السبت، 19 أغسطس 2023

تفسير سورة الاخلاص والمعوذتين

 

تفسير سورة الاخلاص والمعوذتين


قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)

 ======

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)

 =======

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)

 =========

أولا / تفسير سورة الإخلاص - تفسير ابن كثير

تفسير سورة الإخلاص

وهي مكية.

ذكر سبب نزولها وفضيلتها (1)

قال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعد محمد بن مُيَسّر الصاغاني، حدثنا أبو جعفر الرازي، حدثنا الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعب: أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، انسب لنا ربك، فأنزل الله: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُو لَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ " (2) .

وكذا رواه الترمذي، وابن جرير، عن أحمد بن منيع -زاد ابن جرير: ومحمود بن خِدَاش -عن أبي سعد محمد بن مُيَسّر به (3) -زاد ابن جرير والترمذي-قال: " الصَّمَدُ " الذي لم يلد ولم يولد، لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وإن الله جل جلاله لا يموت ولا يورث، " وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ " ولم يكن له شبه (4) ولا عدل، وليس كمثله شيء.

ورواه ابن أبي حاتم، من حديث أبي سعد (5) محمد بن مُيَسّر، به. ثم رواه الترمذي عن عبد ابن حميد، عن عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، فذكره مرسلا ولم يذكر "أخبرنا". ثم قال الترمذي: هذا أصح من حديث أبي سعد (6) .

حديث آخر في معناه: قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا سُرَيج (7) بن يونس، حدثنا إسماعيل بن مجالد، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر: أن أعرابيًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: انسب لنا ربك. فأنزل الله، عز وجل: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " إلى آخرها. إسناده مقارب (8) .

وقد رواه ابن جرير عن محمد بن عوف، عن سُرَيج (9) فذكره (10) . وقد أرسله غير واحد من السلف.

وروى عُبيد بن إسحاق العطار، عن قيس بن الربيع، عن عاصم، عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال: قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربك، فنزلت هذه السورة: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ "

__________

(1) في م، أ: "وفضلها".

(2) المسند (5/133).

(3) سنن الترمذي برقم (3364) وتفسير الطبري (30/221،223).

(4) في م، أ: "له شبيه".

(5) في م، أ: "سعيد".

(6) سنن الترمذي برقم (3365).

(7) في أ: "شريح".

(8) في م: "إسناده متقارب".

(9) في أ: "شريح".

(10) مسند أبي يعلى (4/38،39) وتفسير الطبري (30/221)، ومجالد ضعيف في روايته عن الشعبي عن جابر.

(8/518)

قال الطبراني: رواه الفريابي وغيره، عن قيس، عن أبي عاصم، عن أبي وائل، مرسلا (1) .

ثم رَوَى الطبراني من حديث عبد الرحمن بن عثمان الطائفي، عن الوازع بن نافع، عن أبي سلمة، عن أبي هُرَيرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لكل شيء نسبة، ونسبة الله: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ " والصمد ليس بأجوف] (2) (3) .

حديث آخر في فضلها: قال البخاري: حدثنا محمد -هو الذُهليّ-حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، أخبرنا عمرو، عن ابن أبي هلال: أن أبا الرجال مُحمد بن عبد الرحمن حَدثه، عن أمه عَمْرَةَ بنت عبد الرحمن -وكانت في حِجْر عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم-عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سَريَّة، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم ب " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "سلوه: لأيّ شيء يصنع ذلك؟". فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أخبروه أن الله تعالى يحبه".

هكذا رواه في كتاب "التوحيد" (4) . ومنهم من يسقط ذكر "محمد الذّهلي". ويجعله من روايته عن أحمد بن صالح. وقد رواه مسلم والنسائي أيضًا من حديث عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، به (5) .

حديث آخر: قال البخاري في كتاب الصلاة: "وقال عُبَيد الله (6) عن ثابت، عن أنس قال: كان رجل من الأنصار يَؤمَهم في مسجد قُبَاء، فكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح ب " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " حتى يَفرُغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة. فكلَّمه أصحابه فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة ثم لا ترى أنها تُجزئُك حتى تقرأ بالأخرى، فإما أن تقرأ بها، وإما أن تدعها وتَقرأ بأخرى. فقال: ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت، وإن كرهتم تركتكم. وكانوا يَرَونَ أنه من أفضلهم، وكرهوا أن يَؤمهم غيره. فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر، فقال: "يا فلان، ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك، وما حملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة؟ ". قال: إني أحبها. قال: "حُبك إياها أدخلك الجنة" (7) .

هكذا رواه البخاري تعليقًا مجزومًا به. وقد رواه أبو عيسى الترمذي في جامعه، عن البخاري، عن إسماعيل بن أبي أويس، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن عُبَيد الله بن عمر، فذكر بإسناده مثله سواء (8) . ثم قال الترمذي: غريب من حديث عبيد الله، عن ثابت. قال: وروى

__________

(1) ورواه الطيالسي عن قيس، عن عاصم، عن أبي وائل مرسلا، ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (89).

(2) زيادة من أ.

(3) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3423) "مجمع البحرين" من طريق عبد الرحمن بن نافع، عن علي بن ثابت، عن الوازع، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة به، وقال: "لا يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد، تفرد به عبد الرحمن".

(4) صحيح البخاري برقم (7375).

(5) صحيح مسلم برقم (813)، وسنن النسائي (2/170).

(6) في أ: "وقال عبد الله".

(7) صحيح البخاري برقم (774).

(8) سنن الترمذي برقم (2901).

(8/519)

مُبَارك بن فَضالة، عن ثابت، عن أنس، أن رجلا قال: يا رسول الله، إني أحب هذه السورة: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " قال: "إن حُبَّك إياها أدخلك الجنة".

وهذا الذي علقه الترمذي قد رواه الإمام أحمد في مسنده متصلا فقال:

حدثنا أبو النضر، حدثنا مبارك بن فضالة، عن ثابت، عن أنس قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أحب هذه السورة: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حبك (1) إياها أدخلك الجنة" (2) .

حديث في كونها تعدل ثلث القرآن: قال البخاري: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صَعْصَعَة، عن أبيه، عن أبي سعيد. أن رجلا سمع رَجُلا يقرأ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " يرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، وكأن الرجل يتقالّها، فقال النبي (3) صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ثلث القرآن". زاد إسماعيل بن جعفر، عن مالك، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن أبيه، عن أبي سعيد قال: أخبرني أخي قتادة بن النعمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم (4) .

وقد رواه البخاري أيضا عن عبد الله بن يوسف، والقَعْنَبِيّ. ورواه أبو داود عن القعنبي ، والنسائي عن قتيبة، كلهم عن مالك، به (5) . وحديث قتادة بن النعمان أسنده النسائي من طريقين، عن إسماعيل بن جعفر، عن مالك، به (6)

حديث آخر: قال البخاري: حدثنا عُمَر بن حفص، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثنا إبراهيم والضحاك المَشْرِقيّ، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ " . فشق ذلك عليهم وقالوا: أينا يُطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: "الله الواحد الصمد ثلث القرآن" (7) .

تفرد بإخراجه البخاري من حديث إبراهيم بن يزيد النَّخعي والضحاك بن شُرَحبيل الهمداني المشرقي، كلاهما عن أبي سعيد، قال القَرَبرِيّ: سمعت أبا جعفر محمد بن أبي حاتم وراقُ أبي عبد الله قال: قال أبو عبد الله البخاري: عن إبراهيم مرسل، وعن الضحاك مسند (8) .

حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا ابن لَهِيعَة، عن الحارث بن يزيد، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري قال: بات قتادة بن النعمان يقرأ الليل كله ب " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ "

__________

(1) في م: "إن حبك".

(2) المسند (3/141).

(3) في م: "فقال رسول الله".

(4) صحيح البخاري برقم (7374).

(5) صحيح البخاري برقم (5013،6643) وسنن أبي داود برقم (1461) وسنن النسائي (2/171).

(6) سنن النسائي الكبرى برقم (8029) وبرقم (10536).

(7) صحيح البخاري برقم (5015).

(8) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (9/60): "والمراد أن رواية إبراهيم النخعي عن أبي سعيد منقطعة، ورواية الضحاك عنه متصلة"{{ فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "والذي نفسي بيده، لَتَعدلُ نصف القرآن، أو ثلثه" (1) .

حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا حُييّ بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو: أن أبا أيوب الأنصاري كان في مجلس وهو يقول: ألا يستطيع أحدكم أن يقوم بثلث القرآن كل ليلة؟ فقالوا: وهل يستطيع ذلك أحد؟ قال: فإن " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " ثلث القرآن. قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسمع أبا أيوب، فقال: "صدق أبو أيوب" (2) .

حديث آخر: قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا يزيد بن كيسَان، أخبرني أبو حَازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احشُدوا، فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن". فحشد من حشد، ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقرأ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " ثم دخل فقال بعضنا لبعض: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن". إني لأرى هذا خبرًا جاء من السماء، ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إني قلت: سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا وإنها تعدل ثلث القرآن".

وهكذا رواه مسلم في صحيحه، عن محمد بن بشار، به (3) وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، واسم أبي حازم سلمان.

حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن زائدة بن قُدَامة، عن منصور، عن هلال بن يَساف، عن الربيع بن خُثَيم (4) عن عمرو بن ميمون، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن امرأة من الأنصار، عن أبي أيوب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ فإنه من قرأ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ " في ليلة، فقد قرأ ليلتئذ ثلث القرآن".

هذا حديث تُسَاعيّ الإسناد للإمام أحمد. ورواه الترمذي والنسائي، كلاهما عن محمد بن بشار (5) بندار -زاد الترمذي وقتيبة-كلاهما عن عبد الرحمن بن مهدي، به (6) . فصار لهما عُشَاريا. وفي رواية الترمذي: "عن امرأة أبى أيوب، عن أبي أيوب"، به [وحسنه] (7) . ثم قال: وفي الباب عن أبي الدرداء، وأبي سعيد، وقتادة بن النعمان، وأبي هريرة، وأنس، وابن عمر، وأبي مسعود. وهذا حديث حسن، ولا نعلم أحدًا رَوَى هذا الحديث أحسن من رواية "زائدة". وتابعه على روايته إسرائيل، والفضيل بن عياض. وقد رَوَى شُعبةُ وغيرُ واحد من الثقات هذا الحديث عن منصور واضطربوا فيه.

__________

(1) المسند (3/15).

(2) المسند (2/173).

(3) سنن الترمذي برقم (2900) وصحيح مسلم برقم (812).

(4) في أ: "بن خيثم".

(5) في أ: "يسار".

(6) سنن الترمذي برقم (2896) وسنن النسائي (2/172).

(7) زيادة من م، أ. 

حديث آخر: قال أحمد: حدثنا هُشَيْم، عن حُصَين، عن هلال بن يَسَاف، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن أبيّ بن كعب -أو: رجل من الأنصار-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ ب " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " فكأنما قرأ بثلث القرآن" (1) .

ورواه النسائي في "اليوم والليلة"، من حديث هُشَيم، عن حُصَين، عن ابن أبي ليلى، به (2) . ولم يقع في روايته: هلال بن يساف.

حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا وَكيع، عن سفيان، عن أبي قيس (3) عن عمرو بن ميمون، عن أبي مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " تعدُل ثلث القرآن" (4) .

وهكذا رواه ابن ماجة، عن علي بن محمد الطَّنافسي، عن وَكيع، به (5) . ورواه النسائي في "اليوم والليلة" من طرق أخر، عن عمرو بن ميمون، مرفوعًا وموقوفًا (6) .

حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا بَهْز، حدثنا بُكَير بن أبي السَّميط (7) حدثنا قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن مَعْدَان بن أبي طلحة، عن أبي الدّرداء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيعجزُ أحدُكم أن يَقرأ كلّ يوم ثلث القرآن؟ ". قالوا: نعم يا رسول الله، نحن أضعفُ من ذلك وأعجز. قال: "فإن الله جَزأ القرآن ثلاثة أجزاء، ف " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " ثلث القرآن".

ورواه مسلم والنسائي، من حديث قتادة، به (8) .

حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا أمية بن خالد، حدثنا محمد بن عبد الله بن مسلم -ابن أخي ابن شهاب -عن عمه الزهري، عن حُمَيد بن عبد الرحمن -هو ابن عوف-عن أمه -وهي: أم كلثوم بنت عقبة (9) بن أبي مُعَيط -قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " تَعدلُ ثُلُثَ القرآن".

وكذا رواه النسائي في "اليوم والليلة"، عن عمرو بن علي، عن أمية بن خالد، به (10) . ثم رواه من طريق مالك، عن الزهري، عن حُمَيد بن عبد الرحمن، قوله (11) . ورواه النسائي أيضا في "اليوم والليلة" من حديث محمد بن إسحاق، عن الحارث بن الفُضَيل الأنصاري، عن الزهري، عن حُمَيد بن عبد الرحمن: أن نَفَرًا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حَدثوه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:==

__________

(1) المسند (5/141).

(2) سنن النسائي الكبرى برقم (10521).

(3) في م: "إسحاق".

(4) المسند (4/122).

(5) سنن ابن ماجة برقم (3789).

(6) سنن النسائي الكبرى برقم (10529،10525،10528).

(7) في أ: "حدثنا بكر بن أبي السمط".

(8) المسند (1/447) وصحيح مسلم برقم (811) وسنن النسائي الكبرى برقم (10537).

(9) في م: "عتبة".

(10) سنن النسائي الكبرى برقم (10531).

(11) سنن النسائي الكبرى برقم (10533). 

 

=" قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " تَعدلُ ثُلُثَ القرآن لمن صلى بها" (1)

حديث آخر في كون قراءتها توجب الجنة: قال الإمام مالك بن أنس، عن عبيد الله بن عبد الرحمن، عن عُبيد بن حُنَين قال: سمعت أبا هريرة يقول: أقبلت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع رجلا يقرأ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَجَبَتْ". قلت: وما وَجَبت؟ قال: "الجنة".

ورواه الترمذي والنسائي، من حديث مالك (2) . وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث مالك.

وتقدم حديث: "حُبّك إياها أدخلك الجنة".

حديث في تكرار قراءتها: قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا قَطن بن نُسير، حدثنا عيسى ابن ميمون القرشي، حدثنا يزيد الرقاشي، عن أنس قال: سمعت رسول الله (3) صلى الله عليه وسلم يقول: "أما يستطيع أحدكم أن يقرأ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " ثلاث مرات في ليلة (4) فإنها تعدلُ ثلث القرآن؟ " (5)

هذا إسناد ضعيف، وأجود منه حديث آخر، قال عبد الله بن الإمام أحمد:

حدثنا محمد بن أبي بكر المُقَدمي، حدثنا الضحاك بن مخلد، حدثنا ابن أبي ذئب، عن أسيدُ ابن أبي أسيد، عن معاذ بن عبد الله بن خُبيب، عن أبيه قال: أصابنا طَش وظلمة، فانتظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا، فخرج فأخذ بيدي، فقال: "قل". فسكت. قال: "قل". قلت: ما أقول؟ قال: " " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاثًا، تكفك كل يوم مرتين".

ورواه أبو داود والترمذي والنسائي، من حديث ابن أبي ذئب، به (6) . وقال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وقد رواه النسائي من طريق أخرى، عن معاذ بن عبد الله بن خبيب، عن أبيه، عن عقبة بن عامر، فذكره [ولفظه: "يكفك كل شيء" ] (7) (8) .

حديث آخر في ذلك: قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا ليث بن سعد، حدثني الخليل بن مرة، عن الأزهر بن عبد الله، عن تميم الداري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال: لا إله إلا الله واحدًا أحدًا صمدًا، لم يتخذ صاحبةً ولا ولدًا، ولم يكن له كفوا أحدا، عشر مرات، كُتِب له أربعون ألف ألف حسنة".

تفرد به أحمد (9) والخليل بن مُرّة: ضعفه البخاري وغيره بمُرّة.

حديث آخر: قال أحمد أيضا: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لَهِيعَة، حدثنا زَبَّان بن==

__________

(1) سنن النسائي الكبرى برقم (10532).

(2) الموطأ (2/208) وسنن الترمذي برقم (2897) وسنن النسائي (2/171).

(3) في م: "سمعت نبي الله".

(4) في أ: "في كل ليلة".

(5) مسند أبي يعلى (8/150)، وقال الهيثمي في المجمع (7/147): "فيه عبيس، وهو متروك".

(6) زوائد المسند (5/312) وسنن أبي داود برقم (5082) وسنن الترمذي برقم (3575) وسنن النسائي (8/250).

(7) زيادة من م.

(8) سنن النسائي (8/251).

(9) المسند (4/103).

(8/523)

=فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " حتى يختمها، عشر مرات، بنى الله له قصرًا في الجنة". فقال عمر: إذن نستكثر يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: "الله أكثر وأطيب". تفرد به أحمد (1) .

ورواه أبو محمد الدارمي في مسنده فقال: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا حيوة، حدثنا أبو عقيل زهرة بن معبد-قال الدارمي: وكان من الأبدال -أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " عشر مرات، بنى الله له قصرًا في الجنة، ومن قرأها عشرين مرة بنى الله له قصرين في الجنة، ومن قرأها ثلاثين مرة بنى الله له ثلاثة قصور في الجنة". فقال عمر بن الخطاب: إذا لتكثر قصورنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أوسع من ذلك" (2) . وهذا مرسل جيد.

حديث آخر: قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا نصر بن علي، حدثني نوح بن قيس، أخبرني محمد العطار، أخبرتني أم كثير الأنصارية، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " خمسين مرة غُفرت له (3) . ذنوب خمسين سنة" (4) إسناده ضعيف.

حديث آخر: قال أبو يعلى: حدثنا أبو الربيع، حدثنا حاتم بن ميمون، حدثنا ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ في يوم: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " مائتي مرة، كتب الله له ألفًا وخمسمائة حسنة إلا أن يكون عليه دين" (5) . إسناده ضعيف، حاتم بن ميمون: ضعفه البخاري وغيره. ورواه الترمذي، عن محمد بن مرزوق البصري، عن حاتم بن ميمون، به. ولفظه: "من قرأ كل يوم، مائتي مرة: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " محي عنه ذنوب خمسين سنة، إلا أن يكون عليه دَين".

قال الترمذي: وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أراد أن ينام على فراشه، فنام على يمينه، ثم قرأ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " مائة مرة، فإذا كان يوم القيامة يقول له الرب، عز وجل: يا عبدي، ادخُل على يمينك الجنة" (6) . ثم قال: غريب من حديث ثابت، وقد رُوي من غير هذا الوجه، عنه.

وقال أبو بكر البزار: حدثنا سهل بن بحر، حدثنا حَبّان بن أغلب، حدثنا أبي، حدثنا ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " مائتي مرة، حط الله عنه ذنوب مائتي سنة" (7) . ثم قال: لا نعلم رواه عن ثابت إلا الحسن بن أبي جعفر، والأغلب بن ==

__________

(1) المسند (3/437).

(2) سنن الدارمي برقم (3429).

(3) في م، أ: "غفر الله له".

(4) ورواه الدارمي في السنن برقم (3438): حدثنا نصر بن علي بمثله سواء.

(5) مسند أبي يعلى (6/103).

(6) سنن الترمذي برقم (2898).

(7) ورواه ابن الضريس في فضائل القرآن برقم (267) والخطيب في تاريخ بغداد (6/187) من طريق الحسن بن أبي جعفر، عن ثابت به.

(8/524)

== تميم، وهما متقاربان في سوء الحفظ.

 

حديث آخر في الدعاء بما تضمنته من الأسماء: قال النسائي عند تفسيرها: حدثنا عبد الرحمن بن خالد، حدثنا زيد بن الحباب، حدثني مالك بن مِغْول، حدثنا عبد الله بن بُرَيدة، عن أبيه: أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا رجل يصلي، يدعو يقول: اللهم، إني أسألك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد. قال: "والذي نفسي بيده، لقد سأله باسمه الأعظم، الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب" (1) .

وقد أخرجه بَقِيَّة أصحاب السنن من طُرُق، عن مالك بن مِغْول، عن عبد الله بن بُرَيدة، عن أبيه، به (2) . وقال الترمذي: حسن غريب.

حديث آخر في قراءتها عشر مرات بعد المكتوبة: قال

  الحافظ أبو يعلى [الموصلي] (3) : حدثنا عبد الأعلى، حدثنا بشر بن منصور، عن عمر بن نبهان (4) عن أبي شداد، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من جاء بِهِنّ مع الإيمان دَخَل من أيّ أبواب الجنة شاء، وزُوّج من الحور العين حيث شاء: من عفا عن قاتله، وأدى دينا خفيا، وقرأ في دبر كل صلاة مكتوبة عشر مرات: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " . قال: فقال أبو بكر: أو إحداهن يا رسول الله؟ قال: "أو إحداهن" (5)

حديث في قراءتها عند دخول المنزل: قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله بن بكر السراج العسكري، حدثنا محمد بن الفرج، حدثنا محمد بن الزبرقان، عن مروان بن سالم، عن أبي زُرْعَة بن (6) عمرو بن جرير، عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " حين يدخل منزله، نفت الفقر عن أهل ذلك المنزل والجيران" (7) . إسناده ضعيف.

حديث في الإكثار من قراءتها في سائر الأحوال: قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي، حدثنا يزيد بن هارون، عن العلاء بن (8) محمد الثقفي قال: سمعت أنس بن مالك يقول: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك، فطلعت الشمس بضياء وشعاع ونور لم نرها طلعت فيما مضى-=

__________

(1) سنن النسائي الكبرى كما في تحفة الأشراف للمزي (2/90).

(2) سنن أبي داود برقم (1493) وسنن الترمذي برقم (3475) وسنن ابن ماجة برقم (3857).

(3) زيادة من م.

(4) في م، أ، هـ: "عمر بن شيبان".

(5) مسند أبي يعلى (3/332)، وقال الهيثمي في المجمع (10/102): "فيه عمر بن نبهان وهو متروك".

(6) في م، أ، هـ: "عن".

(7) المعجم الكبير (2/340).

(8) كذا ترجمه البخاري في التاريخ (6/507)، وابن حبان في المجروحين (2/181)، وترجمه ابن أبي حاتم في الجرح (6/355)، والذهبي في الميزان (3/106)، كذا: "العلاء بن يزيد، أبو محمد الثقفي" وكأن هذا هو الراجح، لكن أثبتنا الأول لكونه وقع في النسخ هكذا، وكذلك في مسند أبي يعلى، أما الدلائل فقد وقع فيه على الكنية فأثبتناه كما هو فيه

=بمثله، فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال (1) يا جبريل، ما لي أرى الشمس طلعت اليوم (2) بضياء ونور وشعاع لم أرها طلعت بمثله فيما مضى؟ ". قال: إن ذلك معاوية بن معاوية الليثي، مات بالمدينة اليوم، فبعث الله إليه سبعين ألف ملك يصلون عليه. قال: "وفيم ذلك؟ " قال: كان يكثر قراءة: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " في الليل وفي النهار، وفي ممشاه وقيامه وقعوده، فهل لك يا رسول الله أن أقبض لك الأرض فتصلي عليه؟ قال: "نعم". فصلى عليه.

وكذا رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في [كتاب] (3) دلائل النبوة" من طريق يزيد بن هارون، عن العلاء أبي (4) محمد (5) -وهو متهم بالوضع -فالله أعلم.

طريق أخرى: قال أبو يعلى: حدثنا محمد بن إبراهيم الشامي أبو عبد الله، حدثنا عثمان بن الهيثم -مؤذن مسجد الجامع بالبصرة عندي-عن محمود أبي عبد الله (6) عن عطاء بن أبي ميمونة، عن أنس قال: نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مات معاوية بن معاوية الليثي، فتحب أن تصلي عليه؟ قال: "نعم". فضرب بجناحه الأرض، فلم تبق شجرة ولا أكمة إلا تضعضعت، فرفع سريره فنظر إليه، فكبر عليه وخلفه صفان من الملائكة، في كل صف سبعون ألف ملك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا جبريل، بم نال هذه المنزلة من الله تعالى؟ ". قال بحبه: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " وقراءته إياها ذاهبًا وجائيًا قائمًا (7) وقاعدًا، وعلى كل حال (8) .

ورواه البيهقي، من رواية عثمان بن الهيثم المؤذن، عن محبوب بن هلال، عن عطاء بن أبي ميمونة، عن أنس، فذكره. وهذا هو الصواب (9) ، ومحبوب بن هلال قال أبو حاتم الرازي: "ليس بالمشهور" (10) . وقد روي هذا من طرق أخر، تركناها (11) اختصارًا، وكلها ضعيفة.

حديث آخر في فضلها مع المعوذتين: قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا معاذ بن رفاعة، حدثني علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن عقبة بن عامر قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فابتدأته فأخذتُ بيده، فقلت: يا رسول الله، بم نجاة المؤمن؟ قال: "يا عقبة، احْرُسْ لسانك وليسعك بيتُك، وابْكِ على خطيئتك". قال: ثم لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فابتدأني فأخذ بيدي، فقال: "يا عقبة بن عامر، ألا أعلمك خير ثلاث سُوَر أنزلت في التوراة، والإنجيل،

__________

(1) في م: "فقال لي".

(2) في م: "يومئذ".

(3) زيادة من م.

(4) في أ: "العلاء بن محمد".

(5) مسند أبي يعلى (7/256) ودلائل النبوة (5/245).

(6) وقع في أصل مسند أبي يعلى: "محمود بن عبد الله" ووقع هنا: "محمود أبي عبد الله" - كما ترى- والصواب: "محبوب ابن هلال" كما في رواية البيهقي، والله أعلم.

(7) في م: "وقائما".

(8) مسند أبي يعلى (7/258).

(9) دلائل النبوة (5/246) ورواه ابن الضريس في فضائل القرآن برقم (272)، من طريق محبوب بن هلال به، وساقه المؤلف في البداية والنهاية من رواية البيهقي (5/14)، وقال: "منكر من هذا الوجه".

(10) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (8/389).

(11) في م: "تركنا ذكرها". 

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)

والزبور، والقرآن العظيم؟". قال: قلت: بلى، جعلني الله فداك. قال: فأقرأني: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " و " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " و " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " ثم قال: "يا عقبة، لا تَنْسَهُن ولا تُبتْ ليلة حتى تقرأهن". قال: فما نسيتهن منذ قال: "لا تنسهن"، وما بت ليلة قط حتى أقرأهن. قال عقبة، ثم لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأته، فأخذت بيده، فقلت: يا رسول الله، أخبرني بفواضل الأعمال. فقال: "يا عقبة، صِلْ من قطعك، وأعْطِ من حَرَمَك، وأعرض (1) عمن ظلمك" (2)

روى الترمذي بعضه في "الزهد"، من حديث عُبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد وقال: هذا حديث حسن (3) . وقد رواه أحمد من طريق آخر:

حدثنا حسين بن محمد، حدثنا ابن عياش، عن أسيد بن عبد الرحمن الخَثْعَمي، عن فرْوَة بن مجاهد اللخمي، عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله سواء. تفرد به أحمد (4) .

حديث آخر في الاستشفاء بهن: قال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا المفضل، عن عُقَيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كُل ليلة جمع (5) كفيه، ثم نفث فيهما فقرأ فيهما: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " و " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " و " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات.

وهكذا رواه أهل السنن، من حديث عُقَيل، به (6) .

بسم الله الرحمن الرحيم

{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) }

قد تقدم ذكر سبب نزولها. وقال عكرمة: لما قالت اليهود: نحن نعبد عُزيرَ ابن الله. وقالت النصارى: نحن نعبد المسيح ابن الله. وقالت المجوس: نحن نعبد الشمس والقمر. وقالت المشركون: نحن نعبد الأوثان -أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }

يعني: هو الواحد الأحد، الذي لا نظير له ولا وزير، ولا نديد ولا شبيه ولا عديل، ولا يُطلَق ==

__________

(1) في م: "واعف".

(2) المسند (4/148).

(3) سنن الترمذي برقم (2406)، وفي إسناده عبيد الله بن زحر وعلى بن يزيد والقاسم كلهم ضعفاء، قال ابن حبان في عبيد الله بن زحر: "يروي الموضوعات عن الأثبات، وإذا روي عن علي بن يزيد أتى الطامات، وإذا اجتمع في إسناده خبر عبيد الله، وعلي بن يزيد، والقاسم -أبو عبد الرحمن- لم يكن ذلك الخبر إلا مما عملته أيديهم".

(4) المسند (4/158).

(5) في م: "ليلة جمعة".

(6) صحيح البخاري برقم (5017) وسنن أبي داود برقم (5056) وسنن الترمذي برقم (3402) وسنن النسائي الكبرى برقم (10624) وسنن ابن ماجة برقم (3875). 

= هذا اللفظ على أحد في الإثبات إلا على الله، عز وجل؛ لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله.

وقوله: { اللَّهُ الصَّمَدُ } قال عكرمة، عن ابن عباس: يعني الذي يصمد الخلائق إليه في حوائجهم ومسائلهم.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هو السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته (1) وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه، هذه صفته لا تنبغي إلا له، ليس له كفء، وليس كمثله شيء، سبحان الله الواحد القهار.

وقال الأعمش، عن شقيق (2) عن أبي وائل: { الصَّمَدُ } السيد الذي قد انتهى سؤدده، ورواه عاصم، بن أبي وائل، عن ابن مسعود، مثله.

وقال مالك، عن زيد بن أسلم: { الصَّمَدُ } السيد. وقال الحسن، وقتادة: هو الباقي بعد خلقه. وقال الحسن أيضا: { الصَّمَدُ } الحي القيوم الذي لا زوال له. وقال عكرمة: { الصَّمَدُ } الذي لم يخرج منه شيء ولا يطعم.

وقال الربيع بن أنس: هو الذي لم يلد ولم يولد. كأنه جعل ما بعده تفسيرًا له، وهو قوله: { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } وهو تفسير جيد. وقد تقدم الحديث من رواية ابن جرير، عن أبي بن كعب في ذلك، وهو صريح فيه.

وقال ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، ومجاهد، وعبد الله بن بُريدة، وعكرمة أيضا، وسعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، وعطية العوفي، والضحاك، والسدي: { الصَّمَدُ } الذي لا جوف له.

قال سفيان، عن منصور، عن مجاهد: { الصَّمَدُ } المصمت الذي لا جوف له.

وقال الشعبي: هو الذي لا يأكل الطعام، ولا يشرب الشراب.

وقال عبد الله بن بُرَيدة (3) أيضًا: { الصَّمَدُ } نور يتلألأ.

روى ذلك كلَّه وحكاه: ابن أبي حاتم، والبيهقي والطبراني، وكذا أبو جعفر بن جرير ساق أكثر ذلك بأسانيده، وقال:

حدثني العباس بن أبي طالب، حدثنا محمد بن عمرو بن رومي، عن عبيد الله بن سعيد قائد الأعمش، حدثني صالح بن حيان، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال -لا أعلم إلا قد رفعه-قال: { الصَّمَدُ } الذي لا جوف له.

وهذا غريب جدًا، والصحيح أنه موقوف على عبد الله بن بريدة.

__________

(1) في م: "في حكمه".

(2) في أ: "سفيان".

(3) في أ: "يزيد". 

وقد قال الحافظ أبو القاسم الطبراني في كتاب السنة له، بعد إيراده كثيرًا من هذه الأقوال في تفسير "الصمد": وكل هذه صحيحة، وهي صفات ربنا، عز وجل، وهو الذي يُصمَد إليه في الحوائج، وهو الذي قد انتهى سؤدده، وهو الصمد الذي لا جوف له، ولا يأكل ولا يشرب، وهو الباقي بعد خلقه. وقال البيهقي نحو ذلك [أيضا] (1) . (2)

وقوله: { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } أي: ليس له ولد ولا والد ولا صاحبة.

قال مجاهد: { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } يعني: لا صاحبة له.

وهذا كما قال تعالى: { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأنعام : 101 ] أي: هو مالك كل شيء وخالقه، فكيف يكون له من خلقه نظير يساميه، أو قريب يدانيه، تعالى وتقدس وتنزه. قال الله تعالى: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [ مريم : 88 -95 ] وقال تعالى: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 26 ، 27 ] وقال تعالى: { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } [ الصافات : 158 ، 159 ] وفي الصحيح -صحيح البخاري-: "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله،إنهم يجعلون له ولدا،وهو يرزقهم ويعافيهم" (3

وقال البخاري: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هُرَيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله، عز وجل: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يُعيدَني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته. وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدًا. وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد".

ورواه أيضا من حديث عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن همام بن مُنَبِّه، عن أبي هريرة، مرفوعًا بمثله. تفرد بهما من هذين الوجهين (4) .

آخر تفسير سورة "الإخلاص"

__________

(1) زيادة من م، أ.

(2) وقد أطنب شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان معنى الصمد في الفتاوى (17/214).

(3) صحيح البخاري برقم (6099) من حديث أبي موسى، رضي الله عنه.

(4) صحيح البخاري برقم (4974) وبرقم (4975).

 

             تفسير سورتي المعوذتين-وهما مدنيتان             

قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا عاصم بن بَهْدَلة، عن زر بنُ حُبَيش قال: قلت لأبي بن كعب: إن ابن مسعود [كان] (1) لا يكتب المعوذتين في مصحفه؟ فقال: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أن جبريل، عليه السلام، قال له: " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " فقلتها، قال: " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " فقلتها. فنحن نقول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم (2) (3) .

ورواه أبو بكر الحُميدي في مسنده، عن سفيان بن عيينة، حدثنا عبدة بن أبي لُبَابة وعاصم بن بهدلة، أنهما سمعا زر بن حبيش قال: سألتُ أبي بن كعب عن المعوذتين، فقلت: يا أبا المنذر، إن أخاك ابن مسعود يَحُكهما من المصحف. فقال: إني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "قيل (4) لي: قل، فقلت". فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) .

وقال أحمد: حدثنا وَكيع، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زر قال: سألتُ ابنَ مسعود عن المعوذتين فقال: سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم عنهما فقال: " قيل لي، فقلت لكم، فقولوا". قال أبي: فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم فنحن نقول (6) .

وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا عَبدَةُ بن أبي لُبَابة، عن زر بن حُبَيش -وحدثنا عاصم عن زر-قال: سألت أبي بن كعب فقلت: أبا المنذر، إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا. فقال: إني سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "قيل لي، فقلت". فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (7) .

ورواه البخاري أيضًا والنسائي، عن قتيبة، عن سفيان بن عيينة، عن عبدة وعاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، عن أبي بن كعب، به (8) .

وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا الأزرق بن علي، حدثنا حسان بن إبراهيم، حدثنا الصَّلْت بن بَهرَام، عن إبراهيم، عن علقمة قال: كان عبد الله يَحُك المعوذتين من المصحف، ويقول: إنما

__________

(1) زيادة من المسند.

(2) في م: "عليه السلام".

(3) المسند (5/129).

(4) في م: "قال".

(5) مسند الحميدي (1/185).

(6) المسند (5/129).

(7) صحيح البخاري برقم (4977).

(8) صحيح البخاري برقم (4976).

(8/530)

أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بهما، ولم يكن عبد الله يقرأ بهما (1)

ورواه عبد الله بن أحمد من حديث الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن (2) بن يزيد قال: كان عبد الله يحك المعوذتين من مصاحفه، ويقول: إنهما ليستا من كتاب الله -قال الأعمش: وحدثنا عاصم، عن زر بن حبيش، عن أبي بن كعب قال: سألنا عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "قيل لي، فقلت" (3) .

وهذا مشهور عند كثير من القراء والفقهاء: أن ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه، فلعله لم يسمعهما من النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتواتر عنده، ثم لعله قد رجع عن قوله ذلك إلى قول الجماعة، فإن الصحابة، رضي الله عنهم، كتبوهما (4) في المصاحف الأئمة، ونفذوها إلى سائر الآفاق كذلك، ولله الحمد والمنة.

وقد قال مسلم في صحيحه: حدثنا قتيبة، حدثنا جرير، عن بيان، عن قيس بن أبي حَازم، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم يُر مثلهن قط: " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " و " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " (5) .

ورواه أحمد، ومسلم أيضا، والترمذي، والنسائي، من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن عقبة، به (6) . وقال الترمذي: حسن صحيح.

طريق أخرى: قال الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ابن جابر، عن القاسم أبي عبد الرحمن، عن عقبة بن عامر قال: بينا أنا أقود برسول الله صلى الله عليه وسلم في نَقب من تلك النقاب، إذ قال لي: "يا عقبة، ألا تَركب؟ ". قال: [فَأجْلَلْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أركب مركبه. ثم قال: "يا عُقيب، ألا تركب؟ ". قال] (7) فأشفقت أن تكون معصية، قال: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وركبت هنيهة، ثم ركب، ثم قال: "يا عقيب، ألا أُعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس؟ ". قلت: بلى يا رسول الله. فأقرأني: " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " و " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " ثم أقيمت الصلاة، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ بهما، ثم مر بي فقال: "كيف رأيت يا عقيب (8) اقرأ بهما كلما نمت وكلما قمت".

ورواه النسائي من حديث الوليد بن مسلم وعبد الله بن المبارك، كلاهما عن ابن جابر، به (9) .

__________

(1) ورواه البزار في مسنده برقم (2301)، من طريق محمد بن أبي يعقوب، عن حسان بن إبراهيم به، وقال البزار: "وهذا لم يتابع عبد الله عليه أحد من الصحابة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بهما في الصلاة، وأثبتنا في المصحف".

(2) في م: "عن عبد الله".

(3) زوائد المسند (5/129).

(4) في م: "أتبعوهما".

(5) صحيح مسلم برقم (814).

(6) المسند (4/144) وصحيح مسلم برقم (814)، وسنن الترمذي برقم (2902) وسنن النسائي (2/158).

(7) زيادة من المسند.

(8) في م: "يا عقب".

(9) المسند (4/144) وسنن النسائي (8/253).

(8/531)

ورواه أبو داود والنسائي أيضًا، من حديث ابن وهب، عن معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن عقبة، به (1) .

طريق أخرى: قال أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثني يزيد ابن عبد العزيز الرعيني وأبو مرحوم، عن يزيد بن محمد القرشي، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة.

ورواه أبو داود والترمذي والنسائي، من طرق، عن علي بن أبي رباح (2) . وقال الترمذي: غريب.

طريق أخرى: قال أحمد: حدثنا يحيى (3) بن إسحاق، حدثنا ابن لَهِيعة، عن مشَرح بن هاعان، عن عقبة بن عامر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ بالمعوذتين، فإنك لن تقرأ بمثلهما". تفرد به أحمد (4) .

طريق أخرى: قال أحمد: حدثنا حيوة بن شُرَيْح، حدثنا بَقِيَّة، حدثنا بَحير بن سعد، عن خالد بن مَعْدان، عن جُبَير بن نُفَير، عن عقبة بن عامر أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهديت له بغلة شهباء، فركبها فأخذ عقبة يقودها له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) اقرأ " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " . فأعادها له حتى قرأها، فعرف أني لم أفرح بها جدًا، فقال: "لعلك تهاونت بها؟ فما قمت تصلي بشيء مثلها".

ورواه النسائي عن عمرو بن عثمان، عن بقية، به (6) . ورواه النسائي أيضا من حديث الثوري، عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عقبة بن عامر: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعوذتين، فذكر نحوه (7) .

طريق أخرى: قال النسائي: أخبرنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر، سمعت النعمان، عن زياد أبي الأسد، عن عقبة بن عامر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الناس لم يتعوذوا بمثل هذين: " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " و " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " (8) .

طريق أخرى: قال النسائي: أخبرنا قتيبة، حدثنا الليث، عن أبي عجلان، عن سعيد المقبري، عن عقبة بن عامر قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عقبة، قل". فقلت: ماذا أقول؟ فسكت عني، ثم قال: "قل". قلت: ماذا أقول يا رسول الله؟ فسكت عني، فقلت: اللهم، أردده على. فقال: "يا عقبة، قل". قلت: ماذا أقول يا رسول الله؟ فقال: "

__________

(1) سنن النسائي (8/252،253) وسنن أبي داود برقم (1462).

(2) المسند (4/155) وسنن أبي داود برقم (1523)، وسنن الترمذي برقم (2903) وسنن النسائي (3/68).

(3) في م، أ: "حدثنا محمد".

(4) المسند (4/146).

(5) في م، أ: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعقبة".

(6) المسند (4/149) وسنن النسائي الكبرى برقم (7843،7844).

(7) سنن النسائي (8/252).

(8) سنن النسائي الكبرى برقم (7856) .

(8/532)

" قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " ، فقرأتها حتى أتيت على آخرها، ثم قال: "قل". قلت: ماذا أقول يا رسول الله؟ قال: " " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " ، فقرأتها حتى أتيت على آخرها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "ما سأل سائل بمثلهما، ولا استعاذ مستعيذ بمثلهما" (1) .

طريق أخرى: قال النسائي: أخبرنا محمد بن يسار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا معاوية، عن العلاء بن الحارث، عن مكحول، عن عقبة بن عامر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في صلاة الصبح (2) .

طريق أخرى: قال النسائي: أخبرنا قتيبة، حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي عمران أسلم، عن عقبة بن عامر قال: اتبعت (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكب، فوضعت يدي على قدمه (4) فقلت: أقرئني سورة هود أو سورة يوسف. فقال: "لن تقرأ شيئًا أنفع (5) عند الله من " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق " (6) .

حديث (7) آخر: قال النسائي: أخبرنا محمود بن خالد، حدثنا الوليد، حدثنا أبو عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي عبد الله، عن ابن عائش (8) الجهني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا ابن عائش، ألا أدلك -أو: ألا أخبرك -بأفضل ما يتعوذ به المتعوذون؟ ". قال: بلى، يا رسول الله. قال: " " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق " و " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " هاتان السورتان" (9) .

فهذه طرق عن عقبة كالمتواترة عنه، تفيد القطع عند كثير من المحققين في الحديث.

وقد تقدم في رواية صُدَيّ بن عجلان، وفَرْوَةَ بن مُجَاهد، عنه: "ألا أعلمك ثلاثَ سُوَر لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان (10) مثلهن؟ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " و " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " و " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " .

حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا الجريري، عن أبي العلاء قال: قال رجل: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، والناس يعتقبون، وفي الظهر قلة، فحانت نزلَة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلتي، فلحقني فضرب [من بعدي] (11) منكبي، فقال: " " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " ، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأتها معه، ثم قال: " " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " ، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأتها معه، فقال: "إذا صليت فاقرأ بهما" (12) .

__________

(1) سنن النسائي (8/253).

(2) سنن النسائي (8/252).

(3) في م: "أتيت".

(4) في م، أ: "على قدميه".

(5) في م: "أبلغ".

(6) سنن النسائي (8/254).

(7) في أ: "طريق".

(8) في أ: "عباس".

(9) سنن النسائي (8/251).

(10) في أ: "في القرآن".

(11) زيادة من المسند.

(12) المسند (5/24).

(8/533)

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)

الظاهر أن هذا الرجل هو عقبة بن عامر، والله أعلم.

ورواه النسائي عن يعقوب بن إبراهيم، عن ابن علية، به (1) .

حديث آخر: قال النسائي: أخبرنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، عن عبد الله بن سعيد، حدثني يزيد بن رومان، عن عقبة بن عامر، عن عبد الله الأسلمي -هو ابن أنيس-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره ثم قال: "قل". فلم أدر ما أقول، ثم قال لي: "قل". قلت: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " ثم قال لي: "قل". قلت: " أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ " حتى فرغت منها، ثم قال لي: "قل". قلت: " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " حتى فرغت منها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هكذا فَتَعَوَذْ (2) ما تعوذَ المتعوذون بمثلهن قط" (3) .

حديث آخر: قال النسائي: أخبرنا عمرو بن علي أبو حفص، حدثنا بَدَل، حدثنا شداد بن سعيد أبو طلحة، عن سعيد الجُرَيري، حدثنا أبو نَضْرة، عن جابر بن عبد الله قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ يا جابر". قلت: وما أقرأ بأبي أنت وأمي؟ قال: "اقرأ " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " و " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس " . فقرأتهما، فقال: "اقرأ بهما، ولن تقرأ بمثلهما" (4) .

وتقدم حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهن، وينفث في كفيه، ويمسح بهما رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده.

وقال الإمام مالك: عن ابن شهاب، عن عُرْوَة، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه، وأمسح بيده عليه، رجاء بركتها.

ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى بن يحيى، وأبو داود عن القعنبي، والنسائي عن قتيبة -ومن حديث ابن القاسم، وعيسى بن يونس -وابن ماجة من حديث معن وبشر بن عُمَر، ثمانيتهم عن مالك، به (5) .

وتقدم في آخر سورة: " ن " من حديث أبي نضرة، عن أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من أعين الجان وعين الإنسان، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما، وترك ما سواهما. رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة، وقال الترمذي: حديث حسن.

بسم الله الرحمن الرحيم

{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5) }

__________

(1) سنن النسائي الكبرى برقم (7859).

(2) في م: "فتعوذوا".

(3) سنن النسائي الكبرى برقم (7845).

(4) سنن النسائي الكبرى برقم (7854).

(5) الموطأ (2/942) وصحيح البخاري برقم (5016) وصحيح مسلم برقم (3902) وسنن أبي داود برقم (3902) وسنن النسائي الكبرى برقم (7549،7544،10847) وسنن ابن ماجة برقم (3529).

(8/534)

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عصام، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا حسن بن صالح، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر قال: الفلق: الصبح.

وقال العوفي، عن ابن عباس: { الْفَلَقِ } الصبح. ورُوي عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وعبد الله بن محمد بن عقيل، والحسن، وقتادة، ومحمد بن كعب القرظي، وابن زيد، ومالك عن زيد بن أسلم، مثل هذا.

قال القرظي، وابن زيد، وابن جرير: وهي كقوله تعالى: { فَالِقُ الإصْبَاحِ } [ الأنعام : 96 ] .

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { الْفَلَقِ } الخلق. وكذا قال الضحاك: أمر الله نبيه أن يتعوذ من الخلق كله.

وقال كعب الأحبار: { الْفَلَقِ } بيت في جهنم، إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدة حره، ورواه ابن أبي حاتم، ثم قال:

حدثنا أبي، حدثنا سهيل بن عثمان، عن رجل سماه، عن السدي، عن زيد بن علي، عن آبائه أنهم قالوا: { الْفَلَقِ } جب في قعر جهنم، عليه غطاء، فإذا كشف عنه خرجت منا (1) نار تصيح منه جهنم، من شدة حر ما يخرج منه.

وكذا رُوي عن عمرو بن عَبَسَةَ (2) والسدي، وغيرهم. وقد ورد في ذلك حديثٌ مرفوع منكر، فقال ابن جرير:

حدثني إسحاق بن وهب الواسطي، حدثنا مسعود بن موسى بن مشكان الواسطي، حدثنا نصر بن خزيمة الخراساني، عن شعيب بن صفوان، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي هُريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " { الْفَلَقِ } جُبّ في جهنم مغطى" (3) إسناده (4) غريب ولا يصح رفعه.

وقال أبو عبد الرحمن الحبلي: { الْفَلَقِ } من أسماء جهنم.

قال ابن جرير: والصواب القول الأول، أنه فلق الصبح. وهذا هو الصحيح، وهو اختيار البخاري، رحمه الله، في صحيحه (5) .

وقوله: { مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ } أي: من شر جميع المخلوقات. وقال ثابت البناني، والحسن البصري: جهنم وإبليس وذريته مما خلق.

{ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } قال مجاهد: غاسقُ الليلُ إذا وقبَ غُروبُ الشمس. حكاه البخاري عنه. ورواه ابن أبي نَجِيح، عنه. وكذا قال ابن عباس، ومحمد بن كعب القرظي، والضحاك، وخُصَيف، والحسن، وقتادة: إنه الليل إذا أقبل بظلامه.

__________

(1) في م، أ: "خرجت منه".

(2) في أ: "عنبسة".

(3) تفسير الطبري (30/225).

(4) في م: "إسناد".

(5) تفسير الطبري (30/225) وصحيح البخاري (8/741) "فتح".

(8/535)

وقال الزهري: { وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } الشمس إذا غربت. وعن عطية وقتادة: إذا وقب الليل: إذا ذهب. وقال أبو المهزم، عن أبي هريرة: { وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } كوكب. وقال ابن زيد: كانت العرب تقول: الغاسق سقوط الثريا، وكان (1) الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها، وترتفع عند طلوعها.

قال ابن جرير: ولهؤلاء من الأثر ما حدثني: نصر بن علي، حدثني بكار بن عبد الله -ابن أخي همام -حدثنا محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن أبي سلمة، عن أبي هُرَيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " { وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } قال: النجم الغاسق" (2) .

قلت: وهذا الحديث لا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن جرير: وقال آخرون: هو القمر.

قلت: وعمدة أصحاب هذا القول ما رواه الإمام أحمد:

حدثنا أبو داود الحَفري، عن ابن أبي ذئب، عن الحارث، عن أبي سلمة قال: قالت عائشة، رضي الله عنها: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فأراني القمر حين يطلع، وقال: "تَعوَّذِي بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب".

ورواه الترمذي والنسائي، في كتابي التفسير من سننيهما، من حديث محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ذئب، عن خاله الحارث بن عبد الرحمن، به (3) . وقال الترمذي: حسن صحيح. ولفظه: "تعوذي بالله من شر هذا، فإن هذا الغاسق إذا وقب". ولفظ النسائي: "تعوَّذي بالله من شر هذا، هذا الغاسق إذا وقب".

قال أصحاب القول الأول وهو أنه الليل إذا ولج -: هذا لا ينافي قولنا؛ لأن القمر آيةُ الليل، ولا يوجد له سلطان إلا فيه، وكذلك النجوم لا تضيء، إلا في الليل، فهو يرجع إلى ما قلناه، والله أعلم.

وقوله: { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } قال مجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة والضحاك: يعني: السواحر -قال مجاهد: إذا رقين ونفثن في العقد.

وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، عن مَعْمَر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: ما من شيء أقرب من (4) الشرك من رقية الحية والمجانين (5) .

وفي الحديث الآخر: أن جبريل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اشتكيت يا محمد؟ فقال: "نعم". فقال: بسم الله أرْقِيك، من كل داء يؤذيك، ومن شر كل حاسد وعين، الله يشفيك (6) .

__________

(1) في م: "وكانت".

(2) تفسير الطبري (30/227).

(3) المسند (6/61) وسنن الترمذي برقم (3366) وسنن النسائي الكبرى برقم (10138).

(4) في أ: "إلى".

(5) تفسير الطبري (30/227).

(6) رواه مسلم في صحيحه برقم (2186) من حديث أبي سعيد، رضي الله عنه.

(8/536)

ولعل هذا كان من شكواه، عليه السلام، حين سحر، ثم عافاه الله تعالى وشفاه، ورد كيد السحرَة الحسَّاد من اليهود في رءوسهم، وجعل تدميرهم في تدبيرهم، وفضحهم، ولكن مع هذا لم يعاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الدهر، بل كفى الله وشفى وعافى.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن يزيد بن حَيَّان، عن زيد بن أرقم قال: سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ من اليهود، فاشتكى لذلك أياما، قال: فجاءه جبريل فقال: إن رجلا من اليهود سحرك، عقد لك عُقَدًا في بئر كذا وكذا، فَأرْسِل إليها من يجيء بها. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم [عليًا، رضي الله تعالى عنه] (1) فاستخرجها، فجاء بها فحللها (2) قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نَشط من عقال، فما ذكر ذلك لليهودي ولا رآه في وجهه [قط] (3) حتى مات.

ورواه النسائي عن هَنَّاد، عن أبي معاوية محمد بن حَازم الضرير (4) .

وقال البخاري في "كتاب الطب" من صحيحه: حدثنا عبد الله بن محمد قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: أول من حدثنا به ابنُ جُرَيْج، يقول: حدثني آل عُرْوَة، عن عروة، فسألت هشاما عنه، فحدثَنا عن أبيه، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سُحر، حتى كان يُرَى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن -قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر، إذا كان كذا -فقال: "يا عائشة، أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيتُه فيه؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للآخر: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب. قال: ومن طَبَّه؟ قال: لَبيد بن أعصم -رجل من بني زُرَيق حَليف ليهُودَ، كان منافقًا-وقال: وفيم؟ قال: في مُشط ومُشاقة. قال: وأين؟ قال: في جُف طَلْعَة ذكر تحت رعوفة في بئر ذَرْوَان". قالت: فأتى [النبي صلى الله عليه وسلم] (5) البئر حتى استخرجه فقال: "هذه البئر التي أريتها، وكأن ماءها نُقَاعة الحنَّاء، وكأن نخلها رءوس الشياطين". قال: فاستخرج (6) . [قالت] (7) . فقلت: أفلا؟ أي: تَنَشَّرْتَ ؟ فقال: "أمَّا اللهُ فقد شفاني، وأكره أن أثير على أحد من الناس شرًا" (8) .

وأسنده من حديث عيسى بن يونس، وأبي ضَمْرة أنس بن عياض، وأبي أسامة، ويحيى القطان وفيه: "قالت: حتى كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله". وعنده: "فأمر بالبئر فدفنت". وذكر أنه رواه عن هشام أيضًا ابن أبي الزَّناد والليث بن سعد (9) .

وقد رواه مسلم، من حديث أبي أسامة حماد بن أسامة وعبد الله بن نمير. ورواه أحمد، عن

__________

(1) زيادة من المسند.

(2) في م: "فحلها".

(3) زيادة من المسند.

(4) المسند (4/367) وسنن النسائي (7/112).

(5) زيادة من صحيح البخاري.

(6) في أ: "فاستخرجه".

(7) زيادة من صحيح البخاري.

(8) صحيح البخاري برقم (5765).

(9) صحيح البخاري برقم (5863، 6391، 5766).

(8/537)

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)

عفان، عن وُهَيب (1) عن هشام، به (2) .

ورواه الإمام أحمد أيضًا عن إبراهيم بن خالد، عن رباح، عن مَعْمَر، عن هشَام، عن أبيه، عن عائشة قالت: لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر يُرى أنه يأتي ولا يأتي، فأتاه ملكان، فجلس أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال أحدهما للآخر: ما باله؟ قال: مطبوب. قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، وذكر تمام الحديث (3) .

وقال الأستاذ المفسر الثعلبي في تفسيره: قال ابن عباس وعائشة، رضي الله عنهما: كان غلام من اليهود يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدبَّت إليه اليهود، فلم يزالوا به حتى أخذ مُشَاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم وعدة أسنان من مُشطه، فأعطاها اليهود، فسحروه فيها. وكان الذي تولى ذلك رجل منهم -يقال له: [لبيد] (4) بن أعصم-ثم دسها في بئر لبني زُرَيق، ويقال لها: ذَرْوان، فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتثر شعر رأسه، ولبث ستة أشهر يُرَى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، وجعل يَذُوب ولا يدري ما عراه. فبينما هو نائم إذ أتاه ملكان فَقَعَد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: ما بال الرجل؟ قال: طُبَ. قال: وما طُبَ؟ قال: سحر. قال: ومن سحره؟ قال: لبيد بن أعصم اليهودي. قال: وبم طَبَه؟ قال: بمشط ومشاطة. قال: وأين هو؟ قال: في جُفَ طلعة تحت راعوفة في بئر ذَرْوَان -والجف: قشر الطلع، والراعوفة: حجر في أسفل البئر ناتئ يقوم عليه الماتح -فانتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم مذعورًا، وقال: "يا عائشة، أما شعرت أن الله أخبرني بدائي؟ ". ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا والزبير وعمار بن ياسر، فنزحوا ماء البئر كأنه نُقاعة الحناء، ثم رفعوا الصخرة، وأخرجوا الجف، فإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان من مشطه، وإذا فيه وتر معقود، فيه اثنتا عشرة (5) عقدة مغروزة بالإبر. فأنزل الله تعالى السورتين، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة حين انحلت العقدة الأخيرة، فقام كأنما نَشطَ من عقال، وجعل جبريل، عليه السلام، يقول: باسم الله أرْقِيك، من كل شيء يؤذيك، من حاسد وعين الله يشفيك. فقالوا: يا رسول الله، أفلا نأخذ الخبيث نقتله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فقد شفاني الله، وأكره أن يثير على الناس شرًا" (6) .

هكذا أورده بلا إسناد، وفيه غرابة، وفي بعضه نكارة شديدة، ولبعضه شواهد مما تقدم، والله أعلم.

سورة الناس

{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ

__________

(1) في م: "وهب".

(2) صحيح مسلم برقم (2189) والمسند (6/96).

(3) المسند (6/63).

(4) زيادة من م، أ.

(5) في م، أ: "فيه اثنا عشر".

(6) الكشف والبيان للثعلبي "ق 194 المحمودية".

(8/538)

مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)

الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) }

هذه ثلاث صفات (1) من صفات الرب، عز وجل؛ الربوبية، والملك، والإلهية: فهو رب كل شيء ومليكه وإلهه، فجميع الأشياء مخلوقة له، مملوكة عبيد له، فأمر المستعيذ أن يتعوذ بالمتصف بهذه الصفات، من شر الوسواس الخناس، وهو الشيطان الموكل بالإنسان، فإنه ما من أحد من بني آدم إلا وله قرين يُزَين له الفواحش، ولا يألوه جهدًا في الخبال. والمعصوم من عَصَم الله، وقد ثبت في الصحيح أنه: "ما منكم من أحد إلا قد وُكِل به قرينة". قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: "نعم، إلا أن الله أعانني عليه، فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير" (2) وثبت في الصحيح، عن أنس في قصة زيارة صفية النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف، وخروجه معها ليلا ليردها إلى منزلها، فلقيه رجلان من الأنصار، فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال رسول الله: "على رسلكما، إنها صفية بنت حُيي". فقالا سبحان الله، يا رسول الله. فقال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم (3) مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا، أو قال: شرًا" (4) .

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا محمد بن بحر، حدثنا عدي بن أبي عمَارة، حدثنا زيادًا (5) النّميري، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان واضع خطمه (6) على قلب ابن آدم، فإن ذكر (7) خَنَس، وإن نسي (8) التقم قلبه، فذلك الوسواس الخناس" (9) غريب.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عاصم، سمعت أبا تميمة يُحَدث عن رَديف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عَثَر بالنبي صلى الله عليه وسلم حمارهُ، فقلت: تَعِس الشيطان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقل: تعس الشيطان؛ فإنك إذا قلت: تعس الشيطان، تعاظَم، وقال: بقوتي صرعته، وإذا قلت: بسم الله، تصاغر حتى يصير مثل الذباب" (10) .

تفرد به أحمد، إسناده (11) جيد قوي، وفيه دلالة على أن القلب متى ذكر الله تصاغر الشيطان وغُلِب، وإن لم يذكر الله تعاظم وغلب.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو بكر الحنفي، حدثنا الضحاك بن عثمان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم إذا كان في المسجد، جاءه الشيطان فأبس

__________

(1) في هـ: "صفة" والمثبت من م، أ.

(2) رواه مسلم في صحيحه برقم (2814) من حديث عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه.

(3) في أ: "من الإنسان".

(4) صحيح مسلم برقم (2174) هو في صحيح البخاري برقم (2035،6219،7171) من حديث صفية، رضي الله عنها.

(5) في م: "زياد" وهو الصواب.

(6) في أ: "خرطومه".

(7) في أ: "ذكر الله".

(8) في أ: "نسى الله".

(9) مسند أبي يعلى (7/278،279) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (8/742): "إسناده ضعيف"؛ وذلك لضعف زياد النميري والكلام في عدي بن أبي عمارة.

(10) المسند (5/59).

(11) في م: "إسناد".

(8/539)

به كما يُبَس الرجل بدابته، فإذا سكن له زنقه -أو: ألجمه". قال أبو هُرَيرة: وأنتم ترون ذلك، أما المزنوق فتراه مائلا-كذا-لا يذكر الله، وأما الملجم ففاتح فاه لا يذكر الله، عز وجل. تفرد به أحمد (1) .

وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: { الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ } قال: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله خَنَس. وكذا قال مجاهد، وقتادة.

وقال المعتمر بن سليمان، عن أبيه: ذُكرَ لي أن الشيطان، أو: الوسواس ينفث في قلب ابن آدم عند الحزن وعند الفرح، فإذا ذكر الله خنس.

وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: { الْوَسْوَاس } قال: هو الشيطان يأمر، فإذا أطيع خنس.

وقوله: { الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ } هل يختص هذا ببني آدم -كما هو الظاهر -أو يعم بني آدم والجن؟ فيه قولان، ويكونون قد دخلوا في لفظ الناس تغليبا.

وقال ابن جرير: وقد استعمل فيهم(رجَالٌ منَ الجنَ) فلا بدع في إطلاق الناس عليهم .

وقوله: { مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } هل هو تفصيل لقوله: { الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ } ثم بينهم فقال: { مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } وهذا يقوي القول الثاني. وقيل قوله: { مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } تفسير للذي يُوسوس في صدور الناس، من شياطين الإنس والجن، كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } [ الأنعام : 112 ] ، وكما قال الإمام أحمد:

حدثنا وَكِيع، حدثنا المسعودي، حدثنا أبو عُمَر الدمشقي، حدثنا عبيد بن الخشخاش، عن أبي ذر قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فجلست، فقال: "يا أبا ذر، هل صليت؟ ". قلت: لا. قال: "قم فصل". قال: فقمت فصليت، ثم جلست فقال: "يا أبا ذر، تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن".

قال: قلت: يا رسول الله، وللإنس شياطين؟ قال: "نعم". قال: قلت: يا رسول الله، الصلاة؟ قال: "خير موضوع، من شاء أقل، ومن شاء أكثر". قلت: يا رسول الله فما الصوم؟ قال: "فرض يجزئ، وعند الله مزيد". قلت: يا رسول الله، فالصدقة؟ قال: "أضعاف مضاعفة". قلت: يا رسول الله، أيها (2) أفضل؟ قال: "جُهد من مُقل، أو سر إلى فقير". قلت: يا رسول الله، أي الأنبياء كان أول؟ قال: "آدم". قلت: يا رسول الله، ونبي (3) كان؟ قال: "نعم، نبي مُكَلَّم". قلت: يا رسول الله، كم المرسلون؟ قال: "ثلثمائة وبضعة عشر، جَمًّا غَفيرًا". وقال مرة: "خمسة عشر". قلت: يا رسول الله، أيما أنزل عليك أعظم؟

__________

(1) المسند (2/230)، وقال الهيثمي في المجمع (1/242): "رجاله رجال الصحيح".

(2) في م: "فأيها".

(3) في م: "ونبيا".

(8/540)

قال: "آية الكرسي: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }

ورواه النسائي، من حديث أبي عمر الدمشقي، به (1) . وقد أخرج هذا الحديث مطولا جدًا أبو حاتم بن حبان في صحيحه، بطريق آخر، ولفظ آخر مطول جدًا (2) فالله أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، عن سفيان، عن منصور، عن ذر بن عبد الله الهَمْداني، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أحدث (3) نفسي بالشيء لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أتكلم به. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة".

ورواه أبو داود والنسائي، من حديث منصور -زاد النسائي: والأعمش -كلاهما عن ذر، به (4) .

آخر التفسير، ولله الحمد والمنة، والحمد لله رب العالمين (5) . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين (6) . ورضي الله عن الصحابة أجمعين (7) . حسبنا الله ونعم الوكيل.

وكان الفراغ منه في العاشر من جمادي الأولى سنة خمس وعشرين وثمانين. والحمد له وحده (8) .

__________

(1) المسند (5/178) وسنن النسائي (8/275).

(2) صحيح ابن حبان برقم (94) "موارد"، (1/287) "الإحسان" من طريق إبراهيم بن هشام بن يحيى بن يحيى الغساني، عن أبيه عن جده، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر، رضي الله عنه، وقد قال ابن عدي عن هذا الحديث: "هذا الحديث منكر من هذا الطريق".

(3) في م: "لأحدث".

(4) المسند (1/235) وسنن أبي داود برقم (5112) وسنن النسائي الكبرى برقم (10503).

(5) في أ: "والحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى".

(6) في أ: "وسلم تسليما أبدا دائما إلى يوم الدين".

(7) في أ: "ورضي الله عن أصحاب رسول الله".

(8) في م: "آخر التفسير ويليه فضائل القرآن للمؤلف أيضا، وبه يتم الكتاب إن شاء الله، ولله الحمد والمنة على التمام، إنه ولي الإنعام".

وقد جاء في خاتمة النسخة "هـ" هذه الخاتمة للناسخ:

"الحمد لله الذي رفع السماء بغير عماد، وبسط الأرض وثبتها بالأطواد، ومنح معرفته ومحبته من شاء من العباد، وأقام لدينه أولياء ينصرونه ويقومون به، وجعل منهم النجباء والأقطاب والأوتاد، وأعلى منار الدين بالعلماء العاملين، وأوضح بهم طرق الرشاد، وقمع بهم أهل الزيغ والأهواء والبدع والفساد، وثبت لهم دينهم بالنقل عن نبيهم بصحيح الإسناد، ونفى عنهم التدليس والشذوذ والانفراد.

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، المتعالي عن الشركاء والنظراء والأنداد، المنزه عن الحلول والاتحاد والإلحاد.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، سيد العباد، صلى الله عليه وعلى آله النجباء الأنجاد، وصحابته السادة الأبرار الأمجاد، صلاة تدوم وتقوم ما قامت السموات والأرض بأمره، وقابل البياض السواد.

وبعد، فقد أمرني السيد الجليل، من وصل الله له جناح الصنيع الجميل، وواصل عليه السول، وأوصل إليه المأمول، وعمر بحبه ربوع أنسي، وأمطر بفيضه ربيع نفسي، مولانا وسيدنا العبد الفقير إلى الله سبحانه الآمل الراجي عفوه الكريم وإحسانه، قاضي القضاة، حاكم الحكام، نجم الدين حجة الإسلام والمسلمين، سيد العلماء في العالمين، بهاء الملة، لسان الشريعة، عز السنة، حصن الأمة، خطيب الخطباء، إمام البلغاء، غرة الزمان، ناصر الإيمان شيخ شيوخ العارفين، أبو حفص عمر - ابن سيدنا ومولانا العبد الفقير إلى الله تعالى - الشيخ الإمام العلامة، والحبر الفهامة، قدوة العلماء العاملين، أبي محمد حجي السعدي الشافعي - أمر - أعلى الله أمره، وأسد قدره، من لا يتقلب إلا في طاعته، ولا يتصرف إلا في مرضاته - أن يكتب برسم خزانة تفسير الإمام العالم الكبير، العلامة عماد الدين ابن كثير - رحمه الله وأرضاه، وجعل بحبوحة الجنة مقره ومثواه. فامتثلت أمره بالسمع والطاعة، وعددت هذا الأمر من أنفس البضاعة، مع أني في الكتابة قليل الصناعة. فكتبت قدر ما قدرت عليه، ووصلت إليه. فإن صادفت قبولا وبلغت مأمولا، فيكون سعدي سعيدا، ويقع سهمي سديدا.. فإن وقفت بي قدرتي دون همتي ... فمبلغ علمي والمعاذير تقبل

قد جمعت هذه الخزانة الشريفة أشتات العلوم على الإطلاق، من رام مثلها فهو مقصر عن روم أسباب اللحاق، خصوصا إذا كان بها هذا التفسير الذي مادته سنن المصطفى المنبه على جوامع ما يزداد اللبيب بها بصيرة في علمه النافع، إذ كان صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلام، وعلم فصل الخطاب. فلم يسمع الناس كلاما أعم نفعا، ولا أقصر لفظا، ولا أعدل وفرا، ولا أجمل مذهبا، ولا أكرم مطلبا، ولا أحسن موقعا، ولا أسهل مخرجا. ولا أفصح عن معناه، ولا أبين في فحواه صلى الله عليه وسلم.

فلله در مولانا؛ إذا جمع الفضائل، ونظم آحاد العقائل، وحاز من العلم الذري والغوارب. فلا يخفى على ذي لب أنه أغرق في الفهم فصولا، وأعرق في العلم أصولا، فأقول مختصرا، وعما يليق بمدحه معتذرا، عسى يمر به من تضاعيف ثنائي عليه ما يبلغني به الزلفى في حبه، والقربى من قلبه، وتلك أمنيتي حين ألقى منيتي، لا أتعداها، ولا أتمنى سواها ولله در القائل: إذا ابن حجي حادت لنا يده ... لم يحمد الأجودان البحر والمطر

وإن أضاءت لنا أنوار غرته ... تضاءل الأنوران الشمس والقمر

وإن مضى رأيه أو جد عزمته ... تأخر الماضيان السيف والقدر

من لم يبت حذرا من خوف سطوته ... لم يدر ما المزعجان: الخوف والحذر?

كأنه الدهر في نعمي وفي نقم ... إذا تعاقب منه النفع والضرر

كأنه وزمام الدهر في يده ... يدا عواقب ما يأتي وما يذر

فالحمد لله الذي جعل جمال منظرك موازيا لكمال مخبرك، وشامخ فرعك مقارنا لراسخ عنصرك، والله حسبي فيك من كل ما يعوذ العبد به المولى: واسلم وعش لا زلت في نعمة ... أنت بها من غيرك الأولى

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

كتبه الفقير محمد بن علي الصوفي البواب، لمنعاه التضائية، بدمشق المحروسة، حامدا ومصليا، ومحسبلا ومحوقلا، والحمد لله وحده".

يقول الفقير إلى عفو ربه سامي بن محمد بن عبد الرحمن بن سلامة: وكان الانتهاء من تحقيق تفسير القرآن العظيم فجر يوم الأربعاء الثاني من شهر ربيع الأول سنة سبع عشرة وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية في مدينة الرياض، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الإخلاص - تفسير القرطبي

سورة الإخلاص

مكية؛ في قول ابن مسعود والحسن وعطاء وعكرمة وجابر. ومدنية؛ في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي. وهي أربع آيات.

بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ

1- {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}

2- {اللَّهُ الصَّمَدُ}

3- {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}

4- {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}

قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أي الواحد الوتر، الذي لا شبيه له، ولا نظير ولا صاحبة، ولا ولد ولا شريك. وأصل{أَحَدٌ}: وحد؛ قلبت الواو همزة. ومنه قول النابغة:

بذي الجليل على مستأنس وحد

وقد تقدم في سورة "البقرة" الفرق بين واحد وأحد، وفي كتاب "الأسنى، في شرح أسماء الله الحسي" أيضا مستوفى. والحمد لله. و {أَحَدٌ} مرفوع، على معنى: هو أحد. وقيل: المعنى: قل: الأمر والشأن: الله أحد. وقيل: "{أَحَدٌ} بدل من قوله: {اللَّهُ} وقرأ جماعة {أحد الله} بلا تنوين، طلبا للخفة، وفرارا من التقاء الساكنين؛ ومنه قول الشاعر:

ولا ذاكر الله إلا قليلا

(20/244)

{اللَّهُ الصَّمَدُ} أي الذي يصمد إليه في الحاجات. كذا روى الضحاك عن ابن عباس، قال: الذي يصمد إليه في الحاجات؛ كما قال عز وجل: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} . قال أهل اللغة: الصمد: السيد الذي يصمد إليه في النوازل والحوائج. قال:

ألا بكر الناعي بخير بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد

وقال قوم: الصمد: الدائم الباقي، الذي لم يزل ولا يزال. وقيل: تفسيره ما بعده "لم يلد ولم يولد". قال أبي بن كعب: الصمد: الذي لا يلد ولا يولد؛ لأنه ليس شيء إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا يورث. وقال علي وابن عباس أيضا وأبو وائل شقيق بن سلمة وسفيان: الصمد: هو السيد الذي قد أنتهى سؤدده في أنواع الشرف والسؤدد؛ ومنه قول الشاعر:

علوته بحسام ثم قلت له ... خذها حذيف فأنت السيد الصمد

وقال أبو هريرة: إنه المستغني عن كل أحدا، والمحتاج إليه كل أحد. وقال السدي: إنه: المقصود في الرغائب، والمستعان به في المصائب. وقال الحسين بن الفضل: إنه: الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وقال مقاتل: إنه: الكامل الذي لا عيب فيه؛ ومنه قول الزبرقان:

سيروا جميعا بنصف الليل واعتمدوا ... ولا رهينة إلا سيد صمد

وقال الحسن وعكرمة والضحاك وابن جبير: الصمد: المصمت الذي لا جوف له؛ قال الشاعر:

شهاب حروب لا تزال جياده ... عوابس يعلكن الشكيم المصمدا

قلت: قد أتينا على هذه الأقوال مبينة في الصمد، في (كتاب الأسنى) وأن الصحيح منها. ما شهد له الاشتقاق؛ وهو القول الأول، ذكره الخطابي. وقد أسقط من هذه السورة من أبعده الله وأخزاه، وجعل النار مقامة ومثواه، وقرأ {الله الواحد الصمد} في الصلاة، والناس يستمعون، فاسقط: {قل هو}، وزعم أنه ليس من القرآن. وغير لفظ {أحد}، وأدعى أن هذا

(20/245)

هو الصواب، والذي عليه الناس هو الباطل والمحال، فأبطل معنى الآية؛ لأن أهل التفسير قالوا: نزلت الآية جوابا لأهل الشرك لما قالوا لرسول الله صلى: صف لنا ربك، أمن ذهب هو أم من نحاس أم من صفر؟ فقال الله عز وجل ردا عليهم: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} " ففي {هُوَ} دلالة على موضع الرد، ومكان الجواب؛ فإذا سقط بطل معنى الآية، وصح الافتراء على الله عز وجل، والتكذيب لرسول صلى الله عليه وسلم.

وروى الترمذي عن أبي بن كعب: أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربك؛ فأنزل الله عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} . والصمد: الذي لم يلد ولم يولد؛ لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وأن الله تعالى لا يموت ولا يورث. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} قال: لم يكن له شبيه ولا عدل، وليس كمثله شيء. وروي عن أبي العالية: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر آلهتهم فقالوا: انسب لنا ربك. قال: فأتاه جبريل بهذه السورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، فذكر نحوه، ولم يذكر فيه عن أبي بن كعب، وهذا صحيح؛ قاله الترمذي.

قلت: ففي هذا الحديث إثبات لفظ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وتفسير الصمد، وقد تقدم. وعن عكرمة نحوه. وقال ابن عباس: "لم يلد" كما ولدت مريم، ولم يولد كما ولد عيس وعزير. وهو رد على النصارى، وعلى من قال: عزير ابن الله.

قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} أي لم يكن له مثلا أحد. وفيه تقدم وتأخير؛ تقديره: ولم يكن له كفوا أحد؛ فقدم خبر كان على اسمها، لينساق أو آخر الآي على نظم واحد. وقرئ {كفوا} بضم الفاء وسكونها، وقد تقدم في "البقرة" أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم، فإنه يجوز في عينه الضم والإسكان؛ إلا قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً} لعلة تقدمت. وقرأ حفص {كفوا} مضموم الفاء غير مهموز. وكلها لغات فصيحة.

(20/246)

القول في الأحاديث الواردة في فضل هذه السورة؛ وفيه ثلاث مسائل:

الأولى: ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري: أن رجلا سمع رجلا يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يرددها؛ فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، وكان الرجل يتقالها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن" . وعنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة" فشق ذلك عليهم، وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: "الله الواحد الصمد ثلث القرآن" خرجه مسلم من حديث أبي الدرداء بمعناه. وخرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن" ، فحشد من حشد؛ ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثم دخل فقال بعضنا لبعض: إني أرى هذا خبرا جاءه من السماء، فذاك الذي أدخله. ثم خرج فقال: "إني قلت لكم سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا إنها تعدل ثلث القرآن" قال بعض العلماء: إنها عدلت ثلث القرآن لأجل هذا الاسم، الذي هو {الصَّمَدُ}، فإنه لا يوجد في غيرها من السور. وكذلك {أَحَدٌ}. وقيل: إن القرآن أنزل أثلاثا، ثلثا منه أحكام، وثلثا منه وعد ووعيد، وثلثا منه أسماء وصفات، وقد جمعت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أحد الأثلاث، وهو الأسماء والصفات. ودل على هذا التأويل ما في صحيح مسلم، من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله جل وعز جزأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} جزءا من أجزاء القرآن" . وهذا نص؛ وبهذا المعنى سميت سورة الإخلاص، والله أعلم.

الثانية : روى مسلم عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ؛ فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي

(20/247)

صلى الله عليه وسلم فقال: "سلوه لأي شيء يصنع ذلك" ؟ فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأ بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخبروه أن الله عز وجل يحبه" . وروى الترمزي عن أنس بن مالك قال: كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، وكان كلما أفتتح سورة يقرؤها لهم في الصلاة فقرأ بها، أفتتح بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ؛ حتى يفرغ منها، ثم يقرأ بسورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه، فقالوا: إنك تقرأ بهذه السورة، ثم لا ترى منها تجزيك حتى تقرأ بسورة أخرى، فإما أن تقرأ بها، وإما أن تدعوا وتقرأ بسورة أخرى؟ قال: ما أنا بتاركها وإن أحببتم أن أؤمكم بها فعلت، وإن كرهتم تركتكم؛ وكانوا يرونه أفضلهم، وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم اخبروه الخبر، فقال: "يا فلان ما يمنعك مما يأمر به أصحابك؟ وما يحملك أن تقرأ هذه السورة في كل ركعة" ؟ فقال: يا رسول الله، إني أحبها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن حبها أدخلك الجنة" . قال: حديث حسن غريب صحيح. قال ابن العربي: فكان هذا دليلا على أنه يجوز تكرار سورة في كل ركعة. وقد رأيت على باب الأسباط فيما يقرب منه، إماما من جملة الثمانية والعشرين إماما، كان يصلي فيه التراويح في رمضان بالأتراك؛ فيقرأ في كل ركعة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حتى يتم التراويح؛ تخفيفا عليه، ورغبة في فضلها وليس من السنة ختم القرآن في رمضان.

قلت: هذا نص قول مالك، قال مالك: وليس ختم القرآن في المساجد بسنة.

الثالثة: روى الترمذي عن أنس بن مالك قال: أقبلت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع رجلا يقرأ "قل هو الله أحد"؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وجبت" . قلت: وما وجبت؟ قال: "الجنة" . قال: هذا حديث حسن صحيح. قال الترمذي:

(20/248)

حدثنا محمد بن مرزوق البصري قال حدثنا حاتم بن ميمون أبو سهل عن ثابت البناني عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ كل يوم مائتي مرة قل هو الله أحد، محي عنه ذنوب خمسين سنة، إلا أن يكون عليه دين" . وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من أراد أن ينام على فراشه، فنام على يمينه، ثم قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مائة مرة، فإذا كان يوم القيامة يقول الرب: يا عبدي، ادخل على يمينك الجنة" . قال: هذا حديث غريب من حديث، ثابت عن أنس. وفي مسند أبي محمد الدارمي، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} خمسين مرة، غفرت له ذنوب خمسين سنة" قال: وحدثنا عبدالله بن يزيد قال حدثنا حيوة قال: أخبرني أبو عقيل: أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} عشرة مرات بني له قصر في الجنة. ومن قرأها عشرين مرة بني له بها قصران في الجنه. ومن قرأها ثلاثين مرة بني له بها ثلاثة قصور في الجنة" . فقال عمر بن الخطاب: والله يا رسول الله إذا لنكثرن قصورنا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أوسع من ذلك" قال أبو محمد: أبو عقيل زهرة بن معبد، وزعموا أنه كان من الأبدال. وذكر أبو نعيم الحافظ من حديث أبي العلاء يزيد بن عبدالله بن الشخير عن أبيه، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في مرضه الذي يموت فيه، لم يفتن في قبره. وأمن من ضغطة القبر. وحملته الملائكة يوم القيامة بأكفها، حتى تجيزه من الصراط إلى الجنة" . قال: هذا حديث غريب من حديث يزيد، تفرد به نصر بن حماد البجلي.

وذكر أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الحافظ عن عيسى بن أبي فاطمة الرازي قال: سمعت مالك بن أنس يقول: إذا نقس بالناقوس اشتد غضب الرحمن، فتنزل الملائكة، فيأخذون بأقطار الأرض، فلا يزالون يقرؤون {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حتى يسكن غضبه جل وعز. وخرج من حديث محمد بن خالد الجندي عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل يوم الجمعة

(20/249)

المسجد، فصلى أربع ركعات يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} خمسين مرة فذلك مائتا مرة في أربع ركعات، لم يمت حتى يرى منزله في الجنة أو يرى له" . وقال أبو عمر مولى جرير بن عبدالله البجلي، عن جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حين يدخل منزله، نفت الفقر عن أهل ذلك المنزل وعن الجيران" وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مرة بورك عليه، ومن قرأها مرتين بورك عليه وعلى أهله، ومن قرأها ثلاث مرات بورك عليه وعلى جميع جيرانه، ومن قرأها اثنتي عشرة بني الله له اثني عشر قصرا في الجنة، وتقول الحفظة انطلقوا بنا ننظر إلى قصر أخينا، فإن قرأها مائة مرة كفر الله عنه ذنوب خمسين سنة، ما خلا الدماء والأموال، فإن قرأها أربعمائة مرة كفر الله عنه ذنوب مائة سنة، فإن قرأها ألف مرة لم يمت حتى يرى مكانه في الجنة أو يرى له". وعن سهل بن سعد الساعدي قال: شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقر وضيق المعيشة؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخلت البيت فسلم إن كان فيه أحد، وإن لم يكن فيه أحد فسلم علي، واقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مرة واحدة" ففعل الرجل فأدر الله عليه الرزق، حتى أفاض عليه جيرانه. وقال أنس: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك، فطلعت الشمس بيضاء لها شعاع ونور، لم أرها فيما مضى طلعت قط كذلك، فأتى جبريل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا جبريل، مالي أرى الشمس طلعت بيضاء بشعاع لم أرها طلعت كذلك فيما مضى قط"؟ فقال: "ذلك لأن معاوية الليثي توفي بالمدينة اليوم، فبعث الله سبعين ألف ملك يصلون عليه". قال "ومم ذلك"؟ قال: "كان يكثر قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} آناء الليل وآناء النهار، وفي ممشاه وقيامه وقعوده، فهل لك يا رسول الله أن أقبض لك الأرض. فتصلي عليه"؟ قال "نعم" فصلى عليه ثم رجع. ذكره الثعلبي، والله أعلم.

(20/250)

سورة الفلق

وهي مكية؛ في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. ومدنية؛ في أحد

قولي ابن عباس وقتادة. وهي خمس آيات.

وهذه السورة وسورة "الناس"و" الإخلاص": تعوذ بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سحرته اليهود؛ على ما يأتي. وقيل: إن المعوذتين كان يقال لهما المقشقشتان؛ أي تبرئان من النفاق. وقد تقدم. وزعم ابن مسعود أنهما دعاء تعوذ به، وليستا من القرآن؛ خالف به الإجماع من الصحابة وأهل البيت. قال ابن قتيبة: لم يكتب عبدالله بن مسعود في مصحفه المعوذتين؛ لأنه كان يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين - رضي الله عنهما - بهما، فقدر أنهما بمنزلة: "أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة" . قال أبو بكر الأنباري: وهذا مردود على ابن قتيبة؛ لأن المعوذتين من كلام رب العالمين، المعجز لجميع المخلوقين؛ و "أعيذكما بكلمات الله التامة" من قول البشر بين. وكلام الخالق الذي هو آية لمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وحجة له باقية على جميع الكافرين، لا يلتبس بكلام الآدميين، على مثل عبدالله بن مسعود الفصيح اللسان، العالم باللغة، العارف بأجناس الكلام، وأفانين القول. وقال بعض الناس: لم يكتب عبدالله المعوذتين لأنه أمن عليهما من النسيان، فأسقطهما وهو يحفظهما؛ كما أسقط فاتحة الكتاب من مصحفه، وما يشك في حفظه وإتقانه لها. فرد هذا القول على قائله، واحتج عليه بأنه قد كتب: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ، و {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وهن يحرين مجرى المعوذتين في أنهن غير طوال، والحفظ إليهن أسرع، ونسيانهن مأمون، وكلهن يخالف فاتحة الكتاب؛ إذ الصلاة لا تتم إلا بقراءتها. وسبيل كل ركعة أن تكون المقدمة فيها قبل ما يقرأ من بعدها، فاسقاط فاتحة الكتاب من المصحف، على معنى الثقة ببقاء حفظها، والأمن نسيانها، صحيح، وليس من السور ما يجري في هذا المعنى مجراها، ولايسلك به طريقها. وقد مضى هذا المعنى في سورة"الفاتحة". والحمد لله.

(20/251)

بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ

1- {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}

2- {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}

3- {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ}

4- {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ}

5- {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}

فيه تسع مسائل:

الأولى- روى النسائي عن عقبة بن عامر، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكب، فوضعت يدي على قدمه، فقلت: أقرئني سورة [هود] أقرئني سورة يوسف. فقال لي: "ولن تقرأ شيئا أبلغ عند الله من {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} " . وعنه قال: بينا أنا أسير مع النبي صلى الله عليه وسلم بين الجحفة والأبواء، إذ غشتنا ريح مظلمة شديدة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ "بأعوذ برب الفلق"، و"أعوذ برب الناس"، ويقول: "يا عقبة، تعوذ بهما فما تعوذ متعوذ بمثلهما" . قال: وسمعته يقرأ بهما في الصلاة. وروى النسائي عن عبدالله قال: أصابنا طش وظلمة، فانتظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج. ثم ذكر كلاما معناه: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي بنا، فقال: قل. فقلت: ما أقول؟ قال: " {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين حين تمسي، وحين تصبح ثلاثا، يكفك كل شيء" وعن عقبة بن عامر الجهني قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل" . قلت: ما أقول؟ قال قل: " {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}.{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}. {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} - فقرأهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: لم يتعوذ الناس بمثلهن، أو لا يتعوذ الناس بمثلهن" . وفي حديث ابن عباس " {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ

(20/252)

الْفَلَقِ} {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، هاتين السورتين" . وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى قرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث، كلما أشتد وجعه كنت أقرأ عليه، وأمسح عنه بيده، رجاء بركتها. النفث: النفخ ليس معه ريق.

الثانية- ثبت في الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى سحره يهودي من يهود بني زريق، يقال له لبيد بن الأعصم، حتى يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء ولا يفعله، فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث - في غير الصحيح: سنة - ثم قال: "يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه. أتاني ملكان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للذي عند رجلي: ما شأن الرجل؟ قال: مطبوب. قال ومن طبه؟ قال لبيد بن الأعصم. قال في ماذا؟ قال في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر، تحت راعوفة في بئر ذي أوران" فجاء البئر واستخرجه. انتهى الصحيح. وقال ابن عباس: "أما شعرت يا عائشة أن الله تعالى أخبرني بدائي" . ثم بعث عليا والزبير وعمار بن ياسر، فنزحوا ماء تلك البئر كأنه نقاعة الحناء، ثم رفعوا الصخرة وهي الراعوفة - صخرة تترك أسفل البئر يقوم عليها المائح، وأخرجوا الجف، فإذا مشاطة رأس إنسان، وأسنان من مشط، وإذا وتر معقود فيه إحدى عشرة عقدة مغرزة بالإبر، فأنزل الله تعالى هاتين السورتين، وهما إحدى عشرة آية على عدد تلك العقد، وأمر أن يتعوذ بهما؛ فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد النبي صلى الله عليه وسلم خفة، حتى انحلت العقدة الأخيرة، فكأنما أنشط من عقال، وقال: ليس به بأس. وجعل جبريل يرقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: "باسم الله

(20/253)

أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر حاسد وعين، والله يشفيك" . فقالوا: يا رسول الله، ألا نقتل الخبيث. فقال: "أما أنا فقد شفاني الله، وأكره أن أثير على الناس شرا" . وذكر القشيري في تفسيره أنه ورد في الصححاح: أن غلاما من اليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فدست إليه اليهود، ولم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم. والمشاطة بضم الميم: ما يسقط من الشعر عند المشط. وأخذ عدة من أسنان مشطه، فأعطاها اليهود، فسحروه فيها، وكان الذي تولى ذلك لبيد بن الأعصم اليهودي. وذكر نحو ما تقدم عن ابن عباس.

الثالثة- وقد تقدم في "البقرة" القول في السحر وحقيقته، وما ينشأ عنه من الآلام والمفاسد، وحكم الساحر؛ فلا معنى لإعادته.

الرابعة- قوله تعالى: "الفلق" اختلف فيه؛ فقيل: سجن في جهنم؛ قال ابن عباس. وقال أبي بنكعب: بيت في جهنم إذا فتح صاح أهل النار من حره. وقال الحبلي أبو عبدالرحمن: هو اسم من أسماء جهنم. وقال الكلبي: واد في جهنم. وقال عبدالله بن عمر: شجرة في النار. سعيد بن جبير: جب في النار. النحاس: يقال لما اطمأن من الأرض فلق؛ فعلى هذا يصح هذا القول. وقال جابر بن عبدالله والحسن وسعيد بن جبيرأيضا ومجاهد وقتادة والقرظبي وابن زيد: الفلق، الصبح. وقال ابن عباس. تقول العرب: هو أبين من فلق الصبح وفرق الصبح. وقال الشاعر:

يا ليلة لم أنمها بت مرتفقا ... أرعى النجوم إلى أن نور الفلق

وقيل: الفلق: الجبال والصخور تنفرد بالمياه؛ أي تتشقق. وقيل: هو التفليق بين الجبال والصخور؛ لأنها تتشقق من خوف الله عز وجل. قال زهير:

ما زلت أرمقهم حتى إذا هبطت ... أيدي الركاب بهم من راكس فلقا

(20/254)

الراكس: بطن الوادي. وكذلك هو في قول النابغة:

أتاني ودوني راكس فالضواجع

والراكس أيضا: الهادي، وهو الثور وسط البيدر، تدور عليه الثيران في الدياسة. وقيل: الرحم تنقلق بالحيوان. وقيل: إنه كل ما انفلق عن جميع ما خلق من الحيوان والصبح والحب والنوى، وكل شيء من نبات وغيره؛ قاله الحسن وغيره. قال الضحاك: الفلق الخلق كله؛ قال:

وسوس يدعو مخلصا رب الفلق ... سرا وقد أون تأوين العقق

قلت: هذا القول يشهد له الاشتقاق؛ فإن الفلق الشق. فلقت الشيء فاقا أي شققته. والتفليق مثله. يقال: فلقته فانفلق وتفلق. فكل ما انفلق عن شيء من حيوان وصبح وحب ونوى وماء فهو فلق؛ قال اللة تعالى: {فالِقُ الإصباحِ} قال: {فالِق الحَبِّ والنَّوَى} وقال ذو الرمة يصف الثور الوحشي:

حتى إذا ما انجلى عن وجهه فلق ... هاديه في أخريات الليل منتصب

يعني بالفلق هنا: الصبح بعينه. والفلق أيضا: المطمئن من الأرض بين الربوتين، وجمعه: فلقان؛ مثل خلق وخلقان، وربما قال: كان ذلك بفالق كذا وكذا؛ يريدون المكان المنحدر

(20/255)

بين الربوتين، والفلق أيضا مقطرة السجان. فأما الفلق (بالكسر): فالداهية والأمر العجب؛ تقول منه: أفلق الرجل وأفتلق. وشاعر مفلق، وقد جاء بالفلق (أي بالداهية). والفلق أيضا: القضيب يشق باثنين، فيعمل منه قوسان، يقال لكل واحدة منهما فلق، وقولهم: جاء بعلق فلق؛ وهي الداهية؛ لا يجرى (مجرى عمر). يقال منه: أعلقت وأفلقت؛ أي جئت بعلق فلق. ومر يفتلق في عدوه؛ أي يأتي بالعجب من شدته.

قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} قيل: هو إبليس وذريته. وقيل جهنم. وقيل: هوعام؛ أي من شر كل ذي شر خلقه الله عز وجل.

الخامسة- {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} اختلف فيه؛ فقيل: هو الليل. والغسق: أول ظلمة الليل؛ يقال منه: غسقا الليل يغسق أي أظلم. قال ابن قيس الرقيات:

إن هذا الليل قد غسقا ... واشتكيت الهم والأرقا

وقال آخر:

يا طيف هند لقد أبقيت لي أرقا ... إذ جئتنا طارقا والليل قد غسقا

هذا قول ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم. و"وقب" على هذا التفسير: أظلم؛ قاله ابن عباس. والضحاك: دخل. قتادة: ذهب. يمان بن رئاب: سكن. وقيل: نزل؛ يقال: وقب العذاب على الكافرين؛ نزل. قال الشاعر:

وقب العذاب عليهم فكأنهم ... لحقتهم نار السموم فاحصدوا

وقال الزجاج: قيل الليل غاسق لأنه أبرد من النهار. والغاسق: البارد. والغسق: البرد؛ ولأن في الليل تخرج السباع من آجامها، والهوام من أماكنها، وينبعث أهل الشر على العبث

(20/256)

والفساد. وقيل: الغاسق: الثريا؛ وذلك أنها إذا سقطت كثرت الأسقام والطواعين، وإذا طلعت ارتفع ذلك؛ قال عبدالرحمن بن زيد. وقيل: هو الشمس إذا غربت؛ قاله ابن شهاب. وقيل: هو القمر. قال القتبي: "إذا وقب" القمر: إذا دخل في ساهوره، وهو كالغلاف له، وذلك إذا خسف به. وكل شيء أسود فهو غسق. وقال قتادة: {إِذَا وَقَبَ} إذا غاب. وهو أصح؛ لأن في الترمذي عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر، فقال: "يا عائشة، استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب" . قال أبو عيس: هذا حديث حسن صحيح. وقال أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الأعرابي في تأويل هذا الحديث: وذلك أن أهل الريب يتحينون وجبة القمر. وأنشد:

أراحني الله من أشياء أكرهها ... منها العجوز ومنها الكلب والقمر

هذا يبوح وهذا يستضاء به ... وهذه ضمرز قوامة السحر

وقيل: الغاسق: الحية إذا لدغت. وكأن الغاسق نابها؛ لأن السم يغسق منه؛ أي يسيل. ووقب نابها: إذا دخل في اللديغ. وقيل: الغاسق: كل هاجم يضر، كائنا ما كان؛ من قولهم: غسقت القرحة: إذا جرى صديدها.

السادسة- قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} يعني الساحرات اللائي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها. شبه النفخ كما يعمل من يرقي. قال الشاعر:

أعوذ بربي من النافثات ... في عضه العاضه المعضه

وقال متمم بن نويرة:

نفثت في الخيط شبيه الرقى ... من خشية الجنة والحاسد

وقال عنترة:

فإن يبرأ فلم أنفث عليه ... وإن يفقد فحق له الفقود

(20/257)

السابعة- روى النسائي عن أبي هريرة قال: فال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عقد عقدة ثم نفث فيها، فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئا وكل إليه" . واختلف في النفث عند الرقي فمنعه قوم، وأجازه آخرون. قال عكرمة: لا ينبغي للراقي أن ينفث، ولا يمسح ولا يعقد. قال إبراهيم: كانوا يكرهون النفث في الرقي. وقال بعضهم: دخلت، على الضحاك وهو وجع، فقلت: ألا أعوذك يا أبا محمد؟ قال: لا شيء من ذلك ولكن لا تنفث؛ فعوذته بالمعوذتين. وقال ابن جريج قلت لعطاء: القرآن ينفخ به أو ينفث؟ قال: لا شيء من ذلك ولكن تقرؤه هكذا. ثم قال بعد: انفث إن شئت. وسئل محمد بن سيرين عن الرقيه ينفث فيها، فقال: لا أعلم بها بأسا، وإذا اختلفوا فالحاكم بينهم السنة. روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث في الرقية؛ رواه الأئمة، وقد ذكرناه أول السورة وفي "الإسراء". وعن محمد بن حاطب أن يده احترقت فأتت به أمه النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل ينفث عليها ويتكلم بكلام؛ زعم أنه لم يحفظه. وقال محمد بن الأشعث: ذهب بي إلى عائشة رضي الله عنها وفي عيني سوء، فرقتني ونفثت.

وأما ما روي عن عكرمة من قوله: لا ينبغي للراقي أن ينفث، فكأنه ذهب فيه إلى أن الله تعالى جعل النفث في العقد مما يستعاذ به، فلا يكون بنفسه عوذة. وليس هذا هكذا؛ لأن النفث في العقد إذا كان مذموما لم يجب أن يكون النفث بلا عقد مذموما. ولأن النفث في العقد إنما أريد به السحر المضر بالأرواح، وهذا النفث لاستصلاح الأبدان، فلا يقاس ما ينفع بما يضر. وأما كراهة عكرمة المسح فخلاف السنة. قال علي رضي الله عنه: اشتكيت، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أقول: اللهم إن كان أجلي قد حضر فأرحني، وإن كان متأخرا فاشفني وعافني، وإن كان بلاء فصبرني. فقال النبي

(20/258)

صلى الله عليه وسلم: "كيف قلت" ؟ فقلت له: فمسحني بيده، ثم قال: "اللم اشفه" فما عاد ذلك الوجع بعد. وقرأ عبدالله بن عمرو وعبدالرحمن بن سابط وعيسى بن عمر ورويس عن يعقوب "من شر النافثات" في وزن (فاعلات). ورويت عن عبدالله بن القاسم مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما. وروي أن نساء سحرن النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى عشرة عقدة، فأنزل الله المعوذتين إحدى عشرة آية. قال ابن زيد: كن من اليهود؛ يعني السواحر المذكورات. وقيل: هن بنات لبيد بن الأعصم.

الثامنة- قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} قد تقدم في سورة "النساء" معنى الحسد، وأنه تمنى زوال نعمة المحسود وإن لم يصر للحاسد مثلها. والمنافسة هي تمني مثلها وإن لم تزل. فالحسد شر مذموم. والمنافسة مباحة وهي الغبطة. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن يغبط، والمنافق يحسد" . وفي الصحيحين: "لا حسد إلا في اثنتين..." يريد لا غبطة وقد مضى في سورة "النساء" والحمد لله.

قلت: قال العلماء: الحاسد لايضر إلا اذا ظهر حسده بفعل أو قول، وذلك بأن يحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود، فيتبع مساوئه، ويطلب عثراته. قال صلى الله عليه وسلم: "إذا حسدت فلا تبغ..." الحديث. وقد تقدم. والحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، وأول ذنب عصي به في الأرض، فحسد إبليس آدم، وحسد قابيل هابيل. والحاسد ممقوت مبغوض مطرود ملعون ولقد أحسن من قال:

قل للحسود إذا تنفس طعنة ... يا ظالما وكأنه مظلوم

هذه سورة دالة على أن الله سبحانه خالق كل شر، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ من جميع الشرور. فقال: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} . وجعل خاتمة ذلك الحسد،

(20/259)

تنبيها على عظمه، وكثرة ضرره. والحاسد عدو نعمة الله. قال بعض الحكماء: بارز الحاسد ربه من خمسة أوجه: أحدها: أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره. وثانيها: أنه ساخط لقسمة ربه، كأنه يقول: لم قسمت هذه القسمة؟ وثالثها: أنه ضاد فعل الله، أي إن فضل الله يؤتيه من يشاء، وهو يبخل بفضل الله. ورابعها: أنه خذل أولياء الله، أو يريد خذلانهم وزوال النعمة عنهم. وخامسها: أنه أعان عدوه إبليس. وقيل: الحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة، ولا ينال عند الملائكة ألا لعنة وبغضاء، ولا ينال في الخلوة إلا جزعا وغما، ولا ينال في الآخرة إلا حزنا واحتراقا، ولا ينال من الله إلا بعدا ومقتا. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يستجاب دعاؤهم: آكل الحرام، ومكثر الغيبة، ومن كان في قلبه غل أو حسد للمسلمين" . والله سبحانه وتعالى أعلم.

سورة الناس

مثل "الفلق" لأنها إحدى المعوذتين. وروى الترمذي عن عقبة بن عامر الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد أنزل الله على آيات لم ير مثلهن: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} إلى آخر السورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} إلى آخر السورة". وقال: هذا حديث حسن صحيح. ورواه مسلم.

بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ

1- {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}

2- {مَلِكِ النَّاسِ}

3- {إِلَهِ النَّاسِ}

قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} أي مالكهم ومصلح أمورهم. وإنما ذكر أنه رب الناس، وإن كان ربا لجميع الخلق لأمرين: أحدهما: لأن الناس معظمون؛ فأعلم بذكرهم أنه رب لهم وإن عظموا. الثاني: لأنه أمر بالاستعاذة من شرهم، فأعلم بذكرهم

(20/260)

أنه هو الذي يعيذ منهم. وإنما قال: {مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} لأن في الناس ملوكا يذكر أنه ملكهم. وفي الناس من يعبد غيره، فذكر أنه إلههم ومعبودهم، وأنه الذي يجب أن يستعاذ به ويلجأ إليه، دون الملوك والعظماء.

4- {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}

يعني: من شر الشيطان. والمعنى: من شر ذي الوسواس؛ فحذف المضاف؛ قال الفراء: وهو (بفتح الواو) بمعنى الاسم؛ أي الموسوس. و(بكسر الواو) المصدر؛ يعني الوسوسة. وكذا الزلزال والزلزال. والوسوسة: حديث النفس. يقال: وسوست إليهم نفسه وسوسة ووسوسة (بكسر الواو). ويقال لهمس الصائد والكلاب وأصوات الحلي: وسواس. وقال ذو الرمة:

فبات بشئزه ثاد ويسهره ... تذؤب الريح والوسواس والهضب

وقال الأعشى:

تسمع للحلى وسواسا إذا انصرفت ... كما استعان بريح عشرق زجل

وقيل: إن الوسواس الخناس ابن لإبليس، جاء به إلى حواء، ووضعه بين يديها وقال: اكفليه. فجاء آدم عليه السلام فقال: ما هذا (يا حواء) قالت: جاء عدونا بهذا وقال لي: اكفليه. فقال: ألم أقل لك لا تطيعيه في شيء، هو الذي غرنا حتى وقعنا في المعصية؟ وعمد إلى الولد فقطعه أربعة أرباع، وعلق كل ربع على شجرة، غيظا له؛ فجاء إبليس فقال: يا حواء، أين ابني؟ فأخبرته بما صنع به آدم عليه السلام فقال: يا خناس، فحيي فأجابه. فجاء به إلى حواء وقال: اكفليه؛ فجاء آدم عليه السلام فحرقه بالنار، وذر رماده في البحر؛ فجاء إبليس (عليه اللعنة) فقال: يا حواء، أين ابني؟ فأخبرته بفعل آدم إياه؛ فذهب

(20/261)

إلى البحر، فقال: يا خناس، فحيي فأجابه. فجاء به إلى حواء الثالثة، وقال: أكفليه. فنظر؛ إليه آدم، فذبحه وشواه، وأكلاه جميعا. فجاء إبليس فسألها فأخبرته (حواء). فقال: يا خناس، فحيي فأجابه (فجاء به) من جوف آدم وحواء. فقال إبليس: هذا الذي أردت، وهذا مسكنك في صدر ولد آدم؛ فهو ملتقم قلب آدم ما دام غافلا يوسوس، فإذا ذكر الله لفظ قلبه وانخنس. ذكر هذا الخبر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول بإسناد عن وهب بن منبه. وما أظنه يصح، والله تعالى أعلم. ووصف بالخناس لأنه كثير الاختفاء؛ ومنه قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ } يعني النجوم، لاختفائها بعد ظهورها. وقيل: لأنه يخنس إذا ذكر العبد الله؛ أي يتأخر. وفي الخبر "إن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا غفل وسوس، وإذا ذكر الله خنس" أي تأخر وأقصر. وقال قتادة: {الْخَنَّاسِ} الشيطان له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان، فإذا غفل الإنسان وسوس له، وإذا ذكر العبد ربه خنس. يقال: خنسته فخنس؛ أي أخرته فتأخر. وأخنسته أيضا. ومنه قول أبي العلاء الحضرمي - أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم:

وإن دحسوا بالشر فاعف تكرما ... وإن خنسوا عند الحديث فلا تسل

الدحس: الإفساد. وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس، وإذا نسي الله التقم قلبه فوسوس" . وقال ابن عباس: إذا ذكر الله العبد خنس من قلبه فذهب، وإذا غفل التقم قلبه فحدثه ومناه. وقال إبراهيم التيمي: أول ما يبدو الوسواس من قبل الوضوء. وقيل: سمي خناسا لأنه يرجع إذا غفل العبد عن ذكر الله. والخنس: الرجوع. وقال الراجز:

وصاحب يمتعس امتعاسا ... يزداد إن حييته خناسا

(20/262)

وقد روى ابن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} وجهين: أحدهما: أنه الراجع بالوسوسة عن الهدى. الثاني: أنه الخارج بالوسوسة من اليقين.

5- {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}

قال مقاتل: إن الشيطان في صورة خنزير، يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، سلطه الله على ذلك؛ فذلك قوله تعالى: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" . وهذا يصحح ما قاله مقاتل.

وروى شهر بن حوشب عن أبي ثعلبة الخشني قال: سألت الله أن يريني الشيطان ومكانه من ابن آدم فرأيته، يداه في يديه، ورجلاه في رجليه، ومشاعبه في جسده؛ غير أن له خطما كخطم الكلب، فإذا ذكر الله خنس ونكس، وإذا سكت عن ذكر الله أخذ بقلبه. فعلى ما وصف أبو ثعلبة، أنه متشعب في الجسد؛ أي في كل عضو منه شعبة.

وروي عن عبدالرحمن بن الأسود أو غيره من التابعين أنه قال - وقد كبر سنه -: ما أمنت الزنى، وما يؤمنني أن يدخل الشيطان ذكره فيوتده! فهذا القول ينبئك أنه متشعب في الجسد، وهذا معنى قول مقاتل.

ووسوسته: هو الدعاء لطاعته بكلام خفي، يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع صوت.

6- {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}

أخبر أن الموسوس قد يكون من الناس. قال الحسن: هما شيطانان؛ أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية. وقال قتادة: إن من الجن شياطين، وإن من الإنس شياطين؛ فتعوذ بالله من شياطين الإنس والجن. وروي عن أبي ذر أنه قال لرجل: هل تعوذت بالله من شياطين الإنس؟ فقال: أو من الإنس شياطين؟ قال: نعم؛ لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} ... الآية. وذهب قوم إلى أن الناس هنا يراد به الجن. سموا ناسا كما سموا رجلا في قوله: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ

(20/263)

الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} - وقوما ونفرا. فعلى هذا يكون {وَالنَّاسِ} عطفا على {الْجِنَّةِ} ، ويكون التكرير لاختلاف اللفظين. وذكر عن بعض العرب أنه قال وهو يحدث: جاء قوم من الجن فوقفوا. فقيل: من أنتم؟ فقالوا: ناس من الجن. وهو معنى قول الفراء. وقيل: الوسواس هو الشيطان. وقوله: {مِنَ الْجِنَّةِ} بيان أنه من الجن {وَالنَّاسِ} معطوف على الوسواس. والمعنى: قل أعوذ برب الناس من شر الوسواس، الذي هو من الجنة، ومن شر الناس. فعلى هذا أمر بأن يستعيذ من شر الإنس والجن. والجنة: جمع جني؛ كما يقال: إنس وإنسي. والهاء لتأنيث الجماعة. وقيل: إن إبليس يوسوس في صدور الجن، كما يوسوس في صدور الناس. فعلى هذا يكون {فِي صُدُورِ النَّاسِ} عاما في الجميع. و {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} بيان لما يوسوس في صدره. وقيل: معنى {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} أي الوسوسة التي تكون من الجنة والناس، وهو حديث النفس. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به" . رواه أبو هريرة، أخرجه مسلم. فالله تعالى أعلم بالمراد من ذلك.

الإخلاص - تفسير الطبري

تفسير سورة الإخلاص

(24/685)

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)

بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) } .

ذُكر أن المشركين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسب ربّ العزّة، فأنزل الله هذه السورة جوابا لهم. وقال بعضهم: بل نزلت من أجل أن اليهود سألوه، فقالوا له: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فأُنزلت جوابا لهم.

ذكر من قال: أنزلت جوابا للمشركين الذين سألوه أن ينسب لهم الربّ تبارك وتعالى.

حدثنا أحمد بن منيع المَرْوَزِي ومحمود بن خداش الطالَقاني، قالا ثنا أبو سعيد الصنعاني، قال: ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، قال: قال المشركون للنبيّ صلى الله عليه وسلم: انسُب لنا ربك، فأنزل الله:( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ ) .

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة، قال: إن المشركين قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن ربك، صف لنا ربك ما هو، ومن أي شيء هو؟ فأنزل الله:( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) إلى آخر السورة .

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ ) قال: قال ذلك قتادة الأحزاب: انسُب لنا ربك، فأتاه جبريل بهذه .

حدثني محمد بن عوف، قال: ثنا شريح، قال: ثنا إسماعيل بن مجالد، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر قال: قال المشركون: انسُب لنا ربك، فأنزل الله

(24/687)

( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) .

* ذكر من قال: نزل ذلك من أجل مسألة اليهود:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق، عن محمد، عن سعيد، قال: أتى رهط من اليهود النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد هذا الله خلق الخلق، فمن خلقه؟ فغضب النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى انتُقِع لونه، ثم ساورهم غضبا لربه، فجاءه جبريل عليه السلام فسكنه، وقال: اخفض عليك جناحك يا محمد، وجاءه من الله جواب ما سألوه عنه. قال: " يقول الله:( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) " فلما تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: صف لنا ربك كيف خلقه، وكيف عضده، وكيف ذراعه، فغضب النبيّ صلى الله عليه وسلم أشدّ من غضبه الأول، وساورهم غضبا، فأتاه جبريل فقال له مثل مقالته، وأتاه بجواب ما سألوه عنه:( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، قال: جاء ناس من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أنسب لنا ربك، فنزلت:( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) حتى ختم السورة .

فتأويل الكلام إذا كان الأمر على ما وصفنا: قل يا محمد لهؤلاء السائليك عن نسب ربك وصفته، ومَن خَلقه: الربّ الذي سألتموني عنه، هو الله الذي له عبادة كل شيء، لا تنبغي العبادة إلا له، ولا تصلح لشيء سواه.

واختلف أهل العربية في الرافع( أَحَدٌ ) فقال بعضهم: الرافع له " الله"، وهو عماد (1) بمنزلة الهاء في قوله:( إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) . وقال آخر منهم: بل هو مرفوع، وإن كان نكرة بالاستئناف، كقوله: هذا بعلي شيخ، وقال: هو الله جواب لكلام قوم قالوا له: ما الذي تعبد؟ فقال: "هو الله"، ثم قيل له: فما هو؟ قال: هو أحد.

وقال آخرون( أَحَدٌ ) بمعنى: واحد، وأنكر أن يكون العماد مستأنفا به، حتى يكون قبله حرف من حروف الشكّ، كظنّ وأخواتها، وكان وذواتها، أو إنّ وما

__________

(1) في المطبوعة : "لو كانت القراءة جائزة به " ، بدلوه ليوافق عبارتهم ، دون عبارة الطبري

(24/688)

أشبهها، وهذا القول الثاني هو أشبه بمذاهب العربية.

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار( أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ ) بتنوين " أحدٌ "، سوى نصر بن عاصم، وعبد الله بن أبي إسحاق، فإنه رُوي عنهما ترك التنوين: " أحَدُ اللهُ "; وكأن من قرأ ذلك كذلك، قال: نون الإعراب إذا استقبلتها الألف واللام أو ساكن من الحروف حذفت أحيانا، كما قال الشاعر:

كَيْفَ نَوْمي على الفِرَاشِ وَلَمَّا... تَشْمَلِ الشَّامَ غَارَةٌ شَعْوَاءُ

تُذْهِلُ الشَّيْخَ عَنْ بَنِيهِ وَتُبْدِي... عَنْ خِدَامِ العَقِيلَةِ العَذْراءُ (1)

يريد: عن خدام العقيلة.

والصواب في ذلك عندنا: التنوين، لمعنيين: أحدهما أفصح اللغتين، وأشهر الكلامين، وأجودهما عند العرب. والثاني: إجماع الحجة من قرّاء الأمصار على اختيار التنوين فيه، ففي ذلك مُكْتَفًى عن الاستشهاد على صحته بغيره. وقد بيَّنا معنى قوله " أحد " فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وقوله:( اللَّهُ الصَّمَدُ ) يقول تعالى ذكره: المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له الصمد.

واختلف أهل التأويل في معنى الصمد، فقال بعضهم: هو الذي ليس بأجوف، ولا يأكل ولا يشرب.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا عبد الرحمن بن الأسود، قال: ثنا محمد بن ربيعة، عن سلمة بن

__________

(1) ديوانه : 23 ، ويأتي في تفسير آية البقرة : 35 (1 : 186 بولاق) ، وآية النساء : 114 (5 : 178) ، وآية يونس : 98 (11 : 117) وآية سورة الليل : 20 (30 : 146) . يقال : لقيته أصيلالا وأصيلانًا ، إذا لقيته بالعشي . وذلك أن الأصيل هو العشي ، وجمعه أُصُل (بضمتين) وأصلان (بضم فسكون) ، ثم صغروا الجمع فقالوا : أصيلان ، ثم أبدلوا من النون لامًا . فعلوا ذلك اقتدارا على عربيتهم ، ولكثرة استعمالهم له حتى قل من يجهل أصله ومعناه . وعى في منطقه : عجز عن الكلام .

(24/689)

سابور، عن عطية، عن ابن عباس، قال:( الصمد ): الذي ليس بأجوف .

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال:( الصمد ): المُصْمَت الذي لا جوف له .

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثلَه سواء.

حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال:( الصمد ): المصمت الذي ليس له جوف .

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن ووكيع، قالا ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال(: الصَّمَد ): الذي لا جوف له .

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع; وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران جميعا، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثلَه.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا الربيع بن مسلم، عن الحسن، قال:( الصمد ): الذي لا جوف له .

قال: ثنا الربيع بن مسلم، عن إبراهيم بن ميسرة، قال: أرسلني مجاهد إلى سعيد بن جبير أساله عن( الصمد )، فقال: الذي لا جوف له .

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، قال:( الصمد ) الذي لا يطعم الطعام .

حدثنا يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي أنه قال:( الصمد ): الذي لا يأكل الطعام، ولا يشرب الشراب .

حدثنا أبو كُرَيب وابن بشار، قالا ثنا وكيع، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك، قال:( الصمد ): الذي لا جوف له .

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن إسماعيل، عن عامر، قال:( الصمد ): الذي لا يأكل الطعام .

حدثنا ابن بشار وزيد بن أخزم، قالا ثنا ابن داود، عن المستقيم بن عبد الملك، عن سعيد بن المسيب قال:( الصمد ): الذي لا حِشوة له .

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت

(24/690)

الضحاك يقول في قوله:( الصمدُ ): الذي لا جوف له .

حدثني العباس بن أبي طالب، قال: ثنا محمد بن عمر بن رومي، عن عبيد الله بن سعيد قائد الأعمش، قال: ثني صالح بن حيان، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: لا أعلمه إلا قد رفعه، قال:( الصَّمَد ) الذي لا جوف له .

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا بشر بن المفضل، عن الربيع بن مسلم، قال: سمعت الحسن يقول:( الصَّمَد ): الذي لا جوف له .

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن عكرمة، قال:( الصمد ): الذي لا جوف له .

وقال آخرون: هو الذي لا يخرج منه شيء.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء قال: سمعت عكرمة، قال في قوله:( الصمد ): الذي لم يخرج منه شيء، ولم يلد، ولم يولد .

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي رجاء محمد بن يوسف، عن عكرمة قال:( الصمد ): الذي لا يخرج منه شيء .

وقال آخرون: هو الذي لم يَلِد ولم يُولَد.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، قال:( الصمد ): الذي لم يلد ولم يولد، لأنه ليس شيء يلد إلا سيورث، ولا شيء يولد إلا سيموت، فأخبرهم تعالى ذكره أنه لا يورث ولا يموت .

حدثنا أحمد بن منيع ومحمود بن خداش قالا ثنا أبو سعيد الصنعاني، قال: قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم أنسب لنا ربك فأنزل الله:( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وإن الله جلّ ثناؤه لا يموت ولا يورث( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) : ولم يكن لَه شبيه ولا عِدل، وليس كمثله شيء .

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب: الصمد: الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد .

(24/691)

وقال آخرون: قدانتهى سُؤدده.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني أبو السائب، قال: ثني أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، قال: الصمد: هو السيد الذي قد انتهى سؤدده.

حدثنا أبو كُرَيب وابن بشار وابن عبد الأعلى، قالوا: ثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي وائل، قال:( الصَّمَد ): السيد الذي قد انتهى سؤدده; ولم يقل أبو كُرَيب وابن عبد الأعلى سؤدده.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل مثله.

حدثنا علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، في قوله:( الصَّمَدُ ) يقول: السيد الذي قد كمُل في سُؤدَده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد عظم في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبَّار الذي قد كمل في جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه هذه صفته، لا تنبغي إلا له .

وقال آخرون: بل هو الباقي الذي لا يفنَى.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله:( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ) قال: كان الحسن وقتادة يقولان: الباقي بعد خلقه، قال: هذه سورة خالصة، ليس فيها ذكر شيء من أمر الدنيا والآخرة .

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال:( الصمد ): الدائم .

قال أبو جعفر: الصمد عند العرب: هو السيد الذي يُصمد إليه، الذي لا أحد فوقه، وكذلك تسمى أشرافها; ومنه قول الشاعر:

ألا بَكَرَ النَّاعي بِخَيْرَيْ بَنِي أسَدْ... بِعَمْرِو بْنِ مَسْعُودٍ وبالسَّيِّدِ الصَّمَدْ (1)

__________

(1) أواري جمع آري (مشدد الياء) : وهو محبس الدابة ومأواها ومربطها ، من قولهم : تأرى بالمكان أقام وتحبس . ولأيا : بعد جهد ومشقة وإبطاء . والنؤى : حفرة حول الخباء تعلى جوانبها بالتراب ، فتحجز الماء لا يدخل الخباء ، والمظلومة : يعني أرضًا مروا بها في برية فتحوضوا حوضًا سقوا فيه إبلهم ، وليس بموضع تحويض لبعدها عن مواطئ السابلة . فلذلك سماها مظلومة ، والظلم : وضع الشيء في غير موضعه . والجلد : الأرض الصلبة ، يعني أنها لا تنبت شيئًا فلا يرعاها أحد .

(24/692)

وقال الزبرقان:

وَلا رَهِينَةً إلا سَيِّدٌ صَمَدُ (1)

فإذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بتأويل الكلمة، المعنى المعروف من كلام من نزل القرآن بلسانه; ولو كان حديث ابن بُريدة، عن أبيه صحيحا، كان أولى الأقوال بالصحة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بما عنى الله جل ثناؤه، وبما أنزل عليه.

وقوله:( لَمْ يَلِدْ ) يقول: ليس بفانٍ، لأنه لا شيء يلد إلا هو فانٍ بائد

( وَلَمْ يُولَدْ ) يقول: وليس بمحدث لم يكن فكان، لأن كل مولود فإنما وجد بعد أن لم يكن، وحدث بعد أن كان غير موجود، ولكنه تعالى ذكره قديم لم يزل، ودائم لم يبد، ولا يزول ولا يفنى.

وقوله:( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ )

اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: ولم يكن له شبيه ولا مِثْل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قوله:( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) : لم يكن له شبيه، ولا عِدْل، وليس كمثله شيء .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن عمرو بن غيلان الثقفي، وكان أميرَ البصرة (2) عن كعب، قال: إن الله تعالى ذكره أسس السموات السبع، والأرضين السبع، على هذه السورة( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) وإن الله لم يكافئه أحد من خلقه .

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس

__________

(1) في المطبوعة : "واستخطئوه" ، واستخفوه : رأوه خفيفا لا وزن له .

(2) بدلوها في المطبوعة إلى "بمنه" ؛ وثم وثمة (بفتح الثاء) : إشارة للبعيد بمنزلة "هنا" للقريب .

(24/693)

( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) قال: ليس كمثله شيء، فسبحان الله الواحد القهار .

حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن جريج( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا ) : مثل.

وقال آخرون: معنى ذلك، أنه لم يكن له صاحبة.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عبد الملك بن أبجر، عن طلحة، عن مجاهد، قوله:( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) قال: صاحبة .

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن ابن أيجر، عن طلحة، عن مجاهد، مثله.

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن إدريس، عن عبد الملك، عن طلحة، عن مجاهد، مثله.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبجر، عن رجل عن مجاهد( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) قال: صاحبة .

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الملك بن أبجر، عن طلحة بن مصرف، عن مجاهد( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) قال: صاحبة .

حدثنا أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن عبد الملك، عن طلحة، عن مجاهد مثله.

والكُفُؤُ والكُفَى والكِفَاء في كلام العرب واحد، وهو المِثْل والشِّبْه; ومنه قول نابغة بني ذُبيان:

لا تَقْذِفَنِّي بِرُكْن لا كِفَاء لَهُ... وَلَوْ تَأَثَّفَكَ الأعْدَاءُ بالرِّفَدِ (1)

يعني: لا كِفَاء له: لا مثل له.

__________

(1) المثلات جمع مثلة (بفتح فضم ففتح) : وهي العقوبة والتنكيل .

(24/694)

واختلف القرّاء في قراءة قوله:(كُفُوا) . فقرأ ذلك عامة قرّاء البصرة:(كُفُوا) بضم الكاف والفاء. وقرأه بعض قرّاء الكوفة بتسكين الفاء وهمزها " كُفْئًا ".

والصواب من القول في ذلك: أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان، ولغتان مشهورتان، فبأيَّتِهِما قرأ القارئ فمصيب.

آخر تفسير سورة الإخلاص

(24/695)

تفسير سورة الفلق

(24/697)

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)

بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5) } .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد، أستجير بربّ الفلق من شرّ ما خلق من الخلق.

واختلف أهل التأويل في معنى( الفلق ) فقال بعضهم: هو سجن في جهنم يسمى هذا الاسم.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني الحسين بن يزيد الطحان، قال: ثنا عبد السلام بن حرب، عن إسحاق بن عبد الله، عمن حدثه عن ابن عباس قال:( الفلق ): سجن في جهنم .

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا عبد السلام بن حرب، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن رجل، عن ابن عباس، في قوله:( الفَلَقِ ) : سجن في جهنم .

حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا العوّام بن عبد الجبار الجولاني، قال: قَدم رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الشأم، قال: فنظر إلى دور أهل الذمة، وما هم فيه من العيش والنضارة، وما وُسِّع عليهم في دنياهم، قال: فقال: لا أبا لك أليس من ورائهم الفلق؟ قال: قيل: وما الفلق؟ قال: بيت في جهنم إذ فُتح هَرّ أهْلُ النار .

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، قال: سمعت

(24/699)

السديّ يقول:( الفَلَق ) : جُب في جهنم .

حدثني عليّ بن حسن الأزدي، قال: ثنا الأشجعيّ، عن سفيان، عن السديّ، مثله.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن السديّ، مثله.

حدثني إسحاق بن وهب الواسطيُّ، قال: ثنا مسعود بن موسى بن مشكان الواسطيُّ، قال: ثنا نصر بن خُزَيمة الخراساني، عن شعيب بن صفوان، عن محمد بن كعب القُرَظِيِّ، عن أبي هُريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الفَلَق: جبّ في جهنم مغطًّى" .

حدثنا ابن البرقي، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا نافع بن يزيد، قال: ثنا يحيى بن أبي أسيد عن ابن عجلان، عن أبي عبيد، عن كعب، أنه دخل كنيسة فأعجبه حُسنها، فقال: أحسن عمل وأضلّ قوم، رضيت لكم الفلق، قيل: وما الفلق؟ قال: بيت في جهنم إذا فُتح صاح جميع أهل النار من شدّة حرّه .

وقال آخرون: هو اسم من أسماء جهنم.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت خيثم بن عبد الله يقول: سألت أبا عبد الرحمن الحبلي، عن( الفلق ) ، قال: هي جهنم .

وقال آخرون: الفلق: الصبح.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:( أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) قال:( الفلق ): الصبح .

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، قال: أنبأنا عوف، عن الحسن، في هذه الآية( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) قال:( الفلق ): الصبح .

قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جُبير، قال:( الفلق ) : الصبح .

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع؛ وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران جميعا، عن سفيان، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جُبير، مثله.

(24/700)

حدثني عليّ بن الحسن الأزدي، قال: ثنا الأشجعيّ، عن سفيان، عن سالم، عن سعيد بن جُبير، مثله.

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن الحسن بن صالح، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، قال:( الفَلَق ): الصبح .

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا الحسن بن صالح، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله، مثله.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، أخبرنا أبو صخر، عن القُرَظِيّ أنه كان يقول في هذه الآية:( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) يقول: فالق الحبّ والنوى، قال: فالق الإصباح .

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) قال: الصبح .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) قال:( الفَلَق ): فَلق النهار .

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال:( الفلق ): فلق الصبح .

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله:( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) قيل له: فلق الصبح؟ قال: نعم، وقرأ:( فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا ) .

وقال آخرون:( الفلَق ): الخلق، ومعنى الكلام: قل أعوذ بربّ الخلق.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: لنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله:( الفلق ) : يعني: الخلق .

والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله جلّ ثناؤه أمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول:( أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) والفلق في كلام العرب: فلق الصبح، تقول العرب: هو أبين من فَلَق الصُّبح، ومن فرق الصبح. وجائز أن يكون في جهنم سجن

(24/701)

اسمه فَلَق. وإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن جلّ ثناؤه وضعَ دلالة على أنه عُنِي بقوله:( بِرَبِّ الْفَلَقِ ) بعض ما يُدْعَى الفلق دون بعض، وكان الله تعالى ذكره ربّ كل ما خلق من شيء، وجب أن يكون معنيا به كل ما اسمه الفَلَق، إذ كان ربّ جميع ذلك.

وقال جلّ ثناؤه:( مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ) لأنه أمر نبيه أن يستعيذ(من شرّ كل شيء)، إذ كان كلّ ما سواه، فهو ما خَلَق.

وقوله:( وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ) يقول: ومن شرّ مظلم إذا دخل، وهجم علينا بظلامه.

ثم اختلف أهل التأويل في المظلم الذي عُنِي في هذه الآية، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة منه، فقال بعضهم: هو الليل إذا أظلم.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:( وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ) قال: الليل .

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، قال: أنبأنا عوف، عن الحسن، في قوله:( وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ) قال: أوّل الليل إذا أظلم .

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا أبو صخر، عن القرظي أنه كان يقول في:( غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ) يقول: النهار إذا دخل في الليل .

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن رجل من أهل المدينة، عن محمد بن كعب( وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ) قال: هو غروب الشمس إذا جاء الليل، إذا وقب .

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:( غَاسِقٍ ) قال: الليل( إِذَا وَقَبَ ) قال: إذا دخل .

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن( وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ) قال: الليل إذا أقبل .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن( وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ) قال: إذا جاء .

(24/702)

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله( إِذَا وَقَبَ ) يقول: إذا أقبل. وقال بعضهم: هو النهار إذا دخل في الليل، وقد ذكرناه قبلُ.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن رجل من أهل المدينة، عن محمد بن كعب القُرَظِيّ( وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ) قال: هو غروب الشمس إذا جاء الليل، إذا وجب .

وقال آخرون: هو كوكب. وكان بعضهم يقول: ذلك الكوكب هو الثُّريا.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا سليمان بن حِبان، عن أبي المُهَزِّم، عن أبي هريرة في قوله:( وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ) قال: كوكب .

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ) قال: كانت العرب تقول: الغاسق: سقوط الثريا، وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها .

ولقائلي هذا القول عِلة من أثر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وهو ما حدثنا به نصر بن عليّ، قال: ثنا بكار بن عبد الله بن أخي همام، قال: ثنا محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم( وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ) قال: " النجم الغاسق " .

وقال آخرون: بل الغاسق إذا وقب: القمر، ورووا بذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم خبرا.

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع؛ وحدثنا ابن سفيان، قال: ثنا أبي ويزيد بن هارون، به.

وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن خاله الحارث بن عبد الرحمن، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة قالت: أخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بيدي، ثم نظر إلى القمر، ثم قال: "يا عائِشَةُ تَعَوَّذِي باللهِ مِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَب، وَهَذَا غاسِقٌ إذَا وَقَبَ"، وهذا لفظ حديث أبي كُرَيب، وابن وكيع. وأما ابن حُمَيد، فإنه قال في حديثه: قالت:

(24/703)

أخَذَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بيدي، فقال: " أتَدْرِينَ أيَّ شَيءٍ هَذَا؟ تَعَوَّذِي باللهِ مِنْ شَرِّ هَذَا؛ فإنَّ هَذَا الْغاسِقُ إذَا وَقَبَ" .

حدثنا محمد بن سنان، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن عائشة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر. فقال: "يا عائِشَةُ اسْتَعِيذِي باللهِ مِنْ شَرِّ هَذَا، فإنَّ هَذَا الْغاسِقُ إذَا وَقَبَ" .

وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، أن يقال: إن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ( وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ ) وهو الذي يُظْلم، يقال: قد غَسَق الليل يَغُسْق غسوقا: إذا أظلم( إِذَا وَقَبَ ) يعني: إذا دخل في ظلامه؛ والليل إذا دخل في ظلامه غاسق، والنجم إذا أفل غاسق، والقمر غاسق إذا وقب، ولم يخصص بعض ذلك بل عمّ الأمر بذلك، فكلّ غاسق، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يُؤمر بالاستعاذة من شره إذا وقب. وكان يقول في معنى وقب: ذهب.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة( غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ) قال: إذا ذهب، ولست أعرف ما قال قتادة في ذلك في كلام العرب، بل المعروف من كلامها من معنى وقب: دخل.

وقوله:( وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ) يقول: ومن شرّ السواحر الّلاتي ينفُثن في عُقَد الخيط، حين يَرْقِين عليها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (1) ( وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ) قال: ما خالط السِّحر من الرُّقَي .

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن عوف، عن الحسن( وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ) قال: السواحر والسَّحرَة .

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: تلا قتادة:( وَمِنْ

__________

(1) الحديث 193 - هذا إسناد صحيح ، وسيأتي بعض هذا الحديث أيضًا بهذا الإسناد 207 . وتخريجه سيأتي في 195 .

(24/704)

شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ) قال: إياكم وما خالط السِّحر من هذه الرُّقَى .

قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: ما من شيء أقرب إلى الشرك من رُقْية المجانين .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسن يقول إذا جاز( وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ) قال: إياكم وما خالط السحر .

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد وعكرِمة( النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ) قال: قال مجاهد: الرُّقَى في عقد الخيط، وقال عكرِمة: الأخذ في عقد الخيط .

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ) قال: النفاثات: السواحر في العقد.

وقوله:( وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ) اختلف أهل التأويل في الحاسد الذي أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من شرّ حسده به، فقال بعضهم: ذلك كلّ حاسد أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من شرّ عينه ونفسه.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة( وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ) قال: من شرّ عينه ونفسه، وعن عطاء الخراساني مثل ذلك. قال معمر: وسمعت ابن طاوس يحدّث عن أبيه، قال: العَينُ حَقٌّ، وَلَو كانَ شَيءٌ سابق القَدرِ، سَبَقَتْهُ العَينُ، وإذا اسْتُغْسِل (1) أحدكم فَلْيَغْتَسِل .

وقال آخرون: بل أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذه الآية أن يستعيذ من شرّ اليهود الذين حسدوه.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ) قال: يهود، لم يمنعهم أن يؤمنوا به إلا حسدهم .

وأولى القولين بالصواب في ذلك، قول من قال: أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من شرّ كلّ حاسد إذا حسد، فعابه أو سحره، أو بغاه سوءًا.

__________

(1) الحديث 194 - وهذا إسناد صحيح أيضًا . عباد بن حبيش ، بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة ولآخره شين معجمة ، الكوفي ، ذكره ابن حبان في الثقات ، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 78 . وبعض الحديث سيأتي أيضًا 208 بهذا الإسناد .

(24/705)

وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب؛ لأن الله عزّ وجلّ لم يخصص من قوله( وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ) حاسدا دون حاسد، بل عمّ أمره إياه بالاستعاذة من شرّ كلّ حاسد، فذلك على عمومه.

آخر تفسير سورة الفلق

(24/706)

تفسير سورة الناس

(24/707)

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) } .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد أستجير( بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ ) وهو ملك جميع الخلق: إنسهم وجنهم، وغير ذلك، إعلاما منه بذلك من كان يعظم الناس تعظيم المؤمنين ربهم أنه ملك من يعظمه، وأن ذلك في مُلكه وسلطانه، تجري عليه قُدرته، وأنه أولى بالتعظيم، وأحقّ بالتعبد له ممن يعظمه، ويُتعبد له، من غيره من الناس.

وقوله:( إِلَهِ النَّاسِ ) يقول: معبود الناس، الذي له العبادة دون كل شيء سواه.

وقوله:( مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ ) يعني: من شرّ الشيطان( الْخَنَّاسِ ) الذي يخنِس مرّة ويوسوس أخرى، وإنما يخنِس فيما ذُكر عند ذكر العبد ربه.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن سفيان، عن حكيم بن جُبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ما من مولود إلا على قلبه الوَسواس، فإذا عقل فذكر الله خَنَس، وإذا غَفَل وسوس، قال: فذلك قوله:( الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ) .

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن سفيان، عن ابن عباس، في قوله( الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ) قال: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها

(24/709)

وغفل وسوس، وإذا ذكر الله خنس .

قال: ثنا مهران، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد( الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ) قال: ينبسط فإذا ذكر الله خَنَس وانقبض، فإذا غفل انبسط .

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله( الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ) قال: الشيطان يكون على قلب الإنسان، فإذا ذكر الله خَنَس .

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة( الْوَسْوَاسِ ) قال: قال هو الشيطان، وهو الخَنَّاس أيضا، إذا ذكر العبد ربه خنس، وهو يوسوس وَيخْنِس .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ) يعني: الشيطان، يوسوس في صدر ابن آدم، ويخنس إذا ذُكر الله .

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن أبيه، قال: ذُكر لي أن الشيطان، أو قال الوسواس، ينفث في قلب الإنسان عند الحزن وعند الفرح، وإذا ذُكر الله خنس .

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( الْخَنَّاسِ ) قال: الخناس الذي يوسوس مرّة، ويخنس مرّة من الجنّ والإنس، وكان يقال: شيطان الإنس أشدّ على الناس من شيطان الجنّ، شيطان الجنّ يوسوس ولا تراه، وهذا يُعاينك معاينة .

ورُوي عن ابن عباس رضى الله عنه أنه كان يقول في ذلك( مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ ) الذي يوسوس بالدعاء إلى طاعته في صدور الناس، حتى يُستجاب له إلى ما دعا إليه من طاعته، فإذا استجيب له إلى ذلك خَنَس.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله( الْوَسْوَاسِ ) قال: هو الشيطان يأمره، فإذا أطيع خنس .

والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ به من شرّ شيطان يوسوس مرّة ويخنس أخرى، ولم يخصَّ وسوسته على نوع من أنواعها، ولا خنوسه على وجه دون وجه، وقد يوسوس بالدعاء إلى معصية الله،

(24/710)

فإذا أطيع فيها خَنَس، وقد يوسوس بالنَّهْي عن طاعة الله فإذا ذكر العبدُ أمر ربه فأطاعه فيه، وعصى الشيطان خنس، فهو في كلّ حالتيه وَسْواس خَناس، وهذه الصفة صفته.

وقوله:( الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ) يعني بذلك: الشيطان الوسواس، الذي يوسوس في صدور الناس: جنهم وإنسهم.

فإن قال قائل: فالجنّ ناس، فيقال: الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس. قيل: قد سماهم الله في هذا الموضع ناسا، كما سماهم في موضع آخر رجالا فقال:( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ ) فجعل الجنّ رجالا وكذلك جعل منهم ناسا.

وقد ذُكر عن بعض العرب أنه قال وهو يحدّث، إذ جاء قوم من الجنّ فوقفوا، فقيل: من أنتم؟ فقالوا: ناس من الجنّ، فجعل منهم ناسا، فكذلك ما في التنزيل من ذلك.

آخر كتاب التفسير، والحمد لله العلي الكبير. ==

قلت المدون تم بحمد الله وفضله ثم قلت: اللهم فكما ألهمت بإنشائه وأعنت على إنهائه فاجعله نافعاً في الدنيا وذخيرة صالحة في الأخرى واختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة آمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى حصنك مصيرنا ومآلنا وتقبل بفضلك أعمالنا إنك مجيب الدعوات ومفيض الخيرات والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين اللهم لنا جميعا يا رب العالمين .وسبحان الله وبحمده  عدد خلقه وزنة عرشه  ورضا نفسه ومداد كلماته}أقولها ما حييت وبعد موتي  والي يوم الحساب وارحم  واغفر اللهم لوالديَّ ومن مات من اخوتي واهلي والمؤمنين منذ خَلَقْتَ الخلق الي يوم الحساب آمين وفرِّجِ كربي وردَّ اليَّ عافيتي وارضي عني وأعتقني في الدارين  واعِنِّي علي أن اُنْفِقها في سبيلك يا ربي اللهم فرِّج كربي واكفني همي واكشف البأساء والضراء عني وعنا.. وردَّ إليَّ عافيتي وثبتني علي دينك الحق ولا تُزِغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب اللهم وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وتوفنا مع الأبرار وألِّفْ بين قلوبنا اجمعين.يا عزيز يا غفار ... اللهم واشفني شفاءاً لا يُغَادر سقما واعفو عني وعافني وارحمني وفرج كربي واكفني همي واعتقني مما أصابني من مكروه أنت تعلمه واعتقني من النار وقني عذاب القبر وعذاب  جهنم وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال ومن المأثم والمغرم ومن غلبة الدين وقهر الرجال اللهم آمين /اللهم ربي اشرح لي صدري ويسر لي أمري وأحلل عُقَد لساني واغنني بك عمن سواك ياربي . والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين آمين. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حمى قرمزية /Scarlet fever.

حمى قرمزية /Scarlet fever لسان الفراولة الذي يظهر في الحمى القرمزية تسميات أخرى scarlatina, scarletina معلومات عامة=الاختصاص أمرا...