عن مجاهد ، قوله. وقد روي عن
مجاهد ، عن أبي سعيد (7) وعن مجاهد ، عن أبي هريرة ، نحوه (8). ولهذا قال تعالى :
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى
} فأخبر أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى ، فما يفي ثواب الصدقة بخطيئة
المن والأذى.
ثم قال تعالى : { كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ } أي : لا تبطلوا
صدقاتكم بالمن والأذى ، كما تبطل صدقة من راءى بها الناس ، فأظهر لهم أنه يريد وجه
الله وإنما قصده مدح الناس له أو شهرته بالصفات الجميلة ، ليشكر بين الناس ، أو
يقال : إنه كريم ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية ، مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى
وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه ؛ ولهذا قال : { وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِر }
ثم ضرب تعالى مثل ذلك المرائي بإنفاقه - قال الضحاك : والذي يتبع نفقته منا أو أذى
- فقال : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ } وهو جمع صَفْوانة ، ومنهم من يقول :
الصفوان يستعمل مفردا أيضا ، وهو الصفا ، وهو الصخر الأملس { عَلَيْهِ تُرَابٌ
فَأَصَابَهُ وَابِلٌ } وهو المطر الشديد { فَتَرَكَهُ صَلْدًا } أي : فترك الوابل
ذلك الصفوان صلدًا ، أي (9) : أملس يابسًا ، أي : لا شيء عليه من ذلك التراب ، بل
قد ذهب كله ، أي : وكذلك أعمال المرائين تذهب وتضمحل عند الله (10) وإن ظهر لهم
أعمال فيما يرى الناس كالتراب ؛ ولهذا قال : { لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا
كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }.
__________
(1) المسند (6/441) وسنن ابن ماجة برقم (3376) وقال البوصيري في الزوائد (3/103) :
"هذا إسناد حسن ، سليمان بن عتبة مختلف فيه ، وباقي رجال الإسناد ثقات".
(2) في جـ : "وروي".
(3) المستدرك (4/146) وسنن النسائي (5/80).
(4) سنن النسائي الكبرى برقم (4921).
(5) في جـ : "بن منهال" ، وفي أ : "بن منهلل".
(6) في جـ ، أ ، و : "ابن عباس في قوله".
(7) سنن النسائي الكبرى برقم (4920).
(8) سنن النسائي الكبرى برقم (4922).
(9) في جـ : "هكذا".
(10) في جـ : "عند الله تعالى".
(1/694)
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
{ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) }
(1/694)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
وهذا
مثل المؤمنين المنفقين { أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّه } عنهم في ذلك
{ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أي : وهم متحققون مُثَبتون أن الله سيجزيهم
على ذلك أوفر الجزاء ، ونظير هذا في المعنى ، قوله عليه السلام (1) في الحديث
المتفق على صحته : "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا... " أي : يؤمن أن
الله شرعه ، ويحتسب عند الله ثوابه.
قال الشعبي : { وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أي : تصديقا ويقينا (2). وكذا
قال قتادة ، وأبو صالح ، وابن زيد. واختاره ابن جرير. وقال مجاهد والحسن : أي :
يتثبتون أين يضعون (3) صدقاتهم.
وقوله : { كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ } أي : كمثل بستان بربوة. وهو عند الجمهور
: المكان المرتفع المستوي من الأرض. وزاد ابن عباس والضحاك : وتجري فيه الأنهار.
قال ابن جرير : وفي الربوة ثلاث لغات هن ثلاث قراءات : بضم الراء ، وبها قرأ عامة
أهل المدينة والحجاز والعراق. وفتحها ، وهي قراءة بعض أهل الشام والكوفة ، ويقال :
إنها لغة تميم. وكسر الراء ، ويذكر أنها قراءة ابن عباس.
وقوله : { أَصَابَهَا (4) وَابِلٌ } وهو المطر الشديد ، كما تقدم ، { فَآتَتْ
أُكُلَهَا } أي : ثمرتها (5) { ضِعْفَيْن } أي : بالنسبة إلى غيرها من الجنان. {
فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ } قال الضحاك : هو الرَّذَاذ ، وهو اللين
من المطر. أي : هذه الجنة بهذه الربوة لا تمحل أبدًا ؛ لأنها إن لم يصبها وابل فطل
، وأيا ما كان فهو كفايتها ، وكذلك عمل المؤمن لا يبور أبدًا ، بل يتقبله الله
ويكثره وينميه ، كل عامل بحسبه ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ } أي : لا يخفى عليه من أعمال عباده شيء.
{ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ
وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ
نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ
تَتَفَكَّرُونَ (266) }
قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام - هو ابن
يوسف - عن ابن جريج : سمعت عبد الله (6) بن أبي مُلَيكة ، يحدث عن ابن عباس ،
وسمعت أخاه أبا بكر بن أبي مليكة يحدث عن عبيد بن عُمَير قال : قال عمر بن الخطاب
يوما لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فيمن ترون هذه الآية نزلت : { أَيَوَدُّ
أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } ؟ قالوا : الله
أعلم. فغضب عمر فقال : قولوا : نعلم أو لا نعلم (7). فقال ابن عباس : في نفسي منها
شيء يا أمير المؤمنين. فقال عمر : يا ابن أخي ، قل ولا تحقر نفسك. فقال ابن عباس :
ضربت مثلا لعمل. قال عمر : أيُّ عملٍ ؟ قال ابن عباس : لعمل. قال عمر : لرجل غني
يعمل بطاعة الله. ثم بعث الله له الشيطان فعمِل بالمعاصي
__________
(1) في جـ ، أ ، و : "صلى الله عليه وسلم".
(2) في و : "وتيقنا".
(3) في ج : "أي يضعوا".
(4) في جـ ، أ : "فأصابها" وهو خطأ.
(5) في جـ ، أ ، و : "أي ثمرها".
(6) في جـ ، أ ، و : "عبيد الله".
(7) في جـ : "فقالوا أتعلم أو لا تعلم".
(1/695)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)
حتى
أغرق (1) أعماله (2).
ثم رواه البخاري ، عن الحسن بن محمد الزعفراني ، عن حجاج بن محمد الأعور ، عن ابن
جريج ، فذكره (3). وهو من أفراد البخاري ، رحمه الله.
وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الآية ، وتبيين ما فيها من المثل بعمل من أحسن
العمل أولا ثم بعد ذلك انعكس سيره ، فبدل الحسنات بالسيئات ، عياذًا بالله من ذلك
، فأبطل بعمله الثاني ما أسلفه فيما تقدم من الصالح (4) واحتاج إلى شيء من الأول
في أضيق الأحوال ، فلم يحصل له منه شيء ، وخانه أحوجَ ما كان إليه ، ولهذا قال
تعالى : { وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ } وهو الريح الشديد
(5) { فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ } أي : أحرق (6) ثمارَها وأباد أشجارها ، فأيّ
حال يكون حاله.
وقد روى ابن أبي حاتم ، من طريق العَوْفي ، عن ابن عباس قال : ضرب الله له مثلا
حسنًا ، وكل أمثاله حسن ، قال : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ
مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ
كُلِّ الثَّمَرَاتِ } يقول : ضيّعَه في شيبته { وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ } وولده
وذريته ضعاف عند آخر عمره ، فجاءه إعصار فيه نار فأحرق (7) بستانه ، فلم يكن عنده
قوة أن يغرس مثله ، ولم يكن عند نسله خير يعودون به عليه ، وكذلك الكافر يوم
القيامة ، إذ ردّ إلى الله عز وجل ، ليس له خير فيُسْتَعْتَب ، كما ليس لهذا قوة
فيغرس مثل بستانه ، ولا يجده قدم لنفسه خيرا يعود عليه ، كما لم يُغْن عن هذا
ولدُه ، وحُرم أجره عند أفقر ما كان إليه ، كما حرم هذا جنة الله عند أفقر ما كان
إليها عند كبره وضعف ذريته.
وهكذا (8) ، روى الحاكم في مستدركه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في
دعائه : "اللهم اجعل أوسع رزقك علي عند كبر سني وانقضاء عمري" (9) ؛
ولهذا قال تعالى : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ
تَتَفَكَّرُونَ } أي : تعتبرون وتفهمون الأمثال والمعاني ، وتنزلونها على المراد
منها ، كما قال تعالى : { وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا
يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ } [العنكبوت : 43].
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ
وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ
تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ
بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا وَاللَّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ
الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو
الألْبَابِ (269) }
__________
(1) في جـ : "حتى أحرق".
(2) صحيح البخاري برقم (4538).
(3) لم أقع على هذا الطريق في صحيح البخاري ، ولم يذكره المزي في تحفة الأشراف.
(4) في أ : "من المصالح".
(5) في جـ : "الشديدة".
(6) في جـ : "أي : احترق".
(7) في جـ : "فأحرقت" ، وفي أ : " فاحترقت".
(8) في جـ : "ولهذا".
(9) المستدرك (1/542) من طريق سعيد بن سليمان ، عن عيسى بن ميمون ، عن القاسم ، عن
عائشة ، رضي الله عنها ، مرفوعا ، وقال الحاكم : "هذا حديث حسن الإسناد
والمتن غريب في الدعاء مستحب للمشايخ إلا أن عيسى بن ميمون لم يحتج به
الشيخان" قال الذهبي : قلت : "عيسى متهم".
(1/696)
يأمر
تعالى عباده المؤمنين بالإنفاق - والمراد به الصدقة هاهنا ؛ قاله ابن عباس - من
طيبات ما رزقهم من الأموال التي اكتسبوها. قال مجاهد : يعني التجارة بتيسيره إياها
لهم.
وقال علي والسدي : { مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُم } يعني : الذهب والفضة ، ومن
الثمار والزروع التي أنبتها لهم من الأرض.
قال ابن عباس : أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه ، ونهاهم عن التصدق
بِرُذَالَةِ المال ودَنيه - وهو خبيثه - فإن الله طَيْب لا يقبل إلا طيبًا ، ولهذا
قال : { وَلا تَيَمَّمُوا } أي : تقصدوا { الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ
وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ } أي : لو أعطيتموه ما أخذتموه ، إلا أن تتغاضوا فيه ،
فالله أغنى عنه منكم ، فلا تجعلوا لله ما تكرهون.
وقيل : معناه : { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } أي : لا
تعدلوا عن المال الحلال ، وتقصدوا إلى الحرام ، فتجعلوا نفقتكم منه.
ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا أبان بن
إسحاق ، عن الصباح بن محمد ، عن مُرّة الهَمْداني ، عن عبد الله بن مسعود قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله قسم بينكم أخلاقكم ، كما قسم
بينكم أرزاقكم ، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الدين إلا لمن
أحبَّ ، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه ، والذي نفسي بيده ، لا يسلم عَبْدٌّ حتى
يُسلِمَ قلبُه ولسانه ، ولا يؤمن حتى يأمن جارُه بوائقه". قالوا : وما بوائقه
يا نبي الله ؟. قال : "غَشَمُه وظلمه ، ولا يكسب (1) عبد مالا من حرام فينفقَ
منه فيباركَ له فيه ، ولا يتصدقُ به فيقبل (2) منه ، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان
زاده إلى النار ، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ، ولكن يمحو السيئ بالحسن ، إن
الخبيث لا يمحو الخبيث" (3).
والصحيح القول الأول ؛ قال ابن جرير : حدثني الحسين بن عمرو العَنْقَزيِّ ، حدثني
أبي ، عن أسباط ، عن السدّي ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب في قول الله : {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ
وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ
تُنْفِقُونَ } الآية. قال : نزلت في الأنصار ، كانت الأنصار إذا كان أيام جذَاذ
النخل ، أخرجت من حيطانها أقناء البُسْر ، فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيأكل فقراء المهاجرين منه ، فيعْمد الرجل منهم
إلى الحَشَف ، فيدخله مع أقناء البسر ، يظن أن ذلك جائز ، فأنزل الله فيمن فعل ذلك
: { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ }
ثم رواه (4) ابن جرير ، وابن ماجه ، وابن مَرْدُوَيه ، والحاكم في مستدركه ، من
طريق السدي ، عن
__________
(1) في جـ ، أ : "ولا يكتسب".
(2) في أ ، و : "فيتقبل".
(3) المسند (1/387).
(4) في جـ : "ورواه".
(1/697)
عدي
بن ثابت ، عن البراء ، بنحوه. وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه (1).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن
السدي ، عن أبي مالك ، عن البراء : { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ
تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } قال : نزلت فينا
، كنا أصحاب نخل ، وكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته ، فيأتي الرجل
بالقِنْو فيعلقه في المسجد ، وكان أهل الصفة (2) ليس لهم طعام ، فكان أحدهم إذا
جاع جاء فضربه بعصاه ، فيسقط منه البسر والتمر ، فيأكل ، وكان أناس ممن لا يرغبون
في الخير يأتي بالقِنْو فيه الحَشَف والشِّيص ، ويأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه ،
فنزلت : { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ
إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } قال : لو أنّ أحدكم أهدي له مثل ما أعْطَى ما أخذه
إلا على إغماض وحَياء ، فكنا بعد ذلك يجيء الرجل منا بصالح ما عنده.
وكذا رواه الترمذي ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، عن عبيد الله - هو ابن
موسى العبسي - عن إسرائيل ، عن السدي - وهو إسماعيل بن عبد الرحمن - عن أبي مالك
الغفاري - واسمه غَزْوان - عن البراء ، فذكر نحوه (3).
ثم قال (4) : وهذا حديث حسن غريب.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا سليمان بن كثير ، عن
الزهري ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم نهى عن لونين من التمر : الجُعْرُور ولون الحُبَيق (5). وكان الناس يَتيمّمون
شرار ثمارهم (6) ثم يخرجونها في الصدقة ، فنزلت : { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ
مِنْهُ تُنْفِقُون } (7).
ورواه أبو داود من حديث سفيان بن حسين ، عن الزهري [به] (8). ثم قال : أسنده أبو
الوليد ، عن سليمان بن كثير ، عن الزهري ، ولفظه : نهى رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن الجُعْرُور ولون الحُبيق (9) أن يؤخذا في الصدقة (10).
وقد روى النسائي هذا الحديث من طريق عبد الجليل بن حُمَيد اليَحْصُبي ، عن الزهري
، عن أبي أمامة. ولم يقل : عن أبيه ، فذكر نحوه (11). وكذا رواه ابن وهب ، عن عبد
الجليل.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، حدثنا جرير ، عن عطاء بن
السائب ، عن عبد الله بن مَعْقل (12) في هذه الآية : { وَلا تَيَمَّمُوا
الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُون } قال : كسب المسلم لا يكون خبيثًا ، ولكن لا يصدّق
بالحشف ، والدرهم الزّيف ، وما لا خير فيه.
__________
(1) تفسير الطبري (5/559 ، 560) وسنن ابن ماجة برقم (1822) والمستدرك (2/285) وقال
البوصيري في الزوائد (2/58) : "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات ، وله شاهد من حديث
عوف بن مالك رواه أصحاب السنن الأربعة".
(2) في جـ ، أ ، و : "وكان أهل الصدقة".
(3) سنن الترمذي برقم (2987).
(4) في جـ : "وقال".
(5) في جـ ، أ : "ولون الحشف".
(6) في جـ : "شر أثمارها".
(7) ورواه الحاكم في المستدرك (1/402) والطبراني في المعجم الكبير (6/76) من طريق
أبي الوليد الطيالسي به ، وقال الحاكم : "حديث صحيح على شرط البخاري".
(8) زيادة من جـ ، أ.
(9) في جـ : "ولون الحسف".
(10) سنن أبي داود برقم (1607).
(11) سنن النسائي (5/43).
(12) في جـ : "بن مغفل".
(1/698)
وقال
الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن حماد - هو ابن أبي سليمان
- عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : أُتِي رسول الله صلى الله عليه وسلم
بضب فلم يأكله ولم ينه عنه. قلت : يا رسول الله ، نطعمه (1) المساكين ؟ قال :
"لا تطعموهم مما لا تأكلون" (2).
ثم رواه عن عفان (3) عن حماد بن سلمة ، به. فقلت : يا رسول الله ، ألا أطعمه
المساكين ؟ قال : "لا تطعموهم ما لا تأكلون".
وقال الثوري : عن السدي ، عن أبي مالك ، عن البراء { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا
أَنْ تُغْمِضُوا فِيه } يقول : لو كان لرجل على رجل ، فأعطاه ذلك لم يأخذه ؛ إلا
أن يرى أنه قد نقصه من حقه رواه ابن جرير.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ
تُغْمِضُوا فِيه } يقول : لو كان لكم على أحد حق ، فجاءكم بحق دون حقكم لم تأخذوه
بحساب الجيد حتى تنقصوه. قال : فذلك قوله : { إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } فكيف
ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم ، وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسه!!
رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وزاد : وهو قوله : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ
حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون } [آل عمران : 92]. ثم روى من طريق العوفي
وغيره ، عن ابن عباس نحو ذلك ، وكذا ذكر غير واحد.
قوله (4) : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي : وإن أمركم بالصدقات
وبالطيب منها فهو غني عنها ، وما ذاك إلا ليساوي الغني الفقير ، كقوله : { لَنْ
يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى
مِنْكُمْ } [الحج : 37] وهو غني عن جميع خلقه ، وجميع خلقه فقراء إليه ، وهو واسع
الفضل لا ينفد ما لديه ، فمن تصدق بصدقة من كسب طيب ، فليَعلمْ أن الله غني واسع
العطاء ، كريم جواد ، سيجزيه بها ويضاعفها له أضعافًا كثيرة من يقرض غَيْرَ عديم
ولا ظلوم ، وهو الحميد ، أي : المحمود في جميع أفعاله وأقواله (5) وشرعه وقدره ،
لا إله إلا هو ، ولا رب سواه.
وقوله : { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ
وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } قال
ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا هَنَّاد بن السِّرِي ، حدثنا أبو الأحوص
، عن عطاء بن السائب ، عن مرة الهَمْداني ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم "إن للشيطان لَلَمّة (6) بابن آدم ، وللمَلك لَمة ،
فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير
وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك فليعلَمْ أنه من الله ، فَلْيحمَد الله ، ومن وجد
الأخرى فليتعوذ من الشيطان". ثم قرأ : { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ
وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا }
الآية.
وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتابي (7) التفسير من سُنَنَيْهما جميعًا ، عن
هَنَّاد بن السِّرِي (8).
__________
(1) في جـ : "ألا نطعمه".
(2) المسند (6/105).
(3) في جـ : "عن عثمان".
(4) في جـ ، أ ، و : "وقوله".
(5) في جـ : "في جميع أقواله وأفعاله".
(6) في جـ : "لمة".
(7) في جـ : "في كتاب".
(8) سنن الترمذي برقم (2988) وسنن النسائي الكبرى برقم (11051).
(1/699)
وأخرجه
ابن حبان في صحيحه ، عن أبي يعلى الموصلي ، عن هَنَّاد ، به (1). وقال الترمذي :
حسن غريب ، وهو حديث أبي الأحوص - يعني سلام بن سليم - لا نعرفه مرفوعًا إلا من
حديثه. كذا قال. وقد رواه أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره ، عن محمد بن أحمد ، عن
محمد بن عبد الله بن رُسْتَه ، عن هارون الفَرْوِي ، عن أبي ضَمْرة (2) عن ابن
شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن مسعود ، مرفوعًا نحوه.
ولكن رواه مِسْعر ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة ، عن
ابن مسعود. فجعله من قوله ، والله أعلم.
ومعنى قوله تعالى : { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ } أي : يخوفكم الفقر ،
لتمسكوا ما بأيديكم فلا تنفقوه في مرضاة الله ، { وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ }
أي : مع نهيه إياكم عن الإنفاق خشية الإملاق ، يأمركم بالمعاصي والمآثم والمحارم
ومخالفة الخَلاق ، قال [الله] (3) تعالى : { وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً
مِنْهُ } أي : في مقابلة ما أمركم الشيطان بالفحشاء { وَفَضْلا } أي : في مقابلة
ما خوفكم الشيطان من الفقر { وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
وقوله : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاء } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس :
يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدمه ومؤخره ، وحلاله
وحرامه ، وأمثاله.
وروى جُوَيْبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس مرفوعًا : الحكمة : القرآن (4). يعني :
تفسيره ، قال ابن عباس : فإنه [قد] (5) قرأه البر والفاجر. رواه ابن مَرْدُويه.
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : يعني بالحكمة : الإصابة في القول.
وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاء } ليست
بالنبوة ، ولكنه العلم والفقه والقرآن.
وقال أبو العالية : الحكمة خشية الله ، فإن خشية الله رأس كل حكمة.
وقد روى ابن مَرْدُويه ، من طريق بقية ، عن عثمان بن زُفَر الجُهَني ، عن أبي عمار
الأسدي ، عن ابن مسعود مرفوعًا : "رأس الحكمة مخافة الله" (6).
وقال أبو العالية في رواية عنه : الحكمة : الكتاب والفهم. وقال إبراهيم النخَعي :
الحكمة : الفهم. وقال أبو مالك : الحكمة : السنة. وقال ابن وهب ، عن مالك ، قال
زيد بن أسلم : الحكمة : العقل. قال مالك : وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه
في دين الله ، وأمْرٌ يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله ، ومما يبين ذلك ، أنك
تجد الرجل عاقلا في أمر الدنيا ذا نظر فيها ، وتجد آخر ضعيفًا في أمر دنياه ،
عالمًا بأمر دينه ، بصيرًا به ، يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا ، فالحكمة : الفقه في
دين الله.
وقال السدي : الحكمة : النبوة.
__________
(1) صحيح ابن حبان برقم (40) "موارد".
(2) في جـ ، أ : "عن أبي حمزة".
(3) زيادة من جـ ، أ.
(4) عزاه السيوطي في الدر المنثور (2/66) لابن مردويه في تفسيره وإسناده ضعيف جدا.
(5) زيادة من أ ، و.
(6) ورواه البيهقي وضعفه في شعب الإيمان برقم (744) من طريق محمد بن وصفى عن بقية
به ، ورواه البيهقي أيضا من وجه آخر موقوفا على ابن مسعود.
(1/700)
والصحيح
أن الحكمة - كما قاله الجمهور - لا تختص بالنبوة ، بل هي أعم منها ، وأعلاها
النبوة ، والرسالة أخص ، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبَع ، كما
جاء في بعض الأحاديث : "من حفظ القرآن فقد أدْرِجَت النبوة بين كتفيه (1) غير
أنه لا يوحى إليه" (2). رواه (3) وَكِيع بن الجراح في تفسيره ، عن إسماعيل بن
رافع (4) عن رجل لم يسمه ، عن عبد الله بن عمر (5) وقوله.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ويزيد (6) قالا حدثنا إسماعيل - يعني ابن أبي
خالد - عن قيس - وهو ابن أبي حازم - عن ابن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول : "لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلَّطه على
هَلَكته في الحق ، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها" (7).
وهكذا رواه البخاري ، ومسلم ، والنسائي ، وابن ماجة - من طرق متعددة - عن إسماعيل
بن أبي خالد ، به (8).
وقوله : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ } أي : وما ينتفع بالموعظة
والتذكار إلا من له لب وعقل يعي به الخطاب ومعنى الكلام.
__________
(1) في جـ ، أ ، و : "بين جنبيه".
(2) وفي إسناده إسماعيل بن رافع المدني ضعفه أحمد وابن معين والنسائي وقال ابن عدي
: أحاديثه كلها مما فيه نظر.
(3) في جـ : "ورواه".
(4) في أ ، و : "عن إسماعيل بن رافع أبي رافع".
(5) في أ ، و : "بن عمرو".
(6) في أ : "وزيد".
(7) المسند (1/432).
(8) صحيح البخاري برقم (73) وصحيح مسلم برقم (816) وسنن النسائي الكبرى برقم
(5840) وسنن ابن ماجة برقم (4208).
(1/701)
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
{
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ
فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ (271) }
يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات
وتَضَمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك ابتغاء وجهه ورجاء موعوده.
وتوعد من لا يعمل بطاعته ، بل خالف أمره وكذب خبره وعبد معه غيره ، فقال : { وَمَا
لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار } أي : يوم القيامة ينقذونهم (1) من عذاب الله
ونقمته.
وقوله : { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ } أي : إن أظهرتموها فنعم
شيء هي.
وقوله : { وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم } فيه
دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها ؛ لأنه أبعد عن الرياء ، إلا أن يترتب
على الإظهار مصلحة راجحة ، من اقتداء الناس به ، فيكون أفضل من هذه الحيثية ، وقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمُسِر
بالقرآن كالمُسِر بالصدقة" (2).
والأصل أن الإسرار أفضل ، لهذه الآية ، ولما ثبت في الصحيحين ، عن أبي هريرة قال :
قال
__________
(1) في أ ، و : "ينقذهم".
(2) رواه أحمد في المسند (4/151) وأبو داود في السنن برقم (1333) والترمذي في
السنن برقم (2919) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه ، وقال الترمذي : "هذا
حديث حسن غريب".
(1/701)
رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام
عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ،
ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه ، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت
عيناه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله ، ورجل تصدق بصدقة
فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا العوام بن حوشب ، عن سليمان بن
أبي سليمان ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : "لما
خلق الله الأرض جعلت تميد ، فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرت ، فتعجبت (2)
الملائكة من خلق الجبال ، فقالت : يا رب ، فهل من (3) خلقك شيء أشد من الجبال ؟
قال : نعم ، الحديد. قالت : يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من الحديد ؟ قال : نعم ،
النار. قالت : يا رب ، فهل من (4) خلقك شيء أشد من النار ؟ قال : نعم ، الماء.
قالت : يا رب ، فهل من (5) خلقك شيء أشد من الماء ؟ قال : نعم ، الريح. قالت : يا
رب ، فهل من (6) خلقك شيء أشد من الريح ؟ قال : نعم ، ابنُ آدم يتصدق بيمينه
فيخفيها من (7) شماله" (8).
وقد ذكرنا في فضل آية الكرسي ، عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله ، أي الصدقة
أفضل ؟ قال : "سر إلى فقير ، أو جهد من مقِل". رواه أحمد (9).
ورواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، عن أبي ذر
فذكره. وزاد : ثم نزع بهذه الآية : { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ
وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم } الآية (10).
وفي الحديث المروي : "صدقة السر تطفئ غضب الرب ، عز وجل" (11).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الحسين بن زياد المحاربي مؤدب محارب ،
أخبرنا موسى بن عمير ، عن عامر الشعبي في قوله : { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ
فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم
} قال : أنزلت (12) في أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، فأما عمر فجاء بنصف ماله
حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم : فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :
"ما خلفت وراءك لأهلك يا عمر ؟". قال : خلفت لهم نصف مالي ، وأما أبو
بكر فجاء بماله كلّه يكاد (13) أن يخفيه من نفسه ، حتى دفعه إلى النبي صلى الله
عليه وسلم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا
بكر ؟". فقال : عدة الله وعدةُ رسوله. فبكى عمر ، رضي الله عنه ، وقال : بأبي
أنت يا أبا بكر ، والله ما اسْتَبَقْنا إلى باب خير قط إلا كنت سابقا (14).
__________
(1) صحيح البخاري برقم (660 ، 1423) وصحيح مسلم برقم (1031).
(2) في أ : "فتعجب".
(3) في جـ : "في".
(4) في جـ : "في".
(5) في جـ : "في".
(6) في جـ : "في".
(7) في جـ : "عن".
(8) المسند (3/124).
(9) المسند (5/178).
(10) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/269) من طريق خالد بن أبي يزيد ، عن علي
بن يزيد به.
(11) رواه الترمذي في السنن برقم (2386) من حديث أنس ، رضي الله عنه ، وروي عن
جماعة من الصحابة وهو حديث متواتر.
(12) في أ : "نزلت".
(13) في جـ : "وكاد".
(14) ورواه الأصبهاني في الترغيب والترهيب برقم (1643) من طريق محمد بن الصباح بن
موسى بن عيسى عن الشعبي به.
(1/702)
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
وهذا
الحديث مروي من وجه آخر ، عن عمر ، رضي الله عنه (1). وإنما أوردناه هاهنا لقول
الشعبي : إن الآية نزلت في ذلك ، ثم إن الآية عامة في أن إخفاء الصدقة أفضل ، سواء
كانت مفروضة أو مندوبة. لكن روى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ،
في تفسير هذه الآية ، قال : جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها ، فقال :
بسبعين ضعفًا. وجعل صدقة الفريضة عَلانيتَها أفضلَ من سرها ، فقال : بخمسة وعشرين
ضعفًا.
وقوله : { وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُم } أي : بدل الصدقات ، ولا سيما
إذا كانت سرا يحصل لكم الخير في رفع الدرجات ويكفر عنكم السيئات ، وقد قرئ :
"وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ" بالضم ، وقرئ : "وَنُكَفِّرْ" بالجزم
، عطفًا على (2) جواب الشرط ، وهو قوله : { فَنِعِمَّا هِي } كقوله :
"فَأَصَّدَقَ وَأَكُونَ" { وَأَكُنْ }.
وقوله { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : لا يخفى عليه من ذلك شيء ،
وسيجزيكم عليه [سبحانه وبحمده] (3).
{ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا
تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ
اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا
تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا
يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ
التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا
تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) }
قال أبو عبد الرحمن النسائي : أخبرنا محمد بن عبد الله (4) بن عبد الرحيم ، أخبرنا
(5) الفِرْيَابي ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ،
عن ابن عباس قال : كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين فسألوا ، فرخص لهم
، فنزلت هذه الآية : { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا
ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ
وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ } (6).
وكذا رواه أبو حذيفة ، وابن المبارك ، وأبو أحمد الزبيري ، وأبو داود الحَفَري ،
عن سفيان - وهو الثوري - به.
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا (7) أحمد بن القاسم بن عطية ، حدثني أحمد بن عبد
الرحمن - يعني الدَّشْتَكِيّ - حدثني أبي ، عن أبيه ، حدثنا أشعث بن إسحاق ، عن
جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد
__________
(1) رواه أبو داود في السنن برقم (1678) والترمذي في السنن برقم (3675) من طريق
هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقال
الترمذي : "هذا حديث حسن صحيح".
(2) في جـ ، أ ، و : "على محل".
(3) زيادة من و.
(4) في جـ ، أ ، و : "بن عبد السلام".
(5) في جـ : "حدثنا".
(6) سنن النسائي الكبرى برقم (11052).
(7) في جـ : "حدثنا".
(1/703)
بن
جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان يأمر بألا يتصَدق إلا
على أهل الإسلام ، حتى نزلت هذه الآية : { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } إلى آخرها
، فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين (1). وسيأتي عند قوله تعالى : { لا
يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ
يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُم } الآية [الممتحنة : 8] حديث أسماء بنت الصديق في ذلك
[إن شاء الله تعالى] (2).
وقوله : { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُم } كقوله { مَنْ عَمِلَ
صَالِحًا فَلِنَفْسِه } [فصلت : 46 ، الجاثية : 15] ونظائرها في القرآن كثيرة (3).
وقوله : { وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ } قال الحسن البصري :
نفقة المؤمن لنفسه ، ولا ينفق المؤمن - إذا أنفق - إلا ابتغاء وجه الله.
وقال عطاء الخراساني : يعني إذا أعطيت لوجه الله ، فلا عليك ما كان عملُه وهذا
معنى حسن ، وحاصله أن المتصدق إذا تصدق ابتغاء وجه الله فقد وقع أجرُه على الله ،
ولا عليه (4) في نفس الأمر لمن أصاب : الِبَرّ أو فاجر أو مستحق أو غيره ، هو مثاب
على قصده ، ومستَنَدُ هذا تمام الآية : { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ
إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ } والحديث المخرج في الصحيحين ، من طريق أبي
الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"قال رجل : لأتصدقن الليلة بصدقة ، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية ، فأصبح
الناس يتحدثون : تُصُدقَ على زانية! فقال : اللهم لك الحمد على زانية ، لأتصدقن
الليلة بصدقة ، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني ، فأصبحوا يتحدثون : تُصُدق الليلة
على غَني! فقال : اللهم لك الحمد على غني ، لأتصدقن الليلة بصدقة ، فخرج بصدقته
فوضعها في يد سارق ، فأصبحوا يتحدثون : تُصدق الليلة على سارق! فقال : اللهم لك
الحمد على زانية ، وعلى غني ، وعلى سارق ، فأتي فقيل له : أما صدقتك فقد قبلت ؛
وأما الزانية فلعلها أن تستعف بها عن زناها ، ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه
الله ، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته" (5).
وقوله : { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } يعني :
المهاجرين الذين قد انقطعوا إلى الله وإلى رسوله ، وسكنوا المدينة وليس لهم سبب يردون
به على أنفسهم ما يغنيهم (6) و { لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْض } يعني :
سفرًا للتسبب في طلب المعاش. والضرب في الأرض : هو السفر ؛ قال الله تعالى : {
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ
الصَّلاةِ } [النساء : 101] ، وقال تعالى : { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ
مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ
وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه } الآية [المزمل : 20].
وقوله : { يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ } أي : الجاهلُ
بأمْرهم وحالهم يحسبهم أغنياء ، من تعففهم في لباسهم وحالهم ومقالهم. وفي هذا
المعنى الحديث المتفق على صحته ، عن أبي هريرة قال :
__________
(1) وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/86) لابن مردويه والضياء المقدسي.
(2) زيادة من جـ ، أ.
(3) في و : "كثير".
(4) في و : "ولا يمكنه".
(5) صحيح البخاري برقم (1421) وصحيح مسلم برقم (1022).
(6) في أ : "بأنفسهم".
(1/704)
قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة
والتمرتان ، واللقمة واللقمتان ، والأكلة والأكلتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد
غنى يغنيه ، ولا يُفْطَنُ له فَيُتَصَدقَ عليه ، ولا يسأل الناس شيئا" (1).
وقد رواه أحمد ، من حديث ابن مسعود أيضًا (2).
وقوله : { تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ } أي : بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم ،
كما قال [الله] (3) تعالى : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ } [الفتح : 29] ، وقال :
{ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْل } [محمد : 30]. وفي الحديث الذي في
السنن : "اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله" ، ثم قرأ : { إِنَّ
فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } [الحجر : 75]. (4).
وقوله : { لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } أي : لا يُلحْون في المسألة
ويكلفون الناس ما لا يحتاجون إليه ، فإن من سأل وله ما يغنيه عن السؤال ، فقد ألحف
في المسألة ؛ قال البخاري :
حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شريك بن أبي نمر : أن عطاء بن
يَسَار وعبد الرحمن بن أبي عَمْرَة الأنصاري قالا سمعنا أبا هريرة يقول : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "ليس المسكينُ الذي ترده التمرة والتمرتان ، ولا
اللقمة واللقمتان ، إنما المسكين الذي يتعفَّفُ ؛ اقرؤوا إن شئتم - يعني قوله - :
{ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } (5).
وقد رواه مُسْلِم ، من حديث إسماعيل بن جعفر المديني ، عن شريك بن عبد الله بن أبي
نَمر ، عن عطاء بن يسار - وحده - عن أبي هريرة ، به (6).
وقال أبو عبد الرحمن النسائي (7) : أخبرنا علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل ، أخبرنا
شريك - وهو ابن أبي نمر - عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : "ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ، واللقمة
واللقمتان ، إنما المسكين المتعفف ؛ اقرؤوا إن شئتم : { لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ
إِلْحَافًا } " (8).
وروى البخاري من حديث شعبة ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله
عليه وسلم ، نحوه (9).
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن أبي
ذئب ، عن أبي الوليد ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"ليس المسكين بالطواف عليكم ، فتطعمونه (10) لقمة لقمة ، إنما المسكين
المتعفف الذي لا يسأل الناس إلحافا".
وقال ابن جرير : حدثني معتمر ، عن الحسن بن ماتك (11) عن صالح بن سويد ، عن أبي
هريرة
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4539) وصحيح مسلم برقم (1039).
(2) المسند (1/384).
(3) زيادة من جـ.
(4) رواه الترمذي في السنن برقم (3127) من طريق عمرو بن قيس ، عن عطية ، عن أبي
سعيد ، رضي الله عنه ، به مرفوعا ، وقال الترمذي : "هذا حديث غريب إنما نعرفه
من هذا الوجه ، وقد روي عن بعض أهل العلم".
(5) صحيح البخاري برقم (4539).
(6) صحيح مسلم برقم (1039).
(7) في و : "ورواه النسائي ولفظه".
(8) سنن النسائي الكبرى برقم (11053).
(9) صحيح البخاري برقم (1476).
(10) في جـ ، أ ، و : "فتعطونه".
(11) في جـ ، أ : "الحسن بن بابل" ، وفي و : "أيمن بن نابل".
(1/705)
قال
: ليس المسكين الطواف الذي ترده الأكلة والأكلتان ، ولكن المسكين المتعفف في بيته
، لا يسأل الناس شيئا تصيبه الحاجة ؛ اقرؤوا إن شئتم : { لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ
إِلْحَافًا }
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا أبو بكر الحنفي ، حدثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن
أبيه ، عن رجل من مزينة ، أنه قالت له أمه : ألا تنطلق فتسأل رسول الله صلى الله عليه
سلم كما يسأله الناس ؟ فانطلقت أسأله ، فوجدته قائما يخطب ، وهو يقول : "ومن
استعف أعفه الله ، ومن استغنى أغناه الله ، ومن يسأل الناس وله عدل خمس أواق فقد
سأل الناس إلحافا". فقلت بيني وبين نفسي : لناقة لي خير من خمس أواق ،
ولغلامه ناقة أخرى فهي خير من خمس أواق فرجعت ولم أسأل (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال ، عن عمارة بن
غزية ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد ، عن أبيه قال : سرحتني أمي إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، أسأله ، فأتيته فقعدت ، قال : فاستقبلني فقال : "من استغنى أغناه
الله ، ومن استعف أعفَّه الله ، ومن استكف كفاه الله ، ومن سأل وله قيمة أوقية فقد
ألحف". قال : فقلت : ناقتي الياقوتة خير من أوقية. فرجعت ولم أسأله.
وهكذا رواه أبو داود والنسائي ، كلاهما عن قتيبة. زاد أبو داود : وهشام بن عمار
كلاهما عن عبد الرحمن بن أبي الرجال بإسناده ، نحوه (2).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الجماهير ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي
الرجال ، عن عمارة بن غزية ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد قال : قال أبو سعيد الخدري
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من سأل وله قيمة وقية فهو ملحف"
والوقية : أربعون درهما (3).
وقال أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن
رجل من بني أسد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من سأل وله أوقية
- أو عدلها - فقد سأل إلحافا" (4).
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن حكيم بن جبير ، عن محمد بن
عبد الرحمن بن يزيد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "من سأل وله ما يغنيه ، جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا - أو
كدوحا - في وجهه". قالوا : يا رسول الله ، وما غناه ؟ قال : "خمسون
درهما ، أو حسابها من الذهب".
وقد رواه أهل السنن الأربعة ، من حديث حكيم بن جبير الأسدي الكوفي (5). وقد تركه
شعبة بن الحجاج ، وضعفه غير واحد من الأئمة من جراء هذا الحديث.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا أبو
حصين (6) عبد الله
__________
(1) المسند (4/138).
(2) المسند (3/9) وسنن أبي داود برقم (1628) وسنن النسائي (5/98).
(3) ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (2447) وابن حبان في صحيحه برقم (846) من طريق
عبد الله بن يوسف ، عن عبد الرحمن ابن أبي الرجال به.
(4) المسند (4/36).
(5) المسند (1/388) وسنن أبي داود برقم (1626) وسنن الترمذي برقم (650) وسنن
النسائي (5/97) وسنن ابن ماجة برقم (1840).
(6) في هـ : "أبو حصن" وهو خطأ.
(1/706)
بن
أحمد بن يونس ، حدثني أبي ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن
سيرين قال : بلغ الحارث - رجلا كان بالشام من قريش - أن أبا ذر كان به عوز ، فبعث
إليه ثلاثمائة دينار ، فقال : ما وجد عبد الله رجلا هو أهون عليه مني ، سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من سأل وله أربعون فقد ألحف" ولآل أبي
ذر أربعون درهما وأربعون شاة وماهنان. قال أبو بكر بن عياش : يعني خادمين (1).
وقال ابن مَرْدُوَيه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، أخبرنا إبراهيم بن محمد ،
أنبأنا عبد الجبار ، أخبرنا سفيان ، عن داود بن سابور ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه
، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من سأل وله أربعون درهمًا فهو
مُلْحِف ، وهو مثل سف الملة" يعني : الرمل.
ورواه النسائي ، عن أحمد بن سليمان ، عن يحيى بن آدم ، عن سفيان - وهو ابن عيينة -
بإسناده نحوه (2).
قوله (3) : { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } أي :
لا يخفى عليه شيء منه ، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه يوم القيامة ، أحوج ما
يكونون إليه.
وقوله : { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا
وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا
هُمْ يَحْزَنُون } هذا مدح منه تعالى للمنفقين (4) في سبيله ، وابتغاء مرضاته في
جميع الأوقات من ليل أو نهار ، والأحوال من سر وجهار ، حتى إن النفقة على الأهل
تدخل في ذلك أيضًا ، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
لسعد بن أبي وقاص - حين عاده مريضًا عام الفتح ، وفي رواية عام حجة الوداع - :
"وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة ، حتى ما
تجعل في في امرأتك" (5).
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر وبَهْز قالا حدثنا شعبة ، عن عدي بن ثابت
قال : سمعت عبد الله بن يزيد (6) الأنصاري ، يحدث عن أبي مسعود ، رضي الله عنه ،
عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : "إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة
يحتسبها كانت له صدقة" أخرجاه من حديث شعبة ، به (7).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا (8) سليمان بن عبد الرحمن ، حدثنا
محمد بن شعيب ، قال : سمعت سعيد بن يسار ، عن يزيد بن عبد الله بن عريب المليكي ،
عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "نزلت هذه الآية : {
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا
وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا
هُمْ يَحْزَنُون] (9) } في أصحاب الخيل" (10).
__________
(1) المعجم الكبير (2/150) وقال الهيثمي في المجمع (9/331) : "رجاله رجال
الصحيح غير عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس وهو ثقة".
(2) سنن النسائي الكبرى برقم (2375).
(3) في جـ : "وقوله".
(4) في جـ ، أ : "في حق المنفقين".
(5) صحيح البخاري برقم (4409 ، 6373) وصحيح مسلم برقم (1628).
(6) في جـ : "ابن زيد".
(7) المسند (4/122) وصحيح البخاري برقم (55) وصحيح مسلم برقم (1002).
(8) في أ : "عن".
(9) زيادة من جـ ، أ.
(10) ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (1283) من طريق سليمان بن عبد الرحمن به ،
وفي إسناده سعيد بن سنان متروك.
(1/707)
وقال
حنش (1) الصنعاني : عن ابن عباس في هذه الآية ، قال : هم الذين يعلفون الخيل في
سبيل الله. رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : وكذا روي عن أبي أمامة ، وسعيد بن المسيب
، ومكحول.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، أخبرنا يحيى بن يمان ، عن عبد الوهاب
بن مجاهد بن جبر ، عن أبيه قال : كان لعلي أربعة دراهم ، فأنفق درهمًا ليلا
ودرهمًا نهارًا ، ودرهمًا سرًا ، ودرهما علانية ، فنزلت : { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً }
وكذا رواه ابن جرير من طريق عبد الوهاب بن مجاهد ، وهو ضعيف. ولكن رواه ابن مردويه
من وجه آخر ، عن ابن عباس أنها نزلت في علي بن أبي طالب.
وقوله : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِم } أي : يوم القيامة على ما فعلوا
من الإنفاق في الطاعات { وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } تقدم
تفسيره.
__________
(1) في ج : "وقال حسن".
(1/708)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)
{
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي
يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا
الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ
جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى
اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
(275) }
لما ذكر تعالى الأبرار المؤدين النفقات ، المخرجين الزكوات ، المتفضلين بالبر
والصلات لذوي الحاجات والقرابات في جميع الأحوال والآنات - شرع في ذكر أكلة الربا
وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات ، فأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم
منها إلى بعثهم ونشورهم ، فقال : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ
إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } أي : لا
يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له ؛
وذلك أنه يقوم قياما منكرًا. وقال ابن عباس : آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا
يُخْنَق. رواه ابن أبي حاتم ، قال : وروي عن عوف بن مالك ، وسعيد بن جبير ، والسدي
، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان ، نحو ذلك.
وحكي عن عبد الله بن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، ومقاتل بن
حيان أنهم قالوا في قوله : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا
كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } يعني : لا
يقومون يوم القيامة. وكذا قال ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد ، والضحاك ، وابن زيد.
وروى ابن أبي حاتم ، من حديث أبي بكر بن أبي مريم ، عن ضمرة بن حبيب ، عن ابن عبد
الله بن مسعود ، عن أبيه أنه كان يقرأ : "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا
كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس يوم القيامة "
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا ربيعة بن كلثوم ،
حدثنا أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : يقال يوم القيامة لآكل الربا :
خذ سلاحك للحرب. وقرأ : { لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ
الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } قال : وذلك حين يقوم من قبره.
(1/708)
وفي
حديث أبي سعيد في الإسراء ، كما هو مذكور في سورة سبحان : أنه ، عليه السلام (1)
مر ليلتئذ بقوم لهم أجواف مثل البيوت ، فسأل عنهم ، فقيل : هؤلاء أكلة الربا. رواه
البيهقي مطولا.
وقال ابن ماجة : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا الحسن بن موسى ، عن حماد بن
سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أبي الصلت ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت ، فيها الحيات ترى من
خارج بطونهم. فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء أكلة الربا".
ورواه الإمام أحمد ، عن حسن وعفان ، كلاهما عن حماد بن سلمة ، به (2). وفي إسناده
ضعف.
وقد روى البخاري ، عن سَمُرَة (3) بن جندب في حديث المنام الطويل : "فأتينا
على نهر - حسبت أنه كان يقول : أحمر مثل الدم - وإذا في النهر رجل سابح يسبح ،
وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة ، وإذا ذلك السابح يسبح ، [ما
يسبح] (4) ثم يأتي ذلك الذي قد جمع الحجارة عنده فيفغر له فاه فيلقمه (5)
حجرًا" وذكر في تفسيره : أنه آكل الربا (6).
وقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا
وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } أي : إنما جُوزُوا بذلك
لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه ، وليس هذا قياسًا منهم للربا على البيع ؛ لأن
المشركين لا يعترفون (7) بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن ، ولو كان
هذا من باب القياس لقالوا : إنما الربا مثل البيع ، وإنما قالوا : { إِنَّمَا
الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } أي : هو نظيره ، فلم حرم هذا وأبيح هذا ؟ وهذا اعتراض
منهم على الشرع ، أي : هذا مثل هذا ، وقد أحل هذا وحرم هذا!
وقوله تعالى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } يحتمل أن يكون
من تمام الكلام (8) ردًا عليهم ، أي : قالوا : ما قالوه من الاعتراض ، مع علمهم
بتفريق الله بين هذا وهذا حكما ، وهو الحكيم العليم الذي لا معقب لحكمه ، ولا يسأل
عما يفعل وهم يسألون ، وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها ، وما ينفع عباده فيبيحه
لهم ، وما يضرهم فينهاهم عنه ، وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها الطفل ؛ ولهذا قال
: { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ
وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ } أي : من بلغه نهي الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع
إليه. فله ما سلف من المعاملة ، لقوله : { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ } [المائدة
: 95] وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : "وكل ربًا في
الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين ، وأول ربا أضع ربا العباس" (9) ولم يأمرهم
برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية ، بل عفا عما سلف ، كما قال
__________
(1) في جـ : "أنه عليه الصلاة والسلام".
(2) سنن ابن ماجة برقم (2273) والمسند (2/353).
(3) في جـ ، أ : "عن سلمة".
(4) زيادة من صحيح البخاري (7047).
(5) في جـ : "فألقمه".
(6) صحيح البخاري برقم (7047).
(7) في جـ : "لا يعرفون".
(8) في جـ : "يحتمل أن يكون من كلام الله".
(9) قال الشيخ أحمد شاكر ، رحمه الله ، في عمدة التفسير (2/189) : "وهم
الحافظ ابن كثير ، رحمه الله ، فإن هذا لم يكن له يوم فتح مكة ، بل كان في حجة
الوداع في خطبته صلى الله عليه وسلم بعرفه". قلت : جاء هذا مصرحا في رواية
عمرو بن الأحوص قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول :
"ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع... " فذكر الحديث ، رواه أبو داود
في السنن برقم (3334) والترمذي في السنن برقم (3087).
(1/709)
تعالى
: { فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ }
قال سعيد بن جبير والسدي : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } فإنه (1) ما كان أكل من الربا
قبل التحريم.
وقال ابن أبي حاتم : قرئ على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أخبرنا ابن وهب ،
أخبرني جرير بن حازم ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن أم يونس - يعني امرأته العالية
بنت أيفع - أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لها أم محبة (2) أم ولد
لزيد بن أرقم - : يا أم المؤمنين ، أتعرفين زيد بن أرقم ؟ قالت : نعم. قالت : فإني
بعته عبدًا إلى العطاء بثمانمائة ، فاحتاج إلى ثمنه ، فاشتريته قبل محل الأجل
بستمائة. فقالت : بئس ما شريت! وبئس ما اشتريت! أبلغي زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب قالت : فقلت : أرأيت إن تركت المائتين
وأخذت الستمائة ؟ قالت : نعم ، { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ
فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ } (3).
وهذا الأثر مشهور ، وهو دليل لمن حرم مسألة العينة ، مع ما جاء فيها من الأحاديث
المقررة في كتاب الأحكام ، ولله الحمد والمنة.
ثم قال تعالى : { وَمَنْ عَادَ } أي : إلى الربا ففعله بعد بلوغ نهي الله له عنه ،
فقد استوجب العقوبة ، وقامت عليه الحجة ؛ ولهذا قال : { فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
وقد قال أبو داود : حدثنا يحيى بن معين ، أخبرنا عبد الله بن رجاء المكي ، عن عبد
الله بن عثمان بن خُثَيْم ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : لما نزلت : { الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ
الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من لم يذر
المخابرة ، فليأذن بحرب من الله ورسوله" (4).
ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث ابن خثيم ، وقال : صحيح على شرط مسلم ، ولم
يخرجه (5) (6).
وإنما حرمت المخابرة وهي : المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض ، والمزابنة وهي :
اشتراء الرطب في رؤوس النخل بالتمر على وجه الأرض ، والمحاقلة وهي : اشتراء الحب
في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض - إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها ،
حسمًا لمادة الربا ؛ لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف. ولهذا قال
الفقهاء : الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة. ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من
تضييق المسالك المفضية إلى الربا ، والوسائل الموصلة إليه ، وتفاوت (7) نظرهم بحسب
ما وهب الله لكل منهم من العلم ، وقد قال تعالى : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ
عَلِيمٌ } [يوسف : 76].
وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم ، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب ، رضي الله عنه : ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد (8) إلينا
فيهن عهدًا ننتهي إليه : الجد ، والكلالة ، وأبواب من أبواب الربا (9) ، يعني بذلك
بعض المسائل التي فيها شائبة الربا والشريعة شاهدة بأن كل
__________
(1) في جـ ، و : "فله".
(2) في أ : و : "أم محنة".
(3) في هـ : "من" والمثبت من ج ، أ هو الصواب.
(4) سنن أبي داود برقم (3406).
(5) في جـ ، أ ، و : "ولم يخرجاه".
(6) المستدرك (2/286) ووقع فيه : "ولم يخرجاه".
(7) في أ : "وتقارب".
(8) في جـ : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد".
(9) رواه البخاري في صحيحه برقم (5588) ومسلم في صحيحه برقم (3032).
(1/710)
حرام
فالوسيلة إليه مثله ؛ لأن ما أفضى إلى الحرام حرام ، كما أن ما لا يتم الواجب إلا
به فهو واجب. وقد ثبت في الصحيحين ، عن النعمان بن بشير ، قال : سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الحلال بين وإن الحرام بين ، وبين ذلك أمور
مشتبهات ، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في
الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه (1) " (2).
وفي السنن عن الحسن بن علي ، رضي الله عنهما ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول : "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" (3). وفي الحديث الآخر :
"الإثم ما حاك في القلب وترددت فيه النفس ، وكرهت أن يطلع عليه الناس".
وفي رواية : "استفت قلبك ، وإن أفتاك الناس وأفتوك" (4).
وقال الثوري : عن عاصم ، عن الشعبي ، عن ابن عباس قال : آخر ما نزل على رسول الله
صلى الله عليه وسلم آية الربا. رواه [البخاري] (5) عن قبيصة ، عنه (6).
وقال أحمد ، عن (7) يحيى ، عن سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب
أن عمر قال : من آخر ما نزل آية الربا (8) وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض
قبل أن يفسرها لنا ، فدعوا الربا والريبة.
رواه (9) ابن ماجه (10) وابن مردويه.
وروى ابن مَرْدويه من طريق هياج بن بسطام ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي نضرة (11)
عن أبي سعيد الخدري قال : خطبنا عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فقال : إني لعلي
أنهاكم عن أشياء تصلح لكم وآمركم بأشياء لا تصلح لكم ، وإن من آخر القرآن نزولا
آية الربا ، وإنه قد مات رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولم يبينه لنا ، فدعوا ما
يريبكم إلى ما لا يريبكم.
وقد قال ابن ماجة : حدثنا عمرو بن علي الصيرفي ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن
زبيد ، عن إبراهيم ، عن مسروق ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : "الربا ثلاثة وسبعون بابا" (12).
ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث عمرو بن علي الفلاس ، بإسناد مثله ، وزاد :
"أيسرها أن ينكح الرجل أمه ، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم". وقال :
صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه (13).
__________
(1) في و : "يوشك أن يخالط الحمى".
(2) صحيح البخاري برقم (52) وصحيح مسلم برقم (1599).
(3) سنن الترمذي برقم (2518) وسنن النسائي (8/327) وقد أطنب في الكلام عليه الحافظ
ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/278) ط. الرسالة.
(4) رواه أحمد في المسند (4/228) من طريق الزبير بن عبد السلام ، عن أيوب ، عن
وابصة ، رضي الله عنه.
(5) زيادة من جـ ، أ ، و.
(6) صحيح البخاري برقم (4544).
(7) في جـ : "حدثنا".
(8) في أ : "آخر ما أنزل الله الربا".
(9) في جـ : "ورواه".
(10) المسند (1/36) وسنن ابن ماجة برقم (2276) وقال البوصيري في الزوائد (2/198) :
"هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات".
(11) في جـ ، أ : "عن أبي بصرة".
(12) سنن ابن ماجة برقم (2275) وقال البوصيري في الزوائد (2/198) : "هذا
إسناد صحيح".
(13) المستدرك (2/37).
(1/711)
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
وقال
ابن ماجة : حدثنا عبد الله بن سعيد ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن أبي معشر ، عن
سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"الربا سبعون حوبا ، أيسرها أن ينكح الرجل أمه" (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيْم ، عن عباد بن راشد ، عن سعيد بن أبي خَيرة (2)
حدثنا الحسن - منذ نحو من أربعين أو خمسين سنة - عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : "يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا" قال : قيل
له : الناس كلهم ؟ قال : "من لم يأكله منهم ناله من غباره" وكذا رواه
أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة من غير وجه ، عن سعيد بن أبي خيرة (3) عن الحسن ،
به (4).
ومن هذا القبيل ، وهو تحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات الحديث الذي رواه الإمام
أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن مسلم بن صبيح ، عن مسروق ، عن عائشة
قالت : لما نزلت الآيات من آخر البقرة في الربا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى المسجد ، فقرأهُن ، فحرم التجارة في الخمر.
وقد أخرجه الجماعة سوى الترمذي ، من طرق ، عن الأعمش به (5) وهكذا لفظ رواية
البخاري ، عند تفسير الآية : فحرم التجارة ، وفي لفظ له ، عن عائشة قالت : لما
نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على
الناس ، ثم حرم التجارة في الخمر. قال بعض من تكلم على هذا الحديث من الأئمة : لما
حرم الربا ووسائله حرم الخمر وما يفضي إليه من تجارة ونحو ذلك ، كما قال ، عليه
السلام (6) في الحديث المتفق عليه : "لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم
فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها" (7).
وقد تقدم في حديث علي وابن مسعود وغيرهما ، عند لعن المحلل في تفسير قوله : {
حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَه } [البقرة : 230] قوله صلى الله عليه وسلم :
"لعن الله آكل الربا وموكله ، وشاهديه وكاتبه". قالوا : وما يشهد عليه
ويكتب إلا إذا أظهر في صورة عقد شرعي ويكون داخله فاسدا ، فالاعتبار بمعناه لا
بصورته ؛ لأن الأعمال بالنيات ، وفي الصحيح : "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا
إلى أموالكم ، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" (8).
وقد صنف الإمام ، العلامة أبو العباس ابن تيمية كتابا في "إبطال
التحليل" (9) تضمن النهي عن تعاطي الوسائل المفضية إلى كل باطل ، وقد كفى في
ذلك وشفى ، فرحمه الله ورضي عنه.
{ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ
كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ
وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) }
__________
(1) سنن ابن ماجة برقم (2274) وقال البوصيري في الزوائد (2/197) : "هذا إسناد
ضعيف".
(2) في أ : "عن سعيد بن جبير".
(3) في أ : "سعيد بن أبي جرة".
(4) المسند (2/494) وسنن أبي داود برقم (1331) وسنن النسائي (7/243) وسنن ابن ماجة
برقم (2278).
(5) المسند (6/46) وصحيح البخاري برقم (4540 ، 4541) وصحيح مسلم برقم (1580) وسنن
أبي داود برقم (3490) وسنن النسائي الكبرى برقم (11055) وسنن ابن ماجة برقم
(3382).
(6) في و : "صلى الله عليه وسلم".
(7) رواه البخاري في صحيحه برقم (2223) ومسلم في صحيحه برقم (1582) من حديث عمر بن
الخطاب ، رضي الله عنه.
(8) صحيح مسلم برقم (2564) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(9) وهو كتاب متين طبع حديثا طبعة محققة.
(1/712)
يخبر
الله تعالى أنه يمحق الربا ، أي : يذهبه ، إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه ، أو
يَحْرمَه بركة ماله فلا ينتفع به ، بل يعذبه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم
القيامة. كما قال تعالى : { قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ
أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } [المائدة : 100] ، وقال تعالى : { وَيَجْعَلَ
الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي
جَهَنَّم } [الأنفال : 37] ، وقال : { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي
أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّه } [الآية] (1) [الروم : 39].
وقال ابن جرير : في قوله : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا } وهذا نظير الخبر الذي
روي عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : "الربا
وإن كثر فإلى قُلّ".
وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في مسنده ، فقال : حدثنا حجاج [قال] (2) حدثنا
شريك عن الركين بن الربيع [بن عميلة الفزاري] (3) عن أبيه ، عن ابن مسعود ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى
قل" (4) وقد رواه ابن ماجة ، عن العباس بن جعفر ، عن عمرو بن عون ، عن يحيى
بن أبي زائدة ، عن إسرائيل ، عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري ، عن أبيه ، عن
ابن مسعود ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ما أحد أكثر من
الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة" (5).
وهذا من باب المعاملة بنقيض المقصود ، كما قال الإمام أحمد : حدثنا أبو (6) سعيد
مولى بني هاشم ، حدثنا الهيثم بن رافع الطاطري ، حدثني أبو يحيى - رجل (7) من أهل
مكة - عن فروخ مولى عثمان : أن عمر - وهو يومئذ أمير المؤمنين - خرج إلى المسجد ،
فرأى طعاما منثورًا. فقال : ما هذا الطعام ؟ فقالوا : طعام جلب إلينا. قال : بارك
الله فيه وفيمن جلبه. قيل : يا أمير المؤمنين ، إنه قد احتكر. قال : ومن احتكره ؟
قالوا : فروخ مولى عثمان ، وفلان مولى عمر. فأرسل إليهما فدعاهما فقال : ما حملكما
على احتكار طعام المسلمين ؟ قالا يا أمير المؤمنين ، نشتري بأموالنا ونبيع!! فقال
عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من احتكر على المسلمين (8)
طعامهم ضربه الله بالإفلاس أو بجذام (9) ". فقال فروخ عند ذلك : أعاهد الله
وأعاهدك ألا أعود في طعام أبدًا. وأما مولى عمر فقال : إنما نشتري بأموالنا ونبيع.
قال أبو يحيى : فلقد رأيت مولى عمر مجذومًا.
ورواه ابن ماجة من حديث الهيثم بن رافع ، به (10). ولفظه : "من احتكر على
المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس".
وقوله : { وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } قُرئ بضم الياء والتخفيف ، من "ربا الشيء
يربو" و "أرباه يربيه"
__________
(1) زيادة من جـ ، أ ، و.
(2) زيادة من جـ ، أ ، و.
(3) زيادة من جـ.
(4) المسند (1/395).
(5) سنن ابن ماجة برقم (2289) وقال البوصيري في الزوائد (2/199) : "هذا إسناد
صحيح رجاله ثقات".
(6) في أ : "حدثنا ابن".
(7) في جـ : "رجل خرج".
(8) في أ : "على الناس".
(9) في جـ : "والجذام".
(10) المسند (1/21) وسنن ابن ماجة برقم (2155).
(1/713)
أي
: كثّره ونماه ينميه. وقرئ : "ويُرَبِّي" بالضم والتشديد ، من التربية ،
كما قال البخاري : حدثنا عبد الله بن منير ، سمع أبا النضر ، حدثنا عبد الرحمن بن
عبد الله بن دينار ، عن أبيه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ، ولا يقبل الله إلا
الطيب ، وإن الله ليقبلها بيمينه ، ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فَلُوَّه ،
حتى يكون مثل الجبل".
كذا رواه في كتاب الزكاة. وقال في كتاب التوحيد : وقال خالد بن مخلد ، عن سليمان
بن بلال ، عن عبد الله بن دينار ، فذكر بإسناده ، نحوه (1).
وقد رواه مسلم في الزكاة عن أحمد بن عثمان بن حكيم ، عن خالد بن مخلد ، فذكره (2).
قال البخاري : ورواه مسلم بن أبي مريم ، وزيد بن أسلم ، وسهيل ، عن أبي صالح ، عن
أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت : أما رواية مسلم بن أبي مريم : فقد تفرد البخاري بذكرها ، وأما طريق زيد بن
أسلم : فرواها مسلم في صحيحه ، عن أبي الطاهر بن السرح ، عن ابن وهب ، عن هشام بن
سعد ، عن زيد بن أسلم ، به (3). وأما حديث سهيل فرواه مسلم ، عن قتيبة ، عن يعقوب
بن عبد الرحمن ، عن سهيل ، به (4). والله أعلم.
قال البخاري : وقال ورقاء عن ابن دينار ، عن سعيد بن يسار (5) عن أبي هريرة ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم (6).
وقد أسند هذا الحديث من هذا الوجه الحافظ أبو بكر البيهقي ، عن الحاكم وغيره ، عن
الأصم ، عن العباس المروزي (7) عن أبي النضر هاشم بن القاسم ، عن ورقاء - وهو ابن
عمر اليشكري - عن عبد الله بن دينار ، عن سعيد بن يسار (8) عن أبي هريرة ، قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ، ولا
يصعد إلى الله إلا الطيب ، فإن الله يقبلها بيمينه ، فيربيها لصاحبها ، كما يربي
أحدكم فلوه ، حتى تكون مثل أحد" (9).
وهكذا روى هذا الحديث مسلم ، والترمذي ، والنسائي جميعًا ، عن قتيبة ، عن الليث بن
سعد ، عن سعيد المقبري. وأخرجه النسائي - من رواية مالك ، عن يحيى بن سعيد
الأنصاري - ومن طريق يحيى القطان ، عن محمد بن عجلان ، ثلاثتهم عن سعيد بن يسار
أبي الحباب المدني ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره (10).
وقد روي عن أبي هريرة من وجه آخر ، فقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله
الأودي ،
__________
(1) صحيح البخاري برقم (1410) وبرقم (7430).
(2) صحيح مسلم برقم (1014).
(3) صحيح مسلم برقم (1014).
(4) صحيح مسلم برقم (1014).
(5) في أ : "بن بشار".
(6) صحيح البخاري برقم (1410 ، 7430).
(7) في أ ، و : "الدوري".
(8) في أ : "بن بشار".
(9) السنن الكبرى للبيهقي (4/176).
(10) صحيح مسلم برقم (1014) وسنن الترمذي برقم (661) وسنن النسائي الكبرى برقم
(7735).
(1/714)
حدثنا
وَكِيع ، عن عباد بن منصور ، حدثنا القاسم بن محمد قال : سمعت أبا هريرة يقول :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله عز وجل يقبل الصدقة ويأخذها
بيمينه ، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره - أو فلوه - حتى إن اللقمة لتصير مثل
أحد". وتصديق ذلك في كتاب الله : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي
الصَّدَقَاتِ }.
وكذا رواه أحمد ، عن وكيع ، وهو في تفسير وكيع. ورواه الترمذي ، عن أبي كُرَيْب ،
عن وكيع ، به (1) وقال : حسن صحيح ، وكذا رواه الثوري عن عباد (2) بن منصور ، به.
ورواه أحمد أيضا ، عن خلف بن الوليد ، عن ابن المبارك ، عن عبد الواحد بن ضمرة
وعباد بن منصور كلاهما عن أبي نضرة ، عن القاسم ، به (3).
وقد رواه ابن جرير ، عن محمد بن عبد الملك بن إسحاق (4) عن عبد الرزاق ، عن
مَعْمَر ، عن أيوب ، عن القاسم بن محمد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "إن العبد إذا تصدق من طيب ، يقبلها الله منه ، فيأخذها
بيمينه ، ويُرَبِّيها كما يربي أحدكم مُهْره أو فصيله (5) وإن الرجل ليتصدق
باللقمة فتربو في يد الله - أو قال : في كف الله - حتى تكون مثل أحد ،
فتصدقوا" (6).
وهكذا رواه أحمد ، عن عبد الرزاق (7). وهذا طريق غريب صحيح الإسناد ، ولكن لفظه
عجيب ، والمحفوظ ما تقدم. وروي عن عائشة أم المؤمنين ، فقال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة ، كما
يربي أحدكم فَلُوَّه أو فصيله ، حتى يكون مثل أحد". تفرد به أحمد من هذا
الوجه (8).
وقال البزار : حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور ، حدثنا إسماعيل ، حدثني أبي ، عن
يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن الضحاك بن
عثمان ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الرجل ليتصدق
بالصدقة من الكسب الطيب ، ولا يقبل الله إلا الطيب ، فيتلقاها الرحمن بيده فيربيها
، كما يربي أحدكم فلوه - أو وَصيفه - أو قال : فصيله" ثم قال : لا نعلم أحدًا
رواه عن يحيى بن سعيد بن عمرة إلا أبو أويس (9).
وقوله : { وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } أي : لا يحب كفور القلب
أثيم القول والفعل ، ولا بد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة ، وهي أن
المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال ، ولا يكتفي بما شرع له من التكسب
المباح ، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل ، بأنواع المكاسب
__________
(1) المسند (2/471) وسنن الترمذي برقم (662).
(2) في جـ ، أ : "عن حماد".
(3) المسند (2/404).
(4) في أ ، و : "عن محمد بن عبد الملك زنجويه".
(5) في جـ ، أ : "أو فلوه".
(6) تفسير الطبري (6/19).
(7) المسند (2/268).
(8) المسند (6/251).
(9) مسند البزار برقم (931) "كشف الأستار" وقال الحافظ ابن حجر :
"أبو أويس لين ، وقد ذكر البزار أنه تفرد به".
تنبيه : لم يقع في كشف الأستار : "عن الضحاك ، عن أبي هريرة" ؛ وذلك
لأنه مخرج في الصحيحين فليس من الزوائد.
(1/715)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
الخبيثة
، فهو جحود لما عليه من النعمة ، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل.
ثم قال تعالى مادحا للمؤمنين بربهم ، المطيعين أمره ، المؤدين شكره ، المحسنين إلى
خلقه في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، مخبرًا عما أعد لهم من الكرامة ، وأنهم يوم
القيامة من التبعات آمنون ، فقال : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ }
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ
الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا
بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ
أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ
فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ
تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) }
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بتقواه ، ناهيًا لهم عما يقربهم إلى سخطه ويبعدهم
عن رضاه ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ } أي : خافوه
وراقبوه فيما تفعلون { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } أي : اتركوا ما لكم
على الناس من الزيادة على رؤوس الأموال ، بعد هذا الإنذار { إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ } أي : بما شرع الله لكم من تحليل البيع ، وتحريم الربا وغير ذلك.
وقد ذكر زيد بن أسلم ، وابن جُرَيج ، ومقاتل بن حيان ، والسدي : أن هذا السياق نزل
في بني عمرو بن عمير من ثقيف ، وبني المغيرة من بني مخزوم ، كان بينهم ربا في
الجاهلية ، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه ، طلبت ثقيف أن تأخذه منهم ، فتشاوروا (1)
وقالت بنو المغيرة : لا نؤدي الربا في الإسلام فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية فكتب بها رسول الله صلى الله
عليه وسلم إليه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا
بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا
فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } فقالوا : نتوب إلى الله ، ونذر ما
بقي من الربا ، فتركوه كلهم.
وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ، لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار ، قال ابن
جريج : قال ابن عباس : { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ } أي : استيقنوا بحرب من الله
ورسوله. وتقدم من رواية ربيعة بن كلثوم ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس
قال : يقال يوم القيامة لآكل الربا : خذ سلاحك للحرب. ثم قرأ : { فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ }
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا
بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } فمن كان مقيمًا على الربا لا ينزع عنه فحق
(2) على إمام المسلمين أن يستتيبه ، فإن نزع وإلا ضرب عنقه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد الأعلى
، حدثنا هشام بن حسان ، عن الحسن وابن سيرين ، أنهما قالا والله إن هؤلاء الصيارفة
لأكلة الربا ، وإنهم قد أذنوا بحرب من الله ورسوله ، ولو كان على الناس إمام عادل
لاستتابهم ، فإن تابوا وإلا وضع فيهم السلاح. وقال قتادة : أوعدهم الله بالقتل كما
تسمعون ، وجعلهم بهرجا أينما أتوا (3) ، فإياكم وما خالط هذه البيوع
__________
(1) في جـ ، أ ، و : "فتشاجروا".
(2) في أ : "يحق".
(3) في جـ ، أ ، و : "أينما ثقفوا".
(1/716)
من
الربا ؛ فإن الله قد أوسع الحلال وأطابه ، فلا تلجئنكم إلى معصيته فاقة. رواه ابن
أبي حاتم.
وقال الربيع بن أنس : أوعد الله آكل الربا بالقتل. رواه ابن جرير.
وقال السهيلي : ولهذا قالت عائشة لأم محبة ، مولاة زيد بن أرقم ، في مسألة العينة
: أخبريه أن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بطل ، إلا أن يتوب ، فخصت
الجهاد ؛ لأنه ضد قوله : { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } قال :
وهذا المعنى ذكره كثير (1). قال : ولكن هذا إسناده إلى عائشة ضعيف.
ثم قال تعالى : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ
} أي : بأخذ الزيادة (2) { وَلا تُظْلَمُونَ } أي : بوضع رؤوس الأموال أيضا ، بل
لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص (3) منه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن الحسين بن إشكاب ، حدثنا عبيد الله بن موسى ،
عن شيبان ، عن شبيب بن غرقدة البارقي ، عن سليمان بن الأحوص عن أبيه قال : خطب
رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال : "ألا إن كل ربا كان في
الجاهلية موضوع عنكم كله ، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ، وأول ربا
موضوع ربا العباس بن عبد المطلب ، موضوع كله" كذا وجدته : سليمان بن الأحوص.
وقد قال ابن مردويه : حدثنا الشافعي ، حدثنا معاذ بن المثنى ، أخبرنا مسدد ،
أخبرنا أبو الأحوص ، حدثنا شبيب بن غرقدة ، عن سليمان بن عمرو ، عن أبيه قال :
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية
موضوع ، فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون" (4).
وكذا رواه من حديث حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أبي حُرَّة (5) الرقاشي ، عن
عمرو - هو ابن خارجة - فذكره.
وقوله : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ
تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } : يأمر تعالى بالصبر على
المعسر الذي لا يجد وفاء ، فقال : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى
مَيْسَرَة } [أي] : (6) لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه
الدين : إما أن تقضي وإما أن تربي.
ثم يندب (7) إلى الوضع عنه ، ويعد على ذلك الخير والثواب الجزيل ، فقال : { وَأَنْ
تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : وأن تتركوا رأس المال
بالكلية وتضعوه عن المدين. وقد وردت الأحاديث من طرق متعددة عن النبي صلى الله
عليه وسلم ، بذلك :
فالحديث الأول : عن أبي أمامة أسعد بن زرارة [النقيب] ، (8) قال الطبراني : حدثنا
عبد الله بن محمد بن شعيب الرجاني (9) حدثنا يحيى بن حكيم المقوم ، حدثنا محمد بن
بكر البرساني ، حدثنا عبد الله بن أبي زياد ، حدثني عاصم بن عبيد الله ، عن أبي
أمامة أسعد بن زرارة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من سره أن
يظله الله يوم لا ظل إلا ظله ، فَلْيُيَسِّر على معسر أو ليضع عنه" (10).
حديث آخر (11) : عن بريدة ، قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الوارث ،
حدثنا محمد
__________
(1) في جـ ، أ ، و : "ذكره ابن بطال".
(2) في جـ ، أ : "بأخذ الربا".
(3) في جـ ، أ : "ولا نقصان".
(4) ورواه أبو داود في السنن برقم (3334) عن مسدد به ، ورواه ابن ماجة في السنن
برقم (3055) من طريق أبي الأحوص به.
(5) في جـ : "عن أبي حمزة".
(6) زيادة من جـ ، أ ، و.
(7) في جـ : "ثم ندب".
(8) زيادة من جـ ، أ ، و.
(9) في جـ ، أ ، و : "المرجاني".
(10) المعجم الكبير (1/304) وقال الهيثمي في المجمع (4/134) : "عاصم ضعيف ولم
يدرك أسعد بن زرارة".
(11) في جـ ، أ : "الحديث الثاني".
(1/717)
بن
جحادة ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
"من أنظر معسرًا فله بكل يوم مثله صدقة ". قال : ثم سمعته يقول :
"من أنظر معسرًا فله بكل يوم مثلاه صدقة". قلت : سمعتك - يا رسول الله -
تقول : "من أنظر معسرًا فله بكل يوم مثله صدقة". ثم سمعتك تقول :
"من أنظر معسرا فله بكل يوم مثلاه صدقة" ؟! قال : "له بكل يوم مثله
صدقة قبل أن يحل الدين ، فإذا حل الدين فأنظره ، فله بكل يوم مثلاه صدقة"
(1).
حديث آخر (2) : عن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري ، قال [الإمام] (3) أحمد :
حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا أبو جعفر الخطمي ، عن محمد بن كعب القرظي
: أن أبا قتادة كان له دين على رجل ، وكان يأتيه يتقاضاه ، فيختبئ (4) منه ، فجاء
ذات يوم فخرج صبي فسأله عنه ، فقال : نعم ، هو في البيت يأكل خزيرة فناداه : يا
فلان ، اخرج ، فقد أخبرت أنك هاهنا فخرج إليه ، فقال : ما يغيبك عني ؟ فقال : إني
معسر ، وليس عندي. قال : آلله إنك معسر ؟ قال : نعم. فبكى أبو قتادة ، ثم قال :
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من نفس عن غريمه - أو محا عنه -
كان في ظل العرش يوم القيامة". ورواه مسلم في صحيحه (5).
حديث آخر (6) : عن حذيفة بن اليمان ، قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا الأخنس
أحمد بن عمران (7) حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا أبو مالك الأشجعي ، عن رِبْعي بن
حراش ، عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتى الله بعبد من
عبيده يوم القيامة ، قال : ماذا عملت لي في الدنيا ؟ فقال : ما عملت لك يا رب
مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها ، قالها ثلاث مرات ، قال العبد عند آخرها : يا رب ،
إنك أعطيتني فضل مال ، وكنت رجلا أبايع الناس وكان من خلقي الجواز ، فكنت أيسر على
الموسر ، وأنظر المعسر. قال : فيقول الله ، عز وجل : أنا أحق من ييسر ، ادخل
الجنة".
وقد أخرجه البخاري ، ومسلم ، وابن ماجه - من طرق - عن ربعي بن حراش ، عن حذيفة.
زاد مسلم : وعقبة بن عامر وأبي مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم (8)
بنحوه. ولفظ البخاري.
حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا يحيى بن حمزة ، حدثنا الزهري ، عن عبد الله بن عبد
الله أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"كان تاجر يداين الناس ، فإذا رأى معسرا قال لفتيانه : تجاوزوا عنه ، لعل
الله يتجاوز عنا ، فتجاوز الله عنه".
حديث آخر (9) : عن سهل بن حنيف ، قال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو عبد الله محمد
بن يعقوب ، حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى ، حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك ،
حدثنا عمرو بن ثابت ، حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن عبد الله بن سهل بن
حنيف ، أن سهلا حدثه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من أعان
مجاهدًا في سبيل الله أو غازيا ، أو غارما في عسرته ، أو مكاتبًا في
__________
(1) المسند (5/360).
(2) في جـ ، أ : "الحديث الثالث".
(3) زيادة من جـ ، أ ، و.
(4) في جـ ، أ : "فيختفي".
(5) المسند (5/308) ولم أقع عليه في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة ، والله أعلم.
(6) في جـ ، أ : "الحديث الرابع".
(7) هو أحمد بن عمران الأخنسى ، والأخنسى نسبة انظر : الجرح والتعديل (2/64).
(8) صحيح البخاري برقم (2391 ، 2707 ، 3451) وصحيح مسلم برقم (1560).
(9) في جـ ، أ : "الحديث الخامس".
(1/718)
رقبته
، أظله الله (1) يوم لا ظل إلا ظله" ثم قال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه (2).
حديث آخر (3) : عن عبد الله بن عمر ، قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبيد ، عن
يوسف بن صهيب ، عن زيد العمي ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: "من أراد أن تستجاب دعوته ، وأن تكشف كربته ، فليفرج عن معسر" ، انفرد
به أحمد (4).
حديث آخر (5) : عن أبي مسعود عقبة بن عمرو ، قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن
هارون ، أخبرنا أبو مالك ، عن ربعي بن حراش ، عن حذيفة ، أن رجلا أتى به الله عز
وجل ، فقال : ماذا عملت في الدنيا ؟ فقال له الرجل : ما عملت مثقال ذرة من خير
أرجوك بها ، فقالها له ثلاثا ، وقال في الثالثة : أي رب كنت أعطيتني فضلا من المال
في الدنيا ، فكنت أبايع الناس ، فكنت أتيسر على الموسر ، وأنظر المعسر. فقال تبارك
وتعالى (6) نحن أولى بذلك منك ، تجاوزوا عن عبدي. فغفر له. قال أبو مسعود : هكذا
سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم ، وهكذا رواه مسلم من حديث أبي مالك سعد بن طارق
به (7).
حديث آخر (8) : عن عمران بن حصين ، قال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، أخبرنا
أبو بكر ، عن الأعمش ، عن أبي داود ، عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "من كان له على رجل حق فأخره (9) كان له بكل يوم صدقة"
(10).
غريب من هذا الوجه وقد تقدم عن بريدة نحوه.
حديث آخر (11) : عن أبي اليسر كعب بن عمرو ، قال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن
عمرو ، حدثنا زائدة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن ربعي ، قال : حدثني أبو اليسر ،
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من أنظر معسرًا أو وضع عنه أظله الله
، عز وجل ، في ظله يوم لا ظل إلا ظله" (12).
وقد أخرجه مسلم في صحيحه من وجه آخر ، من حديث عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت
، قال : خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا ، فكان
أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه غلام له معه
ضمامة من صحف ، وعلى أبي اليسر بردة ومعافري ، وعلى غلامه بردة ومعافري فقال له
أبي : يا عم ، إني أرى في وجهك سفعة من غضب ؟ قال أجل ، كان لي على فلان بن فلان
الحرامي (13) مال ، فأتيت أهله فسلمت ، فقلت : أثم هو ؟ قالوا : لا فخرج علي ابن
له جفر فقلت : أين أبوك ؟ فقال : سمع صوتك فدخل أريكة أمي. فقلت : اخرج إلي فقد
علمت أين أنت ؟ فخرج ، فقلت : ما حملك على أن اختبأت مني ؟ قال : أنا والله أحدثك
ثم لا أكذبك ؛ خشيت (14) - والله - أن أحدثك فأكذبك ، وأن أعدك فأخلفك ، وكنت
__________
(1) في جـ ، أ ، و : "أظله الله في ظله".
(2) المستدرك (2/217) ، وتعقبه الذهبي في التلخيص. قلت : "بل فيه عمرو بن
ثابت وهو رافضي متروك".
(3) في جـ ، أ : "الحديث السادس".
(4) المسند (2/23).
(5) في جـ ، أ : "الحديث السابع".
(6) في جـ : "فقال تعالى وتبارك".
(7) المسند (4/118) وصحيح مسلم برقم (1560).
(8) في جـ ، أ : "الحديث الثامن".
(9) في جـ : "حق فمن أخره".
(10) المسند (4/442).
(11) في ج ، أ : "الحديث التاسع".
(12) المسند (3/427).
(13) في أ : "الحراني" ، وفي و : "الحزامي".
(14) في جـ : "خفت".
(1/719)
صاحب
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنت - الله - معسرًا قال : قلت : آلله ؟ قال :
قلتُ : آلله ، قال : اللهِ. قلتُ : آلله ؟ قال : الله. قال : فأتى بصحيفته فمحاها
بيده ، ثم قال : فإن وجدت قضاء فاقضني ، وإلا فأنت في حل ، فأشهد بصر عيني - ووضع
أصبعيه على عينيه - وسمع أذني هاتين ، ووعاه قلبي - وأشار إلى مناط (1) قلبه -
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : "من أنظر معسرًا ، أو وضع عنه أظله
الله في ظله". وذكر تمام الحديث (2).
حديث آخر (3) : عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، قال عبد الله بن الإمام أحمد [في
مسند أبيه] (4) حدثني (5) أبو يحيى البزاز محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا الحسن بن
بشر بن سلم الكوفي ، حدثنا العباس بن الفضل الأنصاري ، عن هشام بن زياد القرشي ،
عن أبيه ، عن محجن مولى عثمان ، عن عثمان ، قال : سمعت رسول الله ، صلى الله عليه
وسلم ، يقول : "أظل الله عينا في ظله ، يوم لا ظل إلا ظله من أنظر معسرًا ،
أو ترك لغارم" (6).
حديث آخر (7) : عن ابن عباس ، قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا
نوح بن جعونة السلمي الخراساني ، عن مقاتل بن حيان ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال
: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد ، وهو يقول بيده هكذا - وأومأ عبد
الرحمن بيده إلى الأرض - : "من أنظر معسرًا أو وضع له ، وقاه الله من فيح
جهنم ، ألا إن عمل الجنة حزن بربوة - ثلاثًا - ألا إن عمل النار سهل بسهوة ، والسعيد
من وقي الفتن ، وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد ، ما كظمها عبد
لله إلا ملأ الله جوفه إيمانًا" تفرد به أحمد (8).
طريق أخرى : قال الطبراني : حدثنا أحمد بن محمد البُورَاني قاضي الحَدِيَثة من
ديار ربيعة ، حدثنا الحُسَين بن علي الصُّدَائي ، حدثنا الحكم بن الجارود ، حدثنا
ابن أبي المتئد - خال ابن عيينة - عن أبيه ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أنظر معسرًا إلى ميسرته أنظره الله بذنبه
إلى توبته" (9).
ثم قال تعالى يعظ عباده ويذكرهم زوال الدنيا وفناء ما فيها من الأموال وغيرها ،
وإتيان (10) الآخرة والرجوع إليه تعالى ومحاسبته تعالى خلقه على ما عملوا ،
ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر ، ويحذرهم عقوبته ، فقال : { وَاتَّقُوا
يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا
كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ }
وقد روي أن هذه الآية آخرُ آية نزلت من القرآن العظيم ، فقال ابن لَهِيعة : حدثني
عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، قال : آخر ما نزل من القرآن كله (11) {
وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ
مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه
الآية تسع ليال ، ثم مات يوم الاثنين ، لليلتين خلتا من ربيع الأول. رواه ابن أبي
حاتم.
__________
(1) في جـ ، أ ، و : "إلى نياط".
(2) صحيح مسلم برقم (306).
(3) في جـ ، أ : "الحديث العاشر".
(4) زيادة من جـ ، أ ، و.
(5) في جـ : "حدثنا".
(6) زوائد المسند (1/73).
(7) في جـ ، أ : "الحديث الحادي عشر".
(8) المسند (1/327).
(9) المعجم الكبير (11/151) ، وقال الهيثمي في المجمع (4/135) : "وفيه الحكم
بن جارود ضعفه الأزدي ، وشيخ الحكم وشيخ شيخه لم أعرفهما".
(10) في جـ ، أ : "وإيثار".
(11) في أ : "من القرآن العظيم".
(1/720)
وقد
رواه ابن مَرْدُويه من حديث المسعودي ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ،
عن ابن عباس ، قال : آخر آية نزلت : { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى
اللَّهِ }
وقد رواه النسائي ، من حديث يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن عبد الله بن عباس ، قال :
آخر شيء (1) نزل من القرآن : { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى
اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } (2).
وكذا رواه الضحاك ، والعَوْفي ، عن ابن عباس ، وروى الثوري ، عن الكلبي ، عن أبي
صالح ، عن ابن عباس ، قال : آخر آية أنزلت (3) : { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ
فِيهِ إِلَى اللَّهِ } فكان بين نزولها [وبين] (4) موت النبي صلى الله عليه وسلم
واحد وثلاثون يومًا.
وقال ابن جريج : قال ابن عباس : آخر آية نزلت : { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ
فِيهِ إِلَى اللَّهِ } الآية.
قال ابن جريج : يقولون : إن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بعدها تسع ليال ، وبدئ
(5) يوم السبت ومات يوم الاثنين ، رواه ابن جرير.
ورواه عطية عن أبي سعيد ، قال : آخر آية أنزلت : { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ
فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ }.
__________
(1) في جـ ، أ : "آخر ما نزل".
(2) سنن النسائي الكبرى برقم (11057).
(3) في جـ ، أ : "نزلت".
(4) زيادة من جـ ، أ ، و.
(5) في و : "ومرض".
(1/721)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
{
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ
كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا
فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ
أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا
فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا
وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ
أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا
إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا
يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
(282) }
هذه الآية الكريمة أطول آية في القرآن العظيم ، وقد قال الإمام أبو جعفر بن جرير :
حدثنا يونس ، أخبرنا (1) ابن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال ، حدثني سعيد بن
المسيب : أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدَّيْن.
__________
(1) في جـ : "أنبأنا".
(1/721)
وقال
الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن
مِهْران ، عن ابن عباس أنه قال : لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "إن أول من جحد آدم ، عليه السلام ، أن الله لما خلق آدم ، مسح ظهره
فأخرِج منه ما هو ذارئ إلى يوم القيامة ، فجعل يعرض ذريته عليه ، فرأى فيهم رجلا
يَزْهر ، فقال : أي رب ، من هذا ؟ قال : هو ابنك داود. قال : أي رب ، كم عمره ؟
قال : ستون عامًا ، قال : رب زد في عمره. قال : لا إلا أن أزيده من عمرك. وكان عمر
آدم ألف سنة ، فزاده أربعين عامًا ، فكتب عليه بذلك كتابا وأشهد عليه الملائكة ،
فلما احتُضر آدم وأتته الملائكة قال : إنه قد بقي من عمري أربعون عامًا ، فقيل له
: إنك قد وهبتها لابنك داود. قال : ما فعلت. فأبرز الله عليه الكتاب ، وأشهد عليه
الملائكة".
وحدثنا أسود بن عامر ، عن حماد بن سلمة ، فذكره ، وزاد فيه : "فأتمها الله
لداود مائة ، وأتمها لآدم ألف سنة" (1).
وكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن يوسف بن حبيب ، عن أبي داود الطيالسي ، عن حماد بن
سلمة [به] (2).
هذا حديث غريب جدا ، وعلي بن زيد بن جُدعان في أحاديثه نكارة. وقد رواه الحاكم في
مستدركه بنحوه ، من حديث الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب (3) عن سعيد المقبري ،
عن أبي هريرة. ومن رواية داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن أبي هريرة. ومن طريق
محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة. ومن حديث هشام (4) بن سعد ، عن زيد بن
أسلم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره بنحوه
(5).
فقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا
بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ، ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها ، وأضبط للشاهد
فيها ، وقد نبه على هذا في آخر الآية حيث قال : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ
اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا }
وقال سفيان الثوري ، عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
فَاكْتُبُوهُ } قال : أنزلت في السَّلَم إلى أجل معلوم.
وقال قتادة ، عن أبي حَسَّان (6) الأعرج ، عن ابن عباس ، قال : أشهد أن السلف
المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله وأذن فيه ، ثم قرأ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } رواه البخاري.
وثبت في الصحيحين من رواية سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نَجيح ، عن عبد الله بن
كثير ، عن أبي المِنْهال ، عن ابن عباس ، قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم
المدينة وهم يُسْلفُون في الثمار السنتين والثلاث ، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "من أسلف فليسلف في كيل معلوم ، ووزن معلوم ، إلى أجل معلوم"
(7).
__________
(1) المسند (1/251 ، 252).
(2) زيادة من أ ، و.
(3) في أ : "بن أبي ذئاب".
(4) في جـ ، أ : "تمام".
(5) المستدرك (1/64 ، 2/586).
(6) في جـ ، أ : "أبي حيان".
(7) صحيح البخاري برقم (2240) وصحيح مسلم برقم (1604).
(1/722)
وقوله
: { فَاكْتُبُوهُ } أمر منه تعالى بالكتابة [والحالة هذه] (1) للتوثقة والحفظ ،
فإن قيل : فقد ثبت في الصحيحين ، عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "إنا أمَّة أمية لا نكتب ولا نحسب" (2) فما الجمع بينه وبين
الأمر بالكتابة ؟ فالجواب : أن الدّين من حيث هو غير مفتقر إلى كتابة أصلا ؛ لأن
كتاب الله قد سَهل الله ويسر حفظه على الناس ، والسنن أيضًا محفوظة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، والذي أمر الله بكتابته إنما هو أشياء جزئية تقع بين الناس ،
فأمروا أمْر إرشاد لا أمر إيجاب ، كما ذهب إليه بعضهم.
قال ابن جريج : من ادّان فليكتب ، ومن ابتاع فليُشْهد.
وقال قتادة : ذكر لنا أن أبا سليمان المرعشيّ ، كان رجلا صحب كعبا ، فقال ذات يوم
لأصحابه : هل تعلمون مظلوما دعا ربه فلم يستجب له ؟ فقالوا : وكيف [يكون] (3) ذلك
؟ قال : رجل باع بيعًا إلى أجل فلم يشهد ولم يكتب ، فلما حل ماله جحده صاحبه ،
فدعا ربه فلم يستجب له ؛ لأنه قد عصى ربه.
وقال أبو سعيد ، والشعبي ، والربيع بن أنس ، والحسن ، وابن جريج ، وابن زيد ،
وغيرهم : كان ذلك واجبًا ثم نسخ بقوله : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا
فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ }
قال الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا ليث ، عن جعفر بن ربيعة ، عن عبد
الرحمن بن هُرْمُز ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر
"أن رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يُسْلفه ألف دينار ، فقال :
ائتني بشهداء أشهدهم. قال : كفى بالله شهيدًا. قال : ائتني بكفيل. قال : كفى بالله
كفيلا. قال : صدقت. فدفعها إليه إلى أجل مسمى ، فخرج في البحر فقضى حاجته ، ثم
التمس مركبًا يقدم عليه للأجل الذي أجله ، فلم يجد مركبًا ، فأخذ خشبة فنقرها
فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة معها إلى صاحبها ، ثم زَجج موضعها ، ثم أتى بها البحر
، ثم قال : اللهم إنك قد علمت أني استسلفت فلانًا ألف دينار ، فسألني كفيلا فقلت :
كفى بالله كفيلا. فرضي بذلك ، وسألني شهيدًا ، فقلت : كفى بالله شهيدًا. فرضي بذلك
، وإني قد جَهِدْتُ أن أجد مركبًا أبعث بها إليه بالذي أعطاني فلم أجد مركبًا ،
وإني اسْتَوْدعْتُكَها. فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ، ثم انصرف ، وهو في ذلك
يطلب مركبًا إلى بلده ، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبًا تجيئه بماله ،
فإذا بالخشبة التي فيها المال ، فأخذها لأهله حطبًا فلما كسرها وجد المال والصحيفة
، ثم قدم الرجل الذي كان تَسَلف منه ، فأتاه بألف دينار وقال : والله ما زلت
جاهدًا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبًا قبل الذي أتيت فيه. قال : هل كنت
بعثت إلي بشيء ؟ قال : ألم أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل هذا الذي جئت فيه ؟ قال :
فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة ، فانصرف بألفك راشدًا".
وهذا إسناد صحيح (4) وقد رواه البخاري في سبعة مواضع من طرق صحيحة (5) معلقًا
بصيغة
__________
(1) زيادة من جـ ، أ ، و.
(2) صحيح البخاري برقم (1913) وصحيح مسلم برقم (1080).
(3) زيادة من أ ، و.
(4) المسند (2/348).
(5) في جـ ، أ ، و : "في صحيحه".
(1/723)
الجزم
، فقال : وقال الليث بن سعد ، فذكره (1). ويقال : إنه رواه في بعضها عن عبد الله
بن صالح كاتب الليث ، عنه.
وقوله : { لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ } أي : بالقسط والحق ، ولا
يَجُرْ في كتابته على أحد ، ولا يكتب إلا ما اتفقوا عليه من غير زيادة ولا نقصان.
وقوله : { وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ
فَلْيَكْتُبْ } أي : ولا يمتنع من يعرف الكتابة إذا سُئِل أن يكتبَ للناس ، ولا
ضرورة عليه في ذلك ، فكما علمه الله ما لم يكن يعلم ، فَلْيتصدق على غيره ممن لا
يحسن الكتابة وليكتب ، كما جاء في الحديث : "إن من الصدقة أن تعين صانعًا أو
تصنع لأخْرَق" (2). وفي الحديث الآخر : "من كتم علمًا يَعْلَمه ألْجِمَ
يوم القيامة بلجام من نار" (3).
وقال مجاهد وعطاء : واجب على الكاتب أن يكتب.
وقوله : { وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ }
أي : وليملل المدين على الكاتب ما في ذمته من الدين ، وليتق الله في ذلك ، { وَلا
يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا } أي : لا يكتم منه شيئًا ، { فَإِنْ كَانَ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا } محجورًا عليه بتبذير ونحوه ، { أَوْ ضَعِيفًا } أي :
صغيرًا أو مجنونًا { أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ } إما لعي أو جهل
بموضع صواب ذلك من خطئه. { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ }
وقوله { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُم } أمْرٌ بالإشهاد مع الكتابة
لزيادة التوثقة ، { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ }
وهذا إنما يكون في الأموال وما يقصد به المال ، وإنما أقيمت المرأتان مقام الرجل
لنقصان عقل المرأة ، كما قال مسلم في صحيحه : حدثنا قتيبة ، حدثنا إسماعيل بن جعفر
، عن عمرو بن أبي عَمْرو ، عن المَقْبُري ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال : "يا معشر النساء ، تصدقن وأكثرن الاستغفار ، فإني رأيتكُن
أكثر أهل النار" ، فقالت امرأة منهن جَزْلة : وما لنا - يا رسول الله - أكثر
أهل النار (4) ؟ قال : "تُكْثرْنَ اللعن ، وتكفُرْنَ العشير ، ما رأيتُ من
ناقصات عقل ودين أغلب لذي لُب منكن". قالت : يا رسول الله ، ما نقصان العقل
والدين ؟ قال : "أما نقصان عقلها فشهادة امرأتين تَعْدل شهادة رجل ، فهذا
نقصان العقل ، وتمكث الليالي لا تصلي ، وتفطر في رمضان ، فهذا نقصان الدين"
(5).
وقوله : { ممِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ } فيه دلالة على اشتراط العدالة
في الشهود ، وهذا مقيَّد ، حَكَم به الشافعي على كل مطلق في القرآن ، من الأمر
بالإشهاد من غير اشتراط. وقد استدل من رد المستور بهذه الآية الدالة على أن يكون
الشاهد عدلا مرضيًا.
وقوله : { أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا } يعني : المرأتين إذا نسيت الشهادة {
فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى } أي : يحصل لها ذكرى بما وقع به الإشهاد ،
ولهذا قرأ آخرون : "فَتُذكر" بالتشديد من التذكار. ومن قال :
__________
(1) صحيح البخاري برقم (1498 ، 2291 ، 2404 ، 2430 ، 2744 ، 6261 ، 2063).
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (2518) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(3) رواه أحمد في المسند (2/304) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) في جـ : "يا رسول الله وما لنا أكثر أهل النار".
(5) صحيح مسلم برقم (80).
(1/724)
إن
شهادتها معها تجعلها كشهادة ذكر (1) فقد أبعد ، والصحيح الأول. والله أعلم.
وقوله : { وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قيل : معناه : إذا دعوا
للتحمل فعليهم الإجابة ، وهو قول قتادة والربيع بن أنس. وهذا كقوله : { وَلا
يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ } ومن هاهنا
استفيد أن تَحَمّل الشهادة فرض كفاية.
وقيل - وهو مذهب الجمهور - : المراد بقوله : { وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا
دُعُوا } للأداء ، لحقيقة قوله : { الشُّهَدَاء } والشاهد حقيقة فيمن (2) تحمَّل ،
فإذا دعي لأدائها (3) فعليه الإجابة إذا تعينت وإلا فهو فرض كفاية ، والله أعلم.
وقال مجاهد وأبو مِجْلَز ، وغير واحد : إذا دعيت لتشهد فأنت بالخيار ، وإذا شهدت
فدعيت (4) فأجب.
وقد ثبت في صحيح مسلم والسنن ، من طريق مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن
عمرو بن حَزْم ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، عن عبد الرحمن بن أبي
عَمْرَة ، عن زيد بن خالد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ألا
أخبركم بخير الشهداء ؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها" (5).
فأما الحديث الآخر في الصحيحين : "ألا أخبركم بشر الشهداء ؟ الذين يشهدون قبل
أن يُستْشْهَدوا" ، وكذا قوله : "ثم يأتي قوم تسبق أيمانُهم شهادتهم
وتسبق شهادَتُهم أيمانهم". وفي رواية : "ثم يأتي قوم يَشْهَدُون ولا
يُسْتَشْهَدون" (6). فهؤلاء شهود الزور. وقد روي عن ابن عباس والحسن البصري :
أنها تعم الحالين : التحَمّل والأداء.
وقوله : { وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِه
} هذا من تمام الإرشاد ، وهو الأمر بكتابة الحق صغيرًا كان أو كبيرًا ، فقال : {
وَلا تَسْأَمُوا } أي : لا تملوا أن تكتبوا الحق على أي حال كان من القلة والكثرة
{ إلى أجله }
وقوله { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى
أَلا تَرْتَابُوا } أي : هذا الذي أمرناكم به من الكتابة للحق إذا كان مؤجلا هو {
أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } أي : أعدل { وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ } أي : أثبت
للشاهد إذا وضع خطه ثم رآه تذكر به الشهادة ، لاحتمال أنه لو لم يكتبه أن ينساه ،
كما هو الواقع غالبًا { وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا } وأقرب إلى عدم الريبة ، بل
ترجعون عند التنازع إلى الكتاب الذي كتبتموه ، فيفصل بينكم بلا ريبة.
وقوله : { إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا } أي : إذا كان البيع بالحاضر يدا
بيد ، فلا بأس بعدم الكتابة لانتفاء المحذور في تركها.
فأما الإشهاد على البيع ، فقد قال تعالى : { وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُم }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثني يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر ،
حدثني ابن لَهِيعة ، حدثني عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير
__________
(1) في و : "كشهادة رجل".
(2) في جـ : "فقد".
(3) في جـ : "فإن دعى إلى الإدلاء بها".
(4) في جـ : "وإذا دعيت".
(5) صحيح مسلم برقم (1719) وسنن أبي داود برقم (3596) وسنن الترمذي برقم (2295 ،
2296) وسنن النسائي الكبرى برقم (6029) وسنن ابن ماجة برقم (2364).
(6) صحيح البخاري برقم (6428) وصحيح مسلم برقم (2535).
(1/725)
في
قول الله : { وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُم } يعني : أشهدوا على حقكم إذا كان
فيه أجل أو لم يكن ، فأشهدوا على حقكم على كل حال. قال : وروي عن جابر بن زيد ،
ومجاهد ، وعطاء ، والضحاك ، نحو ذلك.
وقال الشعبي والحسن : هذا الأمر منسوخ بقوله : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا
فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ }
وهذا الأمر محمول عند الجمهور على الإرشاد والندب ، لا على الوجوب. والدليل على
ذلك حديث خُزَيمة بن ثابت الأنصاري ، وقد رواه الإمام أحمد :
حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب ، عن الزهري ، حدثني عمَارة بن خزيمة الأنصاري ، أن
عمه حدثه - وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم
ابتاع فرسًا من أعرابي ، فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه ،
فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم وأبطأ الأعرابي ، فطفق رجال يعترضون الأعرابي
فيساومونه بالفرس ، ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه ، حتى زاد
بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النبي صلى الله عليه وسلم ،
فنادى الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن كنت مبتاعًا هذا الفرس
فابتَعْه ، وإلا بعتُه ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي ،
قال : "أو ليس قد ابتعته منك ؟ " قال الأعرابي : لا والله ما بعتك. فقال
النبي صلى الله عليه وسلم : "بل (1) قد ابتعته منك". فطفق الناس يلوذون
بالنبي صلى الله عليه وسلم والأعرابي وهما يتراجعان ، فطفق الأعرابي يقول : هَلُم شهيدًا
يشهد أني بايعتك. فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي : ويلك! إن النبي (2) صلى الله
عليه وسلم لم يكن يقول إلا حقًا. حتى جاء خزَيْمة ، فاستمع لمراجعة النبي صلى الله
عليه وسلم ومراجعة الأعرابي يقول (3) هلم شهيدًا يشهد أني (4) بايعتك. قال خزيمة :
أنا أشهد أنك قد بايعته. فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال :
"بم تشهد ؟" فقال : بتصديقك يا رسول الله. فجعل رسولُ الله صلى الله
عليه وسلم شهادة خُزَيمة بشهادة رجلين.
وهكذا رواه أبو داود من حديث شعيب ، والنسائي من رواية محمد بن الوليد الزبيري (5)
كلاهما عن الزهري ، به (6) نحوه.
ولكن الاحتياط هو الإشهاد ، لما رواه الإمامان الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه
والحاكم في مستدركه من رواية معاذ بن معاذ العنبري ، عن شعبة ، عن فراس ، عن
الشعبي ، عن أبي بُرْدة ، عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم : رجل له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ،
ورجل دفع مال يتيم قبل أن يبلغ ، ورجل أقرض رجلا مالا فلم يُشْهد".
ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد على شرط الشيخين ، قال : ولم يخرجاه ، لتوقيف أصحاب
شعبة هذا الحديث على أبي موسى ، وإنما أجمعوا على سند حديث شعبة بهذا الإسناد :
"ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين" (7).
وقوله : { وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ } قيل : معناه : لا يضار الكاتب ولا
الشاهد ، فيكتب هذا خلاف ما يملي ، ويشهد هذا بخلاف ما سمع أو يكتمها بالكلية ،
وهو قول الحسن وقتادة وغيرهما.
وقيل : معناه : لا يضر بهما ، كما قال ابن أبي حاتم :
__________
(1) في ج : "بلى".
(2) في و : "إن رسول الله".
(3) في جـ ، أ ، و : "وطفق الأعرابي يقول".
(4) في و : "أني قد".
(5) في جـ : "الزبيدي".
(6) المسند (5/213) وسنن أبي داود برقم (3607) وسنن النسائي (7/301).
(7) المستدرك (2/302).
(1/726)
حدثنا
أسيد بن عاصم ، حدثنا الحسين - يعني ابن حفص - حدثنا سفيان ، عن يزيد بن أبي زياد
، عن مقْسَم ، عن ابن عباس في هذه الآية : { وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ }
قال : يأتي الرجل فيدعوهما إلى الكتاب والشهادة ، فيقولان : إنا على حاجة فيقول :
إنكما قد أمرتما أن تجيبا. فليس له أن يضارهما.
ثم قال : وروي عن عكرمة ، ومجاهد ، وطاوس ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وعطية ،
ومقاتل بن حَيَّان ، والربيع بن أنس ، والسدي ، نحو ذلك.
وقوله : { وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } أي : إن خالفتم ما أمرتم
به ، وفعلتم ما نَهِيتم عنه ، فإنه فسق كائن بكم ، أي : لازم لكم لا تحيدون عنه
ولا تنفكون عنه.
وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : خافوه وراقبوه ، واتبعوا أمره واتركوا زجره
(1) { وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ } كقوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } [الأنفال : 29] ، وكقوله : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ
كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } [الحديد :
28].
وقوله : { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : هو عالم بحقائق الأمور
ومصالحها وعواقبها ، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء ، بل علمه محيط بجميع الكائنات.
__________
(1) في و : "زواجره".
(1/727)
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
{
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ
فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ
وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا
فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) }
يقول تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ } أي : مسافرين وتداينتم إلى أجل
مسمى { وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا } يكتب لكم. قال ابن عباس : أو وجدوه ولم يجد
قرطاسًا أو دواة أو قلمًا فَرُهُن مقبوضة ، أي : فَلْيكن بدل الكتابة رِهَان
مقبوضة في يد صاحب الحق.
وقد استدل بقوله : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَة } على أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض ،
كما هو مذهب الشافعي والجمهور ، واستدل بها آخرون على أنه لا بد أن يكون الرهن
مقبوضًا في يد المرتهن ، وهو رواية عن الإمام أحمد ، وذهب إليه طائفة.
واستدل آخرون من السلف بهذه الآية على أنه لا يكون الرهن مشروعا إلا في السفر ،
قاله مجاهد وغيره.
وقد ثبت في الصحيحين ، عن أنس ، أن رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم تُوفِّي
وَدِرْعُه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وَسْقًا من شعير ، رهنها قوتًا لأهله (1).
وفي رواية : من يهود المدينة (2). وفي رواية الشافعي : عند أبي الشحم اليهودي (3).
وتقرير هذه المسائل في كتاب "الأحكام الكبير" ، ولله الحمد والمنة ، وبه
__________
(1) صحيح البخاري برقم (2508) ولم أقع عليه في صحيح مسلم من حديث أنس وهو فيه من
حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) الرواية في سنن النسائي (7/288).
(3) مسند الشافعي (ص 251).
(1/727)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
المستعان.
وقوله : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ
أَمَانَتَهُ } روى ابنُ أبي حاتم بإسناد جيد ، عن أبي سعيد الخدري أنه قال : هذه
نسخت ما قبلها.
وقال الشعبي : إذا ائتمن بعضكم (1) بعضًا فلا بأس ألا تكتبوا أو لا تُشهدوا.
وقوله : { وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّه } يعنى : المؤتَمن ، كما جاء في الحديث الذي
رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من رواية قتادة ، عن الحسن ، عن سَمُرة : أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال : "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" (2).
وقوله : { وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَة } أي : لا تخفوها وتغلوها ولا تظهروها. قال
ابن عباس وغيره : شهادة الزور من أكبر الكبائر ، وكتمانها كذلك. ولهذا قال : {
وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } قال السدي : يعني : فاجر قلبه ،
وهذه كقوله تعالى : { وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ
الآثِمِينَ } [المائدة : 106] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ
أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ
أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ
تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } [النساء : 135] ،
وهكذا قال هاهنا : { وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ
آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }
{ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي
أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ
يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) }
يخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض وما فيهن وما بينهن ، وأنه المطلع على ما
فيهن ، لا تخفى عليه الظواهر ولا السرائر والضمائر ، وإن دقت وخفيت ، وأخبر أنه
سَيُحاسب عباده على ما فعلوه وما أخفوه في صدورهم كما قال : { قُلْ إِنْ تُخْفُوا
مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [آل
عمران : 29] ، وقال : { يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } [طه : 7] ، والآيات في ذلك
(3) كثيرة جدا ، وقد أخبر في هذه بمزيد على العلم ، وهو : المحاسبة على ذلك ،
ولهذا لما نزلت هذه الآية اشتد ذلك على الصحابة ، رضي الله عنهم ، وخافوا منها ،
ومن محاسبة الله لهم على جليل الأعمال وحقيرها ، وهذا من شدة إيمانهم وإيقانهم.
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ، حدثني أبو (4) عبد
الرحمن -
__________
(1) في جـ : "بعضهم".
(2) المسند (5/12) وسنن أبي داود برقم (3561) وسنن الترمذي برقم (1266) وسنن
النسائي الكبرى برقم (5783) وسنن ابن ماجة برقم (2400).
(3) في جـ ، أ : "في هذا".
(4) في جـ ، أ ، و : "حدثني ابن".
(1/728)
يعني
العلاء - عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه
وسلم : { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا
فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ
يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } اشتد
ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
، ثم جثوا على الركب ، وقالوا : يا رسول الله ، كلفنا من الأعمال ما نُطيق :
الصلاة والصيام والجهاد والصدقة ، وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها. فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم :
سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا : سمعنا وأطعنا ، غفرانك ربنا وإليك المصير". فلما
أقَر بها (1) القوم وذلت بها ألسنتهم ، أنزل الله في أثرها : { آمَنَ الرَّسُولُ
بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ
وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }
فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا
لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ
نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } إلى آخره (2).
ورواه مسلم منفردًا به ، من حديث يزيد بن زريع ، عن روح بن القاسم ، عن العلاء ،
عن أبيه ، عن أبي هريرة ، فذكر مثله (3) ولفظه : "فلما فعلوا [ذلك] (4) نسخها
الله ، فأنزل : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ
وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ
أَخْطَأْنَا } قال : نعم ، { رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ
عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } قال : نعم ، { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا
لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال : نعم ، { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا
وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } قال
: نعم.
حديث ابن عباس في ذلك : قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان ، عن آدم بن
سليمان ، سمعت سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { وَإِنْ
تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّه } قال :
دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء ، قال : فقال رسول الله ، صلى الله
عليه وسلم : "قولوا سمعنا وأطعنا وسَلَّمنا". فألقى الله الإيمان في
قلوبهم ، فأنزل الله. { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ
وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } إلى قوله : { فَانْصُرْنَا عَلَى
الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }
وهكذا رواه مسلم ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، وأبي كُريب ، وإسحاق بن إبراهيم ، ثلاثتهم
عن وكيع ، به (5) وزاد : { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ
أَخْطَأْنَا } قال : قد فعلت { رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا
حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } قال : قد فعلت ، { رَبَّنَا وَلا
تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال : قد فعلت { وَاعْفُ عَنَّا
وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا [فَانْصُرْنَا] (6) } قال : قد
فعلت.
طريق أخرى عن ابن عباس : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ،
عن حميد الأعرج ، عن مجاهد ، قال : دخلت على ابن عباس فقلت : يا أبا عباس ، كنت
عند ابن عمر فقرأ
__________
(1) في أ ، و : "فلما اقترأها".
(2) المسند (2/412).
(3) صحيح مسلم برقم (125).
(4) زيادة من صحيح مسلم (125).
(5) المسند (1/233) وصحيح مسلم برقم (126).
(6) زيادة من جـ ، أ ، و.
(1/729)
هذه
الآية فبكى. قال : أيَّة آية ؟ قلت : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ
تُخْفُوهُ } قال ابن عباس ، إن هذه الآية حين أنزلت (1) غَمَّت أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم غمًا شديدًا ، وغاظتهم غيظًا شديدًا ، يعني ، وقالوا : يا رسول
الله ، هلكنا ، إن كنا نؤاخذ بما تكلمنا وبما نعمل ، فأما قلوبنا فليست بأيدينا ،
فقال لهم رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : "قولوا : سمعنا وأطعنا".
قالوا : سمعنا وأطعنا. قال : فنسختها هذه الآية : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ
إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ } إلى { لا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا
اكْتَسَبَتْ } فتَجوز لهم عن حديث النفس وأخذوا بالأعمال (2).
طريق أخرى عنه : قال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس بن
يزيد ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن مَرْجانة ، سمعه يحدث أنه بينما هو جالس مع عبد
الله بن عمر تلا هذه الآية : { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ
وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ
فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ } الآية. فقال : والله لئن واخذنا الله بهذا لنهلكن ،
ثم بكى ابن عمر حتى سُمع نشيجه. قال ابن مَرْجانة : فقمت حتى أتيت ابن عباس ،
فذكرت له ما قال ابن عمر ، وما فعل حين تلاها ، فقال عبد الله بن عباس : يغفر الله
لأبي عبد الرحمن. لَعَمْري لقد وَجَدَ المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وجد عبد الله
بن عمر ، فأنزل الله بعدها : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } إلى
آخر السورة ، قال ابن عباس : فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها ، وصار
الأمر إلى أن قضى الله ، عز وجل ، أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القول
والفعل (3).
طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا يزيد بن هارون ،
عن سفيان بن حسين ، عن الزهري ، عن سالم : أن أباه قرأ : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا
فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } فدمعت عيناه ، فبلغ
صنيعه ابن عباس ، فقال : يرحم الله أبا عبد الرحمن ، لقد صنع كما صنع أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت ، فنسختها الآية التي بعدها : { لا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } (4).
فهذه طرق صحيحة عن ابن عباس ، وقد ثبت عن ابن عمر كما ثبت عن ابن عباس.
قال البخاري : حدثنا إسحاق ، حدثنا روح ، حدثنا شعبة ، عن خالد الحذاء ، عن
مَرْوان الأصفر ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - أحسبُه ابن عمر - {
وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } قال : نسختها الآية التي
بعدها (5).
وهكذا رُوي عن علي ، وابن مسعود ، وكعب الأحبار ، والشعبي ، والنخَعي ، ومحمد بن
كعب القُرَظي ، وعكرمة ، وسعيد بن جُبَير ، وقتادة : أنها منسوخة بالتي بعدها.
وقد ثبت بما رواه الجماعة في كتبهم الستة من طريق قتادة ، عن زرارة بن أوفى ، عن
أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله تجاوز لي عن
أمتي ما حدثت به أنفسها ، ما لم تكلَّم أو
__________
(1) في جـ : "نزلت".
(2) المسند (1/332).
(3) تفسير الطبري (6/106).
(4) تفسير الطبري (6/108).
(5) صحيح البخاري برقم (4546).
(1/730)
تعمل
(1) " (2).
وفي الصحيحين ، من حديث سفيان بن عُيَينة ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي
هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قال الله : إذا هَم عبدي
بسيئة فلا تكتبوها عليه ، فإن عملها فاكتبوها سيئة ، وإذا هم بحسنة فلم يعملها
فاكتبوها حسنَة ، فإن عملها فاكتبوها عشرًا". لفظ مسلم (3) وهو في أفراده من
طريق إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : "قال الله : إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له
حسنة ، فإن عملها كتبتها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف ، وإذا هم بسيئة فلم يعملها لم
أكتبها عليه ، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة" (4).
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن هَمام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو
هريرة ، عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "قال الله : إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة ، فأنا أكتبها له حسنة ما لم
يعمل ، فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها ، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا
أغفرها له ، ما لم يعملها ، فإن عملها فأنا أكتبها له بمثلها". وقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "قالت الملائكة : رب ، وإن عبدك يريد أن يعمل سيئة
- وهو أبصر به - فقال : ارقُبوه ، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها ، وإن تركها
فاكتبوها له حسنة ، وإنما تركها من جَراي". وقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "إذا أحسن أحد (5) إسلامه ، فكل (6) حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها
إلى سبعمائة ضعف ، وكل سيئة تكتب بمثلها حتى يلقى الله عز وجل".
تفرد به مسلم عن محمد بن رافع ، عن عبد الرزاق بهذا السياق واللفظ (7) وبعضه في
صحيح البخاري.
وقال مسلم أيضا : حدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن هشام ، عن ابن
سيرين ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من هَمَّ
بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، ومن هم بحسنة فعملها كتبت له [عشرا] (8) إلى
سبعمائة ضعف ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب ، وإن عملها كُتِبَت". تفرد
به مسلم دون غيره من أصحاب الكتب (9).
[وقال مسلم] (10) حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا عبد الوارث ، عن الجَعْد أبي عثمان
، حدثنا أبو رجاء العُطَاردي ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيما يروي عن ربه تعالى قال : "إن الله كتب الحسنات والسيئات ، ثم بين ذلك ،
فمن هَمّ بحسنة فلم يعملها كَتَبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها
كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة. وإن هم بسيئة فلم
__________
(1) في أ ، و : "تعمل به".
(2) صحيح البخاري برقم (5269) وصحيح مسلم برقم (127) وسنن أبي داود برقم (2209)
وسنن الترمذي برقم (1183) وسنن النسائي (6/156) وسنن ابن ماجة برقم (2040).
(3) صحيح مسلم برقم (128) ، ولم أقع عليه من هذا الطريق في صحيح البخاري.
(4) صحيح مسلم برقم (128).
(5) في جـ ، أ ، و : "أحدكم".
(6) في هـ ، أ ، و : "فإن له بكل" والمثبت من صحيح مسلم.
(7) صحيح مسلم برقم (129).
(8) زيادة من صحيح مسلم (130).
(9) صحيح مسلم برقم (130).
(10) زيادة من و.
(1/731)
يعملها
كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة" (1).
ثم رواه مسلم ، عن يحيى بن يحيى ، عن جعفر بن سليمان ، عن الجعد أبي عثمان في هذا
الإسناد بمعنى حديث عبد الوارث (2) وزاد : "ومحاها الله ، ولا يَهلك على الله
إلا هالك".
وفي حديث سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، فسألوه : إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال :
"وقد وجدتموه ؟" قالوا : نعم. قال : "ذاك صريح الإيمان".
لفظ مسلم (3) وهو عند مسلم أيضًا من طريق الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ،
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، به. وروى مسلم [أيضا] (4) من حديث مغيرة ، عن
إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الوسوسة ، قال : "تلك صريح (5) الإيمان" (6). وقال علي بن أبي طلحة ، عن
ابن عباس : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ
بِهِ اللَّه } فإنها لم تُنْسَخ ، ولكن الله إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول :
إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم ، مما لم يطلع عليه ملائكتي ، فأما المؤمنون
فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم ، وهو قوله : { يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ
} يقول : يخبركم ، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب وهو قوله :
{ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاء } وهو قوله : { وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } [البقرة : 225] أي : من الشك والنفاق.
وقد روى العوفي والضحاك عنه قريبًا من هذا.
وروى ابن جرير ، عن مجاهد والضحاك ، نحوه. وعن الحسن البصري أنه قال : هي مُحْكمة
لم تنسخ. واختار ابن جرير ذلك ، واحتج على أنه لا يلزم من المحاسبة المعاقبة ،
وأنه تعالى (7) قد يحاسب ويغفر ، وقد يحاسب ويعاقب بالحديث الذي رواه عند هذه
الآية ، قائلا حدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد وهشام ، (ح) وحدثني
يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، حدثنا هشام ، قالا جميعًا في حديثهما :
عن قتادة ، عن صفوان بن مُحْرز ، قال : بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر
، وهو يطوف ، إذ عرض له رجل فقال : يا ابن عمر ، ما سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول في النجوى ؟ فقال : سمعت نبي الله (8) صلى الله عليه وسلم يقول :
"يدنو المؤمن مِنْ ربه ، عز وجل ، حتى يضع عليه كَنَفَه ، فيقرره بذنوبه
فيقول : هل تعرف كذا ؟ فيقول : رب أعْرف - مرتين - حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن
يبلغ قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم". قال :
"فيعطى صحيفة حسناته - أو كتابه - بيمينه ، وأما الكفار والمنافقون فينادى
بهم على رؤوس الأشهاد : { هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا
لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } (9) [هود : 18].
__________
(1) صحيح مسلم برقم (131).
(2) صحيح مسلم برقم (131).
(3) صحيح مسلم برقم (132).
(4) زيادة من و.
(5) في أ ، و : "تلك محض".
(6) صحيح مسلم برقم (133).
(7) في جـ : "وأنه سبحانه وتعالى".
(8) في جـ : "سمعت رسول الله".
(9) تفسير الطبري (6/119 ، 120).
(1/732)
آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
وهذا
الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما من طرق متعددة ، عن قتادة ، به (1).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن
علي بن زيد ، عن أمية (2) قالت : سألت عائشة عن هذه الآية : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا
فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } فقالت : ما سألني
عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال : "هذه مبايعة
الله العبد ، وما يصيبه من الحمى ، والنَّكبة ، والبضاعة يضعها في يد كمه ،
فيفتقدها فيفزع لها ، ثم يجدها في ضِبْنِه ، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما
يخرج التبر الأحمر [من الكير] (3) ".
وكذا رواه الترمذي ، وابن جرير من طريق حماد بن سلمة ، به (4). وقال الترمذي :
غريب لا نعرفه إلا من حديثه.
قلت : وشيخه علي بن زيد بن جُدْعان ضعيف ، يغرب في رواياته وهو يروي هذا الحديث عن
امرأة أبيه : أم محمد أمية بنت عبد الله ، عن عائشة ، وليس لها عنها في الكتب
سواه.
{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ
آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ
الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ
وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ
أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ
وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى
الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) } ذكر الأحاديث الواردة في فضل هاتين الآيتين
الكريمتين نفعنا الله بهما.
الحديث الأول : قال البخاري : حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا شعبة ، عن سليمان ، عن
إبراهيم ، عن عبد الرحمن ، عن أبي مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"من قرأ بالآيتين" ، وحدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن
إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن أبي مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كَفَتَاه"
(5).
وقد أخرجه بقية الجماعة من طريق سليمان بن مِهْران الأعمش ، بإسناده ، مثله (6).
وهو في الصحيحين من طريق الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن عبد الرحمن ، عنه ،
به (7). وهو في الصحيحين أيضا عن عبد الرحمن ، عن علقمة عن أبي مسعود - قال عبد
الرحمن : ثم لقيت أبا
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4685) وصحيح مسلم برقم (1768).
(2) في جـ : "عن آمنة".
(3) زيادة من تفسير الطبري (6/117).
(4) سنن الترمذي برقم (2991).
(5) صحيح البخاري برقم (5008).
(6) صحيح مسلم برقم (808) وسنن أبي داود برقم (1397) وسنن الترمذي برقم (2881)
وسنن النسائي الكبرى برقم (8019) وسنن ابن ماجة برقم (1368).
(7) صحيح البخاري برقم (5009) وصحيح مسلم برقم (807) ؛ ولكنه فيه عن زهير ، عن
منصور به.
(1/733)
مسعود
، فحدثني به (1).
وهكذا رواه أحمد بن حنبل : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا شريك ، عن عاصم ، عن المسيب
بن رافع ، عن علقمة ، عن أبي مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :
"من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلته كفتاه" (2).
الحديث الثاني : قال الإمام أحمد : حدثنا حسين ، حدثنا شيبان ، عن منصور ، عن
رِبعي ، عن خَرشة بن الحُر ، عن المعرور بن سويد ، عن أبي ذر ، قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش ، لم
يعطهن نبي قبلي" (3).
وقد رواه ابن مردويه ، من حديث الأشجعي ، عن الثوري ، عن منصور ، عن رِبْعِي ، عن
زيد بن ظِبْيان ، عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أعطيت
خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش" (4).
الحديث الثالث : قال مسلم : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا
مالك بن مغْول(ح) وحدثنا ابن نُمَير ، وزهير بن حرب جميعًا ، عن عبد الله بن نُمير
- وألفاظهم متقاربة - قال ابن نمير : حدثنا أبي ، حدثنا مالك بن مِغْوَل ، عن
الزبير بن عدي (5) عن طلحة ، عن مُرَة ، عن عبد الله ، قال : لما أسْريَ برسول
الله صلى الله عليه وسلم انْتُهِيَ به إلى سدرة المنتهى ، وهي في السماء السادسة
إليها ينتهي ما يُعْرَج به من الأرض فَيُقْبَض منها ، وإليها ينتهي ما يُهْبَطُ به
من فوقها فيُقْبَض منها ، قال : { إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى } [النجم
: 16] ، قال : فرَاش من ذهب. قال : وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا :
أعْطِيَ الصلوات الخمس ، وأعْطِي خواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لم يشرك بالله من
أمته شيئًا المُقْحَماتُ (6).
الحديث الرابع : قال أحمد : حدثنا إسحاق بن إبراهيم الرازي ، حدثنا سلمة بن الفضل
، حدثني محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن مَرْثَد بن عبد الله اليزني ،
عن عقبة بن عامر الجهني قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اقرأ
الآيتين من آخر سورة البقرة فإني أعطيتهما من تحت العرش". هذا إسناد حسن ،
ولم يخرجوه في كتبهم (7).
الحديث الخامس : قال ابن مَرْدُويه : حدثنا أحمد بن كامل ، حدثنا إبراهيم بن إسحاق
الحربي ، أخبرنا مُسَدَّد (8) أخبرنا أبو (9) عوانة ، عن أبي مالك ، عن ربْعِي ،
عن حذيفة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فضلنا على الناس بثلاث
، أوتيت هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة من بيت كنز تحت
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4008) وصحيح مسلم برقم (808).
(2) المسند (4/118).
(3) المسند (5/151).
(4) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (2404) من طريق الأشجعي به.
(5) في أ : "بن علي".
(6) صحيح مسلم برقم (173).
(7) المسند (4/147).
(8) في أ : "أخبرنا مسروق".
(9) في جـ ، أ : "عن أبي".
(1/734)
العرش
، لم يعطها أحد قبلي ، ولا يعطاها أحد بعدي" (1).
ثم رواه من حديث نُعَيم بن أبي هندي ، عن ربعي ، عن حذيفة ، بنحوه.
الحديث السادس : قال ابن مردويه : حدثنا عبد الباقي بن نافع ، أنبأنا إسماعيل بن
الفضل ، أخبرنا محمد بن حاتم بن بزَيع ، أخبرنا جعفر بن عون ، عن مالك بن مِغْول ،
عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي قال : لا أرى أحدًا عَقِل الإسلام ينام حتى
يقرأ خواتيم سورة البقرة ، فإنها كنز أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم من تحت
العرش.
ورواه وَكِيع عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمير بن عمرو الخارفي ، عن علي قال :
ما أرى أحدًا يعقل ، بلغه الإسلام ، ينام حتى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة
، فإنها من كنز تحت العرش (2).
الحديث السابع : قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا بُنْدَار ، حدثنا عبد الرحمن بن
مهدي ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن أشعث بن عبد الرحمن الجَرْمي (3) عن أبي قِلابَة ،
عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن النعمان بن بشير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام ، أنزل منه آيتين
ختم بهما (4) سورة البقرة ، ولا يقرأن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان". ثم قال
: هذا حديث غريب. وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث حماد بن سلمة به ، وقال :
صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه (5) (6).
الحديث الثامن : قال ابن مردويه : حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن مدين ، أخبرنا
الحسن بن الجهم ، أخبرنا إسماعيل بن عمرو ، أخبرنا ابن أبي مريم ، حدثني يوسف بن
أبي الحجاج ، عن سعيد ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
قرأ آخر سورة البقرة وآية الكرسي ضحك ، وقال : "إنهما من كنز الرحمن تحت
العرش". وإذا قرأ : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِه } [النساء : 123] ، {
وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى *
ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى } [النجم : 39 - 41] ، استرجع واستكان (7).
الحديث التاسع : قال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن محمد بن كوفي ، حدثنا أحمد بن
يحيى بن حمزة ، حدثنا محمد بن بكر (8) حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا عبد الله بن
أبي حميد ، عن أبي مَلِيح ، عن معقل بن يسار ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "أعطيت فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش ، والمُفَصل
نافلة" (9).
__________
(1) ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (8022) من طريق آدم بن أبي إياس ، عن أبي
عوانة به.
(2) ورواه ابن الضريس في فضائل القرآن برقم (169) من طريق أبي إسحاق ، عن عمير بن
سعيد به ، قال النووي : "صحيح على شرط البخاري ومسلم".
(3) في أ : "الصنعاني".
(4) في جـ : "ختم بها".
(5) في أ : "ولم يخرجه".
(6) سنن الترمذي برقم (2882) والمستدرك (1/562).
(7) ذكره السيوطي في الدر المنثور (2/7) وعزاه لابن مردويه ، وفي إسناده مجاهيل.
(8) في أ : "بن بكير".
(9) ورواه الحاكم في المستدرك وصححه (1/559) من طريق عبيد الله بن أبي حميد به
نحوه ، وتعقبه الذهبي بقوله : "فيه عبيد الله بن أبي حميد تركوه".
(1/735)
الحديث
العاشر : قد تقدم في فضائل الفاتحة ، من رواية عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن
أبي ليلى ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس قال : بينا رسول الله صلى الله عليه
وسلم وعنده جبريل ؛ إذ سمع نقيضا فوقه ، فرفع جبريل بصره إلى السماء ، فقال : هذا
باب قد فتح من السماء ما فُتِح قَط. قال : فنزل منه مَلَك ، فأتى النبي صلى الله
عليه وسلم فقال : أبشر بنورين قد أوتيتهما ، لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب ،
وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ حرفا منهما إلا أوتيته ، رواه مسلم والنسائي ، وهذا
لفظه (1).
[الحديث الحادي عشر : قال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي في مسنده :
حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان ، حدثنا أيفع بن عبد الله الكلاعي (2) قال : قال
رجل : يا رسول الله ، أي آية في كتاب الله أعظم ؟ قال : "آية الكرسي : {
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } قال : فأي آية في كتاب الله
تحب أن تصيبك وأمتك ؟ قال : "آخر سورة البقرة ، ولم يترك خيرًا في الدنيا
والآخرة إلا اشتملت عليه" (3) ] (4).
فقوله تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّه } إخبار عن
النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
قال ابن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية : "ويحق له أن يؤمن
" (5).
وقد روى الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو النضر الفقيه : حدثنا معاذ بن نجدة القرشي
، حدثنا خلاد بن يحيى ، حدثنا أبو عقيل ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أنس بن مالك ،
قال : لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا
أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّه } قال النبي صلى الله عليه وسلم : "حق له أن
يؤمن". ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه. (6).
وقوله : { وَالْمُؤْمِنُون } عطف على { الرَّسُولُ } ثم أخبر عن الجميع فقال : {
كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد أحد ، فرد صمد ، لا إله
غيره ، ولا رب سواه. ويصدقون بجميع الأنبياء والرسل والكتب المنزلة من السماء على
عباد الله المرسلين والأنبياء ، لا يفرقون بين أحد منهم ، فيؤمنون ببعض ويكفرون
ببعض ، بل الجميع عندهم صادقون بارون راشدون مَهْديون هادون إلى سُبُل (7) الخير ،
وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بعض بإذن الله ، حتى نُسخ الجميع بشرع محمدّ صلى الله
عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين ، الذي تقوم الساعة على شريعته ، ولا تزال
طائفة من أمته على الحق ظاهرين.
وقوله : { وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } أي : سمعنا قولك يا ربنا ، وفهمناه ،
وقمنا به ، وامتثلنا العمل بمقتضاه ، { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } سؤال للغَفْر (8)
والرحمة واللطف.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا ابن فضيل ، عن عطاء بن
السائب ،
__________
(1) صحيح مسلم برقم (806) وسنن النسائي (2/138).
(2) في الإصابة : "أيفع بن عبد الكلاعي".
(3) سنن الدارمي برقم (3380) وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/139) : "هو
مرسل أو معضل".
(4) زيادة من جـ.
(5) تفسير الطبري (6/124).
(6) المستدرك (2/287) وتعقبه الذهبي ، قلت : "منقطع" ، وذلك لأن يحيى بن
أبي كثير رأى أنسا ولم يسمع منه.
(7) في أ : "إلى سبيل".
(8) في جـ ، أ : "بالعفو".
(1/736)
عن
سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قول الله : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ
إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ } إلى قوله : { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا }
قال : قد غفرت لكم ، { وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } أي : إليك المرجع والمآب يوم يقوم
الحساب.
قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن بيان ، عن حكيم عن جابر قال :
لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ
إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } قال جبريل :
إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك ، فسل تُعْطه. فسأل : { لا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } إلى آخر الآية (1).
وقوله : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } أي : لا يكلف أحدًا فوق
طاقته ، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم ، وهذه هي الناسخة
الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة ، في قوله : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي
أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّه } أي : هو وإن حاسب وسأل
لكن لا يعذب إلا بما يملك (2) الشخص دفعه ، فأما ما لا يمكن دفعه من وسوسة النفس
وحديثها ، فهذا لا يكلف به الإنسان ، وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان.
وقوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } أي : من خير ، { وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } أي
: من شر ، وذلك في الأعمال التي تدخل تحت التكليف ، ثم قال (3) تعالى مرشدًا عباده
إلى سؤاله ، وقد تكفل لهم بالإجابة ، كما أرشدهم وعلمهم أن يقولوا : { رَبَّنَا لا
تُؤَاخِذْنَا إِنْ [نَسِينَا] (4) } أي : إن تركنا فرضًا على جهة النسيان ، أو
فعلنا حرامًا كذلك ، { أَوْ أَخْطَأْنَا } أي : الصوابَ في العمل ، جهلا منا بوجهه
الشرعي.
وقد تقدم في صحيح مسلم لحديث أبي هريرة : "قال الله : نعم" ولحديث (5)
ابن عباس قال الله : "قد فعلت".
وروى ابن ماجة في سننه ، وابن حبان في صحيحه (6) من حديث أبي عمرو الأوزاعي ، عن
عطاء - قال ابن ماجة في روايته : عن ابن عباس. وقال الطبراني وابن حبان : عن عطاء
، عن عبيد بن عُمير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إن الله وضع (7) عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه". وقد روي
من طُرُق أخَرَ وأعله (8) أحمد وأبو حاتم (9) والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن شهر ، عن أم
الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث :
عن الخطأ ، والنسيان ، والاستكراه" قال أبو بكر : فذكرت ذلك للحسن ، فقال :
أجل ، أما تقرأ بذلك قرآنا : { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ
أَخْطَأْنَا } (10).
__________
(1) في أ ، و : "إلى آخر السورة".
(2) في أ ، و : "على ما يملك".
(3) في جـ : "وقال".
(4) زيادة من أ ، و.
(5) في جـ : "وبحديث".
(6) سنن ابن ماجة برقم (2045) وصحيح ابن حبان برقم (1498) "موارد".
(7) في أ : "إن الله قد وضع".
(8) في جـ ، أ ، و : "وعلله".
(9) العلل لابن أبي حاتم (1/431) والعلل للإمام أحمد (1/227) وانظر في تفصيل
الكلام على الحديث وعلته : جامع العلوم والحكم للحافظ ابن رجب (2/361) ط. الرسالة
، وفتح الباري للحافظ ابن حجر (5/161).
(10) ورواه ابن عدي في الكامل (3/325) من طريق أبي بكر الهذلي ، عن شهر بن حوشب ،
عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء مرفوعا وليس عنده قول أبي بكر للحسن.
(1/737)
وقوله
: { رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِنَا } أي : لا تكلّفنا من الأعمال الشاقة وإن أطقناها ، كما شرعته
للأمم الماضية قبلنا من الأغلال والآصار التي كانت عليهم ، التي بعثتَ نبيَك
محمدًا صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة بوضعه في شرعه الذي أرسلته به ، من الدين
الحنيف السهل السمح.
وقد ثبت في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"قال الله : نعم".
وعن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "قال الله : قد
فعلت". وجاء الحديث من طرق ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
"بعثت بالحَنيفيَّة السمحة" (1).
وقوله : { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } أي : من
التكليف والمصائب والبلاء ، لا تبتلينا بما لا قبل لنا به.
وقد قال مكحول في قوله : { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ
} قال : الغرْبة والغلمة ، رواه (2) ابن أبي حاتم ، "قال الله : نعم"
وفي الحديث الآخر : "قال الله : قد فعلت".
وقوله : { وَاعْفُ عَنَّا } أي : فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا ،
{ وَاغْفِرْ لَنَا } أي : فيما بيننا وبين عبادك ، فلا تظهرهم على مساوينا
وأعمالنا القبيحة ، { وَارْحَمْنَا } أي : فيما يُسْتَقبل ، فلا توقعنا بتوفيقك في
ذنب آخر ، ولهذا قالوا : إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء : أن يعفو الله عنه فيما
بينه وبينه ، وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم ، وأن يعصمه فلا يوقعه في
نظيره. وقد تقدم في الحديث أن الله قال : نعم. وفي الحديث الآخر : "قال الله
: قد فعلت".
وقوله : { أَنْتَ مَوْلانَا } أي : أنت ولينا وناصرنا ، وعليك توكلنا ، وأنت
المستعان ، وعليك التّكلان ، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك (3) { فَانْصُرْنَا عَلَى
الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } أي : الذين جحدوا دينك ، وأنكروا وحدانيتك ، ورسالة
نبيك ، وعبدوا غيرك ، وأشركوا معك من عبادك ، فانصرنا عليهم ، واجعل لنا العاقبة
عليهم في الدنيا والآخرة ، قال الله : نعم. وفي الحديث الذي رواه مسلم ، عن ابن
عباس : "قال الله : قد فعلت".
وقال ابن جرير : حدثني المثنى بن إبراهيم ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن أبي
إسحاق ، أن معاذًا ، رضي الله عنه ، كان إذا فرغ من هذه السورة (4) { فانصرنا على
القوم الكافرين } قال : آمين (5).
ورواه وَكِيع عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن رجل ، عن معاذ بن جبل : أنه كان إذا
ختم البقرة قال : آمين (6).
__________
(1) جاء من حديث أبي أمامة ، وابن عباس ، وعائشة ، وجابر رضي الله عنهم ، أصحها
حديث ابن عباس رواه الإمام أحمد في المسند (1/236) وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح.
(2) في جـ : "ورواه".
(3) في جـ : "إلا بالله".
(4) في جـ : "من سورة البقرة".
(5) تفسير الطبري (6/146).
(6) جاء في جـ : "آخر تفسير سورة البقرة ولله الحمد والمنة والفضل والثناء
الحسن الجميل ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين ، يتلوه إن شاء الله سورة آل عمران".
(1/738)
الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)
تفسير
سورة آل عمران
هي مدنية ؛ لأن صدرها (1) إلى ثلاث وثمانين آية منها نزلت في وفد نجران ، وكان
قدومهم في سنة تسع من الهجرة ، كما سيأتي بيان ذلك ، إن شاء الله تعالى عند تفسير
آية المباهلة منها ، وقد ذكرنا ما ورد في فضلها مع سورة البقرة في أول تفسير
[سورة] (2) البقرة.
{ الم (1) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نزلَ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزلَ التَّوْرَاةَ
وَالإنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنزلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ
ذُو انْتِقَامٍ (4) }
وقد ذكرنا الحديث الوارد في أن اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين : { اللَّهُ لا
إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } و { الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ
الْحَيُّ الْقَيُّومُ } عند تفسير آية الكرسي ، وتقدم الكلام على قوله تعالى : {
الم } في أول سورة البقرة ، بما أغنى عن إعادته ، وتقدم أيضًا الكلام على قوله : {
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } في تفسير آية الكرسي.
وقوله تعالى { نزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } يعني : نزل عليك القرآن يا
محمد { بِالْحَقِّ } أي : لا شك فيه ولا ريب ، بل هو منزل من عند الله [عز وجل]
(3) أنزله بعلمه والملائكة يشهدون ، وكفى بالله (4) شهيدًا.
وقوله : { مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : من الكتب المنزلة قبله من
السماء على عباد الله الأنبياء ، فهي تصدقه بما أخبرت به وبشرت في قديم الزمان ،
وهو يصدقها ؛ لأنه طابق ما أخبرت به وبشرت ، من الوعد من الله بإرسال محمد صلى
الله عليه وسلم ، وإنزال القرآن العظيم عليه.
وقوله : { وَأَنزلَ التَّوْرَاةَ } أي : على موسى بن عمران [عليه السلام] (5) {
وَالإنْجِيلَ } أي : على عيسى ابن مريم.
{ مِنْ قَبْلُ } أي : من قبل هذا القرآن. { هُدًى لِلنَّاسِ } أي : في زمانهما {
وَأَنزلَ الْفُرْقَانَ } وهو الفارق بين الهدى والضلال ، والحق والباطل ، والغي
والرشاد ، بما يذكره الله تعالى من الحجج والبينات ، والدلائل الواضحات ،
والبراهين القاطعات ، ويبينه ويوضحه ويفسره ويقرره ، ويرشد إليه وينبه عليه من
ذلك.
وقال قتادة والربيع بن أنس : الفرقان هاهنا القرآن. واختار ابن جرير أنه مصدر
هاهنا ؛ لتقدم ذكر
__________
(1) في جـ : "صدورها" ، وفي أ : "صورها".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من جـ ، ر.
(4) في جـ ، ر : "به".
(5) زيادة من جـ ، أ.
(2/5)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
القرآن
في قوله : { نزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ } وهو القرآن. وأما ما رواه ابن أبي حاتم عن أبي صالح أن المراد هاهنا
بالفرقان : التوراة فضعيف أيضًا ؛ لتقدم ذكرها ، والله أعلم
وقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ } أي : جحدوا بها
وأنكروها ، وردّوها بالباطل { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } أي : يوم القيامة {
وَاللَّهُ عَزِيزٌ } أي : منيع الجناب عظيم السلطان { ذُو انْتِقَامٍ } أي : ممن
كذب بآياته (1) وخالف رسله الكرام ، وأنبياءه العظام.
{ إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ (5)
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) }
يخبر تعالى أنه يعلم غيب السماوات والأرض ، [و] (2) لا يخفى عليه شيء من ذلك.
{ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ } أي : يخلقكم كما
يشاء في الأرحام من ذكر وأنثى ، [و] (3) حسن وقبيح ، وشقي وسعيد { لا إِلَهَ إِلا
هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي : هو الذي خلق ، وهو المستحق للإلهية وحده لا
شريك له ، وله العزة التي لا ترام ، والحكمة والأحكام.
وهذه الآية فيها تعريض بل تصريح بأن عيسى ابن مريم عبد مخلوق ، كما خلق الله سائر
البشر ؛ لأن الله [تعالى] (4) صوره في الرحم وخلقه ، كما يشاء ، فكيف يكون إلها
كما زعمته النصارى - عليهم لعائن الله - وقد تقلب في الأحشاء ، وتنقل من حال إلى
حال ، كما قال تعالى : } يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ
خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ
إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } [ الزمر : 6]
{ هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ
الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ
تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ
إِلا أُولُو الألْبَابِ (7) رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ
هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا
يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) }
يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب ، أي : بينات واضحات الدلالة ،
لا التباس فيها على أحد من الناس ، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير
من الناس أو بعضهم ، فمن ردّ ما اشتبه عليه إلى الواضح منه ، وحكم محكمه على
متشابهه عنده ، فقد اهتدى. ومن عكس انعكس ؛ ولهذا قال تعالى : { هُوَ الَّذِي
أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ }
أي : أصله
__________
(1) في جـ ، ر : "آياته".
(2) زيادة من جـ.
(3) زيادة من جـ ، و.
(4) زيادة من جـ.
(2/6)
الذي
يرجع إليه عند الاشتباه { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } أي : تحتمل (1) دلالتها
موافقة المحكم ، وقد تحتمل (2) شيئًا آخر من حيث اللفظ والتركيب ، لا من حيث
المراد.
وقد اختلفوا في المحكم والمتشابه ، فروي عن السلف عبارات كثيرة ، فقال علي بن أبي
طلحة ، عن ابن عباس [أنه قال] (3) المحكمات ناسخه ، وحلاله وحرامه ، وحدوده
وفرائضه ، وما يؤمر (4) به ويعمل به.
وكذا روي عن عكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، ومُقاتل بن حَيّان ، والربيع بن
أنس ، والسُّدِّي أنهم قالوا : المحكم الذي يعمل به.
وعن ابن عباس أيضًا أنه قال : المحكمات [في] (5) قوله تعالى : { قُلْ تَعَالَوْا
أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } [
الأنعام : 151 ] والآيتان بعدها ، وقوله تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا
تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23] إلى ثلاث آيات بعدها. رواه ابن أبي
حاتم ، وحكاه عن سعيد بن جُبَيْر [ثم] (6) قال : حدثنا أبي ، حدثنا سليمان بن حرب
، حدّثنا حماد بن زيد ، عن إسحاق بن سُوَيْد أن يحيى بن يَعْمَر وأبا فاختة تراجعا
في هذه الآية : { هُنَّ (7) أُمُّ الْكِتَابِ } فقال أبو فاختة : فواتح السور.
وقال يحيى بن يَعْمَر : الفرائض ، والأمر والنهي ، والحلال والحرام (8).
وقال ابن لَهِيعَة ، عن عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير : { هُنَّ أُمُّ
الْكِتَابِ } يقول : أصل الكتاب ، وإنما سماهن أم الكتاب ؛ لأنهن مكتوبات في جميع
الكتب.
وقال مقاتل بن حيان : لأنه ليس من أهل دين إلا يرضى بهنّ.
وقيل في المتشابهات : إنهن المنسوخة ، والمقدم منه والمؤخر ، والأمثال فيه
والأقسام ، وما يؤمن به ولا يعمل به. رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
وقيل : هي الحروف المقطعة في أوائل السور ، قاله مقاتل بن حيان.
وعن مجاهد : المتشابهات يصدق بعضهن بعضًا. وهذا إنما هو في تفسير قوله : {
كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ } [ الزمر : 23 ] هناك ذكروا : أن المتشابه هو
الكلام الذي يكون في سياق واحد ، والمثاني هو الكلام في شيئين متقابلين كصفة الجنة
وصفة النار ، وذكر حال الأبرار ثم حال (9) الفجار ، ونحو ذلك فأما هاهنا فالمتشابه
هو الذي يقابل المحكم.
وأحسن ما قيل فيه الذي قدمناه ، وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار ، رحمه
الله ، حيث قال : { مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } فيهن حجة
الرب ، وعصمة العباد ، ودفع الخصوم والباطل ، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن
(10) عليه.
قال : والمتشابهات في الصدق ، لهن تصريف وتحريف وتأويل ، ابتلى الله فيهن العباد ،
كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا (11) يصرفن إلى الباطل ، ولا يحرّفن عن الحق.
__________
(1) في أ ، ر : "يحتمل".
(2) في أ ، ر : "يحتمل".
(3) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(4) في جـ ، ر : "يؤمن".
(5) زيادة من جـ ، ر.
(6) زيادة من أ ، و.
(7) في ر : "هي".
(8) تفسير ابن أبي حاتم (2/55).
(9) في و : "وحال".
(10) في أ : "وصفن".
(11) في جـ : "لا".
(2/7)
ولهذا
قال تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } أي : ضلال وخروج عن
الحق إلى الباطل { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } أي : إنما يأخذون منه
بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرّفوه إلى مقاصدهم الفاسدة ، وينزلوه عليها ، لاحتمال
لفظه لما يصرفونه (1) فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه ؛ لأنه دامغ لهم وحجة عليهم ،
ولهذا قال : { ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ } أي : الإضلال لأتباعهم ، إيهامًا لهم أنهم
يحتجون على بدعتهم بالقرآن ، وهذا حجة عليهم لا لهم ، كما لو احتج النصارى بأن
القرآن قد نطق بأن عيسى هو روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم ، وتركوا الاحتجاج
بقوله [تعالى] (2) { إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } [الزخرف : 59]
وبقوله : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ
تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] وغير ذلك من الآيات
المحكمة المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله ، وعبد ، ورسول من رسل الله.
وقوله : { وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } أي : تحريفه على ما يريدون (3) وقال مقاتل
والسدي : يبتغون أن يعلموا ما يكون وما عواقب الأشياء من (4) القرآن.
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب عن عبد الله بن أبي مُلَيْكَة ،
عن عائشة قالت : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { هُوَ الَّذِي أَنزلَ
عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ
مُتَشَابِهَاتٌ [فَأَمَّاالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ] (5) } إلى قوله : {
أُولُو الألْبَابِ } فقال : "فإذا رأيتم الذين يُجَادِلُون فيه فهم الذين
عَنَى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ (6).
هكذا وقع هذا الحديث في مسند الإمام أحمد ، رحمه الله ، من رواية ابن أبي
مُلَيْكَة ، عن عائشة ، ليس بينهما أحد.
وهكذا رواه ابن ماجة من طريق إسماعيل بن عُلَيَّة وعبد الوهاب الثقفي ، كلاهما عن
أيوب ، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة ، عنها (7).
ورواه محمد بن يحيى العبدي في مسنده عن عبد الوهاب الثقفي ، عن أيوب ، به. وكذا
رواه عبد الرزاق ، عن مَعْمَر (8) عن أيوب. وكذا رواه غير واحد عن أيوب. وقد رواه
ابن حبان في صحيحه ، من حديث أيوب ، به.
وتابع أيوب أبو عامر الخزاز (9) وغيره عن ابن أبي مليكة ، فرواه الترمذي عن
بُنْدار ، عن أبي داود الطيالسي ، عن أبي عامر الخزاز ، فذكره. وهكذا رواه سعيد بن
منصور في سننه ، عن حماد بن يحيى الأبَحّ ، عن عبد الله بن أبي مليكة ، عن عائشة.
ورواه ابن جرير ، من حديث روح بن القاسم ونافع بن عمر الجُمَحِيّ ، كلاهما عن ابن
أبي مليكة ، عن عائشة ، به. وقال نافع في روايته عن ابن أبي مليكة : حدثتني عائشةَ
، فذكره (10).
__________
(1) في جـ : "تصرفونه".
(2) زيادة من جـ ، ر.
(3) في أ : "يريدونه".
(4) في جـ ، ر ، أ : "في".
(5) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(6) في أ : "فاحذرهم".
(7) المسند (6/48) وابن ماجة في السنن برقم (47).
(8) في ر : "يعمر".
(9) في هـ ، جـ ، ر ، أ : "الخراز"
(10) عبد الرزاق في تفسيره برقم (376) وابن حبان في صحيحه (1/47)
"الإحسان" والترمذي في السنن برقم (2993) وسعيد بن منصور في السنن برقم
(492) وابن جرير في تفسيره (6/191).
(2/8)
وقد
روى هذا الحديث البخاري ، رحمه الله ، عند تفسير هذه الآية ، ومسلم في كتاب القدر
من صحيحه ، وأبو داود في السنة من سننه ، ثلاثتهم ، عن القَعْنَبِيِّ ، عن يزيد بن
إبراهيم التُّسْتَريّ ، عن ابن أبي مليكة ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة ، رضي
الله عنها ، قالت : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { هُوَ الَّذِي أَنزلَ
عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ [هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ
مُتَشَابِهَاتٌ ] (1) } إلى قوله : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ } قالت
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فإذا رأيتَ الذين يتَّبِعُون ما تشابه
منه فأولئك الذين سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ" لفظ البخاري (2).
وكذا رواه الترمذي أيضًا ، عن بندار ، عن أبي داود الطيالسي ، عن يزيد بن إبراهيم
التستري ، به. وقال : حسن صحيح. وذكر أن يزيد بن إبراهيم التستري تفرد بذكر القاسم
في هذا الإسناد ، وقد رواه غير واحد عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، ولم يذكروا
القاسم. كذا قال (3).
ورواه ابن المنذر في تفسيره من طريقين عن النعمان بن محمد بن الفضل السَّدُوسِيّ -
ولقبه عارم - حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا أيوب ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، به
(4).
وقد رواه ابن أبي حاتم فقال : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، حدثنا يزيد
بن إبراهيم التستري وحَمّاد بن سلمة ، عن ابن أبي مليكة ، عن القاسم بن محمد ، عن
عائشة قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل : { فَأَمَّا
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا رأيتم الذين يَتَّبِعُونَ ما تشابه منهُ
فأولئك الذين سَمَّى اللهُ ، فَاحْذَرُوهُمْ" (5).
وقال ابن جرير : حدثنا علي بن سهل حدثنا الوليد (6) بن مسلم ، عن حماد بن سلمة ،
عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : نزع رسول الله صلى الله عليه
وسلم بهذه الآية : { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ
} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قد حَذَّرَكُمُ اللهُ ، فإذا
رأيْتُمُوهم فَاعْرفُوهُمْ". ورواه ابن مَرْدُويه من طريق أخرى ، عن القاسم ،
عن عائشة به (7).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو كامل ، حدثنا حماد ، عن أبي غالب قال : سمعت أبا
أمامة يحدث ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { فَأَمَّاالَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } قال : "هم
الخوارج" ، وفي قوله : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ }.[آل
عمران : 106] قال : "هم الخوارج".
وقد رواه ابن مردويه من غير وجه ، عن أبي غالب ، عن أبي أمامة مرفوعا ، فذكره (8).
__________
(1) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(2) البخاري في صحيحه برقم (4547) ومسلم برقم (2665) وأبو داود في السنن برقم
(4598).
(3) سنن الترمذي برقم (2993 ، 2994).
(4) تفسير ابن المنذر كما في الدر (2/148) ورواه البيهقي في دلائل النبوة (6/546)
من طريق حماد بن زيد ، به.
(5) تفسير ابن أبي حاتم (2/64) ، ومسند الطيالسي برقم (1433).
(6) في أ : "أبو الوليد".
(7) تفسير الطبري (6/192) ، ورواه الآجري في الشريعة (ص 332).
(8) أحمد في المسند (5/262) ورواه الطبراني في الكبير (8/325) وابن أبي حاتم في
تفسيره (2/60) من طريق أبي غالب به.
(2/9)
وهذا
الحديث أقل أقسامه أن يكون موقوفًا من كلام الصحابي ، ومعناه صحيح ؛ فإن أوّل بدعة
وقعت في الإسلام فتنة الخوارج ، وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم رسول الله (1)
صلى الله عليه وسلم غنائم حُنَيْن ، فكأنهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنه لم يعدل في
القسمة ، ففاجؤوه بهذه المقالة ، فقال قائلهم - وهو ذو الخُوَيْصرة - بقر الله
خاصرته - اعدل فإنك لم تعدل ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لقد
خِبْتُ وخَسرْتُ إنْ لَمْ أكن أَعدل ، أيأمَنُني على أهل الأرض ولا
تَأمَنُونِي". فلما قفا الرجل استأذن عمر بن الخطاب - وفي رواية : خالد بن
الوليد - [ولا بُعد في الجمع] (2) - رسول الله في قتله ، فقال : "دَعْهُ فإنه
يخرج من ضِئْضِئ هذا - أي : من جنسه - قوم يَحْقِرُ أحدكم صلاته مع صلاتهم ،
وصيامه مع صيامهم ، وقراءته مع قراءتهم ، يَمْرُقُونَ من الدين كما يَمْرُقُ السهم
من الرّمِيَّة ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجْرًا (3) لمن قتلهم.
ثم كان ظهورهم أيام علي بن أبي طالب ، وقتلهم (4) بالنَّهْروان ، ثم تشعبت منهم
شعوب وقبائل وآراء وأهواء ومقالات ونِحَلٌ كثيرة منتشرة ، ثم نَبَعَت القَدَرَيّة
، ثم المعتزلة ، ثم الجَهْمِيَّة ، وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق
المصدوق في قوله : "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فِرْقَةً ، كلها في
النار إلا واحدة" قالوا : [من] (5) هم يا رسول الله ؟ قال : " من كان
على ما أنا عليه وأصحابي" أخرجه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة (6).
وقال الحافظ أبو يَعْلَى : حدثنا أبو موسى ، حدثنا عمرو بن عاصم ، حدثنا المعتمر ،
عن أبيه ، عن قتادة ، عن الحسن عن جندب بن عبد الله أنه بلغه ، عن حذيفة - أو سمعه
منه - يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر : " إن في أمّتي قومًا
يقرؤون القرآن يَنْثُرُونَهُ نَثْر الدَّقَل ، يَتَأوَّلُوْنَهُ على غير
تأويله". [لم] (7) يخرجوه (8).
[وقوله] (9) { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ } اختلف القراء في الوقف
هاهنا ، فقيل : على الجلالة ، كما تقدم عن ابن عباس أنه قال : التفسير على أربعة
أنحاء : فتفسير لا يعذر أحد في فهمه ، وتفسير تعرفه (10) العرب من لغاتها ، وتفسير
يعلمه الراسخون في العلم ، وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل. ويروى هذا القول عن
عائشة ، وعروة ، وأبي الشعثاء ، وأبي نَهِيك ، وغيرهم.
وقد قال الحافظ أبو القاسم في المعجم الكبير : حدثنا هاشم بن مرثد (11) حدثنا محمد
بن إسماعيل بن عياش ، حدثني أبي ، حدثني ضَمْضَم بن زُرْعَة ، عن شُرَيْح بن عبيد
، عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا
أخاف على أمّتي إلا ثلاث خلال : أن يكثر لهم المال
__________
(1) في و : "النبي".
(2) زيادة من جـ ، ر.
(3) في ر : "أجر" وهو خطأ.
(4) في جـ ، ر : "فقتلهم".
(5) في جـ ، ر : "ومن".
(6) المستدرك (1/28) من حديث عبد الله بن عمرو ، والزيادة هي قوله : "كلها في
النار إلا واحدة" ، وقد ضعفها ابن الوزير ونسبه إلى ابن حزم ، وللشيخ ناصر
الألباني بحث أثبت فيه صحة هذه الزيادة فليراجع السلسلة الصحيحة برقم (204).
(7) في جـ : "ولم".
(8) وذكره الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (3/300) وعزاه لأبي يعلى ، لكنه ذكره
من حديث عائشة.
(9) زيادة من و.
(10) في ر : "يعرفه".
(11) في هـ ، جـ ، ر ، أ : "مزيد".
(2/10)
فيتحاسدوا
فيقتتلوا ، وأن يفتح لهم الكتاب (1) فيأخذه (2) المؤمن يبتغي تأويله ، { وَمَا
يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ
آمَنَّا بِهِ [كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو
الألْبَابِ] (3) } الآية ، وأن يزداد علمهم فيضيعوه ولا يبالون عليه " غريب
جدا (4) وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، أخبرنا
أحمد بن عمرو ، أخبرنا هشام بن عمار ، أخبرنا ابن أبي حاتم (5) عن أبيه ، عن عمرو
بن شعيب ، عن أبيه ، عن ابن العاص ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضًا ، فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما تشابه
منه فآمنوا به" (6).
وقال عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمَر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : كان ابن عباس
يقرأ : "وما يعلم تأويله إلا الله ، ويقول الراسخون : آمنا به" (7) وكذا
رواه ابن جرير ، عن عمر بن عبد العزيز ، ومالك بن أنس : أنهم يؤمنون به ولا يعلمون
تأويله. وحكى ابن جرير أن في قراءة عبد الله بن مسعود : "إن تأويله إلا عند
الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به". وكذا عن أبي بن كعب. واختار ابن
جرير هذا القول.
ومنهم من يقف على قوله : { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } وتبعهم كثير من
المفسرين وأهل الأصول ، وقالوا : الخطاب بما لا يفهم بعيد.
وقد روى ابن أبي نجَِيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس أنه قال : أنا من الراسخين الذين
يعلمون تأويله. وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : والراسخون في العلم يعلمون تأويله
ويقولون آمنا به. وكذا قال الربيع بن أنس.
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ }
الذي أراد ما أراد { إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ
آمَنَّا بِهِ } ثم ردوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المُحْكَمَة التي لا
تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد ، فاتسق بقولهم الكتاب ، وصدق بعضه (8) بعضًا ،
فنفذت الحجة ، وظهر به العذر ، وزاح به الباطل ، ودفع به الكفر.
وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس فقال : "اللهم فَقِّهْهُ
في الدين وعلمه التأويل".
ومن العلماء من فصل في هذا المقام ، فقال : التأويل يطلق ويراد به في القرآن
معنيان ، أحدهما : التأويل بمعنى حقيقة الشيء ، وما يؤول أمره إليه ، ومنه قوله
تعالى : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ
يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا }
[ يوسف : 100] وقوله (9) { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي
تَأْوِيلُهُ } [ الأعراف : 53] أي : حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد ، فإن أريد
__________
(1) في ر ، أ : "الكتب" وفي و : "تفتح لهم الكتب".
(2) في جـ : "ليأخذ".
(3) زيادة من أ ، و.
(4) الطبراني في الكبير (3/292) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/128) : "فيه
محمد بن إسماعيل بن عياش عن أبيه ولم يسمع من أبيه".
(5) في جـ ، ر ، أ ، و : "حازم".
(6) ورواه ابن الضريس في فضائل القرآن ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (4/1/197)
وإسناده حسن.
(7) عبد الرزاق في تفسيره برقم (377).
(8) في جـ : "بعضهم".
(9) في أ : "وقال".
(2/11)
بالتأويل
هذا ، فالوقف على الجلالة ؛ لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله
عز وجل ، ويكون قوله : { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } مبتدأ و { يَقُولُونَ
آمَنَّا بِهِ } خبره. وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر (1) وهو التفسير
والتعبير والبيان عن الشيء كقوله تعالى : { نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } [ يوسف :
36 ] أي : بتفسيره ، فإن أريد به هذا المعنى ، فالوقف على : { وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ } لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار ، وإن لم يحيطوا
علمًا بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه ، وعلى هذا فيكون قوله : { يَقُولُونَ
آمَنَّا بِهِ } حالا (2) منهم ، وساغ هذا ، وهو أن يكون من المعطوف دون المعطوف
عليه ، كقوله : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ
دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } إلى قوله : { [وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ
] (3) يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا [الَّذِينَ سَبَقُونَا
بِالإيمَانِ] (4) } الآية [ الحشر : 8 - 10 ] ، وكقوله تعالى : { وَجَاءَ رَبُّكَ
وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } [الفجر : 22 ] أي : وجاءت الملائكة صفوفًا صفوفًا.
وقوله إخبارًا عنهم أنهم { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } أي : بالمتشابه { كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ رَبِّنَا } أي : الجميع من المحكم والمتشابه حق وصدق ، وكل واحد منهما يصدق
الآخر ويشهد له ؛ لأن الجميع من عند الله وليس شيء من عند الله بمختلف ولا متضاد
لقوله : { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ
اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا } [ النساء : 82 ] ولهذا قال تعالى
: { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ } أي : إنما يفهم ويعقل ويتدبر
المعاني على وجهها أولو العقول السليمة والفهوم المستقيمة.
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف الحِمْصَيّ ، حدثنا نُعَيْم بن حماد ،
حدثنا فياض الرَّقِّيّ ، حدّثنا عبد الله (5) بن يزيد - وكان قد أدرك أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم : أنسًا ، وأبا أمامة ، وأبا الدرداء ، رضي الله عنهم ، قال :
حدثنا أبو الدرداء ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخين في العلم ،
فقال : "من بَرَّت يمينه ، وصدق لسانه ، واستقام قلبه ، ومن أَعَفَّ (6) بطنه
وفرجه ، فذلك من الراسخين في العلم" (7).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عمر بن
شعيب عن أبيه ، عن جده قال : سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا يتدارءون
فقال : "إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، وإنما
أنزل (8) كتاب الله ليصدق بعضه بعضًا ، فلا تكذبوا بعضه ببعض ، فما علمتم منه
فقولوا ، وما جهلتم فَكِلُوهُ إلى عَالِمِه" (9).
__________
(1) في أ : "الأخير".
(2) في ر : "حال" وهو خطأ.
(3) زيادة من أ ، و.
(4) زيادة من أ ، و.
(5) في و : "عبيد الله".
(6) في أ ، و : "عف".
(7) تفسير ابن أبي حاتم (2/72) ورواه الطبري (6/207) والطبراني في الكبير كما في
الدر (2/151) من طريق عبد الله بن يزيد به. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/324) :
"عبد الله بن يزيد ضعيف".
(8) في جـ ، ر ، أ ، و : "نزل".
(9) المسند (2/185) ورواه ابن ماجة برقم (85) والبغوي في شرح السنة (1/260) من
طريق عمرو بن شعيب به. وقال البوصيري في "زوائد ابن ماجة" (1/58) :
"إسناده صحيح ورجاله ثقات".
(2/12)
و[قد]
(1) تقدم رواية ابن مردويه لهذا الحديث ، من طريق هشام بن عمار ، عن ابن أبي حازم
(2) عن أبيه ، عن عمرو بن شعيب ، به.
وقد قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده ، حدثنا زهير بن
حرب ، حدثنا أنس بن عياض ، عن أبي حازم ، عن أبي سلمة قال : لا أعلمه إلا عن أبي
هريرة ، أن (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "نزل القرآن على سبعة
أحرف ، والمِرَاءُ في القرآن كفر - ثلاثًا - ما عرفتم منه فاعملوا به ، وما جهلتم
منه فردوه إلى عالمه".
وهذا إسناد صحيح ، ولكن فيه علة بسبب قول الراوي : "لا أعلمه إلا عن أبي
هريرة" (4).
وقال ابن المنذر في تفسيره : أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أخبرنا ابن
وهب قال : أخبرني نافع بن يزيد قال : يقال : الراسخون في العلم المتواضعون لله ،
المتذللون لله في مرضاته ، لا يتعاطون (5) من فوقهم ، ولا يحقرون من دونهم. [ولهذا
قال تعالى : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ } أي : إنما يفهم ويعقل
ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة أو الفهوم المستقيمة] (6).
ثم قال تعالى عنهم مخبرًا أنهم (7) دعوا ربهم قائلين : { رَبَّنَا لا تُزِغْ
قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } أي : لا تملها عن الهدى بعد إذ أقمتها عليه
ولا تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغ ، الذين يتبعون ما تشابه من القرآن ولكن ثبتنا
على صراطك المستقيم ، ودينك القويم { وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ } أي : من عندك {
رَحْمَةً } تثبت بها قلوبنا ، وتجمع بها شملنا ، وتزيدنا بها إيمانًا وإيقانًا {
إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأوْدِي - وقال ابن جرير : حدثنا أبو
كُرَيْب - قالا جميعًا : حدثنا وَكِيع ، عن عبد الحميد بن بَهْرام ، عن شهر بن
حَوْشَب ، عن أم سلمة ، رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :
"يا مُقَلِّبَ القلوب ثَبِّتْ قلبي على دينك" ثم قرأ : { رَبَّنَا لا
تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً
إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } رواه ابن مردويه من طريق محمد بن بَكَّار ، عن عبد
الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن أم سلمة ، وهي (8) أسماء بنت يزيد (9) بن
السكن ، سمعها تحد ث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه :
"اللهم مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك" قالت : قلت : يا رسول الله ،
وإن القلب ليتقلب (10) ؟ قال : "نعم ، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا أن
قلبه بين أصبعين من أصابع الله عز وجل ، فإن شاء أقامه ، وإن شاء أزاغه".
فنسأل الله ربنا ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة ،
إنه هو الوهاب.
وهكذا رواه ابن جرير من حديث أسد بن موسى ، عن عبد الحميد بن بهرام ، به مثله.
ورواه أيضًا عن المثنى ، عن الحجاج بن مِنْهَال ، عن عبد الحميد بن بهرام ، به
مثله ، وزاد : "قلت (11) يا رسول الله ،
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في جـ ، ر ، أ : "حاتم".
(3) في أ : "فإن".
(4) أبو يعلى في المسند برقم (6016) ومن طريقه رواه ابن حبان في صحيحه (1/146)
"الإحسان" ورواه أحمد في المسند (2/300) والنسائي في الكبرى (5/33) من
طريق أنس بن عياض به. وليس في رواية النسائي الشك "لا أعلمه".
(5) في جـ ، أ : "يتعاظمون".
(6) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(7) في جـ ، ر : "عنهم".
(8) في و : "عن".
(9) في أ : "زيد".
(10) في و : "ليقلب".
(11) في أ ، و : "وزاد : "قالت : قلت".
(2/13)
ألا
تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي ؟ قال : "بلى قولي : اللهم رب النبي محمد ، اغفر
لي ذنبي ، وأذهب غَيْظ قلبي ، وأجِرْنِي من مُضِلاتِ الفتن" (1).
ثم قال ابن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا محمد بن هارون بن بكار الدمشقي
، أخبرنا العباس بن الوليد الخلال ، أخبرنا يزيد بن يحيى بن عبيد الله ، أخبرنا
سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن أبي حسان الأعرج (2) عن عائشة ، رضي الله عنها ،
قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يدعو : "يا مقلب القلوب ،
ثبت قلبي على دينك" ، قلت : يا رسول الله ، ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء.
فقال : "ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن ، إذا شاء أن يقيمه
أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه ، أما تسمعين قوله : { رَبَّنَا لا تُزِغْ
قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ
أَنْتَ الْوَهَّابُ }. غريب من هذا الوجه ، ولكن أصله ثابت في الصحيحين ، وغيرهما
من طرق كثيرة بدون زيادة ذكر هذه الآية الكريمة.
وقد روى أبو داود والنسائي وابن مردويه ، من حديث أبي عبد الرحمن المقري - زاد
النسائي وابن حبان : وعبد الله بن وهب ، كلاهما عن سعيد بن أبي أيوب حدّثني عبد
الله بن الوليد التُّجيبي ، عن سعيد بن المسيب ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من الليل قال : "لا إله إلا أنت
سبحانك ، اللهم إني أستغفرك لذنبي ، وأسألك رحمة ، اللهم زدني علمًا ، ولا تزغ
قلبي بعد إذ هديتني ، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب" لفظ ابن مردويه
(3).
وقال عبد الرزاق ، عن مالك ، عن أبي عبيد - مولى سليمان بن عبد الملك - عن عبادة
بن نُسَيّ ، أنه أخبره ، أنه سمع قيس بن الحارث يقول : أخبرني أبو عبد الله
الصُنَابِحي ، أنه صلى وراء أبي بكر الصديق المغرب ، فقرأ أبو بكر في الركعتين
الأوليين (4) بأم القرآن وسورتين من قصار المفصل ، وقرأ في الركعة الثالثة ، قال :
فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس ثيابه ، فسمعته يقرأ (5) بأم القرآن وهذه الآية
: { رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [وَهَبْ لَنَا مِنْ
لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ] (6) (7) }.
قال أبو عبيد : وأخبرني عُبَادة بن نُسَيّ : أنه كان عند عمر بن عبد العزيز في
خلافته ، فقال عمر لقيس : كيف أخبرتني عن أبي عبد الله الصنابحي فأخبره بما سمع
أبا عبد الله ثانيا. قال عمر : فما تركناها منذ سمعناها منه ، وإن كنت (8) قبل ذلك
لَعَلَى غير ذلك. فقال له رجل : على أي شيء كان
__________
(1) ابن أبي حاتم في تفسيره (2/84) والطبري في تفسيره (6/213) ورواه أحمد في
المسند (6/315) والترمذي في السنن (3522) وابن أبي عاصم في السنة برقم (223) من
طريق أبي كعب صاحب الحرير عن شهر بن حوشب به. وللحديث شواهد عن عائشة وأنس وجابر
والنواس بن سمعان رضي الله عنهم.
(2) في هـ ، جـ ، ر ، أ : "عن حسان الأعرج".
(3) أبو داود في السنن برقم (5061) والنسائي في الكبرى برقم (10701).
(4) في ر : "الأولتين".
(5) في و : "يقرأ أي في الثالثة".
(6) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(7) رواه مالك في الموطأ (1/79).
(8) في أ : "كعب".
(2/14)
أمير
المؤمنين قبل ذلك ؟ قال : كنت أقرأ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1]
وقد روى هذا الأثر الوليد بن مسلم ، عن مالك والأوزاعي ، كلاهما عن أبي عبيد ،
به.ورواه الوليد أيضًا ، عن ابن جابر ، عن يحيى بن يحيى الغساني ، عن محمود بن
لبيد ، عن الصُّنَابِحي : أنه صلى خلف أبي بكر ، رضي الله عنه ، المغرب فقرأ في
الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة قصيرة ، يجهر بالقراءة ، فلما قام إلى الثالثة ابتدأ
القراءة فدنوت منه حتى إن ثيابي لتمس ثيابه ، فقرأ هذه الآية : { رَبَّنَا لا
تُزِغْ قُلُوبَنَا [ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً
إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ] (1) }.
وقوله : { رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ
اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } أي : يقولون في دعائهم : إنك - يا ربنا - ستجمع
بين خلقك يوم معادهم ، وتفصل بينهم وتحكم فيهم (2) فيما اختلفوا فيه ، وتجزي كلا
بعمله ، وما كان عليه في الدنيا من خير وشر.
__________
(1) زيادة من جـ ، ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(2) في أ ، و : "بينهم".
(2/15)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)
{
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ
مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ
فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ
اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) }
يخبر تعالى عن الكفار أنهم وقود النار ، { يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ
مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ غافر : 52 ]
وليس ما أوتوه في الدنيا من الأموال والأولاد بنافع لهم عند الله ، ولا بمنجيهم من
عذابه وأليم عقابه ، بل كما قال تعالى : { وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ
وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا
وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 85 ] وقال تعالى : { لا
(1) يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ
ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } [ آل عمران : 196 : 197 ] كما
قال هاهنا : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : بآيات الله وكذبوا رسله ، وخالفوا
كتابه ، ولم ينتفعوا بوحيه إلى أنبيائه { لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ
وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ } أي :
حطبها الذي تسجر به وتوقد به ، كقوله : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ] } (2) [الأنبياء : 98].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي مريم ، أخبرنا ابن لَهِيْعة ،
أخبرني ابن الهاد ، عن هند بنت الحارث ، عن أم الفضل أم عبد الله بن عباس قالت :
بينما نحن بمكة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل ، فقال (3) هل بلغت ،
اللهم هل بلغت..." ثلاثًا ، فقام عمر بن الخطاب فقال : نعم. ثم أصبح فقال
النبي صلى الله عليه وسلم : "ليظهرن الإسلام حتى يرد الكفر إلى مواطنه ،
وَلَتَخُوضُنَّ (4) البحار بالإسلام ، وليأتين على الناس زمان يتعلمون القرآن
ويقرؤونه ، ثم يقولون : قد قرأنا وعلمنا ، فمن هذا الذي هو خير منا ، فهل في أولئك
من خير ؟" قالوا : يا رسول الله ، فمن أولئك ؟ قال : "أولئك منكم (5)
وأولئك هم
__________
(1) في جـ ، ر : "ولا" وهو خطأ.
(2) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(3) في أ ، و : "فنادى".
(4) في أ : " : وليخوضن".
(5) في جـ ، أ ، و : منهم".
(2/15)
وقود
النار". وكذا رأيته بهذا اللفظ.
وقد رواه ابن مردويه من حديث يزيد بن عبد الله بن الهاد ، عن هند بنت الحارث ،
امرأة عبد الله بن شداد ، عن أم الفضل ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة
بمكة فقال : "هل بلغت" يقولها ثلاثا ، فقام عمر بن الخطاب - وكان
أوَّاها - فقال : اللهم نعم ، وحرصتَ وجهدتَ ونصحتَ فاصبر. فقال النبي صلى الله
عليه وسلم : "ليظهرن الإيمان حتى يردّ الكفر إلى مواطنه ، وليخوضنّ رجال البحار
بالإسلام (1) وليأتين على الناس زمان يقرؤون القرآن ، فيقرؤونه ويعلمونه ، فيقولون
: قد قرأنا ، وقد علمنا ، فمن هذا الذي هو خير منا ؟ فما في أولئك من خير"
قالوا : يا رسول الله ، فمن أولئك ؟ قال : "أولئك منكم ، وأولئك هم وقود
النار" (2) ثم رواه من طريق موسى بن عبيد ، عن محمد بن إبراهيم ، عن بنت
الهاد ، عن العباس بن عبد المطلب بنحوه.
وقوله تعالى : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } قال الضحاك ، عن ابن عباس : كصنيع آل
فرعون. وكذا روي عن عكرمة ، ومجاهد ، وأبي مالك ، والضحاك ، وغير واحد ، ومنهم من
يقول : كسنة آل فرعون ، وكفعل آل فرعون وكشبه (3) آل فرعون ، والألفاظ متقاربة.
والدأب - بالتسكين ، والتحريك أيضًا كنَهْر ونَهَر - : هو الصنع (4) والشأن والحال
والأمر والعادة ، كما يقال : لا يزال هذا دأبي ودأبك ، وقال امرؤ القيس :
وقوفا بها صحبي على مطيهم... يقولون : لا تهلك (5) أسى وتجمل (6)
كدأبك من أم الحويرث (7) قبلها... وجارتها أم الرباب بمأسل (8)
والمعنى : كعادتك في أم الحويرث حين أهلكت نفسك في حبها وبكيت دارها ورسمها.
والمعنى في الآية : أن الكافرين لا تغني (9) عنهم الأولاد ولا الأموال ، بل يهلكون
ويعذبون ، كما جرى لآل فرعون ومن قبلهم من المكذبين للرسل (10) فيما جاؤوا (11) به
من آيات الله وحججه.
{ [كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ] (12) وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي :
شديد الأخذ أليم العذاب ، لا يمتنع منه أحد ، ولا يفوته شيء بل هو الفعال لما يريد
، الذي [قد] (13) غلب كل شيء وذل له كل شيء ، لا إله غيره ولا رب سواه.
__________
(1) في جـ : "بإسلامهم".
(2) تفسير ابن أبي حاتم (2/90) وفيه ابن لهيعة ، وقد توبع ، تابعه عبد العزيز بن
أبي حازم عن يزيد بن الهاد به. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (12/250) قال
الهيثمي في مجمع الزوائد : (1/186) "رجاله ثقات ، إلا أن هند بنت الحارث
الخثعمية التابعية لم أر من وثقها ولا من جرحها".
(3) في أ ، و : "وكشبيه".
(4) في جـ ، ر ، أ ، و : "الصنيع".
(5) في جـ ، ر ، أ ، و : "تأسف".
(6) في جـ ، ر ، أ : "تحملي" ، وفي و : "تحمل".
(7) في أ : "الحويرة".
(8) البيت في تفسير الطبري (6/225) وديوان امرئ القيس (125) ، والبيت من معلقته
المشهورة.
(9) في ر ، أ "يغني".
(10) في جـ ، ر : "بالرسل".
(11) في جـ ، ر ، أ ، و : "جاءوهم".
(12) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(13) زيادة من أ ، و.
(2/16)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
{
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ
الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ
تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ
رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ (13) }
يقول تعالى : قل يا محمد للكافرين : { سَتُغْلَبُونَ } أي : في الدنيا ، {
وَتُحْشَرُونَ } أي : يوم القيامة { إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ }.
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن (1) يسار ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ؛ أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم لما أصاب من أهل بدر ما أصاب ورجع إلى المدينة ، جمع اليهود في سوق
بني قَيْنُقَاع وقال : " يا معشر يهود ، أسلموا قبل أن يصيبكم الله ما (2)
أصاب قريشًا". فقالوا : يا محمد ، لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرًا من قريش
كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال ، إنك والله لو (3) قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس ،
وأنك لم تلق مثلنا ؟ فأنزل الله في ذلك من قولهم : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } إلى قوله : {
لَعِبْرَةً (4) لأولِي الأبْصَارِ } (5).
وقد رواه ابن إسحاق أيضًا ، عن محمد بن أبي محمد ، عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس
فذكره ؛ ولهذا قال تعالى : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ } أي : قد كان لكم - أيها
اليهود القائلون ما قلتم - { آيَةٌ } أي : دلالة على أن الله معز دينه ، وناصر
رسوله ، ومظهر كلمته ، ومعل أمره { فِي فِئَتَيْنِ } أي : طائفتين { الْتَقَتَا }
أي : للقتال { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وهم المسلمون ، { وَأُخْرَى
كَافِرَةٌ } وهم مشركو قريش يوم بدر.
وقوله : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ } قال بعض العلماء - فيما
حكاه ابن جرير : يرى المشركون يوم بدر المسلمين مثليهم في العدد رأي أعينهم ، أي :
جعل الله ذلك فيما رأوه سببًا لنصرة الإسلام عليهم. وهذا لا إشكال عليه إلا من جهة
واحدة ، وهي أن المشركين بعثوا عمر بن سعد يومئذ قبل القتال يحزر (6) لهم المسلمين
، فأخبرهم بأنهم ثلاثمائة ، يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا. وهكذا كان الأمر ،
كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ثم لما وقع القتال أمدّهم الله بألف من خواص
الملائكة وساداتهم.
والقول الثاني : " أن المعنى في قوله : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ
الْعَيْنِ } أي : ترى الفئة المسلمة الفئة الكافرة مثليهم ، أي : ضعفيهم في العدد
، ومع هذا نصرهم (7) الله عليهم. وهذا لا إشكال فيه على ما رواه العوفي ، عن ابن
عباس أن المؤمنين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا والمشركين (8) كانوا
ستمائة وستة وعشرين رجلا. وكأن هذا القول مأخوذ من ظاهر هذه الآية ، ولكنه خلاف
المشهور عند أهل التواريخ والسير وأيام الناس ، وخلاف المعروف عند الجمهور من أن
المشركين كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف كما رواه محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن
رومان ، عن عروة بن الزبير ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأل ذلك العبد
__________
(1) في ر : "عن".
(2) في جـ ، ر : "بما".
(3) في جـ ، ر : "إن".
(4) في ر ، و : "عبرة".
(5) السيرة لابن إسحاق (ق 162 ظاهرية).
(6) في أ ، و : "يحرز".
(7) في أ : "نصر".
(8) في جـ ، ر ، أ : "والمشركون".
(2/17)
الأسود
لبني الحجاج عن عدّة قريش ، فقال : كثير ، قال : "كم ينحرون كل يوم ؟"
قال : يومًا تسعًا (1) ويومًا عشرًا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
"القوم ما بين التسعمائة إلى الألف" (2).
وروى (3) أبو إسحاق السَّبِيعي ، عن حارثة ، عن علي ، قال : كانوا ألفًا ، وكذا
قال ابن مسعود. والمشهور أنهم كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف ، وعلى كل تقدير
فقد كانوا ثلاثة أمثال المسلمين ، وعلى هذا فيشكل هذا القول والله أعلم. لكن وجه
ابن جرير هذا ، وجعله صحيحًا كما تقول : عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها ، وتكون
(4) محتاجًا إلى ثلاثة آلاف ، كذا قال. وعلى هذا فلا إشكال.
لكن بقي سؤال آخر وهو وارد على القولين ، وهو أن يقال : ما الجمع بين هذه الآية وبين
قوله تعالى في قصة بدر : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي
أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ
أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا } ؟ [ الأنفال : 44 ] والجواب : أن هذا كان في حال ،
والآخر كان في حال (5) أخرى ، كما قال السُّدِّي ، عن [مرة] الطيب (6) عن ابن
مسعود في قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا [فِئَةٌ
تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ
رَأْيَ الْعَيْنِ ] (7) } الآية ، قال : هذا يوم بدر. قال عبد الله بن مسعود : وقد
نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يُضْعَفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون
علينا رجلا واحدًا ، وذلك قوله (8) تعالى : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ
الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ }.
وقال أبو إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : لقد
قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جانبي (9) تراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة. قال
: فأسرنا رجلا منهم فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفا. فعندما عاين كل الفريقين الآخر
رأى المسلمون المشركين مثليهم ، أي : أكثر منهم بالضعف ، ليتوكلوا ويتوجهوا
ويطلبوا الإعانة من ربهم ، عز وجل. ورأى المشركون المؤمنين كذلك ليحصل لهم الرعب
والخوف والجزع والهلع ، ثم لما حصل التصاف (10) والتقى الفريقان قلل الله هؤلاء في
أعين هؤلاء ، وهؤلاء في أعين هؤلاء ، ليقدم كل منهما على الآخر.
{ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا } أي : ليفرّق بين الحق والباطل ،
فيظهر كلمة الإيمان على الكفر ، ويعز المؤمنين ويذل الكافرين ، كما قال تعالى : {
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } [ آل عمران : 123 ]
وقال هاهنا : { وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ } أي : إن في ذلك لمعتبرًا لمن له بصيرة وفهم يهتدي
به إلى حكم الله وأفعاله ، وقدره الجاري بنصر عباده المؤمنين في هذه الحياة الدنيا
ويوم يقوم الأشهاد.
__________
(1) في جـ ، ر ، أ : "قال ينحرون يوما تسعا".
(2) السيرة النبوية لابن هشام (1/616).
(3) في أ : "قال".
(4) في أ : "ويكون".
(5) في أ ، و : "حالة".
(6) في هـ : "عن الطيب".
(7) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(8) في جـ ، ر ، أ ، و : "قول".
(9) في جـ ، ر : "جنبي".
(10) في أ ، و : "المصاف".
(2/18)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)
{
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ
وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ
الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ
ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) }
يخبر تعالى عما زُيِّن للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء
والبنين ، فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد ، كما ثبت في الصحيح أنه ، عليه السلام
، قال (1) مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ
النِّساء". فأما إذا كان القصد بهن الإعفاف وكثرة الأولاد ، فهذا مطلوب مرغوب
فيه مندوب إليه ، كما وردت الأحاديث بالترغيب في التزويج والاستكثار منه ،
"وإنَّ خَيْرَ هَذه الأمَّةِ كَانَ أكْثرهَا نسَاءً" (2) وقوله ، عليه
السلام (3) الدُّنْيَا مَتَاع ، وخَيْرُ مَتَاعِهَا المرْأةُ الصَّالحةُ ، إنْ
نَظَرَ إلَيْها سَرَّتْهُ ، وإنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْه ، وإنْ غَابَ عَنْها
حَفِظْتُه في نَفْسهَا وَمَالِهِ" (4) وقوله في الحديث الآخر : "حُبِّبَ
إلَيَّ النِّسَاءُ والطِّيبُ (5) وجُعلَتْ قُرة عَيْني فِي الصَّلاةِ" (6)
وقالت عائشة ، رضي الله عنها : لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
من النساء إلا الخيل ، وفي رواية : من الخيل إلا النساء (7).
وحب البنين تارة يكون للتفاخر والزينة فهو داخل في هذا ، وتارة يكون لتكثير النسل
، وتكثير أمة محمد صلى الله عليه وسلم ممن يعبد الله وحده لا شريك له ، فهذا محمود
ممدوح ، كما ثبت في الحديث : "تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الوَلُودَ ، فَإنِّي
مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأمَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ" (8)
وحب المال - كذلك - تارة يكون للفخر والخيلاء والتكبر على الضعفاء ، والتجبر على
الفقراء ، فهذا مذموم ، وتارة يكون للنفقة في القربات وصلة الأرحام والقرابات ووجوه
البر والطاعات ، فهذا ممدوح محمود (9) عليه شرعًا.
وقد اختلف المفسرون في مقدار القنطار على أقوال ، وحاصلها : أنه المال الجزيل ،
كما قاله
__________
(1) في جـ ، ر ، أ ، و : "أنه قال صلى الله عليه وسلم" ، وفي ر :
"أنه قال عليه السلام".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (5069) موقوفا على ابن عباس.
(3) في جـ : "صلى الله عليه وسلم".
(4) رواه مسلم في صحيحه برقم (1467) والنسائي في السنن (6/69) وابن ماجه في السنن
برقم (1855) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
(5) في جـ ، ر : "الطيب والنساء".
(6) رواه أحمد في المسند (3/128) والنسائي في السنن (7/61) من حديث أنس بن مالك
رضي الله عنه.
(7) رواه النسائي في الكبرى (4404) من طريق سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك ، به.
وله شاهد من حديث معقل بن يسار ، رواه أحمد في مسنده (5/27).
(8) رواه أبو داود في السنن برقم (2050) والنسائي في السنن (6/65) وابن حبان في
صحيحه برقم (1229) "موارد" والحاكم في المستدرك (2/162) وصححه وأقره
الذهبي من حديث معقل بن يسار.
ورواه أحمد في المسند (3/158) وابن حبان في صحيحه برقم (1228) والبيهقي في السنن
الكبرى (7/81 ، 82) من حديث أنس بن مالك.
(9) في ر : "محسود".
(2/19)
الضحاك
وغيره ، وقيل : ألف دينار. وقيل : ألف ومائتا دينار. وقيل : اثنا عشر ألفا. وقيل :
أربعون ألفا. وقيل : ستون ألفا وقيل : سبعون ألفا. وقيل : ثمانون ألفا. وقيل غير
ذلك.
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا (1) حماد ، عن عاصم ، عن أبي صالح
، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"القِنْطَارُ اثْنَا عَشَرَ ألْف أوقيَّةٍ ، كُلُّ أوقِيَّةٍ خَيْر مِمَّا
بَيْنَ السَّمَاءِ والأرْضِ".
وقد رواه ابن ماجة ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن عبد الصمد بن عبد الوارث ، عن
حماد ابن سلمة ، به. وقد رواه ابن جرير عن بُنْدار ، عن ابن مهدي ، عن حماد بن زيد
، عن عاصم - هو ابن بَهْدَلة - عن أبي صالح ، عن أبي هريرة (2) موقوفا ، وهذا أصح.
وهكذا رواه ابن جرير عن معاذ بن جبل وابن عمر. وحكاه ابن أبي حاتم ، عن أبي هريرة
وأبي الدرداء ، أنهم قالوا : القنطار ألف ومائتا أوقية.
ثم قال ابن جرير : حدثني زكريا بن يحيى الضرير ، حدثنا شبابة ، حدثنا مَخْلَد بن
عبد الواحد ، عن علي بن زيد ، عن عطاء بن أبي ميمونة ، عن زِرّ بن حُبَيْش عن أبيّ
بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "القِنْطَارُ ألْفُ
أوقِيَّةٍ ومائَتَا أوقِيَّةٍ" (3).
وهذا حديث منكر أيضًا ، والأقربُ أن يكون موقوفا على أبي بن كعب ، كغيره من
الصحابة. وقد روى ابن مَرْدُويَه ، من طريق موسى بن عُبَيْدة الرَبَذِي (4) عن
محمد بن إبراهيم عن يحنَّش (5) أبي موسى ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَنْ قَرَأ مائة آيةٍ لَمْ يُكْتَبْ
مِنَ الْغَافِلِينَ ، ومَنْ قَرَأ مِائَةَ آيةٍ إِلَى ألْف أصْبَح لَهُ قِنْطار
مِنْ أجْرٍ عندَ الله ، القِنْطارُ مِنْهُ مِثلُ الجبَلِ العَظِيمِ". ورواه وَكِيع
، عن موسى بن عُبَيدة ، بمعناه (6) وقال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو العباس
محمد بن يعقوب ، حدثنا أحمد بن عيسى بن زيد اللخمي بتنِّيس (7) حدثنا عَمْرو (8)
بن أبي سلمة ، حدثنا زهير بن محمد ، حدثنا حُمَيد الطويل ، ورجل آخر ، عن أنس بن
مالك قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله ، عز وجل : {
وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ } قال : "القِنْطَارُ ألفا
أُوقِيَّةٍ". صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، هكذا رواه الحاكم (9).
__________
(1) في جـ : "عن".
(2) المسند (2/363) وابن ماجة في السنن برقم (3660) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم
(663) "موارد". قال البوصيري في مصباح الزجاجة : "إسناده صحيح
ورجاله ثقات" والأرجح تحسينه للكلام في عاصم بن بهدلة. ورواه ابن جرير الطبري
في تفسيره (6/244) موقوفا.
(3) تفسير الطبري (6/245) وفي إسناده مخلد بن عبد الواحد ، ضعفه أبو حاتم ، وقال
ابن حبان : "منكر الحديث جدا".
(4) في جـ ، ر : "الترمذي".
(5) في جـ ، ر : "يحنس".
(6) ورواه عبد بن حميد في تفسيره ، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره (2/107) من طريق
وكيع به ، وهو مضطرب ، فتارة يروى خمسين ، وتارة يروى ألفا ، وتارة يروى مائة ،
وقد اختلف فيه على موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف.
(7) في ر : "تبتيس".
(8) في المخطوطة أ ، و : "محمد بن عمرو بن أبي سلمة" وهو خطأ.
(9) المستدرك (2/178) وصححه الحاكم وأقره الذهبي ، وفي إسناده عمرو بن أبي سلمة
الشامي ضعيف خاصة إذا روى عن زهير. قال الإمام أحمد : "روى عن زهير أحاديث
بواطيل كأنه سمعها من صدقة بن عبد الله فغلط فقلبها زهير".
(2/20)
وقد
رواه ابن أبي حاتم بلفظ آخر فقال : حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الرَّقِّي ، حدثنا
عمرو ابن أبي سلمة ، حدثنا زهير - يعني ابن محمد - حدثنا حميد الطويل ورجل آخر قد
سماه - يعني يزيد الرَّقَاشي - عن أنس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله
: قنطار ، يعني : "ألف دينار". وهكذا [رواه] (1) ابن مَرْدُويه ، ورواه
(2) الطبراني ، عن عبد الله بن محمد بن أبي مريم ، عن عَمْرو بن أبي سلمة ، فذكر
بإسناده مثله سواء (3).
وروى ابن جرير عن الحسن البصري مرسلا عنه وموقوفا عليه : القنطار ألف ومائتا
دينار. وكذا (4) رواه العَوْفي عن ابن عباس.
وقال الضحاك : من العرب من يقول : القنطار ألف دينار. ومنهم من يقول : اثنا عشر
ألفا.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عارِم ، عن حَمّاد ، عن سعيد الجُرَيرِي
(5) عن أبي نضْرة ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : [القنطار] (6) ملء
مَسْك الثور ذهبا.
قال أبو محمد : ورواه محمد بن موسى الحرشي ، عن حماد بن زيد ، مرفوعا. والموقوف
أصح (7).
وحب الخيل على ثلاثة أقسام ، تارة يكون ربطَها أصحابُها معدَّة لسبيل الله تعالى ،
متى احتاجوا إليها غزَوا عليها ، فهؤلاء يثابون. وتارة تربط فخرا ونواء لأهل
الإسلام ، فهذه على صاحبها وزْر. وتارة للتعفف واقتناء نسلها. ولم يَنْسَ حق الله
في رقابها ، فهذه لصاحبها ستْر ، كما سيأتي الحديث بذلك [إن شاء الله تعالى] (8)
عند قوله تعالى : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ
رِبَاطِ الْخَيْلِ [تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ] (9) } [
الأنفال : 60 ].
وأما { الْمُسَوَّمَةِ } فعن ابن عباس ، رضي الله عنهما : المسومة الراعية ،
والمُطَهَّمة الحسَان ، وكذا روي عن مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعبد الرحمن
بن عبد الله (10) بن أبْزَى ، والسُّدِّي ، والربيع بن أنس ، وأبي سِنَان وغيرهم.
وقال مكحول : المسومة : الغُرَّة والتحجيل. وقيل غير ذلك.
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن (11) يزيد
بن أبي حبيب ، عن سُوَيْد بن قيس ، عن معاوية بن حُدَيج ، عن أبي ذر ، رضي الله
عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليسَ مِنْ فَرَسٍ عَرَبِي
إلا يُؤذَنُ لَهُ مَعَ كُلِّ فَجْر يَدْعُو بِدَعْوَتَيْنِ ، يَقُولُ : اللَّهُمَّ
إنَّكَ خَوَّلْتَنِي مِنْ خَوَّلْتَني من]
__________
(1) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(2) في و : "عن".
(3) تفسير ابن أبي حاتم (1/111) وفي إسناده عمرو بن أبي سلمة وهو ضعيف كما سبق
كلام الإمام أحمد عنه.
(4) في و : "وهو".
(5) في هـ ، جـ ، أ ، و : "الجرشي" وهو خطأ.
(6) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(7) تفسير ابن أبي حاتم (2/115) ورواه الطبري في تفسيره (6/248) من طريق سعيد
الجريري عن أبي نضرة موقوفا.
(8) زيادة من جـ ، أ.
(9) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(10) في جـ ، ر ، أ ، و : "عبد الله بن عبد الرحمن".
(11) في جـ ، ر : "حدثني".
(2/21)
(1)
بَنِي آدَم ، فاجْعَلنِي مِنْ أحَبِّ مَالِهِ وأهْلِهِ إليه ، أوْ أحَب أهْلِه
ومالِهِ إليهِ" (2).
وقوله : { وَالأنْعَامِ } يعني : الإبل والبقر والغنم { وَالْحَرْث } يعني : الأرض
(3) المتخذة للغِرَاس والزراعة (4).
قال الإمام أحمد : حدثنا رَوْح بن عبادة ، حدثنا أبو نعامة العدوي ، عن مسلم بن
بُدَيل (5) عن إياسِ بن زهير ، عن سُويد بن هُبَيرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال : "خَيْرُ مَالِ امرئ لَهُ مُهْرة مَأمُورة ، أو سِكَّة مَأبُورة"
(6) المأمورة الكثيرة النسل ، والسّكَّة : النخل المصطف ، والمأبورة : الملقحة.
ثم قال تعالى : { ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : إنما هذا زهرة
الحياة الدنيا وزينتها الفانية الزائلة { وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } أي
: حسن المرجع والثواب.
وقد قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن أبي بكر بن حفص بن
عُمَر بن سعد قال : قال عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : لما أنزلت : { زُيِّنَ
لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ } قلت : الآن يا رب حين زينتها لنا فنزلت : { قُلْ
أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا [عِنْدَ رَبِّهِمْ
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ] (7) (8) }.
ولهذا قال تعالى : { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ } أي : قل يا
محمد للناس : أأخبركم بخير مما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من زهرتها ونعيمها
، الذي هو زائل لا محالة. ثم أخبر عن ذلك ، فقال : { لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ
رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي : تنخرق بين جوانبها
وأرجائها الأنهار ، من أنواع الأشربة ؛ من العسل واللبن والخمر والماء وغير ذلك ،
مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
{ خَالِدِينَ فِيهَا } أي : ماكثين فيها أبد الآباد (9) لا يبغون (10) عنها
حِوَلا.
{ وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ } أي : من الدَّنَس ، والخَبَث ، والأذى ، والحيض ،
والنفاس ، وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا.
{ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ } أي : يحل عليهم رضوانه ، فلا يَسْخَط عليهم بعده
أبدا ؛ ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى التي في براءة : { وَرِضْوَانٌ مِنَ
اللَّهِ أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] أي : أعظم مما أعطاهم من النعيم المقيم ،
__________
(1) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، والمسند.
(2) المسند (5/170) ورواه الحاكم في المستدرك (2/144) من طريق يحيى بن سعيد به ،
وقال : صحيح الإسناد على شرطهما ووافقه الذهبي.
(3) في جـ ، ر : "الأراضي".
(4) في جـ : "للزراعة والغراس".
(5) في أ : "نديل".
(6) المسند (3/468) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (10/64) والطبراني في المعجم
الكبير (7/107) من طريق مسلم بن بديل به ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/258) :
"رجال أحمد ثقات".
(7) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(8) تفسير الطبري (6/244).
(9) في جـ ، ر : "فيها أبدا".
(10) في جـ ، ر : "يجدون".
(2/22)
ثم
قال [تعالى] (1) { وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } أي : يعطي كلا بحسب ما يستحقه
من العطاء.
__________
(1) زيادة من جـ ، أ.
(2/23)
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
{
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ
وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ (17) }
يصف تعالى عباده المتقين الذين وعدهم الثواب الجزيل ، فقال تعالى : { الَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا } أي : بك وبكتابك وبرسولك { فَاغْفِرْ
لَنَا ذُنُوبَنَا } أي بإيماننا بك وبما شرعته لنا فاغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا من
(1) أمرنا بفضلك ورحمتك { وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }
ثم قال : { الصَّابِرِين } أي : في قيامهم بالطاعات وتركهم المحرمات {
وَالصَّادِقِينَ } فيما أخبروا به من إيمانهم بما يلتزمونه من الأعمال الشاقة {
وَالقَانِتِينَ } والقنوت : الطاعة والخضوع (2) { والْمُنفِقِينَ } أي : من
أموالهم في جميع ما أمروا به من الطاعات ، وصلة الأرحام والقرابات ، وسد الخَلات ،
ومواساة ذوي الحاجات { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ } دل على فضيلة
الاستغفار وقت الأسحار.
وقد قيل : إن يعقوب ، عليه السلام ، لما قال لبنيه : { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ
رَبِّي } [يوسف : 98 ] أنه أخرهم إلى وقت السحر. وثبت في الصحيحين وغيرهما من
المساند (3) والسنن ، من غير وجه ، عن جماعة من الصحابة ، أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : "ينزلُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في كُلِّ لَيْلَةٍ إلَى
سمَِاءِ الدُّنيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِر (4) فيقولُ : هَلْ مِنْ
سَائل فأعْطِيَه ؟ هَلْ مِنْ دَاع فَأسْتجيبَ له ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِر فأغْفِرَ
لَهُ ؟" الحديث (5) وقد أفرد الحافظ أبو الحسن الدارقطني في ذلك جزءًا على
حدة (6) فرواه من طرق متعددة.
وفي الصحيحين ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : مِنْ كُلِّ اللَّيلِ قَدْ
أوْترَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ، مِنْ أولِهِ وأوْسَطِهِ وآخِرِهِ ،
فَانْتَهَى وِتره إلَى السّحَرِ (7).
وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل ، ثم يقول : يا نافع ، هل جاء السَّحَر ؟ فإذا
قال : نعم ، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبي ، عن حُرَيْث بن أبي مطر ، عن
إبراهيم بن حاطب ، عن أبيه قال : سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد وهو يقول :
ربّ أمرتني فأطعتك ،
__________
(1) في و : "في".
(2) في أ : "الخشوع".
(3) في أ : "المسانيد".
(4) في أ : "الأخير".
(5) جاء من حديث أبي هريرة : رواه البخاري في صحيحه برقم (7494) وبرقم (6321)
ورواه مسلم في صحيحه برقم (758) وأبو داود في السنن برقم (1315) والترمذي في السنن
برقم (4398).
وجاء من حديث أبي سعيد الخدري وجبير بن مطعم ورفاعة الجهني وعلي بن أبي طالب وابن
مسعود. انظر الكلام عليها في كتاب إرواء الغليل للشيخ ناصر الألباني (2/450).
(6) في أ : "حدته".
(7) رواه البخاري في صحيحه برقم (996) ، ورواه مسلم في صحيحه برقم (745).
(2/23)
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
وهذا
سحر ، فاغفر لي. فنظرت فإذا ابن مسعود ، رضي الله عنه (1).
وروى ابن مَرْدُويه عن أنس بن مالك قال : كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أنْ نستغفر
في آخر السحر سبعين مرة.
{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ
قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ
الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ
بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ
فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ
(20) }
شهد (2) تعالى - وكفى به شهيدا ، وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم ، وأصدق القائلين - {
أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } أي : المتفَرد بالإلهية لجميع الخلائق ، وأن الجميع
عبيده وخلقه ، والفقراء إليه ، وهو الغني عما سواه كما قال تعالى : { لَكِنِ
اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزلَ إِلَيْكَ أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ
يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ (3) شَهِيدًا } الآية [ النساء : 166 ].
ثم قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته فقال : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا
إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ } وهذه خصوصية عظيمة للعلماء
في هذا المقام.
{ قَائِمًا بِالْقِسْطِ } منصوب على الحال ، وهو في جميع الأحوال كذلك.
{ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } تأكيد لما سبق { الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } العزيز : الذي
لا يرام جنابه عظمةً وكبرياء ، الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد ، حدثني
جبير بن عَمْرو القرشي ، حدثنا أبو سَعِيد (4) الأنصاري ، عن أبي يحيى مولى آل
الزبير بن العوام ، عن الزبير بن العوام ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو بعرفةَ يقرأ هذه الآية : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ
وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } "وأَنَا عَلَى ذلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ يا
رَبِّ" (5).
وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر ، فقال : حدثنا علي بن حسين ، حدثنا محمد بن
المتوكل العسقلاني ، حدثنا عُمَر بن حفص بن ثابت أبو سعيد الأنصاري ، حدثنا عبد
الملك بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن جده ، عن الزبير قال
: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرأ هذه الآية : { شَهِدَ اللَّهُ
أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ } قال : "وأَنَا أشْهَدُ أيْ
رَبِّ" (6).
__________
(1) تفسير الطبري (6/266) وفي إسناده سفيان بن وكيع ضعيف ، وحديث ابن أبي مطر ضعفه
أبو حاتم وابن معين والبخاري.
(2) في و : "يشهد".
(3) في جـ ، ر : "به" وهو خطأ.
(4) في أ ، و : "أبو سعد".
(5) المسند (1/166) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/325) : "في إسناده
مجاهيل".
(6) تفسير ابن أبي حاتم (2/146) وفي إسناده مجاهيل".
(2/24)
وقال
الحافظ أبو القاسم الطبراني في المعجم الكبير : حدثنا عبدان بن أحمد وعلي بن سعيد
الرازي قالا حدثنا عَمَّار بن عمر بن المختار ، حدثني أبي ، حدثني غالب القطان قال
: أتيت الكوفة في تجارة ، فنزلت قريبا من الأعمش ، فلما كانت ليلة أردتُ أن
أنْحَدِرَ قام فتهجد من الليل ، فمر بهذه الآية : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا
إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا
إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ
} ثم قال الأعمش : وأنا أشهد بما شهد الله به ، وأستودع الله هذه الشهادة ، وهي لي
عند الله وديعة : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ } قالها مرارا. قلت :
لقد سمع فيها شيئا ، فغدوت إليه فودعته ، ثم قلت : يا أبا محمد ، إني سمعتك تردد
هذه الآية. قال : أو ما بلغك ما فيها ؟ قلت : أنا عندك منذ شهر لم تحدثني. قال :
والله لا أحدثك بها إلى سنة. فأقمت سنة فكنت على بابه ، فلما مضت السنة قلت : يا
أبا محمد ، قد مضت السنة. قال : حدثني أبو وائل ، عن عبد الله قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "يُجَاءُ بِصَاحِبِهَا يَوْمَ القِيامَةِ ، فَيَقُولُ
الله عز وجل : عَبْدِي عَهِدَ إلَيَّ ، وأنَا أحَقُّ مَن وَفَّى بالْعَهْدِ ،
أدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ" (1).
وقوله : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ } إخبار من الله تعالى بأنه لا
دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام ، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل
حين ، حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة
محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن لقي الله بعد بعثته محمدًا صلى الله عليه وسلم
بدِين على غير شريعته ، فليس بمتقبل. كما قال تعالى : { وَمَنْ يَبْتَغِ (2)
غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ
الْخَاسِرِينَ] (3) } [آل عمران : 85 ] وقال في هذه الآية مخبرًا بانحصار الدين
المتقبل عنده في الإسلام : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ }
وذكر ابن جرير أن ابن عباس قرأ : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ
وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ } بكسر إنه وفتح
{ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ } أي : شهد هو وملائكته وأولو العلم من
البشر بأن الدين عند الله الإسلام. والجمهور قرأوها بالكسر على الخبر ، وكلا
المعنيين صحيح. ولكن هذا على قول الجمهور أظهر والله أعلم.
ثم أخبر تعالى بأن (4) الذين أوتوا الكتاب الأول إنما اختلفوا بعد ما قامت عليهم
الحجة ، بإرسال الرسل إليهم ، وإنزال الكتب عليهم ، فقال : { وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ
} أي : بغى بعضهم على بعض ، فاختلفوا في الحق لتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم ، فحمل
بعضهم بُغْض البَعْض الآخر (5) على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله ، وإن كانت حقا
، ثم قال : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ
الْحِسَابِ } أي : من جحد بما أنزل (6) الله في كتابه فإن الله
__________
(1) المعجم الكبير (10/245) وقال الهيثمي في المجمع (6/326) : "فيه عمر بن
المختار وهو ضعيف". ورواه ابن عدي في الكامل (5/36) من طريق عمار بن عمر
المختار به. قال : "لا يحدث به غير عمر المختار ، ومقدار ما يرويه فيه
نظر".
(2) في أ : "يتبع".
(3) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(4) في أ ، و : "أن".
(5) في جـ : "فحمل بعضهم على بغض الآخر".
(6) في أ ، و : "أنزله".
(2/25)
سيجازيه
على ذلك ، ويحاسبه على تكذيبه ، ويعاقبه على مخالفته كتابه (1)
ثم قال تعالى : { فَإِنْ حَاجُّوكَ } أي : جادلوك في التوحيد { فَقُلْ أَسْلَمْتُ
وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ } أي : فقل أخلصت عبادتي لله وحده ، لا شريك
له ولا ند [له] (2) ولا ولد ولا صاحبة له { وَمَنِ اتَّبَعَنِ } على ديني ، يقول
كمقالتي ، كما قال تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى
بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ] (3) } [ يوسف : 108 ].
ثم قال تعالى آمرًا لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى طريقته
ودينه ، والدخول في شرعه وما بعثه الله به الكتابيين (4) من الملتين والأميين من
المشركين فقال : { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ
أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا
عَلَيْكَ الْبَلاغُ } أي : والله عليه حسابهم وإليه مرجعهم ومآبهم ، وهو الذي يهدي
من يشاء ، ويضل من يشاء ، وله الحكمة في ذلك ، والحجة البالغة ؛ ولهذا قال : {
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } أي : هو (5) عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق
الضلالة ، وهو الذي { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [
الأنبياء : 33 ] وما ذاك (6) إلا لحكمته ورحمته.
وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته ، صَلوات الله وسلامه (7)
عليه ، إلى جميع الخلق ، كما هو معلوم من دينه ضرورة ، وكما دل عليه الكتاب والسنة
في غير (8) ما آية وحديث ، فمن ذلك قوله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158 ] وقال تعالى : {
تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا
} [ الفرقان : 1] وفي الصحيحين وغيرهما ، مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة ، أنه
بعث كتبه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله ملوك الآفاق ، وطوائف (9) بني آدم من
عربهم وعجمهم ، كتابِيِّهم وأمِّيِّهم ، امتثالا لأمر الله له بذلك. وقد روى عبد
الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن هَمَّام ، عن أبي هريرة ، عن النبي (10) صلى الله عليه
وسلم أنه قال : "والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لا يَسْمَعُ بِي أحَدٌ مِنْ
هَذِهِ الأمَّةِ يَهُوديّ وَلا نَصْرَانِي ، ومَاتَ وَلمَ يُؤْمِنْ بِالَّذِي
أرْسلتُ بِهِ ، إلا كان مِنْ أَهْلِ النَّارِ" رواه مسلم (11).
وقال صلى الله عليه وسلم : "بُعِثْتُ إلَى الأحْمَرِ والأسْودِ" (12)
وقال : "كَانَ النَّبيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِه خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلَى
النَّاسِ عَامَّةً". وقال الإمام أحمد : حدثنا مُؤَمِّل ، حدثنا حَمَّاد ،
حدثنا ثابت عن أنس ، رضي الله عنه : أن غلاما يهوديا كان يَضع للنبي صلى الله عليه
وسلم وَضُوءه ويناوله نعليه ، فمرض ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه
وأبوه قاعد عند رأسه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "يا فُلانُ ، قُلْ :
لا إله إلا الله" فَنَظَرَ إلَى أبيه ، فَسَكَتَ أبوه ، فأعَادَ عَلَيْهِ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ، فَنَظَرَ إلَى أَبيهِ ، فَقَالَ أبُوهُ : أطِعْ
أبا الْقَاسِم ، فَقَالَ الْغُلامُ : : أشْهَدُ أن
__________
(1) في أ ، و : "بكتابه".
(2) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(3) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(4) في جـ : "أهل الكتابين".
(5) في أ ، و : "وهو".
(6) في أ ، و : "وذلك".
(7) في جـ : "الله".
(8) في أ : "وغير".
(9) في و : "من طوئف".
(10) في جـ ، ر ، أ ، و : "رسول الله".
(11) صحيح مسلم برقم (153).
(12) في جـ ، ر ، أ ، و : "الأسود والأحمر".
(2/26)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
لا
إلَهَ إلا الله وأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ ، فَخَرَجَ النَّبَيُّ (1) صلى الله عليه
وسلم وَهُوَ يَقُولُ : "الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أخْرَجَهُ بِي مِنِ
النَّارِ" أخرجه البخاري في الصحيح (2) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ
بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ
فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) }
هذا ذم من الله تعالى لأهل الكتاب فيما ارتكبوه من المآثم والمحارم في تكذيبهم
بآيات الله قديما وحديثا ، التي بلغتهم إياها الرسل ، استكبارًا عليهم وعنادًا لهم
، وتعاظما على الحق واستنكافا عن اتباعه ، ومع هذا قتلوا من قتلوا من النبيين حين
بلغوهم عن الله شرعه ، بغير سبب ولا جريمة منهم إليهم ، إلا لكونهم دعوهم إلى
الحقّ { وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ } وهذا هو
غاية الكبر ، كما قال النبي (3) صلى الله عليه وسلم : "الْكِبْرُ بَطَرُ
الحَقِّ وَغَمْط النَّاسِ".
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو الزُّبَيْر الحسن بن علي بن مسلم النيسابوري ، نزيل
مكة ، حدثني أبو حفص عمر بن حفص - يعني ابن ثابت بن زرارة الأنصاري - حدثنا محمد
بن حمزة ، حدثني أبو الحسن مولى لبني أسد ، عن مكحول ، عن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي ،
عن أبي عبيدة بن الجراح ، رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله ، أي الناس أشد
عذابا يوم القيامة ؟ قال : "رَجلٌ قَتَلَ نَبِيا أوْ مَنْ أمر بِالمْعْرُوفِ
ونَهَى عَنِ المُنْكَر". ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ
الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ
حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [إلى قوله : { وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ] }
(4) الآية. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أبَا عُبَيَدَةَ ، قَتَلَتْ
بَنُو إسْرَائِيلَ ثَلاثَةً وأَرْبَعين نَبيا ، من أوَّلِ النّهَارِ في ساعةٍ
وَاحِدَةٍ ، فَقَامَ مِائَة (5) وسَبْعُونَ رَجُلا مِنْ بَني إسْرائيلَ ، فأمَرُوا
مَنْ قَتَلَهُم بالْمَعْرُوفِ ونَهَوْهُمْ عَنِ المنكرِ ، فقتلوا جَمِيعًا مِنْ
آخِرِ النَّهارِ مِنْ ذَلكَ اليَوْمِ ، فَهُم الذِينَ ذَكَرَ اللهُ ، عَزَّ
وَجَلَّ".
وهكذا رواه ابن جرير عن أبي عبيد الوصّابي محمد بن حفص ، عن ابن حُمَيْر ، عن أبي
الحسن مولى بني أسد ، عن مكحول ، به (6).
__________
(1) في جـ ، ر ، أ ، و : "رسول الله".
(2) المسند (3/175) والبخاري برقم (1356).
(3) في جـ ، ر ، أ ، و : "رسول الله".
(4) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(5) في جـ ، ر ، أ ، و : "مائة رجل".
(6) ابن أبي حاتم في تفسيره (1/161) والطبري في تفسيره (6/285) وأبو عبيد الوصابي
لم يدرك محمد بن حمير كما ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ، وقد توبع أبو
عبيد ، تابعه عبد الوهاب بن نجدة ، فرواه البزار من طريق عبد الوهاب بن نجدة عن
محمد ابن حمير به.
ثم قال البزار : لا نعلم له عن أبي عبيدة غير هذه الطريق ، ولم نسمع أحدا سمى أبا
الحسن هذا الذي روى عنه محمد بن حمير. وقال الحافظ ابن حجر : "فيه أبو الحسن
مولى بني أسد وهو مجهول".
(2/27)
وعن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : قتلت بنو إسرائيل ثلاثمائة نبي من أول النهار ، وأقاموا سوق بَقْلِهِمْ من آخره. رواه ابن أبي حاتم. ولهذا لما أن تكبروا عن الحق واستكبروا على الخلق ، قابلهم الله على ذلك بالذلة والصغار في الدنيا والعذاب المهين في الآخرة ، فقال : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي : موجع مهين. { أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }
(2/28)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
{
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى
كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ
مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ
مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) }
يقول تعالى منكرًا على اليهود والنصارى ، المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم اللَّذين
بأيديهم ، وهما التوراة والإنجيل ، وإذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة
الله فيما أمرهم به فيهما ، من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، تولَّوا وهم
معرضون عنهما ، وهذا في غاية ما يكون من ذمهم ، والتنويه بذكرهم بالمخالفة
والعناد.
ثم قال : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا
مَعْدُودَاتٍ } أي : إنما حملهم وجَرّأهم على مخالفة الحق افتراؤهم على الله فيما
ادعوه لأنفسهم أنهم إنما يعذبون في النار سبعة أيام ، عن كل ألف سنة في الدنيا
يوما. وقد تقدم تفسير ذلك في سورة البقرة. ثم قال : { وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ
مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [أي غرهم في دينهم] (1) أي : ثَبَّتهم على دينهم الباطل
ما خدعوا به أنفسهم من زعمهم أن النار لا تمسهم بذنوبهم إلا أياما معدودات ، وهم
الذين افتروا هذا من تلقاء أنفسهم وافتعلوه ، ولم ينزل الله به سلطانا قال الله
تعالى متهددا لهم ومتوعدا : { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ
فِيهِ } أي : كيف يكون حالهم وقد افتروا على الله وكذبوا رسله وقتلوا أنبياءه
والعلماء من قومهم ، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، والله تعالى سائلهم عن
ذلك كله ، ومحاسبهم عليه ، ومجازيهم به ؛ ولهذا قال : { فَكَيْفَ إِذَا
جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ } لا شك في وقوعه وكونه { وَوُفِّيَتْ
كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ }
__________
(1) زيادة من و.
(2/28)
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
{
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ
الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ
بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ
الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ
حِسَابٍ (27) }
يقول تعالى : { قُلْ } يا محمد ، معظما لربك ومتوكلا عليه ، وشاكرًا له ومفوضًا
إليه : { اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ } أي : لك الملك كله { تُؤْتِي الْمُلْكَ
مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ
وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ } أي : أنت المعطي ، وأنت المانع ، وأنت الذي ما شئت كان
وما لم تشأ لم يكن.
وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم
وهذه الأمة ؛ لأن الله حول النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي المكي
الأمي خاتم الأنبياء على الإطلاق ، ورسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن ،
الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله ، وخصه بخصائص لم يُعْطهَا نبيًا من الأنبياء
ولا رسولا من الرسل ، في العلم بالله وشريعته وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية
، وكشفه عن حقائق الآخرة ونشر أمته في الآفاق ، في مشارق الأرض ومغاربها ، وإظهار
دينه وشرعه على سائر الأديان ، والشرائع ، فصلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم
الدين ، ما تعاقب الليل والنهار. ولهذا قال تعالى : { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ
الْمُلْكِ[ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ
وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (1) } أي : أنت المتصرف في خلقك ، الفعال لما تريد ، كما رد
تبارك وتعالى على من يتحكم (2) عليه في أمره ، حيث قال : { وَقَالُوا لَوْلا نزلَ
هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ].
قال الله تعالى ردًا عليهم : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [نَحْنُ قَسَمْنَا
بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ
فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ] (3) } الآية[ الزخرف : 32 ] أي : نحن نتصرف في خلقنا
كما نريد ، بلا ممانع ولا مدافع ، ولنا الحكمة والحجة في ذلك ، وهكذا نعطي النبوة
لمن نريد ، كما قال تعالى : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [
الأنعام : 124 ] وقال تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى
بَعْضٍ [ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا] (4) } [ الإسراء
: 21 ] وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة "إسحاق بن أحمد" من تاريخه عن
المأمون الخليفة : أنه رأى في قَصْرٍ ببلاد الروم مكتوبا بالحميرية ، فعرب له ،
فإذا هو : باسم الله ما اختلف الليل والنهار ، ولا دارت نجوم السماء في الفلك إلا
بنقل النعيم عن مَلِك قد زال سلطانه إلى ملك. ومُلْكُ ذي العرش دائم أبدًا ليس
بِفَانٍ ولا بمشترك (5).
وقوله : { تُولِجُ (6) اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ (7) النَّهَارَ فِي
اللَّيْلِ } أي : تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا فيعتدلان ، ثم تأخذ من هذا في
هذا فيتفاوتان ، ثم يعتدلان. وهكذا في فصول السنة : ربيعًا وصيفًا وخريفًا وشتاء.
وقوله : { وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ
الْحَيِّ } أي : تخرج الحبَّة من الزرع والزرع من الحبة ، والنخلة من النواة
والنواة من النخلة ، والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ، والدجاجة من البيضة
والبيضة من الدجاجة ، وما جرى هذا المجرى من جميع الأشياء { وَتَرْزُقُ مَنْ
تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : تعطي من شئت من المال ما لا يَعده ولا يقدر على
إحصائه ، وتقتر على آخرين ، لما لك
__________
(1) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(2) في أ ، و : "تحكم".
(3) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(4) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(5) تاريخ دمشق لابن عساكر (2/706 المخطوط) ومختصر تاريخ دمشق لابن منظور (4/264).
(6) في جـ ، ر : "يولج".
(7) في جـ ، ر : "يولج".
(2/29)
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
في
ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة والعدل. قال الطبراني : حدثنا محمد بن زكريا
الغلابي ، حدثنا جعفر بن جسْر بن فَرْقَد ، حدثنا أبي ، عن عَمْرو (1) بن مالك ،
عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "اسْم
اللهِ الأعْظَمَ الَّذي إذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ ، فِي هَذِهِ الآيةِ مِنْ آلِ
عِمْرانَ : { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ[ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ
وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ
تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (2) } (3).
{ لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا
أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى
اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) }
نهى الله ، تبارك وتعالى ، عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين ، وأن يتخذوهم
أولياء يُسِرُّون إليهم بالمودة من دون المؤمنين ، ثم توعد على ذلك فقال : {
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ } أي : من يرتكب نهى
الله في هذا فقد برئ من الله كما قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ
أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } [النساء : 144 ] وقال
[تعالى] (4) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ]
(5) } [ المائدة : 51 ].
[وقال تعالى] (6) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي
وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } إلى أن قال : {
وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } [ الممتحنة : 1 ]
وقال تعالى - بعد ذكر موالاة المؤمنين للمؤمنين من المهاجرين والأنصار والأعراب -
: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ
فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } [ الأنفال : 73 ].
وقوله : { إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } أي : إلا من خاف في بعض البلدان
أوالأوقات من شرهم ، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته ، كما حكاه البخاري عن
أبي الدرداء أنه قال : "إنَّا لَنَكْشرُ فِي وُجُوهِ أقْوَامٍ وَقُلُوبُنَا
تَلْعَنُهُمْ".
وقال الثوري : قال ابن عباس ، رضي الله عنهما : ليس التقية بالعمل إنما التقية
باللسان ، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس : إنما التقية باللسان ، وكذا قال أبو
العالية ، وأبو الشعثاء والضحاك ، والربيع بن أنس. ويؤيد ما قالوه قول الله تعالى
: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ[ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ
غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] (7) } [ النحل : 106 ].
__________
(1) في جـ ، ر ، أ : "عمر".
(2) في أ ، و : "إلى آخر الآية".
(3) المعجم الكبير (12/172) وفي إسناده جسر بن فرقد ، ضعيف.
(4) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(5) زيادة من جـ ، أ ، و ، وفي هـ : الآية".
(6) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(7) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(2/30)
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
وقال
البخاري : قال الحسن : التقية إلى يوم القيامة.
ثم قال تعالى : { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } أي : يحذركم نقمته ، أي
مخالفته وسطوته في عذابه لمن والى أعداءه وعادى أولياءه.
ثم قال تعالى : { وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } أي : إليه المرجع والمنقلب ،
فيجازي كل عامل بعمله.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سويد بن سعيد ، حدثنا مسلم بن خالد ، عن ابن
أبي حسين ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن عمرو بن ميمون [بن مِهْران] (1) قال : قام
فينا معاذ ابن جبل فقال : يا بني أود ، إني رسول رسول الله إليكم ، تعلمون أن
المعاد [إلى الله] (2) إلى الجنة أو إلى النار (3).
{ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ
وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (29) }
__________
(1) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(2) زيادة من أ ، و.
(3) تفسير ابن أبي حاتم (1/194).
(2/31)
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
{
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ
مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) }
يخبر تبارك وتعالى عباده أنه يعلم السرائر والضمائر والظواهر ، وأنه لا يخفى عليه
منهم خافية ، بل علمه محيط بهم في سائر الأحوال والآنات واللحظات وجميع الأوقات ،
وبجميع ما في السموات والأرض ، لا يغيب عنه مثقال ذرة ، ولا أصغر من ذلك في جميع
أقطار الأرض والبحار والجبال ، وهو { عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : قدرته (1)
نافذة في جميع ذلك.
وهذا تنبيه منه لعباده على خوفه وخشيته ، وألا يرتكبوا ما نهى عنه وما يَبْغضه
منهم ، فإنه عالم بجميع أمورهم ، وهو قادر على معاجلتهم بالعقوبة ، وإنْ أنظر من
أنظر منهم ، فإنه يمهل ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر ؛ ولهذا قال بعد هذا : { يَوْمَ
تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا [وَمَا عَمِلَتْ مِنْ
سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ] (2) } الآية ،
يعني : يوم القيامة يحضر للعبد جميع أعماله من خير وشر (3) كما قال تعالى : {
يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [ القيامة : 13 ] فما
رأى من أعماله حسنا سره ذلك وأفرحه ، وما رأى من قبيح ساءه وغاظه ، وود لو أنه
تبرأ منه ، وأن يكون بينهما أمد بعيد ، كما يقول لشيطانه الذي كان مقترنًا به في
الدنيا ، وهو الذي جرَّأه على فعل السوء : { يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ
الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ } [ الزخرف : 38 ].
ثم قال تعالى مؤكدا ومهددا ومتوعدا : { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } أي :
يخوفكم عقابه ، ثم قال مرجيًا لعباده لئلا ييأسوا من رحمته ويقنطوا من لطفه : {
وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }
__________
(1) في جـ ، ر ، أ ، و : "وقدرته".
(2) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(3) في جـ : "أو شر".
(2/31)
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
قال
الحسن البصري : من رأفته بهم حذرهم نفسه. وقال غيره : أي : رحيم بخلقه ، يحب لهم
أن يستقيموا على صراطه المستقيم ودينه القويم ، وأن يتبعوا رسوله الكريم.
{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا
اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ
(32) }
هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله ، وليس هو على الطريقة المحمدية
فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر ، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع
أقواله وأحواله ، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
"مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عليه أمْرُنَا فَهُوَ رَدُّ" ولهذا قال : {
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } أي
: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه ، وهو محبته إياكم ، وهو أعظم من الأول ،
كما قال بعض الحكماء العلماء : ليس الشأن أن تُحِبّ ، إنما الشأن أن تُحَبّ وقال
الحسن البصري وغيره من السلف : زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية
، فقال : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ
اللَّهُ }.
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطَّنافِسي ، حدثنا عبيد
الله بن موسى عن عبد الأعلى بن أعين ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عروة ، عن عائشة ،
رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وَهَلِ الدِّينُ
إلا الْحُبُّ والْبُغْضُ ؟ قَالَ الله تَعَالَى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ
اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } قال أبو زُرْعَة : عبد الأعلى هذا
منكر الحديث (1).
ثم قال : { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي :
باتباعكم للرسول صلى الله عليه وسلم يحصل لكم هذا كله ببركة سفارته.
ثم قال آمرًا لكل أحد من خاص وعام : { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ
تَوَلَّوْا } أي : خالفوا عن أمره { فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ }
فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر ، والله لا يحب من اتصف بذلك ، وإن ادعى وزعم
في نفسه أنه يحب لله ويتقرب إليه ، حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل ،
ورسول الله إلى جميع الثقلين الجن والإنس (2) الذي لو كان الأنبياء - بل المرسلون
، بل أولو العزم منهم - في زمانه لما وسعهم إلا اتباعه ، والدخول في طاعته ،
واتباع شريعته ، كما سيأتي تقريره عند قوله : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ
النَّبِيِّينَ } الآية[ آل عمران : 31 ] [إن شاء الله تعالى] (3).
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (1/202) ، ورواه أبو نعيم في الحلية (8/368) والحاكم في
المستدرك (2/291) من طريق عبد الأعلى بن أعين عن يحيى بن أبي كثير به.
قال الحاكم : صحيح على شرطهما ، وتعقبه الذهبي بقوله : "فيه عبد الأعلى بن
أعين ، قال الدارقطني : ليس بثقة".
وقال ابن حبان : "يروي عن يحيى بن أبي كثير ما ليس من حديثه ، لا يجوز
الاحتجاج به بحال".
وقال العقيلي : "جاء بأحاديث منكرة ليس منها شيء محفوظ".
(2) في جـ : "الإنس والجن".
(3) زيادة من و.
(2/32)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
{
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى
الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(34) }
يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض ، فاصطفى آدم ، عليه السلام ،
خلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له ملائكته ، وعلمه أسماء كل شيء ، وأسكنه
الجنة ثم أهبطه منها ، لما له في ذلك من الحكمة.
واصطفى نوحا ، عليه السلام ، وجعله أول رسول [بعثه] (1) إلى أهل الأرض ، لما عبد
الناس الأوثان ، وأشركوا في دين الله ما لم ينزل به سلطانا ، وانتقم له لما طالت
مدته بين ظَهْرَاني قومه ، يدعوهم إلى الله ليلا ونهارًا ، سرا وجهارًا ، فلم
يزدهم ذلك إلا فرارًا ، فدعا عليهم ، فأغرقهم الله عن آخرهم ، ولم يَنْجُ منهم إلا
من اتبعه على دينه الذي بعثه الله به.
واصطفى آل إبراهيم ، ومنهم : سيد البشر وخاتم الأنبياء على الإطلاق محمد صلى الله
عليه وسلم ، وآل عمران ، والمراد بعمران هذا : هو والد مريم بنت عمران ، أم عيسى
ابن مريم ، عليهم السلام. قال محمد بن إسحاق بن يَسار (2) رحمه الله : هو عمران بن
ياشم بن أمون بن ميشا بن حزقيا بن أحريق بن يوثم بن عزاريا (3) ابن أمصيا بن ياوش
بن أجريهو بن يازم بن يهفاشاط بن إنشا بن أبيان (4) بن رخيعم بن سليمان بن داود ،
عليهما السلام. فعيسى ، عليه السلام ، من ذرية إبراهيم ، كما سيأتي بيانه في سورة
الأنعام ، إن شاء الله وبه الثقة.
{ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي
مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ
وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) }
امرأة عمران هذه أم مريم [بنت عمران] (5) عليها السلام (6) وهي حَنَّة بنت فاقوذ ،
قال محمد بن إسحاق : وكانت امرأة لا تحمل ، فرأت يوما طائرًا يَزُقُّ فرخه ،
فاشتهت الولد ، فدعت الله ، عز وجل ، أن يهبها ولدا ، فاستجاب الله دعاءها ،
فواقعها زوجها ، فحملت منه ، فلما تحققت الحمل نذرته أن يكون { مُحَرَّرًا } أي :
خالصا مفرغا للعبادة ، ولخدمة بيت المقدس ، فقالت : { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ
مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ } أي : السميع لدعائي ، العليم بِنيتي ، ولم تكن تعلم ما في بطنها
أذكرا أم أنثى ؟ { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } قرئ برفع التاء على أنها تاء المتكلم ، وأن
ذلك من تمام قولها ، وقُرئ بتسكين التاء على أنه من قول الله عز وجل { وَلَيْسَ
الذَّكَرُ كَالأنْثَى } أي : في القوة والجَلَد في العبادة وخدمة المسجد الأقصى {
وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } فيه دلالة على جواز التسمية يوم الولادة كما هو
الظاهر من السياق ؛ لأنه شرع من
__________
(1) زيادة من ج ، ر ، أ ، و.
(2) في أ : "بشار".
(3) في و : "عزازيا".
(4) في ر ، أ : "أثان" ، وفي و" "أيان".
(5) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(6) في و : "سم".
(2/33)
قبلنا
، وقد حكي مقررًا ، وبذلك ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال :
"وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ وَلَد سَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أبِي إبْرَاهِيمَ".
أخرجاه (1) وكذلك ثبت فيهما أن أنس بن مالك ذهب بأخيه ، حين ولدته أمه ، إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فَحَنَّكه وسماه عبد الله (2) وفي صحيح البخاري : أن رجلا
قال : يا رسول الله ، وُلِدَ لي وَلَد ، فما أُسمِّيه ؟ قال : "اسْم وَلدِك
(3) عَبْد الرَّحْمَنِ" (4) وثبت في الصحيح أيضًا : أنه لما جاءه أبو أسَيد
بابنه ليُحنّكه ، فذَهَل عنه ، فأمر به أبوه فَرَدّه إلى منزلهم ، فلما ذكرَ رسولُ
الله صلى الله عليه وسلم في المجلس سَمّاه المنذر (5).
فأما حديث قتادة ، عن الحسن البصري ، عن سَمُرَة بن جُنْدُب ؛ أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : "كُلُّ غُلامٍ رَهِين (6) بِعقِيقتِهِ ، يُذْبَحُ
عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ ، ويُسَمَّى وَيحْلَقُ رَأْسُهُ" فقد رواه أحمد وأهل
السنن ، وصححه الترمذي بهذا اللفظ ، ويروي : "ويُدَمَّى" ، وهو أثبت
وأحفظ (7) والله أعلم. وكذا ما رواه الزبير بن بكار في كتاب النسب : أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم عقّ عن ولده إبراهيم يوم سابعه وسماه إبراهيم. فإسناده لا يثبت
، وهو مخالف لما في الصحيح (8) ولو صح لَحُمِل (9) على أنه أشْهَرَ اسمَه بذلك
يومئذ ، والله أعلم.
وقوله إخبارًا عن أم مريم أنها قالت : { وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا
مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } أي : عَوَّذتها بالله ، عز وجل ، من شر الشيطان ،
وعوذت ذريتها ، وهو ولدها عيسى ، عليه السلام. فاستجاب الله لها ذلك كما قال عبد
الرزَّاق : أنبأنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة ، رضي الله
عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَا مِن مَوْلُودٍ يُولَدُ
إلا مَسَّه الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ ، فَيَسْتَهِلّ صَارخًا مِنْ مَسِّهِ إيَّاهُ
، إلا مَرْيَم َوابْنَهَا". ثم يقول أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم : { وَإِنِّي
أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } أخرجاه (10) من
حديث عبد الرزاق. ورواه ابن جرير ، عن أحمد بن الفرج ، عن بَقِيَّة ، [عن
__________
(1) رواه البخاري تعليقا برقم (1303) ورواه مسلم برقم (2315) من حديث أنس بن مالك.
(2) رواه البخاري برقم (5470) ورواه مسلم برقم (2144).
(3) في جـ ، ر : "ابنك".
(4) صحيح البخاري برقم (6186) من حديث جابر.
(5) رواه البخاري برقم (6191) ورواه مسلم برقم (2149) من حديث سهل بن سعد الساعدي.
(6) في أ ، و : "رهينته".
(7) المسند (5/12) وسنن أبي داود برقم (2838) وسنن الترمذي برقم (1522) وسنن
النسائي (7/166) وسنن ابن ماجة برقم (3165). وقد صرح الحسن بسماعه هذا الحديث من
سمرة ؛ لذا قال الترمذي : "حديث حسن صحيح".
(8) وقال ابن القيم ، رحمه الله ، في كتابه "تحفة المودود في أحكام
المولود" ص 67 بعد ما ساق قول الزبير بن بكار عن أشياخه : "هكذا قال
الزبير وسماه يوم سابعه ، والحديث المرفوع أصح من قوله وأولى".
(9) في جـ ، ر : "يحمل".
(10) صحيح البخاري (4548) وصحيح مسلم برقم (2366).
(2/34)
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
الزبيدي]
(1) عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ،
بنحوه. ورَوَى من حديث قيس ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَا مِنْ مَوْلُود إلا وَقَدْ عَصَرَهُ
الشَّيطانُ عَصْرَةً أو عَصْرَتَيْن إلا عِيسَى ابن مَرْيَمَ وَمَرْيمََ". ثم
قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا
مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } (2).
ومن حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة. ورواه مسلم ، عن أبي الطاهر ، عن ابن وهب ،
عن عَمْرو بن الحارث ، عن أبي يونس ، عن أبي هريرة. ورواه وهب أيضًا ، عن ابن أبي
ذئب ، عن عَجْلان مولى المِشْمَعَلِّ ، عن أبي هريرة. ورواه محمد بن إسحاق ، عن
يزيد بن عبد الله بن قُسَيط ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بأصل الحديث.
وهكذا رواه الليث بن سعد ، عن جعفر بن ربيعة ، عن عبد الرحمن بن هرمز ، الأعرج (3)
قال : قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كُلُّ بني آدَمَ
يَطْعنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبِه حِينَ تَلِدهُ أمُّهُ ، إلا عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ ، ذَهَبَ يَطْعَنُ فَطَعَنَ فِي الحِجَاب" (4).
{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا
وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ
وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) }
يخبر ربنا (5) أنه تقبلها من أمها نذيرة ، وأنه { وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا
} أي : جعلها شكلا مليحا ومنظرا بهيجا ، ويَسر لها أسباب القبول ، وقرنها
بالصالحين من عباده تتعلم منهم الخير والعلم والدين. ولهذا (6) قال : {
وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّا } وفي قراءة : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } بتشديد الفاء
ونصب زكريا على المفعولية ، أي جعله كافلا لها.
قال ابن إسحاق : وما ذاك إلا أنها كانت يتيمة. وذكر غيره أن بني إسرائيل أصابتهم
سَنَةُ جَدْب ، فكفل زكريا مريم لذلك. ولا منافاة بين القولين. والله أعلم.
وإنما قدر الله كون زكريا كافلها لسعادتها ، لتقتبس منه علما جما نافعًا وعملا
صالحًا ؛ ولأنه كان زَوْجَ خالتها ، على ما ذكره ابن إسحاق وابن جرير [وغيرهما]
(7) وقيل : زوج أختها ، كما ورد في الصحيح : "فإذا بِيحيى (8) وعِيسَى ،
وَهُمَا ابْنَا الخَالَةِ" ، وقد يُطْلق على ما ذكره ابن إسحاق ذلك أيضا
تَوسُّعا ، فعلى هذا كانت في حضانة خالتها. وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله
عليه وسلم قضى في عمارة بنت حمَْزَةَ أن تكون في حضانة خالتها امرأة جعفر بن أبي
طالب وقال : "الخَالَةُ بِمَنزلَةِ الأمِّ" (9).
__________
(1) زيادة من أ ، و.
(2) تفسير الطبري (6/339).
(3) في أ : "عن الأعرج".
(4) تفسير الطبري (6/342) ورواه أحمد في مسنده (2/523) من طريق أبي الزناد عن
الأعرج به.
(5) في جـ ، ر ، أ ، و : "تعالى".
(6) في جـ ، ر ، أ ، و : "فلهذا".
(7) زيادة من و.
(8) في جـ ، ر : "يحيى".
(9) صحيح البخاري برقم (2699) وصحيح مسلم برقم (1783).
(2/35)
ثم
أخبر تعالى عن سيادتها وجلالتها في محل عبادتها ، فقال : { كُلَّمَا دَخَلَ
عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا } قال مجاهد ، وعكرمة
، وسعيد بن جبير ، وأبو الشعثاء ، وإبراهيم النخَعيّ ، والضحاك ، وقتادة ، والربيع
بن أنس ، وعطية العَوْفي ، والسُّدِّي [والشعبي] (1) يعني وجد عندها فاكهة الصيف
في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف. وعن مجاهد { وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا } أي :
علما ، أو قال : صحفًا فيها علم. رواه ابن أبي حاتم ، والأول أصح ، وفيه دلالة على
كرامات الأولياء. وفي السنة لهذا نظائر كثيرة. فإذا رأى زكريا هذا عندها { قَالَ
يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا } أي : يقول من أين لك هذا ؟ { قَالَتْ هُوَ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }.
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا سَهْل بن زنْجَلة ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا
عبد الله ابن لَهِيعَة ، عن محمد بن المُنْكَدِر ، عن جابر ؛ أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أقام أيامًا لم يَطْعَمْ طعاما ، حتى شَقّ ذلك عليه ، فطاف في
منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئًا ، فأتى فاطمة فقال : "يا بُنَيَّة
، هَلْ عِنْدَكِ شَيْء آكُلُهُ ، فَإِنَّي جَائِع ؟" فقالت : لا والله بأبي
أنتَ وأمّي. فلما خَرَج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم ، فأخذته
منها فوضعته في جَفْنَةٍ لها ، وقالت : والله لأوثرن بهذا رسول الله [صلى الله
عليه وسلم] (2) على نفسي ومن عندي. وكانوا جميعًا محتاجين إلى شبعة طعام ، فبعثت
حَسَنا أو حُسَينا إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (3) فرجع إليها فقالت له :
بأبي وأمي (4) قد أتى الله بشيء فخَبَّأتُه لك. قال : "هَلُمِّي يا
بُنيَّة" قالت : فأتيته بالجفنة. فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزًا
ولحمًا ، فلما نظرَتْ إليها بُهِتتْ وعرفَتْ أنها بركة من الله ، فحمدَت الله
وصلَّت على نَبِيِّهِ ، وقدّمَتْه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. فلما رآه
حمد الله وقال : "مِنْ أيْنَ لَكِ هَذَا يَا بُنَية ؟" فقالت (5) يا أبت
، { هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ
حِسَابٍ } فحمد الله وقال : "الحَمْدُ للهِ الَّذي جَعَلَكِ - يا بُنَيّة -
شَبيهَةِ بسيدةِ (6) نِساء بَنيِ إسْرَائيلَ ، فَإنَّها كَانَتْ إذَا رَزَقَهَا
اللهُ شَيْئًا فَسُئِلَتْ عَنْهُ قَالَتْ : { هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } فبعث رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى عَلِي (7) ثم أكل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأكل علي ، وفاطمة ،
وحسن ، وحسين ، وجميع أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم وأهل بيته جميعًا حتى
شبعوا. قالت : وبقيت الجفنة كما هي ، فأوسعت ببقيتها (8) على جميع الجيران ، وجعل
الله فيها بركة وخيرا كثيرا (9).
__________
(1) زيادة من جـ ، أ.
(2) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(3) زيادة من أ ، و.
(4) في جـ ، ر ، أ ، و ، : "بأبي أنت وأمي".
(5) في أ : "فقلت".
(6) في ر : "سيدة".
(7) في أ : "وحملوا".
(8) في أ ، و : "بقيتها".
(9) مسند أبي يعلى كما في المطالب العالية لابن حجر (4/74) ، وفي إسناده عبد الله
بن صالح متكلم فيه ، وابن لهيعة ضعفه الجمهور.
(2/36)
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
{
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ
ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ
وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى
مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ
الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ
أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ
(41) }
لما رأى زكريا ، عليه السلام ، أن الله تعالى يرزق مريم ، عليها السلام ، فاكهة
الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء ، طمع حينئذ في الولد ، و[إن] (1) كان
شيخا كبيرا قد [ضعف و] (2) وَهَن منه (3) العظم ، واشتعل رأسه شيبا ، وإن كانت
امرأته مع ذلك كبيرة وعاقرًا ، لكنه مع هذا كله سأل ربه وناداه نداء خَفيا ، وقال
: { رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ } أي : من عندك { ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } أي :
ولدا صالحا { إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ }.
قال الله تعالى : { فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي
الْمِحْرَابِ } أي : خاطبته الملائكة شفاها خطابًا أسمعته ، وهو قائم يصلي في
محراب عبادته ، ومحل خَلْوَته ، ومجلس مناجاته ، وصلاته. ثم أخبر عما بشّرته به
الملائكة : { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى } أي : بولد يوجد لك من صلبك
اسمه يحيى. قال قتادة وغيره : إنما سُمِّي يحيى لأن الله تعالى أحياه بالإيمان.
وقوله : { مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ } روى العَوْفيّ وغيره عن ابن عباس.
وقال الحسن وقتادة وعكرمة ومجاهد وأبو الشعثاء والسُّدي والربيع بن أنس ، والضحاك
، وغيرهم في هذه الآية : { مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ } أي : بعيسى ابن
مريم ؛ قال الربيع بن أنس : هو أول من صدق بعيسى ابن مريم ، وقال قتادة : وعلى
سننه (4) ومنهاجه. وقال ابن جُرَيْج : قال ابن عباس في قوله : { مُصَدِّقًا
بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ } قال : كان يحيى وعيسى ابني خالة ، وكانت أم يحيى تقول
لمريم : إني أجد الذي في بطني يَسْجُد للذي في بطنك فذلك تصديقه بعيسى : تصديقه له
في بطن أمه ، وهو أول من صدق عيسى ، وكلمة الله عيسى ، وهو أكبر من عيسى (5) عليه
(6) السلام ، وهكذا قال السدي أيضا.
وقوله : { وَسَيِّدًا } قال أبو العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، وسعيد بن
جبير ، وغيرهم : الحكيم (7) وقال قتادة : سيدًا في العلم والعبادة. وقال ابن عباس
، والثوري ، والضحاك : السيد الحكيم (8) المتقي (9) وقال سعيد بن المسيب : هو
الفقيه العالم. وقال عطية : السيد في خلقه ودينه. وقال عكرمة : هو الذي لا يغلبه الغضب.
وقال ابن زيد : هو الشريف. وقال مجاهد وغيره (10) هو
__________
(1) زيادة من أ ، و.
(2) زيادة من أ ، و.
(3) في جـ ، ر : "ضعف".
(4) في جـ ، أ ، و : "سنته".
(5) في ر : "يحيى".
(6) في ر ، أ ، و : "عليهما"
(7) في جـ ، أ ، و : "الحليم".
(8) في جـ ، أ ، و : "الحليم".
(9) في أ ، و : "التقي".
(10) في أ : "غيرهم".
(2/37)
الكريم
على الله ، عز وجل.
وقوله : { وَحَصُورًا } رُوي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد
بن جبير ، وأبي الشعثاء ، وعطية العَوْفي أنهم قالوا : هو الذي لا يأتي النساء.
وعن أبي العالية والربيع بن أنس : هو الذي لا يولد له. وقال الضحاك : هو الذي لا
ولد له ولا ماء له.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، أنبأنا جرير ، عن قابوس
، عن أبيه ، عن ابن عباس في الحَصُور : الذي لا ينزل الماء ، وقد روى ابن أبي حاتم
في هذا حديثا غريبًا جدا فقال : حدثنا أبو جعفر محمد بن غالب البغدادي ، حدثني
سعيد بن سليمان ، حدثنا عبادة - يعني ابن العوام - عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن
المُسَيَّب ، عن ابن العاص - لا يدري عبد الله أو عمرو - عن النبي صلى الله عليه
وسلم في قوله : { وَسَيِّدًا وَحَصُورًا } قال : ثم تناول شيئا من الأرض فقال :
"كان ذكره مثل هذا" (1).
ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنان ، حدثنا يحيى بن سعيد القَطَّان ، عن
يحيى بن سعيد الأنصاري ؛ أنه سمع سعيد بن المُسَيَّب ، عن عبد الله بن عمرو بن
العاص يقول : ليس أحد من خلق الله لا يلقاه بذنب غير يحيى بن زكريا ، ثم قرأ سعيد
: { وَسَيِّدًا وَحَصُورًا } ثم أخذ شيئا من الأرض فقال (2) الحصور ما كان ذكره
مثل ذي وأشار يحيى بن سعيد القطان بطرف إصبعه السبابة. فهذا موقوف (3) وهو أقوى
(4) إسنادًا من المرفوع ، بل وفي صحة المرفوع نظر ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد قال القاضي عياض في كتابه (5) الشفاء : اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه
(6) كان { حَصُورًا } ليس كما قاله بعضهم : إنه كان هيوبا ، أو لا ذكر له ، بل قد
أنكر هذا حُذَّاقُ المفسرين ونقاد العلماء ، وقالوا : هذه نقيصة وعيب ولا تليق (7)
بالأنبياء ، عليهم السلام ، وإنما معناه : أنه معصوم من الذنوب ، أي لا يأتيها
كأنه حصر عنها ، وقيل : مانعا نفسه من الشهوات. وقيل : ليست له شهوة في النساء.
وقد (8) بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص ، وإنما الفضل في كونها
موجودة ثم قمعها : إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من الله عز وجل ، كيحيى ، عليه
السلام. ثم هي حق من أقدر (9) عليها وقام بالواجب فيها ولم تشغله (10) عن ربه درجة
علياء ، وهي درجة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (2/241) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/561) من طريق
يحيى بن سعيد به.
(2) في أ ، و : "قال".
(3) تفسير ابن أبي حاتم (2/243).
(4) في و : "أصح".
(5) في أ : "كتاب".
(6) في جـ ، ر ، أ : "بأنه".
(7) في أ : "ولا يليق".
(8) في جـ ، ر ، أ : "فقل".
(9) في أ : "قدر".
(10) في أ : "يشغله".
(2/38)
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
الذي
لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه ، بل زاده ذلك عبادة ، بتحصينهن وقيامه عليهن ،
واكتسابه لهن ، وهدايته إياهن. بل قد صرّح أنها ليست من حظوظ دنياه هو ، وإن كانت
من حظوظ دنيا غيره ، فقال : "حُبِّبَ إليَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ".
هذا لفظه. والمقصود أنه مدح يحيى بأنه حصور ليس أنه لا يأتي النساء ، بل معناه كما
قاله هو وغيره : أنه معصوم عن الفواحش والقاذورات ، ولا يمنع ذلك من تزويجه
بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن ، بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا
المتقدم حيث قال : { هَبْ (1) لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } كأنه قال
: ولدًا له ذرية ونسل وعَقِب ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
[وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عيسى بن حماد زُغْبَة ومحمد بن سلمة المرادي
قالا حدثنا حجاج ، عن سلمان بن القمري ، عن الليث بن سعد ، عن محمد بن عَجْلان ،
عن القعقاع ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه عليه ، إن شاء أو يرحمه ، إلا
يحيى بن زكريا ، فإنه كان سيدًا وحصورًا ونبيا من الصالحين" ، ثم أهوى النبي
صلى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال : "كان ذكره مثل هذه
القذاة"] (2).
قوله : { وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة
بولادته ، وهي أعلى من الأولى كقوله (3) تعالى لأم موسى : { إِنَّا رَادُّوهُ
إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } [ القصص : 7 ]فلما تحقق زكريا ، عليه
السلام ، هذه البشارة أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر { قَالَ رَبِّ أَنَّى
يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ } أي
الملك : { كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } أي : هكذا أمْرُ الله عظيم ،
لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر.
{ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً } أي : علامة أستدل بها على وجود الولد مني {
قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا } أي :
إشارة لا تستطيع النطق ، مع أنك سوي صحيح ، كما في قوله : { ثَلاثَ لَيَالٍ
سَوِيًّا } [ مريم : 10 ] ثم أمر بكثرة الذكر والشكر والتسبيح في هذه الحال ، فقال
: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ } وسيأتي طرف
آخر في بسط هذا المقام في أول سورة مريم ، إن شاء الله تعالى.
{ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ
وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي
لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ
أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) }
هذا إخبار من الله تعالى بما خاطبت به الملائكة مريم ، عليها السلام ، عن أمر الله
لهم بذلك : أن الله قد اصطفاها ، أي : اختارها لكثرة عبادتها وزهادتها وشرفها
وطهرها من الأكدار والوسواس (4) واصطفاها ثانيًا مرة بعد مرة لجلالتها على نساء
العالمين.
__________
(1) في جـ ، ر ، أ : "فهب" ، وهو خطأ والصواب ما بالأصل.
(2) زيادة من و.
(3) في ر : "لقوله".
(4) في أ : "الوساوس".
(2/39)
قال
عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب في قوله : { إِنَّ
اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ } قال :
كان أبو هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خَيْرُ نِسَاءٍ
رَكبْن الإبلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ ، أحْناهُ عَلَى وَلَدٍ في صِغَرِهِ ، وأرْعَاهُ
عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ ، ولمَْ تَرْكَبْ مَرْيَمُ بنْتُ عِمْرَانَ
بَعِيرًا قَطُّ". لم يخرجوه من هذا الوجه ، سوى مسلم فإنه رواه عن محمد بن
رافع وعبد بن حُمَيد (1) كلاهما عن عبد الرزاق (2) به.
وقال هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن جعفر ، عن علي بن أبي طالب رضي
الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "خَيْرُ نِسَائِهَا
مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ، وخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ".
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث هشام ، به مثله (3).
وقال الترمذي : حدثنا أبو بكر بن زَنْجَوِيْه ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا (4)
مَعْمَر ، عن قتادة ، عن أنس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "قَالَ
حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ وَخَدِيجَةُ
بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ
فِرْعَوْنَ." تفرد به الترمذي وصححه (5).
وقال عبد الله بن أبي جعفر الرازي ، عن أبيه قال : كان ثابت البُنَاني يحدث عن أنس
بن مالك ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "خَيْرُ نِسَاءِ
الْعَالَمِينَ أرْبَع ، مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ، وآسِيَةُ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ
، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، وَفَاطِمَةُ بَنْتُ رَسُولِ اللهِ [صلى الله
عليه وسلم] (6) رواه ابن مردويه (7).
وروى ابن مردويه من طريق شعبة ، عن معاوية بن قُرَّة ، عن أبيه قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ
مِنَ النِّسَاءِ إِلا ثَلاث : مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ
فِرْعَوْنَ ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى
النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ " (8).
__________
(1) في ر : "عبد الحميد".
(2) عبد الرزاق في تفسيره (1/128) ومسلم في صحيحه برقم (200) ورواه البخاري في
صحيحه برقم (5082) من وجه آخر : فرواه عن ابن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة
به.
(3) صحيح البخاري برقم (3815) ، (3432) وصحيح مسلم برقم (2430).
(4) في أ : "عن".
(5) سنن الترمذي برقم (3878).
(6) زيادة من جـ ، أ.
(7) ورواه ابن عدي في الكامل (4/217) من طريق عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه قال :
كان ثابت البناني فذكره. وقال ابن عدي بعد ما ساق له هذا الحديث : "لا يتابع
في بعض حديثه".
وقد توبع فرواه الخطيب في تاريخ بغداد (9/404) من طريق عبد الرحمن بن سعد حدثنا
أبو جعفر الرازي عن أبي عبد الرحمن محمد بن سعيد عن ثابت به ، وأبو جعفر الرازي
عيسى بن ماهان متكلم فيه ، لكن روي عن أنس من وجه آخر ، فرواه عبد الرزاق عن معمر
عن قتادة عن أنس به. مصنف عبد الرزاق (11/430) ومن طريقه ابن حبان في صحيحه برقم
(2222) "موارد".
(8) وقد ذكره الحافظ ابن كثير في كتابه البداية والنهاية (2/56).
(2/40)
وقال
ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا آدم العسقلاني ، حدثنا شُعْبة ، حدثنا عمرو بن
مُرَّة ، سمعت مُرَّة الهَمْداني بحديث عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ
النِّسَاءِ إِلا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ".
وقد أخرجه الجماعة إلا أبا داود من طرق عن شعبة به (1) ولفظ البخاري :
"كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا
آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ، وَإنَّ فَضْلَ
عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ ".
وقد استقصيت طرق هذا الحديث وألفاظه في قصة عيسى ابن مريم (2) عليهما السلام ، في
كتابنا : "البداية والنهاية" ولله الحمد والمنة (3).
ثم أخبر تعالى عن الملائكة : أنهم أمروها بكثرة العبادة والخشوع والخضوع والسجود
والركوع والدؤوب في العمل لها ، لما يريد الله [تعالى] (4) بها من الأمر الذي قدره
وقضاه ، مما فيه محنة لها ورفعة في الدارين ، بما أظهر الله تعالى فيها من قدرته
العظيمة ، حيث خلق منها ولدًا من غير أب ، فقال تعالى : { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي
لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } أما القنوت فهو الطاعة في
خشوع (5) كما قال تعالى : { بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ
قَانِتُونَ } (6) [ البقرة : 116 ].
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني
عَمْرو بن الحارث : أن دَرَّاجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "كُلُّ حَرْفٍ فِي الْقُرآنِ يُذْكَرُ
فِيهِ القُنُوتُ فَهُوَ الطَّاعَةُ". ورواه ابن جرير من حديث (7) ابن لهيعة ،
عن دَرّاج ، به ، وفيه نكارة (8)
وقال مجاهد : كانت مريم ، عليها السلام ، تقوم حتى تتورم كعباها ، والقنوت هو :
طول الركوع (9) في الصلاة ، يعني امتثالا لقوله تعالى : { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي
لِرَبِّكِ } بل قال الحسن : يعني اعبدي لربك { وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ
الرَّاكِعِينَ } أي : كوني منهم.
__________
(1) تفسير الطبري (6/397) ورواه البخاري في صحيحه برقم (3411) ، (3433) ومسلم برقم
(2431) والترمذي برقم (1834) والنسائي في الكبرى برقم (8356) وابن ماجة في السنن
برقم (3280).
(2) في جـ ، ر ، أ ، و : "عيسى ومريم".
(3) البداية والنهاية (2/55 - 57).
(4) زيادة من و.
(5) في جـ ، أ : "الخشوع".
(6) في أ ، و : (وَلِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ
قَانِتون)[الروم : 26].
(7) في جـ ، أ ، و : "طريق".
(8) تفسير ابن أبي حاتم (2/261) وتفسير الطبري (6/403) ورواه أحمد في مسنده (3/75)
قال الهيثمي في المجمع (6/320) : "في إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف" وفيه
أيضا دراج قال أحمد : "أحاديثه مناكير" وضعفه النسائي وأبو حاتم وقال
أبو داود : "أحاديثه مستقيمة إلا ما كان عن أبي الهيثم عن أبي سعيد".
(9) في أ : "الذكر".
(2/41)
وقال
الأوزاعي : ركدت في محرابها راكعة وساجدة وقائمة ، حتى نزل الماء الأصفر في قدميها
، رضي الله عنها.
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمتها من طريق محمد بن يونس الكُدَيمي - وفيه مقال
- : حدثنا علي بن بحر بن بَرّي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن
أبي كثير في قوله : { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي } قال : سَجَدت
حتى نزل الماء الأصفر في عينيها (1) (2).
وذكر ابن أبي الدنيا : حدثنا الحسن بن عبد العزيز ، حدثنا ضَمْرة ، عن ابن شَوْذَب
قال : كانت مريم ، عليها السلام ، تغتسل في كل ليلة.
ثم قال تعالى لرسوله [عليه أفضل الصلوات والسلام] (3) بعدما أطلعه على جلية الأمر :
{ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ } أي : نقصه عليك { وَمَا
كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا
كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } أي : ما كنت عندهم يا محمد فَتُخْبرهم (4)
عنهم معاينة عما جرى ، بل أطلعك الله على ذلك كأنك كنت حاضرا وشاهدًا لما كان من
أمرهم حين اقترعوا في شأن مريم أيهم يكفلها ، وذلك لرغبتهم في الأجر.
قال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثني حجاج ، عن ابن (5) جُرَيْج ،
عن القاسم بن أبي بَزَّة ، أنه أخبره عن عكرمة - وأبي بكر ، عن عكرمة - قال : ثم
خَرَجَتْ بها - يعني أم مريم بمريم - تحملها في خرقها إلى بني الكاهن بن هارون أخي
موسى ، عليهما السلام - قال : وهم يومئذ يلون في (6) بيت المقدس ما يلي الحَجَبَة
من الكعبة - فقالت لهم : دُونكم هذه النَّذِيرة فإني حررتها وهي ابنتي ، ولا تدخل
(7) الكنيسة حائض ، وأنا لا أردها إلى بيتي ؟ فقالوا (8) هذه ابنة إمامنا - وكان
عمران يؤمهم في الصلاة - وصاحب قرباننا فقال زكريا : ادفعوها إليَّ : فإن خالتها
تحتي. فقالوا : لا تطيب أنفسنا ، هي (9) ابنة إمامنا فذلك حين اقترعوا بأقلامهم
عليها (10) التي يكتبون بها التوراة ، فَقَرَعَهُم زكريا ، فكفلها (11)
وقد ذكر عكرمة أيضًا ، والسدي ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، وغير واحد - دخل حديث
بعضهم في بعض - أنهم دخلوا (12) إلى نهر الأردن واقترعوا هنالك على أن يلقوا
أقلامهم [فيه] (13) فأيهم ثبت في جَرْية الماء فهو كافلها ، فألقوا أقلامهم
فاحتملها (14) الماء إلا قلم زكريا ثبت. ويقال : إنه ذهب صُعُدًا يشق جرية الماء ،
وكان مع ذلك كبيرهم وسيدهم ، وعالمهم وإمامهم ونبيهم صلوات الله
__________
(1) في ر : "عينها".
(2) تاريخ دمشق لابن عساكر (ص 369) تراجم النساء ط. المجمع العلمي بدمشق ، ومختصر
تاريخ دمشق لابن منظور (26/78).
(3) زيادة من و.
(4) في جـ ، أ ، ر ، و : "فتخبر".
(5) في أ : "أبي".
(6) في أ ، و : "من".
(7) في أ ، و : "يدخل".
(8) في أ : "فقال".
(9) في ر : "تلي".
(10) في أ : "اقترعوا بالأقلام".
(11) لم أجده في تفسير الطبري المطبوع.
(12) في أ ، و : "ذهبوا".
(13) زيادة من أ.
(14) في جـ : "فاحتمل".
(2/42)
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)
وسلامه
علي سائر النبيين (1) [والمرسلين] (2)
{ إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ
مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا
وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) }
__________
(1) في جـ ، أ : "الأنبياء".
(2) زيادة من أ.
(2/43)
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
{
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ
رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ
اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ (46) }
هذه بشارة من الملائكة لمريم ، عليها السلام ، بأن سيوجد منها ولد عظيم ، له شأن
كبير. قال الله تعالى : { إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ
يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ } أي : بولد يكون وجوده بكلمة من الله ، أي : بقوله
له : "كن" فيكون ، وهذا تفسير قوله : { مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ
اللَّهِ } [ آل عمران : 39 ] كما ذكره الجمهور على ما سبق بيانه { اسْمُهُ
الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } أي يكون مشهورًا بهذا في الدنيا ، يعرفه المؤمنون
بذلك.
وسمي المسيح ، قال بعض السلف : لكثرة سياحته. وقيل : لأنه كان مسيح (1) القدمين :
[أي] (2) لا أخْمَص لهما. وقيل : لأنه [كان] (3) إذا مسح أحدًا من ذوي العاهات برئ
بإذن الله تعالى.
وقوله : { عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } نسبة له إلى أمه ، حيث لا أب له { وَجِيهًا فِي
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } أي : له وجاهة ومكانة عند الله
في الدنيا ، بما يوحيه الله إليه من الشريعة ، وينزل (4) عليه من الكتاب ، وغير
ذلك مما منحه به ، وفي الدار الآخرة يشفع عند الله فيمن يأذن له فيه ، فيقبل منه ،
أسوة بإخوانه (5) من أولي العزم ، صلوات الله عليهم.
وقوله : { وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا } أي : يدعو إلى عبادة
الله وحده لا شريك له ، في حال صغره ، معجزة وآية ، و[في] (6) حال كهوليته (7) حين
يوحي الله إليه بذلك { وَمِنَ الصَّالِحِينَ } أي : في قوله وعمله ، له علم صحيح
وعمل صالح.
قال محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيط ، عن محمد بن شرحبيل ، عن أبي
هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَا تَكَلَّمَ مَوْلُود فِي
صِغَرِهِ إلا عِيسَى وصَاحِبَ جُرَيْج" (8).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو الصقر يحيى بن محمد بن قَزْعَة ، حدثنا الحسين -
يعني المروزي - حدثنا جرير - يعني ابن حازم - عن محمد ، عن أبي هريرة ، عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال : "لمَْ يَتَكَّلَمْ فِي المهدِ إلا ثَلاثَة ، عِيسى
، وصَبِيٌّ كَانَ فِي زَمَنِ جُرَيْج ، وصبيٌّ آخَرُ" (9).
__________
(1) في ر : "يسيح".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ.
(4) في أ ، و : "وينزله".
(5) في جـ ، أ : "إخوانه" ، وفي ر ، و : "إخوته".
(6) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(7) في جـ ، أ ، و : "كهولته".
(8) ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره (2/272 ، 273) من طريق أبيه عن أحمد بن شعيب عن
محمد بن سلمة عن ابن إسحاق به.
(9) تفسير ابن أبي حاتم (2/272) ورواه البخاري في صحيحه برقم (3436) (2482) ومسلم
في صحيحه برقم (2550) من طريق جرير بن حازم عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة به.
(2/43)
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
فلما
سمعت بشارة الملائكة لها بذلك ، عن الله ، عز وجل ، قالت في مناجاتها : { رَبِّ
أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } تقول : كيف يوجد هذا الولد
مني وأنا لست بذات زوج ولا من عزمي أن أتزوج ، ولست بَغيا ؟ حاشا لله. فقال لها
الملك - عن الله ، عز وجل ، في جواب هذا السؤال - : { كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ
مَا يَشَاءُ } أي : هكذا أمْرُ الله عظيم ، لا يعجزه شيء. وصرح هاهنا بقوله : {
يَخْلُقُ } ولم يقل : "يفعل" كما في قصة زكريا ، بل نص هاهنا على أنه
يخلق ؛ لئلا يبقى شبهة ، وأكد ذلك بقوله : { إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا
يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } أي : فلا يتأخر (1) شيئًا ، بل يوجد عقيب (2) الأمر
بلا مهلة ، كقوله تعالى : { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ
} [ القمر : 50 ] أي : إنما نأمر مرة واحدة لا مثنوية فيها ، فيكون ذلك الشيء
سريعًا كلمح بالبصر (3).
{ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ (48)
وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ
فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ
وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا
تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأحِلَّ
لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ
فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) }
يقول تعالى - مخبرا عن تمام بشارة الملائكة لمريم بابنها عيسى ، عليه (4) السلام -
أن الله يعلمه { الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } الظاهر أن المراد بالكتاب هاهنا
الكتابة. والحكمة تقدم الكلام على تفسيرها في سورة البقرة (5).
{ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ } فالتوراة : هو الكتاب الذي أنزله الله على موسى
بن عمران. والإنجيل : الذي أنزله الله على عيسى عليهما (6) السلام ، وقد كان [عيسى]
(7) عليه السلام ، يحفظ هذا وهذا.
وقوله : { وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي : [و] (8) يجعله رسولا إلى بني
إسرائيل ، قائلا لهم : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي
أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ
طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ } وكذلك كان يفعل : يصور من الطين شكل طير ، ثم ينفخُ
فيه ، فيطير عيانًا بإذن الله ، عز وجل ، الذي جعل هذا معجزة يَدُلّ على أن الله
أرسله.
{ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ } قيل : هو الذي يبصر نهارًا ولا يبصر ليلا. وقيل بالعكس.
وقيل : هو الأعشى. وقيل : الأعمش. وقيل : هو الذي يولد أعمى. وهو أشبه ؛ لأنه أبلغ
في المعجزة وأقوى في التحدي { والأبرص } معروف.
__________
(1) في ر : "ولا تتأخر".
(2) في جـ ، و : "عقب".
(3) في أ : "البصر".
(4) في جـ ، أ ، و : "عليهما".
(5) الآية رقم 129.
(6) في و : "عليه".
(7) زيادة من جـ ، أ.
(8) زيادة من جـ ، أ.
(2/44)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
{
وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ } قال كثير من العلماء : بعث الله كل نبي
من الأنبياء بمعجزة تناسب أهل زمانه ، فكان الغالب على زمان موسى ، عليه السلام ،
السحر وتعظيم السحرة. فبعثه الله بمعجزة بَهَرَت الأبصار وحيرت كل سحار ، فلما
استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام ، وصاروا من الأبرار. وأما
عيسى ، عليه السلام ، فبُعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة ، فجاءهم من الآيات
بما لا سبيل لأحد إليه ، إلا أن يكون مؤيدًا من الذي شرع الشريعة. فمن أين للطبيب
قدرة على إحياء الجماد ، أو على مداواة الأكمه ، والأبرص ، وبعث من هو في قبره
رهين إلى يوم التناد ؟ وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم بعثه [الله] (1) في زمن
الفصحاء والبلغاء ونحارير الشعراء ، فأتاهم بكتاب من الله ، عز وجل ، لو اجتمعت
الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ، أو بعشر سور من مثله ، أو بسورة من مثله لم
يستطيعوا أبدًا ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، وما ذاك إلا لأن كلام الرب لا يشبهه
كلام الخلق أبدًا.
وقوله : { وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ
} أي : أخبركم بما أكل أحدكم الآن ، وما هو مدخر [له] (2) في بيته لغده { إِنَّ فِي
ذَلِكَ } أي : في ذلك كله { لآيَةً لَكُمْ } أي : على صدْقي فيما جئتكم به. { إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }
{ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ } أي : مقرر لهم ومُثَبّت
{ وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } فيه دلالة على أن عيسى ،
عليه السلام ، نسَخ بعض شريعة التوراة ، وهو الصحيح من القولين ، ومن العلماء من
قال : لم ينسخ منها شيئًا ، وإنما أحَلّ لهم بعض ما كانوا يتنازعون (3) فيه
فأخطؤوا ، فكشف (4) لهم عن المغطى في ذلك ، كما قال في الآية الأخرى : {
وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } [ الزخرف : 63 ] والله
أعلم.
ثم قال : { وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } أي : بحجة ودلالة على صدقي فيما
أقوله لكم. { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ
فَاعْبُدُوهُ } أي : أنا وأنتم سواء في العبودية له والخضوع والاستكانة إليه {
هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ }
{ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى
اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ
وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) }
__________
(1) زيادة من جـ ، أ ، و.
(2) زيادة من ر ، أ ، و.
(3) في جـ ، ر ، أ ، و : "تنازعوا".
(4) في أ ، و : "وانكشف".
(2/45)
رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
{
رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ
الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ
(54) }
يقول تعالى : { فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى } أي : استشعر منهم التصميم على الكفر
والاستمرار على الضلال قال : { مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ } قال مجاهد : أي من
يَتبعني إلى الله ؟ وقال سفيان الثوري وغيره : من أنصاري مع الله ؟ وقول (1) مجاهد
أقربُ.
والظاهر أنه أراد من أنصاري في الدعوة إلى الله ؟ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم
يقول في مواسم الحج ، قبل أن يهاجر : "مَنْ رَجُل يُؤْوِيني عَلى [أن] (2)
أبلغ كلامَ رَبِّي ، فإنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أنْ أُبَلِّغَ كَلامَ
__________
(1) في أ : "وقال".
(2) زيادة من ر ، وفي جـ ، أ ، و : "يؤويني حتى أبلغ".
(2/45)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
رَبِّي"
(1) حتى وجد الأنصار فآووه ونصروه ، وهاجر إليهم فآسوه (2) ومنعوه من الأسود
والأحمر. وهكذا (3) عيسى ابن مريم ، انْتدَبَ له طائفة من بني إسرائيل فآمنوا به
وآزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه. ولهذا قال تعالى مخبرًا عنهم : {
قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ
بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ
فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } الحواريون ، قيل : كانوا قَصّارين وقيل : سموا
بذلك لبياض ثيابهم ، وقيل : صيادين. والصحيح أن الحواري الناصر ، كما ثبت في
الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نَدبَ الناس يوم الأحزاب ، فانتدب
الزبير ، ثم ندبهم فانتدَبَ الزبير [ثم ندبهم فانتدب الزبير] (4) فقال : "إنَّ
لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَاريًا وَحَوَارِيي الزُّبَيْرُ" (5).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا وكيع ، حدثنا إسرائيل ، عن
سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } قال
مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا إسناد جيد.
ثم قال (6) تعالى مخبرا عن [ملأ] (7) بني إسرائيل فيما هَمُّوا به من الفتك (8)
بعيسى ، عليه السلام ، وإرادته بالسوء والصَّلب ، حين تمالؤوا (9) عليه وَوَشَوا
به إلى ملك ذلك الزمان ، وكان كافرًا ، فأنْهَوا إليه أن هاهنا رجلا يضل الناس
ويصدهم عن طاعة الملك ، وَيُفَنِّد الرعايا ، ويفرق بين الأب وابنه (10) إلى غير
ذلك مما تقلدوه في رقابهم ورموه به من الكذب ، وأنه ولد زانية (11) حتى استثاروا
غضب الملك ، فبعث في طلبه من يأخذه ويصلبه ويُنَكّل به ، فلما أحاطوا بمنزله وظنوا
أنهم قد ظَفروا به ، نجاه الله من بينهم ، ورفعه من رَوْزَنَة ذلك البيت إلى
السماء ، وألقى الله شبهه على رجل [ممن] (12) كان عنده في المنزل ، فلما دخل أولئك
اعتقدوه في ظلمة الليل عيسى ، عليه السلام ، فأخذوه وأهانوه وصلبوه ، ووضعوا على
رأسه الشوك. وكان هذا من مكر الله بهم ، فإنه نجى نبيه ورفعه من بين أظهرهم ،
وتركهم في ضلالهم يعمهون ، يعتقدون أنهم قد ظفروا بطَلبتِهم ، وأسكن الله في
قلوبهم قسوة وعنادا للحق ملازما لهم ، وأورثهم ذلة لا تفارقهم إلى يوم التناد ؛
ولهذا قال تعالى : { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ
}.
{ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ
وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ
فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا
الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ
وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)
ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) }
اختلف المفسرون في قوله : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } فقال قتادة
وغيره : هذا من المقدم والمؤخر ، تقديره : إني رافعك إلي ومتوفيك ، يعني بعد ذلك.
__________
(1) رواه أحمد في المسند (3/322) من حديث جابر رضي الله عنه.
(2) في أ : "فآمنوه".
(3) في أ : "وكذا".
(4) زيادة من أ ، و.
(5) صحيح البخاري برقم (3719) وصحيح مسلم برقم (2415) من حديث جابر رضي الله عنه.
(6) في أ : "وقال".
(7) زيادة من أ ، و.
(8) في أ : "القتل".
(9) في أ : "مالوا".
(10) في جـ ، أ ، و : "الابن وأبيه".
(11) في جـ ، ر ، أ ، و : "زنية".
(12) زيادة من أ ، و.
(2/46)
وقال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } أي : مميتك.
وقال محمد بن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وَهْب بن مُنَبِّه ، قال : توفاه الله ثلاث
ساعات من النهار حين رفعه الله إليه.
قال ابن إسحاق : والنصارى يزعمون أن الله توفاه سبع ساعات ثم أحياه.
وقال إسحاق بن بشر (1) عن إدريس ، عن وهب : أماته الله ثلاثة أيام ، ثم بعثه ، ثم
رفعه.
وقال مطر الوراق : متوفيك من (2) الدنيا وليس بوفاة موت (3) وكذا قال ابن جرير :
توفيه هو رفعه.
وقال الأكثرون : المراد بالوفاة هاهنا : النوم ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي
يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ] (4) } [
الأنعام : 60 ] وقال تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي
لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ
وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ] (5) } [ الزمر : 42 ] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -
إذا قام من النوم - : "الْحَمْدُ لله الَّذِي أحْيَانَا بَعْدَمَا أمَاتَنَا
وإلَيْهِ النُّشُورُ" ، وقال الله تعالى : { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ
عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا. وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ } إلى قوله [تعالى] (6) { وَمَا قَتَلُوهُ
يَقِينًا. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا.
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا } [ النساء : 156 - 159 ] والضمير في قوله
: { قَبْلَ مَوْتِهِ } عائد على عيسى ، عليه السلام ، أي : وإن من أهل الكتاب إلا
يؤمن (7) بعيسى قبل موت عيسى ، وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ، على ما
سيأتي بيانه ، فحينئذ يؤمن به أهل الكتاب كلّهم ؛ لأنه يضع الجزية ولا يقبل إلا
الإسلام.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، حدثنا عبد الله بن
أبي جعفر ، عن أبيه ، حدثنا الربيع بن أنس ، عن الحسن أنه قال في قوله : { إِنِّي
مُتَوَفِّيكَ } يعني وفاة المنام ، رفعه الله في منامه. قال الحسن : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لليهود : "إنَّ عِيسَى لمَْ يَمُتْ ، وَإنَّه رَاجِع
إلَيْكُمْ قَبْلَ يَوْمِ الْقَيامَةِ" (8).
وقوله تعالى : { وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : برفعي إياك إلى
السماء { وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ } وهكذا وقع ؛ فإن المسيح ، عليه السلام ، لما رفعه الله إلى السماء
تَفَرَّقت أصحابه شيَعًا بعده ؛ فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبد الله
ورسوله وابن أمته ، ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله ، وآخرون قالوا : هو الله.
وآخرون قالوا : هو ثالث ثلاثة. وقد حكى الله مقالاتهم في القرآن ، ورَد على كل
فريق ، فاستمروا كذلك قريبا من ثلاثمائة سنة ، ثم نَبَع لهم ملك
__________
(1) في أ : "بشير".
(2) في أ : "في".
(3) في أ : "مرة".
(4) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(5) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(6) زيادة من ر ، أ.
(7) في جـ ، أ ، و : "ليؤمن" ، وفي ر : "فيؤمن".
(8) تفسير ابن أبي حاتم (2/296) ورواه الطبري في تفسيره (6/455) من طريق عبد الله
بن جعفر عن أبيه عن الربيع عن الحسن به مرسلا.
(2/47)
من
ملوك اليونان ، يقال له : قسطنطين ، فدخل في دين النصرانية ، قيل : حيلة ليفسده ،
فإنه كان فيلسوفا ، وقيل : جهلا منه ، إلا أنه بَدل لهم دين المسيح وحرفه ، وزاد
فيه ونقص منه ، ووضعت له القوانين والأمانة الكبيرة - التي هي الخيانة الحقيرة -
وأحل في زمانه لحم الخنزير ، وصَلّوا له إلى المشرق (1) وصوروا له الكنائس ،
وزادوا في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه ، فيما يزعمون. وصار دين المسيح (2)
دين قسطنطين إلا أنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارت ما يزيد على
اثنى عشر ألف معبد ، وبنى المدينة المنسوبة إليه ، واتبعه (3) الطائفة
المَلْكِيَّة منهم. وهم في هذا كله قاهرون لليهود ، أيَّدهم (4) الله عليهم لأنهم
أقرب إلى الحق منهم ، وإن كان الجميع كفار ، عليهم لعائن الله.
فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم ، فكان من آمن به يؤمن بالله وملائكته
وكتبه ورسله على الوجه الحق - كانوا هم أتباع كُل نبي على وجه الأرض - إذ قد صدقوا
الرسول النبي الأمي ، خاتم الرسل ، وسيد ولد آدم ، الذي دعاهم إلى التصديق بجميع
الحق ، فكانوا (5) أولى بكل نبي من أمته ، الذين يزعمون أنهم على ملّته وطريقته ،
مع ما قد حَرّفوا وبدلوا.
ثم لو لم يكن شيء من ذلك لكان قد نسخ الله بشريعته (6) شريعة جميع الرسل بما بعث به
محمدًا صلى الله عليه وسلم من الدين الحق ، الذي لا يغير ولا يبدل إلى قيام الساعة
، ولا يزال قائما منصورًا ظاهرا على كل دين. فلهذا فتح الله لأصحابه مشارق الأرض
ومغاربها ، واحتازوا (7) جميع الممالك ، ودانت لهم جميعُ الدول ، وكسروا كسرى ،
وقَصروا قيصر ، وسلبوهما كُنُوزَهما ، وأنفقت في سبيل الله ، كما أخبرهم بذلك
نبيهم عن ربهم ، عز وجل ، في قوله : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى
لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا } الآية[ النور : 65
] ولهذا (8) لما كانوا هم المؤمنين بالمسيح حقا (9) سلبوا النصارى بلاد الشام
وأَجْلَوهم إلى الروم ، فلجؤوا إلى مدينتهم القسطنطينية ، ولا يزال الإسلام وأهله
فوقهم إلى يوم القيامة. وقد أخبر الصادق المصدوق أمَّته بأن آخرهم سيفتحون
القسطنطينية ، ويستفيؤون (10) ما فيها من الأموال ، ويقتلون الروم مَقْتلة عظيمة
جدا ، لم ير الناس مثلها ولا يرون بعدها نظيرها ، وقد جمعت في هذا جزءا مفردا.
ولهذا قال تعالى : { وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } أي : يوم القيامة {
فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا
لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } وكذلك فعل تعالى (11) بمن كفر بالمسيح من اليهود ، أو
غلا فيه وأطراه من النصارى ؛ عَذبهم في الدنيا بالقتل والسبي وأخْذ الأموال وإزالة
الأيدي عن
__________
(1) في ر : "الشرق".
(2) في أ : "عيسى".
(3) في أ : "واتبعته".
(4) في ر : "أيديهم".
(5) في جـ ، أ : "وكانوا".
(6) في جـ : "شريعة". وفي ر : "شريعته".
(7) في ر ، و : "واختاروا".
(8) في أ : "فلهذا".
(9) في و : "حقا بالمسيح".
(10) في أ : "ويستلبون".
(11) في ر : "تعالى فعل".
(2/48)
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
الممالك
، وفي الدار الآخرة عَذابُهم أشد وأشق { وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ }
[الرعد : 34].
{ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ (1)
أُجُورَهُمْ } أي : في الدنيا والآخرة ، في الدنيا بالنصر والظفر ، وفي الآخرة
بالجنات العاليات { وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ }
ثم قال تعالى : { ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ
} أي : هذا الذي قَصَصْنَاه عليك يا محمد في أمر عيسى ومبدأ ميلاده وكيفية أمره ،
هو مما قاله الله تعالى ، وأوحاه إليك ونزله عليك من اللوح المحفوظ ، فلا مرية فيه
ولا شك ، كما قال تعالى في سورة مريم : { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ
الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ
وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
[ مريم : 34 - 35 ] وهاهنا قال تعالى.
{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ
قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْت
َرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ
تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ
وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى
الْكَاذِبِينَ (61) }
__________
(1) في ر : "فنوفيهم".
(2/49)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
{
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ وَإِنَّ
اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) }
يقول تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ } في قدرة الله تعالى حيث خلقه
من غير أب { كَمَثَلِ آدَمَ } فإن الله تعالى خلقه من غير أب ولا أم ، بل {
خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } والذي (1) خلق آدم قادر
على خلق عيسى بطريق الأولى والأحرى ، وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى بكونه مخلوقا
من غير أب ، فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى ، ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل ،
فدعواها في عيسى أشد بطلانا وأظهر فسادًا. ولكن الرب ، عَزّ وجل ، أراد أن يظهر
قدرته لخلقه ، حين خَلَق آدم لا من ذكر ولا من أنثى ؛ وخلق حواء من ذكر بلا أنثى ،
وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى ، ولهذا قال تعالى في
سورة مريم : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ } [ مريم : 21 ].
وقال هاهنا : { الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } أي : هذا
القول هو الحق في عيسى ، الذي لا محيد عنه ولا صحيح (2) سواه ، وماذا بعد الحق إلا
الضلال.
ثم قال تعالى - آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يُبَاهِلَ مَنْ عَانَدَ الحق في
أمر عيسى بعد ظهور البيانِ : { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ
مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ
وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ } أي : نحضرهم في حال
المباهلة { ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ }
أي : نلتعن { فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } أي : منا أو
منكم.
وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران ، أن
النصارى حين
__________
(1) في جـ ، و : "فالذي".
(2) في أ : "والصحيح".
(2/49)
قدموا
فجعلوا يُحَاجّون في عيسى ، ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية ، فأنزل
الله صَدْرَ هذه السورة رَدا عليهم ، كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق بن يَسَار
وغيره.
قال ابن إسحاق في سيرته المشهورة وغيره : وقَدم (1) على رسول الله صلى الله عليه
وسلم وفد نصارى نَجْران ، ستون راكبا ، فيهم أربعة عَشرَ رجلا من أشرافهم يؤول
إليهم أمرهم ، وهم : العاقب ، واسمه عبد المسيح ، والسيد ، وهو الأيْهَم ، وأبو
حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل ، وأويس الحارث (2) وزيد ، وقيس ، ويزيد ، ونبيه ،
وخويلد ، وعمرو ، وخالد ، وعبد الله ، وَيُحَنَّس.
وأمْرُ هؤلاء يؤول إلى ثلاثة منهم ، وهم : العاقب وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب
مشورتهم ، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه ، والسيد وكان عالمهم وصاحب رَحْلهم
ومُجتمعهم ، وأبو حارثة بن علقمة وكان أسْقُفهم وحَبْرَهم وإمامهم وصاحب مدارسهم ،
وكان رجلا من العرب من بني بكر بن وائل ، ولكنه تَنَصَّر ، فعظمته الروم وملوكها
وشرفوه ، وبنوا له الكنائس وَمَوَّلُوه وأخْدَموه ، لما يعلمونه من صلابته في
دينهم. وقد كان يعرف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وشأنه وصفته بما علمه من
الكتب المتقدمة جيدا ، ولكن احتمله جهله على الاستمرار في النصرانية لما يرى [من]
(3) تعظيمه فيها ووجاهته عند أهلها.
قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، قال : قَدِموا على رسول الله صلى
الله عليه وسلم المدينة فدخلوا عليه مَسْجِدَه حين صلى العصر ، عليهم ثياب
الحبرَات : جُبَب وأرْدية ، في جَمَال رجال بني الحارث بن كعب. قال : يقول بعض من
رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم. وقد حانت
صلاتهم ، فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون ، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : دَعُوهم فصلّوا إلى المشرق.
قال : فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة ، والعاقب عبد
المسيح ، أو السيّد الأيهم ، وهم من النصرانية على دين الملك ، مع اختلاف أمرهم ،
يقولون : هو الله ، ويقولون : هو ولد الله ، ويقولون : هو ثالث ثلاثة. تعالى الله
[عن ذلك علوًا كبيرا] (4) وكذلك قول النصرانية ، فهم يحتجون في قولهم : "هو
الله" بأنه كان يحيي الموتى ، ويُبْرئُ الأسقامَ ، ويخبر بالغيوب ، ويخلق من
الطين كهيئة الطير ، ثم ينفخ فيه فيكون طيرا (5) وذلك كله بأمر الله ، وليجعله آية
للناس.
ويحتجون في قولهم بأنه ابن الله ، يقولون : لم يكن له أب يعلم ، وقد تكلم في المهد
بشيء لم يصنعه أحد من بني آدم قبله.
ويحتجون في (6) قولهم بأنه ثالث ثلاثة ، بقول الله تعالى : فعلنا ، وأمرنا ،
وخلقنا ، وقضينا ؛ فيقولون : لو كان واحدًا ما قال إلا فعلتُ وقضيتُ وأمرتُ وخلقتُ
؛ ولكنه هو وعيسى ومَرْيَم وفي
__________
(1) في ر : "وفد".
(2) في جـ ، ر : "وأوس بن الحارث".
(3) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(4) زيادة من جـ ، أ.
(5) في جـ ، ر ، أ ، و : "طائرا".
(6) في جـ ، ر ، أ ، و : "على".
(2/50)
كل
ذلك من (1) قولهم قد نزل القرآن.
فلما كلمه الحَبْران قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"أسْلِمَا" قالا قد أسلمنا. قال : "إنَّكُمَا لَمْ تُسْلِمَا
فأسْلِما" قالا بلى ، قد أسلمنا قبلك. قال : "كَذَبْتُمَا ،
يمْنَعُكُمَا مِنَ الإسْلامِ دُعَاؤكُما (2) لله ولدا ، وَعِبَادَتُكُمَا
الصَّلِيبَ وأكْلُكُمَا الخِنزيرَ". قالا فمن أبوه يا محمد ؟ فَصَمَتَ رسول
الله صلى الله عليه وسلم عنهما فلم يجبهما ، فأنزل الله في ذلك من قولهم ، واختلاف
أمرهم ، صَدْرَ سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها.
ثم تَكَلَّم ابن إسحاق على التفسير (3) إلى أن قال : فلما أتى رسول الله صلى الله
عليه وسلم الخبر من الله ، والفَصْلُ من القضاء بينه وبينهم ، وأمر بما أمر به من
ملاعنتهم إنْ رَدّوا ذلك عليه ، دعاهم إلى ذلك ؛ فقالوا : يا أبا القاسم ، دَعْنَا
ننظر في أمرنا ، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل (4) فيما دعوتنا إليه ، فانصرفوا عنه ،
ثم خَلَوْا بالعاقب ، وكان ذا رأيهم ، فقالوا : يا عبدَ المسيح ، ماذا ترى ؟ فقال
: والله يا معشر النصارى لقد عرَفْتم أن محمدًا لنبيٌّ مرسل ، ولقد جاءكم بالفَصْل
من خَبَر صاحبكم ، ولقد علمتم أنه ما لاعَن قوم نبيًا قط فبقي كبيرهم ، ولا نبت
صَغيرهم ، وإنه للاستئصال (5) منكم إن فعلتم ، فإن كنتم [قد] (6) أبيتم إلا إلف
دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم ، فوادعُوا الرجلَ وانصرفوا
إلى بلادكم.
فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا أبا القاسم ، قد رأينا ألا نلاعنك ،
ونتركك على دينك ، ونرجعَ على ديننا ، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا ،
يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا ، فإنكم (7) عندنا رضًا.
قال محمد بن جعفر : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ائْتُونِي
الْعَشِيَّة أبعث معكم القوي الأمين" ، فَكان (8) عمر بن الخطاب يقول : ما
أحببت الإمارة قَطّ حُبّي إياها يومئذ ، رجاء أن أكون صاحبها ، فَرُحْتُ إلى الظهر
مُهَجّرا ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهرَ سلَّم ، ثم نَظَر عن
يمينه وعن يساره ، فجعلت أتطاول له ليراني ، فلم يَزَلْ يلتمس ببصره حتى رأى أبا
عُبَيدة بن الجَرَّاح ، فدعاه : "اخْرُجْ معهم ، فَاقْضِ بينهم بِالْحَقِّ
فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ". قال عمر : فذهب بها أبو عبيدة ، رضي الله عنه (9).
وقد روى ابن مردويه من طريق محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن (10) قتادة ، عن
محمود بن لبيد ، عن رافع بن خُدَيْج : أن وفد أهل نجران قدموا على رسول الله صلى
الله عليه وسلم فذكر نحوه ، إلا أنه قال في الأشراف : كانوا اثني عشر. وذكر بقيته
بأطول من هذا السياق ، وزيادات أخَر.
وقال البخاري : حدثنا عباس بن الحسين ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن إسرائيل ، عن أبي
إسحاق ، عن صِلَة بن زُفَر ، عن حذيفة قال : جاء العاقبُ والسيدُ صاحبا نجران إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن
__________
(1) في جـ ، ر : "في".
(2) في جـ ، أ ، و : "ادعاؤكما".
(3) في جـ ، ر ، أ ، و : "تفسيرها".
(4) في جـ ، ر : "تريد أن تفعل".
(5) في جـ ، ر : "الاستئصال".
(6) زيادة من أ ، و.
(7) في جـ ، أ : "وإنكم".
(8) في جـ : "وكان".
(9) السيرة النبوية لابن هشام (1/573 - 575) ورواه الطبري في تفسيره (6/151) من
طريق سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق به.
(10) في أ : " عن".
(2/51)
يلاعناه
، قال : فقال أحدهما لصاحبه : لا تَفْعَلْ ، فوالله إن (1) كان نبيا فلاعناه لا
نفلحُ نحنُ ولا عَقبنا من بعدنا. قالا إنا نعطيك ما سألتنا ، وابعث معنا رجلا
أمينًا ، ولا تبعث معنا إلا أمينا. فقال : "لأبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلا
أمينًا (2) حَقَّ أمِينٍ" ، فاستشرفَ لها أصحابُ رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، فقال : "قُمْ يَا أبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحٍِ" فلما قام
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هَذَا أمِينُ هذه الأمَّةِ".
[و] (3) رواه البخاري أيضا ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة (4) من طرق
عن أبي إسحاق السَّبِيعي ، عن صِلَة ، عن حذيفة ، بنحوه.
وقد رواه أحمد ، والنسائي ، وابن ماجة ، من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق ، عن صلَة
عن ابن مسعود ، بنحوه (5).
وقال البخاري : حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، عن خالد ، عن أبي قِلابة ، عن أنس
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لكل أُمَّةٍ أمينٌ وأمين هذه الأمَّة
أبُو عبيدة بْنُ الْجَرَّاحِ" (6).
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن يزيد الرَّقِّي أبو يزيد ، حدثنا فُرَات ، عن
عبد الكريم ابن مالك الجزَري" عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال أبو جهل :
إن رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطَأ على عنقه.
قال : فقال : "لو فعلَ لأخَذته الملائكةُ عيانًا ، ولو أن اليهود تمنَّوا
الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار ، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله
عليه وسلم لرَجَعوا لا يجدون مالا ولا أهلا" (7).
وقد رواه الترمذي ، والنسائي ، من حديث عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن عبد الكريم ،
به. وقال الترمذي : [حديث] (8) حسن صحيح (9).
وقد روى البيهقي في دلائل النبوة قصَّة وَفْد نَجْران مطولة جدًا ، ولنذكره فإن
فيه فوائدَ كثيرة ، وفيه غرابة وفيه مناسبة لهذا المقام ، قال البيهقي :
حدثنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل ، قالا حدثنا أبو
العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا أحمد بن عبد الجبار ، حدثنا يونس بن بُكَيْر ، عن
سلمة بن عبدِ يَسُوع ، عن أبيه ، عن جده قال يونس - وكان نصرانيا فأسلم - : إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان :
"بِاسْم إلَهِ إِبْرَاهِيمَ وإسْحَاقَ ويَعْقُوبَ ، مِنْ مُحَمَّدٍ
الَّنِبيِّ رَسُولِ اللهِ إلَى أسْقف
__________
(1) في أ ، و : "لأن".
(2) في أ : "أمينا خير أمين".
(3) زيادة من أ ، و.
(4) صحيح البخاري برقم (3745) (7254) (4380 ، 4381) وصحيح مسلم برقم (2420) وسنن
الترمذي برقم (3796) والنسائي في السنن الكبرى برقم (8197) وسنن ابن ماجة برقم
(135).
(5) المسند (1/414) والنسائي في السنن الكبرى برقم (8196) وسنن ابن ماجة برقم
(3136).
(6) البخاري برقم (3744) ، (4382) ، (7255) ، ورواه مسلم في صحيحه برقم (690) من
حديث أنس بن مالك.
(7) في جـ : "أهلا ولا مالا".
(8) زيادة من جـ.
(9) المسند (1/248) وسنن الترمذي برقم (3348) ، والنسائي في السنن برقم (11685).
(2/52)
نَجْرانَ
وأهْلِ نَجْرانَ سِلْم (1) أَنْتُم ، فإنِّي أحْمَدُ إلَيْكُمْ إلَهَ إبْرَاهِيمَ
وإِسْحَاقَ ويَعْقُوبَ. أَمَّا بَعْدُ ، فإنِّي أَدْعُوكُم إلَى عِبَادَةِ اللهِ
مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ ، وأدْعُوكُمْ إلَى وِلايَةِ اللهِ مِنْ وِلايَةِ
الْعِبَادِ ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَالْجِزْيَةُ ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ (2)
آذَنْتُكُمْ بِحَرْبٍ والسَّلامُ".
فلما أتى الأسقف الكتاب فقرأه فَظعَ به ، وذَعَره ذُعرًا شديدًا ، وبعث إلى رجل من
أهل نجران يقال له : شُرَحْبيل بن وَداعة - وكان من هَمْدان ولم يكن أحد يُدْعَى
إذا نزلت مُعْضلة قَبْلَه ، لا الأيهم ولا السِّيد ولا العاقب - فدفع الأسْقُفُ
كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شُرَحْبيل ، فقرأه ، فقال الأسقف : يا أبا
مريمَ ، ما رأيك (3) ؟ فقال شرحبيل : قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل
من النبوة ، فما يُؤْمنُ أن يكون هذا هو ذاك الرجل ، ليس لي في النبوة رأي ، ولو
كان أمر من أمور الدنيا لأشرت عليك فيه برأيي ، وجَهِدتُ لك ، فقال له الأسقف :
تَنَحَّ فاجلس. فَتَنَحَّى شرحبيل فجلس ناحية ، فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران
، يقال له : عبد الله بن شرحبيل ، وهو من ذي أصبح من حمْير ، فأقرأه الكتاب ،
وسأله عن الرأي فيه ، فقال له مثل قول شرحبيل ، فقال له الأسقف : فاجلس ، فتَنَحى
فجلس ناحية. وبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران ، يقال له : جبار بن فيض ، من بني
الحارث بن كعب ، أحد بني الحماس ، فأقرأه الكتاب ، وسأله عن الرأي فيه ؟ فقال له
مثل قول شُرَحبيل وعبد الله ، فأمره الأسقف فتنحى فجلس ناحية.
فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعًا ، أمر الأسقف بالناقوس فضُرب به ،
ورُفعت النيران والمسوح في الصوامع ، وكذلك كانوا يفعلون إذا فَزعوا بالنهار ،
وإذا كان فزعُهم ليلا ضربوا بالناقوس ، ورفعت النيران في الصوامع ، فاجتمعوا (4)
حين ضرب بالناقوس ورفعت المسوح أهل الوادي أعلاه وأسفله - وطولُ الوادي مَسِيرة
يوم للراكب السريع ، وفيه ثلاث وسبعون قرية ، وعشرون ومائة ألف مقاتل. فقرأ عليهم
كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسألهم عن الرأي فيه ، فاجتمع رأيُ أهل
الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن ودَاعة الهمداني ، وعبد الله ابن شُرَحبيل
الأصبحي ، وجبار بن فيض الحارثي ، فيأتونهم (5) بخبر رسول الله صلى الله عليه
وسلم. فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم ، ولبسوا حُلَلا
لهم يجرونها من حبرة ، وخواتيم الذهب ، ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، فسلموا عليه ، فلم يرد عليهم (6) وتصدوا لكلامه نهارا طويلا فلم
يكلمهم وعليهم تلك الحلل وخواتيم الذهب. فانطلقوا يتبعون عثمان ابن عفان وعبد
الرحمن بن عوف ، وكانا مَعْرفة لهم ، فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في
مجلس ، فقالوا : يا عثمان ويا عبد الرحمن ، إن نبيكم كتب إلينا بكتاب ، فأقبلنا
مجيبين له ، فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا ، وتصدينا لكلامه نهارا طويلا
فأعيانا أن يكلمنا ، فما الرأي منكما ، أترون أن نرجع ؟ فقالا لعلي بن أبي طالب -
وهو في
__________
(1) في جـ ، ر ، أ ، و : "أسلم".
(2) في جـ ، ر ، أ ، و : "أبيتم فقد".
(3) في جـ : "ما رأيك يا أبا مريم".
(4) في جـ ، ر : "فاجتمع".
(5) في أ : "فيأتوهم".
(6) في جـ : "عليه السلام" وفي أ : "عليهم السلام".
(2/53)
القوم
- : ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم ؟ فقال عَليّ لعثمان ولعبد الرحمن : أرى
أن يضعوا حُللهم هذه وخواتيمهم ، ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يعودا إليه. ففعلوا فسلموا
، فرد سلامهم ، ثم قال : "والَّذِي بَعَثَنِي بِالحَقِّ لَقَدْ أَتَوْنِي
الْمرَّةَ الأولَى ، وإنَّ إبْلِيسَ لَمَعَهُم" ثم ساءلهم وساءلوه ، فلم تزل
به وبهم المسألة حتى قالوا : ما تقول في عيسى ، فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى ،
يسرنا إن كنت نبيا أن نسمع ما تقول فيه (1) ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"مَا عِنْدِي فِيهِ شِيء يَوْمِي هَذَا ، فَأَقِيمُوا حَتَّى أُخْبِرَكُمْ
بما (2) يقول لي رَبِّي في عيسَى". فأصبح الغد وقد أنزل الله ، عز وجل ، هذه
الآية : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [خَلَقَهُ مِنْ
تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ
الْمُمْتَرِينَ. فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ
فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا
وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ
اللَّهِ عَلَى] (3) الْكَاذِبِينَ } فأبوا أن يقروا بذلك ، فلما أصبح رسول الله
صلى الله عليه وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر ، أقبل مشتملا على الحسن والحسين في
خَمِيل له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة ، وله يومئذ عدة نسوة ، فقال شرحبيل
لصاحبيه : قد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن
رأيي (4) وإني والله أرى أمرا ثقيلا والله لئن كان هذا الرجل ملكا مبعوثا ، فكنا
أول العرب طعن في عينيه (5) ورد عليه أمره ، لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور
أصحابه حتى يصيبونا بجائحة ، وإنا لأدنى العرب منهم جوارا ، ولئن كان هذا الرجل
نبيا مرسلا فلاعَنَّاه لا يبقى على وجه الأرض منا شَعْر ولا ظُفُر إلا هلك. فقال
(6) له صاحباه : يا أبا مريم ، فما الرأي ؟ فقال : أرى (7) أن أحكمه ، فإني أرى
رجلا لا يحكم شططا أبدا. فقالا له : أنت وذاك. قال : فلقي (8) شرحبيلُ رسولَ الله
صلى الله عليه وسلم ، فقال له : إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك. فقال : "وما هو
؟" فقال : حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح ، فمهما حكمت فينا فهو
جائز. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لَعَلَّ وَرَاءكَ أحَدًا
يَثْرِبُ عَلْيكَ ؟" فقال شرحبيل : سل صاحبي. فسألهما فقالا ما يرد الوادي
ولا يَصْدرُ إلا عن رأي شرحبيل : فَرَجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلاعنهم
، حتى إذا كان الغد أتوه فكتب لهم هذا الكتاب : "بِسْم الله الرحمنِ
الرَّحِيم ، هَذَا مَا كَتَبَ مُحَمَّدٌ النَّبِي رَسُولُ اللهِ لِنَجْرَانَ - إنْ
كَانَ عَلَيْهِمْ حُكْمَهُ - فِي كُلِّ ثَمَرَةٍ وَكُلِّ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ
وَسَودَاءَ وَرَقِيقٍ فَاضِلٍ (9) عَلَيْهِمْ ، وتَرْك ذَلِكَ كُلُّهُ لَهُمْ ،
عَلَى أَلْفَي حُلَّةٍ ، فِي كُلِّ رَجَبٍ أَلْفُ حُلَّةٍ ، وفِي كُلِّ صَفَرٍ
ألْفُ حُلَّةٍ" وذكر تمام الشروط وبقية السياق (10).
والغرض أن وفودهم (11) كان في سنة تسع ؛ لأن الزهري قال : كان أهل نجران أول من
أدى الجزية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وآية الجزية إنما أنزلت بعد الفتح
، وهي قوله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا
بِالْيَوْمِ الآخِرِ [ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا
يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون]َ (12) } [ التوبة : 29 ].
وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أحمد بن داود المكي ،
حدثنا بشر بن
__________
(1) في جـ : "فيه ما تقول".
(2) في أ : "ما".
(3) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "إلى قوله".
(4) في ر : "رأي".
(5) في جـ ، ر : "عينه".
(6) في أ : "فقالا".
(7) في ر : "رأيي".
(8) في جـ : "فتلقى" ، وفي ر : "فيلقى".
(9) في و : "فافضل".
(10) دلائل النبوة للبيهقي (5/385).
(11) في أ : "ورودهم".
(12) زيادة من جـ ، أ ، ر ، و ، وفي هـ : "الآية".
(2/54)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
مهران
، أخبرنا محمد بن دينار ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن جابر قال : قدم على
النبي صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب ، فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على أن
يلاعناه (1) الغداة. قال : فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذ بيد علي
وفاطمة والحسن والحسين ، ثم أرسل إليهما فَأَبَيَا أن يجيئا (2) وأقَرَّا بالخراج
، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وَالَّذِي بَعَثَني بالْحَقِّ
لَوْ قَالا لا لأمْطَرَ عَلَيْهِمُ الْوَادِي (3) نارًا" قال جابر : فيهم
نزلت { نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ
وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ } قال جابر : { وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ }
رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وعليّ بن أبي طالب { وَأَبْنَاءَنَا } (4) الحسن
والحسين { وَنِسَاءَنَا } فاطمة.
وهكذا رواه الحاكم في مستدركه ، عن علي بن عيسى ، عن أحمد بن محمد الأزهري (5) عن
علي بن حُجْر ، عن علي بن مُسْهِر ، عن داود بن أبي هند ، به بمعناه. ثم قال :
صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه (6).
هكذا قال : وقد رواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن المغيرة (7) عن الشعبي
مرسلا وهذا أصح (8) وقد روي عن ابن عباس والبراء نحو ذلك.
ثم قال الله تعالى : { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ } أي : هذا الذي
قصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحق الذي لا مَعْدل عنه ولا محيد { وَمَا
مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّه وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. فَإِنْ
تَوَلَّوْا } أي : عن هذا إلى غيره. { فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ }
أي : من عدل عن الحق إلى الباطل فهو المفسد والله عليم به ، وسيجزيه على ذلك شر
الجزاء ، وهو القادر ، الذي لا يفوته شيء [سبحانه وبحمده ونعوذ به من حلول نقمه]
(9).
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا
يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) }
هذا الخطاب يعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ومن جرى مجراهم { قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ } والكلمة تطلق على الجملة المفيدة كما قال
هاهنا. ثم وصفها بقوله : { سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } أي : عدل ونصف ،
نستوي نحن وأنتم فيها. ثم فسرها بقوله : { أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا
نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا }
__________
(1) في جـ ، أ ، و : "يعاوداه". وفي ر : "يعاديه".
(2) في أ : "يجيبا".
(3) في جـ : "الوادي عليهم".
(4) في ر : "وابنانا".
(5) في ر : "الأزهر" وفي أ ، و : "الزهري".
(6) المستدرك (2/593 ، 594) ورواه أبو نعيم في دلائل النبوة (2/593) من طريق داود
بن أبي هند عن الشعبي عن جابر به.
(7) في جـ ، ر ، أ ، و : "مغيرة".
(8) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (2/310) من طريق شعبة به ، ورواه ابن أبي شيبة في
المصنف (14/549) ، والطبري في تفسيره (6/468) من طريق جرير عن مغيرة عن الشعبي به
مرسلا ، ورواه سعيد بن منصور في السنن برقم (500) من طريق هشيم عن مغيرة عن الشعبي
به مرسلا.
(9) زيادة من و.
(2/55)
لا
وَثَنا ، ولا صنما ، ولا صليبا ولا طاغوتا ، ولا نارًا ، ولا شيئًا (1) بل
نُفْرِدُ العبادة لله وحده لا شريك له. وهذه دعوة جميع الرسل ، قال الله تعالى : {
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا
إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الانبياء : 25 ]. [وقال تعالى] (2) { وَلَقَدْ
بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا
الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ].
ثم قال : { وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ }
وقال ابن جُرَيْج : يعني : يطيع بعضنا بعضا في معصية الله. وقال عكرمة : يعني :
يسجد بعضنا لبعض.
{ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي : فإن تولوا
عن هذا النَّصَف وهذه الدعوة فأشْهدوهم أنتم على استمراركم على الإسلام الذي شرعه
الله لكم.
وقد ذكرنا في شرح البخاري ، عند روايته من طريق الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله
بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس ، عن أبي سفيان ، في قصته حين دخل على قيصر ،
فسألهم عن نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صفته ونعته وما يدعو إليه ،
فأخبره بجميع ذلك على الجلية ، مع أن أبا سفيان كان إذ ذاك مُشْركًا لم يُسْلم بعد
، وكان ذلك بعد صُلْح الحُدَيْبِيَة وقبل الفتح ، كما هو مُصَرّح به في الحديث ،
ولأنه لما قال (3) هل يغدر ؟ قال : فقلت : لا ونحن منه في مُدة لا ندري ما هو صانع
فيها. قال : ولم يمكني كلمة أزيد فيها شيئا سوى هذه : والغرض أنه قال : ثم جيء
بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه ، فإذا فيه :
"بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيم ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إلَى
هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ ، سَلامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ
، فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَك مَرَّتَيْنِ فَإِن (4)
تَوَلَّيْتَ فإنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأريسيِّين ، و { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا
اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا
مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }
(5).
وقد ذكر محمد بن إسحاق وغير واحد أن صَدْر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها
نزلت في وَفْد نجْران ، وقال الزهري : هم أول من بَذَلَ الجزية. ولا خلاف أن آية
الجزية نزلت بعد الفتح ، فما الجمع بين كتابة هذه الآية قبل الفتح إلى هِرقْل في
جملة الكتاب ، وبين ما ذكره محمد بن إسحاق والزهري ؟ والجواب من وجُوه :
أحدها : يحتمل أن هذه الآية نزلت مرتين ، مَرّةً قبل الحديبية ، ومرة بعد الفتح.
__________
(1) في جـ ، ر : "وثن ولا صنم ولا صليب ولا طاغوت ولا نار ولا شيء".
(2) زيادة من و.
(3) في جـ : "سأله" وفي أ ، و : "ولأنه قال لما سأله".
(4) في جـ ، ر : "وإن".
(5) قصة هرقل مع أبي سفيان رواها البخاري مطولة في صحيحة برقم (7).
(2/56)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
الثاني
: يحتمل أن صدر سورة آل عمران نزل في وفد نجران إلى عند هذه الآية ، وتكون هذه
الآية نزلت قبل ذلك ، ويكون قول ابن إسحاق : "إلى بضع وثمانين آية" ليس
بمحفوظ ، لدلالة حديث أبي سفيان.
الثالث : يحتمل أن قدوم وفد نجران كان قبل الحديبية ، وأن الذي بذلوه مُصَالحةً عن
المباهلة لا على وجه الجزية ، بل يكون من باب المهادنة والمصالحة ، ووافق نزول آية
الجزية بعد ذلك على وفق ذلك كما جاء فرض الخمس والأربعة الأخماس وفق ما فعله عبد
الله بن جحش في تلك السرية قبل بدر ، ثم نزلت فريضة القسم على وفق ذلك.
الرابع : يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر بكَتْب هذا [الكلام] (1)
في كتابه إلى هرقل لم (2) يكن أنزل بعد ، ثم نزل القرآن موافقة له كما نزل بموافقة
عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الحجاب وفي الأسارى ، وفي عدم الصلاة على المنافقين
، وفي قوله : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [ البقرة : 125
] وفي قوله : { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا
خَيْرًا مِنْكُنَّ } الآية [ التحريم : 5 ].
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزلَتِ
التَّوْرَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) هَا
أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ
فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ
(66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ
حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ
بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) }
ينكر تعالى على اليهود والنصارى في محاجتهم (3) في إبراهيم الخليل ، ودعوى (4) كل
طائفة منهم أنه كان منهم ، كما قال محمد بن إسحاق بن يسار :
حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن
عباس قال : اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فتنازعوا عنده ، فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهوديا. وقالت النصارى ما كان
إبراهيم إلا نصرانيا. فأنزل الله تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ
تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ [ وَمَا أُنزلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلا
مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ] (5) } أي : كيف تَدّعُون ، أيها اليهود ، أنه
كان يهوديا ، وقد كان زمنه قبل أن ينزل الله التوراة على موسى ، وكيف تَدّعُون ،
أيها النصارى ، أنه كان نصرانيا ، وإنما حدثت النصرانية بعد زمنه بدهر. ولهذا قال
: { أَفَلا تَعْقِلُونَ }.
ثم قال : { هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ
تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُون]َ (6) }
__________
(1) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(2) في أ ، و : "إن لم".
(3) في أ : "تحاجه".
(4) في أ : "في دعوى".
(5) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(6) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ "الآية".
(2/57)
هذا
إنكار على من يحاج فيما لا علم له به ، فإنَّ اليهود والنصارى تَحَاجوا في إبراهيم
بلا علم ، ولو تحاجوا فيما بأيديهم منه علْم مما يتعلق بأديانهم التي شرعت لهم إلى
حين بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لكان أولى بهم ، وإنما تكلموا فيما لم يعلموا به
، فأنكر الله عليهم ذلك ، وأمرهم بردّ ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهادة ،
الذي (1) يعلم الأمور على حقائقها وجلياتها ، ولهذا قال : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ }
ثم قال تعالى : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ
كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا } أي : مُتَحَنفًا عن الشرك قَصْدًا إلى الإيمان { وَمَا
كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ البقرة : 135 ]
وهذه الآية كالتي (2) تقدمت في سورة البقرة : { وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ
نَصَارَى تَهْتَدُوا[ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ] (3) } [البقرة : 135].
ثم قال تعالى : { إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ
وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } يقول
تعالى : أحق الناس بمتابعة إبراهيم الخليل الذين اتبعوه على دينه ، وهذا النبي -
يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا من أصحابه المهاجرين والأنصار
ومَنْ بعدهم.
قال سعيد بن منصور : أخبرنا أبو الأحوص ، عن سعيد بن مسروق ، عن أبي الضُّحَى ، عن
مسروق ، عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلاةً مِنَ النَّبِيِّينَ ، وإنَّ وَليِّي مِنْهُمْ
أبي وخَلِيلُ رَبِّي عز وجل". ثم قرأ : { إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ
بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ [ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ] (4) }.
وقد رواه الترمذي والبزار من حديث أبي أحمد الزُّبيري ، عن سفيان الثوري ، عن أبيه
، به (5) ثم قال البزار : ورواه غير (6) أبي أحمد ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن أبي
الضحى ، عن عبد الله ، ولم يذكر (7) مسروقا. وكذا رواه الترمذي من طريق وَكِيع ،
عن سفيان ، ثم قال : وهذا أصح (8) لكن رواه وكيع في تفسيره فقال : حدثنا سفيان ،
عن أبيه ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم...فذكره.
وقوله : { وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } أي : ولي جميع المؤمنين برسله.
__________
(1) في ر : "والذي".
(2) في ر : "الذي".
(3) زيادة من ر ، جـ ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية"
(4) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(5) سعيد بن منصور في السنن برقم (501) والترمذي في السنن برقم (2995) وقد خولف
أبو أحمد الزبيري وأبو الأحوص في رواية هذا الحديث ، فرواه ابن مهدي ويحيى القطان
وأبو نعيم ، فلم يذكروا فيه مسروق.
قال ابن أبي حاتم في العلل (2/63) : سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه أبو أحمد
الزبيري وروح بن عبادة فذكره ، فقالا جميعا : "هذا خطأ رواه المتقنون من
أصحاب الثوري عن الثوري عن أبيه عن أبي الضحى عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا
مسروق".
(6) في ر : "عن".
(7) في و ، أ : "عن عبد الله يعني ولم يذكر".
(8) سنن الترمذي برقم (4081).
(2/58)
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)
{ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)
(2/59)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
{
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ
الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
آمِنُوا بِالَّذِي أُنزلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا
آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ
دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا
أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ
اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) }
يخبر تعالى عن حَسَدَ اليهود للمؤمنين وبَغْيهم إياهم الإضلال ، وأخبر (1) أنَّ
وَبَالَ ذلك إنما يعود على أنفسهم ، وهم لا يشعرون أنهم (2) ممكور بهم.
ثم قال (3) تعالى منكرا عليهم : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ
بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } أي : تعلمون صدقها وتتحققون حقها { يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : تكتمون ما في كتبكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم
وأنتم تعرفون ذلك وتتحققونه.
{ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزلَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [ لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ ] (4) } هذه مكيدة أرادوها ليلْبسُوا على الضعفاء من الناس أمْر دينهم
، وهو أنهم اشْتَوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار ويُصَلّوا مع المسلمين
صلاة الصبح ، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم ليقول الجهلة من الناس : إنما
رَدّهم (5) إلى دينهم اطّلاعهُم على نقيصة وعيب في دين المسلمين ، ولهذا قالوا : {
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }.
قال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، في قوله تعالى إخبارًا عن اليهود بهذه الآية :
يعني يهود ، صَلَّت مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر وكفروا آخر النهار ،
مكرًا منهم ، ليُرُوا الناس أن قد بدت لهم منه الضلالة ، بعد أن كانوا اتبعوه.
وقال العَوْفِي ، عن ابن عباس : قالت طائفة من أهل الكتاب : إذا لقيتم أصحاب محمد
أول النهار فآمنوا ، وإذا كان آخره فَصَلّوا صلاتكم ، لعلهم يقولون : هؤلاء أهل
الكتاب وهم أعلم منا. [وهكذا روي عن قتادة والسدي والربيع وأبي مالك] (6).
وقوله : { وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ } أي : لا تطمئنوا
وتظهروا سركم وما عندكم إلا لمن اتبع دينكم ولا تظهروا ما بأيديكم إلى المسلمين ،
فيؤمنوا به ويحتجوا (7) به عليكم ؛ قال الله تعالى : { قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى
اللَّهِ }
__________
(1) في أ : "فأخبر".
(2) في ر : "فهم".
(3) في جـ : "وقال".
(4) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(5) في جـ ، أ ، و : "رجعهم".
(6) زيادة من جـ ، أ ، و.
(7) في جـ ، أ ، و : "يحتجون".
(2/59)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
أي
هو الذي يهدي قلوب المؤمنين إلى أتم الإيمان ، بما ينزله على عبده ورسوله محمد صلى
الله عليه وسلم من الآيات البينات ، والدلائل القاطعات ، والحجج الواضحات ، وَإنْ
كتمتم (1) - أيها اليهود - ما بأيديكم من صفة محمد في (2) كتبكم التي نقلتموها عن
الأنبياء الأقدمين.
وقوله { أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ
رَبِّكُمْ } يقولون : لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين ، فيتعلموه منكم ،
ويساووكم (3) فيه ، ويمتازوا (4) به عليكم لشدة الإيمان (5) به ، أو يحاجوكم (6)
به عند الله ، أي : يتخذوه حجة عليكم مما بأيديكم ، فتقوم (7) به عليكم الدلالة
وتَتَركَّب الحجةُ في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى : { قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ
بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } أي : الأمورُ كلها تحت تصريفه ، وهو
المعطي المانع ، يَمُنّ على من يشاء بالإيمان والعلم والتصور التام ، ويضل من يشاء
ويُعمي بصره وبصيرته ، ويختم على سمعه وقلبه ، ويجعل على بصره غشاوة ، وله الحجة
والحكمة (8).
{ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } أي : اختصكم - أيها المؤمنون - من الفضل بما لا يُحَد ولا
يُوصَف ، بما شرف به نبيكم محمدًا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء وهداكم به
لأحمد (9) الشرائع.
{ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ
وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا
دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي
الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
(75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُتَّقِينَ (76) }
يخبر تعالى عن اليهود بأن فيهم الخونة ، ويحذر المؤمنين من الاغترار بهم ، فإن
منهم { مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ } أي : من المال { يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ }
أي : وما دونه بطريق الأولى أن يؤديه إليك { وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ
بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا } أي :
بالمطالبة والملازمة والإلحاح في استخلاص حقك ، وإذا كان هذا صنيعه في الدينار فما
فوقه أولى ألا يؤديه.
وقد تقدم الكلام على القنطار في أول السورة ، وأما الدينار فمعروف.
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا سعيد بن عمرو السَّكُوني ، حدثنا بَقِيَّة ، عن زياد
بن الهيثم ، حدثني مالك بن دينار قال : إنما سمي الدينار لأنه دين ونار. وقال :
معناه : أنه (10) من أخذه بحقه فهو دينه ، ومن أخذه بغير حقه فله النار.
ومناسب أن يكون (11) هاهنا الحديث الذي علقه البخاري في غير موضع من (12) صحيحه ،
ومن أحسنها سياقه في كتاب الكفالة حيث قال : وقال الليث : حدثني جعفر بن ربيعة ،
عن عبد الرحمن بن
__________
(1) في جـ ، ر : "كنتم".
(2) في و : "صفة محمد التي في".
(3) في جـ ، ر ، و : "يساوونكم".
(4) في جـ ، ر : "ويمتازون".
(5) في جـ ، أ : "بشدة الآيات".
(6) في جـ ، ر : "ويحاجوكم".
(7) في أ : "فيقوم".
(8) في أ : "والحكم".
(9) في جـ : "أكمل" ، وفي ر ، أ ، و : "لأكمل".
(10) في جـ ، ر : "أن".
(11) في جـ ، ر : "يذكر".
(12) في جـ ، ر : "في".
(2/60)
هُرْمُز
الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَنَّهُ
ذَكَرَ رَجُلا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ [بَعْضَ] (1) بَنِي إِسْرَائِيلَ
أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ ، فَقَالَ : ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ
أُشْهِدُهُمْ. فَقَالَ : كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا. قَالَ : ائْتِنِي
بِالْكَفِيلِ. قَالَ : كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلا. قَال (2) َ : صَدَقْتَ.
فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ
، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلأجَلِ الَّذِي
أَجَّلَهُ ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكِبًا ، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ
فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ ، وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ ، ثُمَّ زَجَّجَ
مَوْضِعَهَا ، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنَّكَ
تَعْلَمُ أَنِّي استَسْلَفْت (3) ُ فُلانًا أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَنِي كَفِيلا
فَقُلْتُ : كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلا فَرَضِيَ بِكَ (4). وَسَأَلَنِي شَهِيدًا ،
فَقُلْتُ : كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا فَرَضِيَ بِكَ ، وَإِنِّي جَهَدْتُ أَنْ
أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ ، وَإِنِّي
اسْتَوْدَعْتُكَهَا (5). فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ ،
ثُمَّ انْصَرَفَ (6) وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى
بَلَدِهِ ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ
مَرْكَبًا يَجِيئُهَُ بِمَالِهِ ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ
، فَأَخَذَهَا لأهْلِهِ حَطَبًا ، فَلَمَّا كَسَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ
وَالصَّحِيفَةَ ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ تَسَلَّف مِنْهُ ، فَأَتَاه بِأَلْفِ
دِينَارٍ ، وَقَالَ : وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لآتِيَكَ
بِمَالِكَ ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ. قَالَ :
هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ ؟ قَالَ : أَلَمْ أُخْبِرْكَ أَنِّي لَمْ
أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ هَذَا ؟ قَالَ : فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ
الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ ، فَانْصَرِفْ بِأَلْفِ دِينَارٍ رَاشِدًا.
هكذا رواه (7) البخاري في موضعه مُعَلَّقًا بصيغة الجزم ، وأسنده في بعض المواضع
من الصحيح عن عبد الله بن صالح كاتب الليث عنه. ورواه الإمام أحمد في مسنده هكذا
مطولا عن يونس بن محمد المؤدب ، عن الليث به (8) ورواه البزار في مسنده ، عن الحسن
بن مُدْرِك ، عن يحيى بن حماد ، عن أبي عَوَانة ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه ،
عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ، ثم قال : لا يروى عن النبي
صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد. كذا قال ، وهو خطأ ، لما تقدم
(9).
وقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ
} أي : إنَّمَا حَمَلهم على جُحود الحق أنهم يقولون : ليس علينا في ديننا حَرَج في
أكل أموال الأمييّن ، وهم العرب ؛ فإن الله قد أحلها لنا. قال الله تعالى : {
وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أي : وقد اختلقوا هذه
المقالة ، وائتفكوا بهذه الضلالة ، فَإن الله حَرم عليهم أكل الأموال إلا بحقها ،
وإنما هم قوم بُهْت.
قال عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمَر ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن [أبي] (10)
صَعْصَعَة بن يزيد (11) ؛ أن رجلا سأل ابن عباس ، قال : إنا نُصِيب في الغزو من
أموال أهل الذمة الدجاجةَ والشاةَ ؟ قال (12) ابن
__________
(1) في ر : "رجلا".
(2) في جـ ، ر ، أ : "فقال".
(3) في جـ ، أ ، و : "تسلفت" ، وفي ر : "استلفت".
(4) في أ : "ذلك".
(5) في و : "استودعكها".
(6) في و : "انصرفت".
(7) في أ : "أورد".
(8) صحيح البخاري في الكفالة برقم (2291) وفي غيرها برقم (1498) ، (2404) ، (2430)
، (2744) ، (6261) والمسند (2/348).
(9) وذكره المؤلف في البداية والنهاية (2/128) ووجه الخطأ أنه قد جاء من وجه آخر
وهي رواية أحمد والبخاري.
(10) زيادة من جـ ، ر.
(11) في أ : "مرثد".
(12) في أ : "فقال".
(2/61)
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
عباس
: فَتَقولون (1) ماذا ؟ قال : نقول (2) ليس علينا بذلك بأس. قال : هذا كما قال أهل
الكتاب : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ } إنهم إذا (3) أدوا الجزية
لم تَحل لكم أموالهُم إلا بِطِيب أنفسهم.
وكذا رواه الثوري ، عن أبي إسحاق (4) بنحوه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن يحيى ، أخبرنا أبو الربيع الزهراني (5) حدثنا
يعقوب ، حدثنا جعفر ، عن سعيد بن جبير قال : لما قال أهل الكتاب : { لَيْسَ
عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ } قال نبي الله [صلى الله عليه وسلم] (6)
كَذَبَ أَعْدَاءُ اللهِ ، مَا مِنْ شِيٍء كَانَ فِي الجَاهِلِيَّةِ إِلا وَهُوَ
تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلا الأمَانَةَ ، فَإِنَّهَا مُؤَدَّاةٌ إِلَى
الْبَرِّ وَالفَاجِرِ" (7)
ثم قال تعالى : { بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى } أي : لكن من أوفى
بعهده منكم يا أهل الكتاب الذي عاهدكم الله عليه ، من الإيمان بمحمد صلى الله عليه
وسلم إذا بعث ، كما أخذ العهد والميثاق على الأنبياء وأممهم بذلك ، واتقى محارم
الله تعالى واتبع طاعته وشريعته التي بعث بها خاتم رسله (8) وسيد البشر "
فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ "
{ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا
أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا
يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ (77) }
يقول تعالى : إن الذين يعتاضون (9) عما عهدهم (10) الله عليه ، من اتباع محمد صلى
الله عليه وسلم ، وذكر (11) صفته الناس وبيان أمره ، وعن أيمانهم الكاذبة الفاجرة
الآثمة بالأثمان القليلة الزهيدة ، وهي عروض هذه (12) الدنيا الفانية الزائلة
" أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ " أي : لا نصيب لهم فيها ،
ولا حظ لهم منها " وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ " أي : برحمة (13) منه لهم ، بمعنى : لا يكلمهم كلام لطف
بهم ، ولا ينظر إليهم بعين الرحمة " وَلا يُزَكِّيهِمْ " أي : من الذنوب
والأدناس ، بل يأمر بهم إلى النار " وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " وقد
وردت أحاديث تتعلق بهذه الآية الكريمة فلنذكر ما تيسر منها :
الحديث الأول : قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا شعبة قال : علي بن مُدْرِك
أخْبرَني قال : سمعت أبا زُرْعَة ، عن خَرَشة (14) بن الحُر ، عن أبي ذر ، قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثَلاثَة لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا
يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ" قلت : يا رسول الله ، من هم ؟ خابوا وخسروا. قال : وأعاده رسول الله
[صلى الله عليه وسلم] (15) ثلاث مرات قال : "المُسْبِل ، والمُنْفِقُ
سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ
__________
(1) في ر ، أ : "فيقولون".
(2) في أ : "يقول".
(3) في أ : "لو".
(4) تفسير عبد الرازق (1/130).
(5) في ر : "الزهري".
(6) زيادة من جـ ، أ ، و.
(7) تفسير ابن أبي حاتم (2/349) ورواه الطبري في تفسيره (6/522) وهو مرسل.
(8) في جـ ، ر ، أ ، و : "الرسل".
(9) في جـ : "يقاضون".
(10) في ر ، أ ، و : "عاهدتم".
(11) في جـ : "فذكر".
(12) في أ ، و : "عروض الحياة هذه الدنيا".
(13) في أ : "برحمته".
(14) في ر ، أ : " حرسه".
(15) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(2/62)
الْكاذِبِ
، والمنانُ". (1) ورواه مسلم ، وأهل السنن ، من حديث شعبة ، به.
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا إسماعيل ، عن الحُرَيري ، عن أبي العلاء بن
الشِّخِّير ، عن أبي الأحْمَس (2) قال : لقيتُ أبا ذر ، فقلتُ له : بلغني عنك أنك
تُحدِّث حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال : أما إنه لا تَخَالُني
أكذبُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما سمعته منه ، فما الذي بلغك عني ؟
قلتُ : بلغني أنك تقول : ثلاثة يحبهم الله ، وثلاثة يَشْنَؤهم الله عز وجل. قال :
قلته وسمعته. قلت : فمن هؤلاء الذين يحبهم الله ؟ قال : الرجل يلقى العدوّ في فئة
فينصب لهم نَحْرَه حتى يقتل أو يفتح لأصحابه. والقومُ يسافرون فيطول سراهم حتى
يَحنُّوا أن يمسوا (3) الأرض فينزلون ، فيتنحى أحدهم فيصلي حتى يوقظهم لرحيلهم.
والرجلُ يكون له الجار يؤذيه (4) فيصبر على أذاهُ حتى يفرق بينهما موت (5) أو
ظَعْن. قلت : ومن هؤلاء الذين يشنأ (6) الله ؟ قال : التاجر الحلاف - أو (7)
البائع الحلاف - والفقير المختال ، والبخيل المنان (8) غريب من هذا الوجه (9).
الحديث الثاني : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن جرير بن حازم قال :
حدثنا عَدِيّ بن عدي ، أخبرني رجاء بن حَيْوة والعُرْس بن عَمِيرة (10) عن أبيه
عَدِي - هَو ابن عميرة الكندي - قال : خاصم رجل من كِنْدةَ يقال له : امرؤ القيس
بن عابس (11) رَجلا من حَضْرمَوْت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض ، فقضى
على الحضرمي بالبينة ، فلم يكن (12) له بينة ، فقضى على امرئ القيس باليمين. فقال
الحضرمي : إن أمكنته من اليمين يا رسول الله ذهبتْ ورب (13) الكعبة أرضى. فقال
النبي صلى الله عليه وسلم : "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ لِيقتطِعَ
بِهَا مَال أحَد لَقِيَ الله عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ" قال
رجاء : وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ
اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا } فقال امرؤ القيس : ماذا لمن تركها يا
رسول الله ؟ فقال (14) الجنة" قال : فاشهَدْ أني قد تركتها له كلها. ورواه
النسائي من حديث عدي بن عدي ، به (15).
الحديث الثالث : قال أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن شَقيق ، عن عبد
الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَنْ حَلَفَ عَلَى يمين هو
فيها فَاجِر ، لِيقْتَطِعَ بِهَا مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ ، لَقِيَ الله عَزَّ
__________
(1) المسند (5/148) وصحيح مسلم برقم (106) وأبو داود في السنن برقم (4087 ، 4088)
والترمذي في السنن برقم (1211) والنسائي في السنن (5/81) وابن ماجه في السنن برقم
(2208).
(2) في ر : "الأخفش".
(3) في جـ ، ر : "يحبوا أن يمشوا".
(4) في ر : "يؤذيه جوره" ، وفي أ ، و : "يؤذيه جواره".
(5) في جـ ، ر : "الموت".
(6) في جـ ، ر ، أ : "يشنأهم".
(7) في أ ، و : "أو قال".
(8) في ر : "المنام".
(9) المسند (5/151).
(10) في أ : "عمير".
(11) في جـ ، ر ، أ ، و : "بن عامر" وهو خطأ ، والصواب ما أثبتناه من
المسند للإمام أحمد (4/191).
(12) في و : "تكن".
(13) في ر : "أو رب".
(14) في أ : "قال".
(15) المسند (4/191) والنسائي في السنن الكبرى برقم (5996).
(2/63)
وجَلَّ
وَهُوَ عَليْهِ غَضْبَانُ".
فقال (1) الأشعث : فيّ والله كان ذلك ، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجَحَدني
، فقدَّمته إلى رسول (2) الله صلى الله عليه وسلم فقال لي رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "أَلَكَ بَيَّنة ؟" قلتُ : لا فقال لليهودي :
"احْلِفْ" فقلتُ : يا رسول الله ، إذا يحلف فيذهب مالي. فأنزل الله عز
وجل : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا
قَلِيلا } [إلى آخر] (3) الآية : أخرجاه من حديث الأعمش (4).
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا أبو بكر بن عَيَّاش ، عن عاصم
بن أبي النَّجُود ، عن شَقِيق بن سلمة ، حدثنا عبد الله بن مسعود قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ امرئ مسلمٍ بغير حَقٍّ
لَقِيَ الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان" قال : فجاء الأشْعث بن قَيْس فقال :
ما يُحدِّثكم أبو عبد الرحمن ؟ فحدثناه ، فقال : فيّ كان (5) هذا الحديث ، خاصمتُ
ابن عمٍّ لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بئر لي كانت في يده ، فجَحَدني ،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بَيِّنَتُكَ أنَّها بِئْرُكَ وَإلا
فَيَمِينُهُ" قال : قلتُ : يا رسول الله ، ما لي بينة ، وإن تجعلها بيمينه
(6) تذهب بئري (7) ؛ إنَّ خَصْمي امرؤ فاجر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ امرئ مسلمٍ بغير حَقٍّ لَقِيَ الله وَهُوَ عَلَيْهِ
غَضْبَان" قال : وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { إِنَّ
الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا [
أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا
يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ] (8) (9) }.
الحديث الرابع : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن غَيْلان ، حدثنا رشْدين عن
زَبّان ، عن سهل بن معاذ بن أنس ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم :
"إنَّ لله تَعَالى عِبَادًا لا يُكَلِّمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا
يُزَكِّيهِمْ وَلا يَنْظُرُ إلَيهِمْ" قيل : ومن أولئك يا رسول الله ؟ قال :
"مُتَبَرِّئٌ مَنْ وَالِدَيهِ رَاغِبٌ عَنْهُمَا ، ومُتَبَرِّئٌ مِنْ
وَلَدِهِ ، وَرَجُلٌ أنْعَمَ عَلِيْهِ قَوْمٌ فكَفَر نعْمَتَهُمْ وتَبَرَّأ
مِنْهُمْ" (10).
الحديث الخامس : قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا هُشَيْم ، أنبأنا
العوّام - يَعني ابن حَوْشَبَ - عن إبراهيم بن عبد الرحمن - يعني السَّكْسَكي - عن
عبد الله بن أبي أوْفَى : أن رجلا أقام سلعة له في السوق ، فحلف بالله لقد أعْطَى
بها ما لم يُعْطه ، ليُوقع فيها رجلا من المسلمين ، فنزلت هذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا } ورواه البخاري ،
من غير وجه ، عن العوام (11).
الحديث السادس : قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ،
عن أبي
__________
(1) في جـ ، : "قال".
(2) في ر : "النبي".
(3) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(4) المسند (5/211) والبخاري في صحيحه برقم (2673).
(5) في جـ : "كان في".
(6) في جـ ، ر : "يمينه".
(7) في جـ : "فذهب ببئر" ، وفي ر : "يذهب بئري".
(8) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(9) المسند (5/12).
(10) المسند (3/440).
(11) تفسير ابن أبي حاتم (2/355) وصحيح البخاري برقم (4551).
(2/64)
هريرة
رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثَلاثَةٌ لا
يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَة وَلا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ ، وَلا
يُزَكِّيهِمْ ولَهم عذابٌ أليم : رَجُلٌ مَنَعَ ابْنَ السَّبِيلِ فَضْلَ مَاءٍ
عِنْدَهُ ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ - يَعْنِي كَاذِبًا -
وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا ، فَإِنْ أَعْطَاهُ وَفَى لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ
لَمْ يَفِ لَهُ". ورواه أبو داود ، والترمذي ، من حديث وكيع ، وقال الترمذي :
حسن صحيح (1).
__________
(1) المسند (2/480) وسنن أبي داود برقم (3474) وسنن الترمذي برقم (1595).
(2/65)
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
{
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ
مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) }
يخبر تعالى عن اليهود ، عَليهم لعائن الله ، أن منهم فريقا يُحَرِّفون الكلم عن
مواضعه ويُبَدِّلون كلام الله ، ويزيلونه عن المراد به ، ليُوهِموا الجهلة أنه في
كتاب الله كذلك ، وينسبونه إلى الله ، وهو كذب على الله ، وهم يعلمون من أنفسهم
أنهم قد كذبوا وافتروا في ذلك كله ؛ ولهذا قال : { وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
وقال مجاهد ، والشعبي ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس : { يَلْوُونَ
أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ } يحرفونه.
وهكذا روى (1) البخاري عن ابن عباس : أنهم (2) يحرفون ويزيدون (3) وليس أحد من خلق
الله يزيل لفظ كتاب من كتب الله ، لكنهم يحرفونه : يتأولونه على غير تأويله.
وقال وهب بن مُنَبِّه : إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله لم يغير منهما حرف ،
ولكنهم يُضِلّونَ بالتحريف والتأويل ، وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم ، {
وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } فأما كتب
الله فإنها محفوظة ولا تحول.
رواه ابن أبي حاتم ، فإن عَنَى وَهْب ما بأيديهم من ذلك ، فلا شك أنه قد دخلها
التبديل والتحريف والزيادة والنقص ، وأما تعريب ذلك المشاهد بالعربية ففيه خطأ
كبير ، وزيادات كثيرة ونقصان ، ووَهْم فاحش. وهو من باب تفسير المعبر (4) المعرب ،
وفَهْم (5) كثير منهم بل أكثرهم ، بل جميعهم فاسد. وأما إن عَنَى كتب الله التي هي
كتبه من عنده ، فتلك كما قال محفوظة لم يدخلها شيء.
{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ
وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا
كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ
وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ (80) }
قال محمد بن إسحاق : حدثنا محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرِمة أو سعيد بن جُبَير ، عن
ابن
__________
(1) في أ ، و : "وحكى".
(2) في جـ ، أ ، و : "أنه قال".
(3) في جـ ، ر ، أ ، و : "يزيلون".
(4) في أ ، و : "المعنى".
(5) في أ : "وفهمه".
(2/65)
عباس
قال : قال أبو رافع القُرَظِي ، حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل
نجران ، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد أن
نعبدكَ كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم ؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له
الرئيس : أوَ ذاك تريد منا يا محمد ، وإليه تدعوننا ؟ أو كما قال. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "مَعَاذَ اللهِ أنْ نَعْبُدَ غَيْرَ اللهِ ، أو أنْ
نَأْمُرَ بِعِبَادَةِ غَيْرِه ، مَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي ، ولا بِذَلِكَ
أَمَرَنِي". أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل في ذلك من
قولهما : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ
وَالنُّبُوَّةَ } [الآية] (1) إلى قوله : { بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }
(2).
فقوله (3) { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ
وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ
} أي : ما ينبغي لبشر آتاه الله الكتاب والحُكْم والنبوة أن يقول للناس : اعبدوني
من دون الله. أي : مع الله ، فإذا (4) كان هذا لا يصلح (5) لنبي ولا لمرسل ، فلأن
لا يصلح (6) لأحد من الناس غيرهم بطريق الأولى والأحرى ؛ ولهذا قال الحسن البصري :
لا ينبغي هذا لمؤمن أن يأمر الناس بعبادته. قال : وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم
بعضا - يعني أهل الكتاب - كانوا يَتعبَّدون لأحبارهم ورهبانهم ، كما قال الله
تعالى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ
اللَّهِ [ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا
وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ] (7) } [التوبة :
31] وفي المسند ، والترمذي - كما سيأتي - أن عَديّ بن حاتم قال : يا رسول الله ،
ما عبدوهم. قال : "بَلَى ، إنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمُ الْحَرَامَ وحَرَّمُوا
عَلَيْهِمُ الْحَلالَ ، فَاتَّبَعُوهُمْ ، فَذَلِكَ (8) عِبَادَتُهُمْ
إِيَّاهُمْ".
فالجهلة من الأحبار والرهبان ومشايخ الضلال يدخلون في هذا الذم والتوبيخ ، بخلاف
الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين ، فإنما يأمرون بما أمَرَ الله به وبلغتهم
إياه رسله الكرام. إنما يَنْهَوْنهم عما نهاهم الله عنه وبلغتهم إياه رسله الكرام.
فالرسل ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعينَ ، هم السفراء بين الله وبين خلقه في
أداء ما حملوه من الرسالة وإبلاغ الأمانة ، فقاموا بذلك أتم قيام ، ونصحوا الخلق ،
وبلغوهم الحق.
وقوله : { وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ
الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } أي : ولكن يقول الرسول للناسِ : كونوا
رَبَّانيين. قال ابن عباس وأبو رَزِين وغير واحد ، أي : حكماء علماء حلماء. وقال
الحسن وغير واحد : فقهاء ، وكذا رُوِي عن ابن عباس ، وسعيد بن جُبير ، وقتادة ،
وعطاء الخراساني ، وعطية العوفي ، والربيع بن أنس. وعن الحسن أيضا : يعني أهل
عبادة وأهل تقوى.
وقال الضحاك في قوله : { بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ
تَدْرُسُونَ } حَقٌ على من تعلم القرآن أن يكون فَقيهًا : "تَعْلَمُون"
أي : تفهمون (9) معناه. وقرئ { تُعَلِّمُون } بالتشديد من التعليم { وَبِمَا
كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } تحفظون (10) ألفاظه.
__________
(1) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(2) السيرة النبوية لابن هشام (1/554) ورواه الطبري في تفسيره (6/539) من طريق ابن
إسحاق به.
(3) في أ : "وقوله".
(4) في جـ ، ر ، أ ، و : "إذا".
(5) في أ ، و : "يصح".
(6) في أ : "يصح".
(7) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(8) في أ ، و : "فذاك".
(9) في أ ، و : "يعلمون أي يفهمون".
(10) في ر : "يحفظون".
(2/66)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)
ثم
قال : { وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ
أَرْبَابًا } أي : ولا يأمركم بعبادة أحد غير الله ، لا نبي مرسل ولا ملك مُقَرَّب
{ أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } أي : لا يَفْعَل
(1) ذلك ؛ لأنَّ من دعا إلى عبادة غير الله فقد دعا إلى الكفر ، والأنبياء إنما
يأمرون بالإيمان ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : { وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي (2) إِلَيْهِ أَنَّهُ لا
إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء : 25] وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا
فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ }
الآية ، [النحل : 36] وقال تعالى (3) { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ
مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [الزخرف
: 45] وقال [تعالى] (4) إخبارًا عن الملائكة : { وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي
إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ
} [الأنبياء : 29].
{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ
وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ
وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي
قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) }
يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن آدم ، عليه السلام ، إلى عيسى ، عليه
السلام ، لَمَهْمَا آتى الله أحدَهم من كتاب وحكمة ، وبلغ أيّ مبلَغ ، ثم جاءه
رسول من بعده ، ليؤمنَنَّ به ولينصرَنَّه ، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة
من اتباع من بعث بعده ونصرته ؛ ولهذا قال تعالى وتقدس : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ
مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } أي : لمهما
أعطيتكم (5) من كتاب وحكمة { ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ
لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى
ذَلِكُمْ إِصْرِي }
وقال ابن عباس ، ومجاهد ، والربيع ، وقتادة ، والسدي : يعني عهدي.
وقال محمد بن إسحاق : { إصري } أي : ثقل ما حمّلْتم من عهدي ، أي (6) ميثاقي
الشديد المؤكد.
{ قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ.
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ } أي : عن هذا العهد والميثاق ، { فَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ }
قال علي بن أبي طالب وابن عمه عبد الله بن عباس ، رضي الله عنهما : ما بعث الله
نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق ، لئن بَعَث محمدًا وهو حَيّ ليؤمنن به
ولينصرنه ، وأمَرَه أن يأخذ الميثاق على أمته : لئن بعث محمد [صلى الله عليه وسلم]
(7) وهم أحياء ليؤمِنُنَّ به ولينصرُنَّه.
__________
(1) في ر : "تفعل".
(2) في ر : "يوحي".
(3) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(4) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(5) في أ : "أعطيكم".
(6) في جـ ، ر ، أ ، و ، "يعني".
(7) زيادة من أ.
(2/67)
وقال
طاووس ، والحسن البصري ، وقتادة : أخذ (1) الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا.
وهذا لا يضاد ما قاله عليّ وابن عباس ولا ينفيه ، بل يستلزمه ويقتضيه. ولهذا رواه
عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن ابن طاووس ، عن أبيه مثل قول عليّ وابن عباس.
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا سفيان ، عن جابر ، عن الشعبي ،
عن عبد الله بن ثابت قال : جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول
الله ، إني (2) مررتُ بأخٍ لي من قُرَيْظَة ، فكتب لي جَوَامعَ (3) من التوراة ،
ألا أعرضها عليك ؟ قال : فتغيَّرَ وَجْهُ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم - قال عبد
الله بن ثابت : قلت (4) له : ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال
عمر : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا - قال : فسُرِّيَ عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقال : "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ
أَصْبَحَ فِيكُمْ مُوسَى عليه السلام ، ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي
لَضَلَلْتُمْ ، (5) إِنَّكُمْ حَظِّي مِنْ الأمَمِ ، وَأَنَا حَظُّكُمْ مِنْ
النَّبِيِّينَ" (6).
حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر (7) حدثنا إسحاق ، حدثنا حماد ، عن مُجالد ، عن
الشعبي ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تَسْأَلُوا
أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا ، وَإِنَّكُمْ
إِمَّا أَنْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ وإما أنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ ، وَإِنَّه -
واللهِ - لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلا أَنْ
يَتَّبِعَنِي" (8).
وفي بعض الأحاديث [له] (9) : "لَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى حَيَّينِ لَمَا وَسِعَهُما
إلا اتِّباعِي" (10).
فالرسول محمد خاتم الأنبياء (11) صلوات الله وسلامه عليه ، دائما إلى يوم الدين ،
وهو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر وجد لكان هو (12) الواجب الطاعة المقدَّم
على الأنبياء كلهم ؛ ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء (13) لما اجتمعوا ببيت المقدس
، وكذلك هو الشفيع في يوم الحشر (14) في إتيان الرب لِفَصْل القضاء ، وهو المقام
المحمود الذي لا يليق إلا له ، والذي يحيد عنه أولو العزم من الأنبياء والمرسلين ،
حتى تنتهي النوبة إليه ، فيكونَ هو المخصوص به.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ر : "إنني".
(3) في أ : "جوامع الكلم".
(4) في جـ ، ر ، أ ، و : "فقلت".
(5) في أ : "لظللتم".
(6) المسند (4/265) قال الهيثمي في المجمع (1/173) : "رجاله رجال الصحيح إلا
أن فيه جابر الجعفي وهو ضعيف".
(7) في جـ ، ر ، أ ، و : "أبو يعلى".
(8) مسند البزار برقم (124) "كشف الأستار" ورواه أحمد في مسنده (3/387)
والدارمي في السنن (1/115) قال الهيثمي في المجمع (1/174) : "رواه البزار
وأحمد وأبو يعلى". وقد حسنه الشيخ ناصر الألباني ، وتوسع في الكلام عليه
فليراجع في كتابه : "إرواء الغليل" (6/34).
(9) زيادة من أ.
(10) قال العبد الضعيف : لم أجد من ذكر عيسى في الحديث ، ولعل الله ييسر لي
الاطلاع على هذه الرواية والله أعلم.
(11) في أ : "النبيين".
(12) في جـ ، ر ، أ ، و : "كان".
(13) في جـ ، أ ، و : "ليلة الإسراء إمامهم".
(14) في أ ، و : "المحشر".
(2/68)
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
{ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) }
(2/69)
قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
{
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى
وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ
يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) }
يقول تعالى منكرًا على من أراد دينا سوى دين الله ، الذي أنزل به كتبَه وأرسل به
رسلَه ، وهو عبادته وحده لا شريك له ، الذي { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : استسلم له من فيهما طوعا وكرها ، كما قال تعالى :
{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا
وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } [الرعد : 15] وقال تعالى : { أَوَلَمْ
يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ
الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ. وَلِلَّهِ
يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ
وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ
مَا يُؤْمَرُونَ } [النحل : 48 - 50].
فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله ، والكافر مستسلم لله كرها ، فإنه تحت التسخير
والقهر والسلطان العظيم ، الذي لا يخالف ولا يمانع. وقد ورد حديث في تفسير هذه
الآية ، على معنى آخر فيه غرابة ، فقال الحافظ أبو القاسم الطبراني :
حدثنا أحمد بن النضر العسكري ، حدثنا سعيد بن حفص النُّفَيْلي ، حدثنا محمد بن
مِحْصَن العكاشي ، حدثنا الأوزاعي ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن النبي صلى الله عليه
وسلم : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا }
أمَّا مَنْ فِي السَّمَاواتِ فَالْمَلائِكَةُ ، وأمَّا مَنْ فِي الأرضِ فَمَنْ
وُلِدَ عَلَى الإسْلامِ ، وأمَّا كَرْهًا فَمَنْ أُتِي بِهِ مِنْ سَبَايا الأمَمِ
فِي السَّلاسِلِ والأغْلالِ ، يُقَادُونَ إلَى الْجَنَّةِ وَهُمْ كَارِهُونَ"
(1).
وقد ورد في الصحيح : "عَجِبَ رَبُّكَ مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إلَى الْجَنَّةِ
فِي السَّلاسِل" (2) وسيأتي له شاهد من وجه آخر ولكن المعنى الأول للآية
أقوى.
وقد قال وَكِيع في تفسيره : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : { وَلَهُ
أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } قال : هو كقوله :
{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ
} [لقمان : 25].
وقال أيضا : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : { وَلَهُ
أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } قال : حين أخذ
الميثاق.
__________
(1) المعجم الكبير للطبراني (11/194) وهنا سقط اسم ابن عباس ، فالإسناد عنده : عن
عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم به. قال الهيثمي في
المجمع (6/326) : "فيه محمد بن محصن العكاشي وهو متروك".
(2) صحيح البخاري (3010).
(2/69)
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
{
وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } أي : يوم المَعَاد ، فيجازي كلا بعمله.
ثم قال تعالى : { قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ عَلَيْنَا } يعني : القرآن
{ وَمَا أُنزلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } أي :
من الصحف والوحي : { وَالأسْبَاطِ } وهم بطون بني إسرائيل المتشعبة من أولاد
إسرائيل - هو يعقوب - الاثنى عشر. { وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى } يعني : بذلك
التوراة والإنجيل { وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ } وهذا يَعُم جميعَ الأنبياء
جملة { لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ } يعني : بل نؤمن بجميعهم { وَنَحْنُ
لَهُ مُسْلِمُونَ } فالمؤمنون من هذه الأمة يؤمنون بكل نبي أرسل ، وبكل كتاب أنزل
، لا يكفرون بشيء من ذلك بل هم مُصَدِّقون (1) بما أنزل من عند الله ، وبكل نبي
بعثه الله.
ثم قال تعالى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ
} أي : من سلك طريقًا سوى ما شَرَعَه الله فلن يُقْبل منه { وَهُوَ فِي الآخِرَةِ
مِنَ الْخَاسِرِينَ } كما قال النبي (2) صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح :
"مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ".
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا عباد بن راشد ، حدثنا
الحسن ، حدثنا أبو هريرة ، إذ ذاك ونحن بالمدينة ، قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "تَجِيءُ الأعْمَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَتَجِيءُ الصَّلاةُ
فَتَقُولُ : يَا رَبِّ ، أَنَا الصَّلاةُ. فَيَقُولُ : إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ.
فَتَجِيءُ الصَّدَقَةُ فَتَقُولُ : يَا رَبِّ ، أَنَا الصَّدَقَةُ. فَيَقُولُ :
إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ. ثُمَّ يَجِيءُ الصِّيَامُ فَيَقُولُ : أَيْ يَا رَبِّ ،
أَنَا الصِّيَامُ. فَيَقُولُ : إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ. ثُمَّ تَجِيءُ الأعْمَالُ ،
كُل ذَلِكَ يَقُولُ اللَّهُ تعالى : إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ ، ثُمَّ يَجِيءُ
الإسْلامُ فَيَقُولُ : يَا رَب ، أَنْتَ السَّلامُ وَأَنَا الإسْلامُ. فَيَقُولُ
اللَّهُ [تعالى] : (3) إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ ، بِكَ الْيَوْمَ آخُذُ وَبِكَ (4)
أُعْطِي ، قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ
دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ }.
تفرد به أحمد. قال أبو عبد الرحمن عبد الله (5) بن الإمام أحمد : عباد بن راشد ثقة
، ولكن الحسن لم يسمع من أبي هريرة (6).
{ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ
الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ
وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ
عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ
بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) }
قال ابن جرير : حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع البصري ، حدثنا يزيد بن زُرَيع ،
حدثنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان رجل من الأنصار أسلم ثم
ارتد ولحق بالشرك ،
__________
(1) في أ : "يصدقون".
(2) في جـ ، أ ، و : "رسول الله".
(3) زيادة من و.
(4) في و : "وبه".
(5) في ر : "أبو عبد الرحمن بن عبد الله" وهو خطأ ، والصواب ما أثبتناه.
(6) المسند (2/362) وقال الهيثمي في المجمع (10/345) : "فيه عباد بن راشد ،
وثقه أبو حاتم وغيره ، وضعفه جماعة ، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح".
(2/70)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
ثم
ندم ، فأرسل إلى قومه : أن سَلُوا لي (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل لي من
توبة ؟ قال : فنزلت : { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ
إِيمَانِهِمْ } إلى قوله : { [إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا]
(2) فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }.
وهكذا رواه النسائي ، وابن حبان ، والحاكم ، من طريق داود بن أبي هند ، به. وقال
الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه (3).
وقال عبد الرزاق : أخبرنا جعفر بن سليمان ، حدثنا حُمَيد الأعرج ، عن مجاهد قال :
جاء الحارث بن سُوَيد فأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم كفر الحارث فرجع إلى
قومه فأنزل الله فيه : { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ
إِيمَانِهِمْ } إلى قوله : { [إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ
وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ ] (4) غَفُورٌ رَحِيمٌ } قال : فحملها إليه رجل من
قومه فقرأها عليه. فقال الحارث : إنك والله ما علمتُ لصدوق ، وإن رسول الله صلى
الله عليه وسلم لأصدق منك ، وإن الله لأصدق الثلاثة. قال : فرجع الحارث فأسلم
فحَسُنَ إسلامه (5).
فقوله تعالى : { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ
وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } أي : قامتْ عليهم
الحُجَجُ والبراهين على صدق ما جاءهم به الرسولُ ، وَوَضَح لهم الأمرُ ، ثم ارتدوا
إلى ظُلْمة الشرك ، فكيف يستحق هؤلاء الهداية بعد ما تَلَبَّسُوا به من العماية ؛
ولهذا قال : { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
ثم قال : { أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ
وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } أي : يلعنهم الله ويلعنهم خلقه {
خَالِدِينَ فِيهَا } أي : في اللعنة { لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ
يُنْظَرُونَ } أي : لا يُفتَّر عنهم العذاب ولا يُخَفَّف عنهم ساعة واحدة.
ثم قال تعالى : { إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وهذا من لطفه وبره ورأفته ورحمته وعائدته على خلقه :
أنه من تاب إليه تاب عليه.
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ
تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ
الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا
لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) }
يقول تعالى متوعدًا ومتهدِّدًا لمن كفر بعد إيمانه ثم ازداد كفرا ، أي : استمر
عليه إلى الممات ، ومخبرا بأنه لا يقبل لهم توبة عند مماتهم ، كما قال [تعالى] (6)
{ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا
حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ [قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ
يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا] (7)
} [النساء : 18].
__________
(1) في و : "أن أرسلوا إلي".
(2) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(3) تفسير الطبري (6/572) وسنن النسائي (7/107) والحاكم في المستدرك (4/366) وقال
: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي".
(4) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(5) تفسير عبد الرزاق (1/131).
(6) زيادة من ر ، أ ، و.
(7) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(2/71)
ولهذا
قال هاهنا : { لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ } أي :
الخارجون عن المنهج الحق إلى طريق الغَيِّ.
قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عبد الله بن بَزِيع ، حدثنا يزيد بن
زُرَيع ، حدثنا ابن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ؛ أن قوما أسلموا ثم ارتدوا
، ثم أسلموا ثم ارتدوا ، فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم ، فذكروا ذلك لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ
إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } هكذا رواه ،
وإسناده جيد (1).
ثم قال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ
مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } أي : من مات على
الكفر فلن يقبل منه خير (2) أبدًا ، ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهبا فيما يراه
قُرْبة ، كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جُدْعان - وكان يُقْرِي
الضيفَ ، ويَفُكُّ العاني ، ويُطعم الطعام - : هل ينفعه ذلك ؟ فقال : (3) لا
إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا مِن الدَّهْرِ : رَبِّ اغْفِرْ لي خَطِيئَتِي يوم
الدِّينِ (4).
وكذلك لو افتدى بملء الأرض أيضا ذهبا ما قبل منه ، كما قال تعالى : { وَلا
يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ } [البقرة : 123] ، [وقال {
لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ } ] (5) [البقرة : 254] وقال : { لا
بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ } [إبراهيم : 31] وقال { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ
أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ
عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [المائدة
: 36] ؛ ولهذا قال تعالى هاهنا : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ
كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى
بِهِ } فعطف { وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } على الأول ، فدل على أنه غيره ، وما ذكرناه
أحسن من أن يقال : إن الواو زائدة ، والله أعلم. ويقتضي ذلك ألا ينقذه من عذاب
الله شيء ، ولو كان قد أنفق مثل (6) الأرض ذهبا ، ولو افتدى نفسه من الله بملء
الأرض ذهبا ، بوَزْن جِبالها وتِلالها وتُرابها ورِمَالها وسَهْلها ووعْرِها
وبَرِّها وبَحْرِها.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حجَّاج ، حدثني شُعْبَة ، عن أبي عمران الجَوْني ، عن
أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ
أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى
الأرْضِ مِنْ شَيْءٍ ، أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ ؟ قَالَ : فَيَقُولُ : نَعَمْ.
قَالَ : فَيَقُولُ : قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ ، قَدْ أَخَذْتُ
__________
(1) ذكره السيوطي في الدر المنثور (2/258) وعزاه للبزار ثم قال في آخره :
"هذا خطأ من البزار".
(2) في أ : "خيرا" وهو خطأ.
(3) في ر ، أ : "قال".
(4) رواه مسلم في صحيحه برقم (214) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(5) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(6) في أ : "ملء".
(2/72)
عَلَيْكَ
فِي ظَهْرِ أبيك آدَمَ ألا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا ، فَأَبَيْتَ إِلا أَنْ تُشْرِكَ
". وهكذا أخرجاه (1) البخاري ، ومسلم (2).
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا رَوْح ، حدثنا حَمَّاد ، عن ثابت ، عن أنس
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يُؤْتَى بِالرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ
الْجَنَّةِ فَيَقُولُ لَهُ : يَا ابْنَ آدَمَ ، كَيْفَ وَجَدْتَ مَنزلَكَ ؟
فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ ، خَيْرُ مَنزلٍ. فَيَقُولُ : سَلْ وَتَمَنَّ. فَيَقُولُ :
مَا أَسْأَلُ وَلا أَتَمَنَّى إِلا أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ
فِي سَبِيلِكَ عَشْرَ مِرَار - لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ. وَيُؤْتَى
بِالرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيَقُولُ لَهُ : يَا ابْنَ آدَمَ ، كَيْفَ
وَجَدْتَ مَنزلَكَ ؟ فَيَقُولُ : يا (3) رَبِّ شَرُّ مَنزلٍ. فَيَقُولُ لَهُ :
تَفْتَدِي (4) مِني بِطِلاعِ الأرْضِ ذَهَبًا ؟ فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ ، نَعَمْ.
فَيَقُولُ : كَذَبْتَ ، قَدْ سَأَلْتُكَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَيْسَرَ فَلَمْ
تَفْعَلْ ، فيُرَد (5) إلى النَّارِ" (6).
ولهذا قال : { أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }
أي : وما لهم من أحد يُنْقِذهم من عذاب الله ، ولا يجيرهم من أليم عقابه.
__________
(1) في أ ، و : "أخرجه".
(2) المسند (3/127) وصحيح البخاري برقم (6538) وصحيح مسلم برقم (2805).
(3) في جـ ، أ ، و : "أي".
(4) في أ ، و : "أتفتدي".
(5) في أ : "فرد".
(6) المسند (3/208).
(2/73)
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
{
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا
مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) }
[روى وَكِيع في تفسيره عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون { لَنْ
تَنَالُوا الْبِرَّ } قال : البر الجنة] (1) وقال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا
مالك ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، سمع أنس بن مالك يقول : كان أبو طلحة
أكثر أنصاري (2) بالمدينة مالا وكانَ أحبَّ أمواله إليه بيْرَحاءُ - وكانت
مُسْتقْبلة المسجد ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب
- قال أنس : فلما نزلت : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا
تُحِبُّونَ } قال أبو طلحة : يا رسول الله ، إن الله يقول : { لَنْ تَنَالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } وإن أحبَّ أموالي إلَيَّ
بيْرَحاءُ وإنها صدقة لله أرجو بِرَّها وذُخْرَها عند الله تعالى ، فَضَعْها يا
رسول الله حيث أراك الله [تعالى] (3) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "بَخٍ
، ذَاكَ مَالٌ رَابِحٌ ، ذَاكَ مَالٌ رَابِح ، وَقَدْ سَمِعْتُ ، وَأَنَا أرَى أنْ
تجْعَلَهَا فِي الأقْرَبِينَ". فقال أبو طلحة : أفْعَلُ يا رسول الله.
فَقَسَمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. أخرجاه (4).
وفي الصحيحين أن عُمَر [رضي الله عنه] (5) قال : يا رسول الله ، لم أُصِبْ مالا
قطُّ هو أنْفَسُ
__________
(1) زيادة من و.
(2) في جـ ، أ : "أكثر الأنصار" ، وفي ر ، و : "أكبر أنصاري".
(3) زيادة من جـ.
(4) المسند (3/141) وصحيح البخاري برقم (1461 ، 2752 ، 2318 ، 2769 ، 5611 ، 4554)
وصحيح مسلم برقم (998).
(5) زيادة من و.
(2/73)
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
عندي
من سهمي الذي هو بِخَيْبَرَ ، فما تأمرني به ؟ قال (1) حَبِّس الأصْل (2) وسَبِّل
الثَّمَرَةَ" (3).
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أبو الخطاب زياد بن يحيى الحَساني ، حدثنا
يزيد بن هارون ، حدثنا محمد بن عمْرو ، عن أبي عمرو بن حَماس عن حمزة بن عبد الله
بن عُمر ، قال : قال عبد الله : حضرتني هذه الآية : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ
حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } فذكرتُ ما أعطاني الله ، فلم أجد شيئًا
أحبَّ إليّ من جارية رُوميَّة ، فقلتُ ، هي حُرَّة لوجه الله. فلو أنِّي أعود في
شيء جعلته لله لنكَحْتُها ، يعني تَزوَّجتُها (4).
{ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ
إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنزلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا
بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى
اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ
صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (95) }
قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا عبد الحميد ، حدثنا شَهْر قال :
قال ابن عباس [رضي الله عنه] (5) حضرت عصابة من اليهود نبيّ الله صلى الله عليه
وسلم فقالوا : حدِّثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي. قال :
"سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ ، وَلَكِنْ اجْعَلُوا لِي ذِمَّةَ اللَّهِ ، وَمَا
أَخَذَ يَعْقُوبُ عَلَى بَنِيهِ لَئِنْ أنا حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا فَعَرَفْتُمُوهُ
لَتُتَابِعُنِّي (6) عَلَى الإسْلامِ". قَالُوا : فَذَلِكَ لَكَ. قَالَ :
"فَسَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ " قالوا : أَخْبرْنَا عن أربع خلال :
أَخْبرْنَا أَيُّ الطعام حَرَّمَ إسرائيل على نفسه ؟ وكيف ماء المرأة وماء الرجل ؟
كيف (7) هذا النبي الأمّي في النوم ؟ ومن وَليّه من الملائكة ؟ فأخذ عليهم العهد
لئن أخبرهم ليتابعنه (8) وقال : "أَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي أَنزلَ التَّوْرَاةَ
عَلَى مُوسَى : هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا
وَطَالَ (9) سُقْمُهُ ، فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذْرًا لَئِنْ شَفَاهُ اللَّهُ مِنْ
سُقْمِهِ لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ وَأَحَبَّ الطَّعَامِ
إِلَيْهِ ، وَكَانَ أَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لُحْمان الإبِلِ ، وَأَحَبَّ
الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانُهَا" فقالوا : اللهم نعم. قال : "اللَّهُمَّ
اشْهَدْ عَلَيْهِمْ". وقال : أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا
هُوَ ، الَّذِي (10) أَنزلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى : هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ
مَاءَ الرَّجُلِ أَبْيَضُ غَلِيظٌ ، ومَاءَ الْمَرْأَةِ أَصْفَر رَقِيقٌ ،
فَأَيُّهُمَا عَلا كَانَ لَهُ الولد وَالشَّبَهُ بإذنِ اللَّهِ ، إِنْ عَلا مَاءُ
الرَّجُلِ مَاءَ المرأة (11) كَانَ ذَكَرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَإِنْ عَلا مَاءُ
__________
(1) في أ ، و : "فقال".
(2) في جـ : "الأرض".
(3) لم أجده فيهما ، وقد رواه النسائي في السنن (2/232) والدارقطني في السنن
(4/193) من طريق سفيان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن عمر قال :
فذكره.
(4) مسند البزار برقم (2914) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع
(6/326) : "ورواه البزار وفيه من لم أعرفه".
(5) زيادة من أ.
(6) في جـ ، ر ، أ ، : "لتبايعني".
(7) في جـ ، و : "وماء الرجل ؟ كيف يكون الذكر منه ؟ وأخبرنا وكيف".
(8) في جـ ، أ : "ليبايعنه".
(9) في أ ، و : "فطال".
(10) في جـ ، م ، و : "والذي".
(11) في جـ ، ر ، أ ، و : "ماء الرجل على ماء المرأة".
(2/74)
الْمَرْأَةِ
(1) مَاءَ الرَّجُلِ كَانَ أُنْثَى بِإِذْنِ اللَّهِ ". قالوا : نعم. قال :
"اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ". وقال : "أَنْشُدُكُمْ (2)
بِالَّذِي أَنزلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى : هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا
النَّبِيَّ الأمِّيَّ تَنَامُ عَيْنَاهُ (3) وَلا يَنَامُ قَلْبُهُ". قالوا :
اللهم نعمْ. قَالَ : "اللَّهُمَّ اشْهَدْ ". قالوا : وأنت الآن فحدثنا
منْ وليُّك من الملائكة ؟ فعندها نجامعك أو نفارقك قال : "إِنَّ وَلِيِّيَ
جِبْرِيلُ ، وَلَمْ يَبْعَث اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلا وَهُوَ وَلِيُّهُ".
قالوا : فعندها (4) نفارقك ، ولو كان وليك غيره لتابعنَاك (5) ، فعند ذلك قال الله
تعالى : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } الآية [البقرة : 97].
ورواه أحمد أيضًا ، عن حسين بن محمد ، عن عبد الحميد ، به (6).
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا أبو أحمد الزبيري (7) حدثنا عبد الله بن الوليد
العِجْليّ ، عن بُكَير (8) بن شهاب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : أقبلت
يهودُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا أبا القاسم ، نسألك (9) عن
خمسة أشياء ، فإن (10) أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك ، فأخذ عليهم ما أخذ
إسرائيل على بنيه إذ قال : { اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [يوسف : 66].
قال : "هاتوا". قالوا : أخبرنا عن علامة النبي ؟ قال : "تَنَامُ
عَيْنَاهُ وَلا يَنَامُ قَلْبُه". قالوا : أخبرنا كيف تُؤنِّثُ المرأةُ وكيف
تُذْكرُ ؟ قال : "يَلْتَقِي الماءَان ، فإذا (11) علا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ
الْمَرْأَةِ أذْكَرَتْ ، وإذَا عَلا مَاءُ الْمَرْأَةِ (12) آنثَتْ. قالوا :
أخبرنا ما حَرَّم إسرائيل على نفسه ، قال : "كَانَ يَشْتَكِي عِرْقَ النَّسَا
، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يُلائِمُهُ إلا ألْبَانَ كَذَا وكَذَا - قال أحمد : قال
بعضهم : يعني الإبل - فَحَرَّم لُحُومَهَا". قالوا : صدقت. قالوا : أخبرنا ما
هذا الرَّعد ؟ قال : "مَلَكٌ مِنْ مَلائِكَةِ اللهِ مُوَكلٌ بِالسَّحَابِ
بِيدِهِ (13) - أو فِي يَدِه - مِخْرَاقٌ مِنْ نَارٍ يَزْجُر بِهِ السّحابَ ،
يَسُوقُهُ حَيْثُ أَمَرَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ". قالوا : فما هذا الصوت الذي
يُسمع ؟ قال : "صَوْتُه". قالوا : صدقت ، إنما بقيت واحدة ، وهي التي
نتابعك إن أخبرتنا بها ، فإنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه بالخبر ، فأخبرنا من
صاحبُك ؟ قال : "جبْرِيلُ عَلَيْه السَّلامُ". قالوا : جبريل ذاك يَنزل
بالحَرْب والقتال والعذاب عَدُوُّنا. لو قلتَ : ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات
والقَطْر لَكَانَ ، فأنزل الله عز وجل : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ
فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } [البقرة : 97] (14).
وقد رواه الترمذي ، والنسائي ، من حديث عبد الله بن الوليد العِجْلي ، به نحوه ،
وقال الترمذي : حسن غريب (15).
__________
(1) في جـ ، ر ، أ ، و : "علا ماء المرأة على ماء الرجل".
(2) في أ : "أشهدكم".
(3) في جـ : "عينه".
(4) في أ : "فعندنا".
(5) في جـ ، أ : "لبايعناك".
(6) المسند (1/278).
(7) في أ : "أبو أحمد عن الزبيري" ، وفي جـ ، و : "أبو أحمد هو
الزبيري".
(8) في جـ ، أ : "بكر".
(9) في أ : "يا أبا القاسم ، إنا نسألك".
(10) في جـ ، أ : "وإن".
(11) في جـ : "فإن".
(12) في جـ ، ر ، أ : "وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل آنثت".
(13) في جـ ، ر ، أ ، و : "بيديه".
(14) في جـ ، ر ، أ ، و : "قل من كان عدوا لجبريل إلى آخر الآية".
(15) المسند (1/274) وسنن الترمذي برقم (3117) والنسائي في السنن الكبرى برقم
(9072).
(2/75)
وقال
ابن جُرَيْج والعَوْفَيّ ، عن ابن عباس : كان إسرائيل - وهو يعقوب عليه السلام -
يَعْتَريه عِرق النَّسَا بالليل ، وكان (1) يقلقه ويُزعِجه عن النوم ، ويُقْلعُ
الوَجَعُ عنه بالنهار ، فنذر لله لئن عافاه الله لا يأكل عِرْقًا ولا يأكل ولد ما
له عِرْق.
وهكذا قال الضحاك والسدي. كذا حكاه ورواه ابن جرير في تفسيره. قال : فاتَّبعه
بَنُوه في تحريم ذلك استنَانًا به واقتداء بطريقه. قال : وقوله : { مِنْ قَبْلِ
أَنْ تُنزلَ التَّوْرَاةُ } أي : حرم ذلك على نفسه من قبل أن تنزل التوراة.
قلت : ولهذا السياق بعد ما تقدم مناسبتان (2).
إحداهما : أن إسرائيل ، عليه السلام ، حرّم أحب الأشياء إليه وتركها لله ، وكان
هذا سائغًا في شريعتهم (3) فله مناسبة بعد قوله : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ
حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } فهذا هو المشروع عندنا وهو الإنفاق في طاعة
الله مما يحبُّه العبد ويشتهيه ، كما قال : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ }
[البقرة : 177] وقال { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ } [الإنسان : 8].
المناسبة الثانية : لمَّا تقدّم السياق في الرد على النصارى ، واعتقادهم الباطل في
المسيح وتبين زَيْف ما ذهبوا إليه. وظهور (4) الحق واليقين في أمر عيسى وأمه ،
وكيف خلقه الله بقدرته ومشيئته ، وبعثه إلى بني إسرائيل يدعو إلى عبادة ربه تعالى
- شَرَع في الرد على اليهود ، قَبَّحهم الله ، وبيان أن النَّسْخ الذي أنكروا
وقوعه وجوازه قد وقع ، فإن الله ، عز وجل ، قد نصّ في كتابهم التوراة أن نوحا ،
عليه السلام ، لما خرج من السفينة أباح الله له جميع دواب الأرض يأكل منها ، ثم
بعد هذا حرّم إسرائيل على نفسه لُحْمان الإبل وألبانها ، فاتبعه بنوه في ذلك ،
وجاءت التوراة بتحريم ذلك ، وأشياء أخر زيادة على ذلك. وكان الله ، عز وجل ، قد
أذن لآدم في تزويج بناته من بنيه ، وقد حرَّم ذلك بعد ذلك. وكان التَّسَرِّي على
الزوجة مباحا في شريعة إبراهيم ، وقد فعله [الخليل] (5) إبراهيم في هاجر لما
تسرَّى بها على سارّة ، وقد حُرِّم مثل هذا في التوراة عليهم. وكذلك كان الجمع بين
الأختين شائعا (6) وقد فعله يعقوب ، عليه السلام ، جمع بين الأختين ، ثم حُرِّم
ذلك عليهم في التوراة. وهذا كله منصوص عليه في التوراة عندهم ، فهذا هو النسخ
بعينه ، فكذلك (7) فليكن ما شرعه الله للمسيح ، عليه السلام ، في إحلاله بعض ما
حرم في التوراة ، فما بالهم لم يتبعوه ؟ بل كذبوه وخالفوه ؟ وكذلك ما بعث الله به
محمدا صلى الله عليه وسلم من الدين القويم ، والصراط المستقيم ، ومِلَّة أبيه
إبراهيم فما بَالُهم (8) لا يؤمنون ؟ ولهذا قال [تعالى] (9) { كُلُّ الطَّعَامِ
كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ
مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنزلَ التَّوْرَاةُ } أي : كان حِلا (10) لهم جميعُ الأطعمة قبل
نزول التوراة إلا ما حرَّمه إسرائيل ، ثم قال : { قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ
فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ؛ فإنها ناطقة بما قلناه { فَمَنِ
افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ }
__________
(1) في جـ ، أ ، و : "فكان".
(2) في ر : "مناسبات".
(3) في جـ ، أ ، و : "شرعهم".
(4) في ر ، أ ، و : "ظهر".
(5) زيادة من أ.
(6) في أ ، و : "سائغا".
(7) في أ : "فلذلك".
(8) في جـ ، ر ، أ ، و : "فما لهم".
(9) زيادة من أ ، و.
(10) في و : "حلالا".
(2/76)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
أي
: فمن كَذَب على الله وادَّعى أنه شَرَع لهم السبت والتمسك بالتوراة دائمًا ، وأنه
لم يبعث نبيا آخر يدعو إلى الله بالبراهين والحُجَج بعد هذا الذي بَيَّنَّاه من
وقوع النسخ وظهور ما ذكرناه { فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }.
ثم قال تعالى : { قُلْ صَدَقَ اللَّهُ } أي : قل يا محمد : صدق فيما أخبر به وفيما
شرعه في القرآن { فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ } أي : اتبعوا ملة إبراهيم التي شرعها الله في القرآن على لسان
محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه الحق الذي لا شك فيه ولا مِرْية ، وهي الطريقة
التي لم يأت نبي بأكمل منها ولا أبين ولا أوضح ولا أتم ، كما قال تعالى : { قُلْ
إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام : 161] وقال
تعالى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ
حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [النحل : 123].
{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى
لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ
دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
}
يُخْبر تعالى أن (1) أول بيت وُضع للناس ، أي : لعموم الناس ، لعبادتهم ونُسُكهم ،
يَطُوفون به ويُصلُّون إليه ويَعتكِفُون عنده { لَلَّذِي بِبَكَّةَ } يعني :
الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل [عليه السلام] (2) الذي يَزْعم كل من طائفتي
النصارى واليهود أنهم على دينه ومنهجِه ، ولا يَحجُّون إلى البيت الذي بناه عن أمر
الله له في ذلك ونادى الناس إلى حجه. ولهذا قال : { مُبَارَكًا } أي وُضع مباركا {
وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ }
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التَّيْميّ ، عن أبيه
، عن أبي ذَر ، رضي الله عنه ، قال قلتُ : يا رسولَ الله ، أيُّ مَسجِد وُضِع في
الأرض أوَّلُ ؟ قال : "الْمسْجِدُ الْحَرَامُ". قلت : ثم أَيُّ ؟ قال :
"الْمسجِدُ الأقْصَى". قلت : كم بينهما ؟ قال : "أرْبَعُونَ
سَنَةً". قلتُ : ثم أَيُّ ؟ قال : ثُم حَيْثُ أدْرَكْت (3) الصَلاةَ فَصَلِّ
، فَكُلُّهَا مَسْجِدٌ".
وأخرجه البخاري ، ومسلم ، من حديث الأعمش ، به (4).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصَّبَّاحِ ، حدثنا سعيد بن سليمان ،
حدثنا شَرِيك عن مُجالد ، عن الشَّعْبيّ عن علِيّ في قوله تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ
بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا } قال : كانت البيوت قبلة
، ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله [تعالى] (5).
[قال] (6) وحدثنا أبي ، حدثنا الحسن بن الربيع ، حدثنا أبو الأحْوَص ، عن سِماك ،
عن خالد
__________
(1) في جـ : "بأن".
(2) زيادة من و.
(3) في أ : "أدركتك".
(4) المسند (5/150) وصحيح البخاري برقم (3366 ، 3425) وصحيح مسلم برقم (520).
(5) زيادة من أ ، و.
(6) زيادة من و.
(2/77)
ابن
عَرْعَرة قال : قام رجل إلى عَليّ فقال : ألا تُحَدِّثني عن البيت : أهو أولُ بيت
وُضِع في الأرض ؟ قال (1) لا ولكنه أول بيت وضع فيه البركة مقام إبراهيم ، ومن
دخله كان آمنا. وذكر تمام الخبر في كيفية بناء إبراهيم البيت ، وقد ذكرنا ذلك
مُستَقصًى في سورة البقرة فأغْنَى عن إعادته (2).
وزعم السُّدِّي أنه أولُ بيت وضع على وجه الأرض مطلقا. والصحيحُ قولُ علِيّ [رضي
الله عنه] (3) فأما الحديث الذي رواه البيهقي في بناء الكعبة في (4) كتابه دلائل
النبوة ، من طريق ابن لَهِيعة ، عن يَزيد بن أبي حَبيب ، عن أبي الخير ، عن عبد
الله بن عمرو بن العاص مرفوعا : "بَعَثَ اللهُ جِبْرِيلَ إلَى آدَمَ
وحَوَّاءَ ، فَأمَرَهُمَا بِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ ، فَبَنَاهُ آدَمُ ، ثُمَّ أمَرَ
بِالطَّوَافِ بِهِ ، وَقِيلَ لَهُ : أنْتَ أوَّلُ النَّاسِ ، وهَذَا أوَّلُ بَيْتٍ
وُضِعَ للنَّاسِ" (5) فإنَّهُ كَمَا تَرَى مِنْ مُفْرَدَاتِ ابْنِ لَهِيعة ،
وهو ضعيف. والأشْبَهُ ، والله أعلمُ ، أن يكون هذا مَوْقُوفا على عبد الله بن
عَمْرو. ويكون من الزاملتين اللتين (6) أصابهما يوم الْيَرْمُوك ، من كلام أهل
الكتاب.
وقوله تعالى : { لَلَّذِي بِبَكَّةَ } بَكَّة : من أسماء مكة على المشهور ، قيل
(7) سُمِّيت بذلك لأنها تَبُكّ أعناق الظلمة والجبابرة ، بمعنى : يُبَكون (8) بها
ويخضعون عندها. وقيل : لأن الناس يَتَبَاكّون فيها ، أي : يزدحمون.
قال قتادة : إن الله بَكَّ به الناس جميعا ، فيصلي (9) النساء أمام الرجال ، ولا
يفعل ذلك ببلد غيرها.
وكذا روي عن مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعَمْرو بن شُعَيب ، ومُقاتل بن
حَيَّان.
وذكر حَمّاد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال :
مَكَّة من الفجّ إلى التنعيم ، وبكّة من البيت إلى البطحاء.
وقال شعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم : بَكَّة : البيت والمسجد. وكذا قال الزهري.
وقال عكرمة في رواية ، وميمون بن مِهْران : البيت وما حوله بكة ، وما وراء ذلك
مكة.
وقال أبو صالح ، وإبراهيم النّخَعي ، وعطية [العَوْفي] (10) ومقاتل بن حيان : بكة
موضع البيت ، وما سوى ذلك مكة.
وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة : مكة ، وبكة ، والبيت العتيق ، والبيت الحرام ،
والبلد الأمين ، والمأمون ، وأُمَّ رُحْم ، وأم القُّرَى ، وصلاح ، والعرْش على
وزن بدر ، والقادس ؛ لأنها تطهر من الذنوب ، والمقدسة ، والناسّة : بالنون ،
وبالباء أيضا ، والحاطمة ، والنسَّاسة (11) والرأس ، وكُوثى ، والبلدة ،
والبَنِيَّة ، والكعبة.
__________
(1) في ر ، أ ، و : "فقال".
(2) تفسير ابن أبي حاتم (2/403).
(3) زيادة من أ ، و.
(4) في أ ، و : "من".
(5) دلائل النبوة للبيهقي (2/45) وقال البيهقي : "تفرد به ابن لهيعة هكذا
مرفوعا".
(6) في أ : "اللذين".
(7) في ر : "وقيل".
(8) في و : "يذلون".
(9) في جـ ، ر : "فتصلي".
(10) زيادة من جـ ، أ ، و.
(11) في جـ ، ر : "النساسة والحطامة".
(2/78)
وقوله
: { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } أي : دلالات ظاهرة أنه من بناء إبراهيم ، وأن الله
تعالى عَظَّمه وشرفه.
ثم قال تعالى : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } يعني : الذي لَمَّا ارتفع البناء استعان
به على رفع القواعد منه والجدران ، حيث كان يقف عليه ويناوله ولده إسماعيل ، وقد
كان ملتصقا (1) بجدار البيت ، حتى أخّره عُمَر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، في
إمارته إلى ناحية الشرق (2) بحيث يتمكن الطُّوَّاف ، ولا يُشَوِّشون على المصلين
عنده بعد الطواف ؛ لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده حيث قال : { وَاتَّخِذُوا
مِنْ مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [البقرة : 125] وقد قدمنا الأحاديث في ذلك
، فأغْنَى عن إعادته هاهنا ، ولله الحمد والمنة.
وقال العَوْفي عن ابن عباس في قوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ
إِبْرَاهِيمَ } أي : فمنهُنَّ (3) مقام إبراهيم والمَشْعَر.
وقال مجاهد : أثرُ قدميه في المقام آية بينة. وكذا روي عن عُمر بن عبد العزيز ،
والحسن ، وقتادة ، والسُّدِّي ، ومُقَاتِل بن حَيّان ، وغيرهم.
وقال أبو طالب في قصيدته :
ومَوْطئ إبراهيم في الصخر رَطْبةٌ... على قدميه حافيًا غير ناعلِ...
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد وعَمْرو الأوْدِي قالا حدثنا وَكِيع ، حدثنا
سفيان ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله : { مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ
} قال : الحَرَم كله مقام إبراهيم. ولفظ عمرو : الحَجَر كله مقام إبراهيم.
وروي عن سعيد بن جبير أنه قال : الحج مقام إبراهيم. هكذا رأيت في النسخة ، ولعله
الحَجَر كله مقام إبراهيم ، وقد صرح بذلك مجاهد.
وقوله : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } يعني : حَرَمُ مكة إذا دخله الخائف
يأمنُ من كل سوء ، وكذلك كان الأمر في حال الجاهلية ، كما قال الحسن البصري وغيره
: كان الرجل يَقْتُل فيَضَع في عُنُقِه صوفَة ويدخل (4) الحرم فيلقاه ابن المقتول
فلا يُهَيِّجْهُ حتى يخرج.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا أبو يحيى التَّيْمِيّ ، عن
عطاء ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا
} قال : من عاذ بالبيت أعاذه البيت ، ولكن لا يؤوى ولا يُطْعَم ولا يُسقى ، فإذا
خرج أُخذ بذنبه.
وقال الله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا
وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [العنكبوت : 67] وقال تعالى : {
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ
وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } [قريش : 3 ، 4] وحتى إنه من جملة تحريمها حُرْمة اصطياد
صيدها وتنفيره عن أوكاره ، وحُرْمة قطع أشجارها وقَلْع ثمارها
__________
(1) في أ ، و : "ملصقا".
(2) في جـ : "المشرق".
(3) في أ : "فهي".
(4) في جـ : "فيدخل".
(2/79)
حَشيشها
، كما ثبتت الأحاديث والآثار (1) في ذلك عن جماعة من الصحابة مرفوعا وموقوفًا.
ففي الصحيحين ، واللفظ لمسلم ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوم الفتح فتح مكة : "لا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ ونية ، وإذَا
استَنْفَرْتُمْ فَانْفِرُوا" ، وقال يوم الفتح فتح مكة : "إنَّ هَذَا
الْبَلَدَ (2) حَرَّمَهُ اللهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأرْضَ ، فَهُوَ
حَرَامٌ بِحرمَةِ الله إلى يوم القيامة ، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ، ولم
يحل لي إلا في ساعة من نهار ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يُعْضَد
شَوْكُهُ ، ولا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ ، ولا يَلْتَقطْ لُقَطتَه إلا من عَرَّفها ،
ولا يُخْتَلى خَلاها (3) فقال العباس : يا رسول الله ، إلا الإذْخَرَ ، فإنه
لقَيْنهم ولبُيوتهم ، فقال : "إلا الإذْخَر" (4).
ولهما عن أبي هريرة ، مثله أو نحوه (5) ولهما واللفظ لمسلم أيضًا عَن أبي شُرَيح
العَدوي أنه قال لعَمْرو بن سعيد ، وهو يبعث البعوث إلى مكةَ : ائذَنْ لي أيها
الأمير أن أُحدِّثك قَولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغَدَ من يوم
الفتح سَمعَتْه أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به ، إنه حَمد الله وأثنى
عليه ثم قال : "إنَّ مَكِّةَ حَرَّمَهَا اللهُ ولَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ ،
فَلا يَحِلُّ لامرئ يُؤْمِنُ باللهِ والْيَوْمِ الآخر أنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا ،
ولا يَعْضد بِهَا شَجَرةً ، فَإنْ أحَد تَرخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ صلى الله
عليه وسلم فِيهَا فَقُولُوا له : إنَّ اللهَ أذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ
لَكُمْ ، وإنَّمَا أذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، وَقَدْ عَادَتْ
حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأمْسِ فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهدُ
الغائِبَ" فقيل لأبي شُرَيح : ما قال لك عَمْرو ؟ قال : أنا أعلم بذلك منك يا
أبا شريح ، إن الحَرَم لا يُعيذ عاصيا ولا فَارا بِدَمٍ ولا فارا بخَزْيَة (6)
(7).
وعن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا يَحِلُّ
لأحَدِكُمْ أنْ يَحْمِلَ بِمَكَّةَ السِّلاحَ" (8) رواه مسلم.
وعن عبد الله بن عَدِيّ بن الحمراء الزهري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول ، وهو واقف بالحَزْوَرَة في سوق مكة : "واللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أرْضِ
اللهِ ، وأحَبُّ أرْضِ اللهِ إلَى اللهِ ، ولَوْلا أنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا
خَرَجْتُ".
رواه الإمام أحمد ، وهذا لفظه ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة. وقال الترمذي :
حسن صحيح (9) وكذا صَحَّح من حديث ابن عباس نحوه (10) وروى أحمد عن أبي هريرة ،
نحوه (11).
__________
(1) في جـ : "الآثار والأحاديث".
(2) في أ ، و : "البيت".
(3) في ر : "خلالها".
(4) صحيح البخاري برقم (1834) وصحيح مسلم برقم (1353).
(5) صحيح البخاري برقم (2434) ، وصحيح مسلم برقم (1355).
(6) في أ : " بخرمة".
(7) صحيح البخاري برقم (1832) وصحيح مسلم برقم (1354).
(8) صحيح مسلم برقم (1356).
(9) المسند (4/305) وسنن الترمذي برقم (3925) والنسائي في السنن الكبرى برقم
(4254) وسنن ابن ماجة برقم (3108).
(10) سنن الترمذي برقم (3926) وقال : "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه".
(11) المسند (4/305).
(2/80)
وقال
ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا بِشْر بن آدم ابن بنت أزهر السمان (1) حدثنا أبو
عاصم ، عن زُرَيق بن مسلم (2) الأعمى مولى بني مخزوم ، حدثني زياد بن أبي عياش ،
عن يحيى بن جَعْدَةَ بن هُبَيْرَة ، في قوله تعالى : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ
آمِنًا } قال : آمنا من النار.
وفي معنى هذا القول الحديثُ الذي رواه البيهقي : أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن
عَبْدان ، أخبرنا أحمد بن عبيد ، حدثنا محمد بن سليمان الواسطي ، حدثنا سعيد بن
سليمان ، حدثنا ابن المُؤَمَّل ، عن ابن مُحَيْصِن ، عن عطاء ، عن عبد الله بن
عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ
دَخَلَ فِي حَسَنةٍ وَخَرَجَ مِنْ سَيِّئَةٍ ، وَخَرَجَ مَغْفُورًا له" : ثم
قال : تفرد به عبد الله بن المؤمل ، وليس بقوي (3).
وقوله : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلا } هذه آية وُجُوب الحج عند الجمهور. وقيل : بل هي قوله : { وَأَتِمُّوا
الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [البقرة : 196] والأول أظهر.
وقد وَرَدَت الأحاديثُ المتعددة بأنه أحدُ أركان الإسلام ودعائمه وقواعده ، وأجمع
المسلمون على ذلك إجماعا ضروريا ، وإنما يجب على المكلَّف في العُمْر مَرّة واحدة
بالنص والإجماع.
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا الربيع بن مسلم القُرَشيّ ، عن
محمد بن زياد ، عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
" أيُّهَا النَّاسُ ، قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ فَحُجُّوا". فقال
رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت ، حتى قالها ثلاثًا. فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "لَوْ قُلْتُ : نَعَمْ ، لَوَجَبَتْ ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ
". ثم قال : "ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ
قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، وإذَا
أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وإذَا نَهَيْتُكُمْ
عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ". ورواه مسلم ، عن زُهَير بن حرب ، عن يزيد بن هارون ،
به نحوه (4).
وقد روى سُفْيان بن حسين ، وسليمان بن كثير ، وعبد الجليل بن حُمَيد ، ومحمد بن
أبي حفصة ، عن الزهري ، عن أبي سنَان الدؤلي - واسمه يزيد بن أمية - عن ابن عباس
قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "يَأيُّهَا النَّاسُ ، إنَّ
اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُم الحَجَّ". فقام الأقرع بن حابس فقال : يا رسول الله ،
أفي كل عام ؟ قال : "لَوْ قُلْتُهَا ، لَوَجَبَتْ ، ولَوْ وَجَبَتْ لَمْ
تَعْمَلُوا بِهَا ، وَلَمْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْمَلُوا بِهَا ؛ الحَجُّ مَرَّةً
، فَمَنْ زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ".
رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة ، والحاكم من حديث الزهري ، به.
ورواه شريك ، عن سِمَاك ، عن عِكرمة ، عن ابن عباس ، بنحوه. وروي من حديث أسامة
يزيد (5).
__________
(1) في ر : "السماك".
(2) في أ : "أسلم".
(3) السنن الكبرى (5/158) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (11/201) والبزار في
مسنده برقم (1161) من طريق عبد الله بن المؤمل به.
(4) المسند (2/508) وصحيح مسلم برقم (1337).
(5) المسند (1/290) وسنن أبي داود برقم (1721) وسنن النسائي (5/111) وسنن ابن ماجة
برقم (2886) والمستدرك (2/293).
(2/81)
[و]
(1) قال الإمام أحمد : حدثنا منصور بن وَرْدَان ، عن علي بن عبد الأعلى ، عن أبيه
، عن أبي البَخْتَرِيّ ، عن علِيّ قال : لما نزلت : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ
حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } قالوا : يا رسول الله ، في كل
عام ؟ فسكت ، قالوا : يا رسول الله ، في كل عام ؟ قال : "لا ولَوْ قُلْتُ :
نَعَمْ ، لَوَجَبَتْ". فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } [المائدة : 101].
وكذا رواه الترمذي ، وابن ماجة ، والحاكم ، من حديث منصور بن وَرْدان ، به : ثم
قال (2) الترمذي : حسن غريب. وفيما قال نظر ؛ لأن البخاري قال : لم يسمع أبو
البَخْتَرِيّ من عليّ (3).
وقال ابن ماجة : حدثنا محمد بن عبد الله بن نُمَيْر ، حدثنا محمد بن أبي عُبَيدة ،
عن أبيه ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن أنس بن مالك قال : قالوا : يا رسول الله
، الحج في كل عام ؟ قال : "لَوْ قُلْتُ : نعم ، لوجَبَتْ ، وَلَوْ وَجَبَتْ
لَمْ تَقُومُوا (4) بِهَا ، ولَوْ لَمْ تَقُومُوا بِهَا لَعُذِّبتُمْ" (5).
وفي الصحيحين من حديث ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن جابر ، عن (6) سُراقة بن مالك
قال : يا رسول الله ، مُتْعَتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد ؟ قال : "لا بَلْ
لِلأبَدِ". وفي رواية : "بل لأبَد أبَدٍ" (7).
وفي مسند الإمام أحمد ، وسنن أبي داود ، من حديث واقد بن أبي واقد الليثي ، عن
أبيه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه في حجته : "هَذِه ثُمَّ
ظُهُورَ الحُصْر" (8) يعني : ثم الزَمْنَ ظُهور الحصر ، ولا تخرجن من البيوت.
وأما الاستطاعة فأقسام : تارة يكون الشخص مستطيعا بنفسه ، وتارة بغيره ، كما هو
مقرر في كتب الأحكام.
قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا عَبْدُ بن حميد ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا
إبراهيم بن يزيد قال : سمعت محمَّد بن عَبَّاد بن جعفر يحدث عن ابن عمر قال : قام
رجل إلى رسول الله (9) صلى الله عليه وسلم فقال : مَن الحاجّ يا رسول الله ؟ قال :
"الشَّعثُ التَّفِل" (10) فقام آخر فقال : أيّ الحج أفضل يا رسول الله ؟
قال : "العَجُّ والثَّجُّ" ، فقام آخر فقال : ما السبيل يا رسول الله
(11) ؟ قال : "الزَّادُ والرَّاحِلَة".
__________
(1) زيادة من جـ ، ر.
(2) في أ : "وقال".
(3) المسند (1/113) وسنن الترمذي برقم (3055) وسنن ابن ماجة برقم (2884) والمستدرك
(2/294).
(4) في ر : "يقوموا".
(5) سنن ابن ماجة برقم (2885) وقال البوصيري في الزوائد (3/4) : "هذا إسناد
صحيح رجاله ثقات".
(6) في أ : "أن".
(7) صحيح البخاري برقم (2505) وصحيح مسلم برقم (1216).
(8) المسند (5/218 ، 219) وسنن أبي داود برقم (1722).
(9) في جـ ، ر ، أ ، و : "النبي".
(10) في ر : "الثقل" وهو خطأ ، والصواب ما أثبتناه.
(11) في جـ : "يا رسول الله ما السبيل".
(2/82)
وهكذا
رواه ابن ماجة من حديث إبراهيم بن يزيد وهو الخُوزي. قال الترمذي : ولا نعرفه (1)
إلا من حديثه ، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه. كذا قال هاهنا. وقال في
كتاب الحَجّ : هذا حديث حسن (2).
[و] (3) لا يشك أن هذا الإسناد رجاله كلهم ثقات سوى الخوزي هذا ، وقد تكلموا فيه
من أجل هذا الحديث.
لكن قد تابعه غيره ، فقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز بن عبد
الله العامري ، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي ، عن محمد بن عباد
بن جعفر قال : جلست إلى عبد الله بن عمر قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال له : ما السبيل ؟ قال : "الزَّادُ والرِّحْلَة". وكذا
رواه ابن مَرْدُويَه من رواية محمد بن عبد الله بن عُبَيد بن عمير ، به.
ثم قال ابن أبي حاتم : وقد روي عن ابن عباس ، وأنس ، والحسن ، ومجاهد ، وعطاء ،
وسعيد بن جبير ، والربيع بن أنس ، وقتادة - نحو ذلك (4).
وقد روي هذا الحديث من طُرُق أخَر من حديث أنس ، وعبد الله بن عباس ، وابن مسعود ،
وعائشة كُلها مرفوعة ، ولكن في أسانيدها مقال (5) كما هو مقرر في كتاب الأحكام ،
والله أعلم.
وقد اعتنى الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه بجمع طرق هذا الحديث. ورواه الحاكم من حديث
قَتَادَة (6) عن حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن أنس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم سئل عن قول الله : { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } فقيل (7) ما السبيل
(8) ؟ قال : "الزَّاد والرَّاحِلَة". ثم قال : صحيح على شرط مسلم ، ولم
يخرجاه (9).
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن يُونس ، عن الحسن قال :
قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ
مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } قالوا : يا رسول الله ، ما السبيل ؟ قال :
"الزَّادُ والرَّاحِلَةُ " (10).
ورواه وَكِيع في تفسيره ، عن سفيان ، عن يونس ، به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا الثوري ، عن إسماعيل - وهو أبو
إسرائيل الملائي - عن فُضَيْل - يعني ابن عمرو - عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تَعَجَّلُوا
__________
(1) في ر : "يرفعه".
(2) سنن الترمذي برقم (813) ، (2998) وسنن ابن ماجة برقم (2896).
(3) زيادة من جـ ، ر.
(4) تفسير ابن أبي حاتم (2/422).
(5) وقد جمع هذه الطرق وتكلم عليها الشيخ ناصر الألباني في كتابه : "إرواء
الغليل" (4/160) بما يكفي وانتهى إلى ضعف الحديث فأفاد وأجاد جزاه الله خيرا.
(6) في جـ : "أبي قتادة".
(7) في أ : "فقال" ، وفي و : "قالوا".
(8) في و : "فقيل : يا رسول الله ، ما السبيل".
(9) المستدرك (1/442).
(10) تفسير الطبري (7/40) وإسناده مرسل.
(2/83)
إلى
الحَجِّ - يعني الفريضة - فإنَّ أحَدَكُمْ لا يَدْرِي مَا يَعْرضُ لَهُ "
(1).
وقال أحمد أيضًا : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الحسن بن عمرو الفُقَيْمي ، عن
مِهْرَان بن أبي صفوان (2) عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"مَنْ أرَادَ الحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ".
ورواه أبو داود ، عن مسدد ، عن أبي معاوية الضرير ، به (3).
وقد روى ابن جُبَير ، عن ابن عباس في قوله : { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا }
قال : من مَلَك ثلاثمائة دِرْهم فقد استطاع إليه سبيلا.
وعن عِكْرمة مولاه أنه قال : السبيل الصِّحَّة.
وروى وَكِيعُ بن الجَرّاح ، عن أبي جَنَاب (4) - يعني الكلبي - عن الضحاك بن
مُزاحِم ، عن ابن عباس قال : { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } قال : الزاد
والبعير.
وقوله : { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } قال ابن
عباس ومجاهد وغير واحد : أي ومن جَحَد فريضة الحج فقد كفر ، والله غني عنه (5).
وقال سَعيد بن منصور ، عن سفيان ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن عِكْرِمة قال : لما نزلت
: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } قالت
اليهود : فنحن مسلمون. قال الله ، عز وجل (6) فاخْصَمْهُمْ فَحَجَّهُمْ - يعني
فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : "إنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَى الْمسلمِينَ
حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاع إِلَيْه سَبِيلا" فقالوا : لم يكتب علينا ،
وأبَوْا أن يحجوا. قال الله : { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ
الْعَالَمِينَ } (7).
وروى ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد ، نَحْوَه.
وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، أخبرنا إسماعيل بن عبد الله بن
مسعود ، أخبرنا مسلم بن إبراهيم وشَاذ (8) بن فياض قالا أخبرنا هلال أبو هاشم
الخُراساني ، أخبرنا أبو إسحاق الهمداني ، عن الحارث ، عن علي ، رضي الله عنه ،
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً
وَلَمْ يَحُجَّ بَيْتَ اللهِ ، فَلا يَضُرُّهُ مَاتَ يَهُودِيّا أوْ نَصْرانِيّا ،
ذَلِكَ بِأنَّ اللهَ قَالَ : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ
الْعَالَمِينَ }.
ورواه ابن جرير من حديث مسلم بن إبراهيم ، به.
وهكذا رواه ابنُ أبي حاتم عن أبي زُرْعة الرازي : حدثنا هلال بن فياض ، حدثنا هلال
أبو هاشم
__________
(1) المسند (1/313).
(2) في أ : "ضرار" ، وفي و : "مهران".
(3) المسند (1/225).
(4) في جـ ، ر : "حباب".
(5) في ر : "عنه غني".
(6) في ر : "الله تعالى".
(7) ورواه الطبري في تفسيره (7/50) من طريق عيسى عن سفيان به.
(8) في أ : "وساد".
(2/84)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
الخراساني
، فذكره بإسناده مثله. ورواه الترمذي عن محمد بن يحيى القُطَعي ، عن مسلم بن
إبراهيم ، عن هلال بن عبد الله مولى رَبيعة بن عَمْرو بن مسلم الباهلي ، به ، وقال
: [هذا] (1) حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وفي إسناده (2) مقال ، وهلال
مجهول ، والحارث يضعف في الحديث (3).
وقال البخاري : هلال هذا منكر الحديث. وقال ابن عَدِيّ : هذا الحديث ليس بمحفوظ.
وقد روى أبو بكر الإسماعيلي الحافظ من حديث [أبي] (4) عمرو الأوزاعي ، حدثني
إسماعيل بن عبيد الله (5) بن أبي المهاجر ، حدثني عبد الرحمن بن غَنْم أنه سمع عمر
بن الخطاب يقول : من أطاق الحج فلم يحج ، فسواء عليه يهوديا مات أو نصرانيا.
وهذا إسناد صحيح إلى عمر (6) رضي الله عنه ، وروى سَعيد بن منصور في سننه عن الحسن
البصري قال : قال عمر بن الخطاب : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا
كل من كان له جَدةٌ فلم (7) يحج ، فيضربوا عليهم الجِزْية ، ما هم بمسلمين. ما هم
بمسلمين (8).
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ
شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا
اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) }
هذا تعنيف من الله تعالى لكَفَرة أهل الكتاب ، على عنادهم للحق ، وكفرهم بآيات
الله ، وصَدِّهم عن سبيله مَنْ أراده من أهل الإيمان بجهدهم وطاقتهم (9) مع علمهم
بأن ما جاء به الرسول حق من الله ، بما عندهم من العلم عن الأنبياء الأقدمين ،
والسادة المرسلين ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وما بَشَّروا به ونوَّهُوا ،
من ذِكْر النبي [صلى الله عليه وسلم] (10) الأميّ الهاشمي العربي المكّيّ ، سيد
ولد آدم ، وخاتم الأنبياء ، ورسول رب الأرض والسماء. وقد توعدهم [الله] (11) تعالى
على ذلك بأنه شهيد على صَنِيعهم ذلك بما خالفوا ما بأيديهم عن الأنبياء ،
ومقاتلتهم (12) الرسول المُبشر بالتكذيب والجحود والعناد ، وأخبر تعالى أنه ليس
بغافل عما يعملون ، أي : وسيجزيهم على ذلك يوم لا ينفعهم مال ولا بنون.
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) في أ : "أسانيده".
(3) تفسير الطبري (7/41) وتفسير ابن أبي حاتم (2/421) وسنن الترمذي برقم (812).
(4) زيادة من جـ.
(5) في ر ، أ : "عبد الله" وهو خطأ ، والصواب ما أثبتناه "تهذيب
التهذيب 1/317".
(6) ورواه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور كما في الدر المنثور (2/275) وروى مرفوعا
من حديث أبي أمامة الباهلي وابن مسعود وعلي وأبي هريرة ، لكن لم يصح منها شيء.
انظر تخريجها والكلام عليها في : "نصب الراية" للزيلعي (4/410).
(7) في جـ ، ر ، أ : "ولم".
(8) ذكره المؤلف ابن كثير في "مسند عمر" وعزاه لمحمد بن إسماعيل البصري
، وسعيد بن منصور في سننه قال : "وفيه انقطاع" (1/293).
(9) في جـ ، أ : "طاعتهم".
(10) زيادة من أ.
(11) زيادة من أ.
(12) في جـ ، ر ، أ ، و : "ومقابلتهم".
(2/85)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) }
(2/86)
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
{
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ
رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
(101) }
يحذر تعالى عباده المؤمنين عن أن يطيعوا طائفة من الذين أوتوا الكتاب ، الذين
يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله ، وما مَنَحهم به من إرسال رسوله (1)
كما قال تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ
بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } [البقرة : 109]
وهكذا قال هاهنا : { إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ } ثُمَّ قَالَ { وَكَيْفَ
تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ }
يعني : أن الكفر بعيد منكم وحاشاكم منه ؛ فإن آيات الله تنزل على رسوله ليلا
ونهارًا ، وهو يتلوها عليكم ويبلغها إليكم ، وهذا كقوله تعالى : { وَمَا لَكُمْ لا
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ
أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [الحديد : 8] والآية بعدها. وكما
جاء في الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لأصحابه : "أيُّ
الْمُؤمِنِينَ أعْجَبُ إلَيْكُمْ إيمَانًا ؟" قالوا : الملائكة. قال : "وَكَيْفَ
لا يُؤْمِنُونَ وَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ؟!" وذكروا الأنبياء (2) قال :
"وَكَيْفَ لا يُؤْمِنُونَ وَالْوَحْيُ يَنزلُ عَلَيْهِمْ ؟" قالوا :
فنحن. قال : "وَكَيْفَ لا تُؤْمِنُونَ وأنَا بَيْنَ أظْهُرِكُمْ ؟!".
قالوا : فأيّ الناس أعجب إيمانًا ؟ قال : "قَوْمٌ يَجِيؤُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ
يَجِدونَ صُحُفًا يُؤْمِنُونَ بِمَا فِيهَا" (3). وقد ذكرت سَنَد هذا الحديث
والكلام عليه في أول شرح البخاري ، ولله الحمد.
ثم قال تعالى : { وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ } أيّ : ومع هذا فالاعتصام بالله والتوكل عليه هو العُمْدة في الهداية
، والعُدَّة في مباعدة الغَواية ، والوسيلة إلى الرشاد ، وطريق السداد ، وحصول
المراد.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا
تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ
أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا
وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنان ، حدثنا عبد الرحمن ، عن سفيان وشُعْبَة ،
عن زُبَيْد الياميّ ، عن مُرَّة ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - { اتَّقُوا
اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } قال : أن يُطاع فلا يُعْصَى ،
__________
(1) في أ : "ورسله".
(2) في جـ ، أ ، و : "قالوا فالأنبياء".
(3) رواه الطبراني في المعجم الكبير (4/22 ، 23) من حديث أبي جمعة الأنصاري.
(2/86)
وأن
يُذْكَر فلا يُنْسَى ، وأن يُشْكَر فلا يُكْفَر (1).
وهذا إسناد صحيح موقوف ، [وقد تابع مرة عليه عمرو بن ميمون عن ابن مسعود ] (2).
وقد رواه ابن مَرْدُويه من حديث يونس بن (3) عبد الأعلى ، عن ابن وَهْب ، عن سفيان
الثوري ، عن زُبَيْد ، عن مُرَّة ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : " { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } أن يُطَاعَ فَلا يُعْصَى ،
وَيُشْكَرَ فَلا يُكْفَرَ ، ويُذْكَر فَلا يُنْسَى".
وكذا رواه الحاكم في مستدركه ، من حديث مِسْعَر ، عن زُبَيْد ، عن مُرَّة ، عن ابن
مسعود ، مرفوعا فذكره. ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. كذا قال.
والأظهر (4) أنه موقوف (5) والله أعلم.
ثم قال ابن أبي حاتم : ورُوي نحوهُ عن مُرة الهَمْداني ، والربيع بن خُثَيم ،
وعمرو بن ميمون ، وإبراهيم النَّخَعي ، وطاووس ، والحسن ، وقتادة ، وأبي سِنان ،
والسُّدِّي ، نحوُ ذلك.
[وروي عن أنس أنه قال : لا يتقي العبد الله حق تقاته حتى يخزن من لسانه] (6).
وقد ذهب سعيد بن جُبَير ، وأبو العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، ومقاتل بن
حَيّان ، وزيد بن أسلم ، والسُّدِّي وغيرهم إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :
{ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن : 16 ].
وقال علي بن أبي طَلْحة ، عن ابن عباس في قوله : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ } قال : لم تُنْسخ ، ولكن { حَقَّ تُقَاتِهِ } أن يجاهدوا في سبيله حق
جهاده ، ولا تأخذهم في الله لَوْمَة لائم ، ويقوموا بالقِسْط ولو على أنفسهم
وآبائهم وأبنائهم.
وقوله : { وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } أي : حافظوا على الإسلام
في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه ، فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش
على شيء مات عليه ، ومن مات على شيء بُعث عليه ، فعياذًا بالله من خلاف ذلك.
قال الإمام أحمد : حدثنا رَوْح ، حدثنا شُعْبة قال : سمعتُ سليمان ، عن مجاهد ،
أنّ الناس كانوا يطوفون بالبيت ، وابنُ عباس جالس معه مِحْجَن ، فقال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : " { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَلَوْ
أنَّ قَطْرَةً مِنَ الزَّقُّومِ قُطِرَتْ لأمَرّتْ عَلَى أهْلِ الأرْضِ
عِيشَتَهُمْ (7) فَكَيْفَ بِمَنْ لَيْسَ لَهُ طَعَامٌ إلا الزَّقُّومُ".
وهكذا رواه الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، وابن حِبَّان في صحيحه ، والحاكم في
مستدركه ، من
__________
(1) في جـ : "أن يشكر فلا يكفر وأن يذكر فلا ينسى".
(2) زيادة من و.
(3) في أ : "عن".
(4) في أ ، و : "الأشهر".
(5) المستدرك (2/294).
(6) زيادة من جـ ، ر ، و.
(7) في أ ، و : "عيشهم".
(2/87)
طرق
عن شعبة ، به. وقال الترمذي : حسن صحيح. وقال الحاكم : على شرط الشيخين ، ولم
يخرجاه (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا الأعمش ، عن زيد بن وَهْب ، عن عبد
الرحمن بن عبد رب الكعبة ، عن عبد الله بن عَمْرو قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "مَنْ أَحَبَّ أنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّار وَيَدْخُلَ
الْجَنَّةَ ، فَلْتُدْرِكْهُ مَنِيَّتُهُ ، وَهُوَ يُؤْمِنُ (2) بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، ويَأْتِي إلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أنْ يُؤتَى إلَيْهِ
" (3).
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن
جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث : "لا
يَمُوتَنَّ أحَدُكُمْ (4) إلا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ عَزَّ
وَجَلَّ". ورواه مسلم من طريق الأعمش ، به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا [أبو] (5) يونس
، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إنَّ اللهَ قال
: أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي ، فإنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ ، وَإنْ ظَنَّ
شَرا فَلَهُ " (6).
وأصل هذا الحديث ثابت في الصحيحين (7) من وجه آخر ، عن أبي هريرة قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "يَقُولُ اللهُ [عز وجل] (8) أنَا عِنْدَ ظَنِّ
عَبْدِي بِي" (9).
وقال الحافظ أبو بكر البزّار : حدثنا محمد بن عبد الملك القُرَشي ، حدثنا جعفر بن
سليمان ، عن ثابت - وأحسبه - عن أنس قال : كان رجل من الأنصار مريضًا ، فجاءه
النبي صلى الله عليه وسلم يَعودُه ، فوافقه في السوق فسلَّم عليه ، فقال له :
"كَيْفَ أنْتَ يَا فُلانُ ؟" قال (10) بخير يا رسول الله ، أرجو الله
أخاف ذنوبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يَجْتَمِعَانِ فِي
قَلْبِ عَبْدٍ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ إلا أعْطَاهُ اللهُ مَا يَرْجُو وآمَنَهُ
ممَّا يَخَافُ".
ثم قال : لا نعلم رواه عن ثابت غير جعفر بن سليمان. وهكذا رواه الترمذي ، والنسائي
، وابن ماجة من حديثه ، ثم قال الترمذي : غريب. وقد رواه بعضهم عن ثابت مرسلا
(11).
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شُعبة ، عن أبي
بِشْر ، عن
__________
(1) المسند (1/301) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11070) والمستدرك (2/294).
(2) في ر : "مؤمن".
(3) المسند (2/192).
(4) في أ ، و : "أحد منكم".
(5) زيادة من ر.
(6) المسند (2/391).
(7) في جـ : "الصحيح".
(8) زيادة من أ.
(9) صحيح البخاري برقم (7505) من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ، وصحيح
مسلم برقم (2675) من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة.
(10) في جـ : "فقال".
(11) سنن الترمذي برقم (983) وسنن ابن ماجة برقم (4261) ورواه ابن أبي الدنيا في
"حسن الظن بالله" برقم (31) وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب (4/268).
أما المرسل : فرواه ابن أبي الدنيا في "المرضى والكفارات" برقم (108)
ومن طريقه البيهقي في شعب الإيمان من طريق حماد عن ثابت عن عبيد بن عمير مرسلا.
(2/88)
يوسف
بن مَاهُك ، عن حكيم بن حِزَام قال : بايعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على
ألا أخِرَّ إلا قائما. ورواه النسائي في سننه عن إسماعيل بن مسعود ، عن خالد بن
الحارث ، عن شعبة ، به ، وترجم عليه فقال : (باب كيف يخر للسجود) (1) ثم ساقه مثله
(2) فقيل : معناه : على ألا أموت إلا مسلمًا ، وقيل : معناه : [على] (3) ألا أُقتل
إلا مُقبِلا غير مُدبِر ، وهو يرجع إلى الأول.
وقوله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا } قيل {
بِحَبْلِ اللَّهِ } أي : بعهد الله ، كما قال في الآية بعدها : { ضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ
مِنَ النَّاسِ } [آل عمران : 112] أي بعهد وذمة (4) وقيل : { بِحَبْلٍ مِنَ
اللَّهِ } يعني : القرآن ، كما في حديث الحارث الأعور ، عن علِيّ مرفوعا في صفة
القرآن : "هُوَ حَبْلُ اللهِ الْمتِينُ ، وَصِرَاطُهُ الْمُسْتَقِيمُ".
وقد وَرَدَ في ذلك حديث خاص بهذا المعنى ، فقال الإمام الحافظ أبو جعفر الطبري :
حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، حدثنا أسباط بن (5) محمد ، عن عبد الملك بن أبي
سليمان العَرْزَمي ، عن عطية عن [أبي] (6) سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "كِتَابُ اللهِ ، هو حَبْلُ اللهِ الْمَمْدُودُ مِنَ السَّمَاءِ إلَى
الأرْضِ" (7).
وروى ابن مَرْدُويَه من طريق إبراهيم بن مسلم الهَجَريّ ، عن أبي الأحْوَص ، عن
عبد الله رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنَّ
هَذَا الْقُرْآنَ هو حَبْلُ اللهِ الْمتِينُ ، وهو النور المبين وهُوَ الشِّفَاءُ
النَّافِعُ ، عِصْمةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ ، ونَجَاةٌ لِمَنِ اتَّبَعَهُ"
(8).
وُروي من حديث حذيفة وزيد بن أرقم نحو ذلك. [وقال وَكِيع : حدثنا الأعمش عن أبي
وائل قال : قال عبد الله : إن هذا الصراط محتضر تحضره الشياطين ، يا عبد الله ،
بهذا الطريق هلم إلى الطريق ، فاعتصموا بحبل الله فإن حبل الله القرآن] (9).
وقوله : { وَلا تَفَرَّقُوا } أمَرَهُم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة (10) وقد وردت
الأحاديثُ المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف (11) كما في صحيح
مسلم من حديث سُهَيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : "إنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا ، وَيَسْخَطُ
لَكُمْ ثَلاثًا ، يَرْضى لَكُمْ : أنْ تَعْبدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ،
وأنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ، وأنْ تُنَاصِحُوا
مَنْ وَلاهُ اللهُ أمْرَكُمْ ؛ وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا : قيلَ وَقَالَ ،
وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ ، وإِضَاعَةَ الْمَالِ" (12).
__________
(1) المسند (3/402) وسنن النسائي (2/205).
(2) في جـ ، أ : "عليه".
(3) زيادة من أ.
(4) في ر : "بعهد ذمة".
(5) في أ : "عن".
(6) زيادة من جـ.
(7) تفسير الطبري (7/72) وفي إسناده عطية العوفي وهو ضعيف.
(8) ورواه الحاكم في المستدرك (1/555) وابن أبي شيبة في المصنف (10/482) وابن حبان
في المجروحين (1/99) وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/101) وقال : "هذا
حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويشبه أن يكون من كلام ابن
مسعود".
(9) زيادة من و.
(10) في أ ، و : "الفرقة".
(11) في جـ : "بالائتلاف والاجتماع".
(12) صحيح مسلم برقم (1715).
(2/89)
وقد
ضُمِنتْ لهم العِصْمةُ ، عند اتفاقهم ، من الخطأ ، كما وردت بذلك الأحاديث
المتعددة أيضًا ، وخِيفَ عليهم الافتراق ، والاختلاف ، وقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقوا
على ثلاث وسبعين فرقة ، منها فرقة (1) ناجية إلى الجنة ومُسَلمة من عذاب النار ،
وهم الذين على ما كان عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وقوله : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً
فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [وَكُنْتُمْ
عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ] (2) } إلى آخر الآية
، وهذا السياق في شأن الأوْس والخَزْرَج ، فإنه كانت (3) بينهم حُروبٌ كثيرة في
الجاهلية ، وعداوة شديدة وضغائن ، وإحَنٌ وذُحُول (4) طال بسببها قتالهم والوقائع
بينهم ، فلما جاء الله بالإسلام فدخل فيه من دخل منهم ، صاروا إخوانا متحابين
بجلال الله ، متواصلين في ذات الله ، متعاونين على البر والتقوى ، قال الله تعالى
: { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ
قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ
قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] (5)
} [الأنفال : 62 ] وكانوا على شفا حُفْرة من النار بسبب كفرهم ، فأبعدهم (6) الله
منها : أنْ هَدَاهُم للإيمان. وقد امتن عليهم بذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
يوم قَسَم غنائم حُنَيْنٍ ، فَعتَبَ من عتب (7) منهم لمّا فَضَّل عليهم في
القِسْمَة بما أراه الله ، فخطبهم فقال : "يَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ ، ألَمْ
أجدْكُمْ ضُلالا فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي ، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَألَّفَكُمُ
اللهُ بِي ، وَعَالَةً فأغْنَاكُمْ اللهُ بِي ؟" كلما قال شيئا قالوا : الله
ورسوله أمنّ.
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يَسار وغيره : أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج ،
وذلك أن رجلا من اليهود مَرَّ بملأ من الأوس والخزرج ، فساءه ما هُمْ عليه من
الاتفاق والألْفَة ، فبعث رجلا معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكرهم (8) ما كان من
حروبهم يوم بُعَاث وتلك الحروب ، ففعل ، فلم يزل ذلك دأبُه حتى حميت نفوس القوم
وغضب بعضهم على بعض ، وتثاوروا ، ونادوا بشعارهم وطلبوا أسلحتهم ، وتواعدوا إلى
الحرة ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم فجعل يُسكِّنهم ويقول :
"أبِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ وأَنَا بَيْنَ أظْهُرِكُمْ ؟" وتلا عليهم
هذه الآية ، فندموا على ما كان منهم ، واصطلحوا وتعانقوا ، وألقوا السلاح ، رضي
الله عنهم (9) وذكر عِكْرِمة أن ذلك نزل فيهم حين تثاوروا في قضية الإفْك. والله
أعلم.
__________
(1) في ر : "فرقة منها".
(2) زيادة في جـ ، ر ، أ ، و.
(3) في أ : "قد كان" ، وفي و : "قد كانت".
(4) في ر : "دخول". وهو خطأ ، والصواب ما أثبتناه.
(5) زيادة من و.
(6) في أ ، و : "فأنقذهم".
(7) في جـ ، ر : "فعنت من عنت".
(8) في جـ ، ر ، أ ، و : "ويذكر لهم".
(9) انظر : تفسير الطبري (7/78 ، 79).
(2/90)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)
{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) }
(2/91)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
{
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الأمُورُ (109) }
يقول تعالى : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ } أي : منتصبة للقيام بأمر الله ، في
الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر { وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ } قال الضحاك : هم خاصّة الصحابة وخاصة الرُّواة ، يعني :
المجاهدين والعلماء.
وقال أبو جعفر الباقر : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ
أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ } ثم قال : "الْخَيْرُ اتِّبَاعِ القُرآنِ
وَسُنَّتِي" رواه ابن مردويه.
والمقصود من هذه الآية أن تكون فرْقَة من الأمَّة متصدية لهذا الشأن ، وإن كان ذلك
واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه ، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا
فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَده ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ، فَإنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإيمَانِ". وفي رواية :
"وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ" (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان الهاشمي ، أخبرنا إسماعيل بن جعفر ، أخبرني
عَمْرو بن أبي عمرو ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهلي ، عن حذيفة بن اليمان ،
أن النبي (2) صلى الله عليه وسلم قال : "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه
لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ ، أَوْ
لَيُوشِكَنَّ اللهُ أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ ، ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ
فَلا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ".
ورواه الترمذي ، وابن ماجة ، من حديث عَمْرو بن أبي عمرو ، به وقال الترمذي : حسن
(3) والأحاديث في هذا الباب كثيرة مع الآيات الكريمة كما سيأتي تفسيرها في
أماكنها.
ثم قال تعالى : { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] (4) }
ينهى هذه الأمة أن تكون كالأمم الماضية في تفرقهم واختلافهم ، وتركهم الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر مع قيام الحجة عليهم.
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صَفْوان ، حدثني أزْهَر بن عبد الله
الْهَوْزَنِي (5) عن
__________
(1) صحيح مسلم برقم (49) من حديث أبي موسى الأشعري ، قال الشيخ أحمد شاكر رحمه
الله : "وهم الحافظ ابن كثير وهما شديدا ، فحديث : "من رأى منكم
منكرا" هو حديث أبي موسى".
(2) في أ : "أن رسول الله".
(3) المسند (5/388) وسنن الترمذي برقم (2169).
(4) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(5) في جـ ، ر : "الهوري" ، وفي هـ ومسند الإمام أحمد (4/102) :
"الهوزي". قال أبو المغيرة في موضع آخر : الحرازي" والله أعلم
بالصواب.
(2/91)
أبي
عامر عبد الله بن لُحَيٍّ (1) قال : حججنا مع معاوية بن أبي سفيان ، فلما قدمنا
مكة قام حين صلى [صلاة] (2) الظهر فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"إنَّ أهْلَ الْكَتَابَيْنِ افْتَرَقُوا في دِينِهِمْ عَلَى ثنتيْنِ
وَسَبْعِينَ مِلَّةً ، وإنَّ هذِهِ الأمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ
وَسَبْعِينَ مِلَّةً - يعني الأهواء - كُلُّهَا فِي النَّار إلا وَاحِدَةٌ ،
وَهِيَ الْجَمَاعَةُ ، وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تُجَارى
بِهِمْ تِلْكَ الأهْواء ، كَمَا يَتَجَارى الكَلبُ بصَاحِبِهِ ، لا يَبْقَى مِنْهُ
عِرْقٌ وَلا مَفْصِلٌ إلا دَخَلَهُ. واللهِ - يَا مَعْشَر العَربِ - لَئِنْ لَمْ
تَقُومُوا بِمَا جاء بِهِ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم لَغَيْرُكم (3) مِن
النَّاسِ أحْرَى ألا يَقُومَ بِهِ".
وهكذا رواه أبو داود ، عن أحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى ، كلاهما عن أبي المغيرة -
واسمه عبد القدوس بن الحجاج الشامي - به ، وقد رُوي هذا الحديث من طرق (4).
وقوله تعالى : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } يعني : يوم
القيامة ، حين تبيض وجوه أهل السنة والجماعة ، وتسودّ وجوه أهل البِدْعَة والفرقة
، قاله ابن عباس ، رضي الله عنهما (5).
{ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ }
قال الحسن البصري : وهم المنافقون : { فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ } وهذا الوصف يَعُمّ كل كافر.
{ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ } يعني : الجنة ، ماكثون فيها أبدا لا يبغون عنها حوَلا. وقد قال أبو
عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وَكِيع ، عن رَبِيع
- وهو ابن صَبِيح (6) - وحَمَّاد بن سلمة ، عن أبي غالب قال : رأى أبو أمامة رءوسا
منصوبة على دَرَج دمشق ، فقال أبو أمامة : كلاب النار ، شر قتلى تحت أديم السماء ،
خَيْرُ قتلى من قتلوه ، ثم قرأ : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ
} إلى آخر الآية. قلت لأبي أمامة : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال : لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا أو أربعا - حتى عَدّ سبعا - ما
حَدّثتكموه.
ثم قال : هذا حديث حسن : وقد رواه ابن ماجة من حديث سفيان بن عيينة عن أبي غالب ،
وأخرجه أحمد في مسنده ، عن عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن أبي غالب ، بنحوه (7).
وقد روى ابن مَرْدُويَه عند تفسير هذه الآية ، عن أبي ذر ، حديثًا مطولا غريبا
عجيبا جدا.
ثم قال [تعالى] (8) { تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ } أي : هذه آيات الله وحُجَجُه
وبيناته { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ } يا محمد { بِالْحَقِّ } أي : نكشف (9) ما الأمر
عليه في الدنيا والآخرة.
{ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ } أي : ليس بظالم لهم بل هو
الحَكَم العدل الذي لا يجور ؛ لأنه القادر
__________
(1) في ر : "لجي".
(2) زيادة من أ ، و.
(3) في جـ : "فغيركم".
(4) المسند (4/102) وسنن أبي داود برقم (4597).
(5) في ر : "عنه".
(6) في ر : "صبح".
(7) سنن الترمذي برقم (3000) وسنن ابن ماجة برقم (176).
(8) زيادة من أ ، و.
(9) في جـ : "ينكشف".
(2/92)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
على
كل شيء ، العالم بكل شيء ، فلا يحتاج مع ذلك إلى أن يظلم أحدا من خلقه ؛ ولهذا قال
: { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } أي : الجميع ملْك له
وعبيد له. { وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } أي : هو المتصرف في الدنيا
والآخرة ، الحاكم في الدنيا والآخرة.
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ
الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ
الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ
يُوَلُّوكُمُ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ
النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ
الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) }
يخبر تعالى عن هذه الأمة المحمدية بأنهم خير الأمم فقال : { كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }.
قال البخاري : حدثنا محمد بن يوسف ، عن سفيان ، عن مَيْسَرة ، عن أبي حازم ، عن
أبي هريرة : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قال : خَيْرَ الناس
للناس ، تأتون (1) بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام (2).
وهكذا قال ابن عباس ، ومُجاهد ، وعِكْرِمة ، وعَطاء ، والربيع بن أنس ، وعطية
العَوْفيّ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } يعني : خَيْرَ
الناس للناس.
والمعنى : أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس ؛ ولهذا قال : { تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ (3) بِاللَّهِ }
قال الإمام أحمد : حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا شريك ، عن سِماك ، عن عبد الله
بن عُمَيرة عن زوج [ذُرّةَ] (4) بنت أبي لَهَب ، [عن درة بنت أبي لهب] (5) قالت :
قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ، فقال : يا رسول الله ، أيّ
الناس خير ؟ فقال : "خَيْرُ النَّاسِ أقْرَؤهُمْ وأتقاهم للهِ ، وآمَرُهُمْ
بِالمعروفِ ، وأنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَأَوْصَلُهُمْ لِلرَّحِمِ"
(6).
ورواه أحمد في مسنده ، والنسائي في سننه ، والحاكم في مستدركه ، من حديث سماك ، عن
سعيد بن جُبَير عن ابن عباس في قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ } قال : هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى
المدينة (7).
__________
(1) في جـ ، ر ، أ ، و : "يأتون".
(2) صحيح البخاري برقم (4557).
(3) في ر : "يؤمنون".
(4) زيادة من جـ ، ر ، أ ، والمسند.
(5) زيادة من جـ ، ر ، أ ، والمسند.
(6) المسند (6/432).
(7) المسند (1/319) والنسائي في السنن الكبرى (11072) والمستدرك (2/294) وقال
الحاكم : "صحيح الإسناد على شرط مسلم" ووافقه الذهبي.
(2/93)
والصحيح
أن هذه الآية عامةٌ في جميع الأمة ، كل قَرْن بحسبه ، وخير قرونهم الذين بُعثَ
فيهم (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم الذين يَلونهم ، ثم الذين يلونهم ،
كما قال في الآية الأخرى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } أي :
خيارا { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
شَهِيدًا] (2) } الآية.
وفي مسند الإمام أحمد ، وجامع الترمذي ، وسنن ابن ماجة ، ومستدرك الحاكم ، من
رواية حكيم بن مُعَاوية بن حَيْدَة ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً ، أنْتُمْ خَيْرُهَا ، وأنْتُمْ
أكْرَمُ عَلَى اللهِ عزَّ وجَلَّ" (3).
وهو حديث مشهور ، وقد حَسَّنه الترمذي. ويروى من حديث معاذ بن جبل ، وأبي سعيد
[الخدري] (4) نحوه.
وإنما حازت هذه الأمة قَصَبَ السَّبْق إلى الخيرات بنبيها محمد صلى الله عليه وسلم
(5) فإنه أشرفُ خلق الله أكرم الرسل على الله ، وبعثه الله بشرع كامل عظيم لم
يُعْطه نبيًّا قبله ولا رسولا من الرسل. فالعمل [على] (6) منهاجه وسبيله ، يقوم
القليلُ منه ما لا يقوم العملُ الكثيرُ من أعمال غيرهم مقامه ، كما قال الإمام
أحمد :
حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا ابن زُهَير ، عن عبد الله - يعني ابن محمد بن عقيل - عن
محمد بن علي ، وهو ابن الحنفية ، أنه سمع علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، يقول :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِنْ
الأنْبِيَاءِ". فقلنا : يا رسول الله ، ما هو ؟ قال : " نُصِرْتُ
بِالرُّعْبِ وَأُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الأرْضِ ، وَسُمِّيتُ أَحْمَدَ ، وَجُعِلَ
التُّرَابُ لِي طَهُورًا ، وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الأمَمِ". تفرد به
أحمد من هذا الوجه ، وإسناده حسن (7).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو العلاء الحسن بن سَوَّار ، حدثنا لَيْث ، عن معاوية
عن بن أبي حُلَيْس يزيد بن مَيْسَرَةَ قال : سمعت أم الدرداء ، رضي الله عنها ،
تقول : سمعت أبا الدرداء يقول : سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ، وما سمعته
يكنيه قبلها ولا بعدها ، يقول (8) إنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ : يَا عِيسَى ،
إنِّي بَاعِثٌ بَعْدَكَ أُمَّةً ، إنْ أَصَابَهُمْ مَا يُحِبُّونَ حَمِدُوا
وشَكَرُوا ، وإنْ أصَابَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ احْتَسَبُوا وَصَبَرُوا ، وَلا
حِلْمَ وَلا عِلْمَ". قال : يَا رَبِّ ، كَيْفَ هَذَا لهُمْ ، وَلا حِلْمَ
وَلا عِلْمَ ؟. قال : "أُعْطِيهِمْ مِن حِلْمِي وعلمي" (9).
__________
(1) في أ : "الذي بعث فيه".
(2) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(3) المسند (4/447) وسنن الترمذي برقم (3001) وسنن ابن ماجة برقم (4287) والمستدرك
(4/84).
(4) زيادة من جـ.
(5) في و : "صلوات الله وسلامه عليه".
(6) زيادة من جـ ، ر.
(7) المسند (1/98) وقال الهيثمي في المجمع (1/260) : "فيه عبد الله بن محمد
بن عقيل وهو سيئ الحفظ. وقال الترمذي : صدوق وقد تكلم فيه بعض العلماء من قبل حفظه
، وسمعت محمد البخاري يقول : كان أحمد بن حنبل وإسحاق والحميدي يحتجون بحديث ابن
عقيل. قلت : فالحديث حسن".
(8) في ر : "تقول".
(9) المسند (6/450).
(2/94)
وقد
وردت أحاديثُ يناسب (1) ذكرُها هاهنا :
قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا المسعودي ، حدثنا بُكَيْر (2) بن
الأخْنَس ، عن رجل ، عن أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "أُعْطِيتُ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْر ، قُلُوبُهُمْ
عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، فَاسْتَزَدْتُ رَبِّي ، عز وجَلَّ ، فَزَادَنِي
مَعَ كُل وَاحِدٍ سبعين ألفًا". فقال أبو بكر ، رضي الله عنه : فرأيت أن ذلك آتٍ
على أهل القرى ، ومصيبٌ من حافات البوادي (3).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن بكر السهمي ، حدثنا هشام بن حسان
، عن القاسم بنِ مهران ، عن موسى بن عبيد ، عن ميمون بن مهران ، عن عبد الرحمن بن
أبي بكر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إنَّ رَبِّي أعْطَانِي
سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، بِغَيْرِ حِسَابٍ". فقال عمر :
يا رسول الله ، فهلا استزدته ؟ فقال : "اسْتَزَدْتُهُ فَأَعْطَانِي مَعَ
كُلِّ رَجُلٍ سَبْعِينَ أَلْفًا ". قال عمر : فهلا استزدته ؟ قال : "قَدِ
اسْتَزَدْتُهُ فأعْطَانِي هكَذَا". وفرج عبد الله بن بكر (4) بين يديه ، وقال
عبد الله : وبسط باعيه ، وحثا (5) عبد الله ، قال هشام : وهذا من الله لا يدرى ما
عدده (6).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو اليَمان ، حدثنا إسماعيل بن عَيّاش ، عن
ضَمْضم بن زُرْعة قال : قال شُرَيح بن عبيد : مَرِضَ ثَوْبَان بحِمْص ، وعليها عبد
الله بن قُرْط الأزْدِي ، فلم يَعُدْه ، فدخل على ثوبان رجل من الكَلاعيين عائدًا
، فقال له ثوبان : [أتكتب ؟ قال : نعم : فقال : اكتب ، فكتب للأمير عبد الله بن
قرط ، "من ثوبان] (7) مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما بعد : فإنه لو
كان لموسى وعيسى ، عليهما السلام ، بحضرتك خَادم لعدته" ثم طوى الكتاب وقال
له : أتبلغه إياه ؟ فقال : نعم. فانطلقَ الرجلُ بكتابه فدفعه إلى ابن قرط ، فلما
رآه قام فَزِعا ، فقال الناس : ما شأنه ؟ أحدث أمر ؟ فأتى ثوبان حتى دخل عليه فعاده
، وجلس عنده ساعة ثم قام ، فأخذ ثوبان بردائه وقال : اجلس حتى أحدثك حديثًا سمعته
من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول : "لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ
مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا ، لا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلا عَذَابَ ، مَعَ
كُلِّ ألفٍ سَبْعُونَ ألْفًا".
تفرد به أحمد من هذا الوجه ، وإسناد رجاله كلهم ثقات شاميون حِمْصِيّون (8) فهو
حديث صحيح (9) ولله الحمد.
طريق أخرى : قال الطبراني : حدثنا عمرو بن إسحاق بن زبْريق الحِمْصي ، حدثنا محمد
بن
__________
(1) في ر : "تناسب".
(2) في جـ : "بكر".
(3) المسند (1/6) وقال الهيثمي في المجمع (10/410) : "فيه المسعودي وقد اختلط
وتابعيه لم يسم ، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح".
(4) في جـ ، ر ، أ ، : "عبد الله بن أبي بكر.
(5) في جـ ، ر : "حي".
(6) المسند (1/197) وفي إسناده القاسم بن مهران وموسى بن عبيد وهما مجهولان ،
وبقية رجاله رجال الصحيح.
(7) زيادة من جـ ، ر ، والمسند.
(8) في ر : "ضمضميون".
(9) المسند (5/280).
(2/95)
إسماعيل
- يعني ابن عَيَّاش - حدثنا أبي ، عن ضَمْضَم بن زُرْعة ، عن شُرَيح بن عبيد ، عن
أبي أسماء الرَحَبيّ ، عن ثوبان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
"إنَّ رَبِّي ، عَزَّ وجَلَّ ، وَعَدَنِي مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا لا
يُحَاسَبُونَ ، مَعَ كُلِّ ألْفٍ سَبْعُونَ ألْفًا". هذا لعله هو المحفوظ
بزيادة أبي أسماء الرحبي ، بين شريح وبين ثوبان (1) والله أعلم.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمر ، عن قتادة ، عن
الحسن ، عن عمران بن حُصَين ، عن ابن مسعود قال : أكثرنا الحديث عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم ذات ليلة ، ثم غَدَوْنا إليه فقال : "عُرِضَتْ عَلَيَّ
الأنْبِيَاءُ اللَّيْلَةَ بِأُمَمِهَا ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ يَمُرُّ وَمَعَهُ
الثَّلاثَةُ ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الْعِصَابَةُ ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ
النَّفَرُ ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ ، حَتَّى مَرَّ عَلَيَّ مُوسَى ،
عليه السلام ، ومَعَهُ كَبْكَبَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَأَعْجَبُونِي ،
فَقُلْتُ : مَنْ هَؤُلاءِ ؟ فَقِيلَ لِي : هَذَا أَخُوكَ مُوسَى ، مَعَهُ بَنُو
إِسْرَائِيلَ". قال : "قُلْتُ : فَأَيْنَ أُمَّتِي ؟ فَقِيلَ : انْظُرْ
عَنْ يَمِينِكَ. فَنَظَرْتُ فَإِذَا الظِّرَابُ (2) قَدْ سُدَّ بِوُجُوهِ
الرِّجَالِ ثُمَّ قِيلَ لِي انْظُرْ عَنْ يَسَارِكَ فَنَظَرْتُ فَإِذَا الأفُقُ
قَدْ سُدَّ بِوُجُوهِ الرِّجَالِ فَقِيلَ لي : قَدْ رَضِيتَ ؟ فَقُلْتُ (3)
"رَضِيتُ يَا رَبِّ ، [رَضِيتُ يَا رَبِّ ] (4) " قَالَ : "فَقِيلَ
لِي : إِنَّ مَعَ هَؤُلاءِ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ
حِسَابٍ". فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
"فِدَاكُمْ أَبِي وَأُمِّي إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنْ
السَّبْعِينَ أَلْفًا فَافْعَلُوا فَإِنْ قَصَّرْتُمْ فَكُونُوا مِنْ أَهْلِ
الظِّرَابِ (5) فَإِنْ قَصَّرْتُمْ فَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الأفُقِ ، فَإِنِّي قَدْ
رَأَيْتُ ثَمَّ أُناسًا يَتَهَاوَشُونَ". فَقَامَ عُكاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ
فَقَالَ : ادع الله يا رسول الله أن يجعلني منهم.أي من السبعين ، فدعا له. فقام
رجل آخر فَقَالَ : ادع الله يا رسول الله أن يجعلني منهم فَقَالَ : "قَدْ
سَبَقَكَ بِهَا عُكاشَة". قَالَ : ثُمَّ تَحَدَّثْنَا فَقُلْنَا : لمَنْ (6)
تُرَوْنَ هؤلاء السبعين الألف ؟ قوم وُلِدُوا في الإسلام لم يُشْرِكُوا بالله شيئا
حتى ماتوا. فبلغ ذلك النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال :
"هُمْ الَّذِينَ لا يَكْتَوُونَ وَلا يَسْتَرْقُونَ وَلا يَتَطَيَّرُونَ ،
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" (7).
هكذا رواه أحمد بهذا السَّنَد وهذا السياق ، ورواه أيضا عن عبد الصمد ، عن هشام ،
عن قتادة ، بإسناده مثله ، وزاد بعد قوله : "رَضِيتُ يَا رَبِّ رضيت يا
رب" قال (8) رَضِيتَ ؟ قُلْتُ : "نَعَمْ". قَالَ : انْظُرْ عَنْ
يَسَارِكَ قال : "فَنَظَرْتُ فَإِذَا الأفُقُ قَدْ سُدَّ بِوُجُوهِ
الرِّجَالِ ". فقال : رَضِيتَ ؟ قُلْتُ : "رَضِيتُ". وهذا إسناد
صحيح من هذا الوجه ، تفرد به أحمد ولم يخرجوه (9).
حديث آخر : قال أحمد بن مَنِيع : حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز ، حدثنا حَمّاد ،
عن عاصم ، عن
__________
(1) المعجم الكبير (2/92) ورواه أيضا في مسند الشاميين رقم (1682).
(2) في جـ ، ر : "الضراب" وهو خطأ ، والصواب ما أثبتناه من المسند
(1/401).
(3) في جـ ، ر : "قلت".
(4) زيادة من ر ، أ ، والمسند.
(5) في ر : "الضراب" وهو خطأ ، والصواب ما أثبتناه من المسند (1/401).
(6) في جـ ، ر ، أ ، و : "من".
(7) المسند (1/401).
(8) في جـ : "فقال".
(9) المسند (1/420).
(2/96)
زر
، عن ابن مسعود قال النبي صلى الله عليه وسلم : "عُرِضَتْ عَلَيَّ الأمَمُ
بِالْمَوْسِمِ فَرَاثَتْ (1) عَلَيَّ أُمَّتِي ، ثُمَّ رَأَيْتُهُمْ فَأَعْجَبَتْنِي
كَثْرَتُهُمْ وَهَيْئاتُهُمْ ، قَدْ مَلَؤوا السَّهْلَ وَالْجَبَلَ" ،
فَقَالَ : أَرَضِيتَ يَا مُحَمَّدُ ؟ فَقُلْتُ : "نَعَمْ". قَالَ :
فَإِنَّ مَعَ هَؤُلاءِ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ
، وَهُمْ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ وَلا يَكْتَوُونَ ، وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ ". فَقَامَ عُكاشَةُ فَقَالَ : يَا رسول اللَّه ، ادعُ اللَّه
أن يجعلني منهم فقال : "أنْتَ مِنْهُمْ" فقام رجل آخر فقال : [ادع الله
أن يجعلني منهم فقال] (2) سَبَقَكَ بِهَا عُكاشَةُ". رواه الحافظ الضِّياء
المقْدِسيّ ، قال : هذا عندي على شرط مسلم (3).
حديث آخر : قال الطبراني : حدثنا محمد بن محمد الجُذُوعيّ القاضي ، حدثنا عُقْبة
بن مكْرم. حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ عن هشام بنِ حسان عن محمد بن سِيرين ، عن
عِمْران بن حُصَين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يَدْخُل (4)
الجَنَّة مِنْ أمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا بِغَيْرِ حِسَاب وَلا عَذَابٍ". قيل
: من هم ؟ قال : "هُمْ الَّذِينَ لا يَكْتَوُونَ وَلا يَسْتَرْقُونَ وَلا
يَتَطَيَّرُونَ ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ". رواه مسلم من طريق هشام
بن حسان ، وعنده ذكر عكاشة (5).
حديث آخر : ثبَتَ في الصحيحين من رواية الزُّهْرِي ، عن سعيد بن الْمُسَيَّب ، أن
أبا هريرة حدثه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي زُمْرَةٌ وَهُمْ سَبْعُونَ ألفًا ، تُضِيء وُجُوهُهُمْ
إضَاءة الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ". فقال (6) أبو هريرة : فقام عُكَاشة بن
مِحْصَن الأسدي يرفع ، نَمِرَةً عليه فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني
منهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ
مِنْهُمْ". ثم قام رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني
منهم فقال : "سَبَقَكَ بِهَا عكاشَةُ" (7).
حديث آخر : قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا يحيى بن عثمان ، حدثنا سعيد بن أبي
مريم ، حدثنا أبو (8) غَسَّان ، عن أبي حازم ، عن سَهْلِ بن سَعْد ؛ أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : "لَيدخُلَنَّ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا - أوْ
سَبْعُمِائة ألفٍ - آخِذٌ بَعْضُهُمْ ببعض ، حَتَّى يدخل أوَّلُهُمْ وآخِرُهُمُ
الْجَنَّةَ ، وَوجُوهُهُم (9) عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَة الْبَدْرِ".
أخرجه البخاري ومسلم جميعًا ، عن قُتَيْبةَ عن عبد العزيز بن أبي حازم ، عن أبيه ،
عن سَهْل به (10).
__________
(1) في جـ ، ر ، أ : "فرأيت".
(2) زيادة من جـ.
(3) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (2646) "موارد" وأبو يعلى في مسنده
(9/233) والبزار في مسنده (4/204) كلهم من طريق حماد عن عاصم به.
(4) في جـ : "يدخلون".
(5) المعجم الكبير (18/183) وصحيح مسلم برقم (216).
(6) في جـ ، ر ، أ ، و : "قال".
(7) صحيح البخاري برقم (6542) وصحيح مسلم برقم (216).
(8) في جـ : "ابن".
(9) في أ ، و : "وجوههم".
(10) المعجم الكبير (6/142) وصحيح البخاري برقم (6554) وصحيح مسلم برقم (219).
(2/97)
حديث
آخر : قال مسلم بن الحجّاج في صحيحه : حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا هُشَيْم ،
أخبرنا حُصَيْن بن عبد الرحمن قال : كنت عند سعيد بن جُبَير فقال : أيُّكم رأى
الكوكب الذي انقضَّ البارحةَ ؟ قلتُ : أنا. ثم قُلتُ : أما إني لم أكن في صلاة ،
ولكني لُدغْتُ : قال : فما صنعتَ ؟ قلتُ : استرقَيْتُ. قال : فما حملك على ذلك ؟
قلتُ : حديث حدَّثَنَاه الشعبي. قال : وما حدثكم الشعبي ؟ قلت : حَدَّثَنَا عن
بُرَيْدَة بن الحُصَيب الأسلمي أنه قال : لا رُقْيَةَ إلا مِنْ عَيْنٍ أو حُمّة.
فقال : قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ، ولكن حدثنا ابنُ عباس عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : "عُرضَتْ عَلَيَّ الأمَمُ ، فَرَأيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ
الرُّهَيْطُ (1) والنَّبِيَّ ومَعَهُ الرَّجُلُ والرَّجُلانِ والنَّبِيَّ وَلَيْسَ
مَعَهُ أحَدٌ ، إذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ ، فَظَنَنْتُ أنَّهُمْ أُمَّتِي ،
فَقِيلَ لِي : هَذَا مُوسَى وقوْمُهُ ، وَلَكِنِ انْظُرْ إلَى الأفقِ. فَنَظَرتُ ،
فَإذا سَوَادٌ عَظِيمٌ ، فَقِيلَ لِي : انْظُرْ إلَى الأفُقِ الآخَرِ ، فَإذَا
سَوَادٌ عَظِيمٌ ، فَقِيلَ لِي : هَذِهِ أُمَّتُكَ ومعَهُم سَبْعُونَ ألْفًا
يَدْخُلُونَ الجنة بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وَلا عَذَابٍ". ثم نهَضَ فدخل منزله ،
فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ، فقال بعضهم : فلعلهم
الذين صَحِبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم : فلعلهم الذين وُلِدُوا
في الإسلام فلم يُشْرِكوا بالله شيئا ، وذكروا أشياء ، فخرج عليهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال : "مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ ؟" فأخبروه ، فقال
: "هُمُ الَّذِينَ لا يَرْقُونَ وَلا يَسْتَرقُونَ وَلا يَتَطيرونَ ، وَعَلَى
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ". فقام عكاشة بن مِحصن فقال : ادع الله أن يجعلني
منهم قال : "أنْتَ مِنْهُمْ". ثم قام رجل آخر فقال : ادع الله أن يجعلني
منهم. قال : "سَبَقَكَ بِهَا عُكَاشَةُ".
وأخرجه البخاري عن أُسَيد بن زيد ، عن هُشَيم وليس عنده ، "لا يرقون"
(2).
حديث آخر : قال أحمد : حدثنا رَوْح بن عبادة. حدثنا ابن جُرَيج ، أخبرني أبو
الزُّبَيْر ، أنه سمع جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فذكر حديثًا ، وفيه : "فَتَنْجُو أَوَّلُ زُمْرَةٍ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ
لَيْلَةَ الْبَدْرِ سَبْعُونَ أَلْفًا ، لا يُحَاسَبُونَ ثم الَّذِينَ يَلُونَهُمْ
، كأَضْوَإِ نَجْمٍ فِي السَّمَاءِ ثُمَّ كَذَلِكَ". وذكر بقيته ، رواه مسلم
من حديث رَوْح ، غير أنه لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم (3).
حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب السنن له : حدثنا أبو بكر بن
أبي شيبة ، حدثنا إسماعيل بن عيَّاش ، عن محمد بن زياد ، سمعت أبا أمامة الباهلي
يقول : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "وَعَدنِي رَبِّي أنْ
يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألفًا ، مَعَ كُلِّ ألْفٍ سَبْعُونَ
ألْفًا ، لا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلا عَذَابَ. وَثَلاثُ حَثياتٍ مِنْ حَثَيات
ربِّي عزَّ وجَلَّ".
وكذا رواه الطبراني من طريق هشام بن عمار ، عن إسماعيل بن عياش ، به ، وهذا إسناد
جيد (4).
طريق أخرى عن أبي أمامة : قال ابن أبي عاصم : حدثنا دُحَيم ، حدثنا الوليد بن مسلم
، حدثنا
__________
(1) في جـ ، ر : "الرهط".
(2) صحيح مسلم برقم (220) وصحيح البخاري برقم (5752 ، 3410 ، 5705 ، 6541 ، 6472).
(3) المسند (3/283).
(4) السنة لابن أبي عاصم برقم (589) والمعجم الكبير (8/129).
(2/98)
صفوان
بن عَمرو ، عن سليم بن عامر ، عن أبي اليمان الهوزَني (1) - واسمه عامر بن عبد
الله بن لُحيّ ، عن أبي أمامة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إنَّ
اللهَ وَعَدَنِي أنْ يُدْخِلَ الْجنةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا بِغَيْرِ
حِسَابٍ". قال يزيد بن الأخنس : والله ما أولئك في أمتك يا رسول الله إلا مثل
الذباب (2) الأصهب في الذباب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فَإنَّ
اللهَ وَعَدَنِي سَبْعِينَ ألْفًا ، مَعَ كُلِّ ألْفٍ سَبْعُونَ ألفًا ،
وَزَادَنِي ثَلاثَ حَثَيَاتٍ". وهذا أيضًا إسناد حسن (3).
حديث آخر : قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن خُلَيْد ، حدثنا أبو تَوْبة ،
حدثنا معاوية (4) بن سلام ، عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول : حدثني عامر بن
زيد البُكَالي أنه سمع عُتْبة بن عبْد السلمي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "إنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَنِي أنْ
يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا بِغَيِرِ حِسَابٍ ، ثُمَّ
يَشْفَعُ كُلُّ ألْفٍ لِسَبْعِينَ ألْفًا ، ثم يَحْثي رَبِّي ، عز وجل ، بِكفيْهِ
ثَلاثَ حَثَيَات". فكبر (5) عمر وقال : إن السبعين الأوَلَ يُشفعهم الله في
آبائهم وأبنائهم وعشائرهم ، وأرجو أن يجعلني الله في إحدى الحثيات الأواخر.
قال الحافظ الضياء المقدسي في كتابه صفة الجنة : لا أعلم لهذا الإسناد علة. والله
أعلم (6).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا هشام - يعني
الدَّستَوائي - حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن هلال بن أبي ميمونة ، حدثنا عطاء بن
يَسَار أن رِفَاعة الجُهَنيّ حدّثه قال : أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى إذا كنا بالكُدَيد - أو قال بقُدَيْد - فذكر حديثا ، وفيه : ثم قال :
وَعَدَنِي رَبِّي ، عَزَّ وَجَلَّ ، أنْ يُدْخِلَ الْجنةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ
ألْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وَإِنِّي لأرْجُو ألا يَدْخُلُوهَا حَتَّى تَبوؤُوا
أْنتُمْ ومَنْ صَلَحَ مِنْ أزْوَاجِكُمْ وذرياتكم مَسَاكِنَ فِي الْجَنَّةِ".
قال الضياء [المقدسي] (7) وهذا عندي على شرط مسلم (8).
حديث آخر : قال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة ، عن النَّضْر بن أنس ، عن
أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنَّ اللهَ وَعَدَنِي أنْ
يُدْخِلَ الجنة مِنْ أُمَّتِي أرْبَعمِائَةِ ألْفٍ". قال أبو بكر : زدنا يا
رسول الله. قال : والله هكذا (9) فقال عمر : حسبك يا أبا بكر. فقال أبو بكر : دعني
، وما عليك أن يدخلنا الله الجنة كلنا (10) فقال عمر : إن شاء الله أَدْخَل خَلْقه
الجنة بكفٍّ واحد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "صَدَقَ عُمَرُ".
__________
(1) في جـ ، ر : "الهودي".
(2) في ر : "الدنان".
(3) السنة لابن أبي عاصم برقم (588).
(4) في و : "أبو معاوية".
(5) في ر : "وكبر".
(6) المعجم الكبير (17/126 ، 127) ورواه الطبراني أيضا في المعجم الأوسط (1/254)
بهذا الإسناد. وقال الهيثمي في المجمع (10/413) : "وفيه عامر بن زيد البكالي
، وقد ذكره ابن أبي حاتم ولم يجرحه ولم يوثقه ، وبقية رجاله ثقات".
(7) زيادة من و.
(8) المسند (4/16).
(9) في و : "قال : وهكذا. وجمع بين يديه ، قال : زدنا يا رسول الله ، قال :
وهكذا".
(10) في أ : "كلنا بكف واحد".
(2/99)
هذا
الحديث بهذا الإسناد انفرد (1) به عبد الرزاق (2) قاله الضياء. وقد رواه الحافظ
أبو نُعيم الأصبهاني :
حدثنا محمد بن أحمد بن مَخْلَد ، حدثنا إبراهيم بن الْهيْثَم البَلدِي ، حدثنا
سليمان بن حَرْب ، حدثنا أبو هلال ، عن قتادة ، عن أنس عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : "وَعَدَنِي رَبِّي أنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي مِائَةَ
ألْف". فقال أبو بكر : يا رسول الله ، زدنا قال : "وهكذا" - وأشار
سليمان بن حرب بيده كذلك - قلت (3) يا رسول الله ، زدنا. فقال عمر : إن الله قادر
أن يدخل الناس الجنة بِحَفْنَةٍ واحدة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"صَدَقَ عُمَرُ". هذا حديث غريب من هذا الوجه وأبو هلال اسمه : محمد بن
سُلَيْم الراسبي ، بصري (4).
طريق أخرى عن أنس : قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمد بن أبي بكر ، حدثنا عبد
القاهر بن السُّرِّي السلمي ، حدثنا حُمَيد ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا".
قالوا : زدنا يا رسول الله. قال : "لِكُلِّ رَجُلٍ سَبْعُونَ ألْفًا"
قالوا : زدنا - وكان (5) على كثيب - فقال : هكذا ، وحثا بيده. قالوا : يا رسول
الله ، أبْعدَ الله من دخل النار بعد هذا ، وهذا إسناد جيد ، رجاله ثقات ، ما عدا
عبد القاهر بن السري ، وقد سئل عنه ابن معين ، فقال : صالح (6).
حديث آخر : روى الطبراني من حديث قتادة ، عن أبي بكر بن أنس ، عن أبي بكر بن
عُمَير عن أبيه ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إنَّ اللهَ وَعَدَنِي
أنْ يُدْخِلَ مِنْ أُمَّتِي ثَلاثَمائة ألْفٍ الْجَنَّةَ". فقال عمير : يا
رسول الله ، زدنا. فقال هكذا بيده. فقال عمير يا رسول الله ، زدنا. فقال عمر :
حَسْبك ، إنّ الله إنْ شاء أدخل الناس الجنة بِحفْنَةٍ - أو بِحَثْيَةٍ - واحدة.
فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : "صَدَقَ عُمَرُ" (7).
حديث آخر : قال الطبراني : حدثنا أحمد بن خُلَيْد ، حدثنا أبو تَوْبة ، حدثنا
معاوية بن سلام ، عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول : حدثني عبد الله بن عامر
، أن قيسا الكندي حَدّث أن أبا سعيد (8) الأنماري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : "إنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَنِي أنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ
مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا بِغَيِرِ حِسَابٍ ، ويَشْفَعُ كُلُّ ألْفٍ
لِسَبْعِين (9) ألْفًا ، ثم يَحْثِي رَبِّي ثَلاثَ حَثَيَاتٍ بِكَفَّيْهِ".
كذا قال قيس ، فقلت لأبي سعيد : أنت سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال : نعم ، بأذني ، ووعاه قلبي. قال أبو سعيد : فقال - يعني رسول الله صلى الله
عليه وسلم - : "وَذَلِكَ إنْ شَاءَ اللهُ ، عز وجل ، يَسْتَوْعِبُ مُهَاجِرِي
أمتي ، ويُوَفِّي الله بقيته مِنْ أعْرَابِنَا".
وقد روى هذا الحديث محمد بن سهل بن عسكر ، عن أبي تَوْبَة الربيع بن نافع بإسناده
، مثله.
__________
(1) في جـ ، ر : "تفرد".
(2) المصنف لعبد الرزاق برقم (20556) ورواه من طريقه أحمد في المسند (3/165) وابن
أبي عاصم في السنة برقم (590).
(3) في أ : "فقال" وفي و : "قال".
(4) الحلية لأبي نعيم (2/344) ورواه أحمد في مسنده (3/193) من طريق أبي هلال عن
قتادة به.
(5) في ر : "وكانوا".
(6) مسند أبي يعلى (6/417).
(7) المعجم الأوسط (1/257) وقال الهيثمي في المجمع (10/409) : "رجاله
ثقات".
(8) في جـ : "سعد".
(9) في أ ، و : "لكل ألف سبعين".
(2/100)
وزاد
: قال أبو سعيد : فحسب ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبلغ أربعمائة ألف
ألف وتسعين (1) ألف ألْف.
حديث آخر : قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا هاشم بن مَرْثَد الطبراني ، حدثنا
محمد بن إسماعيل بن عَيّاش ، حدثني أبي ، حدثني ضَمْضَم بن زُرْعة ، عن شُرَيح بن
عبيد ، عن أبي مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أمَا وَالَّذي
نَفْسُ مُحَمَّد بِيَدِهِ لَيُبْعَثَنَّ مِنْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى
الْجَنَّةِ مِثْلَ اللَّيْلِ الأسْوَدِ ، زُمْرةٌ جَمِيعُهَا يَخْبطُونَ الأرضَ ،
تَقُولُ الملائِكةُ : لِمَ جَاءَ مَعَ مُحَمَّدٍ أكْثَرُ مِمَّا جَاءَ مَعَ
الأنْبِيَاءِ ؟". وهذا إسناد حسن (2).
نوع آخر من الأحاديث الدالة على فضيلة هذه الأمة وشرفها بكرامتها (3) على الله ،
وأنها خير الأمم في الدنيا والآخرة.
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا ابن جُرَيج ، أخبرني أبو الزبير ،
عن جابر (4) أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "إنِّي لأرْجُو أنْ
يَكُونَ مَنْ يَتَّبِعُنِي مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ رُبْعَ
الْجَنَّةِ". قال : فكبَّرنا. ثم قال : "أَرْجُو أنْ يَكُونُوا (5) ثلثَ
النَّاسِ". قال : فكبرنا. ثم قال : "أَرْجُو أنْ تَكُونُوا
الشَّطْرَ". وهكذا رواه عن رَوْح ، عن ابن جُرَيج ، به. وهو على شرط مسلم
(6).
وثبت في الصحيحين من حديث أبي إسحاق السَّبِيعي ، عن عَمْرو بن ميمون ، عن عبد
الله بن مسعود قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أمَا
تَرْضَوْنَ أنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الْجَنِّةِ ؟" فكبرنا. ثم قال :
"أَمَا تَرْضَوْنَ أنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلَ الْجَنَّةِ ؟" فكبرنا.
ثم قال : "إنِّي لأرْجُو أنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّة" (7).
طريق أخرى عن ابن مسعود : قال الطبراني : حدثنا أحمد بن القاسم بن مُساور ، حدثنا
عفان بن مسلم ، حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثني الحارث بن حَصِيرة ، حدثني القاسم
بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "كَيْفَ أَنْتُمْ وَرُبْعُ الْجَنَّةِ لَكُمْ ولِسَائر الناس
ثلاثة أرْبَاعِهَا ؟" قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : "كَيْفَ أَنْتُمْ
وثُلُثُهَا ؟" قالوا : ذاك أكثر. قال : "كَيْفَ أَنْتَمْ والشَّطْرُ
لَكُمْ ؟" قالوا : ذاك أكثر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"أهْلُ الْجَنّةِ عِشْرُونَ وَمَائةُ صَفٍّ ، لَكُمْ مِنْهَا (8) ثَمَانُونَ
صَفًا".
قال الطبراني : تفرد به الحارث بن حَصيرة (9).
__________
(1) في أ : "سبعمائة" ، وفي و : "تسعمائة".
(2) المعجم الكبير (3/297) وقال الهيثمي في المجمع (10/404) : "وفيه محمد بن
إسماعيل بن عياش وهو ضعيف".
(3) في أ ، و : "وكرامتها".
(4) في و : "أنه سمع جابرا".
(5) في جـ : "تكونوا".
(6) قال الهيثمي في المجمع (10/402) : "رواه أحمد والبزار والطبراني في
الأوسط ، ورجال البزار رجال الصحيح وكذا أحد أسانيد أحمد".
(7) صحيح البخاري برقم (6528 ، 6642) وصحيح مسلم برقم (221).
(8) في أ : "فيها".
(9) المعجم الكبير (10/208) ورواه أحمد في مسنده (1/453) من طريق عفان عن عبد
الواحد بن زياد به. قال الهيثمي في المجمع (10/403) : "رجالهم رجال الصحيح
غير الحارث بن حصيرة وقد وثق".
(2/101)
حديث
آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا عبد العزيز بن مسلم ، حدثنا ضرار
بن مُرَّة أبو سَنان الشيباني ، عن محارب بن دِثَار ، عن ابن بُرَيْدة ، عن أبيه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ
صَفٍّ ، هَذِه الأمَّةُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَانُون صَفا".
وكذلك (1) رواه عن عفان ، عن عبد العزيز ، به. وأخرجه الترمذي من حديث أبي سنان ،
به وقال : هذا حديث حسن. ورواه ابن ماجة من حديث سفيان الثوري ، عن عَلْقَمة بن
مَرْثَد ، عن سليمان بن بُرَيدة ، عن أبيه ، به (2).
حديث آخر : رَوَى الطبراني من حديث سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ، حدثنا خالد بن
يزيد البَجَلي ، حدثنا سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن جده ، عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ
صَفٍّ ، ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ أُمَّتِي".
تفرد به خالد بن يزيد البَجَلي ، وقد تكلم فيه ابن عَدِيّ (3).
حديث آخر : قال الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا موسى بن غيلان
، حدثنا هاشم (4) بن مَخْلَد ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن سفيان ، عن أبي
عمرو ، عن أبيه عن أبي هريرة قال : لما نزلت { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ.
وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ [الواقعة : 38 ، 39 ] } قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "أَنْتُمْ رُبْعُ أهْلِ الْجَنَّةِ ، أَنْتُمْ ثُلُثُ أَهْلِ
الْجَنَّةِ ، أَنْتُمْ نِصْفُ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، أَنْتُمْ ثُلُثَا أَهْلِ
الْجَنَّةِ" (5).
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي
الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "نَحْنُ الآخِرُونَ
الأوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، نَحْنُ أَوَّلُ النَّاسِ دُخُولا الْجَنَّةَ ،
بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا ، وَأُوتِينَاهُ مِنْ
بَعْدِهِمْ ، فَهَدَانَا اللَّهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ ، فَهَذَا
الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ، النَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ غَدًا
لِلْيَهُوَدِ [و] (6) للنصارى بَعْدَ غَدٍ".
رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله
عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا بنحوه (7) ورواه مسلم أيضا عن طريق
الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"نَحْنُ الآخِرُونَ الأوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَنَحْنُ أوَّلُ مَنْ
يَدْخُلُ الْجَنَّةَ". وذكر تمام الحديث (8).
حديث آخر : روى الدارقطني في الأفراد من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن
الزهري ،
__________
(1) في أ : "وكذا".
(2) المسند (5/355 ، 347) وسنن الترمذي برقم (2546) وسنن ابن ماجة برقم (4289).
(3) المعجم الكبير (10/348) ورواه ابن عدي في الكامل (3/13) وقال : "أحاديثه
كلها لا يتابع عليها لا إسنادا ولا متنا ، ولم أر للمتقدمين فيه قولا ، بل غفلوا
عنه وهو عندي ضعيف".
(4) في جـ : "هشام".
(5) ورواه أبو نعيم في الحلية من طريق الطبراني به (7/101) ونقل عن الطبراني قوله
: "تفرد برفعه ابن المبارك عن الثوري. وأبو عمرو اسمه محمد والد أسباط بن
محمد الكوفي القرشي".
(6) زيادة من جـ ، ر.
(7) صحيح البخاري برقم (896 ، 3486 ، 3487) ومسلم برقم (855).
(8) صحيح مسلم برقم (855).
(2/102)
عن
سعيد بن المسيَّب ، عن عمر بن الخطاب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"إنَّ الْجَنَّةَ حُرِّمَتْ عَلَى الأنْبِيَاءِ كُلُّهُمْ حَتَّى أَدْخُلَهَا
، وَحُرِّمَتْ عَلَى الأمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا (1) أمتِي".
ثم قال : تفرد به ابن عقيل ، عن الزهري ، ولم يرو عنه سواه. وتفرد به زُهير بن
محمد ، عن ابن عقيل ، وتفرد به عَمْرو بن أبي سلمة ، عن زهير.
وقد رواه أبو أحمد بن عَدِيّ الحافظ فقال : حدثنا أحمد بن الحسين بن إسحاق ، حدثنا
أبو بكر الأعين محمد بن أبي عَتَّاب ، حدثنا أبو حفص التِّنيسي - يعني عمرو بن أبي
سلمة - حدثنا صدقة الدمشقي. عن زهير بن محمد ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن
الزهري.
ورواه الثَّعْلَبي : حدثنا أبو عباس المَخْلَدي ، أخبرنا أبو نُعْم عبد الملك بن
محمد ، أخبرنا أحمد بن عيسى التنيسي ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، حدثنا صدقة بن عبد
الله ، عن زهير بن محمد ، عن ابن عقيل ، به (2).
فهذه الأحاديث في معنى قوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا
الثناء عليهم والمدح لهم ، كما قال قتادة : بَلَغَنَا أن عمر بن الخطاب [رضي الله
عنه] (3) في حجة حجّها رأى من الناس سُرْعة (4) فقرأ هذه الآية : { كُنْتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } ثم قال : من سَرَّه أن يكون من تلك الأمة
فَلْيؤدّ شَرْط الله فيها. رواه ابن جرير.
ومن (5) لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله : { كَانُوا لا
يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ [ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] (6)
[المائدة : 79] } ولهذا لما مَدح [الله] (7) تعالى هذه الأمة على هذه الصفات شرع
في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم ، فقال : { وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ } أي : بما
أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم { لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ
الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } أي : قليل منهم من يؤمن بالله وما
أنزل إليكم وما أنزل إليهم ، وأكثرهم على الضلالة والكفر والفسق والعصيان.
ثم قال تعالى مخبرًا عباده المؤمنين ومُبشِّرًا لهم أن النصر والظَّفر لهم على أهل
الكتاب الكفرة الملحدين ، فقال : { لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى وَإِنْ
يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ } وهكذا وقع ، فإنهم
يوم خَيْبَر أذلّهم الله وأرْغَم آنافهم (8) وكذلك من قبلهم من يهود المدينة بني
قَيْنُقَاع وبني النَّضِير وبني قُرَيْظَة (9) كلهم أذلهم الله ، وكذلك النصارى
بالشام كَسَرهم الصحابة في غير ما موطن ، وسَلَبوهم مُلْك الشام أبد الآبدين ودهر
الداهرين ، ولا تزال عِصَابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل
__________
(1) في جـ : "يدخلها".
(2) أطراف الغرائب والأفراد (ق21) لابن القيسراني ، والكامل لابن عدي (4/129)
ورواه البغوي في تفسيره (2/91) من طريق الثعلبي. ونقل ابن أبي حاتم في العلل
(2/227) عن أبي زرعة : "هذا الحديث منكر لا أدري كيف هو".
(3) زيادة من جـ ، أ.
(4) في جـ ، ر : "ترعل".
(5) في أ : "من".
(6) زيادة من جـ ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية"
(7) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(8) في و : "أنوفهم".
(9) في ر : "بنو النضير وبنو قريظة".
(2/103)
عيسى
ابن مريم [عليه السلام] (1) وهم كذلك ، ويحكم ، عليه السلام (2) بشرع محمد (3)
عليه أفضل الصلاة والسلام (4) فيَكْسر الصَّلِيب ، ويقتل الخنزير ، ويَضَع الجزْية
، ولا يقبل إلا الإسلام.
ثم قال تعالى : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا
بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ } أي : ألزمهم الله الذلة (5)
والصَّغَار أينما كانوا فلا يأمنون { إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ } أي : بذمة من
الله ، وهو عَقْد الذمة لهم وضَرْب الجزية عليهم ، وإلزامهم أحكام الملة {
وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ } أي : أمان منهم ولهم ، كما في المُهَادَن والمعاهَد
والأسير إذا أمَّنَه واحد (6) من المسلمين ولو امرأة ، وكذَا عَبْد ، على أحد قولي
العلماء.
قال ابن عباس : { إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ } أي : بعهد
من الله وعهد من الناس ، [و] (7) هكذا قال مُجاهد ، وعِكْرِمة ، وعَطَاء ،
والضَّحَّاك ، والحسن ، وقتادة ، والسُّدِّي ، والرَّبِيع بن أنس.
وقوله : { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } أي : أُلزموا فالتزَمُوا بغضب من
الله ، وهم يستحقونه { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ } أي : أُلزِموها (8) قَدرًا
وشَرْعًا. ولهذا قال : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ (9) حَقٍّ } أي : وإنما حملهم على ذلك الكبْر
والبَغْي وَالْحسَد ، فأعْقَبَهم ذلك الذِّلة والصَّغَار والمسكنة أبدا ، متصلا
بذلة الآخرة ، ثم قال تعالى : { ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } أي
: إنما حَمَلهم على الكفر بآيات الله وقَتْل رُسُل الله وقُيِّضوا لذلك أنّهم
كانوا يكثرون العصيان لأوامر الله ، عز وجل ، والغشيان لمعاصي الله ، والاعتداء في
شرع الله ، فَعِياذًا بالله من ذلك ، والله المستعان.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حَبِيب حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا شعبة ،
عن سليمان الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي مَعْمَر الأزدي ، عن عبد الله بن مسعود ،
رضي الله عنه ، قال : كانت بنو إسرائيل تقتل في اليوم ثلاثمائة نبيّ ، ثم يقوم
سُوق بَقْلهم في آخر النهار.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في و : "ويحكم بملة الإسلام".
(3) في جـ : "عيسى ابن مريم عليه السلام ويحكم بشرع محمد" ، وفي ر :
"عيسى ابن مريم وهو كذلك ويحكم عليه السلام بشرع محمد".
(4) في جـ ، أ : "صلى الله عليه وسلم".
(5) في و : "المذلة".
(6) في جـ ، ر ، أ ، و : "أحد".
(7) زيادة من و.
(8) في و : "ألزموا بها".
(9) في و : "بذل".
(2/104)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
{ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) }
(2/105)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
{
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ
مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
(116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ
فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا
ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) }
قال ابن أبي نَجِيح : زَعَم الحسن بن يَزيد (1) العِجْليّ ، عن ابن مسعود في قوله
تعالى : { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ } قال (2)
لا يستوي أهل الكتاب وأمَّة محمد صلى الله عليه وسلم.
وهكذا قال السُّدِّي ، ويؤيد هذا القول الحديثُ الذي رواه الإمامُ أحمدُ بن حنبل
في مسنده.
حدثنا أبو النَّضْر وحسن بن موسى قالا حدثنا شَيْبان ، عن عاصم ، عن زر ، عن ابن
مسعود قال : أخر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء ، ثم خرج إلى المسجد ،
فإذا الناس ينتظرون الصلاة : فقال : "أَمَا إِنَّه لَيْسَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ
الأدْيَانِ أَحَدٌ يَذْكُرُ اللهَ هَذِهِ السَّاعَةَ غَيْرَكُمْ". قال :
وأُنزلَت هذه الآيات : { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ[ أُمَّةٌ
قَائِمَةٌ] (3) } إلى قوله (4) { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } (5).
والمشهور عن (6) كثير من المفسرين - كما ذكره محمد بن إسحاق وغيره ، ورواه
العَوْفِيّ عن ابن عباس - أن هذه الآيات نزلت فيمن آمَنَ من أحبار أهل الكتاب ،
كعبد الله بن سَلام وأسَد بن عُبَيْد وثعلبة بن سَعْية وأسَيد بن سعْية وغيرهم ،
أي : لا يستوي من تقدم ذكرهم بالذم من أهل الكتاب [وهؤلاء الذين أسلموا ، ولهذا
قال تعالى : { لَيْسُوا سَوَاءً } أي : ليسوا (7) كلُّهم على حَدّ سواء ، بل منهم
المؤمن ومنهم المُجْرم ، ولهذا قال تعالى : { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ] أُمَّةٌ
قَائِمَةٌ } أي : قائمة بأمر الله ، مطيعة لشَرْعه (8) مُتَّبِعة نبيَّ الله ،
[فهي] (9) { قَائِمَةٌ } يعني مستقيمة { يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ
اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } أي : يقومون الليل ، ويكثرون التهجد ، ويتلون
القرآن في صلواتهم (10) { يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي
الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ } وهؤلاء هم المذكورون في آخر السورة
: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ
إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ [لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ
اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ
اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ] (11) } [الآية199] وهكذا قال هاهنا : { وَمَا
يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ } أي : لا يضيع عند الله بل يجزيكم به
أوفر الجزاء. { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } أي : لا يخفى عليه عمل عامل ،
ولا يضيع لديه أجر من أحسن عملا.
ثم قال تعالى مخبرًا عن الكفرة المشركين بأنه { لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ
أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } أي لا يُرَدّ عنهم بأس
الله ولا عذابه إذا أراده بهم { وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ }
ثم ضرب مثلا لما ينفقه الكفار في هذه الدار ، قاله مجاهد والحسن ، والسُّدِّي ،
فقال تعالى :
__________
(1) في أ ، و : "ابن أبي يزيد".
(2) في أ ، و : "يقول".
(3) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(4) في جـ ، ر ، أ ، و : "حتى بلغ".
(5) المسند (1/396).
(6) في أ ، و : "عند".
(7) في أ : "ليس".
(8) في جـ ، ر ، أ ، و : "لشرع الله".
(9) زيادة من جـ ، أ ، و.
(10) في أ : "صلاتهم".
(11) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي الأصل : "الآية".
(2/105)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
{
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا
صِرٌّ } أي : بَرْد شديد ، قاله ابن عباس ، وعِكْرِمة ، وسعيد بن جُبَير وقتادة
والحسن ، والضّحّاك ، والرَّبِيع بن أنس ، وغيرهم. وقال عطاء : بَرْد وجَلِيد. وعن
ابن عباس أيضًا ومجاهد { فِيهَا صِرٌّ } أي : نار. وهو يرجع إلى الأول ، فإن البرد
الشديد - سيّما (1) الجليد (2) - يحرق الزروع والثمار ، كما يحرق الشيء بالنار {
أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ } أي : أحرقته ،
يعني بذلك السَّفْعة إذا نزلت على حَرْث قد آن جدَادُه أو حَصَاده فدمَّرَتْه
وأعدَمَتْ ما فيه من ثمر أو زرع ، فذهبت به وأفسدته ، فعَدمَه صاحبه أحوج ما كان
إليه. فكذلك الكفار يمحق الله ثوابَ أعمالهم في هذه الدنيا وثمرتها كما أذهب ثمرةَ
هذا الحرث بذنوب صاحبه. وكذلك هؤلاء بَنَوْهَا على غير أصْل وعلى غير أساس { وَمَا
ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا
يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ
أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ
إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا
يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا
آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ
مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ
تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ
بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) }
يقول تبارك وتعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة ، أي :
يُطْلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه لأعدائهم ، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا
يألون المؤمنين خَبَالا أي : يَسْعَوْنَ في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن ، وبما
يستطيعونه من المكر والخديعة ، ويودون ما يُعْنتُ المؤمنين ويخرجهم ويَشُقّ عليهم.
وقوله : { لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ } أي : من غيركم من أهل
الأديان ، وبطانة الرجل : هم خاصّة أهله الذين يطلعون على داخل أمره.
وقد روى البخاري ، والنسائي ، وغيرهما ، من حديث جماعة ، منهم : يونس ، ويحيى بن
سعيد ، وموسى بن عقبة ، وابن أبي عتيق - عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد ؛
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِي وَلا
اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَة إلا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ : بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ
بِالْخيرِ وتَحُضُّهُ عَلَيْهِ ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالسُّوءِ وَتَحُضُّهُ
عَلَيْهِ ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَم اللهُ " (3).
وقد رواه الأوزاعي ومعاوية بن سلام ، عن الزهري ، عن أبي سلمة [عن أبي هريرة
مرفوعا بنحوه (4) فيحتمل أنه عند الزهري عن أبي سلمة] (5) عنهما. وأخرجه النسائي
عن الزهري
__________
(1) في و : "لا سيما".
(2) في جـ ، ر ، أ : "والجليلد".
(3) صحيح البخاري برقم (6611 ، 7198) والنسائي في الكبرى برقم (8755).
(4) في أ : "نحوه".
(5) زيادة من جـ.
(2/106)
أيضا
(1) وعلقه البخاري في صحيحه فقال : وقال عبيد الله بن أبي جعفر ، عن صَفْوان بن
سليم ، عن أبي سلمة ، عن أبي أيوب الأنصاري ، فذكره. فيحتمل أنه عند أبي سلمة عن
ثلاثة من الصحابة (2) والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو أيوب محمد (3) بن الوَزَّان ، حدثنا
عيسى بن يونس ، عن أبي حَيّان التيمي عن أبي الزِّنْباع ، عن ابن أبي الدِّهْقانة
قال : قيل لعمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : إن هاهنا غُلاما من أهل الحِيرة ، حافظ
كاتب ، فلو اتخذته كاتبا ؟ فقال : قد اتخذت إذًا بطانة من دون المؤمنين (4).
ففي هذا الأثر مع هذه الآية دلالة على أن أهل الذَّمَّة لا يجوز استعمالهم في
الكتابة ، التي فيها استطالة على المسلمين واطِّلاع على دَوَاخل أمُورهم التي
يُخْشَى أن يُفْشوها إلى الأعداء من أهل الحرب ؛ ولهذا قال تعالى : { لا
يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ }.
وقد قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا إسحاق بن إسرائيل ، حدثنا هُشَيم ، حدثنا
العَوَّام ، عن الأزهر بن راشد قال : كانوا يأتون أنَسًا ، فإذا حَدَّثهم بحديث لا
يدرون ما هو ، أتَوا الحسن - يعني البصري - فيفسره (5) لهم. قال : فحدَّث ذات يوم
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا تَسْتَضِيؤوا بِنَارِ
الْمُشْرِكِينَ ، ولا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيا (6) فلم يدروا ما هو
، فأتوا الحسن فقالوا له : إن أنسا حَدّثنا أن رسول الله (7) صلى الله عليه وسلم
قال : "لا تَسْتَضِيؤوا بِنَارِ الشِّركِ (8) ولا تَنْقُشُوا فِي
خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيا (9) فقال الحسن : أما قوله : "ولا تَنْقُشُوا فِي
خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيا (10) : محمد صلى الله عليه وسلم. وأما قوله : "لا
تَسْتَضِيؤوا بِنَارِ الشِّركِ" يقول : لا تستشيروا المشركين في أموركم. ثم
قال الحسن : تصديق ذلك في كتاب الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ }.
هكذا رواه الحافظ أبو يعلى ، رحمه الله ، وقد (11) رواه النسائي عن مجاهد بن موسى
، عن هشيم. ورواه الإمام أحمد ، عن هُشَيم بإسناده مثله ، من غير ذكر تفسير الحسن
البصري (12).
وهذا التفسير فيه نظر ، ومعناه ظاهر : "لا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ
عَرَبيّا (13) أي : بخط عربي ، لئلا يشابه نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم ،
فإنه كان نَقْشُه محمد رسول الله ؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح أنه
__________
(1) النسائي في السنن الكبرى برقم (8756) من طريق معاوية بن سلام عن الزهري به.
(2) صحيح البخاري برقم (7198) ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (8757).
(3) في أ ، و : "بن محمد".
(4) تفسير ابن أبي حاتم (2/550) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (8/658) من طريق أبي
حيان التيمي به ورواه عبد بن حميد في تفسيره كما في الدر (2/300).
(5) في جـ : "ليفسره".
(6) في ر : "غريبا".
(7) في أ ، و : "إن أنسا حدثنا بحديث ما ندري ما هو قال : وما حدثكم أنس ،
قالوا : حدثنا أن رسول الله".
(8) في أ : "المشركين".
(9) في ر : "غريبا".
(10) في ر : "غريبا".
(11) في أ : "قد".
(12) رواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (9375) والطبري في تفسيره (7/142) من طريق
هشيم بسياق أبي يعلى به ، ورواه أحمد في مسنده (3/99) والنسائي في السنن (8/176)
من غير ذكر تفسير الحسن البصري.
(13) في ر : "غريبا".
(2/107)
نهى
أن يَنْقُشَ أحد على نقشه. وأما الاستضاءة بنار المشركين ، فمعناه : لا تقاربوهم
في المنازل بحيث تكونون (1) معهم في بلادهم ، بل تَبَاعَدُوا منهم وهَاجروا من
بلادهم ؛ ولهذا روى أبو داود [رحمه الله] (2) لا تَتَرَاءَى نَاراهُمَا" وفي
الحديث الآخر : "مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ أَوْ سَكَنَ مَعَهُ ، فَهُوَ
مِثْلُهُ" ؛ فحَمْلُ الحديث على ما قاله الحسن ، رحمه الله ، والاستشهاد عليه
بالآية فيه نظر ، والله أعلم.
ثم قال تعالى : { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي
صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } أي : قد لاح على صَفَحات وجوههم ، وفلتات ألسنتهم من
العداوة ، مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله ، ما لا يخفى
مثله على لبيب عاقل ؛ ولهذا قال : { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ }.
وقوله تعالى : { هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ
وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ } أي : أنتم - أيها المؤمنون - تحبون
المنافقين مما يظهرون لكم من الإيمان ، فتحبونهم على ذلك وهم لا يحبونكم ، لا
باطنا ولا ظاهرا (3) { وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ } أي : ليس عندكم في
شيء منه شك ولا رَيْب ، وهم عندهم الشك والرِّيَب والحِيرة.
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرِمة أو سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس : { وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ } أي : بكتابكم وكتابهم ، وبما
مضى من الكتب قبل ذلك ، وهم يكفرون بكتابكم ، فأنتم أحق بالبغضاء لهم ، منهم لكم.
رواه ابن جرير.
{ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ
الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ } والأنامل : أطراف الأصابع ، قاله قتادة.
وقال الشاعر :
أوَدُّ (4) كما ما بَلّ حَلْقِيَ ريقَتى... وَمَا حَمَلَتْ كَفَّايَ أنْمُلي
العَشْرا (5)
وقال ابن مسعود ، والسُّدِّي ، والرَّبِيع بن أنس : { الأنَامِلَ } الأصابع.
وهذا شأن المنافقين يُظْهِرون للمؤمنين الإيمانَ والمودّة ، وهم في الباطن بخلاف
ذلك من كل وجه ، كما قال تعالى : { وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ
مِنَ الْغَيْظِ } وذلك أشد الغيظ والحنق ، قال الله تعالى : { قُلْ مُوتُوا
بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : مهما كنتم تحسدون
عليه المؤمنين ويغيظكم ذلك منهم ، فاعلموا أن الله مُتمّ نعمته على عباده المؤمنين
ومُكَملٌ دينه ، ومُعْلٍ كلمتَه ومظهر دينَه ، فموتوا أنتم بغيظكم { إِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : هو عليم بما تنطوي عليه ضمائركم ، وتُكنُّه
سَرَائرُكُم من البغضاء والحسد والغل للمؤمنين ، وهو مجازيكم عليه في الدنيا بأن
يريكم خلاف ما تؤمّلون ، وفي الآخرة بالعذاب الشديد في النار التي أنتم خالدون
فيها ، فلا خروج لكم منها.
ثم قال : { إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ
يَفْرَحُوا بِهَا } وهذه الحال دالة (6) على شدة
__________
(1) في أ ، و : "تكونوا".
(2) زيادة من أ.
(3) في جـ ، ر ، أ ، و : "لا ظاهرا ولا باطنا".
(4) في أ : "أريد".
(5) البيت في تفسير الطبري (4/43).
(6) في جـ ، ر ، أ ، و : "وهذا الحال دال".
(2/108)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
العداوة
منهم للمؤمنين وهو أنه (1) إذا أصاب المؤمنين خصب ، ونصر وتأييد ، وكثروا وعزّ
أنصارهم ، ساء ذلك المنافقين ، وإن أصاب المسلمين سَنَة (2) - أي : جَدْب - أو أُديل
عليهم الأعداء ، لما لله في ذلك من الحكمة ، كما جرى يوم أُحُد ، فَرح المنافقون
بذلك ، قال الله تعالى مخاطبا عباده المؤمنين : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا
لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] (3)
} يرشدهم تعالى إلى السلامة من شر الأشرار وكَيْدِ الفُجّار ، باستعمال الصبر
والتقوى ، والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائهم ، فلا حول ولا قوة لهم إلا به ،
وهو الذي ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن. ولا يقع في الوجود شيء إلا بتقديره
ومشيئته ، ومن توكل عليه كفاه.
ثم شَرَعَ تعالى في ذكر قصة أحد ، وما كان فيها من الاختبار لعباده المؤمنين ،
والتمييز بين المؤمنين والمنافقين ، وبيان صَبْر الصابرين ، فقال تعالى :
{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) }
__________
(1) في جـ ، ر ، أ ، و : "أنهم".
(2) في أ ، و : "المؤمنين سيئة إما".
(3) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(2/109)
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
{
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ
بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
}
المرادُ بهذه الوقعة يوم أُحُد عند الجمهور ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ،
والسُّدِّي ، وغير واحد. وعن الحسن البصري : المراد بذلك يوم الأحزاب. رواه ابن
جرير ، وهو غريب لا يُعَوَّل (1) عليه.
وكانت وقعةُ أحد يومَ السبت من شوال سنة ثلاث من الهجرة. قال [قتادة] (2) لإحدى
عشرة ليلة خَلَتْ من شَوَّال. وقال عِكْرِمة : يوم السبت للنصف من شوال ، فالله
أعلم.
وكان سببها أن المشركين حين قُتل من قتل من أشرافهم يوْمَ بَدْر ، وسَلمَت العيرُ
بما فيها من التجارة التي كانت مع أبي سُفْيان ، فلما رجع قفَلُهُم (3) إلى مكة
قال أبناء من قُتل ، ورؤساء من بقي لأبي سفيان : ارصد هذه الأموال لقتال محمد ،
فأنفقوها في ذلك ، وجمعوا الجموع والأحابيش وأقبلوا في قريب من ثلاثة آلاف ، حتى
نزلوا قريبًا من أحد تِلْقاء المدينة ، فصلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومَ
الجمعة ، فلما فَرَغَ منها صَلى على رجل من بني النجار ، يقال له : مالك بن عَمْرو
، واستشار (4) الناس : أيخرج إليهم أم يمكث بالمدينة ؟ فأشار عبد الله بن أُبيّ
بالمقام بالمدينة ، فإن أقاموا أقاموا بشِرِّ مَحْبس (5) وإن دخلوها قاتلهم الرجال
في وجوههم ، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم ، وإن رجعوا رجعوا خائبين.
وأشار آخرون من الصحابة ممن لم يشهد بدرا بالخروج إليهم ، فدخل رسول الله صلى الله
عليه وسلم فلبس لأمَتَه وخرج عليهم ، وقد نَدم بعضهم وقالوا : لعلنا استكرَهْنَا
رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، إن شئت أن نمكث ؟ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ
لأمَتَه أنْ يَرْجِعَ حَتى يَحْكُمَ اللهُ لَه".
__________
(1) في ر : "نعول".
(2) زيادة من جـ.
(3) في أ ، و : "كلهم".
(4) في جـ ، أ : فاستشار".
(5) في جـ ، ر ، أ : "مجلس".
(2/109)
فسار
، عليه السلام (1) في ألف من أصحابه ، فلما كان بالشَّوط رجع عبد الله بن أبيّ في
ثُلُث الجيش مُغْضَبا ؛ لكونه لم يرجع إلى قوله ، وقال هو وأصحابه : لو نعلم اليوم
قتالا لاتبعناكم ، ولكنا لا نراكم تقاتلون اليوم.
واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرا حتى نزل الشِّعْب من أُحُد في عَدْوَةِ
الوادي. وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال : "لا يُقَاتِلَنَّ أَحَدٌ حتى
نَأْمُرَهُ بِالْقِتَالِ".
وتهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة من أصحابه ، وأمَّر على
الرماة عبد الله بن جُبَيْر أخا بني عَمْرو بن عوف ، والرماة يومئذ خمسون رجلا
فقال لهم : "انْضَحُوا الخَيْلَ عَنَّا ، وَلا نُؤْتَيَنَّ مِنْ قِبَلِكُمْ.
والْزَمُوا مَكَانَكُمْ إنْ كَانَتِ النَّوْبَةُ لَنَا أوْعَلَيْنَا ، وإنْ
رَأيْتُمُونَا تَخَطَّفُنا الطَّيْرُ فَلا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ".
وظاهر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين درعين ، وأعطى اللواء مُصْعَب بن عُمَير
أخا بني عبد الدار. وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الغِلْمان يومئذ وأرجأ
آخرين ، حتى أمضاهم يوم الخندق بعد هذا اليوم بقريب من سنتين.
وتعبَّأت قريش وهم ثلاثة آلاف ، ومعهم مائتا فَرَس قد جَنَبوها (2) فجعلوا على
مَيْمَنة الخيل خالد بن الوليد : وعلى الميسرة عِكْرِمة بن أبي جَهْل ، ودفعوا إلى
بني عبد الدار اللواء. ثم كان بين الفريقين ما سيأتي تفصيله في مواضعه عند هذه
الآيات ، إن شاء الله تعالى.
ولهذا قال تعالى : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ
مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } أي : بَيّن لهم منازلهم ونجعلهم (3) مَيْمَنة ومَيْسَرة
وحيث أمرتهم { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : سميع لما تقولون ، عليم بضمائركم.
وقد أورد ابن جرير هاهنا سؤالا حاصله : كيف يقولونَ : إن النبي صلى الله عليه وسلم
سار (4) إلى أحد يوم الجمعة بعد الصلاة ، وقد قال الله [تعالى] (5) { وَإِذْ
غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } ؟ ثم
كان جوابه عنه : أن غدوه ليبوئهم (6) مقاعد ، إنما كان يوم السبت أول النهار.
وقوله : { إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [وَاللَّهُ
وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ] (7) } قال البخاري
: حدثنا عليّ بنُ عبد الله ، حدثنا سفيان قال : قال عَمْرو : سمعت جابر بن عبد
الله يقول : فينا نزلت : { إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا
[وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ] (8) }
قال : نحن الطائفتان بنو حارثَة وبنو سَلَمة ، وما نحِب - وقال سفيان مرة : وما
يسرنِي - أنَّها لم تَنزلْ ، لقول (9) الله تعالى : { وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا }.
__________
(1) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(2) في ر : "حينوها".
(3) في جـ ، أ ، و : "تنزلهم منازلهم وتجعلهم" ، وفي ر : "ينزلهم
منازلهم ويجعلهم".
(4) في أ ، و : "خرج".
(5) زيادة من جـ ، ر.
(6) في جـ : "تبوئهم".
(7) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(8) زيادة من جـ ، وفي ر : "والله وليهما" ، وفي هـ :
"الآية".
(9) في أ : "يقول".
(2/110)
وكذا
رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة (1) به. وكذا قال غيرُ واحد من السَّلَف : إنهم
بنو حارثة وبنو سلمةَ.
وقوله : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا
اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : يوم بدر ، وكان في جمعة (2) وافق السابع
عشر من رمضان ، من سنة اثنتين (3) من الهجرة ، وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه
الإسلام وأهله ، ودمغَ فيه الشرك وخرَّب محِله ، [هذا] (4) مع قلة عدد المسلمين
يومئذ ، فإنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا فيهم فرسان وسبعُون بعِيرا ،
والباقون مُشاة ، ليس معهم من العَدَد جميع ما يحتاجون إليه ، وكان العدو يومئذ ما
بين التسعمائة إلى الألف في سوابغ الحديد والبَيض ، والعدة (5) الكاملة والخيول
المسومة والحلي (6) الزائد ، فأعز الله رسوله ، وأظهر وحيه وتنزيله ، وبَيَّضَ
وَجْه النبي وقبيله ، وأخْزى الشيطان (7) وجيله ولهذا قال تعالى - مُمْتَنا على
عباده المؤمنين وحِزبه المتقين : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ
وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } أي : قليل عددكم ليعلموا (8) أن النصر إنما هو من عند الله
، لا بكثرة العَدَد والعُدَد ؛ ولهذا قال في الآية الأخرى : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ
إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا[ وَضَاقَتْ
عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنزلَ
اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزلَ جُنُودًا
لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ.
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ] (9) وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ } [التوبة : 25 - 27].
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جَعْفَر ، حدثنا شُعْبَة ، عن سِمَاك قال : سمعت
عِياضا الأشعري قال : شهدتُ الْيَرْمُوك وعلينا خمسة أمراء : أبو عبيدة ، ويزيد بن
أبي سفيان ، وابن حَسَنَة ، وخالد بن الوليد ، وعياض - وليس عياض هذا (10) الذي
حدث سماكا - قال : وقال عمر ، رضي الله عنه : إذا كان قتال فعليكم أبو عبيدة. قال
: فكتبنا إليه (11) إنه قد جاش إلينا الموت ، واستمددناه ، فكتب إلينا : إنه قد
جاءني كتابكم تَسْتَمِدُّونَنِي (12) وإني أدلكم على من هو أعز نصرًا ، وأحصن
جندًا : الله عز وجل ، فاستنصروه ، فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد نُصر يومَ
بدر في أقل من عدتكم ، فإذا جاءكم كتابي فقاتلوهم ولا تراجعوني. قال (13)
فقاتلناهم فهزمناهم أربعة (14) فراسخ ، قال : وأصبنا أموالا فتشاورنا ، فأشار
علينا عياض أنْ نُعْطِيَ عن كل ذي رأس عشرة. قال : وقال أبو عبيدة : من يراهنني ؟
فقال شاب : أنا ، إن لم تَغْضَبْ. قال : فسبقه ، فرأيت عَقِيصَتَيْ أبي عُبَيدة
تَنْقزان وهو خَلْفه على فرس عُرْي (15).
وهذا إسناد صحيح (16) وقد أخرجه ابن حِبّان في صحيحه من حديث بُنْدَار ، عن
غُنْدَر ،
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4051 ، 4558) وصحيح مسلم برقم (2505).
(2) في أ ، و : "في يوم جمعة".
(3) في جـ : "اثنين".
(4) زيادة من أ ، و.
(5) في أ : "والعدد".
(6) في جـ ، ر : "الخيلاء".
(7) في أ ، و : "وأحزن الشيطان وخيله".
(8) في ، و : "لتعلموا".
(9) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي الأصل : "إلى".
(10) في جـ : "هذا هو الذي".
(11) في أ : "له".
(12) في ر : "تستمدوني"
(13) في أ : "قالت".
(14) في جـ ، ر : "أربع".
(15) في أ ، و : "عربي".
(16) المسند (1/49) وصحيح ابن حبان (7/131) "الإحسان". وقال الهيثمي في
المجمع (6/213) : "رجاله رجال الصحيح".
(2/111)
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
بنحوه
، واختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه.
وبَدْر مَحَلَّة بين مكة والمدينة ، تُعرف ببئرها ، منسوبة إلى رجل حفرها يقال له
: "بدر بن النارين". قال الشعبي : بدر بئر لرجل يسمى بدرًا.
وقوله : { فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : تقومون بطاعته.
{ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ
بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنزلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا
وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ
مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى
لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ
شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ
وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) }
اختلف المفسرون في هذا الوعد : هل كان يوم بَدْر أو يوم أُحُد ؟ على قولين :
أحدهما : أن قوله : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ } متعلق بقوله : { وَلَقَدْ
نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ } ورُوي هذا عن الحسن البصري ، وعامر الشعبي ،
والرَّبِيع بن أنس ، وغيرهم. واختاره ابن جرير.
قال عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ
يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ } قال
: هذا يوم بَدْر. رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال :
حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا وُهَيْب عن داود ، عن عامر - يعني
الشعبي - أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كُرْز بن جابر يُمدّ المشركين ، فشق ذلك
عليهم ، فأنزل الله : { أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ
بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنزلِينَ } إلى قوله : { مُسَوِّمِين } قال
: فبلغت كُرْزًا الهزيمة ، فلم يمد المشركين ولم يمد الله المسلمين بالخمسة.
وقال الرَّبِيع بن أنس : أمد الله المسلمين بألف ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا
خمسة آلاف.
فإن قيل : فما الجمع بين هذه الآية - على هذا القول - وبين قوله تعالى في قصة بدر
: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ
بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى
وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ] (1)
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [الأنفال : 9 ، 10] فالجواب : أن التنصيص على
الألف هاهنا لا ينافي الثلاثة الآلاف فما فوقها ، لقوله : { مُردِفِينَ } بمعنى
يَرْدَفُهم غيرُهم ويَتْبَعهم ألوف أخر مثلهم. وهذا السياق شبيه بهذا السياق في
سورة آل عمران. فالظاهر أن ذلك كان يوم بدر كما هو المعروف من أن قتال الملائكة
إنما كان يوم بدر ، والله أعلم ، قال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة : أمد الله
المؤمنين يوم بدر بخمسة آلاف.
__________
(1) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "إلى قوله".
(2/112)
القول
الثاني : أن هذا الوعد متَعَلق (1) بقوله : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ
تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } وذلك يوم أحُد. وهو قول مجاهد ،
وعِكْرِمة ، والضَّحَّاك ، والزهري ، وموسى بن عُقبة وغيرهم. لكن قالوا : لم يحصل
الإمداد بالخمسة الآلاف ؛ لأن المسلمين فرّوا يومئذ - زاد عكرمة : ولا بالثلاثة
الآلاف ؛ لقوله : { بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا } فلم يصبروا ، بل فروا ،
فلم يمدوا بملك واحد.
وقوله : { بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا } يعني : تصبروا على مُصَابرة
عَدُوّكم وتتقوني وتطيعوا أمري.
وقوله : { وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا } قال الحسن ، وقتادة ، والربيع ،
والسُّدِّي : أي من وجههم هذا. وقال مجاهد ، وعكرمة ، وأبو صالح : أي من غضبهم
هذا. وقال الضحاك : من غضبهم ووجههم. وقال العَوْفيّ عن ابن عباس : من سفرهم هذا.
ويقال : من غضبهم هذا.
وقوله : { يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ
مُسَوِّمِينَ } أي : معلمين بالسِّيما.
وقال أبو إسحاق السَّبِيعي ، عن حارثة بن مُضَرِّب ، عن علي بن أبي طالب ، رضي
الله عنه ، قال : كان سِيَما الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض ، وكان سيماهم أيضا في
نواصي خَيْلِهم (2).
رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : حدثنا أبو زُرْعة ، حدثنا هَدْبة بن خالد ، حدثنا
حماد بن سلمة ، عن محمد بن عمرو بن علقمة ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة في هذه
الآية : { مُسَوِّمِينَ } قال : بِالْعِهْن الأحمر.
وقال مجاهد : { مُسَوِّمِينَ } أي : مُحَذَّقة أعرافها ، مُعَلَّمة نواصيها بالصوف
الأبيض في أذناب الخيل.
وقال العَوْفِيّ ، عن ابن عباس ، قال : أتت الملائكة محمدا صلى الله عليه وسلم
مُسَوِّمين بالصوف ، فسَوَم محمد وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصوف.
وقال عكرمة وقتادة { مُسَوِّمِينَ } أي : بسيما القتال ، وقال مكحول : {
مُسَوِّمِينَ } بالعمائم.
وروى ابن مَرْدُويَه ، من حديث عبد القدوس بن حَبيب ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن
ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { مُسَوِّمِينَ } قال
: "مُعَلَّمينَ. وكان (3) سيما الملائكة يوم بدر عمائم سود ، ويوم حنين عمائم
حُمْر".
ورَوَى من حديث حُصَين بن مُخارق ، عن سعيد ، عن الحكم ، عن مِقْسَم ، عن ابن عباس
قال : لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر.
وقال ابن إسحاق : حَدّثني مَنْ لا أتهم ، عن مِقْسَم ، عن ابن عباس قال : كان (4)
سيما الملائكة يوم بدر عَمَائِمَ بيض قد أرْسَلُوها في ظهورهم ، ويوم حُنَيْنٍ
عمائمَ حُمْرا. ولم تضرب الملائكة في يوم سوى يوم بدر ، وكانوا يكونون فيما سواه
من الأيام عَدَدًا ومَدَدًا لا يَضْربون.
ثم رواه عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم ، عن مقْسَم عن ابن عباس ، فذكر نحوه.
__________
(1) في أ : "يتعلق".
(2) في أ ، و : "خيولهم".
(3) في أ ، و : "وكانت".
(4) في أ ، و : "كانت".
(2/113)
وقال
ابن أبي حاتم : حدثنا الأحْمَسِي (1) حدثنا وَكِيع ، حدثنا هشام بن عُرْوة ، عن
يحيى بن عباد : أن الزبير [بن العوام] (2) رضي الله عنه ، كان عليه يوم بدر عمامة
صفراء مُعْتَجرًا بها ، فنزلت الملائكة عليهم عمائم صُفْر.
رواه ابن مَرْدُويَه من طريق هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير ،
فذكره.
وقوله : { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ
قُلُوبُكُمْ بِهِ } أي : وما أنزل الله الملائكة وأعلمكم بإنزالها إلا بشارةً لكم
وتطييبا لقلوبكم وتطمينا ، وإلا فإنما النصر من عند الله ، الذي لو شاء لانتصر من
أعدائه بدونكم ، ومن غير احتياج إلى قتالكم لهم ، كما قال تعالى بعد أمره المؤمنين
بالقتال : { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ
لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ
يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ. سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ. وَيُدْخِلُهُمُ
الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ. } [محمد : 4 - 6]. ولهذا قال هاهنا : { وَمَا
جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا
النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } أي : هو ذو العزة
التي لا تُرام ، والحكمة في قَدره والإحكام.
ثم قال (3) تعالى : { لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : أمركم
بالجهاد والجلاد ، لما له في ذلك من الحكمة في كل تقدير ، ولهذا ذكر جميع الأقسام
الممكنة في الكفار المجاهدين. فقال : { لِيَقْطَعَ طَرَفًا } أي : ليهلك أمة {
مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ } أي : يخزيهم ويردهم بغيظهم لَمّا لم
ينالوا منكم ما أرادوا ؛ ولهذا قال : { أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا } أي :
يرجعوا { خَائِبِينَ } أي : لم يحصلوا على ما أمَّلُوا.
ثم اعترض بجملة دَلَّت على أنّ الحُكْم في الدنيا والآخرة له وحده لا شريك له ،
فقال : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } أي : بل الأمر كلّه إلي ، كما قال : {
فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [الرعد : 40] وقال {
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [البقرة :
272]. وقال { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ } [القصص : 56].
قال محمد بن إسحاق في قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } أي : ليس لك من
الحكم شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم.
ثم ذكر تعالى بقية الأقسام فقال : { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } أي : مما هم فيه من
الكفر ويهديهم بعد الضلالة { أَوْ يُعَذِّبَهُمْ } أي : في الدنيا والآخرة على
كفرهم وذنوبهم ؛ ولهذا قال : { فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } أي : يستحقون ذلك.
وقال البخاري : حدثنا حِبّان بن مُوسى ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا مَعْمَر ، عن
الزهري ، حدثني سالم ، عن أبيه : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، إذا
رفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية من الفجر (4)
__________
(1) في ر : "الأخمسي".
(2) زيادة من جـ.
(3) في جـ : "وقال".
(4) في جـ ، ر ، أ : "من الفجر يقول".
(2/114)
اللَّهُمَّ
الْعَنْ فُلانًا وفُلانًا" بعد ما يقول : "سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ
، ربنا ولك الحمد" فأنزل الله تعالى (1) { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ
[أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ] (2) }.
وهكذا رواه النسائي ، من حديث عبد الله بن المبارك وعبد الرزاق ، كلاهما ، عن
مَعْمَر (3) ، به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو النَّضْر ، حدثنا أبو عقيل - قال أحمد : وهو عبد
الله بن عقيل ، صالح الحديث ثقة - قال : حدثنا عُمَر بن حمزة ، عن سالم ، عن أبيه
قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "اللهم العن فلانا ، اللهم
العن الحارث بن هِشامِ ، اللهم العن سُهَيلَ بنَ عَمْرو ، اللهم العن صَفْوانَ
بْنَ أُمَيَّةَ". فنزلت هذه الآية : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ
يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } فَتِيبَ عليهم
كلّهم (4).
وقال أحمد : حدثنا أبو معاوية الغَلابي ، حدثنا خالد بن الحارث ، حدثنا محمد بن
عجْلان ، عن نافع ، عن عبد الله ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو على
أربعة قال : فأنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ[ أَوْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ] (5) } قال : وهداهم الله
للإسلام (6).
وقال محمد بن عَجْلان ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يدعو على رجال من المشركين يُسَمِّيهم بأسمائهم ، حتى أنزل الله : { لَيْسَ
لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } الآية.
وقال البخاري أيضًا : حَدّثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا إبراهيم بن سَعْد ، عن ابن
شهاب ، عن سعيد بن المسيَّب ، وأبي سلمة بن (7) عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، رضي
الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يَدْعو على أحد - أو
يدعو لأحد - قَنَتَ بعد الركوع ، وربما قال - إذا قال : "سمع الله لمن حمده ،
ربنا ولك الحمد - : "اللَّهُمَّ انْجِ الْوَلِيد بن الوليدِ ، وسَلَمَة بْنَ
هشَامٍ ، وعَيَّاشَ بْنَ أبِي رَبِيعَةَ ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ
الْمُؤْمِنينَ ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَر ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ
سِنِينَ كَسَنِيِّ يُوسُفَ". يجهر بذلك ، وكان يقول - في بعض صلاته في صلاة
الفجر - : "اللهم العن فلانا وفلانا" لأحياء من أحياء العرب ، حتى أنزل
الله { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } الآية (8).
وقال البخاري : قال حُمَيْد وثابت ، عن أنس بن مالك : شُجّ النبي صلى الله عليه
وسلم يوم أحُد ، فقال : "كَيْفَ يُفْلِحُ قُوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ
؟". فنزلت : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } وقد أسند هذا الحديث الذي
عَلَّقه البخاري رحمه الله (9).
وقال البخاري : في غزوة أُحُد : حدثنا يحيى بن عَبْد الله السلمي ، حدثنا عبد الله
- أخبرنا مَعْمَر ،
__________
(1) في أ : "عز وجل".
(2) زيادة من جـ ، ر ، وفي هـ : "الآية".
(3) صحيح البخاري برقم (4069 ، 4559 ، 7346) والنسائي في السنن الكبرى برقم
(11075).
(4) المسند (2/93).
(5) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "إلى آخر الآية".
(6) المسند (2/104).
(7) في جـ ، ر : "عن".
(8) صحيح البخاري برقم (4560).
(9) صحيح البخاري (7/365) "فتح" ، وسيأتي حديث حميد موصولا عن أحمد. أما
حديث ثابت فقد وصله مسلم برقم (1791).
(2/115)
عن
الزهري ، حَدّثَني سالم بن عبد الله ، عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول - إذا رفع رأسه من الركوع ، في الركعة الأخيرة من الفجر - : "اللهم
العن فلانا وفلانا وَفُلانًا" بعد ما يقول : "سَمِعَ اللهُ لِمَنْ
حَمِدَهُ ، ربنا ولك الحمد". فأنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ
} [إلى قوله : { فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } ] (1).
وعن حنظلة بن أبي سفيان قال : سمعت سالم بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يدعو على صفوانَ بن أمَيّة ، وسُهَيل بن عمرو ، والحارث بن هشام ، فنزلت
: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ[ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ
يُعَذِّبَهُمْ] (2) فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } (3).
هكذا ذكر هذه الزيادة البخاري معلقة مرسلة مسندة متصلة في مسند أحمد متصلة آنفا.
وقال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيم ، حدثنا حُمَيد ، عن أنس ، رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم كُسرَتْ رَبَاعيتُهُ يومَ أُحدُ ، وشُجَّ في جبهته حتى سال
الدم على وجهه ، فقال : "كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا
بِنَبِيِّهِمْ ، وهو يدعوهم إلى ربهم ، عز وجل". فأنزل الله تعالى : { لَيْسَ
لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ
ظَالِمُونَ }
انفرد به مسلم ، فرواه (4) [عن] (5) القعنبي ، عن حَمّاد ، عن ثابت ، عن أنس ،
فذكره (6).
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا الحسين بن واقد ، عن
مطر ، عن قتادة قال : أصيب النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكُسرت رَبَاعيته ،
وفرق حاجبه ، فوقع وعليه درعان والدم يسيل ، فمر به سالم مولى أبي حذيفة ، فأجلسه
ومسح عن وجهه ، فأفاق وهو يقول : "كَيْفَ بِقَوْمٍ فَعَلُوا هَذَا
بِنَبِيِّهِمْ ، وهو يدعوهم إلى اللهِ ؟" فأنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ
الأمْرِ شَيْءٌ [أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ
ظَالِمُونَ ] (7) }.
وكذا رواه عبدُ الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة ، بنحوه ، ولم يقل : فأفاق (8).
ثم قال تعالى : { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } أي :
الجميع ملك له ، وأهلهما عبيد بين يديه { يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ
مَنْ يَشَاءُ } أي : هو المتصرف فلا مُعَقّب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون
، والله غفور رحيم (9).
__________
(1) زيادة من جـ ، ر ، ، وفي هـ : "الآية".
(2) في جـ ، ر : "إلى قوله".
(3) صحيح البخاري برقم (4069).
(4) في جـ : "ورواه".
(5) زيادة من ر.
(6) المسند (3/99) وصحيح مسلم برقم (1791).
(7) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(8) تفسير الطبري (7/197 ، 198) وتفسير عبد الرزاق (2/135).
(9) في أ : "لا يعجزه شيء".
(2/116)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) }
(2/117)
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)
{
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ
وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ
وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ
يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ
(135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) }
يقول تعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافا مضاعفة ، كما كانوا
يقولون في الجاهلية - إذا حَلّ أجل الدين : إما أن يَقْضِي وإمّا أن يُرْبِي ، فإن
قضاه وإلا زاده في المدة وزاده الآخَر في القَدْر ، وهكذا كلّ عام ، فربما (1)
تضاعف القليل حتى يصير كثيرًا مضاعفا.
وأمر تعالى عباده بالتقوى لعلهم يفلحون في الأولى والأخرى (2) ثم توعدهم بالنار
وحذرهم منها ، فقال : { وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ.
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }.
ثم نَدَبهم إلى المبادرة إلى فعْل الخيرات والمسارعة إلى نَيْل القُرُبات ، فقال :
{ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ
وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } أي : كما أعدّت النار للكافرين. وقد قيل :
إن معنى قوله : { عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } تنبيها (3) على اتساع طولها
، كما قال في صفة فرش الجنة : { بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } [الرحمن : 54]
أي : فما ظنك بالظهائر ؟ وقيل : بل عرضها كطولها ؛ لأنها قبة تحت العرش ، والشيء
المُقَبَّب والمستدير عَرْضُه كطوله. وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيح :
"إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الجنة فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ ، فَإِنَّهُ أَعْلَى
الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ ،
وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ" (4).
وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحديد : { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } الآية [رقم21].
وقد روينا في مسند الإمام أحمد : أنّ هِرَقْل كَتَبَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم
: إنك دَعَوْتني إلى جنة عَرْضُها السماوات والأرض ، فأين النار ؟ فقال النبي (5)
صلى الله عليه وسلم : "سُبْحَانَ اللهِ! فأين (6) الليل إذَا جَاءَ
النَّهَارُ ؟" (7).
وقد رواه ابنُ جرير فقال : حدثني يونس ، أنبأنا ابنُ وَهْب ، أخبرني مسلم بن خالد
، عن أبي
__________
(1) في ر : "وربما".
(2) في أ : "الآخرة".
(3) في ر : "تنبيه".
(4) صحيح البخاري برقم (2790) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) في جـ ، ر : "رسول الله".
(6) في و : "أين".
(7) المسند (3/442) من حديث التنوخي. وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية
(5/15) : "هذا حديث غريب تفرد به أحمد وإسناده لا بأس به".
(2/117)
خُثَيم
، عن سعيد بن أبي راشد ، عن يعلى بن مُرَّة (1) قال : لَقِيت التَّنوخي رَسُولَ
هِرَقْل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحِمْص ، شيخا كبيرا فَسَدَ ، قال :
قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هِرَقْل ، فنَاول الصحيفة رَجُلا عن
يساره. قال : قلت : من صاحبكم الذي يقرأ ؟ قالوا : معاوية. فإذا كتاب صاحبي :
"إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدّت للمتقين ، فأين النار
؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سُبْحَانَ الله! فأيْنَ
اللَّيْلُ إذَا جَاءَ النَّهَارُ ؟" (2).
وقال الأعمش ، وسفيان الثوري ، وشُعْبَة ، عن قيس بن مسلم (3) عن طارق بن شهاب ،
أن ناسا من اليهود سألوا عُمَرَ بن الخطاب عن جنة عرضها السماوات والأرض ، فأين
النار ؟ فقال عمر [رضي الله عنه] (4) أرأيتم إذا جاء الليل أين النهار ؟ وإذا جاء
النهار أين الليل ؟ فقالوا : لقد نزعت مثْلَها من التوراة.
رواه ابن جرير من الثلاثة الطرق (5) (6) ثم قال : حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا أبو
نعيم ، حدثنا جعفر بن بُرْقَان ، أنبأنا يزيد بن الأصم : أن رجلا من أهل الكتاب
قال : يقولون : { جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } فأين النار ؟ فقال
ابن عباس : أين يكون الليل إذا جاء النهار ، وأين يكون النهار إذا جاء الليل ؟
(7).
وقد رُوي هذا مرفوعا ، فقال البَزّار : حدثنا محمد بن مَعْمَر ، حدثنا المغيرة بن
سلمة أبو هشام ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، عن عبيد الله بن عبد الله بن الأصم ،
عن عَمّه يزيد بن الأصَم ، عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال : أرأيت قوله تعالى : { جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ
} فأين النار ؟ قال : "أرَأيْتَ اللَّيْلَ إذا جَاءَ لَبسَ كُلَّ شَيْءٍ ،
فَأيْنَ النَّهَار ؟" قال : حيث شاء الله. قال : "وَكَذِلَكَ (8)
النَّارُ تكون حيث شاء الله عز وجل" (9).
وهذا يحتمل معنيين :
أحدهما : أن يكون المعنى في ذلك : أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء
النهار ألا يكون في مكان ، وإن كنا لا نعلمه ، وكذلك النار تكون حيث يشاء الله عز
وجل ، وهذا (10) أظهر كما تقدم في (11) حديث أبي هريرة ، عن (12) البزار.
الثاني : أن يكون المعنى : أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب ، فإن
الليل يكون من الجانب الآخر ، فكذلك الجنة في أعلى عليّين فوق السماوات تحت العرش
، وعرضها كما قال الله ، عز وجل : { كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } [الحديد :
21] والنار في أسفل سافلين. فلا تنافي بين كونها كعرض السماوات والأرض ، وبين وجود
النار ، والله أعلم.
__________
(1) في ق : "أبي مرة" وهو خطأ".
(2) تفسير الطبري (7/211 ، 212).
(3) في أ : "سلمة".
(4) زيادة من أ.
(5) في جـ ، ر : "طرق".
(6) تفسير الطبري (7/211 ، 212).
(7) في جـ ، ر ، أ ، و : "فقال ابن عباس : أرأيت إذا جاء الليل أين يكون
النهار ، وإذا جاء النهار أين يكون الليل".
(8) في أ : "فلذلك" ، وفي و : "فكذلك".
(9) ورواه الحاكم في المستدرك (1/36) من طريق محمد بن معمر عن المغيرة به. وقال :
"على شرطهما ولم يخرجاه ولا أعلم له علة"ووافقه الذهبي.
(10) في أ : "فهذا".
(11) في أ : "من".
(12) في أ : "عند".
(2/118)
ثم
ذكر تعالى صَفَة أهل الجنة ، فقال : { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ
وَالضَّرَّاءِ } أي : في الشدة والرخاء ، والمَنْشَط والمَكْرَه ، والصحة والمرض ،
وفي جميع الأحوال ، كما قال : { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً } [البقرة : 274]. والمعنى : أنهم لا يشغلهم
أمْر عن طاعة الله تعالى والإنفاق في مَرَاضِيه ، والإحسان إلى خلقه من قراباتهم
وغيرهم بأنواع البر.
وقوله : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } أي : إذا ثار
بهم الغيظ كظموه ، بمعنى : كتموه فلم يعملوه ، وعَفَوْا (1) مع ذلك عمن أساء إليهم
(2) وقد ورد في بعض الآثار : "يقول الله تعالى : ابنَ آدَمَ ، اذْكُرْنِي
إذَا غَضِبْتَ ، أَذْكُرُكَ إذَا غَضِبْتُ ، فَلا أُهْلِكُكَ (3) فيمن
أهْلِكَ" رواه ابن أبي حاتم (4).
وقد قال أبو يعلى في مسنده : حدثنا أبو موسى الزّمن ، حدثنا عيسى بن شُعَيب
الضَّرِير أبو الفضل ، حدثنا (5) الربيع بن سليمان الجيزي (6) عن أبي عمرو بن أنس
بن مالك ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ كَفَّ
غَضَبَهُ كَفَّ اللهُ عَنْهُ عَذَابَهُ ، وَمَنْ خزَنَ لِسَانَهُ سَتَرَ اللهُ
عَوْرَتَهُ ، وَمَنِ اعْتَذَرَ إلَى اللهِ قَبِلَ عُذْرَهُ" [و] (7) هذا حديث
غريب ، وفي إسناده نظر (8).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا مالك ، عن الزهري ، عن سعيد بن
المسيَّب ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :
"لَيْسَ الشَّدِيدُ (9) بِالصُّرُعة ، وَلَكِنَّ الشَّدِيدَ (10) الَّذِي
يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ". وقد رواه الشيخان من حديث مالك (11).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم التَّيْميّ ، عن
الحارث بن سُوَيد ، عن عبد الله ، هو ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "أيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أحَبُّ إلَيْه مِنْ
مَالِهِ ؟" قال : قالوا : يا رسول الله ، ما منا أحد إلا مَالهُ أحب إليه من
مال وارثه. قال : "اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا مَالُ
وَارِثِهِ أحَبُّ إلَيْه مِنْ مَالهِ مَالَكَ مِنْ مَالَكَ إلا مَا قَدَّمَتْ ،
ومَالُ وَارِثَكَ مَا أخَّرْتَ". قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"مَا تَعُدُّونَ فِيْكُمُ الصُّرعَة ؟" قلنا : الذي لا تَصْرَعه (12)
الرجال ، قال : قال "لا ولكن الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ".
قال : قال (13) رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَا تَعُدُّونَ فِيْكُمُ
الرَّقُوبَ ؟" قال : قلنا : الذي لا ولد له. قال : "لا ولكن الرَّقُوبَ
الَّذِي لم (14) يُقَدِّمْ مِنْ ولَدِهِ شَيْئًا".
__________
(1) في أ : "وعفا".
(2) في أ ، و : "إليه".
(3) في ر : "أهلك".
(4) لم أجده في تفسيره.
(5) في جـ ، ر : "حدثني".
(6) في أ ، و : "النميري". وهو خطأ ، والصواب ما أثبتناه من الجرح
والتعديل 3/464.
(7) زيادة من أ ، و.
(8) ورواه الخرائطي في مساوئ الأخلاق برقم (329) وابن أبي عاصم في الزهد برقم (47)
من طريق الربيع عن أبي عمرو مولى أنس عن أنس به. ووقع عند الخرائطي "الربيع
بن مسلم" ولعله تصحيف. قال الهيثمي في المجمع (10/298) : "وفيه الربيع
بن سليمان الأزدي وهو ضعيف" وللحديث طريق آخر عن أنس يرويه الفضل بن العلاء عن
سفيان عن حميد عن أنس به ، وأخرجه الضياء المقدسي في المختارة برقم (2066 ، 2067)
وقال : "الفضل ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحا". قلت : نقل ابن أبي
حاتم عن أبيه (7/65) : "شيخ يكتب حديثه" ، ووثقه ابن معين وابن المديني.
(9) في جـ ، ر ، أ ، و : "الشدة".
(10) في جـ ، ر ، أ ، و : "الشدة".
(11) المسند (2/236) وصحيح البخاري برقم (6114) وصحيح مسلم برقم (2609).
(12) في جـ : "يصرعه".
(13) في أ ، و : "قال : وقال".
(14) في جـ ، ر : "لا".
(2/119)
أخرج
البخاري الفصل الأول منه وأخرج مسلم أصل هذا الحديث من رواية الأعمش ، به (1).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شُعْبة ، سمعت عُرْوة بن
عبد الله الجَعْفِيّ يحدث عن أبي حصبة ، أو ابن حصبة ، عن رجل شهد النبي صلى الله
عليه وسلم يخطب فقال : "تَدْرُونَ مَا الرَّقُوبُ ؟" قالوا (2) الذي لا
ولد له. قال : "الرَّقُوبُ كُلُّ الرَّقُوبِ الَّذِي لَهُ وَلَدٌ فَمَاتَ ،
وَلَمْ يُقَدِّمْ مِنْهُمْ شَيْئًا". قال : "تَدْرُونَ مَا الصُّعْلُوكُ
؟" قالوا : الذي ليس له مال. قال النبي صلى الله عليه وسلم :
"الصُّعْلُوكُ كُلُّ الصُّعْلُوكِ الَّذِي لَهُ مَالٌ ، فَمَاتَ وَلَمْ يُقَدِّمْ
مِنْهُ شَيْئًا". قال : ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : "مَا
الصُّرَعَةُ ؟" قالوا : الصريع. قال : فقال (3) صلى الله عليه وسلم
الصُّرَعَةُ كُلُّ الصُّرَعَةِ الَّذِي يَغْضَبُ فَيَشْتَدُّ غَضَبُهُ ،
وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ ، وَيَقْشَعِرُّ شَعْرُهُ ، فَيَصْرَعُ غَضَبَهُ" (4).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا ابن نُمَيْر ، حدثنا هشام - هو ابن عروة - عن
أبيه ، عن الأحنف بن قيس ، عن عم له يقال له : جَارية بن قُدامة السعدي ؛ أنه سأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، قل لي قولا ينفعني وأقْلِل
عليّ ، لعلي أعيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تَغْضَبْ".
فأعاد عليه حتى أعاد عليه مرارا ، كل ذلك يقول : "لا تَغْضَبْ".
وكذا رواه عن أبي معاوية ، عن هشام ، به. ورواه [أيضا] (5) عن يحيى بن سعيد القطان
، عن هشام ، به ؛ أن رجلا قال : يا رسول الله ، قل لي قولا وأقْلِل علَيَّ لَعَلّي
أعقِله. قال : "لا تَغْضَبْ".
الحديث انفرد به أحمد (6).
حديث آخر : قال أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن حُمَيد
بن عبد الرحمن ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال رجل : يا
رسول الله ، أوصني. قال : "لا تَغْضَبْ". قال الرجل : ففكرت حين قال (7)
صلى الله عليه وسلم ما قال ، فإذا الغضب يجمع الشر كله.
انفرد به أحمد (8).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا داود بن أبي هِنْد عن بن
أبي حَرْب بن أبي الأسود ، عن أبي الأسود ، عن أبي ذَرّ قال : كان يسقي على حوض له
، فجاء قوم قالوا (9) أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه فقال رجل : أنا.
فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقه ، وكان أبو ذر قائما فجلس ، ثم اضطجع ، فقيل له
: يا أبا ذر ، لم جلست ثم اضطجعت ؟ فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
لنا : "إذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ ، فإن (10)
ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلا فَلْيَضْطَجِعْ".
ورواه أبو داود ، عن أحمد بن حنبل بإسناده ، إلا أنه وقع في روايته : عن أبي حرب ،
عن أبي
__________
(1) المسند (1/382) وصحيح البخاري برقم (6442).
(2) في أ : "قال".
(3) في جـ ، ر : "فقال النبي".
(4) المسند (5/367) وقال الهيثمي في المجمع (8/69) : "فيه أبو حصبة أو ابن
عصبة ولم أعرفه ، وبقية رجاله ثقات".
(5) زيادة من و.
(6) المسند (5/34) وقال الهيثمي في المجمع (8/69) : "رجاله رجال
الصحيح".
(7) في جـ ، ر ، أ ، و : "قال النبي".
(8) المسند (5/373) وقال الهيثمي في المجمع (8/69) : "رجاله رجال
الصحيح".
(9) في جـ ، ر : "فقالوا".
(10) في جـ ، أ : "فإذا".
(2/120)
ذر
، والصحيح : ابن أبي حرب ، عن أبيه ، عن أبي ذر ، كما رواه عبد الله بن أحمد ، عن
أبيه (1).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن خالد : حدثنا أبو وائل
الصَّنْعَاني قال : كنا جلوسا عند عرْوة بن محمد إذ دخل عليه رجل ، فكلمه بكلام
أغضبه ، فلما أن غضب قام ، ثم عاد إلينا وقد توضأ فقال : حدثني أبي ، عن جدي عطية
- هو ابن سعد السعدي ، وقد كانت له صحبة - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: "إنَّ الْغَضَبُ مِنَ الشَّيْطَانِ ، وإنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ
النَّارِ (2) وإنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالماءِ ، فَإذَا أُغْضِبَ (3)
أحَدُكُمْ فَلْيَتَوضَّأْ".
وهكذا رواه أبو داود من حديث إبراهيم بن خالد الصنْعَاني ، عن أبي وائل القاص (4)
المُرَادي الصَّنْعَاني : قال أبو داود : أراه عبد الله بن بَحير (5) (6).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا نوح بن جَعْوَنة
السُّلَمي ، عن مقاتل بن حَيَّان ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "مَنْ أنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ وَقَاهُ اللهُ
مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ ، ألا إنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوُةٍ - ثلاثا -
ألا إنَّ عَمَلَ النَّار سَهْلٌ بسَهْوة. والسَّعِيدُ مَنْ وقيَ الفِتَنَ ، ومَا مِنْ
جَرْعَةٍ أحَبُّ إلَى اللهِ [عز وجل] (7) مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ
، مَا كَظَمَهَا عَبْدٌ للهِ (8) إلا مَلأ (9) جَوْفُه إيمَانًا".
انفرد به أحمد ، إسناده حسن ليس فيه (10) مجروح ، ومتنه حسن (11).
حديث آخر في معناه : قال أبو داود : حدثنا عقبة بن مُكرَم ، حدثنا عبد الرحمن -
يعني ابن مَهْدي - عن بشر - يعني ابن منصور - عن محمد بن عَجْلان ، عن سُوَيد بن
وَهْب ، عن رجل من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، عن أبيه قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أنْ
يُنْفِذَه مَلأهُ اللهُ أَمْنًا وَإيمانًا ، وَمَنْ تَرَكَ لُبْسَ ثَوْبِ جَمَال
وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْه - قال بِشر : أحسبه قال : "تَوَاضُعًا" -
كَسَاهُ اللهُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ ، وَمَنْ زَوَّجَ للهِ كَسَاهُ اللهُ تَاجَ
الْمُلْكِ" (12).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يَزيد ، حدثنا سعيد ، حدثني أبو
مَرْحُوم ، عن سَهْل بن مُعَاذ بن أنس ، عن أبيه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : "مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَه ،
دَعَاهُ اللهُ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلائِقِ ، حَتَّى يُخيرَهُ مِنْ أيِّ الْحُورِ
شَاءَ".
ورواه أبو داود والترمذي ، وابن ماجة ، من حديث سعيد بن أبي أيُّوب ، به. وقال
الترمذي : حسن غريب (13).
__________
(1) المسند (5/152) وسنن أبي داود برقم (4782 ، 4783).
(2) في و : "من نار".
(3) في جـ ، ر ، أ ، و : "غضب".
(4) في جـ ، أ : "العاص" ، وفي ر : "العلص".
(5) في جـ : "جبير".
(6) المسند (4/226) وسنن أبي داود برقم (4784).
(7) زيادة من أ.
(8) في أ ، و : "ما كظم عبد الله".
(9) في ر ، أ ، و : "ملأ الله".
(10) في أ ، و : "فيهم".
(11) المسند (1/327).
(12) سنن أبي داود برقم (4778).
(13) المسند (3/440) وسنن أبي داود برقم (4777) وسنن الترمذي برقم (2021 ، 2493)
وسنن ابن ماجة برقم (4186).
(2/121)
حديث
آخر : قال : عبد الرزاق : أخبرنا داود بن قَيْس ، عن زيد بن أسلم ، عن رجل من أهل
الشام - يقال له : عبد الجليل - عن عم له ، عن أبي هريرة في قوله تعالى : {
وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من كظم غيظا
، وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمنا وإيمانا". رواه ابن جرير (1).
حديث آخر : قال ابن مَرْدُويَه : حدثنا أحمد بن محمد بن زياد ، أخبرنا يحيى بن أبي
طالب ، أخبرنا علي بن عاصم ، أخبرني يونس بن عبيد عن الحسن ، عن ابن عمر قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما تَجَرَّعَ عبد من جُرْعَةٍ أفضل أجرا من
جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله".
وكذا رواه ابن ماجة عن بشر بن عمر ، عن حَمَّاد بن سلمة ، عن يونس بن عُبَيد ، به
(2).
فقوله : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } أي : لا يعملون (3) غضبهم في الناس ، بل
يكفون عنهم شرهم ، ويحتسبون ذلك عند الله عز وجل.
ثم قال [تعالى] (4) { وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } أي : مع كف الشر يعفون عمن
ظلمهم في أنفسهم ، فلا يبقى (5) في أنفسهم (6) مَوجدة على أحد ، وهذا أكمل الأحوال
، ولهذا قال : { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } فهذا من مقامات الإحسان.
وفي الحديث : "ثلاث أُقْسِمُ عليهن : ما نقص مال من صدقة ، وما زاد الله عبدا
بعفو إلا عِزا ، ومن تواضع لله رفعه الله " (7).
وروى الحاكم في مستدركه من حديث موسى بن عُقبة ، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة القُرشي
، عن عُبَادة بن الصامت ، عن أبي بن كعب ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"من سره أن يُشْرَف له البنيان ، وترفع له الدرجات فَلْيَعْفُ عمن ظلمه ،
ويعط من حرمه ، ويَصِلْ من قطعه".
ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه (8) وقد أورده ابن مردويه من حديث علي
، وكعب بن عُجْرة ، وأبي هريرة ، وأم سلمة ، بنحو ذلك. وروي عن (9) طريق الضحاك ،
عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا كان يوم القيامة
نادى مناد يقول : أين العافون عن الناس ؟ هَلُمُّوا إلى ربكم ، وخذوا أجوركم ، وحق
على كل امرئ مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة".
وقوله تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } أي :
__________
(1) تفسير عبد الرزاق (1/136) وتفسير الطبري (7/216) ورواه البخاري في التاريخ
الكبير (5/123) وقال : "عبد الجليل لا يتابع عليه".
(2) سنن ابن ماجة برقم (4189) ورواه أحمد في مسنده (2/128) من طريق علي بن عاصم عن
يونس بن عبيد ، به.
(3) في جـ : "أي يعلمون" ، وفي ر : "أي لا يعلمون".
(4) زيادة من جـ.
(5) في و : "تبقى".
(6) في أ : "نفوسهم".
(7) رواه الترمذي في السنن برقم (2325) من حديث أبي كبشة الأنماري.
(8) المستدرك (2/295) وتعقبه الذهبي فقال : "فيه أبي أمية بن يعلى ضعفه
الدارقطني وإسحاق بن يحيى بن طلحة عن عبادة عن أبي ، وإسحاق لم يدرك عبادة".
ورواه الطبراني في الكبير (1/167) من طريق أبي أمية بن يعلى عن موسى بن عقبة ، به.
(9) في ر ، أ ، و : "من".
(2/122)
إذا
صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار.
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا هَمّام بن يحيى ، عن إسحاق بن عبد الله بن
أبي طلحة ، عن عبد الرحمن بن أبي عَمْرة ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : "إن رجلا أذنب ذَنْبًا ، فقال : رب (1) إني أذنبت ذنبا فاغفره.
فقال الله [عز وجل] (2) عبدي عمل ذنبا ، فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ، قد
غفرت لعبدي ، ثم عمل ذنبا آخر فقال : رب ، إني عملت ذنبا فاغفره. فقال تبارك
وتعالى : علم عبدي أن له رَبا يغفر الذنب وَيَأْخُذُ بِهِ ، قَدْ غَفَرَتْ
لِعَبْدِي. ثُمَّ عَمِلَ ذَنْبًا آخَرَ فَقَالَ : رَبِّ ، إنِّي عَمِلْتُ ذَنْبًا
فَاغْفِرْهُ لي. فَقَالَ عَزَّ وجَلَّ : عَلِمَ عَبْدَي أنَّ لَهُ رَبا يَغْفِرُ الذَّنْبَ
وَيأْخُذُ بِهِ ، قَدْ غَفَرَتُ لِعَبْدِي ثُمَّ عَمِلَ ذَنَبًا آخَرَ فَقَالَ :
رَبِّ ، إنِّي عَمِلَتُ ذَنَبًا فَاغْفِرْهُ (3) فَقَالَ عَزَّ وجَلَّ : عَبْدِي
عَلِمَ (4) أنَّ لَهُ رَبا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ ، أُشْهِدُكُمْ
أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ، فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ".
أخرجه (5) في الصحيح من حديث إسحاق (6) بن أبي طلحة ، بنحوه (7).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر وأبو عامر قالا حدثنا زهير ، حدثنا
سعد الطائي ، حدثنا أبو الْمُدِلَّة - مولى أم المؤمنين - سمع أبا هريرة ، قلنا :
يا رسول الله ، إذا رأيناك رقَّت قلوبُنا ، وكنا من أهل الآخرة ، وإذا فارقناك
أعجبتنا الدنيا وشَمِمْنا النساء والأولاد ، فقال (8) لَوْ أَنَّكُمْ تَكُونُونَ
عَلَى كُلِّ حَالٍ ، عَلَى الْحَالِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا عِنْدِي ،
لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلائِكَةُ بِأَكُفِّهِمْ ، وَلَزَارَتْكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ ،
وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَجَاءَ اللَّهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ كَيْ يُغْفَرَ
لَهُمْ". قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، حَدِّثْنَا عَنْ الْجَنَّةِ مَا
بِنَاؤُهَا ؟ قَالَ : "لَبِنَةُ ذَهَبٍ ، وَلَبِنَةُ فِضَّةٍ ، وَمِلاطُهَا
الْمِسْكُ الأذْفَرُ ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ ، وَتُرَابُهَا
الزَّعْفَرَانُ ، مَنْ يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ وَلا يَبْأَسُ ، وَيَخْلُدُ وَلا
يَمُوتُ ، لا تَبْلَى ثِيَابُهُ ، وَلا يَفْنَى شَبَابُهُ ، ثَلاثَةٌ لا تُرَدُّ
دَعْوَتُهُمْ : الإمَامُ الْعَادِلُ ، وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ ، وَدَعْوَةُ
الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ وَتُفْتَح (9) لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ
، وَيَقُولُ الرَّبُّ : وَعِزَّتِي لأنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ".
ورواه الترمذي ، وابن ماجة ، من وجه آخر من سعد ، به (10).
ويتأكد الوضوء وصلاة ركعتين عند التوبة ، لما رواه الإمام أحمد بن حنبل :
حدثنا وَكِيع ، حدثنا مِسْعَر ، وسفيان - هو الثوري - عن عثمان بن المغيرة الثقفي
، عن علي بن ربيعة ، عن أسماء بن (11) الحكم الفزاري ، عن علي بن أبي طالب ، رضي
الله عنه ، قال : كنت إذا
__________
(1) في جـ : "يا رب".
(2) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(3) في جـ : فاغفره لي".
(4) في جـ : "علم عبدي".
(5) في جـ ، ر ، أ ، و : "أخرجاه".
(6) في جـ : "إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة".
(7) المسند (2/296) وصحيح البخاري رقم (5707) ورواه مسلم في صحيحة برقم (2758) من
طريق إسحاق بن عبد الله ، به.
(8) في ج : "قال".
(9) في جـ ، ر : "ويفتح".
(10) المسند (2/304 ، 305) وسنن الترمذي برقم (3598) ، وسنن ابن ماجة برقم (1752).
(11) في ر : "بنت".
(2/123)
سمعت
من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا (1) نفعني الله بما شاء منه ، وإذا حدثني
عنه [غيري استَحْلفْتُه ، فإذا حلف لي صَدقته ، وإن أبا بكر رضي الله عنه حَدثني]
(2) وصدَق أبو بكر - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "مَا مِنْ
رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ - الوُضُوءَ - قال مِسْعر :
فَيُصَلّي. وقال سفيان : ثم يُصلِّي ركعتين - فَيَسْتَغْفِرُ اللهَ عز وجَلَّ إلا
غَفَرَ لَهُ".
كذا (3) رواه علي بن المَديني ، والحُمَيْدي وأبو بكر بن أبي شيبة ، وأهل السنن ،
وابن حِبَّان في صحيحه والبزار والدارقُطْني ، من طرق ، عن عثمان بن المغيرة ، به.
وقال الترمذي : هو حديث حسن (4) وقد ذكرنا طُرقه والكلام عليه مستقصى في مسند أبي
بكر الصديق ، [رضي الله عنه] (5) وبالجملة فهو حديث حسن ، وهو من رواية أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب [رضي الله عنه] (6) عن خليفة النبي [صلى الله عليه وسلم]
(7) أبي بكر الصديق ، رضي الله عنهما (8) ومما يشهد لصحة هذا الحديث ما رواه مسلم
في صحيحه ، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيَبْلُغَ - أو :
فَيُسْبِغَ - الوُضُوءَ ، ثُمَّ يَقُولُ : أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ
وَحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَهُ ، وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ،
إلا فُتِحَتْ لَهُ أبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ ، يَدْخُلُ مِنْ أيّهَا
شَاءَ" (9).
وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، أنه توضأ لهم
وُضُوء النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول : "مَنْ تَوضَّأَ نَحْوَ وُضُوئي هَذَا ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لا
يُحَدِّثُ فِيْهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"
(10).
فقد ثبت هذا الحديث من رواية الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين ، عن سيد الأولين
والآخرين ورسول رب العالمين ، كما دل عليه الكتاب المبين من أن الاستغفار من الذنب
ينفع العاصين.
وقد قال عبد الرزاق : أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك قال :
بلغني أن إبليس حين نزلت : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } الآية ، بَكَى
(11).
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا مُحْرِز بن عَون ، حدثنا عثمان بن مطر ، حدثنا عبد
الغفور ، عن أبي نُضَيْرة عن أبي رجاء ، عن أبي بكر ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : "عَلَيْكُمْ بِلا إلَهَ إلا اللهُ والاسْتِغْفَار ،
فأكْثرُوا مِنْهُمَا ، فإنَّ إبْليسَ قَالَ : أهْلَكْتُ النَّاسَ بالذُّنُوبِ ،
وأهْلَكُونِي بِلا إلَهَ إلا اللهُ والاسْتِغْفَار ، فَلَمَّا رَأيْتُ ذَلِكَ
أهْلَكْتُهُمْ بِالأهْوَاءِ ، فَهُمْ يَحْسَبُونَ أنَّهُم مُهْتَدُونَ".
عثمان بن مطر وشيخه ضعيفان (12).
__________
(1) في جـ : "سمعت حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(2) زيادة من جـ ، والمسند.
(3) في جـ ، ر ، أ ، و : "وهكذا".
(4) المسند (1/2 ، 10) وسنن ابن ماجة برقم (1395) ومسند الحميدي برقم (4) ومصنف
ابن أبي شيبة (2/387) ومسند البزار برقم (8) والعلل للدارقطني برقم (8) وقد توسع
الدارقطني في الكلام عليه.
(5) زيادة من و.
(6) زيادة من و.
(7) زيادة من جـ ، أ ، و.
(8) في أ ، و : "عنه".
(9) صحيح مسلم برقم (234).
(10) صحيح البخاري برقم (159 ، 164 ، 1934) وصحيح مسلم برقم (226 ، 232).
(11) تفسير عبد الرزاق (1/137) وتفسير الطبري (7/220) وليس فيها أنس بن مالك.
(12) مسند أبي يعلى (1/124) قال الهيثمي في المجمع (10/207) : "فيه عثمان بن
مطر وهو ضعيف".
(2/124)
وروى
الإمام أحمد في مسنده ، من طريق عَمْرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العُتْوَارِيّ ،
عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "قَالَ إبْلِيسُ : يَا
رَبِّ ، وَعِزَّتكَ لا أزَالُ أغْوي [عِبَاَدكَ] (1) ما دامت أرْوَاحُهُمْ فِي
أجْسَادِهِمْ. فَقَالَ اللهُ : وَعِزَّتِي وَجَلالِي ولا أزَالُ أغْفِرُ لَهُمْ
مَا اسْتَغْفَرُونِي" (2).
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثني ، حدثنا عُمر بن أبي خليفة ،
سمعت أبا بَدْر يحدث عن ثابت ، عن أنس قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله (3) ،
أَذْنَبْتُ ذَنْبًا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذَا أَذْنَبْتَ
فَاسْتَغْفِرْ رَبَّكَ". [قال : فإني أستغفر ، ثم أعود فأُذْنِب. قال (4)
فَإذا (5) أَذْنَبْتَ فَعُدْ فَاسْتَغْفِرْ رَبَّكَ] (6) " فقالها في الرابعة
فقال : "اسْتَغْفِرْ رَبَّكَ حَتَّى يَكُونَ الشَّيْطَانُ هُوَ المحسُورُ"
(7).
وهذا حديث غريب من هذا الوجه (8).
وقوله : { وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ } أي : لا يغفرها أحد سواه ،
كما قال الإمام أحمد :
حدثنا محمد بن مُصْعَب ، حدثنا سلام بن مسكين ، والمبارك ، عن الحسن ، عن الأسود
بن سَرِيع ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بأسير فقال : اللهمُ إني أتوب إليك
ولا أتوب إلى محمد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "عَرَفَ الْحقَّ
لأهْلِهِ" (9).
وقوله : { وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أي : تابوا
من ذنوبهم ، ورجعوا إلى الله عن قريب ، ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير
مقْلِعِين عنها ، ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه ، كما قال الحافظ أبو يعلى
الموصلي ، رحمه اللهُ ، في مسنده :
حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل وغيره قالوا : حدثنا أبو يحيى عبد الحميد الحِمَّانيّ
، عن عثمان بن واقد عن أبي نُصَيْرَةَ ، عن مولى لأبي بكر ، عن أبي بكر ، رضي الله
عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَا أصَرَّ مَنِ
اسْتَغْفَرَ وَإنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً".
ورواه أبو داود ، والترمذي ، والْبَزَّار في مسنده ، من حديث عثمان بن واقد - وقد
وثقه يحيى بن معين - به وشيخه أبو نصيرة (10) الواسطي واسمه مسلم بن عبيد ، وثقه
الإمام أحمد وابن حبان وقول علي بن المديني والترمذي : ليس إسناد هذا الحديث بذاك
، فالظاهر إنما [هو] (11) لأجل جهالة مولى أبي بكر ، ولكن جهالة مثله لا تضر ؛
لأنه تابعي كبير ، ويكفيه نسبته إلى [أبي بكر] (12) الصديق ، فهو حديث حسن (13)
والله أعلم.
__________
(1) عن المسند ، وفي جـ ، ر ، أ : "أغويهم".
(2) المسند (3/76).
(3) في جـ ، ر : "يا رسول الله إني".
(4) في جـ ، ر : "فقال".
(5) في أ ، و : "إذا".
(6) زيادة من جـ ، ر ، ومسند البزار.
(7) مسند البزار برقم (3249) "كشف الأستار".
(8) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (7090) من طريق عمر بن أبي خليفة به. وقال
الهيثمي في المجمع (10/201) : "رواه البزار وفيه بشارة بن الحكم الضبي ضعفه
غير واحد. وقال ابن عدي : أرجو أنه لا بأس به وبقية رجاله وثقوا".
(9) المسند (3/345).
(10) في جـ : "أبو بصيرة" ، وفي ر : "أبو نصر".
(11) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(12) زيادة من جـ ، أ.
(13) مسند أبي يعلى (1/124) وسنن أبي داود برقم (1514) وسنن الترمذي برقم (3559)
ومسند البزار برقم (93).
(2/125)
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
وقوله
: { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } قال مجاهد وعبد الله بن عبيد بن عُمَير : { وَهُمْ
يَعْلَمُونَ } أن من تاب تاب الله عليه.
وهذا كقوله تعالى : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ
عَنْ عِبَادِهِ } [التوبة : 104] وكقوله (1) { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ
يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا }
[النساء : 110] ونظائر هذا كثيرة جدا.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد أخبرنا جرير ، حدثنا حبان - هو ابن زيد
الشَّرْعَبيّ - عن عبد الله بن عَمْرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال -
وهو على المنبر - : "ارْحَمُوا تُرْحَمُوا ، واغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ ،
وَيْلٌ لأقْمَاعِ الْقَوْلِ ، وَيْلٌ للْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصرونَ عَلَى مَا
فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ".
تفرد به أحمد ، رحمه الله (2).
ثم قال تعالى - بعد وصفهم بما وصفهم به - : { أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ
مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ } أي : جزاؤهم على هذه الصفات مغفرة من الله (3) وجنات
{ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي : من أنواع المشروبات { خَالِدِينَ
فِيهَا } أي : ماكثين فيها { وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } يمدح تعالى الجنة.
{ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى
وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ
الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ
مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ
لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) }
__________
(1) في أ : "قوله".
(2) المسند (2/165).
(3) في و : "من ربهم".
(2/126)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
{
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ
حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا
مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) }
يقول تعالى مخاطبا عباده (1) المؤمنين الذين أُصِيبوا يومَ أُحُد ، وقُتِل منهم
سبعون : { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } أي : قد جرى نحو هذا على الأمم
الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء ، ثم كانت العاقبة لهم والدائرة على
الكافرين ؛ ولهذا قال : { فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ }.
ثم قال : { هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ } يعني : القرآن فيه بيان للأمور على جليتها ،
وكيف كان الأممُ الأقدمون مع أعدائهم { وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ } يعني : القرآن فيه
خَبَرُ ما قبلكم و { هُدًى } لقلوبكم و { مَوْعِظَةٌ } أي : زاجر [عن المحارم
والمآثم] (2).
ثم قال مسليا للمؤمنين : { وَلا تَهِنُوا } أي : لا تَضعفوا بسبب ما جرى { وَلا
تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }
__________
(1) في أ : "لعباده".
(2) زيادة من جـ ، ر.
(2/126)
أي
: العاقبة والنّصرة لكم أيها المؤمنون.
{ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ } أي : إن
كنتم قد أصابتكم جراحٌ وقُتل منكم طائفةٌ ، فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك من قتل
وجراح { وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } أي : نُديل عليكم
الأعداء تارة ، وإن كانت العاقبة لكم لما لنا في ذلك من الحكم (1) ؛ ولهذا قال
تعالى : { وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا } قال ابن عباس : في مثل هذا
لنَرَى ، أي : من يَصبر على مناجزة الأعداء { وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ }
يعني : يُقْتَلُون في سبيله ، ويَبْذُلون مُهَجهم في مرضاته. { وَاللَّهُ لا
يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا } أي : يكفر عنهم
من ذنوبهم ، إن كان لهم ذنوب وإلا رُفعَ لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به ، وقوله
: { وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } أي : فإنهم إذا ظفروا بَغَوا وبَطروا فيكون ذلك
سَبَبَ دمارهم وهلاكهم ومَحْقهم وفنائهم.
ثم قال : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ
الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } أي : أحسبتم أن تدخلوا
الجنة ولم تُبْتَلوا بالقتال والشدائد ، كما قال تعالى في سورة البقرة : { أَمْ
حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ
خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا
[حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا
إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] (2) } [البقرة : 214] وقال تعالى : { الم أَحَسِبَ
النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ] (3) } [العنكبوت : 1 - 3] ؛ ولهذا قال
هاهنا : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ
الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } أي : لا يحصل لكم دخول
الجنة حتى تُبْتَلَوا ويرى الله منكم المجاهدين في سبيله والصابرين على مقارنة
الأعداء.
وقوله : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ
فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } أي : قد كنتم - أيها المؤمنون -
قبل هذا اليوم تتمنون لقاء العدو وتتحرقون عليهم ، وتودون مناجزتهم ومصابرتهم ،
فها قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه ، فدونَكم فقاتلوا وصابروا.
وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تَمَنَّوْا
(4) لِقَاءَ الْعَدُوِّ ، وَسَلُوا الله الْعَافِيَةَ ، فَإذَا لقيتموهم
فَاصْبِرُوا ، وَاعْلَمُوا أنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ" (5).
ولهذا قال : { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } يعني : الموت شاهدتموه (6) في لَمَعان
السيوف وحدّ الأسِنّة واشتباك الرِّماح ، وصفوف الرجال للقتال.
والمتكلمون يعبرون عن هذا بالتخْييل ، وهو مشاهدة ما ليس بمحسوس كالمحسوس (7) كما
تَتَخَيل الشاة صداقة الكبش وعداوة الذئب.
__________
(1) في أ : "الحكمة".
(2) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(3) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(4) في هـ : "تتمنوا" ، والمثبت من جـ ، ر ، ومسلم.
(5) صحيح البخاري معلقا برقم (3021) وصحيح مسلم برقم (1741).
(6) في و : "يعني شاهدوه".
(7) في جـ : "في المحسوس" ، وفي ر ، أ ، و : "من المحسوس".
(2/127)
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
{
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ
أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى
عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ
(144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا
مُؤَجَّلا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ
ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ
مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا
أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ
يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا
اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا
وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ
الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) }
لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أُحُد ، وقُتِل من قتل منهم ، نادى الشيطان :
ألا إن محمدًا قد قُتل. ورجع ابن قَمِيئَةَ إلى المشركين فقال لهم : قتلتُ محمدًا.
وإنما كان قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فَشَجَّه في رأسه ، فوقع ذلك في
قلوب كثير من الناس واعتقدوا أن رسول الله قد قُتل ، وجوزوا عليه ذلك ، كما قد
قَصَّ الله عن كثير من الأنبياء ، عليهم السلام ، فحصل وهَن وضعف وتَأخر عن القتال
ففي ذلك أنزل الله [عز وجل] (1) على رسوله صلى الله عليه وسلم : { وَمَا مُحَمَّدٌ
إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ } أي : له أسْوة بهم في الرسالة
وفي جواز القتل عليه.
قال ابن أبي نَجيح ، عن أبيه ، أنّ رجلا من المهاجرين مَر على رجل من الأنصار وهو
يتشحط في دمه ، فقال له : يا فلان أشعرتَ أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قُتِل ؟
فقال الأنصاري : إن كان محمد [صلى الله عليه وسلم] (2) قد قُتِل فقد بلغ ، فقاتلوا
عن دينكم ، فنزل : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ } رواه [الحافظ أبو بكر] (3) البيهقي في دلائل النبوة (4).
ثم قال تعالى منكرا على من حصل له ضعف : { أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ
انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } أي : رجعتم القَهْقرى { وَمَنْ يَنْقَلِبْ
عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ
الشَّاكِرِينَ } أي : الذين قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه ، واتبعوا رسوله حيا
وميتا.
وكذلك ثبت في الصحاح والمساند والسنن (5) وغيرها من كتب الإسلام من طُرق متعددة
تفيد القطْع ، وقد ذكرت ذلك في مُسْندي الشيخين أبي بكر وعُمَرَ ، رضي الله عنهما
؛ أن الصدّيق - رضي الله عنه - تلا هذه الآية لما مات رسول الله صلى الله عليه
وسلم (6).
وقال البخاري : حدثنا يحيى بن بُكَير ، حدثنا الليث ، عن عُقيل عن ابن شهاب ،
أخبرني أبو سَلَمة ؛ أن عائشة ، رضي الله عنها ، أخبرته أن أبا بكر ، رضي الله عنه
، أقبل على فَرَس من مَسْكنه بالسَّنْح (7) حتى نزل فدخل المسجد ، فلم يُكلم الناس
حتى دخل على عائشة فتيمَّم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) زيادة من و.
(2) زيادة من ر.
(3) زيادة من و.
(4) (2/248) من طريق آدم بن أبي إياس عن ورقاء عن ابن أبي نجيح به.
(5) في جـ ، ر ، أ ، و : "السنن والمسانيد".
(6) انظر : البداية والنهاية (5/213) ودلائل النبوة للبيهقي (7/215 - 217).
(7) في ر : "بالسيح" وهو خطأ ، والمثبت من البخاري (4452 ، 4453) وهو
الصواب.
(2/128)
وهو
مُغَشى بثوب حبرة ، فكشف عن وجهه [صلى الله عليه وسلم] (1) ثم أكب عليه وقَبَّله
وبكى ، ثم قال : بأبي أنت وأمي. والله لا يجمع الله عليك موْتَتَين ؛ أما الموتة
التي كُتبت عليك فقد مُتَّها.
وقال الزهري : وحدثني أبو سَلمة عن ابن عباس ، أن أبا بكر خرج وعمر يُحَدِّث (2)
الناس فقال : اجلس يا عمر فأبى عمرُ أن يجلس ، فأقبل الناس إليه وتركوا عُمَرَ ،
فقال أبو بكر : أما بعد ، مَنْ كانَ يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات ، ومن كان يعبد
الله فإن الله حَيّ لا يموت ، قال الله تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ } إلى قوله : { وَسَيَجْزِي اللَّهُ
الشَّاكِرِينَ } قال : فوالله لكَأنّ الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى
تلاها أبو بكر ، فتلقاها الناس منه (3) كلهم ، فما سمعها (4) بشر من الناس إلا
تلاها (5).
وأخبرني سعيد بن المُسَيَّب أن عُمر قال : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها
فَعقرتُ حتى ما تقلني رجلاي (6) وحتى هَوَيتُ إلى الأرض (7).
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة
القنَّاد ، حدثنا أسباط بن نصر ، عن سماك بن حَرْب ، عن عكْرمة ، عن ابن عباس أن
عليا كان يقول في حياة رسول الله : { أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ
عَلَى أَعْقَابِكُمْ } والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ، والله لئن
مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت ، والله إني لأخوه ، ووليُّه ، وابن
عمه ، ووارثه فمن أحق به مني ؟ (8).
وقوله : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا
مُؤَجَّلا } أي : لا يموت أحد إلا بقدر الله ، وحتى يستوفي المدةَ التي ضربها الله
له ؛ ولهذا قال : { كِتَابًا مُؤَجَّلا } كقوله (9) { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ
مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ } [فاطر : 11] وكقوله {
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى
عِنْدَهُ } [الأنعام : 2].
وهذه الآية فيها تشجيع للجُبَناء وترغيب لهم في القتال ، فإن الإقدام والإحجام لا
يَنْقُص من العمر ولا يزيد فيه كما قال ابن أبي حاتم :
حدثنا العباس بن يزيد العبدي قال : سمعت أبا معاوية ، عن الأعمش ، عن حبيب بن
صُهبان ، قال : قال رجل من المسلمين (10) - وهو حُجْرُ بن عَدِيّ - : ما يمنعكم أن
تعبُروا إلى هؤلاء العدو ، هذه (11) النطفة ؟ - يعني دِجْلَة - { وَمَا كَانَ
لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا } ثم أقحم فرسه
دجلة فلما أقحم أقحم الناس فلما رآهم العدوّ قالوا : ديوان ، فهربوا (12) (13).
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) في جـ ، ر ، أ ، و : "يكلم".
(3) في جـ ، أ ، و : "فتلاها منه الناس" في ر : "فتلاها الناس
منه".
(4) في جـ ، ر ، أ ، و : "أسمع".
(5) في جـ ، ر ، أ ، و : "يتلوها".
(6) في و : "رجلان".
(7) صحيح البخاري برقم (4452 ، 4453 ، 4454).
(8) ورواه أبي حاتم في تفسيره (2/581) والحاكم في المستدرك (3/126) من طريق عمرو
بن حماد بن طلحة به. قال الهيثمي في المجمع (9/134) : "رجاله رجال
الصحيح".
(9) في جـ : "وكقوله".
(10) في جـ : "للمسلمين".
(11) في أ ، و : "وهذه".
(12) في جـ : "وهربوا".
(13) تفسير ابن أبي حاتم (2/584).
(2/129)
وقوله
: { وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ
الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا } أي : من كان عمله للدنيا فقد نال منها ما قدّرَه
الله له ، ولم يكن له في الآخرة [من] (1) نصيب ، ومن قصد بعمله الدار الآخرة أعطاه
الله منها مع ما قسم له في الدنيا كما قال : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ
الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا
نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } [الشورى : 20] وقال
تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ
لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا
وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ
كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } [الإسراء : 18 ، 19] وهكذا قال هاهنا : {
وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ } أي : سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والآخرة
بحسب شُكْرهم وعملهم.
ثم قال تعالى - مسليًا للمسلمين (2) عما كان وقع في نفوسهم يوم أُحُد - : {
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } قيل : معناه : كم
من نبي قُتِل وقتل معه ربيون من أصحابه كثير. وهذا القول هو اختيار ابن جرير ،
فإنه قال : وأما الذين قرؤوا : { قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } فإنهم قالوا
: إنما عنى بالقتل النبي وبعض من معه من الربيين دون جميعهم ، وإنما نفي الوهن
والضعف عمن بقي من الربيين ممن لم يقتل.
قال : ومن قرأ { قَاتَلَ } فإنه اختار ذلك لأنه قال : لو قتلوا (3) لم يكن لقوله :
{ فَمَا وَهَنُوا } وجه معروف ؛ لأنهم يستحيل أن يُوصَفوا بأنهم لم يهنوا ولم
يضعفوا بعد ما قتلوا.
ثم اختار قراءة من قرأ { قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } ؛ لأن الله [تعالى]
(4) عاتب بهذه الآيات والتي (5) قبلها من انهزم يوم أحد ، وتركوا القتال أو سمعوا
الصائح يصيح : "إن (6) محمدا قد قتل". فعذلهم الله على فرارهم وترْكِهم
القتال فقال لهم : { أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ } أيها المؤمنون ارتددتم عن دينكم
وانقلبتم على أعقابكم ؟.
وقيل : وكم من نبي قتل بين يديه من أصحابه ربيون كثير (7).
وكلام ابن إسحاق في السيرة يقتضي قولا آخر ، [فإنه] (8) قال : أي وكأين من نبي
أصابه القتل ، ومعه ربيون ، أي : جماعات فما وهنوا بعد نبيهم ، وما ضعفوا عن عدوهم
، وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم ، وذلك الصبر ، {
وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ }.
فجعل قوله : { مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } حالا وقد نصر هذا القول السهيلي وبالغ
فيه ، وله اتجاه لقوله : { فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ } الآية ، وكذلك حكاه
الأموي في مغازيه ، عن كتاب محمد بن إبراهيم ، ولم يقل (9) غيره.
وقرأ بعضهم : { قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } قال سفيان الثوري ، عن عاصم
، عن زرّ ، عن ابن
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في جـ ، ر ، أ ، و : "للمؤمنين".
(3) في جـ : "لأنه لو قتلوا" ، وفي ر : "فإنه قال لو قتلوا".
(4) زيادة من و.
(5) في و : "الذي".
(6) في ر : "بأن".
(7) في و : "وقيل : وكم من نبي قتل معه ربيون كثير".
(8) زيادة من جـ.
(9) في جـ ، أ ، و : "ولم يحك".
(2/130)
مسعود
{ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } أي : ألوف.
وقال ابن عباس ، ومجاهد وسعيد بن جُبَير ، وعِكْرِمة ، والحسن ، وقتادة ،
والسُّدِّي ، والرَّبِيع ، وعطاء الخراساني : الربيون : الجموع الكثيرة.
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر عن الحسن : { رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } أي : علماء كثير
، وعنه أيضًا : علماء صبر أبرار أتقياء.
وحكى ابن جرير ، عن بعض نحاة البصرة : أن الربيين هم الذين يعبدون الرب ، عز وجل ،
قال : ورد بعضهم عليه قال : لو كان كذلك لقيل رَبيون ، بفتح الراء.
وقال ابن زيد : "الربيون : الأتباع ، والرعية ، والربابيون : (1) الولاة.
{ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا
اسْتَكَانُوا } قال قتادة والربيع بن أنس : { وَمَا ضَعُفُوا } بقتل نبيهم { وَمَا
اسْتَكَانُوا } يقول : فما ارتدوا عن نصرتهم ولا عن دينهم ، أنْ قاتلوا على ما
قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله.
وقال ابن عباس { وَمَا اسْتَكَانُوا } تَخَشَّعوا. وقال السُّدِّي وابن زيد : وما
ذلوا لعدوهم.
وقال محمد بن إسحاق ، وقتادة والسدي : أي ما أصابهم ذلك حين قُتِل نبيهم.
{ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ. وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ
أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } أي : لم يكن لهم
هِجيرى إلا ذلك.
{ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا } أي : النصر والظفر والعاقبة (2) {
وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ } أي : جمَع لهم ذلك مع هذا ، { وَاللَّهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ }.
__________
(1) في جـ ، ر : "الربانيون".
(2) في ر : "العافية".
(2/131)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
{
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ
عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ
وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا
الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا
وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ
اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ
وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا
تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ
ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ
ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى
أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ
لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ (153) }
يحذر (1) تعالى عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين فإن طاعتهم تورث الردى
في الدنيا والآخرة (2) ؛ ولهذا قال : { إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا
يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ }.
__________
(1) في أ : "يخبر".
(2) في ر : "الأخرى".
(2/131)
ثم
أمرهم بطاعته وموالاته ، والاستعانة به ، والتوكل عليه ، فقال : { بَلِ اللَّهُ
مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ }.
ثم بشرهم بأنه سَيُلقي في قلوب أعدائهم الخوف منهم والذلة لهم ، بسبب كفرهم وشركهم
، مع ما ادخره لهم في الدار الآخرة من العذاب والنَّكال ، فقال : { سَنُلْقِي فِي
قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ
بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ }.
وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الأنْبِيَاءِ قَبْلِي :
نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ، وَجُعِلَتْ لِي الأرْضُ مَسْجِدًا
وَطَهُورًا ، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ ، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَة وَكَانَ
النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً
(1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ عن سليمان - يعني التيمي - عن سَيّار
، عن أبي أمامة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "فَضَّلَني [رَبِّي]
(2) عَلَى الأنْبِيَاء - أو قال : عَلَى الأمَمِ - بأَرْبَعٍ" قال
"أُرْسِلْتُ إلَى النَّاسِ كَافَّةً وَجُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ كُلُّهَا
وَلأمَّتِي مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأيْنَمَا أدْرَكَتْ (3) رَجُلا مِنْ أُمَّتِي
الصَّلاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ و (4) طَهُوُرهُ ، ونُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَة
شَهْرٍ يَقْذِفُهُ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِي وأحَل لِيَ (5) الغنائِم".
ورواه الترمذي من حديث سليمان التيمي ، عن سَيَّار القُرَشي الأموي مولاهم الدمشقي
- سكن البصرة - عن أبي أمامة صُدَيّ بن عَجْلان ، رضي الله عنه ، به. وقال : حسن
صحيح (6).
وقال سعيد بن منصور : أخبرنا ابن وَهْب ، أخبرني عمرو بن الحارث : أن أبا يونس
حدثه ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "نُصِرْتُ
بِالرُّعْبِ عَلَى الْعَدُوِّ".
ورواه (7) مسلم من حديث ابن وهب (8).
وروى الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق عن أبي
بُرْدَة ، عن أبيه (9) أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"أُعْطِيتُ خَمْسًا : بُعِثْتُ إلَى الأحْمَرِ وَالأسْوَدِ ، وَجعلَتْ لِيَ
الأرْض طَهُورًا ومَسْجِدًا ، وأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِم وَلَمْ تَحِل لِمَنْ
كَانَ قَبْلِي ، ونُصِرْتُ بِالرُّعْبِ (10) شَهْرًا ، وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ ،
وَلَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إلا وَقَدْ سَأَل شَفَاعَتَهُ ، وإنِّي اخْتَبَأتُ
شَفَاعَتِي ، ثُمَّ جَعَلْتُهَا لِمَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا".
تفرد به أحمد (11).
__________
(1) صحيح البخاري برقم (335) وصحيح مسلم برقم (521).
(2) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، والمسند.
(3) في و : "أدركه".
(4) في جـ ر : "مسجده وعنده طهوره".
(5) في جـ : "لنا".
(6) المسند (5/248) وسنن الترمذي برقم (1553).
(7) في جـ ، ر : "رواه".
(8) صحيح مسلم برقم (523).
(9) في أ : "عن أبيه عن أبي موسى".
(10) في و : "بالرعب مسيرة شهر".
(11) المسند (4/416) وقال الهيثمي في المجمع (8/258) : "رجاله رجال
الصحيح".
(2/132)
وروى
العَوْفيّ ، عن ابن عباس في قوله : { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا
الرُّعْبَ } قال : قذف الله في قلب أبي سفيان الرعب ، فرجع إلى مكة ، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : "إنَّ أبَا سُفْيَانَ قَدْ أَصَابَ مِنْكُمْ طَرَفا ،
وَقَدْ رَجَعَ ، وقَذَفَ الله فِي قَلْبِهِ الرُّعْبِ". رواه ابن أبي حاتم.
وقوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ }
قال ابن عباس : وعدهم الله النصر.
وقد يستدل بهذه الآية على أحد القولين المتقدمين في قوله : { إِذْ تَقُولُ
لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ
مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنزلِينَ. بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ
مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ
الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } أن ذلك كان يوم أحد لأن عدوهم كان ثلاثة آلاف مقاتل
، فلما واجهوهم كان الظفر والنصر أول النهار للإسلام ، فلما حصل ما حصل من عصيان
الرُّماة وفشل بعض المقاتلة ، تأخر الوعد الذي كان مشروطا بالثبات والطاعة ؛ ولهذا
قال : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ } أي : أول النهار { إِذْ
تَحُسُّونَهُمْ } أي : تقتلونهم (1) { بِإِذْنِهِ } أي : بتسليطه إياكم عليهم {
حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ } وقال (2) ابن جريج : قال ابن عباس : الفشل الجبن ، {
وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ } كما وقع للرماة { مِنْ بَعْدِ مَا
أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ } وهو الظفر منهم (3) { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ
الدُّنْيَا } وهم الذين رغبوا في المغنم حين رأوا الهزيمة { وَمِنْكُمْ مَنْ
يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } ثم أدالهم عليكم
ليختبركم ويمتحنكم { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } أي : غفر لكم ذلك الصَّنِيع ، وذلك
- والله أعلم - لكثرة عَدد العدو وعُدَدهم ، وقلة عَدد المسلمين وعُدَدهم.
قال ابن جريج : قوله : { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } قال : لم يستأصلكم. وكذا قال
محمد بن إسحاق ، رواهما ابن جرير { وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }.
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود أخبرنا عبد الرحمن ابن أبي الزناد ، عن
أبيه ، عن عُبَيد الله (4) عن ابن عباس أنه قال : ما نَصَرَ الله في مَوْطِن كما
نصره يوم أحد. قال : فأنكرنا ذلك ، فقال ابن عباس : بيني وبين من أنكر ذلك كتابُ
الله ، إن الله يقول في يوم أحد : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ
تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } يقول ابن عباس : والحَسُّ : القتل (5) { حَتَّى إِذَا
فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ
مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ
الآخِرَةَ } الآية (6) وإنما عنى بهذا الرماة ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم
أقامهم في موضع ، ثم قال : "احْمُوا ظُهُورَنَا ، فَإنْ رَأيْتُمُونَا نقتل
فَلا تَنْصُرُونَا وَإنْ رَأَيْتُمُونَا قَدْ غَنِمْنَا فَلا تُشْرِكُونَا. فلما
غنم النبي صلى الله عليه وسلم وأباحُوا عسكر المشركين أكبّت الرُّماة جميعا
[ودخلوا] (7) في العسكر ينهبون ، ولقد التقت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، فَهُم هكذا - وشبك بين يديه - وانتشبوا ، فلما أخل الرماة تلك الخلة التي
كانوا فيها ، دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فضرب (8) بعضهم بعضا والتبسوا ، وقُتل من المسلمين ناس
__________
(1) في ر : "يقتلونكم".
(2) في أ ، و : "قال".
(3) في و : "بهم".
(4) في هـ ر : "أبي عبيد الله" ، والصواب ما أثبتناه من المسند.
(5) في ر : "والحس الفشل".
(6) في جـ ، ر ، أ ، و : (حتى إذا فشلتم - إلى قوله - ولقد عفا عنكم والله ذو فضل
على المؤمنين).
(7) زيادة من جـ ، ر ، أ ، والمسند.
(8) في و : "يضرب".
(2/133)
كثير
، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار ، حتى قُتِل من أصحاب
لواء المشركين سبعة أو تسعةٌ ، وجال المسلمون جَوْلَةً نحو الجبل ولم يبلغوا - حيث
يقول الناس - الغار ، إنما كان (1) تحت المِهْراس ، وصاح الشيطان : قُتل محمد ،
فلم يُشَك فيه أنه حق ، فما زلنا كذلك ما نَشُك أنه حق ، حتى طلع رسول الله صلى
الله عليه وسلم بين السعدين ، نعرفه بتلفته (2) إذا مشى - قال : ففرحنا حتى كأنه
لم يصبنا ما أصابنا - قال : فَرَقِيَ نحونا وهو يقول : "اشتد (3) غَضَبَ
اللهِ عَلَى قَوْمٍ دَمَّوْا وَجْهَ رَسُولِ اللهِ". ويقول مرة أخرى :
"اللَّهم إنه ليس لَهم أنْ يَعْلُونَا". حتى انتهى إلينا ، فمكث ساعة ،
فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل : اعْلُ هبل ، مرتين - يعني آلهته - أين ابن
أبي كَبْشة ؟ أين ابن أبي قحَافة ؟ أين ابن الخطاب ؟ فقال عمر : يا رسول الله ،
ألا أجيبه ؟ قال : "بلى" قال : فلما قال : اعل هبل. قال عمر : الله أعلى
وأجل. فقال أبو سفيان : قد أنعمت عينها فعَادِ عنها (4) أو : فَعَالِ! فقال : أين
ابن أبي كبشة ؟ أين ابن أبي قُحَافة ؟ أين ابن الخطاب ؟ فقال عمر : هذا رسول الله
، وهذا أبو بكر ، وها أنا ذا عمر. قال : فقال أبو سفيان : يوم بيوم بدر ، الأيام
دُوَل ، وإن الحرب سِجَال. قال : فقال عمر : لا سواء ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في
النار. قال (5) إنكم تزعمون (6) ذلك ، لقد خِبْنا إذا وخَسِرْنا ثم قال أبو سفيان
: إنكم ستجدون في قتلاكم مثلة (7) ولم يكن ذلك على رأي سراتنا. قال : ثم أدركَتْه
حَمِيَّة الجاهلية فقال : أما إنه إن كان ذلك لم نَكْرهْه.
هذا حديث غريب ، وسياق عجيب ، وهو من مرسلات ابن عباس ، فإنه لم يشهد أحُدًا ولا
أبوه.
وقد أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي النَّضْر الفقيه ، عن عثمان بن سعيد ، عن
سليمان بن داود بن علي بن عبد الله بن عباس ، به. وهكذا رواه ابن أبي حاتم
والبيهقي في دلائل النبوة ، من حديث سليمان بن داود الهاشمي ، به (8) ولبعضه شواهد
في الصحاح وغيرها ، فقال (9) الإمام أحمد :
حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، حدثنا عطاء بن السائب عن الشعبي ، عن ابن مسعود قال :
إن النساء كن يوم أحد ، خلْف المسلمين ، يُجْهزْن (10) على جَرْحى المشركين ، فلو
حَلَفت يومئذ رجوت أن أبَر : أنه ليس أحد منا يريد الدنيا ، حتى أنزل الله عز وجل
: { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ
صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } فلما خالف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
وعَصَوا ما أمروا به ، أفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تسعة : سبعة من
الأنصار ، ورجلين من قريش ، وهو عاشرهم ، فلما رهقُوه [قال : "رَحِمَ اللهُ
رجلا رَدَّهُمْ عَنَّا". قال : فقام رجل من الأنصار فقاتل ساعة حتى قتل ،
فلما رَهقُوه] (11) أيضا قال : "رَحِمَ اللهُ رَجُلا رَدَّهُمْ عَنَّا".
فلم يزل يقول ذا حتى قُتِل السبعة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبه :
"مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا".
__________
(1) في أ ، و : "كانوا".
(2) في جـ : "بتكفيه" ، وفي ر : "بتلسعه" ، وفي أ ، و :
"بتكفئه".
(3) في ر : "شد".
(4) في جـ : "فعاذ عنها" ، وفي ر : "فعال عنها".
(5) في أ : "وقال".
(6) في جـ ، ر : "لتزعمون".
(7) في جـ ، ر ، أ ، و : "مثلا".
(8) المسند (1/287 ، 288) والمستدرك (2/296) ودلائل النبوة للبيهقي (3/269 ، 270).
(9) في أ : "وقال".
(10) في ر : "يجهزون".
(11) زيادة من جـ ، ر ، والمسند.
(2/134)
فجاء
أبو سفيان فقال : اعْلُ هُبَلُ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"قُولُوا : اللهُ أعْلَى وأجَلُّ". فقالوا : الله أعلى وأجل. فقال أبو
سفيان : لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
قُولُوا : "اللهُ مَوْلانَا ، وَالْكَافِرُونَ لا مَوْلَى لَهُم". ثم
قال أبو سفيان : يومٌ بيوْم بَدْر ، يومٌ علينا ويوم لنا (1) ويوم نُسَاءُ ويوم
نُسَر. حَنْظَلَةَ بِحَنْظَلَةَ ، وفلان بفلان ، وفلان بفلان ، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "لا سَوَاء. أمَّا قَتْلانَا فَأْحَيْاءٌ يُرْزَقُونَ ،
وَقْتَلاكُمْ فِي النَّارِ يُعَذَّبُونَ". قال أبو سفيان : قد كان (2) في
القوم مَثُلَةٌ ، وإنْ كانَتْ لَعَنْ (3) غير مَلأ منَّا ، ما أمرتُ ولا نَهَيْتُ
، ولا أحْبَبْتُ ولا كَرِهتُ ، ولا ساءني ولا سرَّني. قال : فنظروا فإذا حمزةُ قد
بُقِرَ بَطْنُه ، وأخذتْ هنْد كَبده فلاكَتْها فلم تستطع أن تأكلها ، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "أكَلَتْ شَيْئًا ؟" قالوا : لا. قال :
"مَا كَانَ اللهُ ليُدْخِلَ شَيْئًا مِنْ حَمْزَةَ فِي النَّارِ".
قال : فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة فَصَلَّى عليه ، وَجِيء برجل من
الأنصار فَوُضِع إلى جنبه فصلَّى عليه ، فَرُفِعَ الأنصاري وتُرِكَ حمزة ، ثم جيء
بآخر فوضعَه إلى جنب حمزة فصلى [عليه] (4) ثم رُفِعَ وتُرِكَ حمزة ، حتى صلَّى
عليه يومئذ سبعين صلاة.
تفرد به أحمد أيضًا (5).
وقال البخاري : حدثنا عُبَيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق : عن
البراء قال : لقينا المشركين يومئذ ، وأجْلَس النبي صلى الله عليه وسلم جَيْشا من
الرُّماة ، وأمَّر عليهم عبد الله - يعني ابن جُبَيْر - وقال : "لا
تَبْرَحُوا إنْ (6) رأيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَلا تَبْرَحُوا ، وإنْ
رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلا تُعِينُونَا". فلما لقيناهم هربُوا
، حتى رأينا النساء يَشْتَددْنَ (7) في الجبل ، رَفَعْنَ عن سُوقهن ، وقد بدت خَلاخلهن
، فأخذوا يقولون : الغنيمةَ الغَنيمة. فقال عبد الله : عَهدَ إليّ النبيّ صلى الله
عليه وسلم ألا تَبْرَحُوا. فأبَوْا ، فلما أبَوْا صَرَفَ وجوههم ، فأُصِيب سبعون
قتيلا فأشرف أبو سفيان فقال : أفي القوم محمد ؟ فقال : "لا تجيبوه".
فقال : أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ فقال : "لا تُجِيبُوهُ". فقال : أفي
القوم ابن الخطاب ؟ فقال : إن هؤلاء قد قُتِلوا ، فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم
يملك عُمَرُ نفسه فقال : كَذَبْتَ يَا عَدَوَّ اللهِ ، قد أبقى الله لك ما
يُحزِنكَ (8) فقال أبو سفيان : اعْل هُبَل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
"أجِيبُوهُ". قالوا : ما نقول ؟ قال : "قُولُوا : الله أعْلَى
وأجَلُّ". فقال أبو سفيان : لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم. فقال النبي صلى
الله عليه وسلم : "أجِيبُوهُ". قالوا : ما نقول ؟ قال : "قُولُوا :
اللهُ مَوْلانَا ، وَلا مَوْلَى لَكُمْ". قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر ،
والحرب سِجَال ، وتجدون مَثُلَةً لم آمر بها ولم تسؤني.
تفرد به البخاري من هذا الوجه ، ثم رواه عن عَمْرو بن خالد ، عن زُهَير بن معاوية
عن أبي إسحاق ، عن البراء ، بنحوه (9) وسيأتي بأبْسط من هذا.
وقال البخاري أيضا : حدثنا عُبَيد الله بن سعيد ، حدثنا أبو أسامة ، عن هشام بن
عُرْوة ، عن أبيه ،
__________
(1) في جـ ، ر ، أ ، و : "يوم لنا ويوم علينا".
(2) في جـ ، ر : "كانت".
(3) في جـ : "على".
(4) زيادة من جـ ، ر ، والمسند.
(5) المسند (1/462).
(6) في جـ ، ر ، أ ، و : "وإن".
(7) في ر : "يشتدن". وهو خطأ ، والصحيح ما أثبتناه من البخاري (4043).
(8) في جـ ، ر : "ما يخزيك".
(9) صحيح البخاري برقم (4043) وبرقم (3986).
(2/135)
عن
عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : لَمَّا كان يوم أُحد هُزِم المشركون ، فصَرخَ
إبليس : أيْ عباد الله ، أخْرَاكم. فَرَجعت أولادهم (1) فاجْتَلَدَتْ هي وأخراهم ،
فَبَصُرَ حُذَيفة فإذا هو بأبيه اليمان ، فقال : أيْ عباد الله ، أبي أبي. قال :
قالت : فوالله ما احْتَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوه ، فقال حذيفة : يغفر الله لكم. قال
عروة : فوالله ما زَالَتْ في حذيفة بقية خير حتى لقي الله عز وجل (2).
وقال محمد بن إسحاق : حدثني يحيى بن عَبَّاد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن
جَده أن الزبير بن العوام قال : والله لقد رأيتني أنظر إلى خَدَم [هند] (3)
وصواحباتها مُشَمِّرات هوارب ما دون أخْذهن كثير ولا قليل (4) ومالت الرُّماة إلى
العسكر حين كَشَفْنا القوم عنه ، يريدون النهب وَخَلَّوا ظهورنَا للخيل فأتتنا من
أدبارنا ، وصرخ (5) صارخ : ألا إنَّ محمدًا قد قُتل. فانكفأنا وانكفأ علينا القوم
بعد أن أصَبْنا أصحاب اللواء ، حتى ما يدنو منه أحد من القوم.
قال محمد بن إسحاق : فلم يزل لواء المشركين صريعا ، حتى أخذته عَمْرَة بنت علقمة
الحارثية ، فدفعته لقريش فلاثوا (6) به (7) (8) وقال السُّدِّي عن عبد خير قال :
قال (9) عبد الله بن مسعود (10) قال : ما كنتُ أرى أن أحدًا من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزلت (11) فينا ما نزل يوم أحد { مِنْكُمْ
مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ }.
وقد رُوي من غير وَجْه عن ابن مسعود ، وكذا رُوي عن عبد الرحمن بن عَوْف وأبي طلحة
، رواهن ابن مَرْدُويَه في تفسيره.
وقوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } قال ابن إسحاق : حدثني
القاسم بن عبد الرحمن بن رافع ، أحدُ بني عديّ بن النجار قال : انتهى أنسُ بنُ
النَّضر ، عَمّ أنس بن مالك ، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عُبَيد الله ، في رجال
من المهاجرين والأنصار ، قد ألْقَوْا بأيديهم فقال : ما يخليكم (12) ؟ فقالوا :
قُتِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. قال : فما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا
فموتوا على ما مات عليه. ثم استقبل القومَ فقاتل حتى قُتِل.
وقال البخاري : حدثنا حسان بن حسان ، حدثنا محمد بن طلحة ، حدثنا حُمَيد ، عن أنس
بن مالك : أن عمه - يعني أنس بن النضر - غاب عن بدر فقال : غِبْتُ عن أول قتال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لَئِنْ أشْهدني الله مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم لَيَرَيَنّ الله ما أُجدّ فلقي يومَ أحد ، فهُزم الناسُ ، فقال : اللهُمّ إني
أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني المسلمين - وأبرَأ إليك مما جاء به المشركون ،
فتقدم بسيفه فَلقي سعدَ بن مُعَاذ فقال : أينَ يا سعد ؟ إني أجدُ ريح الجنة دون
أحد. فمضى فَقُتِل ، فما عُرف حتى عَرَفته أخته ببنانه (13) بشامة (14) وبه بضع
وثمانون من طَعْنة وضَرْبة ورَمْية بسَهْم.
__________
(1) في و : "أولاهم".
(2) صحيح البخاري (4065).
(3) زيادة من جـ ، وسيرة ابن هشام.
(4) في جـ ، ر ، و : "قليل ولا كثير".
(5) في جـ : "فصرخ".
(6) في جـ ، ر : "فلاذوا".
(7) في و : "بها".
(8) سيرة ابن إسحاق (ظاهرية ق 170).
(9) في و : "عن".
(10) في جـ : "عن عبد خير عنه عبد الله بن مسعود" ، وفي ر : "عند
جواب عبد الله بن مسعود".
(11) في و : "نزل".
(12) في جـ ، و : "ما يجلسكم" ، وفي ر : "ما نحلتكم".
(13) في ر : "بثيابه".
(14) في جـ ، ر ، و : "أو بشامة".
(2/136)
هذا
لفظ البخاري وأخرجه مسلم من حديث ثابت عن أنس ، بنحوه (1).
وقال البخاري [أيضا] (2) حدثنا عبدان ، أخبرنا أبو حَمْزَةَ عن عثمان بن مَوْهَب
قال : جاء رجل حج البيت ، فرأى قوما جلوسا ، فقال : من هؤلاء القُعُودُ ؟ قالوا :
هؤلاء قريش. قال : من الشيخ ؟ قالوا : ابن عُمَر. فأتاه فقال : إني سائلك عن شيء
فحدثني. قال : أنْشُدُك بحرمة هذا البيت أتعلم أنَّ عثمان بن عفان فر يوم أحد ؟
قال : نعم. قال : فَتَعْلَمُه تَغَيَّب عن بدر فلم يشهدها ؟ قال : نعم. قال :
فتعْلم أنه تخلف عن بيعة الرّضْوان فلم يشهَدْها ؟ قال : نعم. قال : فكبر ، فقال
(3) ابن عمر : تَعَالَ لأخبرَك ولأبيَّن لك عما سألتني عنه. أما فراره يوم أحد
فأشهد أن الله عفا عنه ، وأما تَغَيُّبه عن بدر فإنه كان تحتَه بنتُ النبي صلى
الله عليه وسلم ، وكانت مريضة ، فقال له رسول الله (4) صلى الله عليه وسلم :
"إنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَه". وأما
تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعزّ ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه ، فبعث
عثمانَ ، فكانت (5) بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة. فقال النبي صلى الله
عليه وسلم بيده اليمنى : "هِذِهِ يَدُ عُثْمَان". فضرب بها على يده ،
فقال : "هِذِهِ يَدُ عُثْمَان اذْهَبْ بِهَا الآنَ مَعَكَ".
ثم رواه البخاري من وجه آخر عن أبي عَوانة عن عثمان بن عبد الله بن موهب (6).
وقوله : { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ } أي : صرفكم عنهم { إِذْ
تُصْعِدُونَ } أي : في الجبل هاربين من أعدائكم.
وقرأ الحسن وقتادة : { إِذْ تُصْعِدُونَ } أي : في الجبل { وَلا تَلْوُونَ عَلَى
أَحَدٍ } أي : وأنتم لا تلوون على أحد من الدَّهَش والخوف والرعب { وَالرَّسُولُ
يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ } أي : وهو قد خلفتموه وراء ظُهوركم يدعوكم إلى تَرْك
الفرار من الأعداء ، وإلى الرجعة والعودة والكرة.
قال السُّدِّي : لما شَدّ المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم ، دخل بعضهم المدينة
، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها ، وجعل الرسول صلى الله عليه
وسلم يدعو الناس : "إليَّ عِبَادَ اللهِ ، إليَّ عباد الله". فذكر (7)
الله صعودهم على (8) الجبل ، ثم ذكر دُعَاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم فقال :
{ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي
أُخْرَاكُمْ }.
وكذا قال ابنُ عباس ، وقتادة والربيع ، وابن زيد.
وقد قال عبد الله بن الزّبَعْري يذكر هزيمة المسلمين يوم أحد في قصيدته - وهو مشرك
بعد لم يسلم - التي يقول في أولها :
يا غُرابَ البَيْنِ أسْمَعْتَ فَقُل... إنما تَنْطقُ شيئًا قَدْ فُعلْ...
إنّ للخير وللشر مَدى... وكلا ذلك وجْه وقَبلْ...
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4048) وصحيح مسلم برقم (1903).
(2) زيادة من و.
(3) في جـ ، ر ، و : "قال".
(4) في جـ : "النبي".
(5) في جـ : "وكانت".
(6) صحيح البخاري برقم (4066) وبرقم (3698).
(7) في جـ : "فذكرهم".
(8) في و : "إلى".
(2/137)
إلى
أن قال :
لَيْتَ أشياخي ببدر شهدوا جَزَعَ الخزرج من وقع الأسَلْ
حين حَكَّت (1) بقُباء بَرْكها (2) واستحر القتل في عبد الأشل
ثم خَفّوا (3) عنْدَ ذَاكُم رُقَّصا رقص الحَفَّان يعلو (4) في الجَبَل
فقتلنا الضعف من أشرافهم وعَدَلنا مَيْل (5) بدر فاعتدَل (6)
الحفان : صغار النعم.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أفرد في اثنى عشر رجلا من أصحابه ، كما قال
الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا زُهَير ، حدثنا أبو إسحاق أن البراء بن
عازب قال : جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة يوم أحد - وكانوا خمسين
رجلا - عبد الله بن جُبير قال : ووضعهم موضعًا وقال : "إنْ رَأَيْتُمُونَا
تَخَطَّفَنَا الطَّيْرُ فَلا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إلَيْكُمْ وَإنْ
رَأيْتُمُونَا ظَهَرنَا عَلَى الْعَدُوّ وأوَطأناهُمْ فَلا تَبْرَحُوا حَتَّى
أُرسِلَ إلَيْكُمْ قال : فهزموهم. قال : فأنا والله رأيت النساء يَشْتددن (7) على
الجبل ، وقد بدت أسْؤُقُهنّ وخَلاخلُهُن رافعات ثيابهُن ، فقال أصحاب عبد الله :
الغَنِيمة ، أي قوم الغنيمة ، ظهر أصحابكم فما تنتظرون (8) ؟ قال عبد الله بن جبير
: أنسيتم (9) ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا : إنا والله
لَنَأتيَن الناس فَلنُصِبيَنَّ من الغنيمة. فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا
منهزمين ، فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم ، فلم يبق مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم غير اثنى عشر رجلا فأصابوا منا سبعين ، وكان رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأصحابُه أصابوا من المشركين يوم بَدْر أربعين ومائة : سبعين أسيرًا وسبعين
قتيلا. قال أبو سفيان : أفي القوم محمد ؟ أفي القوم محمد ؟ أفي القوم محمد ؟ -
ثلاثا - قال : فنهاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه ، ثم قال : أفي
القوم ابن أبي قُحَافة ؟ أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ أفي القوم ابن الخطاب ؟ أفي
القوم ابن الخطاب ؟ ثم أقبل على أصحابه فقال : أما هؤلاء فقد قتلوا ، قد
كُفيتُمُوه. فما ملك عُمَر نفسَه أن قال : كذبتَ والله يا عدو الله ، إن الذين
عَدَدْتَ لأحياء كلهم ، وقد بَقى لك ما يسوؤك. فقال (10) يوم بيوم بدر ، والحرب
سِجَال ، إنكم ستجدون في القوم مَثُلَةً لم آمر بها ولم تسؤني (11) ثم أخذ يرتجز ،
يقول : اعلُ هُبَلْ. اعل هُبَلْ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا
تُجِيبُوه (12) ؟" قالوا : يا رسول الله ، ما نقول ؟ قال : "قُولُوا :
الله أعلى وأجل". قال : لنا العُزَّى ولا عزَّى لكم. فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "ألا تُجِيبُوهُ ؟". قالوا : يا رسول الله ، وما نقول ؟ قال
: "قُولُوا : اللهُ مَوْلانَا وَلا مَوْلَى لَكُمْ" (13).
وقد رواه البخاري من حديث زُهَير بن معاوية مختصرا ، ورواه من حديث إسرائيل ، عن
أبي
__________
(1) في أ ، و : "حلت".
(2) في جـ ، أ : "تركها".
(3) في جـ ، ر : "حفوا".
(4) في أ ، و : "تعلو".
(5) في جـ : "قتل".
(6) السيرة النبوية لابن هشام (3/136).
(7) في أ : "يشتدون".
(8) في جـ ، ر : "تنظرون".
(9) في جـ ، ر ، أ ، و : "أفنسيتم".
(10) في أ ، و : "قال".
(11) في جـ : "لم يسوؤني".
(12) في جـ ، ر : "ألا تجيبونه".
(13) المسند (4/293).
(2/138)
إسحاق
بأبسط من هذا ، كما تقدم. والله أعلم.
وروى البيهقي في دلائل النبوة من حديث عمارة (1) بن غَزِيَّة ، عن أبي الزُّبَير ،
عن جابر قال : انهزم الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وبقي معه أحد
عشر رجلا من الأنصار ، وطلحة بن عبيد الله وهو يصعد (2) الجبل ، فلقيهم المشركون ،
فقال : "ألا أحَدٌ لِهَؤُلاءِ ؟" فقال طلحة : أنا يا رسول الله ، فقال :
"كمَا أنْتَ يَا طَلْحَةُ". فقال رجل من الأنصار : فأنا يا رسول الله ،
فقاتل عنه ، وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بقي معه ، ثم قُتل الأنصاري
فلحقوه فقال : "ألا رجُلٌ لِهؤُلاءِ ؟" فقال طلحة مثل قوله ، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم مثل قوله ، فقال رجل من الأنصار : فأنا يا رسول الله ،
فقاتل عنه وأصحابه يصعدن ، ثم قتل فلحقوه ، فلم يزل يقول مثل قوله الأول فيقول (3)
طلحة : فأنا (4) يا رسول الله ، فيحبسه ، فيستأذنه رجل من الأنصار للقتال فيأذَنُ
له ، فيقاتل (5) مثل من كان قبله ، حتى لم يبق معه إلا طلحة فَغشَوْهما ، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَنْ لِهَؤلاءِ ؟" فقال طلحة : أنا.
فقاتل مثْل قتال جميع من كان قبله وأصيبت أنامله ، فقال : حس ، فقال رسول الله :
"لوْ قُلْتَ : بِاسْمِ اللهِ ، وذَكرت اسْمَ الله ، لَرَفَعَتْكَ الملائِكَة
والنَّاسُ يَنْظُرونَ إلَيْكَ ، حَتَّى تلجَ بِكَ فِي جَوِّ السَّمَاءِ" ، ثم
صعد (6) رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم مجتمعون (7).
وقد روى البخاري ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن وَكِيع ، عن إسماعيل ، عن قَيْس بن
أبي حازم قال : رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم - يعني يوم
أحد (8).
وفي الصحيحين من حديث مُعْتَمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن أبي عُثمان النَّهْدِي
قال : لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام ، التي قاتل فيهن
رسول الله صلى الله عليه وسلم غَيْرُ طلحةَ بن عبيد الله وسعد ، عن حَديثهما (9)
وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد وثابت عن أنس بن مالك ؛ أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش ، فلما رَهِقُوه قال :
"مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ - أو : وهو رفيقي في الجنة
؟" فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ، ثم رهقوه أيضا ، فقال : "من
يردهم عنا وله الجنة ؟" فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. فلم يزل كذلك
حتى قتل السبعة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه : ما أنْصَفْنَا
أصْحَابنا".
رواه مسلم عن هُدبة بن خالد ، عن حماد بن مسلمة (10) به نحوه (11).
وقال الحسن بن عرفة : حدثنا ابن مروان بن معاوية ، عن هاشم بن هاشم الزهري ، قال
سمعت سعيد بن المسيَّب يقول : سمعت سعد بن أبي وقاص [رضي الله عنه] (12) يقول :
نَثُل لي
__________
(1) في جـ : "عمار".
(2) في أ ، و : "يصعد في".
(3) في جـ ، ر ، أ ، و : "ويقول".
(4) في أ ، و : "أنا".
(5) في أ ، و : "فقاتل".
(6) في ر ، و : "أصعد".
(7) دلائل النبوة (3/236).
(8) صحيح البخاري برقم (4063).
(9) صحيح البخاري برقم (4060) وصحيح مسلم برقم (2414).
(10) في جـ ، ر : "سلمة".
(11) صحيح مسلم برقم (1789).
(12) زيادة من ر ، أ ، و.
(2/139)
رسول
(1) الله صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد قال : "ارْمِ فِدَاكَ أبِي
وأُمِّي".
وأخرجه البخاري ، عن عبد الله بن محمد ، عن مروان بن معاوية (2).
وقال محمد بن إسحاق (3) حدثني صالح بن كيسان ، عن بعض آل سعد ، عن سعد بن أبي وقاص
؛ أنه رمى يوم أحد دونَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال سعد : فلقد رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يناولني النَّبْلَ ويقول : "ارْمِ فِدَاكَ أبِي
وأُمِّي" حتى إنه ليناولني السهم ليس له نصل ، فأرمي به.
وثبت في الصحيحين من حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه ، عن جده ، عن سعد بن أبي وقاص
(4) قال : رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن يساره رجلين ،
عليهما ثياب بيض ، يقاتلان عنه أشد القتال ، ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده ،
يعني : جبريل وميكائيل عليهما السلام (5).
وقال أبو الأسود ، عن عروة بن الزبير قال : كان أبَيُّ بن خَلَف ، أخو بني جُمَح ،
قد حلف وهو بمكة لَيَقْتُلَن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما بلغتْ رسولَ
الله صلى الله عليه وسلم حَلْفَتُه قال : "بَلْ أنَا أقْتُلُهُ ، إنْ شَاءَ
الله". فلما كان يوم أحد أقبل أبَي في الحديد مُقَنَّعا ، وهو يقول : لا نَجَوْتُ
إن نجا محمد. فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتْله ، فاستقبله
مُصْعَب بن عُمَير ، أخو بني عبد الدار ، يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه
، فقتل مصعب بن عمير ، وأبصر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تَرْقُوَة أبي بن خلف
من فَرْجةَ بين سابغة الدرع والبيضة ، وطعنه فيها بحربته ، فوقع إلى الأرض عن فرسه
، لم يخرج من طعنته دم ، فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خُوار الثور ، فقالوا له
: ما أجزعك إنما هو خدش ؟ فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنا
أقْتُلُ أُبيا". ثم قال : والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي
المَجَاز لماتوا أجمعون. فمات إلى النار ، فسحقا لأصحاب السعير.
وقد رواه موسى بن عُقْبة في مغازيه ، عن الزُّهْري ، عن سعيد بن المسيّب بنحوه.
وذكر محمد بن إسحاق قال : لما أسْنِدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ،
أدركه أبي بن خَلَفَ وهو يقول : لا نجوتُ إن نجوتَ فقال القوم : يا رسول الله ،
يَعْطف عليه رجل منا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "دَعُوُه"
فلما دنا تناول رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (6) الحربة من الحارث بن الصِّمَّة
، فقال بعض القوم ما ذكر (7) لي : فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه
انتفض بها انتفاضة ، تطايرنا عنه تطاير الشّعْر عن ظهر البعير إذا انتفض ، ثم
استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فطعنه في عنقه طعنة تدأدَأ منها عن فرسه
مرارًا.
وذكر الواقدي ، عن يونس بن بُكَير ، عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمرو بن قتادة
، عن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أبيه نحو ذلك (8).
قال الواقدي : كان ابن عمر يقول : مات أبَيّ بن خلف ببطن رَابِغٍ ، فإني لأسير
ببطن رابغ بعد
__________
(1) في ر : "نثل - قال الحسن بن عرفة : نثل : أي نفض لي رسول الله".
(2) صحيح البخاري برقم (4055).
(3) في : "سعيد".
(4) في جـ ، ر ، أ ، و : "إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه".
(5) صحيح البخاري برقم (4054) وصحيح مسلم برقم (2306).
(6) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(7) في أ ، و : "كما ذكر".
(8) سيرة ابن إسحاق (ظاهرية ق 171) برواية محمد بن سلمة.
(2/140)
هوى
من الليل إذا أنا بنار تتأجّح (1) فهبتها ، فإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها
يهيج به العطش ، وإذا رجل يقول : لا تسقه ، فإن هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، هذا أبيّ بن خلف.
وثبت في الصحيحين ، من رواية عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن هَمَّام بن مُنَبِّه ،
عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ فَعَلُوا بِرَسُولِ اللهِ - وهو حينئذ
يشير إلى رباعيته - اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللهِ
صلى الله عليه وسلم فِي سَبِيلِ اللهِ" (2).
ورواه البخاري أيضًا (3) من حديث ابن جُرَيج ، عن عَمْرو بن دينار ، عن عِكْرِمة ،
عن ابن عباس قال : اشتد غضب الله على من قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بيده
في سبيل الله ، اشتد غضب الله على قوم دَمَّوا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار ، رحمه الله : أصيبت رَبَاعِية رسول الله صلى الله
عليه وسلم وشج في وَجْنَته ، وكُلِمَت شَفَتُه (4) وكان الذي أصابه عتبة بن أبي
وقاص.
فحدثني صالح بن كَيْسان ، عمن حدثه ، عن سعد بن أبي وقاص قال : ما حَرَصْتُ على
قتل أحد قَط ما حرصت على قتل عُتْبة بن أبي وقاص وإن كان ما علمته لسيئ الخلُق ،
مُبْغَضًا في قومه ، ولقد كفاني فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى مَنْ دَمَّى وَجْهَ رَسُولِ الله صلى الله عليه
وسلم" (5).
وقال عبد الرزاق : أنبأنا معْمَر ، عن الزهري ، عن عثمان الجزَري ، عن مقْسَم ؛ أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على عُتْبةَ بن أبي وقاص يوم أحُد حين كَسر
رَبَاعيتَه ودَمى وجهه فقال : "اللَّهُمَّ لا تحل (6) عَلَيْهِ الْحَوْل
حَتَّى يموتَ كَافِرًا". فما حال عليه الحولُ حتى مات كافرًا إلى النار (7).
ذكر الواقدي عن ابن أبي سبرة ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فَرْوة ، عن أبي
الحُويرث ، عن نافع بن جبير قال : سمعتُ رجُلا من المهاجرين يقول : شهدت أحُدًا
فنظرت إلى النَّبْل يأتي من كل ناحية ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم (8) وسطها ،
كُلُّ ذلك يُصْرَف عنه ، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ : دُلّوني
على محمد ، لا نَجَوتُ إن نجا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ليس معه
(9) أحد ، ثم جاوره (10) فعاتبه في ذلك صَفْوان ، فقال : والله ما رأيته ، أحلف
بالله إنه منا ممنوع. خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله ، فلم نخلص إلى ذلك.
قال الواقدي : الثَّبْتُ عندنا أن الذي رمى في وَجْنَتي رسول الله صلى الله عليه
وسلم ابن قَميئة (11) والذي دَمى شفته (12) وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص (13).
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا ابن المبارك ، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيد
الله ،
__________
(1) في أ ، و : "تأجج لي".
(2) صحيح البخاري برقم (4073) وصحيح مسلم برقم (1793).
(3) صحيح البخاري برقم (4074 ، 4076).
(4) في و : "شفتاه".
(5) سيرة ابن إسحاق (ظاهرية ق 172).
(6) في جـ ، ر : "لا يحل".
(7) تفسير عبد الرزاق (1/136).
(8) في و : "ورسول الله صلى الله عليه وسلم في وسطها".
(9) في و : "ما معه".
(10) في جـ ، ر ، أ ، و : "جاوزه".
(11) في جـ ، ر : "قمأة".
(12) في و : "شفتيه".
(13) المغازي للواقدي (1/244).
(2/141)
أخبرني
عيسى بن طلحة ، عن أم المؤمنين عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كان أبو بكر ، رضي
الله عنه ، إذا ذكر يوم أحد قال (1) ذاك (2) يوم كُله لطلحة ، ثم أنشأ يحدث قال :
كنت أول من فَاء يوم أحد ، فرأيت رجلا يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دونه
- وأراه قال : حَميَّة فقال (3) فقلت : كن طَلْحَةَ ، حيث فاتني ما فاتني ، فقلت :
يكون رجلا من قومي أحب إلي ، وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه ، وأنا أقرب إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ، وهو يخطف المشي خطفا لا أحفظه (4) فإذا هو أبو
عبيدة بن الجراح ، فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : وقد كسرت
رَبَاعِيتُه وشُجّ في وجهه ، وقد دخل في وَجْنَته حلقتان من حِلَق المِغْفَر ، قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "عَليكُما صَاحِبَكُما". يريد طلحة ،
وقد نزف ، فلم نلتفت إلى قوله ، قال : وذهبت لأن أنزع (5) ذلك (6) من وجهه ، فقال
أبو عبيدة : أقسمت عليك بحقي لما تركتني. فتركته ، فكره أن يتناولها بيده فيؤذي
النبي (7) صلى الله عليه وسلم ، فَأزَمَّ عليها (8) بِفِيهِ فاستخرج إحدى الحلقتين
، ووقعت ثَنيَّته مع الحلقة ، ذهبت لأصنع ما صنع ، فقال : أقسمت عليك بحقي لما
تركتني ، قال : ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى ، فوقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة ،
فكان أبو عبيدة ، رضي الله عنه ، أحسن (9) الناس هَتْما ، فأصلحنا من شأن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار ، فإذا به بضع وسبعون
أو أقل أو أكثر من طعنة ورَمْيَة وضربة ، وإذا قد قُطعَتْ إصبعه ، فأصلحنا من
شأنه.
ورواه الهيثم بن كُلَيب ، والطبراني ، من حديث إسحاق بن يحيى به. وعند الهيثم :
فقال أبو عبيدة : أنشدك (10) يا أبا بكر إلا تركتني ؟ فأخذ أبو عبيدة السّهم بفيه
، فجعل يُنَضْنِضَه كراهيةَ (11) أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم اسْتل
السهم بفيه فبدرت (12) ثنية أبي عبيدة.
وذكر تمامه ، واختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه (13) وقد ضَعّف علي بن
المديني هذا الحديث من جهة إسحاق بن يحيى هذا ، فإنه تكلم فيه يحيى بن سعيد القطان
، وأحمد ، ويحيى بن معين ، والبخاري ، وأبو زُرعة ، وأبو حاتم ، ومحمد بن سعد ،
والنسائي وغيرهم.
وقال ابن وَهْب : أخبرني عَمْرو بن الحارث : أن عُمَر بن السائب حدثه : أنه بلغه
أن مالكا أبا [أبي] (14) سعيد الخُدْري لمَّا جرح النبي صلى الله عليه وسلم يوم
أحد مَصّ الجرح حتى أنقاه ولاح أبيض ، فقيل له : مُجَّه. فقال : لا والله لا أمجه
أبدا. ثم أدبر يقاتل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "من أراد أن ينظر إلى
رجل من أهل الجنة ، فلينظُرْ إلى هذا " فاستشهد (15).
وقد ثبت في الصحيحين من طريق عبد العزيز بن أبي حازم (16) عن أبيه ، عن سَهْل بن
سَعْد أنه
__________
(1) في جـ ، ر ، أ ، و : "قال : كان".
(2) في أ : "ذلك".
(3) في جـ ، ر : "قال".
(4) في جـ ، ر : "لا أخطفه".
(5) في جـ ، ر : "لأنزع".
(6) في جـ ، ر ، أ ، و : "ذاك".
(7) في و : "رسول الله".
(8) في و : "عليه".
(9) في أ ، و : "من أحسن".
(10) في جـ ، أ ، و : "أنشدك بالله".
(11) في ر : "كراهة".
(12) في جـ : "فبذرت" وفي ر ، أ ، و : "فنذرت".
(13) مسند الطيالسي (ص3) والمختارة للضياء المقدسي برقم (49) من طريق الهيثم بن
كليب ، ورواه البزار في مسنده برقم (63) وابن حبان في صحيحه برقم (4941)
"الإحسان" من طريق إسحاق بن يحيى به. قال الهيثمي في المجمع (6/112) :
"فيه إسحاق بن يحيى وهو متروك".
(14) زيادة من جـ.
(15) ورواه البيهقي في دلائل النبوة (3/266) من طريق ابن وهب به.
(16) في ر : "حاتم".
(2/142)
سئل
عن جُرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : جُرح وجه رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، وكسِرت رَبَاعِيتُه ، وهُشِمَت البَيْضة على رأسه ، فكانت (1) فاطمة بنت
رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدم ، وكان عَلِي يسكب عليها (2) بالمِجَنّ
(3) فلما رأت فاطمة [رضي الله عنها] (4) أن الماء لا يزيدُ الدم إلا كثرة ، أخذت
قطعةَ حَصِير فأحرقته ، حتى إذا صار (5) رمادا ألصقته بالجُرْح ، فاستمسك الدم
(6).
وقوله : { فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ } أي : فجازاكم غَما على غَم كما تقول
العرب : نزلت ببني فلان ، ونزلت على بني فلان.
قال ابن جرير : وكذا قوله : { وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } [طه :
71] [أي : على جذوع النخل] (7).
قال ابن عباس : الغم الأول : بسبب الهزيمة ، وحين قيل : قتل محمد صلى الله عليه
وسلم ، والثاني : حين علاهم المشركون فوق الجبل ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
"اللَّهُمَّ لَيْسَ لَهُمْ أنْ يَعْلُونا".
وعن عبد الرحمن بن عوف : الغم الأول : بسبب الهزيمة ، والثاني : حين قيل : قُتِلَ
محمد صلى الله عليه وسلم ، كان ذلك عندهم أعظم من الهزيمة.
رواهما ابن مَرْدُويَه ، وروي عن عمر بن الخطاب نحو ذلك. وذكر ابن أبي حاتم عن
قتادة نَحْوَ ذلك أيضا.
وقال السُّدِّي : الغم الأول : بسبب ما فاتهم من الغنيمة والفتح ، والثاني :
بإشراف العدو عليهم.
وقال محمد بن إسحاق { فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ } أي : كَرْبا بعد كرب ، قَتْل
مَنْ قُتل من إخوانكم ، وعُلُو عدوكم عليكم ، وما وقع في أنفسكم من قول من قال :
"قُتل نبيكم" (8) فكان (9) ذلك متتابعا (10) عليكم غما بغم.
وقال مجاهد وقتادة : الغم الأول : سماعهم قتل محمد ، والثاني : ما أصابهم من القتل
والجراح. وعن قتادة والربيع بن أنس عكسُه.
وعن السُّدِّي : الأول : ما فاتهم من الظَّفَر والغنيمة ، والثاني : إشراف العدو
عليهم ، وقد تقدم هذا عن السدي.
قال ابن جرير : وأولى هذه الأقوال بالصواب قولُ من قال : { فَأَثَابَكُمْ غَمًّا
بِغَمٍّ } فأثابكم بغَمكُم أيها المؤمنون بحرمان الله إياكم غنيمةَ المشركين
والظَّفر بهم والنصرَ عليهم ، وما أصابكم من القتل والجراح يومئذ - بعد الذي أراكم
(11) في كل ذلك ما تحبون - بمعصيتكم ربكم ، وخلافكم أمر النبي (12) صلى الله عليه
وسلم ، غَم ظنكم أن نبيكم قد قتل ، وميل العدو عليكم بعد فُلولكم منهم.
__________
(1) في جـ ، ر : "وكانت".
(2) في جـ ، ر ، أ ، و : "عليه".
(3) في جـ ، ر ، أ ، و : "عليه الماء بالمجن".
(4) زيادة من جـ ، أ ، و.
(5) في أ : "صارت".
(6) صحيح البخاري برقم (2911) وصحيح مسلم برقم (1790).
(7) زيادة من جـ.
(8) في أ ، و : "من قبل قتل نبيكم".
(9) في جـ : "وكان".
(10) في أ ، و : "مما تتابع".
(11) في جـ ، ر ، أ ، و : "الذي كان قد أراكم".
(12) في أ ، و : "نبيكم".
(2/143)
وقوله : { لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ } أي : على ما فاتكم من الغنيمة بعدوكم { وَلا مَا أَصَابَكُمْ } من القتل والجراح ، قاله ابن عباس ، وعبد الرحمن بن عوف ، والحسن ، وقتادة ، والسدي { وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }.
(2/144)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
{
ثُمَّ أَنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى
طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ
بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ
الأمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي
أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ
شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ
الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ
اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى
الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا
وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) }
يقول تعالى مُمْتَنا على عباده فيما أنزل عليهم من السكينة والأمَنَة ، وهو النعاس
الذي غشيهم وهم مسْتَلْئمو السلاح في حال هَمِّهم وغَمِّهم ، والنعاس في مثل تلك
الحال دليل على الأمان (1) كما قال تعالى في سورة الأنفال ، في قصة بدر : { إِذْ
يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ[ وَيُنزلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ
عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ ] (2) } [الأنفال : 11].
وقال [الإمام] (3) أبو محمد عبد الرحمن ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ،
حدثنا أبو نعيم وكيع (4) عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن عبد الله بن مسعود
قال : النعاس في القتال من الله ، وفي الصلاة من الشيطان.
قال البخاري : قال (5) لي خليفة : حدثنا يزيد بن زُرَيْع ، حدثنا سعيد ، عن قتادة
، عن أنس ، عن أبي طلحة ، رضي الله عنه ، قال : كنت فيمن تَغَشاه (6) النعاس يوم
أحُد ، حتى سقط سيفي من يدي مرارا ، يسقط وآخذه ، ويسقط وآخذه.
هكذا رواه في المغازي معلقا. ورواه في كتاب التفسير مُسْنَدًا عن شيبان ، عن قتادة
، عن أنس ، عن أبي طلحة قال : غَشينا النعاس ونحن في مَصَافنا يوم أحد. قال : فجعل
سيفي يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه.
وقد رواه الترمذي والنسائي والحاكم ، من حديث حَمَّاد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس
، عن
__________
(1) في جـ ، ر ، أ ، و : "الإيمان".
(2) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(3) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(4) في جـ ، ر ، أ ، و : "ووكيع".
(5) في أ ، و : "وقال".
(6) في جـ ، ر : "يغشاه".
(2/144)
أبي
طلحة قال : رفعت رأسي يوم أحُد ، وجعلت أنظر وما منهم يومئذ أحد إلا يميد (1) تحت
جَحَفَتِه من النعاس. لفظ الترمذي ، وقال : حسن صحيح.
ورواه النسائي أيضا ، عن محمد بن المثنى ، عن خالد بن الحارث ، عن أبي قتيبة ، عن
ابن أبي عدي ، كلاهما عن حميد ، عن أنس قال : قال أبو طلحة : كنت فيمن ألقي عليه
النعاس - الحديث (2).
وهكذا رُوي عن الزبير وعبد الرحمن بن عوف ، رضي الله عنه (3).
وقال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني أبو الحسين محمد بن يعقوب ،
أخبرنا محمد بن إسحاق الثقفي ، حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخزومي ،
حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا شيبان ، عن قتادة ، حدثنا أنس بن مالك ؛ أن أبا طلحة
قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحُد ، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ،
ويسقط وآخذه ، قال : والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هَمٌّ إلا أنفسهُم ، أجبن
قوم وأرعنه ، وأخْذَله للحق { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ
الْجَاهِلِيَّةِ } كَذَبَةَ ، أهل (4) شك وريب في الله ، عز وجل (5).
هكذا رواه بهذه الزيادة ، وكأنها من كلام قتادة ، رحمه الله ، وهو كما قال ؛ فإن
الله عز وجل يقول : { ثُمَّ أَنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً
نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ } يعني : أهل الإيمان واليقين والثبات (6)
والتوكل الصادق ، وهم الجازمون بأن الله سينصر رسوله ويُنْجِز له مأموله ، ولهذا
قال : { وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } يعني : لا يغشاهم النعاس
من القلق والجزع والخوف { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ
الْجَاهِلِيَّةِ } كما قال في الآية الأخرى : { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ
يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا [وَزُيِّنَ
ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا]
(7) } [الفتح : 12] وهكذا هؤلاء ، اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنَّها
الفيصلة (8) وأن الإسلام قد باد وأهلُه ، هذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من
الأمور الفظيعة ، تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة.
ثم أخبر تعالى عنهم أنهم { يَقُولُونَ } في تلك الحال : { هَلْ لَنَا مِنَ الأمْرِ
مِنْ شَيْءٍ } قال الله تعالى : { قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ
فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ } ثم فَسر ما أخفوه في أنفسهم بقوله : {
يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } أي :
يسرون (9) هذه المقالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال [محمد] (10) بن إسحاق بن يسار : فحدثني يحيى بن عباد (11) بن عبد الله بن
الزبير ، عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير قال : قال الزبير : لقد رأيتني مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا ، أرسل الله علينا النوم ، فما منا
من رجل إلا ذقنه في صدره ، قال : فوالله إني لأسمع قول مُعْتَب بن
__________
(1) في جـ ، ر : "يمتد".
(2) صحيح البخاري (4562 ، 4068) وسنن الترمذي برقم (3007 ، 3008) والنسائي في
السنن الكبرى برقم (11080).
(3) في ر : "عنهما".
(4) في جـ ، ر ، أ ، و : "كذبة ، إنما هم أهل".
(5) دلائل النبوة للبيهقي (3/273).
(6) في ر : "والبيان".
(7) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "إلى آخر الآية.
(8) في ر : "الفضيلة".
(9) في أ : "أي لا يسرون".
(10) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(11) في أ : "عباد الله".
(2/145)
قُشَير
، ما أسمعه إلا كالحلم ، [يقول] (1) { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا
قُتِلْنَا هَاهُنَا } فحفظتها منه ، وفي ذلك أنزل الله [تعالى] (2) { لَوْ كَانَ
لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } لقول مُعتَب. رواه ابن أبي
حاتم.
قال الله تعالى : { قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ } أي : هذا قدر مقدر من الله عز وجل ،
وحكم حَتْم لا يحاد (3) عنه ، ولا مناص منه.
وقوله : { وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي
قُلُوبِكُمْ } أي : يختبركم بما جرى عليكم ، وليميز الخبيثَ من الطيب ، ويظهر
أمْرَ المؤمن والمنافق للناس في الأقوال والأفعال ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ
الصُّدُورِ } أي : بما يختلج (4) في الصدور من السرائر والضمائر.
ثم قال (5) { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ
إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا } أي : ببعض ذنوبهم
السالفة ، كما قال بعض السلف : إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ، وإن من جَزَاء
السيئةَ السيئة بعدها (6).
ثم قال تعالى : { وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ } أي : عَمّا كان منهم من
الفرار { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } أي : يغفر الذنب ويحلُم عن خلقه ،
ويتجاوز عنهم ، وقد تقدم حديث ابن عمر في شأن عثمان ، رضي الله عنه ، وتوليه يوم
أحد ، وأن الله [قد] (7) عفا عنهم ، عند قوله : { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ }
ومناسب ذكره هاهنا.
قال (8) الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عَمْرو ، حدثنا زائدة ، عن عاصم ، عن شقيق
، قال : لقي عبدُ الرحمن بن عوف الوليد بن عقبة (9) فقال له الوليد : ما لي أراك
جفوتَ أمير المؤمنين عثمانَ ؟ فقال له عبد الرحمن : أبلغه أني لم أفر يوم
عَيْنَيْن (10) - قال عاصم : يقول يوم أحد - ولم أتخلف عن بدر ، ولم أترك سُنة
عمر. قال : فانطلق فَخَبر ذلك عثمان ، قال : فقال : أما قوله : إني لم أفر يوم
عَيْنَيْن (11) فكيف يعَيرني بذَنْب قد (12) عفا الله عنه ، فقال : { إِنَّ
الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا
اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ
عَنْهُمْ } وأما قولُهُ : إني تخلفت يوم بدر فإني كنت أمرض رقَيَّة بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم حتى ماتت ، وقد ضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم ،
ومن ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم فقد شهِد. وأما قوله : "إني لم
أترك سنَّة عمر" فإني لا أطيقها ولا هو ، فأته فحدثه بذلك (13).
__________
(1) زيادة من ر.
(2) زيادة من ر ، وفي جـ ، أ : "عز وجل".
(3) في ر ، أ ، و : "مجيد".
(4) في جـ ، ر ، أ : "يتخالج".
(5) في أ : "وقال".
(6) في جـ ، ر ، أ ، و : "إن من جزاء السيئة السيئة بعدها وإن من جزاء الحسنة
الحسنة بعدها".
(7) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(8) في ر ، أ ، و : "وقال".
(9) في و : "عتبة".
(10) في جـ ، ر ، أ : "حنين".
(11) في ر ، أ : "حنين".
(12) في جـ ، ر ، أ ، و : "بذلك وقد".
(13) المسند (1/68).
(2/146)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) }
(2/147)
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
{
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) }
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد ، الدال عليه
قولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار وفي (1) الحروب : لو كانوا تركوا ذلك لما
أصابهم ما أصابهم. فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإخْوَانِهِمْ } أي : عن إخوانهم { إِذَا ضَرَبُوا
فِي الأرْضِ } أي : سافروا للتجارة ونحوها (2) { أَوْ كَانُوا غُزًّى } أي : في
الغزو { لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا } أي : في البلد { مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا }
(3) أي : ما ماتوا في السفر ولا قتلوا في الغزو.
وقوله : { لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ } أي : خلق هذا
الاعتقاد في نفوسهم ليزدادوا حسرة على موتهم وقتْلهم (4) ثم قال تعالى ردا عليهم :
{ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي : بيده الخلق وإليه يرجع الأمر ، ولا يحيا أحد
ولا يموت إلا بمشيئته وقدره ، ولا يُزَاد في عُمُر أحد ولا يُنْقَص منه إلا بقضائه
وقدره { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : وعلمه وبصره نافذ في جميع
خلقه ، لا يخفى عليه من أمورهم شيء.
وقوله : { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ
مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } تضمن هذا أن القتل في سبيل
الله ، والموت أيضا ، وسيلة إلى نيل رحمة الله وعَفوه ورضوانه ، وذلك خير من
البقاء في الدنيا وجمع حطامها الفاني.
ثم أخبر بأن كل من مات أو قتل فمصيره ومرجعه إلى الله ، عز وجل ، فيجزيه بعمله ،
إن خيرًا فخير ، وإن شرا فشر فقال : { وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإلَى
اللَّهِ تُحْشَرُونَ }
__________
(1) في جـ ، ر ، و : "أو في".
(2) في جـ : "وغيرها".
(3) في ر : "ولا".
(4) في جـ ، ر ، أ ، و : "موتاهم وقتلاهم".
(2/147)
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
{
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ
الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ
وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ
لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ
يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى
كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ
رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا
يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ
رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي
ضَلالٍ مُبِينٍ (164) }
يقول تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم ، ممتنا عليه وعلى المؤمنين فيما ألان
به قلبه على أمته ، المتبعين لأمره ، التاركين لزجره ، وأطاب لهم لفظه : { فَبِمَا
رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } أي : أي شيء جعلك لهم لينا لولا رحمة الله
بك وبهم.
قال قتادة : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } يقول : فبرحمة من
الله لنت لهم. و"ما" صلة ، والعربُ تصلها بالمعرفة كقوله : { فَبِمَا
نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ } [النساء : 155 ، المائدة : 13] وبالنكرة كقوله : {
عَمَّا قَلِيلٍ } [المؤمنون : 40] وهكذا (1) هاهنا قال : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ
اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } أي : برحمة من الله (2).
وقال الحسن البصري : هذا خُلُقُ محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله به.
وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ
رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [التوبة : 128].
وقال الإمام أحمد : حدثنا حَيْوة ، حدثنا بَقِيَّة ، حدثنا محمد بن زياد ، حدثني
أبو راشد الحُبْراني قال : أخد بيدي أبو أمَامة الباهلي وقال : أخذ بيدي رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال : "يَا أبَا أُمامَةَ ، إنَّ مِنَ الْمُؤْمِنينَ
مَنْ يَلِينُ لِي قَلْبُه". (3) انفرد (4) به أحمد (5).
ثم قال تعالى : { وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ
حَوْلِكَ } الفظ : الغليظ ، [و] (6) المراد به هاهنا غليظ الكلام ؛ لقوله بعد ذلك
: { غَلِيظَ الْقَلْبِ } أي : لو كنت سيِّئَ الكلام قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك
وتركوك ، ولكن الله جمعهم عليك ، وألان جانبك لهم تأليفا لقلوبهم ، كما قال عبد
الله بن عمرو : إنه رأى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة : أنه
ليس بفَظٍّ ، ولا غليظ ، ولا سَخّاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن
يعفو ويصفح (7).
وروى أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي ، أنبأنا بشْر بن عُبَيد الدارمي ،
حدثنا عَمّار بن عبد الرحمن ، عن المسعودي ، عن ابن أبي مُلَيْكَة ، عن عائشة ،
قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنَّ الله أمَرَنِي بِمُدَارَاةِ
النَّاس كَمَا أمَرني بِإقَامَة الْفَرَائِضِ" (8) حديث غريب (9).
__________
(1) في جـ ، أ ، و : "كذا".
(2) في أ : "فبما رحمة من الله - أي برحمة من الله - لنت لهم".
(3) في جـ ، ر ، أ ، و"له قلبي".
(4) في جـ ، ر ، أ ، و : "تفرد".
(5) المسند (5/267).
(6) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(7) رواه البخاري في صحيحه برقم (4838).
(8) في أ : "الصلاة".
(9) ورواه ابن مرديه في ثلاثة مجالس من الأمالى برقم (42) وابن عدي في الكامل
(2/15) والديلمي في مسند الفردوس برقم (659) من طريق بشر بن عبيد به. وبشر بن عبيد
قال ابن عدي : منكر الحديث عن الأئمة. وساق له الذهبي أحاديث ، منها هذا الحديث ،
ثم قال : "وهذه الأحاديث غير صحيحة فالله المستعان".
(2/148)
ولهذا
قال تعالى : { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ }
ولذلك (1) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمر إذا حَدَث ،
تطييبًا لقلوبهم ؛ ليكونوا فيما يفعلونه (2) أنشط (3) لهم [كما] (4) شاورهم يوم
بدر في الذهاب إلى العير (5) فقالوا : يا رسول الله ، لو استعرضت بنا عُرْض البحر
لقطعناه معك ، ولو سرت بنا إلى بَرْك الغَمَاد لسرنا معك ، ولا نقول لك كما قال
قوم موسى لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكن نقول : اذهب ،
فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن [شمالك] (6) مقاتلون.
وشاورهم - أيضا - أين يكون المنزل ؟ حتى أشار المنذر بن عمرو المعتق ليموتَ ،
بالتقدم إلى أمام القوم ، وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو
، فأشار جمهُورُهم بالخروج إليهم ، فخرج إليهم.
وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ ، فأبى عليه ذلك
السَعْدَان : سعدُ بن معاذ وسعدُ بن عُبَادة ، فترك ذلك.
وشاورهم يومَ الحُدَيبية في أن يميل على ذَرَاري المشركين ، فقال له الصديق : إنا
لم نجيء (7) لقتال أحد ، وإنما جئنا معتمرين ، فأجابه إلى ما قال.
وقال عليه السلام (8) في قصة (9) الإفك : "أشِيروا عَلَيَّ مَعْشَرَ
الْمُسْلِمينَ فِي قَوْمٍ أبَنُوا (10) أهلِي ورَمَوهُم ، وايْمُ اللهِ مَا
عَلِمْتُ عَلَى أهْلِي مِنْ سُوءٍ ، وأبَنُوهم بمَنْ - واللهِ - مَا عَلِمْتُ
عَلَيْهِ إلا خَيْرًا". واستشار عليا وأسامة في فراق عائشة ، رضي الله عنها.
فكان (11) [صلى الله عليه وسلم] (12) يشاورهم في الحروب ونحوها. وقد اختلف الفقهاء
: هل كان ذلك واجبا عليه أو من باب الندب تطييبا لقلوبهم ؟ على قولين.
وقد قال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو جعفر محمد بن محمد البغدادي ، حدثنا يحيى
بن أيوب العلاف (13) بمصر ، حدثنا سعيد بن [أبي] (14) مريم ، أنبأنا سفيان بن
عيينة ، عن عَمْرو بن دينار ، عن ابن عباس في قوله : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ
} قال : أبو بكر وعمر ، رضي الله عنهما. ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه
(15).
وهكذا رواه الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : نزلت في أبي بكر وعمر ،
وكانا حَوَاري رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه وأبَوَي المسلمين.
وقد روى الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا عبد الحميد ، عن شَهْرَ بن حَوْشَب ،
عن عبد الرحمن
__________
(1) في جـ ، ر ، أ ، و : "وكذلك".
(2) في و : "ليكون ما يفعلونه".
(3) في ر : "أبسط".
(4) زيادة من جـ.
(5) في أ ، و : "النفير".
(6) زيادة من جـ ، أ ، و.
(7) في أ : "لم نأت".
(8) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(9) في جـ ، أ : "قضية".
(10) في جـ ، ر : "آنبوا".
(11) في أ : "وكان".
(12) زيادة من و.
(13) في أ : "العلائي".
(14) زيادة من جـ ، ر.
(15) المستدرك (3/70).
(2/149)
بن
غَنْم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر : "لوِ اجْتَمَعْنا
(1) فِي مَشُورَةٍ مَا خَالَفْتُكُمَا" (2).
وروى ابن مَرْدُويه ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : سُئل رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن العَزْم ؟ قال (3) "مُشَاوَرَةُ أهْلِ الرَّأْي ثُمَّ
اتِّبَاعُهُمْ" (4).
وقد قال ابن ماجة : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يحيى بن أبي بكير (5) عن
شيبان (6) عن عبد الملك بن عُمير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ،
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "المُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ".
ورواه أبو داود والترمذي ، وحسّنه [و] (7) النسائي ، من حديث عبد الملك بن عُمير
بأبسط منه (8).
ثم قال ابن ماجة : حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ، حدثنا أسود بن عامر ، عن شريك ،
عن الأعمش ، عن أبي عَمْرو الشيباني ، عن أبي (9) مسعود قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "المُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ". تفرد به (10).
[وقال أيضا] (11) وحدثنا أبو بكر ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وعلي بن هاشم
، عن ابن أبي ليلى ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم "إذَا اسْتَشَارَ أحَدُكُمْ أخَاهُ فَليشِر (12) عليْهِ. تفرد به أيضا
(13).
وقوله : { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } أي : إذا شاورتهم في
الأمر وعزَمْت عليه فتوكل على الله فيه { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ
}
وقوله : { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ
فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ } وهذا كما تقدم من قوله : { وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [آل عمران : 126] ثم أمرهم بالتوكل عليه فقال : {
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }
وقوله : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ،
وغير واحد : ما ينبغي لنبي أن يخون.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا المسيَّب بن واضح ، حدثنا أبو إسحاق
الفزاري ، عن
__________
(1) في جـ ، ر ، أ ، و : "اجتمعتما".
(2) المسند (4/227).
(3) في أ ، و : "فقال".
(4) ذكره السيوطي في الدر (2/360) وعزاه إلى ابن مردويه.
(5) في جـ ، أ : "بكر".
(6) في جـ ، ر ، أ : "سفيان".
(7) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(8) سنن ابن ماجة برقم (3745) وسنن أبي داود برقم (5128) وسنن الترمذي برقم (2822
، 2369 ، 2370).
(9) في جـ ، ر : "ابن".
(10) سنن ابن ماجة برقم (3746) وقال البوصيري في الزوائد (3/181) : "هذا
إسناد صحيح رجاله ثقات".
(11) زيادة من و.
(12) في أ : "فليشير".
(13) سنن ابن ماجة برقم (3747).
(2/150)
سفيان
(1) [عن] (2) خصيف ، عن عكرمة عن ابن عباس قال : فقدوا قطيفة يوم بدر فقالوا : لعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها. فأنزل الله : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ
يَغُلَّ } أي : يخون.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، حدثنا عبد الواحد بن
زياد ، حدثنا خصِيف ، حدثنا مِقْسَم حدثني ابن عباس أن هذه الآية : { وَمَا كَانَ
لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } نزلت في قطيفة (3) حمراء فُقدت يوم بدر ، فقال بعض الناس
: أخذها (4) قال فأكثروا في ذلك ، فأنزل الله : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ
يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }
وكذا رواه أبو داود ، رحمه الله ، والترمذي جميعا ، عن قتيبة ، عن عبد الواحد بن
زياد ، به. وقال الترمذي : حسن غريب. ورواه بعضهم عن خَصِيف ، عن مِقْسَم - يعني
مرسلا (5).
وروى ابن مَرْدُويه من طريق أبي عمرو بن العلاء ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال :
اتهم المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء فُقِد ، فأنزل الله ، عز وجل :
{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ }
وقد وروي من غير وجه عن ابن عباس نحو ما تقدم. وهذا تبرئة له ، صلوات الله وسلامه
عليه ، عن جميع وجوه الخيانة في أداء الأمانة وقسم الغنيمة وغير ذلك.
وقال العوفي عن ابن عباس : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } أي : بأن
يَقْسم لبعض السرايا ويترك بعضا (6) وكذا قال الضحاك.
وقال محمد بن إسحاق : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } بأن يترك بعض ما
أنزل إليه فلا يبلغه أمته.
وقرأ الحسن البصري وطاوس ، ومجاهد ، والضحاك : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ
يَغُلَّ } بضم الياء أي : يخان.
وقال قتادة والربيع بن أنس : نزلت هذه الآية يوم بدر ، وقد غَلّ بعض أصحابه. رواه
ابن جرير عنهما ، ثم حكى عن بعضهم أنه قرأ (7) هذه القراءة بمعنى يُتَّهم
بالخيانة.
ثم قال تعالى : { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ
تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } وهذا تهديد شديد
ووعيد أكيد. وقد وردت السنة بالنهي عن ذلك أيضا في أحاديث متعددة.
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الملك ، حدثنا زهير - يعني ابن محمد - عن عبد الله بن
محمد بن عقيل ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي مالك الأشجعي [رضي الله عنه] (8) عن
النبي صلى الله عليه وسلم (9) أعْظَمُ الْغُلُولِ عِنْدَ اللهِ ذِراعٌ مِنَ
الأرْضِ : تَجِدُونَ الرَّجُلَيْن جَارَيْن في الأرْضِ - أو فِي الدَّار -
فَيَقْطَعُ أحَدُهُمَا
__________
(1) في ر : "شقيق".
(2) زيادة من جـ ، ر.
(3) في جـ ، ر ، أ ، و : "أن هذه الآية نزلت : "وما كان لنبي أن
يغل" في قطيفة".
(4) في جـ : "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها" ، وفي أ :
"لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها".
(5) تفسير الطبري (7/348) وسنن أبي داود برقم (3977) وسنن الترمذي برقم (3009).
(6) في أ : "بعضها".
(7) في جـ ، ر ، أ ، و : "فسر".
(8) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(9) في جـ ، ر : "النبي صلى الله عليه وسلم قال"
(2/151)
مِنْ
حَظِ صِاحِبِه ذِراعًا ، فَإذَا اقْتَطَعَهُ طُوِّقَهُ مِنْ سَبعِ (1) أرضِينَ إلى
يَوْمِ الْقِيَامة" (2).
["وفي الصحيحين عن سعيد بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"من ظلم قَيْد شبر من الأرض طُوِّقَه يوم القيامة من سبع أرضين"] (3)
(4).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن ابن
(5) هُبَيْرة والحارث بن يزيد (6) عن عبد الرحمن بن جبير. قال : سمعت المُسْتَوْرد
بن شدّاد يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "مَنْ وَلِيَ
لَنَا عَمَلا وَلَيْسَ لَهُ مَنزلٌ فَلْيَتَّخِذْ مَنزلا أَوْ لَيْسَتْ لَهُ
زَوْجَةٌ فَلْيَتَزَوَّجْ ، أَوْ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ فَلْيَتَّخِذْ خَادِمًا ،
أَوْ لَيْسَت (7) لَهُ دَابَّةٌ فَلْيَتَّخِذْ دَابَّةً ، وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا
سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ غَالٌّ" (8).
هكذا رواه الإمام أحمد ، وقد رواه أبو داود بسند آخر وسياق آخر فقال :
حدثنا موسى بن مروان الرَّقِّي ، حدثنا المعافي ، حدثنا الأوزاعي ، عن الحارث بن
يزيد (9) عن جبير بن نُفَير ، عن المستورد بن شداد. قال : سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول : "مَنْ كَانَ لَنَا عَامِلا فَلْيَكْتَسِبْ زَوْجَةً ،
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ فَلْيَكْتَسِبْ خَادِمًا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
مَسْكَنٌ فَلْيَكْتَسِبْ مَسْكَنًا". قال : قال أبو بكر : أُخْبِرْتُ أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : "مَنْ اتَّخَذَ غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ
غَالٌّ ، أَوْ سَارِقٌ" (10).
قال شيخنا الحافظ المزّي [رحمه الله] (11) رواه جعفر بن محمد الفرْيَابي ، عن موسى
بن مروان فقال : عن عبد الرحمن بن جُبَير بدل جبير بن نفير ، وهو أشبه بالصواب.
حديث آخر : قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيب ، حدثنا حَفْص (12) بن بشْر ، حدثنا
(13) يعقوب القُمّي (14) حدثنا حفص بن حميد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال
رسول الله صلى لله عليه وسلم "لا أعْرِفَنَّ أحَدَكُمْ يَأْتي يَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَحْملُ شَاةً لَهَا ثُغَاءٌ ، فَيُنَادِي : يَا مُحَمَّدُ ، يَا
مُحَمَّدُ ، فَأقُولُ : لا أمْلِكُ [لَكَ] (15) مِنَ اللهِ شَيْئًا ، قَدْ
بَلَّغْتُكَ. ولا أعْرِفَنَّ أحَدَكُمْ [يأْتِي] (16) يَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَحْمِلُ جَمَلا لَهُ رُغَاءٌ ، فَيَقُولُ : يَا مُحَمَّدُ ، يَا مُحَمَّدُ.
فَأَقُولُ : لا أمْلِكُ لَكَ مِن اللهِ شَيْئًا ، قَدْ بَلَّغْتُكَ. ولا
أعْرِفَنَّ أَحَدكمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ فَرَسًا لَهُ
حَمْحَمَةٌ ، يُنَادِي : يَا مُحَمَّدُ ، يَا مُحَمَّدُ. فَأَقُولُ : لا أمْلِكُ
لَكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا ، قَدْ
__________
(1) في أ ، و : "في سبع".
(2) المسند (4/140).
(3) زيادة من أ ، و.
(4) صحيح البخاري برقم (2452) وصحيح مسلم برقم (1610).
(5) في جـ ، ر ، أ ، و : "أبي".
(6) في أ : " : سويد".
(7) في أ : "أو ليس".
(8) المسند (4/229).
(9) في جـ ، أ : "شريك".
(10) سنن أبي داود برقم (2945).
(11) زيادة من و.
(12) في جـ : "جعفر".
(13) في جـ ، ر : "عن".
(14) في جـ : "العمي".
(15) زيادة من جـ ، والطبري.
(16) زيادة من جـ ، والطبري.
(2/152)
بَلَّغْتُكَ.
وَلا أعْرِفَنَّ أحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ [قَشْعًا] (1) من
أدْمٍ ، يُنَادِي : يَا مُحَمَّدُ ، يَا مُحَمَّدُ. فأقُولُ : لا أمْلِكُ لَكَ
مِنَ اللهِ شَيْئًا ، قَدْ بَلَّغْتُكَ".
لم يروه أحدٌ من أهل (2) الكتب الستة (3).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن الزهري ، سمع عُرْوَة يقول :
أخبرنا أبو حميد الساعدي قال : استعمل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رَجُلا من
الأزْد يقال له : ابن اللُّتْبِيَّة على الصدقة ، فجاء فقال : هذا لكم وهذا أهدي
لي. فقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال : "مَا بَالُ
الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَجِيءُ فَيَقُولُ : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي.
أَفَلا جَلَسَ (4) فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ
أَمْ لا ؟ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يَأْتِي أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا
بِشَيْءٍ إِلا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ
بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ"
ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ ثُمَّ قَالَ :
"اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ" ثَلاثًا.
وزاد هشَام بن عُرْوَة : فقال (5) أبو حميد : بَصَرُ عيني ، وسمع أذني ، وسلوا (6)
زيد بن ثابت.
أخرجاه من حديث سفيان بن عيينة (7) وعند البخاري : وسلوا زيد بن ثابت. ومن غير وجه
عن الزهري ، ومن طريق (8) عن هشام بن عروة ، كلاهما عن عروة ، به.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا إسماعيل بن عَيَّاش ،
عن يحيى بن سعيد ، عن عروة بن الزبير ، عن أبي حُمَيد أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : "هَدَايا الْعُمَّالِ غُلُولٌ".
وهذا الحديث من أفراد أحمد (9) وهو ضعيف الإسناد ، وكأنه مختصر من الذي قبله ،
والله أعلم.
حديث آخر : قال أبو عيسى الترمذي في كتاب الأحكام ، حَدّثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا
أبو أسامة ، عن داود بن يزيد الأوْدَي ، عن المغيرة بن شِبْل ، عن قيس بن أبي حازم
، عن معاذ بن جَبَل قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ، فلما
سرت أرسل في أثَري فَرُددتُ ، فقال : "أَتَدْرِي لِمَ بَعَثْتُ إلَيْكَ ؟ لا
تُصِيبَنَّ شَيْئًا بِغَيْرِ إذْنِي فَإنَّهُ غُلُولٌ ، { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ
بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } لهذا دَعَوْتُكَ ، فَامْضِ لِعَمَلِكَ".
هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وفي الباب عن عَدِيّ بن عَميرة ،
وبُرَيدة ، والمستورد بن شداد ، وأبي حُمَيد ، وابن عمر (10).
__________
(1) زيادة من جـ ، ر ، والطبري وفي أ ، و : "قسمان".
(2) في جـ ، ر : "أصحاب".
(3) تفسير الطبري (7/358).
(4) في أ : "أجلس".
(5) في أ ، و : "قال".
(6) في أ : "وسألوا".
(7) المسند (5/423) وصحيح البخاري برقم (2597 ، 7174) وصحيح مسلم برقم (1832).
(8) في أ : "طرق".
(9) المسند (5/424).
(10) سنن الترمذي برقم (1335).
(2/153)
حديث
آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن عُلَيَّة ، حدثنا أبو حيان يحيى بن سعيد
التّيْميّ ، عن أبي زُرْعَة بن عُمَر بن جرير ، عن أبي هريرة ، قال : قام فينا
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ، فذكر الغُلُول فعَظَّمه وعَظَّم أمره ، ثم
قال : "لا أُلْفِيَنَّ أَحَدُكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى
رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ ، فَيَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَغِثْنِي.
فَأَقُولُ : لا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا ، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لا
أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ
حَمْحَمَةٌ ، فَيَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَغِثْنِي. فَأَقُولُ : لا
أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا ، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لا أُلْفِيَنَّ أَحَدُكُمْ
يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ ، فَيَقُولُ : يَا
رَسُولَ اللَّهِ ، أَغِثْنِي ، فَأَقُولُ : لا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا ،
قَدْ أَبْلَغْتُكَ ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدُكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى
رَقَبَتِهِ صَامِتٌ فَيَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ : لا
أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا ، قَدْ بَلَّغْتُكَ".
أخرجاه من حديث أبي حَيَّان ، به (1).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن إسماعيل بن أبي خالد ،
حدثني قيس ، عن عدِيّ بن عُميرَة الكندي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"يَأَيُّهَا النَّاسُ ، مَنْ عَمِلَ لَنَا [مِنْكُمْ] (2) عملا (3)
فكَتَمَنَا مِنْهُ (4) مِخْيَطا فَمَا فَوْقَهُ فَهُوَ غُلُّ يَأْتِي بِهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ" قال : فقال (5) رجل من الأنصار أسود - قال مُجَالد : هو سعيد
(6) بن عبادة - كأني أنظر إليه ، فقال : يا رسول الله ، اقبل عني عملك. قال :
"وَمَا (7) ذَاك ؟" قال : سمعتك تقول كذا وكذا. قال : "وَأَنا
أقُولُ ذَاكَ (8) الآن : مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئ بِقَليلِهِ
وَكَثِيرِه ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَهُ. وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى".
وكذا رواه مسلم ، وأبو داود ، من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد ، به (9).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا أبو إسحاق الفَزَاري ، عن
ابن جُرَيج ، حدثني منبوذ ، رجل من آل أبي رافع ، عن الفضل بن عبيد الله (10) بن
أبي رافع ، عن أبي رافع قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّى العصر
رُبَّما ذهب إلى بني عبد الأشهل فيتحدث معهم حتى ينحدر المغرب (11) قال أبو رافع :
فبينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مسرعًا إلى المغرب إذ مر بالبقيع فقال :
"أُفٍّ لَكَ.. أُفٍّ لَكَ" مرتين ، فكبر (12) في [ذرعي] (13) وتأخرت
وظننت أنه يريدني ، فقال : "مَا لَكَ ؟ امش" قال : قلتُ : أحدثت حدثا يا
رسول الله ؟ قال : "وَمَا ذَاكَ ؟" قلت : أفَّفْتَ بي (14) قال :
"لا وَلَكِنْ هَذَا قَبْرُ فُلانٍ ، بَعَثْتُهُ (15) سَاعِيًا عَلَى آلِ
فُلانٍ ، فَغَلَّ نَمِرَة فَدُرِعَ الآنَ مِثْلَهُ مِنْ نَارٍ" (16).
حديث آخر : قال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن سالم الكوفي المفلوج
- وكان بمكة -
__________
(1) المسند (2/426) وصحيح البخاري برقم (3073) وصحيح مسلم برقم (1831).
(2) زيادة من جـ ، والمسند.
(3) في أ ، و : "في عمل".
(4) في جـ : "من عمل منكم لنا في عمل كتمنا به".
(5) في جـ ، ر : "فقام".
(6) في أ ، و : "سعد".
(7) في جـ ، أ : "فما".
(8) في أ : "ذلك".
(9) المسند (4/192) وصحيح مسلم برقم (1833).
(10) في جـ ، ر ، أ : "عبد الله".
(11) في جـ ، ر ، أ ، و : "للمغرب".
(12) في جـ ، ر : "فليس".
(13) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، والمسند.
(14) في جـ ، ر ، أ ، و : "لي".
(15) في و : "نبعثه".
(16) المسند (6/392).
(2/154)
حدثنا
عُبَيْدة بن الأسود ، عن القاسم بن الوليد ، عن أبي صادق ، عن ربيعة بن ناجد ، عن
عبادة بن الصامت ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ الوبرة من جنب البعير من
المغنم ، ثم يقول : "مَا لِيَ فِيهِ إلا مِثْلَ مَا لأحَدِكُمْ ، إيَّاكُمْ والْغُلُولَ
، فَإنَّ الْغُلُولَ خزْي عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، أدُّوا الخَيْطَ
والمِخْيَطَ وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ ، وَجَاهِدُوا فِي سبيل الله الْقَرِيب (1)
والْبَعِيدَ ، في الْحَضَرِ والسَّفَرِ ، فإنَّ الجِهَادَ بَابٌ مِنْ أبْوَابِ
الْجَنَّةِ ، إنَّهُ لَيُنْجِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهَمِّ والْغَمِّ ؛ وأقِيمُوا
حُدُودَ اللهِ فِي الْقَرِيبِ والْبَعِيدِ ، وَلا تَأْخُذُكُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ
لائمٍ". وقد روى ابنُ ماجة بَعْضَه عن المفلوج ، به (2).
حديث آخر : عن عَمْرو بن شُعَيب ، عن أبيه ، عن جدِّه قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "رُدُّوا الْخِيَاط (3) وَالْمِخْيَطَ ، فَإنَّ الْغُلُولَ
عَارٌ وَنارٌ وَشَنَارٌ عَلَى أهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (4).
حديث آخر : قال أبو داود : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ، عن مُطَرِّف ،
عن أبي الجَهْم ، عن أبي مسعود الأنصاري قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم
ساعيًا ثم قال : "انْطَلِقْ - أَبَا مَسْعُودٍ - لا أُلْفِيَنَّكَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ تَجِيءُ عَلَى ظَهْرِكَ بَعِيرٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ لَهُ
رُغَاءٌ قَدْ غَلَلْتَهُ". قال : إِذًا لا أَنْطَلِقُ. قال : إِذًا لا
أُكْرِهُكَ". تفرد به أبو داود (5).
حديث آخر : قال أبو بكر بن مَرْدُويَه : أنبأنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، أنبأنا
محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، أنبأنا عبد الحميد بن صالح أنبأنا أحمد بن أبان ، عن
علقمة بن مَرْثَد ، عن ابن (6) بُرَيدة ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال : إنَّ الْحَجَرَ لَيُرْمَى بِهِ [فِي] (7) جَهَنَّمَ فَيَهْوِي سَبْعِينَ
خَرَيِفًا مَا يَبْلُغُ قَعْرَهَا ، وَيُؤْتَى بِالْغُلُولِ فَيُقْذَفُ
مَعَهُ" ، ثم يُقَالُ لَمَنْ غَلَّ ائْتِ بِهِ ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ : {
وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } (8).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم (9) بن القاسم ، حدثنا عِكْرِمة بن عمار
، حدثني سماك الحَنفي أبو زُميل ، حدثني عبد الله بن عباس ، حدثني عُمَر بن الخطاب
قال : لما كان يومُ خَيْبَر أقبل نَفَر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا
: فلان شهيد ، وفلان شهيد. حتى أَتوْا على رجل فقالوا : فلان شهيد ؟ فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "كَلا إنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ
غَلَّهَا - أو عَبَاءَةٍ". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يَا
ابْنَ الْخَطَّابِ اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ : إنَّه لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ
إلا الْمُؤْمِنُونَ". قال : فخرجت فناديت : ألا إنه لا يدخل الجنة إلا
المؤمنون.
__________
(1) في و : "بالقريب".
(2) المسند (5/330) وهذا الحديث من زيادات عبد الله بن أحمد على مسند أبيه ، وسنن
ابن ماجة برقم (2540).
(3) في ر : "المخياط".
(4) المسند (2/184).
(5) سنن أبي داود برقم (2947).
(6) في جـ ، ر ، أ : "أبي".
(7) زيادة من جـ ، ر ، والمعجم الكبير.
(8) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (2/21) والبيهقي في شعب الإيمان برقم (4334)
من طريق محمد بن أبان عن علقمة بن مرثد به ، وفي إسناده محمد بن أبان الجعفي ضعيف.
(9) في جـ : "هشام".
(2/155)
وكذا
رواه مسلم ، والترمذي من حديث عكرمة بن عمار به. وقال الترمذي : حسن صحيح (1).
حديث آخر : قال ابن جرير : حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن
سعيد ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن
عُبَادة مُصَدقًا ، فقالَ : "إيَّاكَ يَا سَعْدُ أنْ تَجِيء يَوْمَ
الْقِيَامَةِ بِبَعِيرٍ تَحْمِلُهُ لَهُ رُغَاءٌ" قَالَ : لا آخذه ولا أجيء
به. فأعفاه. ثم رواه من طريق عُبَيد الله (2) عن نافع ، به ، نحوه (3).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، حدثنا
صالح بن محمد بن زائدة ، عن سالم بن عبد الله ، أنه كان مع مَسْلَمة بن عبد الملك
في أرض الروم ، فوُجِد في متاع رجل غُلُول. قال : فسأل سالمَ بْنَ عبد الله فقال :
حدثني أبي عبدُ الله ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : "مَنْ وَجَدْتُمْ فِي مَتَاعِهِ غُلُولا فأحْرِقُوهُ" :
قال : وأحسبه قال : واضربوه قال : فأخرج متاعَه في السوق ، فَوَجَد فيه مصحفا ،
فسأل سالم : بعهُ وَتَصَدَّقْ بثمنه.
وهكذا رواه علي بن المديني ، وأبو داود ، والترمذي من حديث عبد العزيز بن محمد
الأتَدْرَاوَرْدي (4) - زاد أبو داود : وأبو إسحاق الفزاري - كلاهما عن أبي واقد
الليثي الصغير صالح بن محمد بن زائدة ، به (5).
وقد قال علي بن المديني ، رحمه الله ، والبخاري وغيرهما : هذا حديث منكر من رواية
أبي واقد هذا. وقال الدارقطني : الصحيح أنه من فتوى سالم فقط ، وقد ذهب إلى القول
بمقتضى هذا الحديث الإمام [أحمد] (6) بن حنبل ، رحمه الله ، ومن تابعه من أصحابه ،
وخالفه أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، والجمهور ، فقالوا : لا يحرق متاع الغالّ ،
بل يعزر تعزير مثله. وقال البخاري : وقد امتنع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من
الصلاة على الغال ، ولم يحرق متاعه ، والله أعلم.
طريق أخرى عن عمر : قال ابن جرير : حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، حدثنا عبد
الله بن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث : أن موسى بن جُبَير حدثه : أن عبد الله بن
عبد الرحمن بن الحباب الأنصاري حدثه : أن عبد الله بن أنيس حدثه : أنه تذاكر هو
وعمر بن الخطاب يوما الصدقة فقال : ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر
غلول الصدقة : "مَنْ غَلَّ مِنْهَا بَعِيرًا أوْ شَاةً ، فإنَّهُ يَحْمِلُهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ" ؟ قال عبد الله بن أنيس : بلى.
ورواه ابن ماجة ، عن عمرو بن سَوّاد ، عن عبد الله بن وهب ، به (7).
ورواه الأموي عن معاوية ، عن أبي إسحاق ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن قال : عقوبة
الغال
__________
(1) المسند (1/30) وصحيح مسلم برقم (114) وسنن الترمذي برقم (1574).
(2) في جـ ، ر ، أ : "عبد الله".
(3) تفسير الطبري (7/361).
(4) في جـ ، ر ، أ : "الدراوردي".
(5) المسند (1/22) وسنن أبي داود برقم (2713 ، 2714) وسنن الترمذي برقم (1461)
وقال : "حديث غريب".
(6) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(7) تفسير الطبري (7/360) وسنن ابن ماجة برقم (1810) وقال البوصيري في الزوائد
(2/56) : "هذا إسناد فيه مقال موسى بن جبير قال فيه ابن حبان في الثقات :
يخطئ ويخالف ، وقال الذهبي في الكاشف : ثقة ، ولم أر لغيرهما فيه كلاما ، وعبد
الله بن عبد الرحمن ذكره ابن حبان في الثقات ، وباقي رجال الإسناد ثقات".
(2/156)
أن
يخرج رحله ويحرق على ما فيه.
ثم روي عن معاوية ، عن أبي إسحاق ، عن عثمان بن عطاء ، عن أبيه ، عن علي [رضي الله
عنه] (1) قال : الغال يجمع رحله فيحرق ويجلد دون حد [المملوك ، ويحرم نصيبه ،
وخالفه أبو حنيفة ومالك والشافعي والجمهور فقالوا : لا يحرق متاع الغال ، بل يعزر
تعزير مثله ، وقد قال البخاري : وقد امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة
على الغال ولم يحرق متاعه ، والله أعلم] (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، أنبأنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن خُمَيْر
(3) بن مالك قال : أُمر بالمصاحف أن تُغَيَّرَ قال : فقال ابن مسعود : من استطاع
منكم أن يَغُلَّ مصحفا (4) فلْيغُلُّه ، فإنه من غَلَّ شيئا جاء به يوم القيامة ،
ثم قال (5) قرأت من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة ، أفأترك ما أخذتُ
من في رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ (6).
وروى وَكِيع في تفسيره عن شريك ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن إبراهيم ، قال : لما
أمر بتحريق (7) المصاحف قال عبد الله : يا أيها الناس ، غُلُّوا المصاحف ، فإنه من
غَلّ يأت بما غَلّ يوم القيامة ، ونعم الغُل المصحف. يأتي به أحدكم يوم القيامة
(8).
وقال [أبو] (9) داود عن سَمُرَة بن جُنْدُب قال : كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا غنم غنيمة أمر بلالا فينادي في الناس ، فَيَجيئُون بغنائمهم يخمسه
ويُقسمه ، فجاء رجل يوما بعد النداء بزمام من شعر فقال : يا رسول الله ، هذا كان
مما (10) أصبنا (11) من الغنيمة. فقال : "أسَمِعْتَ بِلالا يُنَادِي ثلاثا
؟" ، قال : نعم. قال : "فَمَا مَنَعَكَ أنْ تَجِيء بِه ؟" فاعتذر
إليه ، فقال : "كَلا أَنْتَ تَجِيءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَلَنْ
أقْبَلَهُ مِنْكَ" (12).
وقوله : { أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ
اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي : لا يستوي من اتبع رضوان
الله فيما شرعه ، فاستحق رضوان الله وجزيل ثوابه وأُجِير من وَبِيل عقابه ، ومن
استحق غضب الله وألزم به ، فلا محيد له عنه ، ومأواه يوم القيامة جهنم وبئس
المصير.
وهذه لها نظائر في القرآن كثيرة كقوله تعالى : { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا
أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى } [الرعد : 19] وكقوله
{ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ
مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ
الْمُحْضَرِينَ ] (13) } [القصص : 61].
__________
(1) زيادة من ر.
(2) زيادة من و.
(3) في هـ ، جـ ، ر : "جبير" وهو خطأ ، والصواب ما أثبتناه من المسند
(1/414). وانظر تعليق أحمد شاكر على الحديث رقم (3929).
(4) في جـ ، ر ، أ ، و : "مصحفه".
(5) في جـ ، ر : "قال : ثم قال".
(6) المسند (1/414) ورواه ابن أبي داود في المصاحف (ص 21) من طريق إسرائيل عن أبي
إسحاق به.
(7) في أ ، و : "بتمزيق".
(8) ورواه بن أبي داود في المصاحف (ص 22) من طريق وكيع به.
(9) زيادة من جـ ، ر.
(10) في جـ ، ر ، أ : "فيما".
(11) في ر : ، أ : "أصبناه".
(12) رواه أبو داود في سننه برقم (2712) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، وقول
الحافظ ابن كثير - رحمه الله - بأنه عن سمرة بن جندب وهم. وقد ذكر هذا الحديث
الحافظ المزي من مسند عبد الله بن عمرو في كتابه القيم "تحفة الأشراف".
(13) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(2/157)
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
ثم
قال : { هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ } قال الحسن البصري ومحمد بن إسحاق : يعني
: أهل الخير وأهل الشر درجات ، وقال أبو عبيدةَ والكسائي : منازل ، يعني :
متفاوتون في منازلهم ودرجاتهم في الجنة ودركاتهم في النار ، كما قال تعالى : {
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا } الآية [الأنعام : 132] ؛ ولهذا قال : {
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي : وسَيُوفيهم إياها ، لا يظلمهم خيرا
ولا يزيدهم شرا ، بل يجازي كلا بعمله.
وقوله : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا
مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أي : من جنسهم ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع
به ، كما قال تَعالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ (1) لَكُمْ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا } [الروم : 21] أي : من جنسكم.
وقال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } [الكهف :
110] وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا
إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ } [الفرقان : 20]
وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ
مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [يوسف : 109] وقال تعالى : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ
وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } [الأنعام : 130] فهذا أبلغ في
الامتنان أن يكون الرسل إليهم منهم ، بحيث يمكنهم مخاطبته ومراجعته في فَهْم
الكلام عنه ، ولهذا قال : { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } يعني : القرآن {
وَيُزَكِّيهِمْ } أي : يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر لتزكُوَ نفوسهم وتطهر من
الدَّنَسِ والخَبَث الذي كانوا متلبسين به في حال شركهم وجاهليتهم (2) {
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } يعني : القرآن والسنة { وَإِنْ
كَانُوا مِنْ قَبْلُ } أي : من قبل هذا الرسول { لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي : لفي
غَي وجهل ظاهر جليّ بين لكُل أحد.
{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ
أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) }
__________
(1) في جـ ، ر ، أ : "جعل".
(2) في أ : "مشركهم وجاهلهم".
(2/158)
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)
{
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ
الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا
قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا
لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ
يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا
مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (168) }
يقول تعالى : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ } وهي ما أصيب منهم يوم أُحد
من قتل السبعين منهم { قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا } يعني : يوم بَدْر ، فإنهم
قتلوا من المشركين سبعين قتيلا وأسروا سبعين أسيرا { قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا } أي :
من أين جرى علينا هذا ؟ { قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ }
(2/158)
قال
ابن أبي حاتم : ذكره أبي ، أنبأنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا قُرَاد أبو (1) نوح
، حدثنا عكرمة بن عمار ، حدثنا سِمَاك الحنفي أبو زُميل ، حدثني ابن عباس ، حدثني
عُمَر بن الخطاب قال : لما كان يومُ أحد من العام المقبل ، عوقبوا بما صنعوا يوم
بدر من أخذهم الفِدَاء ، فقتل منهم سبعون وفَرَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم عنه ، وكُسرت رَبَاعِيتُه وهُشمَت البَيْضَة على رأسه ، وسال الدم على وجهه ،
فأنزل الله عز وجل : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ
مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } بأخذكم
الفداء.
وهكذا رواه الإمام أحمد (2) عن عبد الرحمن بن غَزْوان ، وهو قُرَاد أبو نوح ،
بإسناده ولكن بأطول منه ، وكذا قال الحسن البصري.
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا إسماعيل بن عُلَيَّة عن ابن
عوْن ، عن محمد عن عَبيدة(ح) قال سُنَيد - وهو حسين - : وحدثني حجاج عن جَرير ، عن
محمد ، عن عَبيدة ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : جاء جبريل ، عليه السلام ، إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، إن الله قد كَرِه ما صنع قومُك في
أخذهم الأسارى ، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين ، إما أن يُقدموا فتضرب (3) أعناقهم
، وبين أن يأخذوا الفداء ، على أن يُقْتَل منهم عدّتهم. قال : فدعا رسولُ الله صلى
الله عليه وسلم الناسَ فذكر ذلك لهم ، فقالوا : يا رسول الله ، عشائرنا وإخواننا ،
ألا نأخذ فداءهم فَنتَقوّى (4) به على قتال عدونا ، ويستشهد منا عدّتهم ، فليس في
ذلك ما نكره ؟ قال : فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدة أسارى أهل بدر.
وهكذا رواه الترمذي والنسائي من حديث أبي داود الحَفْري ، عن يحيى بن زكريا بن أبي
زائدة ، عن سفيان بن سعيد ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، به. ثم قال
الترمذي : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زائدة. وروى أبو أسامة عن هشَام
نحوه. وروى عن ابن سِيرِين عن عبيدة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا (5).
وقال محمد بن إسحاق ، وابن جريج ، والربيع بن أنس ، والسديِّ : { قُلْ هُوَ مِنْ
عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } أي : بسبب عصيانكم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حين
أمركم أن لا تبرحوا من مكانكم فعصيتم ، يعني بذلك الرماة { إِنَّ اللَّهَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، لا مُعَقبَ لحكمه (6).
ثم قال تعالى :
{ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ } أي :
فراركم بين يدي عدوكم وقتلهم لجماعة منكم وجراحتهم لآخرين ، كان بقضاء الله وقدره
، وله الحكمة في ذلك. [وقوله] (7) { وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : الذين
صبروا وثبتوا ولم يتزلزلوا.
__________
(1) في أ ، و : "بن".
(2) المسند (1/30 ، 31).
(3) في جـ ، أ ، و : "فيضرب".
(4) في ر : "فنقوى".
(5) تفسير الطبري (7/376) وسنن الترمذي برقم (1567) والنسائي في السنن الكبرى برقم
(8662).
(6) انظر : تفسير الطبري (7/374).
(7) زيادة من جـ ، ر.
(2/159)
{
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ }
يعني [بذلك] (1) أصحاب عبد الله بن أبي ابن سلول الذين رجعوا معه في (2) أثناء
الطريق ، فاتبعهم من اتبعهم من المؤمنين يحرضونهم على الإياب والقتال والمساعدة ؛
ولهذا قال : { أَوِ ادْفَعُوا } قال ابن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جُبَير ،
والضحاك ، وأبو صالح ، والحسن ، والسُّدِّي : يعني (3) كَثروا سواد المسلمين. وقال
الحسن بن صالح : ادفعوا بالدعاء. وقال غيره : رابطوا. فتعلَّلوا قائلين : { لَوْ
نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ } قال مجاهد : يعنون لو نعلم أنكم تلقون حربا
لجئناكم ، ولكن لا تلقون قتالا.
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، ومحمد (4) بن يحيى بن
حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ،
وغيرهم من علمائنا ، كُلهم قد حدث قال : خَرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يعني حين خرج إلى أحد - في ألف رجل من أصحابه ، حتى إذا كان بالشَّوط - بين أحد
والمدينة - انحاز (5) عنه عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث الناس ، وقال (6) أطاعهم
فخرج وعصاني ، ووالله ما ندري علام نقتُل أنفسنا هاهنا أيها الناس ، فرجع بمن (7)
اتبعه من الناس من قومه أهل النفاق وأهل الريب ، واتبعهم عبد الله بن عَمرو بن حرام
أخو بني سَلمة ، يقول : يا قوم ، أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر من
عدوكم ، قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكنا لا نرى أن يكون قتال.
فلما استعصوا عليه وأبَوْا إلا الانصراف عنهم ، قال : أبعدكم الله أعداء الله ،
فسيُغْنى (8) الله عنكم. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم (9).
قال الله تعالى : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ }
استدلوا به على أن الشخص قد تتقلب به الأحوال ، فيكون في حال أقرب إلى الكفر ، وفي
حال أقرب [إلى] (10) الإيمان ؛ لقوله : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ
مِنْهُمْ لِلإيمَانِ }
ثم قال : { يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } يعني : أنهم
يقولون القول ولا يعتقدون صحته ، ومنه قولهم هذا : { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا
لاتَّبَعْنَاكُمْ } فإنهم يتحققون أن جندا من المشركين قد جاءوا من بلاد بعيدة ،
يتحرقون على المسلمين بسبب ما أصيب من سراتهم يوم بدر ، وهم أضعاف المسلمين ، أنه
كائن بينهم قتال (11) لا محالة ؛ ولهذا قال تعالى : { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
يَكْتُمُونَ }.
وقوله : { الَّذِينَ قَالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا
قُتِلُوا } أي : لو سمعوا من مشورتنا عليهم في القعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من
قتل. قال الله تعالى : { قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : إن كان القُعود يَسْلَم (12) به الشخص من القتل والموت
، فينبغي ، أنكم لا تموتون ، والموت لا بد آت إليكم ولو كنتم في
__________
(1) زيادة من جـ ، ر.
(2) في أ ، و : "من".
(3) في أ : "بعد".
(4) في ر : "وعن محمد".
(5) في جـ ، ر ، أ ، و : "انحذل".
(6) في أ ، و : "فقال".
(7) في ر : "من".
(8) في أ : "يستغنى".
(9) سيرة ابن إسحاق (ظاهرية ق 166 - 168) ورواه الطبري في تفسيره (7/378) من طريق
ابن إسحاق به.
(10) زيادة من جـ ، ر.
(11) في ر : "قتالا".
(12) في ر : "القول يدفع".
(2/160)
فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
بروج
مُشَيّدة ، فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين. قال مجاهد ، عن جابر بن عبد
الله : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي ابن سلول.
{ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ
لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ
اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) }
(2/161)
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
{
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ
وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا
ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) }
يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدار فإن أرواحَهم حية مرزوقة في
دار القرار.
قال ابن جرير : حدثنا محمد بن مرزوق ، حدثنا عُمَر بن يونس ، عن عِكْرِمة ، حدثنا
ابن إسحاق بن أبي طلحة ، حدثني أنس بن مالك في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
الذين (1) أرسلهم نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل بئر معونة قال : لا أدري
أربعين أو سبعين. وعلى ذلك الماء عامر بن الطُّفَيل الجعفري ، فخرج أولئك النَّفَر
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى أتَوْا (2) غارا مُشْرِفا على الماء
فقعدوا (3) فيه ، ثم قال بعضهم لبعض : أيكم يُبَلِّغ رسَالَة رسول الله صلى الله
عليه وسلم أهْلَ هذا الماء ؟ فقال - أرَاه ابن ملْحان الأنصاري - : أنا أبلغ رسالة
رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخَرَج حتى أتى حيا (4) [منهم] (5) فاختبأ أمام
البيوت ، ثم قال : يا أهل بئر مَعُونة ، إني رسولُ رسول الله إليكم ، إني أشهد أن
لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، فآمنوا بالله ورسوله. فخرج إليه رَجُل من
كسر البيت برُمْح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر. فقال : الله أكبر ،
فُزْتُ ورب الكعبة. فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه في الغار فقتلهم أجمعين عامرُ بن
الطفيل. وقال إسحاق : حدثني أنس بن مالك : أن الله [تعالى] (6) أنزل فيهم قرآنا : بَلِّغُوا
عنا قَوْمَنا أنَّا قد لقينا رَبَّنا فَرَضي عَنَّا ورَضينا عَنْه ثم نسخت فرفعت
بعد ما قرأناه زَمَنًا (7) وأنزل الله : { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ }
(8).
وقد قال الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري في صحيحه : حدثنا محمد بن عبد
الله بن نُمَير ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمَشُ ، عن عبد الله بن مُرَّةَ ،
عن مسروق قال : سألنا عبد الله عن هذه الآية : { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ } فقال : أما إنَّا قد سألنا عن ذلك فقال : "أَرْوَاحُهُمْ فِي
جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ ، تَسْرَحُ مِنَ
الْجَنَّةِ (9)
__________
(1) في أ : "الذي".
(2) في ر : "حتى إذا أتوا".
(3) في جـ ، ر : "قعدوا".
(4) في هـ ، جـ ، ر ، أ ، و : "حول" ، والمثبت من الطبري.
(5) زيادة من جـ ، ر.
(6) زيادة من أ.
(7) في أ ، و : "زمانا".
(8) تفسير الطبري (7/392 ، 393) ورواه البخاري في صحيحه برقم (2801) من طريق همام
عن إسحاق بن أبي طلحة به.
(9) في أ : "أهل الجنة".
(2/161)
حَيْثُ
شَاءَتْ ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ
رَبُّهُمْ اطِّلاعَةً فَقَالَ : هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا ؟ فَقَالُوا : أَيَّ
شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا ؟ فَفَعَلَ
ذَلِكَ بِهِمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ (1) يُتْرَكُوا
مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا : يَا رَبِّ ، نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا
فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى ، فَلَمَّا رَأَى
أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا" (2). وقد روي نحوه عن أنس وأبي سعيد.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حَمَّاد ، حدثنا ثابت عن
أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ ، لَهَا
عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ ، يَسُرُّهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا إِلا
الشَّهِيدُ فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ
مَرَّةً أُخْرَى لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ".
انفرد (3) به مسلم من طريق حماد (4) (5).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عبد الله المديني ، حدثنا سفيان ، عَن
(6) محمد بن علي بن رَبيعة السلمي ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر قال :
قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : "أما عَلِمْتَ (7) أَنَّ اللَّهَ
أَحْيَا أَبَاكَ فَقَالَ لَهُ : تَمَنَّ عَلَيَّ ، فَقَالَ لَهُ : أُرَدُّ إِلَى
الدُّنْيَا ، فَأُقْتَلُ مَرَّةً أُخْرَى ، فَقَالَ : إِنِّي قَضَيْتُ الْحُكْمَ
أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لا يُرْجَعُونَ".
انفرد (8) به أحمد من هذا الوجه (9) وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن أبا جابر -
وهو عبد الله بن عَمْرو بن حَرام الأنصاري رضي الله عنه - قتل يوم أحد شهيدا. قال
البخاري : وقال أبو الوليد ، عن شعبة عن ابن المُنْكَدِر قال : سمعت جابرا قال :
لما قُتِل أبي جعلتُ أبكي وأكشفُ الثوب عن وجهه ، فجعل أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم ينْهَوني (10) والنبي صلى الله عليه وسلم لم يَنْه ، وقال النبي صلى
الله عليه وسلم : "لا تَبْكِهِ (11) - أو : مَا تَبْكِيهِ (12) - ما زَالَتِ
الْملائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأجْنِحَتِها حَتَّى رُفِعَ". وقد أسنده هو ومسلم
والنسائي من طريق آخر (13) عن شعبة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال : لما قتلَ أبي
يوم أحد ، جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي... وذكر تمامة بنحوه (14).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، حدثنا
إسماعيل بن أمية بن عَمْرو بن سعيد ، عن أبي الزبير المكي ، عن ابن عباس ، رضي
الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لَمَّا أُصِيبَ (15)
إخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ ،
تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ ، وتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إِلَى
قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ
مَشْرَبِهِمْ ،
__________
(1) في أ : "لم".
(2) صحيح مسلم برقم (1887).
(3) في و : "تفرد".
(4) في أ : "حماد به".
(5) المسند (3/126) وصحيح مسلم برقم (1877) لكن من طريق حميد وقتادة عن أنس به.
(6) في جـ ، ر ، أ ، و : "حدثنا".
(7) في جـ ، ر ، أ ، و : "أعلمت".
(8) في أ ، و : "تفرد".
(9) المسند (3/361).
(10) في و : "ينهونني".
(11) في أ ، و : "تبكه" وهو الصحيح.
(12) في أ ، و : "ما يبكيه".
(13) في أ ، و : "من طرق أخر".
(14) صحيح البخاري برقم (4080) وصحيح مسلم برقم (2471) وسنن النسائي (4/13).
(15) في أ : "أصيبت".
(2/162)
وَمَأْكَلِهِمْ
، وَحُسْنَ مُنْقَلَبِهِم (1) قَالُوا : يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ مَا
صَنَعَ اللَّهُ لَنَا ، لِئَلا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ ، وَلا يَنْكُلُوا عَنْ
الْحَرْبِ" فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ.
فَأَنزلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلاءِ الآيَاتِ : { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ } وما بعدها".
هكذا رواه [الإمام] (2) أحمد ، وكذا رواه ابن جرير عن يونس ، عن ابن وَهْب ، عن
إسماعيل بن عَيَّاش (3) عن محمد بن إسحاق به (4) ورواه أبو داود والحاكم في
مستدركه من حديث عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق ، عن إسماعيل بن أمية ، عن
أبي الزبير ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس فذكره ، وهذا أثبت (5). وكذا رواه
سفيان الثوري ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس.
وروى الحاكم في مستدركه من حديث أبي إسحاق الفزاري ، عن سفيان (6) عن إسماعيل (7)
بن أبي خالد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في حمزة
وأصحابه : { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا
بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم
يخرجاه (8).
وكذا قال قتادة ، والربيع ، والضحاك : إنها نزلت في قتلى أحد.
حديث آخر : قال أبو بكر بن مَرْدُويَه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا هارون بن
سليمان (9) أنبأنا علي بن عبد الله المديني ، أنبأنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن
بشير بن الفاكه الأنصاري ، سمعت طلحة بن خِرَاش بن عبد الرحمن بن خراش بن الصمة
الأنصاري ، قال : سمعت جابر بن عبد الله قال : نظر إليّ رسول الله صلى الله عليه
وسلم ذات يوم فقال : "يا جابر ، مَا لِي أراك مُهْتَما ؟" قال : قلت :
يا رسول الله ، استشهد أبي وترك (10) دَينا وعيالا. قال : فقال : "ألا
أُخْبِرُكَ ؟ مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَدًا قَطُّ إلا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ،
وَإنَّهُ كَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا - قال علي : الكفَاح : المواجهة - فَقَالَ :
سَلْني أعْطكَ. قَالَ : أَسْأَلُكَ أنْ أُرَدَّ إلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِيْكَ
ثَانِيَةً فَقَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ : إنَّهُ سَبَقَ مِنِّي القول أنَّهُمْ
إلَيْهَا لا يُرْجَعُونَ. قَالَ : أيْ رَبِّ : فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي. فَأَنزلَ
اللهُ [عَزَّ وجَلَّ] (11) { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَمْوَاتًا } الآية (12).
ثم رواه من طريق أخرى عن محمد بن سليمان بن سبيط الأنصاري ، عن أبيه ، عن جابر ،
به نحوه. وكذا رواه البيهقي في "دلائل النبوة" من طريق علي بن المديني ،
به (13).
__________
(1) في أ : "مقيلهم".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : "عباس".
(4) المسند (1/265) وتفسير الطبري (7/385).
(5) سنن أبي داود برقم (2520) والمستدرك (2/297) وقال : "هذا حديث صحيح على
شرط مسلم" ووافقه الذهبي.
(6) في ر : أبي سفيان" وهو خطأ. انظر : المستدرك (2/387).
(7) في و : "أبي إسماعيل" وهو خطأ.
(8) المستدرك (2/387).
(9) في و : "سليم".
(10) في أ : "وترك عليه".
(11) زيادة من جـ ، أ.
(12) في أ ، و : "حتى أنفذ الآية".
(13) دلائل النبوة للبيهقي (3/299).
(2/163)
وقد
رواه البيهقي أيضا من حديث أبي عبادة الأنصاري ، وهو عيسى بن عبد الرحمن ، إن شاء
الله ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة [رضي الله عنها] (1) قالت : قال النبي صلى
الله عليه وسلم لجابر : "يَا جَابِرُ ، ألا أُبَشِّرُكَ ؟ قال : بلى. بشّرك
الله بالخير. قال (2) شَعَرْتُ أنَّ اللهَ أحْيَا أَبَاكَ فَقَالَ : تَمَنَّ
عَلَيَّ عَبْدِي مَا شِئْتَ أُعْطِكَه. قَالَ : يَا رَبِّ ، مَا عَبَدْتُكَ حَقَّ
عِبَادَتِكَ. أتَمَنَّى عَلَيْكَ أنْ تَرُدَّنِي إلَى الدُّنْيَا فَأُقَاتِلَ (3)
مَعَ نَبِيَّكَ ، وأُقْتَلَ فِيْكَ مَرَّةً أُخْرَى. قَالَ : إنَّهُ سَلَفَ مِنِّي
أنَّهُ إلَيْهَا [لا] (4) يَرْجعُ" (5).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، حدثنا
الحارث بن فُضَيْل الأنصاري ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ،
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الشُّهَدَاءُ عَلَى بَارِقِ
نَهَرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ ، فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ
مِنْ الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا".
تفرد (6) به أحمد ، وقد رواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب حدثنا عبد الرحيم بن سليمان
، وعَبَدة (7) عن محمد بن إسحاق ، به. وهو إسناد جيد (8).
وكان الشهداء أقسام : منهم من تسرح (9) أرواحهم في الجنة ، ومنهم من يكون على هذا
النهر بباب الجنة ، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر فيجتمعون هنالك ،
ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح ، والله أعلم.
وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة
تسرح أيضا فيها ، وتأكل من ثمارها ، وترى ما فيها من النضرة والسرور ، وتشاهد ما
أعده الله لها من الكرامة ، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم ، اجتمع فيه ثلاثة من
الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة ؛ فإن الإمام أحمد ، رحمه الله ، رواه عن
[الإمام] (10) محمد بن إدريس الشافعي ، رحمه الله ، عن مالك بن أنس الأصبحي ، رحمه
الله ، عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن أبيه ، رضي الله عنه ، قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نَسَمةُ الْمؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلق (11)
في شَجِر الجَنَّةِ ، حتى يُرْجِعَهُ اللهُ إلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ"
(12).
قوله : "يعلق" (13) أي : يأكل (14).
وفي هذا الحديث : "إنَّ روحَ الْمؤْمنِ تَكُونُ عَلَى شَكْلِ طَائِرٍ فِي
الْجَنَّةِ".
وأما أرواح الشهداء ، فكما تقدم في حواصل طير خضر ، فهي كالكواكب (15) بالنسبة إلى
أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها ، فنسأل الله الكريم المنان أن يثبتنا
(16) على الإيمان.
__________
(1) زيادة من ر.
(2) في جـ ، أ : "قال : قال".
(3) في جـ ، ر ، أ ، و : "فأقتل".
(4) زيادة من جـ ، ر ، ودلائل النبوة".
(5) دلائل النبوة للبيهقي (3/298).
(6) في أ : "انفرد".
(7) في جـ ، ر : "عبيدة".
(8) المسند (1/266) وتفسير الطبري (7/387).
(9) في جـ : "يسرح".
(10) زيادة من أ.
(11) في جـ ، ر : "تعلق".
(12) المسند (3/455).
(13) في جـ ، ر : "تعلق" ، وفي أ : "يتعلق".
(14) في جـ : "تأكل".
(15) في جـ ، ر : "كالراكب".
(16) في و : "يمتنا".
(2/164)
وقوله
: { فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ [مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ
بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا
هُمْ يَحْزَنُونَ ] (1) } أي : الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند الله ،
وهم فَرحون (2) مما هم فيه من النعمة والغبطة ، ومستبشرون (3) بإخوانهم الذين
يقتلون بعدهم في سبيل الله أنهم يقدَمون عليهم ، وأنهم لا يخافون مما أمامهم ولا
يحزنون على ما تركوه وراءهم.
قال محمد بن إسحاق { وَيَسْتَبْشِرُونَ } أي : ويُسَرون بلحوق من خَلْفهم (4) من
إخوانهم على ما مَضَوْا عليه من جهادهم ؛ ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي
أعطاهم.
[و] (5) قال السدي : يُؤتى الشهيد بكتاب فيه : "يَقْدَمُ عَلَيْكَ فُلانٌ
يَوْمَ كَذَا وكَذَا ، ويَقْدَمُ عَلَيْكَ فُلانٌ يَوْمَ كَذَا وكَذَا ، فَيُسَرُّ
بِذَلِكَ كَمَا يُسَرُّ أَهْلُ الدُّنْيَا بِقُدُومِ غُيَّابِهِمْ" (6).
وقال سعيد بن جبير : لَمّا دخلوا الجنة ورَأوْا ما فيها من الكرامة للشهداء قالوا
: يا ليت إخواننا الذين في الدنيا يعلمون ما عرفناه من الكرامة ، فإذا شهدوا
للقتال (7) باشروها بأنفسهم ، حتى ويُستشهدوا فيصيبوا ما أصبنا من الخير ، فأُخبِر
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأمرهم وما هم فيه من الكرامة ، وأخبرهم - أي ربهم
- [أني] (8) قد أنزلت على نبيكم وأخبرته بأمركم ، وما أنتم فيه ، فاستَبْشروا بذلك
، فذلك قوله : { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ
خَلْفِهِمْ } الآية.
وقد ثبت في الصحيحين عن أنس ، رضي الله عنه ، في قصة أصحاب بئر مَعُونة السبعين من
الأنصار ، الذين قتلوا في غداة واحدة ، وقَنَت رسول الله صلى الله عليه وسلم على
الذين قتلوهم ، يدعو عليهم ويَلْعَنهم ، قال أنس : ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع
: "أنْ بَلغُوا عَنّا قَوْمَنا أنّا لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنّا
وأرْضَانا" (9).
ثم قال : { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ } قال محمد بن إسحاق : استبشروا وسُرّوا لما عاينوا
من وفاء الموعود وجزيل الثواب.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هذه الآية جمعت المؤمنين كلهم ، سواء الشهداء
وغيرهم ، وقَلَّما ذكر الله فضلا ذكر (10) به الأنبياء وثوابا أعطاهم إلا ذكر ما
أعطى الله المؤمنين من بعدهم.
وقوله : { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا
أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ } هذا كان يوم "حمراء الأسد" ، وذلك أن المشركين
لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين كرُّوا راجعين إلى بلادهم ، فلما استمروا (11)
في سيرهم تَنَدّمُوا لم لا تَمَّموا على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة. فلما بلغ
ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم ليُرْعِبَهم
ويريهم أن بهم قُوّةً وجلدا ، ولم يأذنْ لأحد سوى من حضر الوقعة يوم أحد ، سوى
جابر بن عبد الله رضي الله عنه - لما سنذكره - فانتدب المسلمون على ما بهم من
الجراح والإثخان طاعة لله [عز وجل] (12) ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) زيادة في جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "إلى آخر الآية".
(2) في أ : "فرحين" وهو خطأ ، والصواب ما أثبتناه.
(3) في جـ ، ر ، أ : "ويستبشرون".
(4) في جـ ، ر ، أ ، و : "لحقهم".
(5) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(6) في جـ ، ر ، أ ، و : "غايبهم".
(7) في أ ، و : "القتال".
(8) زيادة من جـ ، ر.
(9) صحيح البخاري برقم (2801 ، 4095) وصحيح مسلم برقم (677).
(10) في جـ ، ر : "ذكرته".
(11) في أ : "استقروا".
(12) زيادة من و.
(2/165)
قال
ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو
، عن عكرمة قال : لما رجع المشركون عن أحد قالوا : لا محمدا قتلتم ، ولا الكواعب
أردفتم ، بئسما (1) صنعتم ، ارجعوا. فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فندب
المسلمين فانتدبوا حتى بلغ حَمْراء الأسد - أو : بئر أبي عيينة (2) - الشك من
سفيان - فقال المشركون : نرجع من قابل. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت
تعد (3) غزوة ، فأنزل (4) الله عز وجل : { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ }
ورواه ابن مَرْدويه من حديث محمد بن منصور ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن
عكرمة ، عن ابن عباس فذكره (5).
وقال محمد بن إسحاق : كان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال ، فلما كان الغد من يوم
الأحد لستّ عشرةَ ليلة مضت من شوال ، أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الناس بطلب العدو ، وأذن مؤذنه ألا يخرج (6) معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالأمس.
فكلمه جابر بن عبد الله بن عَمْرو بن حرام فقال : يا رسول الله ، إن أبي كان
خَلَّفني على أخوات لي سَبْع وقال : يا بَنَيّ ، إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك
هؤلاء النّسوةَ لا رجلَ فيهن ، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم على نفسي ، فتخلّف على أخواتك ، فتخلفت عليهن ، فأذن له رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، فخرج معه. وإنما خرج رسول الله مُرْهبا للعدو ، وليبلغهم أنه خرج
في طلبهم ليظنوا به قوةً ، وأن الذي أصابهم لم يُوهنْهم عن عدوهم.
قال ابن إسحاق : حدثني (7) عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أبي السائب مولى
عائشة بنت عثمان ؛ أن رجلا من أصحاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد
الأشهل ، كان شَهد أحدا قال : شهدتُ أحدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا
وأخي (8) فرجعنا جريحين ، فلما أذّن مُؤذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج
في طلب العدوّ ، قلتُ لأخي - أو قال (9) لي - : أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم ؟ والله ما لنا من دابَّة نركبها ، وما منّا إلا جريح ثَقيل ،
فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنت أيسر جراحا (10) منه ، فكان إذا
غُلب حملته عُقْبة ومشى عُقْبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون (11).
وقال البخاري : حدثنا محمد بن سلام ، حدثنا أبو معاوية ، عن هشام ، عن أبيه ، عن
عائشة رضي الله عنها : { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [مِنْ
بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا
أَجْرٌ عَظِيمٌ ] (12) } قالت (13) لعروة : يا ابن أختي ، كان أبواك منهم الزبير
وأبو بكر ، رضي الله عنهما ، لمّا أصاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ما أصابه يوم
أحد ، وانصرف عنه المشركون ، خاف أن يرجعوا فقال : "مَنْ يَرْجِعُ فِي
إثْرِهِمْ ؟" فانتدبَ منهم سبعون رجلا فيهم أبو بكر والزبير ، رضي الله
عنهما.
__________
(1) في جـ : "وبئس".
(2) في جـ ، أ ، و : "عتبة".
(3) في و : "بعد".
(4) في جـ ، ر ، أ ، و : "وأنزل".
(5) ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (11083) من طريق سفيان عن عمرو به.
(6) في جـ ، ر ، أ ، و : "يخرجن".
(7) في ر ، أ ، و : "فحدثني".
(8) في جـ ، ر ، أ ، و : "أخ لي".
(9) في ر : "وقال".
(10) في جـ ، ر ، أ ، "جرحا".
(11) السيرة النبوية لابن هشام (2/101) وتفسير الطبري (7/399 ، 400) كلاهما من
طريق ابن إسحاق به.
(12) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(13) في أ : "قال".
(2/166)
هكذا
رواه البخاري منفردا به ، بهذا السياق. وهكذا رواه الحاكم في مستدركه عن الأصَم ،
عن العباس الدوري ، عن أبي النضر ، عن أبى سعيد المؤدب ، عن هشام بن عروة ، به ،
ثم قال : صحيح ولم يخرجاه. كذا قال (1).
ورواه أيضا من حديث إسماعيل بن أبي خالد ، عن البَهِيّ ، عن عروة قال : قالت لي
عائشة : يا بُني ، إن أباك من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح.
ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه (2).
وروى ابن ماجة ، عن هشام بن عمّار ، وهُدْبَة بن عبد الوهاب عن سفيان بن عيينة ،
عن هشام بن عروة به وهكذا رواه سعيد بن منصور وأبو بكر الحميدي في مسنده عن سفيان
، به (3).
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه. حدثنا عبد الله بن جعفر من أصل كتابه ، أنبأنا سَمويه
، أنبأنا عبد الله بن الزبير ، أنبأنا سفيان ، أنبأنا هشام ، عن أبيه ، عن عائشة
قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنْ كَانَ أبَواك لَمن (4)
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ والرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ :
أبو بكر والزبير ، رضي الله عنهما" (5).
ورفْعُ هذا الحديث خطأ محض من جهة إسناده ، لمخالفته رواية (6) الثقات من وقْفه
على عائشة كما قدمناه ، ومن جهة معناه ، فإن الزبير ليس هو من آباء عائشة ، وإنما
قالت عائشة لعروة بن الزبير ذلك لأنه ابن أختها أسماء بنت أبي بكر الصديق ، رضي
الله عنهم.
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن سعد ، حدثني أبي ، [حدثني] (7) عَمي ، حدثني أبي ،
عن أبيه ، عن ابن عباس قال : إن الله قَذَفَ في قَلْب أبي سفيان الرُّعْب يوم أحد
بعد ما (8) كان منه ما كان ، فرجع إلى مكة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
"إنَّ أبَا سُفْيَانَ قَدْ أَصَابَ مِنْكُمْ طَرَفًا ، وَقَدْ رَجَعَ ،
وَقَذَفَ اللهُ فِي قَلْبِهِ الرُّعْبَ". وكانت وقعةُ أحد في شوال ، وكان
التجار يَقْدَمون المدينة في ذي القعدة ، فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مَرة ،
وإنهم قدموا بعد وقعة أحد (9) وكان أصاب المؤمنين القرح ، واشتكوا ذلك إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ، واشتد عليهم الذي أصابهم. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم
نَدَب الناس لينطلقوا معه ، ويتبعوا ما كانوا مُتَّبعين ، وقال : "إنَّمَا
يَرْتَحِلُونَ الآنَ فَيَأْتُونَ الْحَجَّ ولا يَقْدرُونَ عَلَى مِثْلِهَا حَتَّى
عَامٍ مُقْبِلٍ". فجاء الشيطان فخوف أولياءه فقال : إن الناس قد جمعوا لكم
فأبى عليه الناس أن يتبعوه ، فقال : "إنَّي ذَاهِبٌ وإنْ لمْ يَتْبَعْنِي
أحَدٌ". لأحضض الناس ، فانتدب معه أبو بكر الصديق ، وعمر ،
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4077) والمستدرك (2/298) وفيه أن المخاطب بقول عائشة عبد
الله بن الزبير وليس عروة ، كما في رواية البخاري.
(2) المستدرك (3/363).
(3) سنن ابن ماجة برقم (124).
(4) في جـ ، أ : "من".
(5) هذا الحديث لا يصح مرفوعا فهو مضطرب. وقد بين الحافظ ابن كثير وجه اضطرابه ،
وقد روى ابن جرير في تفسيره (7/402) أن عائشة قالت ذلك لعبد الله بن الزبير بنفس
هذا اللفظ ، فقد يكون الوهم من أحد الرواة أو من كتابه.
(6) في ر : "رواته".
(7) زيادة من جـ ، والطبري.
(8) في أ ، و : "الذي".
(9) في أ : "أحد في شوال".
(2/167)
وعثمان
، وعلي ، والزبير ، وسعد ، وطلحة ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن مسعود ، وحذيفة
بن اليمان ، وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلا فساروا في طلب أبي سفيان ، فطلبوا
حتى بلغوا الصفراء ، فأنزل الله [عز وجل] (1) { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ [الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ] } (2) (3).
ثم قال ابن إسحاق : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد
، وهي من المدينة على ثمانية أميال.
قال ابن هشام : واستعمل على المدينة ابن أم مَكْتوم فأقام بها الاثنين والثلاثاء
والأربعاء ، ثم رجع إلى المدينة. وقد مَر به - كما حدثني عبد الله بن أبي بكر -
معبد بن أبي مَعْبد الخزاعي ، وكانت خُزاعة - مسلمهم ومشركهم - عيبة نُصح لرسول
الله صلى الله عليه وسلم بتِهامة ، صَفْقَتُهم معه ، لا يخفون عنه شيئا كان بها ،
ومعبد يومئذ مشرك فقال : يا محمد ، أما والله لقد عَزّ علينا ما أصابك في أصحابك ،
ولوَددْنا أن الله عافاك فيهم. ثم خرج ورسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد
، حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالرَّوحاء ، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقالوا : أصبنا حَد أصحابه وقادتهم وأشرافهم ، ثم نرجع
قبل أن نستأصلهم.. لنُكرّنَّ على بقيتهم فَلَنَفْرُغَنَّ منهم. فلما رأى أبو سفيان
معبدا قال : ما وراءك يا معبد ؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جَمْع لم
أر مثله قط ، يتحرقون عليكم تحرقا ، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم ،
وندموا على ما صنعوا ، فيهم من الحَنَق عليكم شيء لم أر مثله قط. قال : ويلك. ما
تقول ؟ قال : والله ما أرى أن ترتحل (4) حتى ترى نواصي الخيل - قال : فوالله لقد
أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم. قال : فإني أنهاك عن ذلك. ووالله لقد حملني ما
رأيت على أن قلت فيهم أبياتا من شعر ، قال : وما قلت ؟ قال : قلت :
كادَتْ تُهدُّ منَ الأصوات رَاحلتي... إذْ سَالَت الأرضُ بالجُرْدِ الأبابيل...
تَرْدى بأسْدٍ كرام لا تَنَابلة... عنْد اللّقاء ولا ميل مَعَازيل (5)
فَظَلْتُ عَدْوا أظُنُّ الأرض مائلةً... لَمَّا سَمَوا برئيس غير مَخْذول...
فقلتُ : ويل ابن حَرْب من لقائكُمُ... إذا تَغَطْمَطَت البطحاء بالجيل (6)
إني نذير لأهل البَسْل ضَاحيَةً... لكل ذي إرْبَة منهم ومعقول...
من جَيْش أحمدَ لا وَخْشٍ تَنَابِلة... وليس يُوصف ما أنذرت بالقيل...
قال : فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه.
ومر به ركب من بني عبد القيس ، فقال : أين تريدون ؟ قالوا : نريدُ المدينة. قال :
ولم ؟ قالوا :
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(3) تفسير الطبري (7/402).
(4) في أ : "ترحل".
(5) في ر : "مغازيل".
(6) في و : "بالخيل".
(2/168)
بعكاظ
إذ وَافَيْتُمونا (1) قالوا : نعم. قال : فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا (2)
المسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم ، فمر الركب (3) برسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو بحمراء الأسد ، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه ، فقالوا : حسبنا
الله ونعم الوكيل (4).
وذكر ابن هشام عن أبي عُبيدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه
رجوعهم : "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سُوِّمَتْ لَهُمْ حِجَارَةٌ
لَوْ صُبِّحُوا بَها لَكَانُوا كَأَمْسِ الذَّاهِبِ" (5).
وقال الحسن البصري [في قوله] (6) { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ
مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ } إن أبا سفيِان وأصحابه أصابوا من
المسلمين ما أصابوا ورجعوا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنَّ أبَا
سُفْيَانَ قَدْ رَجَعَ وَقَدْ قَذَفَ اللهُ فِي قَلْبِهِ [الرُّعْبَ] (7) فمن
يَنْتَدبُ فِي طَلَبِهِ ؟" فقام النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر وعُمَر
، وعثمان ، وعلي ، وناس من أصحاب النبي (8) صلى الله عليه وسلم ، فاتبعوهم ، فبلغ
أبا سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم ، يطلبه فلقي عيرا من التجار فقال : ردُّوا
محمدا ولكم من الجُعْل كذا وكذا ، وأخْبروهم أني قد جمعت لهم جموعا ، وأنني راجع
إليهم. فجاء التجار فأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى
الله عليه وسلم : { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } فأنزل الله هذه
الآية.
وهكذا قال عِكْرِمة ، وقتادة وغير واحد : إن هذا السياق نزل في شأن [غزوة] (9)
حَمْراء الأسد" ، وقيل : نزلت في بَدْر الموعد ، والصحيح الأول.
وقوله : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا [وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ] (10) } أي : الذين توعدهم الناس [بالجموع] (11) وخوفوهم بكثرة الأعداء
، فما اكترثوا لذلك ، بل توكلوا على الله واستعانوا به { وَقَالُوا حَسْبُنَا
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }
قال البخاري : حدثنا أحمد بن يونس ، أراه قال : حدثنا أبو بكر ، عن أبي حَصين ، عن
أبي الضُّحَى ، عن ابن عباس : { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } قالها
إبراهيم عليه السلام حين أُلْقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين
قالوا : { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ
إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }
وقد رواه النسائي ، عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم وهارون بن عبد الله ، كلاهما عن
يحيى بن أبي بُكَير ، عن أبي بكر - وهو ابن عياش - به. والعجب أن الحاكم [أبا عبد
الله] (12) رواه من حديث أحمد بن يونس ، به ، ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم
يخرجاه (13).
ثم (14) رواه البخاري عن أبي غَسَّان مالك بن إسماعيل ، عن إسرائيل ، عن أبي حصين
، عن
__________
(1) في أ ، و : "إذا وافيتموها".
(2) في أ ، و : "جمعنا".
(3) في و : "الراكب".
(4) السيرة النبوية لابن هشام (2/102).
(5) السيرة النبوية لابن هشام (2/104).
(6) زيادة من جـ.
(7) زيادة من جـ ، أ ، و.
(8) في جـ ، أ ، و : "رسول الله".
(9) زيادة من جـ ، أ ، و.
(10) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(11) زيادة من جـ ، ر.
(12) زيادة من و.
(13) صحيح البخاري برقم (4563 ، 4564) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11081)
والمستدرك (2/298) وأقره الذهبي مع أن البخاري قد روى هذا الحديث من هذا الوجه.
(14) في جـ : "و".
(2/169)
أبي
الضُّحَى ، عن ابن عباس قال : كان آخر قول إبراهيم ، عليه السلام ، حين ألقي في
النار : { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } (1).
وقال عبد الرزاق : قال ابن عيينة : وأخبرني زكريا ، عن الشَّعْبِي ، عن عبد الله
بن عمرو قال : هي كلمة إبراهيم عليه السلام حين ألقي في البنيان. رواه ابن جرير.
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن مَعْمَر ، حدثنا إبراهيم بن موسى
الثوري (2) أخبرنا عبد الرحيم بن محمد بن زياد السكري ، أنبأنا أبو بكر بن عياش ،
عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له يوم
أحد : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم. فأنزل الله هذه الآية (3).
وروى أيضا بسنده عن محمد بن عُبَيد الله الرافعي ، عن أبيه ، عن جده أبي رافع أن
النبي صلى الله عليه وسلم وَجَّه عليا في نفر معه في طلب أبي سفيان ، فلقيهم
أعرابي من خزاعة فقال : إن القوم قد جمعوا لكم قالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل.
فنزلت فيهم هذه الآية.
ثم قال ابن مَرْدُويه : حدثنا دَعْلَجَ بن أحمد ، أخبرنا الحسن بن سفيان ، أنبأنا
أبو خَيْثَمَة مُصْعَب بن سعيد ، أنبأنا موسى بن أعين ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ،
عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إذَا وَقَعْتُمْ فِي الأمْرِ العظيمِ فَقُولُوا : حَسْبُنَا اللَّهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" (4).
هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا حَيْوَة بن شُرَيح وإبراهيم بن أبي العباس قالا حدثنا
بَقِيَّة ، حدثنا بَحِير (5) بن سَعْد ، عن خالد بن مَعْدان ، عن سيف ، عن عوف بن
مالك أنه حدثهم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قَضَى بين رجلين فقال المقضي عليه
لما أدبر : حسبي الله ونعم الوكيل. فقال رسول الله (6) صلى الله عليه وسلم :
"رُدُّوا عَلَيَّ الرَّجُلَ". فقال : "ما قلتَ ؟". قال : قلتُ
: حسبي الله ونعم الوكيل. فقال رسول الله (7) صلى الله عليه وسلم : "إِنَّ
اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ ، فَإِذَا
غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ : حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ".
وكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث بقية عن بَحِير ، عن خالد ، عن سَيْف - وهو
الشامي ، ولم ينسب - عن عوف بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه (8).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أسباط ، حدثنا مُطَرِّف ، عن عَطية ، عن ابن عباس [في
قوله : { فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ } [المدثر : 8 ] قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدْ الْتَقَمَ
الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ ، يَسْمَعُ مَتَى يُؤْمَرُ فَيَنْفُخُ". فقال
أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : فما نقول (9) ؟ قَالَ : "قُولُوا :
حَسْبُنَا اللَّهُ
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4564).
(2) في أ : و : "التوزي".
(3) ورواه الخطيب في تاريخ بغداد (11/86) من طريق إبراهيم بن موسى الجوزي وهو الثوري
عن عبد الرحيم بن محمد السكري به.
(4) ذكره السيوطي في الدر المنثور (2/390) وفي الجامع الصغير وعزاه إلى ابن مردويه
، ورمز له المناوي بالضعف ، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (829).
(5) في أ : "يحيى".
(6) في أ : "النبي".
(7) في أ : "النبي".
(8) المسند (6/24) وسنن أبي داود برقم (3627) والنسائي في السنن الكبرى برقم
(10462).
(9) في و : "فما تأمرنا".
(2/170)
وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا".
وقد روي هذا من غير وجه ، وهو حديث جيد (1) وروينا عن أم المؤمنين عائشة وزينب
[بنت جحش] (2) رضي الله عنهما ، أنهما تفاخرتا فقالت زينب : زَوجني الله وزوجَكُن
أهاليكن (3) وقالت عائشة : نزلت براءتي من السماء في القرآن. فَسَلَّمَت لها زينب
، ثم قالت : كيف قلتِ حين ركبت راحلة صَفْوان بن المعطل ؟ فقالت : قلت : حسبي الله
ونعم الوكيل ، فقالت زينب : قلت كلمة المؤمنين (4).
ولهذا قال تعالى : { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ
يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } أي : لما توكلوا على الله كفاهم ما أهمَّهُمْ وَرد عنهم بأس
من أراد كيدهم ، فرجعوا إلى بلدهم { بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ
يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } مما أضمر لهم عدوهم { وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ }
قال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو بكر بن داود الزاهد ، حدثنا
محمد بن نُعَيم ، حدثنا بِشْر بن الحكم ، حدثنا مُبشِّر بن عبد الله بن رَزِين ،
حدثنا سفيان بن حسين ، عن يعلى بن مسلم ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قول الله
تعالى (5) { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ } قال : النعمة أنهم
سلمُوا ، والفضل أن عيرا مرت ، وكان في أيام الموسم ، فاشتراها رسولُ الله صلى
الله عليه وسلم فربح فيها مالا فقسمه بين أصحابه.
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد في قوله : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ
إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ } قال : [هذا] (6) أبو سفيان ،
قال لمحمد صلى الله عليه وسلم : موعدكم بدر ، حيثُ قتلتم أصحابنا. فقال محمد صلى
الله عليه وسلم : "عَسَى". فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعِده
(7) حتى نزل بدرًا ، فوافقوا السوق فيها وابتاعوا (8) فذلك قول الله عز وجل : {
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ
[وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ] (9) } قال : وهي
غزوة بدر الصغرى.
رواه ابن جرير. وروى [أيضا] (10) عن القاسم ، عن الحُسَين ، عن حجاج ، عن ابن
جُرَيج قال : لما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعد أبي سفيان ، فجعلوا
يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش ، فيقولون (11) قد جمعوا لكم يكيدونهم بذلك ،
يريدون أن يرْعَبُوهم (12) فيقول المؤمنون : { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ } حتى قدموا بدرا ، فوجدوا أسواقها عافية لم ينازعهم فيها أحد ، قال :
رَجُل (13) من المشركين فأخبر أهل مَكَّة بخيل محمد ، وقال في ذلك :
__________
(1) المسند (1/326).
(2) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(3) في جـ ، ر ، أ ، و : "أهلوكن".
(4) رواه الطبري في تفسيره (10/88 ، 89) ط "الفكر" من طريق محمد بن عبد
الله بن جحش ، وسيأتي إن شاء الله في تفسير سورة النور.
(5) في ر : "عز وجل".
(6) زيادة من جـ ، ر.
(7) في جـ : "بموعده".
(8) في و : "فابتاعوا".
(9) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(10) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(11) في جـ : "فيقولون لهم".
(12) في و : "يرهبوهم".
(13) في جـ ، ر ، أ : "قال : وقدم رجل".
(2/171)
نَفَرَتْ
قَلُوصِي من خُيول محمد... وَعَجْوَةٍ منْثُورةٍ كالعُنْجُدِ...
واتَّخَذَتْ ماء قُدَيْدٍ مَوْعدي
ثم قال ابن جرير : هكذا أنشدنا القاسم ، وهو خطأ ، وإنما هو : قَد نَفَرَتْ من
رفْقَتي محمد... وَعَجْوَة مِنْ يَثْربٍ كَالعُنْجُد...
تَهْوى (1) عَلَى دين أبِيها الأتْلَد... قَدْ جَعَلَتْ ماء قُدَيْدٍ مَوْعدي...
وَمَاء ضَجْنَان لَهَا ضُحَى الغَد (2)
ثم قال تعالى : { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } أي :
يخوفكم أولياءه ، ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة ، قال الله تعالى : { فَلا
تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [أي : ف] (3) إذا سول لكم
وأوهمكم فتوكلوا علي والجؤوا إلي ، فأنا كافيكم وناصركم عليهم ، كما قال تعالى : {
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ }
إلى قوله : { قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ }
[الزمر : 36 - 38] وقال تعالى : { فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ
كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } [النساء : 76] وقال تعالى : { أُولَئِكَ
حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
[المجادلة : 19] وقال تعالى : { كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ
اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [المجادلة : 21] وقال [تعالى] (4) { وَلَيَنْصُرَنَّ
اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ } [الحج : 40] وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ] (5) }
[محمد : 7] وقال تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ
الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ }
[غافر : 51 ، 52].
__________
(1) في جـ ، ر ، أ ، و : "فهو".
(2) تفسير الطبري (7/411 ، 412).
(3) زيادة من ر ، أ ، و.
(4) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(5) زيادة من جـ ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(2/172)
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
{
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا
اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ
وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإيمَانِ
لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي
لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ
لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ
مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ
اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ
بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
(180) }
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ
فِي الْكُفْرِ } وذلك من شدة حرصه على الناس كان يحزنه مُبَادَرَة الكفار إلى
المخالفة والعناد والشقاق ، فقال تعالى : ولا يحزنك ذلك { إِنَّهُمْ لَنْ
يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي
الآخِرَةِ } أي : حكمته فيهم أنه يريد بمشيئته وقدرته ألا يجعل لهم نصيبا في
الآخرة { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }.
ثم قال تعالى مخبرا عن ذلك إخبارا مقررًا : { إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا
الْكُفْرَ بِالإيمَانِ } أي : استبدلوا هذا بهذا { لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا
} أي : ولكن يضرون أنفسهم { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
ثم قال تعالى : { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ
خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ
عَذَابٌ مُهِينٌ } كقوله تعالى : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ
مَالٍ وَبَنِينَ. نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ }
[المؤمنون : 55 ، 56] ، وكقوله { فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ
سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ } [القلم : 44] ، وكقوله { فَلا
تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ
كَافِرُونَ } [التوبة : 55].
ثم قال تعالى : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ
عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } أي : لا بُد أن يعقد سببا
من المحنة ، يظهر فيه وليه ، ويفتضح فيه عدوه. يُعرف به المؤمن الصابر ، والمنافق
الفاجر. يعني بذلك يوم أحد الذي امتحن به المؤمنين ، فظهر به إيمانهم وصبرهم
وجلدهم [وثباتهم] (1) وطاعتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وهتك به ستر
المنافقين ، فظهر مخالفتهم ونُكُولهم عن الجهاد وخيانتهم لله ولرسوله [صلى الله
عليه وسلم] (2) ولهذا قال : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى
مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ }.
قال مجاهد : ميّز بينهم يوم أحد. وقال قتادة : مَيَّزَ بينهم بالجهاد والهجرة.
وقال السُّدِّي : قالوا : إنْ كان محمد صادقا فَلْيُخْبِرنا عَمّن يؤمن به منا ومن
يَكْفُر. فأنزل الله : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا
أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى[ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } أي : حتى] (3)
يُخْرج المؤمن من الكافر. روى ذلك كلَّه ابنُ جرير :
ثم قال : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } أي : أنتم لا
تعلمون غيبَ الله في خلقه حتى يُميز (4) لكم المؤمن من المنافق ، لولا ما يعقده
(5) من الأسباب الكاشفة عن ذلك.
ثم قال : { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ } كقوله {
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ
رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا } [الجن
: 26 ، 27].
ثم قال : { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } أي : أطيعوا الله ورسوله واتبعوه
فيما شرع (6) لكم { وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ }.
__________
(1) زيادة من ر ، أ ، و.
(2) زيادة من و.
(3) زيادة من جـ.
(4) في ر ، و : "يتميز".
(5) في ر : "يعتقدوه".
(6) في ر ، أ ، و : "شرعه".
(2/173)
وقوله
: { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ } أي : لا يحسبن (1) البخيل أن جمعه
المال ينفعه ، بل هو مَضّرة عليه في دينه - وربما كان - في دنياه.
ثم أخبر بمآل أمر ماله (2) يوم القيامة فقال : " سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا
بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " قال البخاري :
حدثنا عبد الله بن منير ، سمع أبا النضر ، حدثنا عبد الرحمن - هو ابن عبد الله بن
دينار - عن أبيه ، عن أبي صالح ، عن أبي هُريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ له
شُجَاعًا أقرعَ له زبيبتان ، يُطَوّقُه يوم القيامة ، يأخذ (3) بلِهْزِمَتَيْه -
يعني بشدقَيْه - يقول : أنا مَالُكَ ، أنا كَنزكَ" ثم تلا هذه الآية : { وَلا
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ
خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ } إلى آخر الآية.
تفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه ، وقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق
الليث بن سعد ، عن محمد بن عَجْلان ، عن القَعْقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، به
(4).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حُجَين بن المثنى ، حدثنا عبد العزيز بن عبد
الله بن أبي سلمة ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمَر ، عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : "إن الَّذِي لا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ يُمَثِّلُ اللهُ لَهُ
مَالَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبتَان ، ثم يُلْزِمهُ
يطَوّقه ، يَقُول : أنَا كَنزكَ ، أنَا كَنزكَ".
وهكذا رواه النسائي عن الفضل بن سهل ، عن أبي النضر هاشم بن القاسم ، عن عبد
العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة ، به (5) ثم قال النسائي : وروايةُ عبد العزيز ،
عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، أثبتُ من رواية عبد الرحمن ، عن أبيه عبد
الله بن دينار ، عن أبي صالح ، عن أبى هريرة.
قلت : ولا منافاة بينهما (6) فقد يكون عند عبد الله بن دينار من الوجهين ، والله
أعلم. وقد ساقه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويَه من غير وجه ، عن أبي صالح ، عن أبي
هريرة. ومن حديث محمد بن أبي حميد ، عن زياد الخطمي ، عن أبي هريرة ، به.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن جامع ، عن أبي وائل ، عن عبد الله
، عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ قال : " مَا مِنْ عَبْدٍ لا يُؤَدِّي
زَكَاةَ مَالِهِ إلا جُعِلَ لَهُ شُجَاعٌ أقْرَعُ يَتْبَعُهُ ، يَفِرّ منه وهو
يَتْبَعُه فَيقُولُ : أنَا كَنْ ". ثُمَّ قرأ عبد الله مصداقه من كتاب الله :
{ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }.
وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة ، من حديث سفيان بن عيينة ، عن جامع بن أبي
راشد ، زاد الترمذي : وعبد الملك بن أعين ، كلاهما عن أبي وائل شقيق بن سلمة ، عن
عبد الله بن مسعود ، به. ثم قال الترمذي : حسن صحيح. وقد رواه الحاكم في مستدركه ،
من حديث أبي بكر بن عياش وسفيان الثوري ، كلاهما عن أبي إسحاق السَّبيعي ، عن أبي
وائل ، عن ابن مسعود ، به (7) ورواه ابن جرير من غير وجه ، عن ابن مسعود ، موقوفا.
__________
(1) في : "تحسبن".
(2) في أ : "أمره إليه".
(3) في أ ، و : "فيأخذ".
(4) صحيح البخاري برقم (1403 ، 4565).
(5) المسند (2/98) وسنن النسائي (5/38).
(6) في و : "بين الروايتين".
(7) المسند (1/377) وسنن الترمذي برقم (3012) وسنن النسائي (5/11) وسنن ابن ماجة
برقم (1784) والمستدرك (2/298).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق