الجمعة، 18 أغسطس 2023

تفسير سورة البقرة الايات من 275 الي اية 268.

تفسير سورة  البقرة الايات من 275 الي اية 268. والاخر

فيها تحريم التعامل بالربا وذم فاعليه

 


الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)

البقرة - تفسير ابن كثير

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)

{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) }

لما ذكر تعالى الأبرار المؤدين النفقات، المخرجين الزكوات، المتفضلين بالبر والصلات لذوي الحاجات والقرابات في جميع الأحوال والآنات -شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات، فأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم، فقال: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له؛ وذلك أنه يقوم قياما منكرًا. وقال ابن عباس: آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يُخْنَق. رواه ابن أبي حاتم، قال: وروي عن عوف بن مالك، وسعيد بن جبير، والسدي، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، نحو ذلك.

وحكي عن عبد الله بن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، ومقاتل بن حيان أنهم قالوا في قوله: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } يعني: لا يقومون يوم القيامة. وكذا قال ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، والضحاك، وابن زيد.

وروى ابن أبي حاتم، من حديث أبي بكر بن أبي مريم، عن ضمرة بن حبيب، عن ابن عبد الله بن مسعود، عن أبيه أنه كان يقرأ: "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس يوم القيامة "

وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا ربيعة بن كلثوم، حدثنا أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب. وقرأ: { لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } قال: وذلك حين يقوم من قبره.

  وفي حديث أبي سعيد في الإسراء، كما هو مذكور في سورة سبحان: أنه، عليه السلام (1) مر ليلتئذ بقوم لهم أجواف مثل البيوت، فسأل عنهم، فقيل: هؤلاء أكلة الربا. رواه البيهقي مطولا.

وقال ابن ماجة: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا الحسن بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي الصلت، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت، فيها الحيات ترى من خارج بطونهم. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا".

ورواه الإمام أحمد، عن حسن وعفان، كلاهما عن حماد بن سلمة، به (2) . وفي إسناده ضعف.

وقد روى البخاري، عن سَمُرَة (3) بن جندب في حديث المنام الطويل: "فأتينا على نهر-حسبت أنه كان يقول: أحمر مثل الدم -وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح، [ما يسبح] (4) ثم يأتي ذلك الذي قد جمع الحجارة عنده فيفغر له فاه فيلقمه (5) حجرًا" وذكر في تفسيره: أنه آكل الربا (6) .

وقوله: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } أي: إنما جُوزُوا بذلك لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه، وليس هذا قياسًا منهم للربا على البيع؛ لأن المشركين لا يعترفون (7) بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن، ولو كان هذا من باب القياس لقالوا: إنما الربا مثل البيع، وإنما قالوا: { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } أي: هو نظيره، فلم حرم هذا وأبيح هذا؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع، أي: هذا مثل هذا، وقد أحل هذا وحرم هذا!

وقوله تعالى: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } يحتمل أن يكون من تمام الكلام (8) ردًا عليهم، أي: قالوا: ما قالوه من الاعتراض، مع علمهم بتفريق الله بين هذا وهذا حكما، وهو الحكيم العليم الذي لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها، وما ينفع عباده فيبيحه لهم، وما يضرهم فينهاهم عنه، وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها الطفل؛ ولهذا قال: { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ } أي: من بلغه نهي الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه. فله ما سلف من المعاملة، لقوله: { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ } [المائدة : 95] وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "وكل ربًا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، وأول ربا أضع ربا العباس" (9) ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية، بل عفا عما سلف، كما قال

__________

(1) في جـ: "أنه عليه الصلاة والسلام".

(2) سنن ابن ماجة برقم (2273) والمسند (2/353).

(3) في جـ، أ: "عن سلمة".

(4) زيادة من صحيح البخاري (7047).

(5) في جـ: "فألقمه".

(6) صحيح البخاري برقم (7047).

(7) في جـ: "لا يعرفون".

(8) في جـ: "يحتمل أن يكون من كلام الله".

(9) قال الشيخ أحمد شاكر، رحمه الله، في عمدة التفسير (2/189): "وهم الحافظ ابن كثير، رحمه الله، فإن هذا لم يكن له يوم فتح مكة، بل كان في حجة الوداع في خطبته صلى الله عليه وسلم بعرفه". قلت: جاء هذا مصرحا في رواية عمرو بن الأحوص قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول: "ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع. . . " فذكر الحديث، رواه أبو داود في السنن برقم (3334) والترمذي في السنن برقم (3087).

(1/709)

تعالى: { فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ }

قال سعيد بن جبير والسدي: { فَلَهُ مَا سَلَفَ } فإنه (1) ما كان أكل من الربا قبل التحريم.

وقال ابن أبي حاتم: قرئ على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أخبرنا ابن وهب، أخبرني جرير بن حازم، عن أبي إسحاق الهمداني، عن أم يونس -يعني امرأته العالية بنت أيفع -أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لها أم محبة (2) أم ولد لزيد بن أرقم-: يا أم المؤمنين، أتعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم. قالت: فإني بعته عبدًا إلى العطاء بثمانمائة، فاحتاج إلى ثمنه، فاشتريته قبل محل الأجل بستمائة. فقالت: بئس ما شريت! وبئس ما اشتريت! أبلغي زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب قالت: فقلت: أرأيت إن تركت المائتين وأخذت الستمائة؟ قالت: نعم، { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ } (3) .

وهذا الأثر مشهور، وهو دليل لمن حرم مسألة العينة، مع ما جاء فيها من الأحاديث المقررة في كتاب الأحكام، ولله الحمد والمنة.

ثم قال تعالى: { وَمَنْ عَادَ } أي: إلى الربا ففعله بعد بلوغ نهي الله له عنه، فقد استوجب العقوبة، وقامت عليه الحجة؛ ولهذا قال: { فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

وقد قال أبو داود: حدثنا يحيى بن معين، أخبرنا عبد الله بن رجاء المكي، عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، عن أبي الزبير، عن جابر قال: لما نزلت: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يذر المخابرة، فليأذن بحرب من الله ورسوله" (4) .

ورواه الحاكم في مستدركه، من حديث ابن خثيم، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجه (5) (6) .

وإنما حرمت المخابرة وهي: المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، والمزابنة وهي: اشتراء الرطب في رؤوس النخل بالتمر على وجه الأرض، والمحاقلة وهي: اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض -إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها، حسمًا لمادة الربا؛ لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف. ولهذا قال الفقهاء: الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة. ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا، والوسائل الموصلة إليه، وتفاوت (7) نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم، وقد قال تعالى: { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف : 76] .

وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد (8) إلينا فيهن عهدًا ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا (9) ، يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا والشريعة شاهدة بأن كل

__________

(1) في جـ، و: "فله".

(2) في أ: و: "أم محنة".

(3) في هـ: "من" والمثبت من ج، أ هو الصواب.

(4) سنن أبي داود برقم (3406).

(5) في جـ، أ، و: "ولم يخرجاه".

(6) المستدرك (2/286) ووقع فيه: "ولم يخرجاه".

(7) في أ: "وتقارب".

(8) في جـ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد".

(9) رواه البخاري في صحيحه برقم (5588) ومسلم في صحيحه برقم (3032).

(1/710)

حرام فالوسيلة إليه مثله؛ لأن ما أفضى إلى الحرام حرام، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقد ثبت في الصحيحين، عن النعمان بن بشير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه (1) " (2) .

وفي السنن عن الحسن بن علي، رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" (3) . وفي الحديث الآخر: "الإثم ما حاك في القلب وترددت فيه النفس، وكرهت أن يطلع عليه الناس". وفي رواية: "استفت قلبك، وإن أفتاك الناس وأفتوك" (4) .

وقال الثوري: عن عاصم، عن الشعبي، عن ابن عباس قال: آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا. رواه [البخاري] (5) عن قبيصة، عنه (6) .

وقال أحمد، عن (7) يحيى، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أن عمر قال: من آخر ما نزل آية الربا (8) وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا، فدعوا الربا والريبة.

رواه (9) ابن ماجه (10) وابن مردويه.

وروى ابن مَرْدويه من طريق هياج بن بسطام، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة (11) عن أبي سعيد الخدري قال: خطبنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقال: إني لعلي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم وآمركم بأشياء لا تصلح لكم، وإن من آخر القرآن نزولا آية الربا، وإنه قد مات رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولم يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم.

وقد قال ابن ماجة: حدثنا عمرو بن علي الصيرفي، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن زبيد، عن إبراهيم، عن مسروق، عن عبد الله -هو ابن مسعود -عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الربا ثلاثة وسبعون بابا" (12) .

ورواه الحاكم في مستدركه، من حديث عمرو بن علي الفلاس، بإسناد مثله، وزاد: "أيسرها أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم". وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه (13) .

__________

(1) في و: "يوشك أن يخالط الحمى".

(2) صحيح البخاري برقم (52) وصحيح مسلم برقم (1599).

(3) سنن الترمذي برقم (2518) وسنن النسائي (8/327) وقد أطنب في الكلام عليه الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/278) ط. الرسالة.

(4) رواه أحمد في المسند (4/228) من طريق الزبير بن عبد السلام، عن أيوب، عن وابصة، رضي الله عنه.

(5) زيادة من جـ، أ، و.

(6) صحيح البخاري برقم (4544).

(7) في جـ: "حدثنا".

(8) في أ: "آخر ما أنزل الله الربا".

(9) في جـ: "ورواه".

(10) المسند (1/36) وسنن ابن ماجة برقم (2276) وقال البوصيري في الزوائد (2/198): "هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات".

(11) في جـ، أ: "عن أبي بصرة".

(12) سنن ابن ماجة برقم (2275) وقال البوصيري في الزوائد (2/198): "هذا إسناد صحيح".

(13) المستدرك (2/37).

(1/711)

يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)

وقال ابن ماجة: حدثنا عبد الله بن سعيد، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن أبي معشر، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الربا سبعون حوبا، أيسرها أن ينكح الرجل أمه" (1) .

وقال الإمام أحمد: حدثنا هُشَيْم، عن عباد بن راشد، عن سعيد بن أبي خَيرة (2) حدثنا الحسن -منذ نحو من أربعين أو خمسين سنة -عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا" قال: قيل له: الناس كلهم؟ قال: "من لم يأكله منهم ناله من غباره" وكذا رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة من غير وجه، عن سعيد بن أبي خيرة (3) عن الحسن، به (4) .

ومن هذا القبيل، وهو تحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مسلم بن صبيح، عن مسروق، عن عائشة قالت: لما نزلت الآيات من آخر البقرة في الربا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، فقرأهُن، فحرم التجارة في الخمر.

وقد أخرجه الجماعة سوى الترمذي، من طرق، عن الأعمش به (5) وهكذا لفظ رواية البخاري، عند تفسير الآية: فحرم التجارة، وفي لفظ له، عن عائشة قالت: لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، ثم حرم التجارة في الخمر. قال بعض من تكلم على هذا الحديث من الأئمة: لما حرم الربا ووسائله حرم الخمر وما يفضي إليه من تجارة ونحو ذلك، كما قال، عليه السلام (6) في الحديث المتفق عليه: "لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها" (7) .

وقد تقدم في حديث علي وابن مسعود وغيرهما، عند لعن المحلل في تفسير قوله: { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَه } [البقرة : 230] قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله آكل الربا وموكله، وشاهديه وكاتبه". قالوا: وما يشهد عليه ويكتب إلا إذا أظهر في صورة عقد شرعي ويكون داخله فاسدا، فالاعتبار بمعناه لا بصورته؛ لأن الأعمال بالنيات، وفي الصحيح: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" (8) .

وقد صنف الإمام، العلامة أبو العباس ابن تيمية كتابا في "إبطال التحليل" (9) تضمن النهي عن تعاطي الوسائل المفضية إلى كل باطل، وقد كفى في ذلك وشفى، فرحمه الله ورضي عنه.

{ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) }

__________

(1) سنن ابن ماجة برقم (2274) وقال البوصيري في الزوائد (2/197): "هذا إسناد ضعيف".

(2) في أ: "عن سعيد بن جبير".

(3) في أ: "سعيد بن أبي جرة".

(4) المسند (2/494) وسنن أبي داود برقم (1331) وسنن النسائي (7/243) وسنن ابن ماجة برقم (2278).

(5) المسند (6/46) وصحيح البخاري برقم (4540 ، 4541) وصحيح مسلم برقم (1580) وسنن أبي داود برقم (3490) وسنن النسائي الكبرى برقم (11055) وسنن ابن ماجة برقم (3382).

(6) في و: "صلى الله عليه وسلم".

(7) رواه البخاري في صحيحه برقم (2223) ومسلم في صحيحه برقم (1582) من حديث عمر بن الخطاب، رضي الله عنه.

(8) صحيح مسلم برقم (2564) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.

(9) وهو كتاب متين طبع حديثا طبعة محققة.

(1/712)

يخبر الله تعالى أنه يمحق الربا، أي: يذهبه، إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، أو يَحْرمَه بركة ماله فلا ينتفع به، بل يعذبه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة. كما قال تعالى: { قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } [المائدة : 100] ، وقال تعالى: { وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّم } [الأنفال : 37] ، وقال: { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّه } [الآية] (1) [الروم : 39] .

وقال ابن جرير: في قوله: { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا } وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: "الربا وإن كثر فإلى قُلّ".

وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في مسنده، فقال: حدثنا حجاج [قال] (2) حدثنا شريك عن الركين بن الربيع [بن عميلة الفزاري] (3) عن أبيه، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل" (4) وقد رواه ابن ماجة، عن العباس بن جعفر، عن عمرو بن عون، عن يحيى بن أبي زائدة، عن إسرائيل، عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري، عن أبيه، عن ابن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة" (5) .

وهذا من باب المعاملة بنقيض المقصود، كما قال الإمام أحمد: حدثنا أبو (6) سعيد مولى بني هاشم، حدثنا الهيثم بن رافع الطاطري، حدثني أبو يحيى -رجل (7) من أهل مكة -عن فروخ مولى عثمان: أن عمر -وهو يومئذ أمير المؤمنين -خرج إلى المسجد، فرأى طعاما منثورًا. فقال: ما هذا الطعام؟ فقالوا: طعام جلب إلينا. قال: بارك الله فيه وفيمن جلبه. قيل: يا أمير المؤمنين، إنه قد احتكر. قال: ومن احتكره؟ قالوا: فروخ مولى عثمان، وفلان مولى عمر. فأرسل إليهما فدعاهما فقال: ما حملكما على احتكار طعام المسلمين؟ قالا يا أمير المؤمنين، نشتري بأموالنا ونبيع!! فقال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من احتكر على المسلمين (8) طعامهم ضربه الله بالإفلاس أو بجذام (9) ". فقال فروخ عند ذلك: أعاهد الله وأعاهدك ألا أعود في طعام أبدًا. وأما مولى عمر فقال: إنما نشتري بأموالنا ونبيع. قال أبو يحيى: فلقد رأيت مولى عمر مجذومًا.

ورواه ابن ماجة من حديث الهيثم بن رافع، به (10) . ولفظه: "من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس".

وقوله: { وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } قُرئ بضم الياء والتخفيف، من "ربا الشيء يربو" و "أرباه يربيه"

__________

(1) زيادة من جـ، أ، و.

(2) زيادة من جـ، أ، و.

(3) زيادة من جـ.

(4) المسند (1/395).

(5) سنن ابن ماجة برقم (2289) وقال البوصيري في الزوائد (2/199): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".

(6) في أ: "حدثنا ابن".

(7) في جـ: "رجل خرج".

(8) في أ: "على الناس".

(9) في جـ: "والجذام".

(10) المسند (1/21) وسنن ابن ماجة برقم (2155).

(1/713)

أي: كثّره ونماه ينميه. وقرئ: "ويُرَبِّي" بالضم والتشديد، من التربية، كما قال البخاري: حدثنا عبد الله بن منير، سمع أبا النضر، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله ليقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فَلُوَّه، حتى يكون مثل الجبل".

كذا رواه في كتاب الزكاة. وقال في كتاب التوحيد: وقال خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، عن عبد الله بن دينار، فذكر بإسناده، نحوه (1) .

وقد رواه مسلم في الزكاة عن أحمد بن عثمان بن حكيم، عن خالد بن مخلد، فذكره (2) . قال البخاري: ورواه مسلم بن أبي مريم، وزيد بن أسلم، وسهيل، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قلت: أما رواية مسلم بن أبي مريم: فقد تفرد البخاري بذكرها، وأما طريق زيد بن أسلم: فرواها مسلم في صحيحه، عن أبي الطاهر بن السرح، عن ابن وهب، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، به (3) . وأما حديث سهيل فرواه مسلم، عن قتيبة، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن سهيل، به (4) . والله أعلم.

قال البخاري: وقال ورقاء عن ابن دينار، عن سعيد بن يسار (5) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم (6) .

وقد أسند هذا الحديث من هذا الوجه الحافظ أبو بكر البيهقي، عن الحاكم وغيره، عن الأصم، عن العباس المروزي (7) عن أبي النضر هاشم بن القاسم، عن ورقاء -وهو ابن عمر اليشكري -عن عبد الله بن دينار، عن سعيد بن يسار (8) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمينه، فيربيها لصاحبها، كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل أحد" (9) .

وهكذا روى هذا الحديث مسلم، والترمذي، والنسائي جميعًا، عن قتيبة، عن الليث بن سعد، عن سعيد المقبري. وأخرجه النسائي -من رواية مالك، عن يحيى بن سعيد الأنصاري -ومن طريق يحيى القطان، عن محمد بن عجلان، ثلاثتهم عن سعيد بن يسار أبي الحباب المدني، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره (10) .

وقد روي عن أبي هريرة من وجه آخر، فقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي،

__________

(1) صحيح البخاري برقم (1410) وبرقم (7430).

(2) صحيح مسلم برقم (1014).

(3) صحيح مسلم برقم (1014).

(4) صحيح مسلم برقم (1014).

(5) في أ: "بن بشار".

(6) صحيح البخاري برقم (1410 ، 7430).

(7) في أ، و: "الدوري".

(8) في أ: "بن بشار".

(9) السنن الكبرى للبيهقي (4/176).

(10) صحيح مسلم برقم (1014) وسنن الترمذي برقم (661) وسنن النسائي الكبرى برقم (7735).

(1/714)

حدثنا وَكِيع، عن عباد بن منصور، حدثنا القاسم بن محمد قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره -أو فلوه -حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد". وتصديق ذلك في كتاب الله: { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } .

وكذا رواه أحمد، عن وكيع، وهو في تفسير وكيع. ورواه الترمذي، عن أبي كُرَيْب، عن وكيع، به (1) وقال: حسن صحيح، وكذا رواه الثوري عن عباد (2) بن منصور، به. ورواه أحمد أيضا، عن خلف بن الوليد، عن ابن المبارك، عن عبد الواحد بن ضمرة وعباد بن منصور كلاهما عن أبي نضرة، عن القاسم، به (3) .

وقد رواه ابن جرير، عن محمد بن عبد الملك بن إسحاق (4) عن عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن أيوب، عن القاسم بن محمد، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد إذا تصدق من طيب، يقبلها الله منه، فيأخذها بيمينه، ويُرَبِّيها كما يربي أحدكم مُهْره أو فصيله (5) وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربو في يد الله -أو قال: في كف الله -حتى تكون مثل أحد، فتصدقوا" (6) .

وهكذا رواه أحمد، عن عبد الرزاق (7) . وهذا طريق غريب صحيح الإسناد، ولكن لفظه عجيب، والمحفوظ ما تقدم. وروي عن عائشة أم المؤمنين، فقال الإمام أحمد:

حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد، عن ثابت، عن القاسم بن محمد، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة، كما يربي أحدكم فَلُوَّه أو فصيله، حتى يكون مثل أحد". تفرد به أحمد من هذا الوجه (8) .

وقال البزار: حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور، حدثنا إسماعيل، حدثني أبي، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الضحاك بن عثمان، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل ليتصدق بالصدقة من الكسب الطيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فيتلقاها الرحمن بيده فيربيها، كما يربي أحدكم فلوه -أو وَصيفه -أو قال: فصيله" ثم قال: لا نعلم أحدًا رواه عن يحيى بن سعيد بن عمرة إلا أبو أويس (9) .

وقوله: { وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } أي: لا يحب كفور القلب أثيم القول والفعل، ولا بد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة، وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من التكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل، بأنواع المكاسب

__________

(1) المسند (2/471) وسنن الترمذي برقم (662).

(2) في جـ، أ: "عن حماد".

(3) المسند (2/404).

(4) في أ، و: "عن محمد بن عبد الملك زنجويه".

(5) في جـ، أ: "أو فلوه".

(6) تفسير الطبري (6/19).

(7) المسند (2/268).

(8) المسند (6/251).

(9) مسند البزار برقم (931) "كشف الأستار" وقال الحافظ ابن حجر: "أبو أويس لين، وقد ذكر البزار أنه تفرد به".

تنبيه: لم يقع في كشف الأستار: "عن الضحاك، عن أبي هريرة"؛ وذلك لأنه مخرج في الصحيحين فليس من الزوائد.

(1/715)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)

الخبيثة، فهو جحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل.

ثم قال تعالى مادحا للمؤمنين بربهم، المطيعين أمره، المؤدين شكره، المحسنين إلى خلقه في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، مخبرًا عما أعد لهم من الكرامة، وأنهم يوم القيامة من التبعات آمنون، فقال: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ }

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) }

يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بتقواه، ناهيًا لهم عما يقربهم إلى سخطه ويبعدهم عن رضاه، فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ } أي: خافوه وراقبوه فيما تفعلون { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } أي: اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رؤوس الأموال، بعد هذا الإنذار { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي: بما شرع الله لكم من تحليل البيع، وتحريم الربا وغير ذلك.

وقد ذكر زيد بن أسلم، وابن جُرَيج ، ومقاتل بن حيان، والسدي: أن هذا السياق نزل في بني عمرو بن عمير من ثقيف، وبني المغيرة من بني مخزوم، كان بينهم ربا في الجاهلية، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه، طلبت ثقيف أن تأخذه منهم، فتشاوروا (1) وقالت بنو المغيرة: لا نؤدي الربا في الإسلام فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } فقالوا: نتوب إلى الله، ونذر ما بقي من الربا، فتركوه كلهم.

وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار، قال ابن جريج: قال ابن عباس: { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ } أي: استيقنوا بحرب من الله ورسوله. وتقدم من رواية ربيعة بن كلثوم، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب. ثم قرأ: { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ }

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } فمن كان مقيمًا على الربا لا ينزع عنه فحق (2) على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا هشام بن حسان، عن الحسن وابن سيرين، أنهما قالا والله إن هؤلاء الصيارفة لأكلة الربا، وإنهم قد أذنوا بحرب من الله ورسوله، ولو كان على الناس إمام عادل لاستتابهم، فإن تابوا وإلا وضع فيهم السلاح. وقال قتادة: أوعدهم الله بالقتل كما تسمعون، وجعلهم بهرجا أينما أتوا (3) ، فإياكم وما خالط هذه البيوع

__________

(1) في جـ، أ، و: "فتشاجروا".

(2) في أ: "يحق".

(3) في جـ، أ، و: "أينما ثقفوا".

(1/716)

من الربا؛ فإن الله قد أوسع الحلال وأطابه، فلا تلجئنكم إلى معصيته فاقة. رواه ابن أبي حاتم.

وقال الربيع بن أنس: أوعد الله آكل الربا بالقتل. رواه ابن جرير.

وقال السهيلي: ولهذا قالت عائشة لأم محبة، مولاة زيد بن أرقم، في مسألة العينة: أخبريه أن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بطل، إلا أن يتوب، فخصت الجهاد؛ لأنه ضد قوله: { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } قال: وهذا المعنى ذكره كثير (1) . قال: ولكن هذا إسناده إلى عائشة ضعيف.

ثم قال تعالى: { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ } أي: بأخذ الزيادة (2) { وَلا تُظْلَمُونَ } أي: بوضع رؤوس الأموال أيضا، بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص (3) منه.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن الحسين بن إشكاب، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن شيبان، عن شبيب بن غرقدة البارقي، عن سليمان بن الأحوص عن أبيه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: "ألا إن كل ربا كان في الجاهلية موضوع عنكم كله، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب، موضوع كله" كذا وجدته: سليمان بن الأحوص.

وقد قال ابن مردويه: حدثنا الشافعي، حدثنا معاذ بن المثنى، أخبرنا مسدد، أخبرنا أبو الأحوص، حدثنا شبيب بن غرقدة، عن سليمان بن عمرو، عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون" (4) .

وكذا رواه من حديث حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي حُرَّة (5) الرقاشي، عن عمرو -هو ابن خارجة -فذكره.

وقوله: { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } : يأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء، فقال: { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة } [أي]: (6) لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي.

ثم يندب (7) إلى الوضع عنه، ويعد على ذلك الخير والثواب الجزيل، فقال: { وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي: وأن تتركوا رأس المال بالكلية وتضعوه عن المدين. وقد وردت الأحاديث من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بذلك:

فالحديث الأول: عن أبي أمامة أسعد بن زرارة [النقيب]، (8) قال الطبراني: حدثنا عبد الله بن محمد بن شعيب الرجاني (9) حدثنا يحيى بن حكيم المقوم، حدثنا محمد بن بكر البرساني، حدثنا عبد الله بن أبي زياد، حدثني عاصم بن عبيد الله، عن أبي أمامة أسعد بن زرارة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله، فَلْيُيَسِّر على معسر أو ليضع عنه" (10) .

حديث آخر (11) : عن بريدة، قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا عبد الوارث، حدثنا محمد

__________

(1) في جـ، أ، و: "ذكره ابن بطال".

(2) في جـ، أ: "بأخذ الربا".

(3) في جـ، أ: "ولا نقصان".

(4) ورواه أبو داود في السنن برقم (3334) عن مسدد به، ورواه ابن ماجة في السنن برقم (3055) من طريق أبي الأحوص به.

(5) في جـ: "عن أبي حمزة".

(6) زيادة من جـ، أ، و.

(7) في جـ: "ثم ندب".

(8) زيادة من جـ، أ، و.

(9) في جـ، أ، و: "المرجاني".

(10) المعجم الكبير (1/304) وقال الهيثمي في المجمع (4/134): "عاصم ضعيف ولم يدرك أسعد بن زرارة".

(11) في جـ، أ: "الحديث الثاني".

(1/717)

بن جحادة، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من أنظر معسرًا فله بكل يوم مثله صدقة ". قال: ثم سمعته يقول: "من أنظر معسرًا فله بكل يوم مثلاه صدقة". قلت: سمعتك -يا رسول الله -تقول: "من أنظر معسرًا فله بكل يوم مثله صدقة". ثم سمعتك تقول: "من أنظر معسرا فله بكل يوم مثلاه صدقة"؟! قال: "له بكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين، فإذا حل الدين فأنظره، فله بكل يوم مثلاه صدقة" (1) .

حديث آخر (2) : عن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري، قال [الإمام] (3) أحمد: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا أبو جعفر الخطمي، عن محمد بن كعب القرظي: أن أبا قتادة كان له دين على رجل، وكان يأتيه يتقاضاه، فيختبئ (4) منه، فجاء ذات يوم فخرج صبي فسأله عنه، فقال: نعم، هو في البيت يأكل خزيرة فناداه: يا فلان، اخرج، فقد أخبرت أنك هاهنا فخرج إليه، فقال: ما يغيبك عني؟ فقال: إني معسر، وليس عندي. قال: آلله إنك معسر؟ قال: نعم. فبكى أبو قتادة، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من نفس عن غريمه -أو محا عنه -كان في ظل العرش يوم القيامة". ورواه مسلم في صحيحه (5) .

حديث آخر (6) : عن حذيفة بن اليمان، قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا الأخنس أحمد بن عمران (7) حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا أبو مالك الأشجعي، عن رِبْعي بن حراش، عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتى الله بعبد من عبيده يوم القيامة، قال: ماذا عملت لي في الدنيا؟ فقال: ما عملت لك يا رب مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها، قالها ثلاث مرات، قال العبد عند آخرها: يا رب، إنك أعطيتني فضل مال، وكنت رجلا أبايع الناس وكان من خلقي الجواز، فكنت أيسر على الموسر، وأنظر المعسر. قال: فيقول الله، عز وجل: أنا أحق من ييسر، ادخل الجنة".

وقد أخرجه البخاري، ومسلم، وابن ماجه -من طرق -عن ربعي بن حراش، عن حذيفة. زاد مسلم: وعقبة بن عامر وأبي مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم (8) بنحوه. ولفظ البخاري.

حدثنا هشام بن عمار، حدثنا يحيى بن حمزة، حدثنا الزهري، عن عبد الله بن عبد الله أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسرا قال لفتيانه: تجاوزوا عنه، لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه".

حديث آخر (9) : عن سهل بن حنيف، قال الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى، حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك، حدثنا عمرو بن ثابت، حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عبد الله بن سهل بن حنيف، أن سهلا حدثه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أعان مجاهدًا في سبيل الله أو غازيا، أو غارما في عسرته، أو مكاتبًا في

__________

(1) المسند (5/360).

(2) في جـ، أ: "الحديث الثالث".

(3) زيادة من جـ، أ، و.

(4) في جـ، أ: "فيختفي".

(5) المسند (5/308) ولم أقع عليه في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة، والله أعلم.

(6) في جـ، أ: "الحديث الرابع".

(7) هو أحمد بن عمران الأخنسى، والأخنسى نسبة انظر: الجرح والتعديل (2/64).

(8) صحيح البخاري برقم (2391 ، 2707 ، 3451) وصحيح مسلم برقم (1560).

(9) في جـ، أ: "الحديث الخامس".

(1/718)

رقبته، أظله الله (1) يوم لا ظل إلا ظله" ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه (2) .

حديث آخر (3) : عن عبد الله بن عمر، قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، عن يوسف بن صهيب، عن زيد العمي، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن تستجاب دعوته، وأن تكشف كربته، فليفرج عن معسر"، انفرد به أحمد (4) .

حديث آخر (5) : عن أبي مسعود عقبة بن عمرو، قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا أبو مالك، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة، أن رجلا أتى به الله عز وجل، فقال: ماذا عملت في الدنيا؟ فقال له الرجل: ما عملت مثقال ذرة من خير أرجوك بها، فقالها له ثلاثا، وقال في الثالثة: أي رب كنت أعطيتني فضلا من المال في الدنيا، فكنت أبايع الناس، فكنت أتيسر على الموسر، وأنظر المعسر. فقال تبارك وتعالى (6) نحن أولى بذلك منك، تجاوزوا عن عبدي. فغفر له. قال أبو مسعود: هكذا سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا رواه مسلم من حديث أبي مالك سعد بن طارق به (7) .

حديث آخر (8) : عن عمران بن حصين، قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، أخبرنا أبو بكر، عن الأعمش، عن أبي داود، عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له على رجل حق فأخره (9) كان له بكل يوم صدقة" (10) .

غريب من هذا الوجه وقد تقدم عن بريدة نحوه.

حديث آخر (11) : عن أبي اليسر كعب بن عمرو، قال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا زائدة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي، قال: حدثني أبو اليسر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أنظر معسرًا أو وضع عنه أظله الله، عز وجل، في ظله يوم لا ظل إلا ظله" (12) .

وقد أخرجه مسلم في صحيحه من وجه آخر، من حديث عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا، فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه غلام له معه ضمامة من صحف، وعلى أبي اليسر بردة ومعافري، وعلى غلامه بردة ومعافري فقال له أبي: يا عم، إني أرى في وجهك سفعة من غضب؟ قال أجل، كان لي على فلان بن فلان الحرامي (13) مال، فأتيت أهله فسلمت، فقلت: أثم هو؟ قالوا: لا فخرج علي ابن له جفر فقلت: أين أبوك؟ فقال: سمع صوتك فدخل أريكة أمي. فقلت: اخرج إلي فقد علمت أين أنت؟ فخرج، فقلت: ما حملك على أن اختبأت مني؟ قال: أنا والله أحدثك ثم لا أكذبك؛ خشيت (14) -والله -أن أحدثك فأكذبك، وأن أعدك فأخلفك، وكنت

__________

(1) في جـ، أ، و: "أظله الله في ظله".

(2) المستدرك (2/217)، وتعقبه الذهبي في التلخيص. قلت: "بل فيه عمرو بن ثابت وهو رافضي متروك".

(3) في جـ، أ: "الحديث السادس".

(4) المسند (2/23).

(5) في جـ، أ: "الحديث السابع".

(6) في جـ: "فقال تعالى وتبارك".

(7) المسند (4/118) وصحيح مسلم برقم (1560).

(8) في جـ، أ: "الحديث الثامن".

(9) في جـ: "حق فمن أخره".

(10) المسند (4/442).

(11) في ج، أ: "الحديث التاسع".

(12) المسند (3/427).

(13) في أ: "الحراني"، وفي و: "الحزامي".

(14) في جـ: "خفت".

(1/719)

صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت -الله -معسرًا قال: قلت: آلله؟ قال: قلتُ: آلله، قال: اللهِ. قلتُ: آلله؟ قال: الله. قال: فأتى بصحيفته فمحاها بيده، ثم قال: فإن وجدت قضاء فاقضني، وإلا فأنت في حل، فأشهد بصر عيني -ووضع أصبعيه على عينيه -وسمع أذني هاتين، ووعاه قلبي -وأشار إلى مناط (1) قلبه -رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "من أنظر معسرًا، أو وضع عنه أظله الله في ظله". وذكر تمام الحديث (2) .

حديث آخر (3) : عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، قال عبد الله بن الإمام أحمد [في مسند أبيه] (4) حدثني (5) أبو يحيى البزاز محمد بن عبد الرحيم، حدثنا الحسن بن بشر بن سلم الكوفي، حدثنا العباس بن الفضل الأنصاري، عن هشام بن زياد القرشي، عن أبيه، عن محجن مولى عثمان، عن عثمان، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: "أظل الله عينا في ظله، يوم لا ظل إلا ظله من أنظر معسرًا، أو ترك لغارم" (6) .

حديث آخر (7) : عن ابن عباس، قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا نوح بن جعونة السلمي الخراساني، عن مقاتل بن حيان، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، وهو يقول بيده هكذا -وأومأ عبد الرحمن بيده إلى الأرض-: "من أنظر معسرًا أو وضع له، وقاه الله من فيح جهنم، ألا إن عمل الجنة حزن بربوة -ثلاثًا -ألا إن عمل النار سهل بسهوة، والسعيد من وقي الفتن، وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد، ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيمانًا" تفرد به أحمد (8) .

طريق أخرى: قال الطبراني: حدثنا أحمد بن محمد البُورَاني قاضي الحَدِيَثة من ديار ربيعة، حدثنا الحُسَين بن علي الصُّدَائي، حدثنا الحكم بن الجارود، حدثنا ابن أبي المتئد -خال ابن عيينة -عن أبيه، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنظر معسرًا إلى ميسرته أنظره الله بذنبه إلى توبته" (9) .

ثم قال تعالى يعظ عباده ويذكرهم زوال الدنيا وفناء ما فيها من الأموال وغيرها، وإتيان (10) الآخرة والرجوع إليه تعالى ومحاسبته تعالى خلقه على ما عملوا، ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر، ويحذرهم عقوبته، فقال: { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ }

وقد روي أن هذه الآية آخرُ آية نزلت من القرآن العظيم، فقال ابن لَهِيعة: حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، قال: آخر ما نزل من القرآن كله (11) { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية تسع ليال، ثم مات يوم الاثنين، لليلتين خلتا من ربيع الأول. رواه ابن أبي حاتم.

__________

(1) في جـ، أ، و: "إلى نياط".

(2) صحيح مسلم برقم (306).

(3) في جـ، أ: "الحديث العاشر".

(4) زيادة من جـ، أ، و.

(5) في جـ: "حدثنا".

(6) زوائد المسند (1/73).

(7) في جـ، أ: "الحديث الحادي عشر".

(8) المسند (1/327).

(9) المعجم الكبير (11/151)، وقال الهيثمي في المجمع (4/135): "وفيه الحكم بن جارود ضعفه الأزدي، وشيخ الحكم وشيخ شيخه لم أعرفهما".

(10) في جـ، أ: "وإيثار".

(11) في أ: "من القرآن العظيم".

(1/720)

وقد رواه ابن مَرْدُويه من حديث المسعودي، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: آخر آية نزلت: { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ }

وقد رواه النسائي، من حديث يزيد النحوي، عن عكرمة، عن عبد الله بن عباس، قال: آخر شيء (1) نزل من القرآن: { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } (2) .

وكذا رواه الضحاك، والعَوْفي، عن ابن عباس، وروى الثوري، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: آخر آية أنزلت (3) : { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ } فكان بين نزولها [وبين] (4) موت النبي صلى الله عليه وسلم واحد وثلاثون يومًا.

وقال ابن جريج: قال ابن عباس: آخر آية نزلت: { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ } الآية.

قال ابن جريج: يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بعدها تسع ليال، وبدئ (5) يوم السبت ومات يوم الاثنين، رواه ابن جرير.

ورواه عطية عن أبي سعيد، قال: آخر آية أنزلت: { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } .

__________

(1) في جـ، أ: "آخر ما نزل".

(2) سنن النسائي الكبرى برقم (11057).

(3) في جـ، أ: "نزلت".

(4) زيادة من جـ، أ، و.

(5) في و: "ومرض".

==============================

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)

البقرة - تفسير ابن كثير

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) }

هذه الآية الكريمة أطول آية في القرآن العظيم، وقد قال الإمام أبو جعفر بن جرير:

حدثنا يونس، أخبرنا (1) ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال، حدثني سعيد بن المسيب: أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدَّيْن.

__________

(1) في جـ: "أنبأنا".

(1/721)

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مِهْران، عن ابن عباس أنه قال: لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول من جحد آدم، عليه السلام، أن الله لما خلق آدم، مسح ظهره فأخرِج منه ما هو ذارئ إلى يوم القيامة، فجعل يعرض ذريته عليه، فرأى فيهم رجلا يَزْهر، فقال: أي رب، من هذا؟ قال: هو ابنك داود. قال: أي رب، كم عمره؟ قال: ستون عامًا، قال: رب زد في عمره. قال: لا إلا أن أزيده من عمرك. وكان عمر آدم ألف سنة، فزاده أربعين عامًا، فكتب عليه بذلك كتابا وأشهد عليه الملائكة، فلما احتُضر آدم وأتته الملائكة قال: إنه قد بقي من عمري أربعون عامًا، فقيل له: إنك قد وهبتها لابنك داود. قال: ما فعلت. فأبرز الله عليه الكتاب، وأشهد عليه الملائكة".

وحدثنا أسود بن عامر، عن حماد بن سلمة، فذكره، وزاد فيه: "فأتمها الله لداود مائة، وأتمها لآدم ألف سنة" (1) .

وكذا رواه ابن أبي حاتم، عن يوسف بن حبيب، عن أبي داود الطيالسي، عن حماد بن سلمة [به] (2) .

هذا حديث غريب جدا، وعلي بن زيد بن جُدعان في أحاديثه نكارة. وقد رواه الحاكم في مستدركه بنحوه، من حديث الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب (3) عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة. ومن رواية داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن أبي هريرة. ومن طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. ومن حديث هشام (4) بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره بنحوه (5) .

فقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها، ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها، وأضبط للشاهد فيها، وقد نبه على هذا في آخر الآية حيث قال: { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا }

وقال سفيان الثوري، عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } قال: أنزلت في السَّلَم إلى أجل معلوم.

وقال قتادة، عن أبي حَسَّان (6) الأعرج، عن ابن عباس، قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله وأذن فيه، ثم قرأ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } رواه البخاري.

وثبت في الصحيحين من رواية سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نَجيح، عن عبد الله بن كثير، عن أبي المِنْهال، عن ابن عباس، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يُسْلفُون في الثمار السنتين والثلاث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم" (7) .

__________

(1) المسند (1/251 ، 252).

(2) زيادة من أ، و.

(3) في أ: "بن أبي ذئاب".

(4) في جـ، أ: "تمام".

(5) المستدرك (1/64 ، 2/586).

(6) في جـ، أ: "أبي حيان".

(7) صحيح البخاري برقم (2240) وصحيح مسلم برقم (1604).

(1/722)

وقوله: { فَاكْتُبُوهُ } أمر منه تعالى بالكتابة [والحالة هذه] (1) للتوثقة والحفظ، فإن قيل: فقد ثبت في الصحيحين، عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا أمَّة أمية لا نكتب ولا نحسب" (2) فما الجمع بينه وبين الأمر بالكتابة؟ فالجواب: أن الدّين من حيث هو غير مفتقر إلى كتابة أصلا؛ لأن كتاب الله قد سَهل الله ويسر حفظه على الناس، والسنن أيضًا محفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي أمر الله بكتابته إنما هو أشياء جزئية تقع بين الناس، فأمروا أمْر إرشاد لا أمر إيجاب، كما ذهب إليه بعضهم.

قال ابن جريج: من ادّان فليكتب، ومن ابتاع فليُشْهد.

وقال قتادة: ذكر لنا أن أبا سليمان المرعشيّ، كان رجلا صحب كعبا، فقال ذات يوم لأصحابه: هل تعلمون مظلوما دعا ربه فلم يستجب له؟ فقالوا: وكيف [يكون] (3) ذلك؟ قال: رجل باع بيعًا إلى أجل فلم يشهد ولم يكتب، فلما حل ماله جحده صاحبه، فدعا ربه فلم يستجب له؛ لأنه قد عصى ربه.

وقال أبو سعيد، والشعبي، والربيع بن أنس، والحسن، وابن جريج، وابن زيد، وغيرهم: كان ذلك واجبًا ثم نسخ بقوله: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ }

قال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا ليث، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هُرْمُز، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر "أن رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يُسْلفه ألف دينار، فقال: ائتني بشهداء أشهدهم. قال: كفى بالله شهيدًا. قال: ائتني بكفيل. قال: كفى بالله كفيلا. قال: صدقت. فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركبًا يقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركبًا، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة معها إلى صاحبها، ثم زَجج موضعها، ثم أتى بها البحر، ثم قال: اللهم إنك قد علمت أني استسلفت فلانًا ألف دينار، فسألني كفيلا فقلت: كفى بالله كفيلا. فرضي بذلك، وسألني شهيدًا، فقلت: كفى بالله شهيدًا. فرضي بذلك، وإني قد جَهِدْتُ أن أجد مركبًا أبعث بها إليه بالذي أعطاني فلم أجد مركبًا، وإني اسْتَوْدعْتُكَها. فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف، وهو في ذلك يطلب مركبًا إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبًا تجيئه بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبًا فلما كسرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الرجل الذي كان تَسَلف منه، فأتاه بألف دينار وقال: والله ما زلت جاهدًا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبًا قبل الذي أتيت فيه. قال: هل كنت بعثت إلي بشيء؟ قال: ألم أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل هذا الذي جئت فيه؟ قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة، فانصرف بألفك راشدًا".

وهذا إسناد صحيح (4) وقد رواه البخاري في سبعة مواضع من طرق صحيحة (5) معلقًا بصيغة

__________

(1) زيادة من جـ، أ، و.

(2) صحيح البخاري برقم (1913) وصحيح مسلم برقم (1080).

(3) زيادة من أ، و.

(4) المسند (2/348).

(5) في جـ، أ، و: "في صحيحه".

(1/723)

الجزم، فقال: وقال الليث بن سعد، فذكره (1) . ويقال: إنه رواه في بعضها عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، عنه.

وقوله: { لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ } أي: بالقسط والحق، ولا يَجُرْ في كتابته على أحد، ولا يكتب إلا ما اتفقوا عليه من غير زيادة ولا نقصان.

وقوله: { وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ } أي: ولا يمتنع من يعرف الكتابة إذا سُئِل أن يكتبَ للناس، ولا ضرورة عليه في ذلك، فكما علمه الله ما لم يكن يعلم، فَلْيتصدق على غيره ممن لا يحسن الكتابة وليكتب، كما جاء في الحديث: "إن من الصدقة أن تعين صانعًا أو تصنع لأخْرَق" (2) . وفي الحديث الآخر: "من كتم علمًا يَعْلَمه ألْجِمَ يوم القيامة بلجام من نار" (3) .

وقال مجاهد وعطاء: واجب على الكاتب أن يكتب.

وقوله: { وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ } أي: وليملل المدين على الكاتب ما في ذمته من الدين، وليتق الله في ذلك، { وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا } أي: لا يكتم منه شيئًا، { فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا } محجورًا عليه بتبذير ونحوه، { أَوْ ضَعِيفًا } أي: صغيرًا أو مجنونًا { أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ } إما لعي أو جهل بموضع صواب ذلك من خطئه. { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ }

وقوله { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُم } أمْرٌ بالإشهاد مع الكتابة لزيادة التوثقة، { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } وهذا إنما يكون في الأموال وما يقصد به المال، وإنما أقيمت المرأتان مقام الرجل لنقصان عقل المرأة، كما قال مسلم في صحيحه: حدثنا قتيبة، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن عمرو بن أبي عَمْرو، عن المَقْبُري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا معشر النساء، تصدقن وأكثرن الاستغفار، فإني رأيتكُن أكثر أهل النار" ، فقالت امرأة منهن جَزْلة: وما لنا -يا رسول الله -أكثر أهل النار (4) ؟ قال: "تُكْثرْنَ اللعن، وتكفُرْنَ العشير، ما رأيتُ من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لُب منكن". قالت: يا رسول الله، ما نقصان العقل والدين؟ قال: "أما نقصان عقلها فشهادة امرأتين تَعْدل شهادة رجل، فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي لا تصلي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين" (5) .

وقوله: { ممِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ } فيه دلالة على اشتراط العدالة في الشهود، وهذا مقيَّد، حَكَم به الشافعي على كل مطلق في القرآن، من الأمر بالإشهاد من غير اشتراط. وقد استدل من رد المستور بهذه الآية الدالة على أن يكون الشاهد عدلا مرضيًا.

وقوله: { أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا } يعني: المرأتين إذا نسيت الشهادة { فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى } أي: يحصل لها ذكرى بما وقع به الإشهاد، ولهذا قرأ آخرون: "فَتُذكر" بالتشديد من التذكار. ومن قال:

__________

(1) صحيح البخاري برقم (1498 ، 2291 ، 2404 ، 2430 ، 2744 ، 6261 ، 2063).

(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (2518) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

(3) رواه أحمد في المسند (2/304) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4) في جـ: "يا رسول الله وما لنا أكثر أهل النار".

(5) صحيح مسلم برقم (80).

(1/724)

إن شهادتها معها تجعلها كشهادة ذكر (1) فقد أبعد، والصحيح الأول. والله أعلم.

وقوله: { وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قيل: معناه: إذا دعوا للتحمل فعليهم الإجابة، وهو قول قتادة والربيع بن أنس. وهذا كقوله: { وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ } ومن هاهنا استفيد أن تَحَمّل الشهادة فرض كفاية.

وقيل -وهو مذهب الجمهور -: المراد بقوله: { وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } للأداء، لحقيقة قوله: { الشُّهَدَاء } والشاهد حقيقة فيمن (2) تحمَّل، فإذا دعي لأدائها (3) فعليه الإجابة إذا تعينت وإلا فهو فرض كفاية، والله أعلم.

وقال مجاهد وأبو مِجْلَز، وغير واحد: إذا دعيت لتشهد فأنت بالخيار، وإذا شهدت فدعيت (4) فأجب.

وقد ثبت في صحيح مسلم والسنن، من طريق مالك، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي عَمْرَة، عن زيد بن خالد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها" (5) .

فأما الحديث الآخر في الصحيحين: "ألا أخبركم بشر الشهداء؟ الذين يشهدون قبل أن يُستْشْهَدوا"، وكذا قوله: "ثم يأتي قوم تسبق أيمانُهم شهادتهم وتسبق شهادَتُهم أيمانهم". وفي رواية: "ثم يأتي قوم يَشْهَدُون ولا يُسْتَشْهَدون" (6) . فهؤلاء شهود الزور. وقد روي عن ابن عباس والحسن البصري: أنها تعم الحالين: التحَمّل والأداء.

وقوله: { وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِه } هذا من تمام الإرشاد، وهو الأمر بكتابة الحق صغيرًا كان أو كبيرًا، فقال: { وَلا تَسْأَمُوا } أي: لا تملوا أن تكتبوا الحق على أي حال كان من القلة والكثرة { إلى أجله }

وقوله { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا } أي: هذا الذي أمرناكم به من الكتابة للحق إذا كان مؤجلا هو { أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } أي: أعدل { وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ } أي: أثبت للشاهد إذا وضع خطه ثم رآه تذكر به الشهادة، لاحتمال أنه لو لم يكتبه أن ينساه، كما هو الواقع غالبًا { وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا } وأقرب إلى عدم الريبة، بل ترجعون عند التنازع إلى الكتاب الذي كتبتموه، فيفصل بينكم بلا ريبة.

وقوله: { إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا } أي: إذا كان البيع بالحاضر يدا بيد، فلا بأس بعدم الكتابة لانتفاء المحذور في تركها.

فأما الإشهاد على البيع، فقد قال تعالى: { وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُم } قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثني يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر، حدثني ابن لَهِيعة، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير

__________

(1) في و: "كشهادة رجل".

(2) في جـ: "فقد".

(3) في جـ: "فإن دعى إلى الإدلاء بها".

(4) في جـ: "وإذا دعيت".

(5) صحيح مسلم برقم (1719) وسنن أبي داود برقم (3596) وسنن الترمذي برقم (2295 ، 2296) وسنن النسائي الكبرى برقم (6029) وسنن ابن ماجة برقم (2364).

(6) صحيح البخاري برقم (6428) وصحيح مسلم برقم (2535).

(1/725)

في قول الله: { وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُم } يعني: أشهدوا على حقكم إذا كان فيه أجل أو لم يكن، فأشهدوا على حقكم على كل حال. قال: وروي عن جابر بن زيد، ومجاهد، وعطاء، والضحاك، نحو ذلك.

وقال الشعبي والحسن: هذا الأمر منسوخ بقوله: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ }

وهذا الأمر محمول عند الجمهور على الإرشاد والندب، لا على الوجوب. والدليل على ذلك حديث خُزَيمة بن ثابت الأنصاري، وقد رواه الإمام أحمد:

حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري، حدثني عمَارة بن خزيمة الأنصاري، أن عمه حدثه -وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسًا من أعرابي، فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه، حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النبي صلى الله عليه وسلم، فنادى الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت مبتاعًا هذا الفرس فابتَعْه، وإلا بعتُه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي، قال: "أو ليس قد ابتعته منك؟ " قال الأعرابي: لا والله ما بعتك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بل (1) قد ابتعته منك". فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى الله عليه وسلم والأعرابي وهما يتراجعان، فطفق الأعرابي يقول: هَلُم شهيدًا يشهد أني بايعتك. فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي: ويلك! إن النبي (2) صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول إلا حقًا. حتى جاء خزَيْمة، فاستمع لمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم ومراجعة الأعرابي يقول (3) هلم شهيدًا يشهد أني (4) بايعتك. قال خزيمة: أنا أشهد أنك قد بايعته. فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: "بم تشهد؟" فقال: بتصديقك يا رسول الله. فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شهادة خُزَيمة بشهادة رجلين.

وهكذا رواه أبو داود من حديث شعيب، والنسائي من رواية محمد بن الوليد الزبيري (5) كلاهما عن الزهري، به (6) نحوه.

ولكن الاحتياط هو الإشهاد، لما رواه الإمامان الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه والحاكم في مستدركه من رواية معاذ بن معاذ العنبري، عن شعبة، عن فراس، عن الشعبي، عن أبي بُرْدة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم: رجل له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل دفع مال يتيم قبل أن يبلغ، ورجل أقرض رجلا مالا فلم يُشْهد".

ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط الشيخين، قال: ولم يخرجاه، لتوقيف أصحاب شعبة هذا الحديث على أبي موسى، وإنما أجمعوا على سند حديث شعبة بهذا الإسناد: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين" (7) .

وقوله: { وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ } قيل: معناه: لا يضار الكاتب ولا الشاهد، فيكتب هذا خلاف ما يملي، ويشهد هذا بخلاف ما سمع أو يكتمها بالكلية، وهو قول الحسن وقتادة وغيرهما.

وقيل: معناه: لا يضر بهما، كما قال ابن أبي حاتم:

__________

(1) في ج: "بلى".

(2) في و: "إن رسول الله".

(3) في جـ، أ، و: "وطفق الأعرابي يقول".

(4) في و: "أني قد".

(5) في جـ: "الزبيدي".

(6) المسند (5/213) وسنن أبي داود برقم (3607) وسنن النسائي (7/301).

(7) المستدرك (2/302).

(1/726)

حدثنا أسيد بن عاصم، حدثنا الحسين -يعني ابن حفص -حدثنا سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن مقْسَم، عن ابن عباس في هذه الآية: { وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ } قال: يأتي الرجل فيدعوهما إلى الكتاب والشهادة، فيقولان: إنا على حاجة فيقول: إنكما قد أمرتما أن تجيبا. فليس له أن يضارهما.

ثم قال: وروي عن عكرمة، ومجاهد، وطاوس، وسعيد بن جبير، والضحاك، وعطية، ومقاتل بن حَيَّان، والربيع بن أنس، والسدي، نحو ذلك.

وقوله: { وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } أي: إن خالفتم ما أمرتم به، وفعلتم ما نَهِيتم عنه، فإنه فسق كائن بكم، أي: لازم لكم لا تحيدون عنه ولا تنفكون عنه.

وقوله: { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي: خافوه وراقبوه، واتبعوا أمره واتركوا زجره (1) { وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ } كقوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } [الأنفال : 29] ، وكقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } [الحديد : 28] .

وقوله: { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي: هو عالم بحقائق الأمور ومصالحها وعواقبها، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء، بل علمه محيط بجميع الكائنات.

__________

(1) في و: "زواجره".

**********************************

وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)

البقرة - تفسير ابن كثير

وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)

{ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) }

يقول تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ } أي: مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمى { وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا } يكتب لكم. قال ابن عباس: أو وجدوه ولم يجد قرطاسًا أو دواة أو قلمًا فَرُهُن مقبوضة، أي: فَلْيكن بدل الكتابة رِهَان مقبوضة في يد صاحب الحق.

وقد استدل بقوله: { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَة } على أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، كما هو مذهب الشافعي والجمهور، واستدل بها آخرون على أنه لا بد أن يكون الرهن مقبوضًا في يد المرتهن، وهو رواية عن الإمام أحمد، وذهب إليه طائفة.

واستدل آخرون من السلف بهذه الآية على أنه لا يكون الرهن مشروعا إلا في السفر، قاله مجاهد وغيره.

وقد ثبت في الصحيحين، عن أنس، أن رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم تُوفِّي وَدِرْعُه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وَسْقًا من شعير، رهنها قوتًا لأهله (1) . وفي رواية: من يهود المدينة (2) . وفي رواية الشافعي: عند أبي الشحم اليهودي (3) . وتقرير هذه المسائل في كتاب "الأحكام الكبير"، ولله الحمد والمنة، وبه

__________

(1) صحيح البخاري برقم (2508) ولم أقع عليه في صحيح مسلم من حديث أنس وهو فيه من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2) الرواية في سنن النسائي (7/288).

(3) مسند الشافعي (ص 251).

(1/727)

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)

المستعان.

وقوله: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } روى ابنُ أبي حاتم بإسناد جيد، عن أبي سعيد الخدري أنه قال: هذه نسخت ما قبلها.

وقال الشعبي: إذا ائتمن بعضكم (1) بعضًا فلا بأس ألا تكتبوا أو لا تُشهدوا.

وقوله: { وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّه } يعنى: المؤتَمن، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من رواية قتادة، عن الحسن، عن سَمُرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" (2) .

وقوله: { وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَة } أي: لا تخفوها وتغلوها ولا تظهروها. قال ابن عباس وغيره: شهادة الزور من أكبر الكبائر، وكتمانها كذلك. ولهذا قال: { وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } قال السدي: يعني: فاجر قلبه، وهذه كقوله تعالى: { وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ } [المائدة : 106]، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } [النساء : 135] ، وهكذا قال هاهنا: { وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }

{ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) }

يخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض وما فيهن وما بينهن، وأنه المطلع على ما فيهن، لا تخفى عليه الظواهر ولا السرائر والضمائر، وإن دقت وخفيت، وأخبر أنه سَيُحاسب عباده على ما فعلوه وما أخفوه في صدورهم كما قال: { قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران : 29]، وقال: { يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } [طه : 7] ، والآيات في ذلك (3) كثيرة جدا، وقد أخبر في هذه بمزيد على العلم، وهو: المحاسبة على ذلك، ولهذا لما نزلت هذه الآية اشتد ذلك على الصحابة، رضي الله عنهم، وخافوا منها، ومن محاسبة الله لهم على جليل الأعمال وحقيرها، وهذا من شدة إيمانهم وإيقانهم.

قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، حدثني أبو (4) عبد الرحمن -

__________

(1) في جـ: "بعضهم".

(2) المسند (5/12) وسنن أبي داود برقم (3561) وسنن الترمذي برقم (1266) وسنن النسائي الكبرى برقم (5783) وسنن ابن ماجة برقم (2400).

(3) في جـ، أ: "في هذا".

(4) في جـ، أ، و: "حدثني ابن".

(1/728)

يعني العلاء -عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جثوا على الركب، وقالوا: يا رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نُطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير". فلما أقَر بها (1) القوم وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في أثرها: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل: { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } إلى آخره (2) .

ورواه مسلم منفردًا به، من حديث يزيد بن زريع، عن روح بن القاسم، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، فذكر مثله (3) ولفظه: "فلما فعلوا [ذلك] (4) نسخها الله، فأنزل: { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قال: نعم، { رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } قال: نعم، { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال: نعم، { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } قال: نعم.

حديث ابن عباس في ذلك: قال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا سفيان، عن آدم بن سليمان، سمعت سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّه } قال: دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء، قال: فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "قولوا سمعنا وأطعنا وسَلَّمنا". فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله. { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } إلى قوله: { فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }

وهكذا رواه مسلم، عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كُريب، وإسحاق بن إبراهيم، ثلاثتهم عن وكيع، به (5) وزاد: { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قال: قد فعلت { رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } قال: قد فعلت، { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال: قد فعلت { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا [فَانْصُرْنَا] (6) } قال: قد فعلت.

طريق أخرى عن ابن عباس: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، قال: دخلت على ابن عباس فقلت: يا أبا عباس، كنت عند ابن عمر فقرأ

__________

(1) في أ، و: "فلما اقترأها".

(2) المسند (2/412).

(3) صحيح مسلم برقم (125).

(4) زيادة من صحيح مسلم (125).

(5) المسند (1/233) وصحيح مسلم برقم (126).

(6) زيادة من جـ، أ، و.

(1/729)

هذه الآية فبكى. قال: أيَّة آية؟ قلت: { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } قال ابن عباس، إن هذه الآية حين أنزلت (1) غَمَّت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غمًا شديدًا، وغاظتهم غيظًا شديدًا، يعني، وقالوا: يا رسول الله، هلكنا، إن كنا نؤاخذ بما تكلمنا وبما نعمل، فأما قلوبنا فليست بأيدينا، فقال لهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "قولوا: سمعنا وأطعنا". قالوا: سمعنا وأطعنا. قال: فنسختها هذه الآية: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ } إلى { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } فتَجوز لهم عن حديث النفس وأخذوا بالأعمال (2) .

طريق أخرى عنه: قال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن مَرْجانة، سمعه يحدث أنه بينما هو جالس مع عبد الله بن عمر تلا هذه الآية: { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ } الآية. فقال: والله لئن واخذنا الله بهذا لنهلكن، ثم بكى ابن عمر حتى سُمع نشيجه. قال ابن مَرْجانة: فقمت حتى أتيت ابن عباس، فذكرت له ما قال ابن عمر، وما فعل حين تلاها، فقال عبد الله بن عباس: يغفر الله لأبي عبد الرحمن. لَعَمْري لقد وَجَدَ المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر، فأنزل الله بعدها: { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } إلى آخر السورة، قال ابن عباس: فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها، وصار الأمر إلى أن قضى الله، عز وجل، أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القول والفعل (3) .

طريق أخرى: قال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سالم: أن أباه قرأ: { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } فدمعت عيناه، فبلغ صنيعه ابن عباس، فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن، لقد صنع كما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت، فنسختها الآية التي بعدها: { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } (4) .

فهذه طرق صحيحة عن ابن عباس، وقد ثبت عن ابن عمر كما ثبت عن ابن عباس.

قال البخاري: حدثنا إسحاق، حدثنا روح، حدثنا شعبة، عن خالد الحذاء، عن مَرْوان الأصفر، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -أحسبُه ابن عمر -{ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } قال: نسختها الآية التي بعدها (5) .

وهكذا رُوي عن علي، وابن مسعود، وكعب الأحبار، والشعبي، والنخَعي، ومحمد بن كعب القُرَظي، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، وقتادة: أنها منسوخة بالتي بعدها.

وقد ثبت بما رواه الجماعة في كتبهم الستة من طريق قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تكلَّم أو

__________

(1) في جـ: "نزلت".

(2) المسند (1/332).

(3) تفسير الطبري (6/106).

(4) تفسير الطبري (6/108).

(5) صحيح البخاري برقم (4546).

(1/730)

تعمل (1) " (2) .

وفي الصحيحين، من حديث سفيان بن عُيَينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله: إذا هَم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنَة، فإن عملها فاكتبوها عشرًا" . لفظ مسلم (3) وهو في أفراده من طريق إسماعيل بن جعفر، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله: إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة، فإن عملها كتبتها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا هم بسيئة فلم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة" (4) .

وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن هَمام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة، عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله: إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة، فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل، فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له، ما لم يعملها، فإن عملها فأنا أكتبها له بمثلها". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قالت الملائكة: رب، وإن عبدك يريد أن يعمل سيئة -وهو أبصر به -فقال: ارقُبوه، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، وإنما تركها من جَراي". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أحسن أحد (5) إسلامه، فكل (6) حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة تكتب بمثلها حتى يلقى الله عز وجل".

تفرد به مسلم عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق بهذا السياق واللفظ (7) وبعضه في صحيح البخاري.

وقال مسلم أيضا: حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بحسنة فعملها كتبت له [عشرا] (8) إلى سبعمائة ضعف، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب، وإن عملها كُتِبَت". تفرد به مسلم دون غيره من أصحاب الكتب (9) .

[وقال مسلم] (10) حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا عبد الوارث، عن الجَعْد أبي عثمان، حدثنا أبو رجاء العُطَاردي، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى قال: "إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هَمّ بحسنة فلم يعملها كَتَبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة. وإن هم بسيئة فلم

__________

(1) في أ، و: "تعمل به".

(2) صحيح البخاري برقم (5269) وصحيح مسلم برقم (127) وسنن أبي داود برقم (2209) وسنن الترمذي برقم (1183) وسنن النسائي (6/156) وسنن ابن ماجة برقم (2040).

(3) صحيح مسلم برقم (128)، ولم أقع عليه من هذا الطريق في صحيح البخاري.

(4) صحيح مسلم برقم (128).

(5) في جـ، أ، و: "أحدكم".

(6) في هـ، أ، و: "فإن له بكل" والمثبت من صحيح مسلم.

(7) صحيح مسلم برقم (129).

(8) زيادة من صحيح مسلم (130).

(9) صحيح مسلم برقم (130).

(10) زيادة من و.

(1/731)

يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة" (1) .

ثم رواه مسلم، عن يحيى بن يحيى، عن جعفر بن سليمان، عن الجعد أبي عثمان في هذا الإسناد بمعنى حديث عبد الوارث (2) وزاد: "ومحاها الله، ولا يَهلك على الله إلا هالك".

وفي حديث سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال: "وقد وجدتموه؟" قالوا: نعم. قال: "ذاك صريح الإيمان".

لفظ مسلم (3) وهو عند مسلم أيضًا من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، به. وروى مسلم [أيضا] (4) من حديث مغيرة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة، قال: "تلك صريح (5) الإيمان" (6) . وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّه } فإنها لم تُنْسَخ، ولكن الله إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول: إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم، مما لم يطلع عليه ملائكتي، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم، وهو قوله: { يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } يقول: يخبركم، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب وهو قوله: { فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاء } وهو قوله: { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } [البقرة : 225] أي: من الشك والنفاق. وقد روى العوفي والضحاك عنه قريبًا من هذا.

وروى ابن جرير، عن مجاهد والضحاك، نحوه. وعن الحسن البصري أنه قال: هي مُحْكمة لم تنسخ. واختار ابن جرير ذلك، واحتج على أنه لا يلزم من المحاسبة المعاقبة، وأنه تعالى (7) قد يحاسب ويغفر، وقد يحاسب ويعاقب بالحديث الذي رواه عند هذه الآية، قائلا حدثنا ابن بشار، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد وهشام،(ح) وحدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، حدثنا هشام، قالا جميعًا في حديثهما: عن قتادة، عن صفوان بن مُحْرز، قال: بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر، وهو يطوف، إذ عرض له رجل فقال: يا ابن عمر، ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ فقال: سمعت نبي الله (8) صلى الله عليه وسلم يقول: "يدنو المؤمن مِنْ ربه، عز وجل، حتى يضع عليه كَنَفَه، فيقرره بذنوبه فيقول: هل تعرف كذا؟ فيقول: رب أعْرف -مرتين -حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم". قال: "فيعطى صحيفة حسناته -أو كتابه -بيمينه، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الأشهاد: { هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } (9) [هود : 18] .

__________

(1) صحيح مسلم برقم (131).

(2) صحيح مسلم برقم (131).

(3) صحيح مسلم برقم (132).

(4) زيادة من و.

(5) في أ، و: "تلك محض".

(6) صحيح مسلم برقم (133).

(7) في جـ: "وأنه سبحانه وتعالى".

(8) في جـ: "سمعت رسول الله".

(9) تفسير الطبري (6/119 ، 120).

(1/732)

آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما من طرق متعددة، عن قتادة، به (1) .

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أمية (2) قالت: سألت عائشة عن هذه الآية: { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } فقالت: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال: "هذه مبايعة الله العبد، وما يصيبه من الحمى، والنَّكبة، والبضاعة يضعها في يد كمه، فيفتقدها فيفزع لها، ثم يجدها في ضِبْنِه، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر [من الكير] (3) ".

وكذا رواه الترمذي، وابن جرير من طريق حماد بن سلمة، به (4) . وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديثه.

قلت: وشيخه علي بن زيد بن جُدْعان ضعيف، يغرب في رواياته وهو يروي هذا الحديث عن امرأة أبيه: أم محمد أمية بنت عبد الله، عن عائشة، وليس لها عنها في الكتب سواه.

{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) } ذكر الأحاديث الواردة في فضل هاتين الآيتين الكريمتين نفعنا الله بهما .

الحديث الأول: قال البخاري: حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن، عن أبي مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ بالآيتين"، وحدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبي مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كَفَتَاه" (5) .

وقد أخرجه بقية الجماعة من طريق سليمان بن مِهْران الأعمش، بإسناده، مثله (6) . وهو في الصحيحين من طريق الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن، عنه، به (7) . وهو في الصحيحين أيضا عن عبد الرحمن، عن علقمة عن أبي مسعود -قال عبد الرحمن: ثم لقيت أبا

__________

(1) صحيح البخاري برقم (4685) وصحيح مسلم برقم (1768).

(2) في جـ: "عن آمنة".

(3) زيادة من تفسير الطبري (6/117).

(4) سنن الترمذي برقم (2991).

(5) صحيح البخاري برقم (5008).

(6) صحيح مسلم برقم (808) وسنن أبي داود برقم (1397) وسنن الترمذي برقم (2881) وسنن النسائي الكبرى برقم (8019) وسنن ابن ماجة برقم (1368).

(7) صحيح البخاري برقم (5009) وصحيح مسلم برقم (807)؛ ولكنه فيه عن زهير، عن منصور به.

(1/733)

مسعود، فحدثني به (1) .

وهكذا رواه أحمد بن حنبل: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا شريك، عن عاصم، عن المسيب بن رافع، عن علقمة، عن أبي مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلته كفتاه" (2) .

الحديث الثاني: قال الإمام أحمد: حدثنا حسين، حدثنا شيبان، عن منصور، عن رِبعي، عن خَرشة بن الحُر، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش، لم يعطهن نبي قبلي" (3) .

وقد رواه ابن مردويه، من حديث الأشجعي، عن الثوري، عن منصور، عن رِبْعِي، عن زيد بن ظِبْيان، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش" (4) .

الحديث الثالث: قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة، حدثنا مالك بن مغْول(ح) وحدثنا ابن نُمَير، وزهير بن حرب جميعًا، عن عبد الله بن نُمير -وألفاظهم متقاربة -قال ابن نمير: حدثنا أبي، حدثنا مالك بن مِغْوَل، عن الزبير بن عدي (5) عن طلحة، عن مُرَة، عن عبد الله، قال: لما أسْريَ برسول الله صلى الله عليه وسلم انْتُهِيَ به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة إليها ينتهي ما يُعْرَج به من الأرض فَيُقْبَض منها، وإليها ينتهي ما يُهْبَطُ به من فوقها فيُقْبَض منها، قال: { إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى } [النجم : 16] ، قال: فرَاش من ذهب. قال: وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا: أعْطِيَ الصلوات الخمس، وأعْطِي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئًا المُقْحَماتُ (6) .

الحديث الرابع: قال أحمد: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الرازي، حدثنا سلمة بن الفضل، حدثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مَرْثَد بن عبد الله اليزني، عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ الآيتين من آخر سورة البقرة فإني أعطيتهما من تحت العرش". هذا إسناد حسن، ولم يخرجوه في كتبهم (7) .

الحديث الخامس: قال ابن مَرْدُويه: حدثنا أحمد بن كامل، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي، أخبرنا مُسَدَّد (8) أخبرنا أبو (9) عوانة، عن أبي مالك، عن ربْعِي، عن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضلنا على الناس بثلاث، أوتيت هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة من بيت كنز تحت

__________

(1) صحيح البخاري برقم (4008) وصحيح مسلم برقم (808).

(2) المسند (4/118).

(3) المسند (5/151).

(4) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (2404) من طريق الأشجعي به.

(5) في أ: "بن علي".

(6) صحيح مسلم برقم (173).

(7) المسند (4/147).

(8) في أ: "أخبرنا مسروق".

(9) في جـ، أ: "عن أبي".

(1/734)

العرش، لم يعطها أحد قبلي، ولا يعطاها أحد بعدي" (1) .

ثم رواه من حديث نُعَيم بن أبي هندي، عن ربعي، عن حذيفة، بنحوه.

الحديث السادس: قال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي بن نافع، أنبأنا إسماعيل بن الفضل، أخبرنا محمد بن حاتم بن بزَيع، أخبرنا جعفر بن عون، عن مالك بن مِغْول، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: لا أرى أحدًا عَقِل الإسلام ينام حتى يقرأ خواتيم سورة البقرة، فإنها كنز أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم من تحت العرش.

ورواه وَكِيع عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمير بن عمرو الخارفي، عن علي قال: ما أرى أحدًا يعقل، بلغه الإسلام، ينام حتى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة، فإنها من كنز تحت العرش (2) .

الحديث السابع: قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا بُنْدَار، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا حماد بن سلمة، عن أشعث بن عبد الرحمن الجَرْمي (3) عن أبي قِلابَة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، أنزل منه آيتين ختم بهما (4) سورة البقرة، ولا يقرأن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان". ثم قال: هذا حديث غريب. وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث حماد بن سلمة به، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه (5) (6) .

الحديث الثامن: قال ابن مردويه: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن مدين، أخبرنا الحسن بن الجهم، أخبرنا إسماعيل بن عمرو، أخبرنا ابن أبي مريم، حدثني يوسف بن أبي الحجاج، عن سعيد، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ آخر سورة البقرة وآية الكرسي ضحك، وقال: "إنهما من كنز الرحمن تحت العرش". وإذا قرأ: { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِه } [النساء : 123] ، { وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى } [النجم:39-41] ، استرجع واستكان (7) .

الحديث التاسع: قال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن محمد بن كوفي، حدثنا أحمد بن يحيى بن حمزة، حدثنا محمد بن بكر (8) حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن أبي حميد، عن أبي مَلِيح، عن معقل بن يسار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش، والمُفَصل نافلة" (9) .

__________

(1) ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (8022) من طريق آدم بن أبي إياس، عن أبي عوانة به.

(2) ورواه ابن الضريس في فضائل القرآن برقم (169) من طريق أبي إسحاق، عن عمير بن سعيد به، قال النووي: "صحيح على شرط البخاري ومسلم".

(3) في أ: "الصنعاني".

(4) في جـ: "ختم بها".

(5) في أ: "ولم يخرجه".

(6) سنن الترمذي برقم (2882) والمستدرك (1/562).

(7) ذكره السيوطي في الدر المنثور (2/7) وعزاه لابن مردويه، وفي إسناده مجاهيل.

(8) في أ: "بن بكير".

(9) ورواه الحاكم في المستدرك وصححه (1/559) من طريق عبيد الله بن أبي حميد به نحوه، وتعقبه الذهبي بقوله: "فيه عبيد الله بن أبي حميد تركوه".

(1/735)

الحديث العاشر: قد تقدم في فضائل الفاتحة، من رواية عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل؛ إذ سمع نقيضا فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء، فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فُتِح قَط. قال: فنزل منه مَلَك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما، لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفا منهما إلا أوتيته، رواه مسلم والنسائي، وهذا لفظه (1) .

[الحديث الحادي عشر: قال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي في مسنده: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان، حدثنا أيفع بن عبد الله الكلاعي (2) قال: قال رجل: يا رسول الله، أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: "آية الكرسي: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } قال: فأي آية في كتاب الله تحب أن تصيبك وأمتك؟ قال: "آخر سورة البقرة، ولم يترك خيرًا في الدنيا والآخرة إلا اشتملت عليه" (3) ] (4) .

فقوله تعالى: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّه } إخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

قال ابن جرير: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية: "ويحق له أن يؤمن " (5) .

وقد روى الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو النضر الفقيه: حدثنا معاذ بن نجدة القرشي، حدثنا خلاد بن يحيى، حدثنا أبو عقيل، عن يحيى بن أبي كثير، عن أنس بن مالك، قال: لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّه } قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حق له أن يؤمن". ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. (6) .

وقوله: { وَالْمُؤْمِنُون } عطف على { الرَّسُولُ } ثم أخبر عن الجميع فقال: { كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد أحد، فرد صمد، لا إله غيره، ولا رب سواه. ويصدقون بجميع الأنبياء والرسل والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء، لا يفرقون بين أحد منهم، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، بل الجميع عندهم صادقون بارون راشدون مَهْديون هادون إلى سُبُل (7) الخير، وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بعض بإذن الله، حتى نُسخ الجميع بشرع محمدّ صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي تقوم الساعة على شريعته، ولا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين.

وقوله: { وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } أي: سمعنا قولك يا ربنا، وفهمناه، وقمنا به، وامتثلنا العمل بمقتضاه، { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } سؤال للغَفْر (8) والرحمة واللطف.

قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا ابن فضيل، عن عطاء بن السائب،

__________

(1) صحيح مسلم برقم (806) وسنن النسائي (2/138).

(2) في الإصابة: "أيفع بن عبد الكلاعي".

(3) سنن الدارمي برقم (3380) وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/139): "هو مرسل أو معضل".

(4) زيادة من جـ.

(5) تفسير الطبري (6/124).

(6) المستدرك (2/287) وتعقبه الذهبي، قلت: "منقطع"، وذلك لأن يحيى بن أبي كثير رأى أنسا ولم يسمع منه.

(7) في أ: "إلى سبيل".

(8) في جـ، أ: "بالعفو".

(1/736)

عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ } إلى قوله: { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } قال: قد غفرت لكم، { وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } أي: إليك المرجع والمآب يوم يقوم الحساب.

قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن بيان، عن حكيم عن جابر قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } قال جبريل: إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك، فسل تُعْطه. فسأل: { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } إلى آخر الآية (1) .

وقوله: { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } أي: لا يكلف أحدًا فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم، وهذه هي الناسخة الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة، في قوله: { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّه } أي: هو وإن حاسب وسأل لكن لا يعذب إلا بما يملك (2) الشخص دفعه، فأما ما لا يمكن دفعه من وسوسة النفس وحديثها، فهذا لا يكلف به الإنسان، وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان.

وقوله: { لَهَا مَا كَسَبَتْ } أي: من خير، { وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } أي: من شر، وذلك في الأعمال التي تدخل تحت التكليف، ثم قال (3) تعالى مرشدًا عباده إلى سؤاله، وقد تكفل لهم بالإجابة، كما أرشدهم وعلمهم أن يقولوا: { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ [نَسِينَا] (4) } أي: إن تركنا فرضًا على جهة النسيان، أو فعلنا حرامًا كذلك، { أَوْ أَخْطَأْنَا } أي: الصوابَ في العمل، جهلا منا بوجهه الشرعي.

وقد تقدم في صحيح مسلم لحديث أبي هريرة: "قال الله: نعم" ولحديث (5) ابن عباس قال الله: "قد فعلت".

وروى ابن ماجة في سننه، وابن حبان في صحيحه (6) من حديث أبي عمرو الأوزاعي، عن عطاء -قال ابن ماجة في روايته: عن ابن عباس. وقال الطبراني وابن حبان: عن عطاء، عن عبيد بن عُمير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع (7) عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه". وقد روي من طُرُق أخَرَ وأعله (8) أحمد وأبو حاتم (9) والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا أبو بكر الهذلي، عن شهر، عن أم الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث: عن الخطأ، والنسيان، والاستكراه" قال أبو بكر: فذكرت ذلك للحسن، فقال: أجل، أما تقرأ بذلك قرآنا: { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } (10) .

__________

(1) في أ، و: "إلى آخر السورة".

(2) في أ، و: "على ما يملك".

(3) في جـ: "وقال".

(4) زيادة من أ، و.

(5) في جـ: "وبحديث".

(6) سنن ابن ماجة برقم (2045) وصحيح ابن حبان برقم (1498) "موارد".

(7) في أ: "إن الله قد وضع".

(8) في جـ، أ، و: "وعلله".

(9) العلل لابن أبي حاتم (1/431) والعلل للإمام أحمد (1/227) وانظر في تفصيل الكلام على الحديث وعلته: جامع العلوم والحكم للحافظ ابن رجب (2/361) ط. الرسالة، وفتح الباري للحافظ ابن حجر (5/161).

(10) ورواه ابن عدي في الكامل (3/325) من طريق أبي بكر الهذلي، عن شهر بن حوشب، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء مرفوعا وليس عنده قول أبي بكر للحسن.

(1/737)

وقوله: { رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } أي: لا تكلّفنا من الأعمال الشاقة وإن أطقناها، كما شرعته للأمم الماضية قبلنا من الأغلال والآصار التي كانت عليهم، التي بعثتَ نبيَك محمدًا صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة بوضعه في شرعه الذي أرسلته به، من الدين الحنيف السهل السمح.

وقد ثبت في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله: نعم".

وعن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله: قد فعلت". وجاء الحديث من طرق، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بعثت بالحَنيفيَّة السمحة" (1) .

وقوله: { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } أي: من التكليف والمصائب والبلاء، لا تبتلينا بما لا قبل لنا به.

وقد قال مكحول في قوله: { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال: الغرْبة والغلمة، رواه (2) ابن أبي حاتم، "قال الله: نعم" وفي الحديث الآخر: "قال الله: قد فعلت".

وقوله: { وَاعْفُ عَنَّا } أي: فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا، { وَاغْفِرْ لَنَا } أي: فيما بيننا وبين عبادك، فلا تظهرهم على مساوينا وأعمالنا القبيحة، { وَارْحَمْنَا } أي: فيما يُسْتَقبل، فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر، ولهذا قالوا: إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء: أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه، وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم، وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره. وقد تقدم في الحديث أن الله قال: نعم. وفي الحديث الآخر: "قال الله: قد فعلت".

وقوله: { أَنْتَ مَوْلانَا } أي: أنت ولينا وناصرنا، وعليك توكلنا، وأنت المستعان، وعليك التّكلان، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك (3) { فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } أي: الذين جحدوا دينك، وأنكروا وحدانيتك، ورسالة نبيك، وعبدوا غيرك، وأشركوا معك من عبادك، فانصرنا عليهم، واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والآخرة، قال الله: نعم. وفي الحديث الذي رواه مسلم، عن ابن عباس: "قال الله: قد فعلت".

وقال ابن جرير: حدثني المثنى بن إبراهيم، حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، أن معاذًا، رضي الله عنه، كان إذا فرغ من هذه السورة (4) { فانصرنا على القوم الكافرين } قال: آمين (5) .

ورواه وَكِيع عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن رجل، عن معاذ بن جبل: أنه كان إذا ختم البقرة قال: آمين (6) .

__________

(1) جاء من حديث أبي أمامة، وابن عباس، وعائشة، وجابر رضي الله عنهم، أصحها حديث ابن عباس رواه الإمام أحمد في المسند (1/236) وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح.

(2) في جـ: "ورواه".

(3) في جـ: "إلا بالله".

(4) في جـ: "من سورة البقرة".

(5) تفسير الطبري (6/146).

(6) جاء في جـ: "آخر تفسير سورة البقرة ولله الحمد والمنة والفضل والثناء الحسن الجميل، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، يتلوه إن شاء الله سورة آل عمران".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حمى قرمزية /Scarlet fever.

حمى قرمزية /Scarlet fever لسان الفراولة الذي يظهر في الحمى القرمزية تسميات أخرى scarlatina, scarletina معلومات عامة=الاختصاص أمرا...