تفسير سورة البقرة {من 113 الي 181.}
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
البقرة - تفسير ابن كثير
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) }
يبين تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه، حيث ادعت كل طائفة من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها، كما أخبر الله عنهم في سورة المائدة أنهم قالوا: { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [المائدة: 18] . فأكذبهم الله تعالى بما أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم، ولو كانوا كما ادعوا لما كان الأمر كذلك، وكما تقدم من (1) دعواهم أنه لن تمسهم النار إلا أياما معدودة، ثم ينتقلون إلى الجنة. وردَّ عليهم تعالى في ذلك، وهكذا قال لهم في هذه الدعوى التي ادعوها بلا دليل ولا حجة
__________
(1) في جـ، ط: "في".
(1/384)
ولا بينة، فقال { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ }
وقال أبو العالية: أماني تمنوها على الله بغير حق. وكذا قال قتادة والربيع بن أنس.
ثم قال: { قُلْ } أي: يا محمد، { هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ }
وقال أبو العالية ومجاهد والسدي والربيع بن أنس: حجتكم. وقال قتادة: بينتكم على ذلك. { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } كما تدعونه (1) .
ثم قال تعالى: { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي: من أخلص العمل لله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: { فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ } الآية [آل عمران: 20].
وقال أبو العالية والربيع: { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } يقول: من أخلص لله.
وقال سعيد بن جبير: { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ } أخلص، { وَجْهَهُ } قال: دينه، { وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي: متبع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم. فإن للعمل (2) المتقبل شرطين، أحدهما: أن يكون خالصًا لله وحده والآخر: أن يكون صوابًا موافقا للشريعة. فمتى كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يتقبل؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". رواه مسلم من حديث عائشة، عنه، عليه السلام.
فعمل الرهبان ومن شابههم -وإن فرض أنهم مخلصون فيه لله-فإنه لا يتقبل منهم، حتى يكون ذلك متابعًا للرسول [محمد] (3) صلى الله عليه وسلم المبعوث إليهم وإلى الناس كافة، وفيهم وأمثالهم، قال الله تعالى: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [الفرقان: 23] ، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا } [النور: 39] .
وروي عن أمير المؤمنين عمر أنه تأولها في الرهبان كما سيأتي.
وأما إن كان العمل موافقًا للشريعة في الصورة الظاهرة، ولكن لم يخلص عامله القصد لله فهو أيضًا مردود على فاعله وهذا حال المنافقين والمرائين، كما قال تعالى: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا } [النساء: 142] ، وقال تعالى: { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ* الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ* وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } [الماعون: 4 -7] ، ولهذا قال تعالى: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاَءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [الكهف: 110] . وقال في هذه الآية الكريمة: { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ }
وقوله: { فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل الأجور، وآمنهم مما يخافونه من المحذور فـ { لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فيما يستقبلونه، { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما مضى مما يتركونه، كما قال سعيد بن جبير: فـ { لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } يعني: في الآخرة { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ }
__________
(1) في جـ، ط، ب، و: "أي فيما تدعونه"، وفي أ: "أي مما تدعونه".
(2) في أ: "في العمل".
(3) زيادة من جـ، ط، ب.
(1/385)
[يعني: لا يحزنون] (1) للموت.
وقوله تعالى: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ } يبين به تعالى تناقضهم وتباغضهم وتعاديهم وتعاندهم. كما قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رافع بن حُرَيْملة (2) ما أنتم على شيء، وكفر بعيسى وبالإنجيل. وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيء. وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة. فأنزل الله في ذلك من قولهما (3) { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ } قال: إن كلا يتلو في كتابه تصديق من كفر به، أي: يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة، فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى، وفي الإنجيل ما جاء به عيسى بتصديق موسى، وما جاء (4) من التوراة من عند الله، وكل يكفر بما في يد (5) صاحبه.
وقال مجاهد في تفسير هذه الآية: قد كانت أوائل اليهود والنصارى على شيء.
وقال قتادة: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ } قال: بلى، قد كانت أوائل النصارى على شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا. { وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ } قال: بلى قد كانت أوائل اليهود على شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا.
وعنه رواية أخرى كقول أبي العالية، والربيع بن أنس في تفسير (6) هذه الآية: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ } هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا القول يقتضي أن كلا من الطائفتين صدقت فيما رمت به الطائفة الأخرى. ولكن ظاهر سياق الآية يقتضي ذمهم فيما قالوه، مع علمهم بخلاف ذلك؛ ولهذا قال تعالى: { وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ } أي: وهم يعلمون شريعة التوراة والإنجيل، كل منهما قد كانت مشروعة في وقت، ولكن تجاحدوا فيما بينهم عنادًا وكفرًا (7) ومقابلة للفاسد بالفاسد، كما تقدم عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة في الرواية الأولى عنه في تفسيرها، والله أعلم.
وقوله تعالى: { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } يُبَيِّن بهذا جهل اليهود والنصارى فيما تقابلوا من القول، وهذا من باب الإيماء والإشارة. وقد اختلف فيما عنى بقوله تعالى: { الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ }
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(2) في أ: "بن خزيمة".
(3) في جـ: "من قوله".
(4) في أ، و: "جاء به".
(5) في جـ، ط، ب: "بما في يدي".
(6) في أ، و: "في تفسيره".
(7) في جـ: "كفرا وعنادا".
(1/386)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
فقال الربيع بن أنس وقتادة: { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } قالا وقالت النصارى مثل قول اليهود وقيلهم. وقال ابن جُرَيج: قلت لعطاء: من هؤلاء الذين لا يعلمون؟ قال: أمم كانت قبل اليهود والنصارى وقبل التوراة والإنجيل. وقال السدي: { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } فهم: العرب، قالوا: ليس محمد على شيء.
واختار أبو جعفر بن جرير أنها عامة تصلح للجميع، وليس ثمَّ دليل قاطع يعين واحدًا من هذه الأقوال، فالحمل على الجميع أولى، والله أعلم.
وقوله تعالى: { فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي: أنه تعالى يجمع (1) بينهم يوم المعاد، ويفصل بينهم بقضائه العدل الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة. وهذا كقوله تعالى في سورة الحج: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [الحج: 17] ، وكما قال تعالى: { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ } [ سبأ:26] .
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) }
اختلف المفسرون في المراد من الذين منعوا مساجد الله (2) وسَعَوا في خرابها على قولين:
أحدهما: ما رواه العوفي في تفسيره، عن ابن عباس في قوله: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } قال: هم النصارى. وقال مجاهد: هم النصاري، كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة في قوله: { وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } هو بُخْتَنَصَّر وأصحابه، خَرَّب بيت المقدس، وأعانه على ذلك النصارى.
وقال سعيد، عن قتادة: قال: أولئك أعداء الله النصارى، حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس.
وقال السدي: كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس حتى خربه، وأمر به أن تطرح فيه الجيف، وإنما أعانه الروم على خرابه من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا. وروي نحوه عن الحسن البصري.
القول الثاني: ما رواه ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب قال: قال ابن
__________
(1) في أ: "يحكم".
(2) في جـ: "مساجد الله أن يذكر فيها اسمه".
(1/387)
زيد في قوله: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } قال: هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، وبين أن يدخلوا مكة حتى نحر هديه بذي طُوَى وهادنهم، وقال لهم: ما كان أحد يَصُد عن هذا البيت، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده. فقالوا: لا يدخل علينا مَنْ قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق.
وفي قوله: { وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } قال: إذ قطعوا من يَعْمُرُها بذكره ويأتيها للحج والعمرة.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن سلمة قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن قُرَيشًا منعوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام، فأنزل الله: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ }
ثم اختار ابن جرير القول الأول، واحتج بأن قريشًا لم تسع في خراب الكعبة. وأما الروم فسعوا في تخريب بيت المقدس.
قلت: الذي (1) يظهر -والله أعلم-القول الثاني، كما قاله ابن زيد، وروي عن ابن عباس؛ لأن النصارى إذا منعت اليهود الصلاة في البيت المقدس، كأن دينهم أقوم من دين اليهود، وكانوا أقرب منهم، ولم يكن ذكر الله من اليهود مقبولا إذ ذاك؛ لأنهم لعنوا من قبل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. وأيضا فإنه تعالى لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى، شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة، ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام، وأما اعتماده على أن قريشا لم تسع في خراب الكعبة، فأي خراب أعظم مما فعلوا؟ أخرجوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم، كما قال تعالى: { وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [الأنفال:34] ، وقال تعالى: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ* إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [التوبة:17 ، 18] ، وقال تعالى: { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فتَصُيِبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [الفتح: 25] ، فقال تعالى: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ } [التوبة: 18] ، فإذا كان من هو كذلك مطرودًا منها مصدودًا عنها، فأي خراب لها أعظم من ذلك؟ وليس المراد من عمارتها زخرفتها وإقامة صورتها فقط، إنما عمارتها بذكر الله فيها وإقامة شرعه فيها، ورفعها عن الدنس والشرك.
__________
(1) في ط، ب: "قلت والذي".
(1/388)
وقوله تعالى: { أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ } هذا خبر معناه الطلب، أي لا تُمَكِّنوا هؤلاء -إذا قَدَرُتم عليهم-من دخولها إلا تحت الهدنة والجزية. ولهذا لما فتح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكة أمر من العام القابل في سنة تسع أن ينادى برحاب منى: "ألا لا يَحُجَّن (1) بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عُريان، ومن كان له أجل فأجله إلى مدته". وهذا كان تصديقًا وعملا بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } الآية [التوبة: 28] ، وقال بعضهم: ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين على حال التهيب، وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم، فضلا أن يستولوا عليها ويمنعوا (2) المؤمنين منها. والمعنى: ما كان الحق والواجب إلا ذلك، لولا ظلم الكفرة وغيرهم.
وقيل: إن هذا بشارة من الله للمسلمين أنه سيُظْهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد، وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد منهم إلا خائفا، يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو يقتل إن لم يسلم. وقد أنجز الله هذا الوعد كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام، وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يبقى بجزيرة العرب دينان، وأن تجلى اليهود والنصارى منها، ولله الحمد والمنة. وما ذاك إلا تشريف أكناف المسجد الحرام وتطهير البقعة [المباركة] (3) التي بعث [الله] (4) فيها رسوله إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا صلوات الله وسلامه عليه (5) . وهذا هو الخزي لهم في الدنيا؛ لأن الجزاء من جنس العمل. فكما صدوا المؤمنين (6) عن المسجد الحرام، صُدوا عنه، وكما أجلوهم من مكة أجلوا منها { وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } على ما انتهكوا من حرمة البيت، وامتهنوه من نصب الأصنام حوله، والدعاء إلى غير الله عنده والطواف به عريا، وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله.
وأما من فَسَّر بيت (7) المقدس، فقال كعب الأحبار: إن النصارى لما ظهروا على بيت المقدس خربوه (8) فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم أنزل عليه: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ } الآية، فليس في الأرض نصراني يدخل بيت المقدس إلا خائفا.
وقال السدي: فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يُضْرَب (9) عُنُقُه، أو قد أخيف بأداء الجزية فهو يؤديها.
__________
(1) في ب، و: "ألا لا يحج"، وفي أ: "أن لا يحج".
(2) في جـ، ط، ب: "ويمنعوا".
(3) زيادة من جـ.
(4) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(5) في جـ، ب، و: "صلوات الله وسلامه عليه".
(6) في أ: "المسلمين".
(7) في ط، ب: "ببيت".
(8) في أ: حرقوه".
(9) في جـ، ط، ب: "أن تضرب".
(1/389)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
وقال قتادة: لا يدخلون المساجد إلا مسارقة.
قلت: وهذا لا ينفي أن يكون داخلا في معنى عموم الآية فإن النصارى ما ظلموا بيت المقدس، بامتهان الصخرة التي كانت يصلي (1) إليها اليهود، عوقبوا شرعًا وقَدَرا بالذلة فيه، إلا في أحيان من الدهر امتحن (2) بهم بيت المقدس وكذلك اليهودُ لما عَصَوا الله فيه أيضا أعظم من عصيان النصارى كانت عقوبتهم أعظم والله أعلم.
وفسر هؤلاء الخزي من الدنيا، بخروج المهدي عند السدي، وعكرمة، ووائل بن داود. وفسره قتادة بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون.
والصحيح أن الخزي في الدنيا أعم من ذلك كله، وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة كما قال الإمام أحمد: حدثنا الهيثم بن خارجة، حدثنا محمد بن أيوب بن ميسرة بن حَلبس (3) سمعت أبي يحدث، عن بُسْر (4) بن أرطاة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: "اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة" (5) .
وهذا حديث حسن، وليس في شيء من الكتب الستة، وليس لصحابيه وهو بسر (6) بن أرطاة -ويقال: ابن أبي أرطاة-حديث سواه، وسوى [حديث] (7) "لا تقطع الأيدي في الغزو".
{ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) }
وهذا -والله أعلم-فيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه
الذين أخرجوا (8) من مكة وفارقوا مسجدهم ومُصَلاهم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمكةَ إلى بيت المقدس والكعبةُ بين يديه. فلما قدم المدينة وُجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، ثم صرفه الله إلى الكعبة بعدُ، ولهذا يقول (9) تعالى: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ }
قال أبو عبيد القاسم بن سلام، في كتاب الناسخ والمنسوخ: أخبرنا حجاج بن محمد، أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا -والله أعلم-شأنُ القبلة: قال (10) تعالى: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } فاستقبل
__________
(1) في جـ، ب، و: "كانت تصلى"، وفي أ: "كانت تصل".
(2) في أ: "سخر".
(3) في جـ، ط، ب: "بن حابس".
(4) في أ: "عن بشر".
(5) المسند (4/181).
(6) في أ: "وهو بشر".
(7) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(8) في أ: "الذين خرجوا".
(9) في جـ: "يقول الله".
(10) في جـ، ب، و: "قال الله".
(1/390)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس، وترك البيت العتيق، ثم صرفه إلى بيته (1) العتيق ونسخها، فقال: { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } (2) .
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة. وذلك أن رسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة -وكان أهلُها اليهودَ-أمره الله أن يستقبل بيت المقدس. ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا] } (3) إلى قوله: { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فأنزل الله: { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] } (4) وقال: { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ }
وقال عكرمة عن ابن عباس: { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } قال: قبلة الله أينما توجهت شرقًا أو غربًا. وقال مجاهد: { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } [قال: قبلة الله] (5) حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها: الكعبة.
وقال ابن أبي حاتم بعد روايته الأثر المتقدم، عن ابن عباس، في نسخ القبلة، عن عطاء، عنه: وروي عن أبي العالية، والحسن، وعطاء الخراساني، وعكرمة، وقتادة، والسدي، وزيد بن أسلم، نحو ذلك.
وقال ابن جرير: وقال آخرون: بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض التوجه إلى الكعبة، وإنما أنزلها (6) تعالى ليعلم نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة، حيث شاؤوا من نواحي المشرق والمغرب؛ لأنهم لا يوجهون وجوههم وجهًا من ذلك وناحية إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه (7) وتلك الناحية؛ لأن له تعالى المشارق والمغارب، وأنه لا يخلو منه مكان، كما قال تعالى: { وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } [المجادلة : 7] قالوا: ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فَرَضَ عليهم التوجُّهَ إلى المسجد الحرام.
هكذا قال، وفي قوله: "وإنه تعالى لا يخلو منه مكان": إن أراد علمه تعالى فصحيح؛ فإن علمه تعالى محيط بجميع المعلومات، وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شيء من خلقه، تعالى الله
__________
(1) في جـ، أ، و: "البيت".
(2) ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره (1/346) من طريق حجاج بن محمد به، ورواه الحاكم في المستدرك (2/267) من طريق ابن جريج عن عطاء به وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا السياق".
(3) زيادة من جـ.
(4) زيادة من جـ، ط.
(5) زيادة من جـ.
(6) في جـ: "أنزلها الله".
(7) في أ: "التوجيه".
(1/391)
عن ذلك علوًا كبيرًا.
قال ابن جرير: وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذنا من الله أن يصلي التطوع حيث توجه من شرق أو غرب، في مسيره في سفره، وفي حال المسايفة وشدة الخوف.
حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا ابن إدريس، حدثنا عبد الملك -هو ابن أبي سليمان-عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر: أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته. ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، ويتأول هذه الآية: { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ }
ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن مَرْدُوَيه، من طرق، عن عبد الملك بن أبي سليمان، به (1) . وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر وعامر بن ربيعة، من غير ذكر الآية.
وفي صحيح البخاري من حديث نافع، عن ابن عمر: أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها. ثم قال: فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم، وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها.
قال نافع: ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم (2) .
مسألة: ولم يفرق الشافعي في المشهور عنه، بين سفر المسافة وسفر العدوي، فالجميع عنه يجوز التطوع فيه على الراحلة، وهو قول أبي حنيفة خلافا لمالك وجماعته، واختار أبو يوسف وأبو سعيد الإصطخري، التطوع على الدابة في المصر، وحكاه أبو يوسف عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، واختاره أبو جعفر الطبري، حتى للماشي أيضا.
قال ابن جرير: وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في قوم عُمِّيتْ عليهم القبلة، فلم يعرفوا شَطرها، فصلوا على أنحاء مختلفة، فقال الله (3) لي المشارق والمغارب فأين وليتم وجوهكم فهنالك وجهي، وهو قبلتكم فيعلمكم بذلك أن صلاتكم ماضية.
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا أبو الربيع السمان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة، فنزلنا منزلا فجعل الرَّجل يأخذُ الأحجارَ فيعمل مسجدا يصلي فيه. فلما [أن] (4) أصبحنا إذا نحن قد صلينا على غير القبلة. فقلنا: يا رسول الله، لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة؟ فأنزل الله تعالى: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } الآية.
__________
(1) تفسير الطبري (2/530) وصحيح مسلم برقم (700) وسنن الترمذي برقم (2958) وسنن النسائي (1/244) وتفسير ابن أبي حاتم (1/344).
(2) صحيح البخاري برقم (4535).
(3) في أ: "فقال الله لهم".
(4) زيادة من ط.
(1/392)
ثم رواه عن سفيان بن وَكِيع، عن أبيه، عن أبي الربيع السمان، بنحوه (1) .
ورواه الترمذي، عن محمود بن غيلان، عن وَكِيع. وابن ماجه، عن يحيى بن حكيم، عن أبي داود، عن أبي الربيع السمان (2) .
ورواه ابن أبي حاتم، عن الحسن بن محمد بن الصباح، عن سعيد (3) بن سليمان، عن أبي الربيع السمان (4) -واسمه أشعث بن سعيد البصري-وهو ضعيف الحديث.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن. ليس إسناده بذاك، ولا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وأشعث يُضَعَّف في الحديث.
قلت: وشيخه عاصم أيضًا ضعيف (5) .
قال البخاري: منكر الحديث. وقال ابن معين: ضعيف لا يحتج به. وقال ابن حبان: متروك، والله أعلم.
وقد روي من طرق أخرى، عن جابر.
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسير هذه الآية: حدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل، حدثنا الحسن بن علي بن شبيب، حدثني أحمد بن عبيد الله (6) بن الحسن، قال: وجدت في كتاب أبي: حدثنا عبد الملك العرزمي، عن عطاء، عن جابر، قال: بَعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سَرِيَّة كنت فيها، فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة، فقالت طائفة منا: قد عرفنا القبلة، هي هاهنا قبل السماك (7) . فصلُّوا وخطُّوا خطوطًا، فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة. فلما قفلنا من سفرنا (8) سألنا النبي صلى الله عليه وسلم، فسكت، وأنزل الله تعالى: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ }
ثم رواه من حديث محمد بن عبيد الله العَرْزَمي، عن عطاء، عن جابر، به (9) .
وقال الدارقطني: قرئ على عبد الله بن عبد العزيز -وأنا أسمع-حدثكم داود بن عمرو، حدثنا محمد بن يزيد (10) الواسطي، عن محمد بن سالم، عن عطاء، عن جابر، قال: كنا مع رسول الله
__________
(1) تفسير الطبري (2/ 531، 532).
(2) سنن الترمذي برقم (345) وسنن ابن ماجة برقم (1020).
(3) في و: "عن سعد".
(4) تفسير ابن أبي حاتم (1/344).
(5) في أ: "ضعيف الحديث".
(6) في هـ: "عبد الله".
(7) في جـ، ط، ب، أ، و: "قبل الشمال".
(8) في أ: "سيرنا".
(9) ورواه الدارقطني في السنن (1/271) من طريق إسماعيل بن علي عن الحسن بن علي بن شبيب به، ورواه البيهقي في السنن الكبرى (2/12) من طريق محمد بن الحارث عن أحمد بن عبيد الله قال: وجدت في كتاب أبي فذكر مثله، ورواه أيضا (2/10) من طريق محمد بن يزيد الواسطي، عن محمد بن عبيد الله العرزمي عن عطاء به.
(10) في جـ: "بن زيد".
(1/393)
صلى الله عليه وسلم في مسير فأصابنا غيم، فتحيرنا فاختلفنا في القبلة، فصلى كل (1) منا على حدة، وجعل أحدنا يخط بين يديه لنعلم أمكنتنا، فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يأمرنا بالإعادة، وقال: "قد أجزأت صلاتكم".
ثم قال الدارقطني: كذا قال: عن محمد بن سالم، وقال غيره: عن محمد بن عبد الله العرزمي، عن عطاء، وهما ضعيفان (2) .
ثم رواه ابن مَرْدُويه أيضا من حديث الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرِيَّة فأخذتهم ضبابة، فلم يهتدوا إلى القبلة، فصلوا لغير القبلة. ثم استبان لهم بعد طلوع (3) الشمس أنهم صلوا لغير القبلة. فلما جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّثُوه، فأنزل الله عز وجل، هذه الآية: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ }
وهذه الأسانيد فيها ضعف، ولعله يشد بعضها بعضا. وأما إعادة الصلاة لمن تبين له خطؤه ففيها قولان للعلماء، وهذه دلائل على عدم القضاء، والله أعلم.
قال ابن جرير: وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في سبب النجاشي، كما حدثنا محمد بن بشار، حدثنا هشام بن معاذ (4) حدثني أبي، عن قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخا لكم قد مات فصلوا عليه". قالوا: نصلي على رجل ليس بمسلم؟ قال: فنزلت: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ } [آل عمران: 199] قال قتادة: فقالوا: فإنه كان لا يصلي إلى القبلة. فأنزل الله: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } (5) .
وهذا غريب والله أعلم.
وقد قيل: إنه كان يصلي إلى بيت المقدس قبل أن يبلغه الناسخ إلى الكعبة، كما حكاه القرطبي عن قتادة، وذكر القرطبي أنه لما مات صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بذلك من ذهب إلى الصلاة على الغائب، قال: وهذا خاص عند أصحابنا من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه عليه السلام، شاهده حين صلى عليه طويت له الأرض. الثاني: أنه لما لم يكن عنده من يصلي عليه صلى عليه، واختاره ابن العربي، قال القرطبي: ويبعد أن يكون ملك مسلم ليس عنده أحد من قومه على دينه، وقد أجاب ابن العربي عن هذا لعلهم لم يكن عندهم شرعية الصلاة على الميت. وهذا جواب جيد. الثالث: أنه عليه الصلاة والسلام إنما صلى عليه ليكون ذلك كالتأليف لبقية الملوك، والله أعلم.
__________
(1) في جـ، ط، ب، أ، و: "كل رجل".
(2) سنن الدارقطني (1/271) ورواه الحاكم في المستدرك (1/206) من طريق داود بن عمرو به، وقال: "هذا حديث صحيح رواته كلهم ثقات غير محمد بن سالم فإني لا أعرفه بعدالة ولا جرح". قال الذهبي: قلت: "هو أبو سهل واه".
(3) في جـ، ط، ب، أ، و: "بعدما طلعت".
(4) في جـ، ط، ب، أ: "معاذ بن هشام".
(5) تفسير الطبري (2/532).
(1/394)
وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسير هذه الآية من حديث أبي معشر، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين المشرق والمغرب قبْلَة لأهل المدينة وأهل الشام وأهل العراق".
وله مناسبة هاهنا، وقد أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي معشر، واسمه (1) نَجِيح بن عبد الرحمن السَّندي المدني، به (2) "ما بين المشرق والمغرب قبلة".
وقال الترمذي: وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة. وتكلم بعض أهل العلم في أبي معشر من قبل حفظه، ثم قال الترمذي: حدثني الحسن بن [أبي] (3) بكر المروزي، حدثنا المعلى بن منصور، حدثنا عبد الله بن جعفر المخزومي، عن عثمان بن محمد الأخنسي، عن سعيد (4) المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين المشرق والمغرب قبلة" (5) .
ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وحكى عن البخاري أنه قال: هذا أقوى من حديث أبي معشر وأصح. قال الترمذي: وقد روي عن غير واحد من الصحابة: ما بين المشرق والمغرب قبلة -منهم عمر بن الخطاب، وعلي، وابن عباس.
وقال ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك، فما بينهما قبلة، إذا استقبلت القبلة.
ثم قال ابن مَرْدُويه: حدثنا علي بن أحمد بن عبد الرحمن، حدثنا يعقوب بن يونس مولى بني هاشم، حدثنا شعيب بن أيوب، حدثنا ابن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "ما بين المشرق والمغرب قبلة".
وقد رواه الدارقطني والبيهقي (6) وقال المشهور: عن ابن عمر، عن عمر، قوله.
قال ابن جرير: ويحتمل: فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم لي فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم، كما حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثني حجاج، قال: قال ابن جُرَيج: قال مجاهد: لما نزلت: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر: 60] قالوا: إلى أين؟ فنزلت: { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ }
__________
(1) في و: "وابن".
(2) سنن الترمذي برقم (342) وسنن ابن ماجة برقم (1011).
(3) زيادة من جـ.
(4) في أ: "عن شعبة".
(5) سنن الترمذي برقم (344).
(6) سنن الدارقطني (1/270) وسنن البيهقي (2/9) وهو معلول والصواب وقفه. قال ابن أبي حاتم في العلل (1/184): "سئل أبو زرعة عن حديث رواه يزيد بن هارون، عن محمد بن عبد الرحمن، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بين المشرق والمغرب قبلة" قال أبو زرعة: "هذا وهم، الحديث حديث ابن عمر موقوف".
(1/395)
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
قال ابن جرير: ويعني قوله: { إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } يسع خلقه كلهم بالكفاية، والإفضال والجود (1) .
وأما قوله: { عليم } فإنه يعني: عليم بأعمالهم، ما يغيب عنه منها شيء، ولا يعزب عن علمه، بل هو بجميعها عليم.
{ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) }
اشتملت هذه الآية الكريمة، والتي تليها على الرد على النصارى - عليهم لعائن الله-وكذا من أشبههم من اليهود ومن مشركي العرب، ممن (2) جعل الملائكة بنات الله، فأكذب الله جميعهم في دعواهم وقولهم: إن لله ولدا. فقال تعالى: { سُبْحَانَهُ } أي: تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوًا كبيرًا { بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي: ليس الأمر كما افتروا، وإنما له ملك السماوات والأرض، وهو المتصرف فيهم، وهو خالقهم ورازقهم، ومُقَدِّرهم ومسخرهم، ومسيرهم ومصرفهم، كما يشاء، والجميع عبيد (3) له وملك له، فكيف يكون له ولد منهم، والولد إنما يكون متولدًا من شيئين متناسبين، وهو تبارك وتعالى ليس له نظير، ولا مشارك في عظمته وكبريائه ولا صاحبة له، فكيف يكون له ولد! كما قال تعالى: { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الأنعام: 101] وقال تعالى: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا* لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا* تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا* أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا* وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا* إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا* لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا* وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [مريم : 88 -95] وقال تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [سورة الإخلاص] .
فقرر (4) تعالى في هذه الآيات الكريمة أنه السيد العظيم، الذي لا نظير له ولا شبيه له، وأن جميع الأشياء غيره مخلوقة له مربوبة، فكيف يكون له منها ولد! ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الآية من البقرة: أخبرنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن عبد الله بن أبي حُسَين، حدثنا نافع بن جبير -هو ابن مطعم-عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: كَذَّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إيَّاي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: لي ولد. فسبحاني (5) أن أتخذ صاحبة أو ولدا".
__________
(1) في ط: "بالكفاية والجود والإفضال"، وفي ب: "بالكفاية والأفضال والجود والإفضال".
(2) في ب، أ: "من".
(3) في ط: "والجميع عبد".
(4) في أ، و: "يقرر".
(5) في ط: "سبحاني".
(1/396)
انفرد به البخاري من هذا الوجه (1) .
وقال ابن مَرْدُويه: حدثنا أحمد بن كامل، حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي، حدثنا إسحاق بن محمد الفَرْوي، حدثنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: كذبني ابن آدم ولم ينبغ له أن يكذبني، وشتمني ولم ينبغ له أن يشتمني، أما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني. وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته (2) . وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا. وأنا الله الأحد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد" (3) .
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله؛ إنهم يجعلون له ولدا، وهو يرزقهم ويعافيهم" (4) .
وقوله: { كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } قال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أسباط، عن مطرف، عن عطية، عن ابن عباس، قال: { قَانِتينَ } مصلين.
وقال عكرمة وأبو مالك: { كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } مُقرُّون له بالعبودية. وقال سعيد بن جبير: { كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } يقول: الإخلاص. وقال الربيع بن أنس: يقول كل له قائم يوم القيامة. وقال السدي: { كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } يقول: له مطيعون يوم القيامة.
وقال خَصيف، عن مجاهد: { كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } قال: مطيعون، كن إنسانًا فكان، وقال: كن حمارًا فكان.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: { كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } مطيعون، يقول: طاعة الكافر في سجود ظله وهو كاره.
وهذا القول عن مجاهد -وهو اختيار ابن جرير-يجمع الأقوال كلها، وهو أن القنوت: هو الطاعة والاستكانة إلى الله، وذلك شرعي وقَدري، كما قال تعالى: { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } [الرعد: 15] .
وقد وَرَد حديث فيه بيان القنوت في القرآن ما هو المراد به، كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونُس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث: أن دَرَّاجًا أبا السمح حدثه، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4482).
(2) في أ: "بإعادته".
(3) الحديث رواه البخاري في صحيحه برقم (4974) من طريق شعيب عن أبي الزناد به، وفيه: "ولم يكن لي كفوا أحد".
(4) صحيح البخاري برقم (6099) وصحيح مسلم برقم (2804) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(1/397)
الطاعة".
وكذا رواه الإمام أحمد، عن حسن بن موسى، عن ابن لَهِيعة، عن دَرّاج بإسناده، مثله (1) .
ولكن هذا الإسناد ضعيف لا يعتمد عليه. ورفع هذا الحديث منكر، وقد يكون من كلام الصحابي أو مَنْ دونه، والله أعلم. وكثيرًا ما يأتي بهذا الإسناد تفاسير فيها نَكَارَة، فلا يغتر بها، فإن السند ضعيف، والله أعلم.
وقوله تعالى: { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي: خالقهما على غير مثال سبق، قال مجاهد والسدي: وهو مقتضى اللغة، ومنه يقال للشيء المحدث: بدعة. كما جاء في الصحيح لمسلم: "فإن كل محدثة بدعة [وكل بدعة ضلالة] (2) " (3) . والبدعة على قسمين: تارة تكون بدعة شرعية، كقوله: فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. وتارة تكون بدعة لغوية، كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم: نعْمَتْ البدعةُ هذه.
وقال ابن جرير: وبديع السماوات والأرض: مبدعهما. وإنما هو مُفْعِل فصرف إلى فَعيل، كما صرف المؤلم إلى الأليم، والمسمع إلى السميع. ومعنى المبدع: المنشئ والمحدث ما لم يسبقه إلى إنشاء (4) مثله وإحداثه أحد.
قال: ولذلك سمي المبتدع في الدين مبتدعًا؛ لإحداثه فيه ما لم يسبق (5) إليه غيره، وكذلك كل محدث فعلا أو قولا لم يتقدمه فيه متقدم، فإن العرب تسميه مبتدعا. ومن ذلك قول أعشى (6) ثعلبة، في مدح هوذة بن علي الحَنفِي:
يُرعى إلى قَوْل سادات الرّجال إذا ... أبدَوْا له الحزْمَ أو ما شاءه ابتدَعا (7)
أي: يحدث ما شاء.
قال ابن جرير: فمعنى الكلام: فسبحان الله أنى يكون لله ولد، وهو مالك ما في السماوات والأرض، تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوَحْدانيّة، وتقر له بالطاعة، وهو بارئها وخالقها وموجدها من غير أصل ولا مثال احتذاها عليه. وهذا إعلام من الله عباده أن ممن يشهد له بذلك المسيح، الذي أضافوا إلى الله بُنُوَّته، وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السماوات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال، هو الذي ابتدع المسيح عيسى من غير والد بقدرته.
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (1/348) والمسند (3/75).
(2) زيادة من ط.
(3) في صحيح مسلم برقم (867) من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ: "وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة".
(4) في أ: "إلى أشباه".
(5) في أ: "ما لم يسبقه".
(6) في و: "بن".
(7) البيت في تفسير الطبري (2/540).
(1/398)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
وهذا من ابن جرير، رحمه الله، كلام جيد وعبارة صحيحة.
وقوله تعالى: { وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } يبين بذلك تعالى كمال قدرته وعظيم سلطانه، وأنه إذا قَدَّر أمرًا وأراد كونه، فإنما يقول له: كن. أي: مرة واحدة، فيكون، أي: فيوجد على وفق ما أراد، كما قال تعالى: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس: 82] وقال تعالى: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [النحل: 40] وقال تعالى: { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [القمر: 50] ، وقال الشاعر:
إذا ما أراد الله أمرًا فإنَّما ... يقول له كن قولة فيكونُ ...
ونبه تعالى بذلك أيضا على أن خلق عيسى بكلمة: كن، فكان كما أمره الله، قال [الله] (1) تعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [آل عمران: 59] .
{ وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) }
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رافع بن حُرَيملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن كنت رسولا من الله كما تقول، فقل لله فَلْيُكَلمْنا حتى نسمع كلامه. فأنزل الله في ذلك من قوله: { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ }
وقال مجاهد [في قوله] (2) { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ } قال: النصارى تقوله.
وهو اختيار ابن جرير، قال: لأن السياق فيهم. وفي ذلك نظر.
[وحكى القرطبي { لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ } أي: لو يخاطبنا بنبوتك يا محمد، قلت: وظاهر السياق أعم، والله أعلم] (3) .
وقال أبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، والسدي في تفسير هذه الآية: هذا قول كفار العرب { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ [مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ] (4) } قالوا: هم اليهود والنصارى. ويؤيد هذا القول، وأن القائلين ذلك هم مشركو العرب، قوله تعالى: { وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ } [الأنعام: 123] .
__________
(1) زيادة من أ، و.
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من جـ، ط.
(4) زيادة من جـ.
(1/399)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
وقوله تعالى: { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا* أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا* أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنزلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا } [الإسراء: 90-93] ، وقوله تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا } [الفرقان: 21] ، وقوله: { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً } [المدثر: 52] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به، إنما هو الكفر والمعاندة، كما قال من قبلهم من الأمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم، كما قال تعالى: { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً } [النساء: 153] وقال تعالى: { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } [البقرة: 55] .
وقوله: { تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } أي: أشبهت قُلُوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو، كما قال تعالى: { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ* أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } [الذاريات: 52، 53] .
وقوله: { قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي: قد وضحنا الدلالات على صدق الرسل بما لا يحتاج معها إلى سؤال آخر وزيادة أخرى، لمن أيقن (1) وصدق واتبع الرسل، وفهم ما جاؤوا به عن الله تبارك وتعالى. وأما من ختم الله على قلبه وجعل على بصره غشاوة فأولئك الذين قال الله تعالى فيهم: { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ* وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [يونس: 96، 97] .
[قوله تعالى] (2)
{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) }
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الرحمن بن صالح، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله الفزاري عن شيبان النحوي، أخبرني قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنزلت علي: { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } قال: "بشيرًا بالجنة، ونذيرًا من النار" (3) .
وقوله: { وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } قراءة أكثرهم (4) { وَلا تُسْأَلُ } بضم التاء على الخبر. وفي قراءة أبي بن كعب: "وما تسأل" وفي قراءة ابن مسعود: "ولن تسأل عن أصحاب الجحيم"
__________
(1) في أ: "لمن اتقى".
(2) زيادة من ط.
(3) تفسير ابن أبي حاتم (1/354).
(4) في ب، أ، و: "قراءة بعضهم".
(1/400)
نقلهما (1) ابن جرير، أي: لا نسألك عن كفر من كفر بك، { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [الرعد:40] وكقوله تعالى: { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمصَيْطِرٍ } الآية [ الغاشية : 21 ، 22 ] وكقوله تعالى: { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } [ ق : 45 ] وأشباه ذلك من الآيات.
وقرأ آخرون (2) "ولا تَسْأَلْ عن أصحاب الجحيم" بفتح التاء على النهي، أي: لا تسأل عن حالهم، كما قال عبد الرزاق:
أخبرنا الثوري، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليت شعري ما فعل أبواي، ليت شعري ما فعل أبواي، ليت شعري ما فعل أبواي؟". فنزلت: { وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } فما ذكرهما (3) حتى توفاه الله، عز وجل.
ورواه ابن جرير، عن أبي كُرَيب، عن وَكِيع، عن موسى بن عبيدة، [وقد تكلموا فيه عن محمد بن كعب] (4) بمثله (5) وقد حكاه القرطبي عن ابن عباس ومحمد بن كعب قال القرطبي: وهذا كما يقال لا تسأل عن فلان؛ أي: قد بلغ فوق ما تحسب، وقد ذكرنا في التذكرة أن الله أحيا له أبويه حتى آمنا، وأجبنا عن قوله:(إن أبي وأباك في النار).(قلت): والحديث المروي في حياة أبويه عليه السلام ليس في شيء من الكتب الستة ولا غيرها، وإسناده ضعيف والله أعلم.
ثم قال [ابن جرير] (6) وحدثني القاسم، حدثنا الحسين، حدثني حجاج، عن ابن جُرَيج، أخبرني داود بن أبي عاصم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: "أين أبواي؟". فنزلت: { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } (7) .
وهذا مرسل كالذي قبله. وقد رد ابن جرير هذا القول المروي عن محمد بن كعب [القرظي] (8) وغيره في ذلك، لاستحالة الشك من الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر أبويه. واختار القراءة الأولى. وهذا الذي سلكه هاهنا فيه نظر، لاحتمال أن هذا كان في حال استغفاره لأبويه قبل أن يعلم أمرهما، فلما علم ذلك تبرأ منهما، وأخبر عنهما أنهما من أهل النار [كما ثبت ذلك في الصحيح] (9) ولهذا أشباه كثيرة ونظائر، ولا يلزم ما ذكر (10) ابن جرير. والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا فُلَيح بن سليمان، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، قال: لقيت عبد الله بن عَمْرو بن العاص، فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. فقال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وحرزًا للأميين، وأنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لا فظٍّ ولا غليظ ولا
__________
(1) في ب، ط: "نقلهما".
(2) في أ: "وقرأ البصريون".
(3) في أ: "فما ذكره".
(4) تفسير عبد الرزاق (2/78) وتفسير الطبري (2/558) وموسى بن عبيدة ضعيف جدا.
(5) زيادة من ط، أ.
(6) زيادة من ط، أ.
(7) تفسير الطبري (2/559).
(8) زيادة من ط.
(9) زيادة من أ.
(10) في أ، و: "ما ذكره".
(1/401)
سَخَّاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله. فيفتح به أعينا عُمْيًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبا غُلْفًا.
انفرد بإخراجه البخاري، فرواه في البيوع عن محمد بن سنان، عن فُلَيح، به (1) . وقال: تابعه عبد العزيز بن أبي سلمة، عن هلال. وقال سعيد: عن هلال، عن عطاء، عن عبد الله بن سلام. ورواه في التفسير عن عبد الله، عن عبد العزيز بن أبي سلمة، عن هلال، عن عطاء، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، به (2) . فذكر نحوه، فعبد الله هذا هو ابن صالح، كما صرح به في كتاب الأدب. وزعم أبو مسعود الدمشقي أنه عبد الله بن رجاء.
وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسير هذه الآية من البقرة، عن أحمد بن الحسن بن أيوب، عن محمد بن أحمد بن البراء، عن المعافَى بن سليمان، عن فليح، به. وزاد: قال عطاء: ثم لقيت كعب الأحبار، فسألته فما اختلفا في حرف، إلا أن كعبًا قال بلُغَتِهِ: أعينًا عمومى، وآذانًا صمومى، وقلوبًا غلوفًا (3)
__________
(1) المسند (2/174) وصحيح البخاري برقم (2125).
(2) صحيح البخاري برقم (4838).
(3) في ط: "وقلوبا غلفى".
==============
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
البقرة - تفسير ابن كثير
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
{ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) }
قال ابن جرير: يعني بقوله (1) جل ثناؤه: { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } وليست اليهود -يا محمد -ولا النصارى براضية عنك أبدًا، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق.
وقوله تعالى: { قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى } أي: قل يا محمد: إن هدى الله الذي بعثني به هو الهدى، يعني: هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل.
قال قتادة في قوله: { قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى } قال: خصومة عَلَّمها الله محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يخاصمون بها أهل الضلالة. قال قتادة: وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا تزال طائفة من أمتي يقتتلون على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله".
قلت: هذا الحديث مُخَرَّج في الصحيح (2) عن عبد الله بن عمرو (3) .
__________
(1) في ط: "في قوله".
(2) في ط: "في الصحيحين".
(3) صحيح مسلم برقم (1924).
(1/402)
{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } فيه تهديد ووعيد شديد للأمة عن اتباع طرائق اليهود والنصارى، بعد ما عَلِموا من القرآن والسنة، عياذًا بالله من ذلك، فإن الخطاب مع الرسول، والأمر لأمته.
[وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله: { حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } حيث أفرد الملة على أن الكفر كله ملة واحدة كقوله تعالى: { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [الكافرون: 6]، فعلى هذا لا يتوارث المسلمون والكفار، وكل منهم يرث قرينه سواء كان من أهل دينه أم لا؛ لأنهم كلهم ملة واحدة، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في رواية عنه. وقال في الرواية الأخرى كقول مالك: إنه لا يتوارث أهل ملتين شتى، كما جاء في الحديث، والله أعلم] (1) .
وقوله تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ } قال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: هم اليهود والنصارى. وهو قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جرير.
وقال: سعيد عن قتادة: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن موسى، وعبد الله بن عمران الأصبهاني، قالا حدثنا يحيى بن يمان، حدثنا أسامة بن زيد، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ } قال: إذا مر بذكر الجنة سأل الله الجنة، وإذا مر بذكر النار تعوذ بالله من النار (2) .
وقال أبو العالية: قال ابن مسعود: والذي نفسي بيده، إن حق تلاوته أن يُحِلَّ حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله.
وكذا رواه عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة ومنصور بن المعتمر، عن ابن مسعود.
وقال السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس في هذه الآية، قال: يُحِلُّون حلاله ويُحَرِّمُون حرامه، ولا يُحَرِّفُونه عن مواضعه.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن مسعود نحو ذلك.
وقال الحسن البصري: يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، يَكِلُونَ ما أشكل عليهم إلى عالمه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا ابن أبي زائدة، أخبرنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله: { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ } قال: يتبعونه حق اتباعه، ثم قرأ: { وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا } [ الشمس : 2 ] ، يقول: اتَّبَعَها. قال: ورُوِيَ عن عكرمة، وعطاء، ومجاهد، وأبي رزين، وإبراهيم النخَعي نحو ذلك.
وقال سفيان الثوري: حدثنا زُبَيد، عن مُرَّة، عن عبد الله بن مسعود، في قوله: { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ }
__________
(1) زيادة من ط، أ.
(2) تفسير ابن أبي حاتم (1/357).
(1/403)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
قال: يتبعونه حق اتباعه.
قال القرطبي: وروى نصر بن عيسى، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ } قال: "يتبعونه حق اتباعه" ، ثم قال: في إسناده غير واحد من المجهولين فيما ذكره الخطيب إلا أن معناه صحيح. وقال أبو موسى الأشعري: من يتبع القرآن يهبط به على رياض الجنة. وعن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها من الله، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها، قال: وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا مرَّ بآية رحمة سأل، وإذا مرَّ بآية عذاب تعوذ.
وقوله: { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } خَبَر عن { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ } أي: من أقام كتابه من أهل الكتب المنزلة على الأنبياء المتقدمين حق إقامته، آمن بما أرسلتك به يا محمد، كما قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } الآية [ المائدة : 66 ] . وقال: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } [ المائدة : 68 ] ، أي: إذا أقمتموها حق الإقامة، وآمنتم بها حَقَّ الإيمان، وصَدَّقتم ما فيها من الأخبار بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم ونَعْتِه وصفته والأمر باتباعه ونصره ومؤازرته، قادكم ذلك إلى الحق واتباع الخير في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ } الآية [ الأعراف : 157 ] وقال تعالى: { قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا* وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا } [ الإسراء : 107 ، 108 ] أي: إن كان ما وعدنا به من شأن محمد صلى الله عليه وسلم لواقعًا. وقال تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ* وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ القصص : 52 -54] . وقال تعالى: { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [ آل عمران : 20 ] ولهذا قال تعالى: { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } كما قال تعالى: { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [ هود : 17 ] . وفي الصحيح: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي، إلا دخل النار" (1) .
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) }
قد تقدم نظير هذه الآية في صدر السورة، وكررت هاهنا للتأكيد والحث على اتباع الرسول النبي
__________
(1) صحيح مسلم برقم (153) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/404)
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
الأمي الذي يجدون صفته في كتبهم ونعتَه واسمه وأمره وأمته. يحذرهم (1) من كتمان هذا، وكتمان ما أنعم به عليهم، وأمرهم أن يذكروا نعمة الله عليهم، من النعم الدنيوية والدينية، ولا يحسدوا بني عَمِّهم من العرب على ما رزقهم الله من إرسال الرسول الخاتم منهم. ولا يحملهم ذلك الحسدُ على مخالفته وتكذيبه، والحيدة عن موافقته، صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين.
{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) }
يقول تعالى مُنَبِّهًا على شرف إبراهيم خليله، عليه السلام (2) وأن الله تعالى جعله إماما للناس يقتدى به في التوحيد، حتى (3) قام بما كلفه الله تعالى به من الأوامر والنواهي؛ ولهذا قال: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } أي: واذكر -يا محمد -لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذين ينتحلون ملَّة إبراهيم وليسوا عليها، وإنما الذي هو عليها مستقيم فأنت والذين (4) معك من المؤمنين، اذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم، أي: اختباره له بما كلفه به من الأوامر والنواهي { فَأَتَمَّهُنَّ } أي: قام (5) بهن كلهن، كما قال تعالى: { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [ النجم : 37 ] ، أي: وفى جميع ما شرع له، فعمل به صلوات الله عليه، وقال تعالى: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ* وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ* ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ النحل : 120 -123 ]، وقال تعالى: { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 161 ] ، وقال تعالى: { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 67 ، 68 ]
وقوله تعالى: { بِكَلِمَاتٍ } أي: بشرائع وأوامر ونواه، فإن الكلمات تطلق، ويراد بها الكلمات القدرية، كقوله تعالى عن مريم، عليها السلام،: { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } [ التحريم : 12 ] . وتطلق ويراد بها الشرعية، كقوله تعالى: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا [لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ] (6) } [ الأنعام : 115 ] أي: كلماته الشرعية. وهي إما خبر صدق، وإما طلب عدل إن كان أمرًا أو نهيًا، ومن ذلك هذه الآية الكريمة: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } أي: قام بهن. قال: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } أي: جزاء على ما فَعَل، كما قام بالأوامر وتَرَكَ الزواجر، جعله الله للناس قدوة وإمامًا يقتدى به، ويحتذى حذوه.
__________
(1) في جـ، ط، أ، و: "فحذرهم".
(2) في جـ: "عليه الصلاة والسلام".
(3) في أ، و: "حين".
(4) في جـ: "فأنت والذي".
(5) في جـ: "أي أقام".
(6) زيادة من ط.
(1/405)
وقد اختلف [العلماء] (1) في تفسير (2) الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم الخليل، عليه السلام. فروي عن ابن عباس في ذلك روايات:
فقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال ابن عباس: ابتلاه الله بالمناسك. وكذا رواه أبو إسحاق السَّبِيعي، عن التميمي، عن ابن عباس.
وقال عبد الرزاق -أيضًا -: أخبرنا معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } قال: ابتلاه الله بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد؛ في الرأس: قَص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفَرْق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونَتْف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء (3) .
قال ابن أبي حاتم: ورُوِي عن سعيد بن المسيب، ومجاهد، والشعبي، والنَّخَعي، وأبي صالح، وأبي الجلد، نحو ذلك.
قلت: وقريب من هذا ما ثبت في صحيح مسلم، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَشْرٌ من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البرَاجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء" [قال مصعب] (4) ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة.
قال وَكِيع: انتقاص الماء، يعني: الاستنجاء (5) .
وفي الصحيح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط". ولفظه لمسلم (6) .
وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا يونس بن عبد الأعلى، قراءة، أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة، عن ابن هُبيرة، عن حَنَش (7) بن عبد الله الصنعاني، عن ابن عباس: أنه كان يقول في هذه الآية: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } قال: عَشْرٌ، ست في الإنسان، وأربع في المشاعر. فأما التي في الإنسان: حلق العانة، ونتف الإبط، والختان. وكان ابن هبيرة يقول: هؤلاء الثلاثة واحدة. وتقليم الأظفار، وقص الشارب، والسواك، وغسل يوم الجمعة. والأربعة التي في المشاعر: الطواف، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، والإفاضة.
وقال داود بن أبي هند، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس أنه قال: ما ابتلي بهذا الدين أحد فقام به
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في و: "تعيين".
(3) تفسير عبد الرزاق (1/76).
(4) زيادة من جـ، ط.
(5) صحيح مسلم برقم (261).
(6) صحيح البخاري برقم (5889) وصحيح مسلم برقم (257).
(7) في جـ، ط: "حنيش"، وفي أ: "حسين".
كله إلا إبراهيم، قال الله تعالى: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } قلت له: وما الكلماتُ التي ابتلى الله إبراهيم بهن فأتمهن؟ قال: الإسلام ثلاثون سهمًا، منها عشر آيات في براءة: { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ [الْحَامِدُونَ ] (1) } [ التوبة : 112 ] إلى آخر الآية (2) وعشر آيات في أول سورة { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } و { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } وعشر آيات في الأحزاب: { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } [ الآية : 35 ] إلى آخر الآية، فأتمهن كلهن، فكتبت له براءة. قال الله: { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [ النجم : 37 ] .
هكذا رواه الحاكم، وأبو جعفر بن جرير، وأبو محمد بن أبي حاتم، بأسانيدهم إلى داود بن أبي هند، به (3) . وهذا لفظ ابن أبي حاتم.
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن: فراق قومه -في الله -حين أمر بمفارقتهم. ومحاجَّته نمروذ (4) -في الله -حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافه. وصبره على قذفه إياه في النار ليحرقوه -في الله -على هول ذلك من أمرهم. والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده -في الله -حين أمره بالخروج عنهم، وما أمره به من الضيافة والصبر عليها بنفسه وماله، وما ابتلي به من ذبح ابنه حين أمره بذبحه، فلما مضى على ذلك من الله كله وأخلصه للبلاء (5) قال الله له: { أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } على ما كان من خلاف الناس وفراقهم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا إسماعيل بن عُلَيَّة، عن أبي رجاء، عن الحسن -يعني البصري -: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [فَأَتَمَّهُنَّ] (6) } قال: ابتلاه بالكوكب فرضي عنه، وابتلاه بالقمر فرضي عنه، وابتلاه بالشمس فرضي عنه، وابتلاه بالهجرة فرضي عنه، وابتلاه بالختان فرضي عنه، وابتلاه بابنه فرضي عنه.
وقال ابن جرير: حدثنا بشر بن معاذ، حدثنا يزيد بن زُرَيع، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسن يقول: أي والله، ابتلاه بأمر فصبر عليه: ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر، فأحسن في ذلك، وعرف أن ربه (7) دائم لا يزول، فوجه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما كان من المشركين. ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرًا إلى الله، ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة فصبر على ذلك. وابتلاه الله بذبح ابنه (8) والختان فصبر على ذلك.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عمن سمع الحسن يقول في قوله: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [فَأَتَمَّهُنَّ] (9) }
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) في و: "إلى آخر الآيات".
(3) تفسير الطبري (3/8) وتفسير ابن أبي حاتم (1/360).
(4) في جـ: "ومحاجته بنمروذ".
(5) في جـ: "ذلك من البلاء كله وأخلصه للبلاء".
(6) زيادة من أ.
(7) في جـ: "أن الله ربه".
(8) في ط: "بذبح ولده".
(9) زيادة من جـ.
(1/407)
قال: ابتلاه الله بذبح ولده، وبالنار، والكوكب (1) والشمس، والقمر.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا سَلْم بن قتيبة، حدثنا أبو هلال، عن الحسن { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } قال: ابتلاه بالكوكب، والشمس، والقمر، فوجده صابرًا.
وقال العوفي في تفسيره، عن ابن عباس: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } فمنهن: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } (2) ومنهن: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } ومنهن: الآيات في شأن المنسك والمقام الذي جعل لإبراهيم، والرزق الذي رزق ساكنو البيت، ومحمد بعث في دينهما.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا شبابة، عن ورقاء، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله تعالى: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } قال الله لإبراهيم: إني مبتليك بأمر فما هو؟ قال: تجعلني للناس إمامًا. قال: نعم. قال: ومن ذريتي؟ { قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال: تجعل البيت مثابة للناس؟ قال: نعم. قال: وأمنًا. قال: نعم. قال: وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك؟ قال: نعم. قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله؟ قال: نعم.
قال ابن أبي نَجِيح: سمعته من عكرمة، فعرضته على مجاهد، فلم ينكره.
وهكذا رواه ابن جرير من غير وجه، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد.
وقال سفيان الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } قال: ابتلي بالآيات التي بعدها: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [فَأَتَمَّهُنَّ] (3) } قال: الكلمات: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } وقوله: { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا } وقوله { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقوله: { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } الآية، وقوله: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } الآية، قال: فذلك كله من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم.
قال السدي: الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم رَبُّه: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } ، { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ [يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ] (4) } .
__________
(1) في أ، و: "والكواكب".
(2) في جـ، ط: "قال إني".
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.
[وقال القرطبي: وفي الموطأ وغيره، عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: إبراهيم، عليه السلام، أول من اختتن وأول من ضاف الضيف، وأول من استحد، وأول من قَلَّم أظفاره، وأول من قص الشارب، وأول من شاب فلما رأى الشيب، قال: ما هذا؟ قال: وقار، قال: يا رب، زدني وقارًا. وذكر ابن أبي شيبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: أول من خطب على المنابر إبراهيم، عليه السلام، قال غيره: وأول من برَّد البريد، وأول من ضرب بالسيف، وأول من استاك، وأول من استنجى بالماء، وأول من لبس السراويل، وروي عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي إبراهيم، وإن أتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم" قلت: هذا حديث لا يثبت، والله أعلم. ثم شرع القرطبي يتكلم على ما يتعلق بهذه الأشياء من الأحكام الشرعية] (1) .
قال أبو جعفر بن جرير ما حاصله: أنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميعُ ما ذكر، وجائز أن يكون بعض ذلك، ولا يجوز الجزمُ بشيء منها أنه المرادُ على التعيين إلا بحديث أو إجماع. قال: ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له.
قال: غَيْرَ أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نظير معنى ذلك خبران، أحدهما ما حدثنا به أبو كُرَيْب، حدثنا رشدين بن سعد، حدثني زبان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله { الَّذِي وَفَّى } [ النجم : 37 ] ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى: { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] حتى يختم الآية" (2) .
قال: والآخر منهما: حدثنا به أبو كريب، أخبرنا الحسن، عن عطية، أخبرنا إسرائيل، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } أتدرون ما وفى؟". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "وفَّى عمل يومه، أربع ركعات في النهار".
ورواه آدم في تفسيره، عن حماد بن سلمة. وعبد بن حميد، عن يونس بن محمد، عن حماد بن سلمة، عن جعفر بن الزبير، به (3) .
ثم شرع ابن جرير يضعف هذين الحديثين، وهو كما قال؛ فإنه لا تجوز روايتهما إلا ببيان ضعفهما، وضعفهما من وجوه عديدة، فإن كلا من السندين مشتمل على غير واحد من الضعفاء، مع ما في متن الحديث مما يدل على ضعفه [والله أعلم] (4) .
ثم قال ابن جرير: ولو قال قائل: إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس أولى
__________
(1) زيادة من جـ، ط، أ.
(2) تفسير الطبري (3/15).
(3) تفسير الطبري (3/16).
(4) زيادة من جـ، ط، أ، و.
بالصواب من القول الذي قاله غيرهم كان مذهبًا، فإن قوله: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } وقوله: { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } وسائر الآيات التي هي نظير ذلك، كالبيان عن الكلمات التي ذكر الله أنه ابتلى بهن إبراهيم.
قلت: والذي قاله أولا من أن الكلمات تشمل جميع ما ذكر، أقوى من هذا الذي جوزه من قول مجاهد ومن قال مثله؛ لأن السياق يعطي غير ما قالوه والله أعلم.
وقوله: { قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } لما جعل الله إبراهيم إمامًا ، سأل الله أن تكون الأئمةُ من بعده من ذريته، فأجيب إلى ذلك وأخبر أنه سيكون من ذريته ظالمون، وأنه لا ينالهم عهد الله، ولا يكونون أئمة فلا يقتدى بهم، والدليل على أنه أجيب إلى طَلِبَتِهِ قول الله (1) تعالى في سورة العنكبوت: { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } [ العنكبوت : 27 ] فكل نبي أرسله الله وكل كتاب أنزله الله بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه (2) .
وأما قوله تعالى: { قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } فقد اختلفوا في ذلك، فقال خَصِيف، عن مجاهد في قوله: { قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال: إنه سيكون في ذريتك ظالمون.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، { قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال: لا يكون لي إمام ظالم [يقتدى به] (3) . وفي رواية: لا (4) أجعل إمامًا ظالمًا يقْتَدَى به. وقال سفيان، عن (5) منصور، عن مجاهد في قوله تعالى: { قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال: لا يكون إمام ظالم يقتدى به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثني أبي، حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا شريك، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: { وَمِنْ ذُرِّيَّتِي } قال: أما من كان منهم صالحًا فسأجعله إمامًا يقتدى به، وأما من كان ظالما فلا ولا نُعْمَةَ عَيْنٍ.
وقال سعيد بن جبير: { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } المراد به المشرك، لا يكون إمام ظالم. يقول: لا يكون إمام مشرك.
وقال ابن جُرَيج، عن عطاء، قال: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي } فأبى أن يجعل من ذريته إمامًا ظالمًا. قلت لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا عمرو بن ثور القيساري (6) فيما كتب إلي، حدثنا الفريابي، حدثنا إسرائيل، حدثنا سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال الله لإبراهيم: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي } فأبى أن يفعل، ثم قال: { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }
__________
(1) في جـ: "قوله".
(2) في جـ: "وسلامه عليه وعليهم أجمعين".
(3) زيادة من ط.
(4) في جـ: "أن لا".
(5) في أ: "سفيان بن".
(6) في أ: "النيسابوري".
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس: { قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } يخبره أنه كائن في ذريته ظالم لا ينال عهده -ولا ينبغي [له] (1) أن يوليه شيئا من أمره وإن كان من ذرية خليله -ومحسن ستنفذ فيه دعوته، وتبلغ له فيه ما أراد من مسألته.
وقال العوفي، عن ابن عباس: { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال: يعني لا عهدَ لظالم عليك في ظلمه، أن تطيعه فيه.
وقال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله، عن إسرائيل، عن مسلم الأعور، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال: ليس للظالمين عهد، وإن عاهدته فانتقضه (2) .
وروي عن مجاهد، وعطاء، ومقاتل بن حيان، نحو ذلك.
وقال الثوري، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، قال: ليس لظالم عهد.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة، في قوله: { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال: لا ينال عهدُ الله في الآخرة (3) الظالمين، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به، وأكل وعاش.
وكذا قال إبراهيم النخعي، وعطاء، والحسن، وعكرمة.
وقال الربيع بن أنس: عهد الله الذي عهد إلى عباده: دينه، يقول: لا ينال دينه الظالمين، ألا ترى أنه قال: { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ } [ الصافات : 113 ] ، يقول: ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق.
وكذا روي عن أبي العالية، وعطاء، ومقاتل بن حيان.
وقال جويبر، عن الضحاك: لا ينال طاعتي عدو لي يعصيني، ولا أنحلها إلا وليًّا لي يطيعني.
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد، حدثنا أحمد بن عبد الله بن سعيد الأسدي، حدثنا سليم بن سعيد الدامغاني، حدثنا وَكِيع، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال: "لا طاعة إلا في المعروف" (4) .
__________
(1) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(2) في جـ، ط، أ، و: "فأنقضه".
(3) في ط: "لا ينال عهد الله ظالم في الآخرة".
(4) قال البخاري في صحيحه برقم (7257): حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن زيد، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، عن علي - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جيشا وأمر عليهم رجلا، فأوقد نارا وقال: ادخلوها، فأرادوا أن يدخلوها، وقال آخرون: إنما فررنا منها، فذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: "لو دخلوها لم يزالوا فيها إلى يوم القيامة". وقال للآخرين: "لا طاعة في المعصية، إنما الطاعة في المعروف". فهذا هو أصل هذا الحديث من دون ذكر الآية، والله أعلم.
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
وقال السدي: { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } يقول: عهدي نبوتي.
فهذه أقوال مفسري السلف في هذه الآية على ما نقله ابن جرير، وابن أبي حاتم، رحمهما الله تعالى. واختار ابن جرير أن هذه الآية -وإن كانت ظاهرة في الخبر -أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالما. ففيها إعلام من الله لإبراهيم الخليل، عليه السلام، أنه سيوجد من ذريتك من هو ظالم لنفسه، كما تقدم عن مجاهد وغيره، والله أعلم.
{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى (125) }
قال العوفي، عن ابن عباس: قوله تعالى: { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ } يقول: لا يقضون منه وطرًا، يأتونه، ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { مَثَابَةً لِلنَّاسِ } يقول: يثوبون.
رواهما (1) ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي، أخبرنا عبد الله بن رجاء، أخبرنا إسرائيل، عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله تعالى: { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ } قال: يثوبون إليه ثم يرجعون. قال: وروي عن أبي العالية، وسعيد بن جبير-في رواية -وعطاء، ومجاهد، والحسن، وعطية، والربيع بن أنس، والضحاك، نحو ذلك. وقال ابن جرير: حدثني عبد الكريم بن أبي عمير، حدثني الوليد بن مسلم قال: قال أبو عمرو -يعني الأوزاعي -حدثني عبدة بن أبي لبابة، في قوله تعالى: { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ } قال: لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرًا.
وحدثني يونس، عن ابن وهب، قال: قال ابن زيد: { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ } قال: يثوبون إليه من البُلْدان كلها ويأتونه.
[وما أحسن ما قال الشاعر في هذا المعنى، أورده القرطبي (2) :
جعل البيتُ مثابًا لهم ... ليس منه الدهر يقضون الوَطَرْ] (3)
وقال سعيد بن جبير -في الرواية الأخرى -وعكرمة، وقتادة، وعطاء الخراساني { مَثَابَةً لِلنَّاسِ } أي: مجمعا.
{ وَأَمْنًا } قال الضحاك عن ابن عباس: أي أمنًا للناس.
__________
(1) في جـ، ط: "رواه".
(2) تفسير القرطبي (2/110).
(3) زيادة من جـ، ط، أ.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا } يقول: أمنًا من العدو، وأن يُحْمَل فيه السلاح، وقد كانوا في الجاهلية يُتَخَطَّف الناس من حولهم، وهم آمنون لا يُسْبَون.
وروي عن مجاهد، وعطاء، والسدي، وقتادة، والربيع بن أنس، قالوا: من دخله كان آمنًا.
ومضمون ما فسر به هؤلاء الأئمة هذه الآية: أن الله تعالى يذكر شرف البيت وما جعله موصوفًا به شرعًا وقدرًا من كونه مثابة للناس، أي: جعله مَحَلا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه، ولا تقضي منه وطرًا، ولو ترددَت إليه كلَّ عام، استجابة من الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم، عليه السلام، في قوله: { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } إلى أن قال: { رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (1) } [ إبراهيم : 37 -40 ] ويصفه تعالى بأنه جعله أمنًا، من دخله أمن، ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنًا.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فيه فلا يَعْرض له، كما وصفها في سورة المائدة بقوله تعالى (2) { جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ } [ المائدة : 97 ] أي: يُرْفَع عنهم بسبب تعظيمها (3) السوءُ، كما قال ابن عباس: لو لم يحج الناسُ هذا البيت لأطبق الله السماءَ على الأرض، وما هذا الشرف إلا لشرف بانيه أولا وهو خليل الرحمن، كما قال تعالى: { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا } [ الحج : 26 ] وقال تعالى: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ* فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } [ آل عمران : 96 ، 97 ] .
وفي هذه الآية الكريمة نَبَّه على مقام إبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده. فقال: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقد اختلف المفسرون في المراد بالمقام ما هو؟ فقال ابن أبي حاتم: أخبرنا عمر بن شَبَّة النميري، حدثنا أبو خلف -يعني عبد الله بن عيسى-حدثنا داود بن أبي هند، عن مجاهد، عن ابن عباس: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } قال: مقام إبراهيم: الحرم كله. وروي عن مجاهد وعطاء مثل ذلك.
وقال [أيضا] (4) حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء عن { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فقال: سمعت ابن عباس قال: أما مقام إبراهيم الذي ذكر هاهنا، فمقام إبراهيم هذا الذي (5) في المسجد، ثم قال: و { مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ } يعد كثير، " مقام إبراهيم " الحج كله. ثم فسره لي عطاء فقال: التعريف، وصلاتان بعرفة، والمشعر، ومنى، ورمي الجمار، والطواف بين الصفا والمروة. فقلت: أفسره ابن عباس؟ قال: لا ولكن قال: مقام إبراهيم: الحج كله. قلت: أسمعت ذلك؟ لهذا أجمع. قال: نعم، سمعته منه.
__________
(1) في جـ، ط: "دعائي".
(2) في جـ: "بقوله تبارك وتعالى".
(3) في جـ: "لسبب تعظيمهم".
(4) زيادة من و.
(5) في جـ: "الذي هو".
وقال سفيان الثوري، عن عبد الله بن مسلم، عن سعيد بن جبير: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } قال: الحَجر مقام إبراهيم نبي الله، قد جعله الله رحمة، فكان يقوم عليه ويناوله إسماعيل الحجارة. ولو غَسل رأسَه كما يقولون لاختلف رجلاه.
[وقال السدي: المقام: الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلت رأسه. حكاه القرطبي، وضعفه ورجحه غيره، وحكاه الرازي في تفسيره عن الحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس] (1) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن ابن جُرَيج، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، سمع جابرًا يحدث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم قال له عمر: هذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال: نعم، قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله، عز وجل: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (2) .
وقال عثمان بن أبي شيبة: أخبرنا أبو أسامة، عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة قال: قال عمر: قلت: يا رسول الله، هذا مقام خليل ربنا؟ قال: نعم، قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فنزلت: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (3) .
وقال ابن مَرْدويه: حدثنا دَعْلَج بن أحمد، حدثنا غيلان بن عبد الصمد، حدثنا مسروق بن المرزبان، حدثنا زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه مَرَّ بمقام إبراهيم فقال: يا رسول الله، أليس نقوم مقام خليل ربنا (4) ؟ قال: "بلى". قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فلم يلبث إلا يسيرًا حتى نزلت: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }
وقال ابن مردويه: حدثنا محمد (5) بن أحمد بن محمد القزويني، حدثنا علي بن الحسين الجنيد، حدثنا هشام بن خالد، حدثنا الوليد، عن مالك بن أنس، عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر، قال: لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة عند مقام إبراهيم، قال له عمر: يا رسول الله، هذا مقام إبراهيم الذي قال الله: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } ؟ قال: "نعم". قال الوليد: قلت لمالك: هكذا حدثك { وَاتَّخِذُوا } قال: نعم. هكذا وقع في هذه الرواية. وهو غريب.
وقد روى النسائي من حديث الوليد بن مسلم نحوه (6) .
وقال البخاري: باب قوله: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } مثابة يثوبون يرجعون.
__________
(1) زيادة من جـ، ط، أ.
(2) تفسير ابن أبي حاتم (1/370).
(3) ورواه الدارقطني في "الأفراد" كما في "أطراف الغرائب والأفراد" لابن القيسراني (ق31) وقال: "غريب من حديث أبي إسحاق عن أبي ميسرة -عمرو بن شرحبيل- عن عمر، تفرد به زكريا بن أبي زائدة عنه".
(4) في جـ: "خليل الله".
(5) في جـ، و: "علي"
(6) سنن النسائي (5/236).
حدثنا مُسدَّد، حدثنا يحيى، عن حميد، عن أنس بن مالك. قال: قال عمر بن الخطاب وافقتُ ربي في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزلت: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقلت: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فأنزل الله آية الحجاب . وقال: وبلغني مُعَاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه، فدخلت عليهن (1) فقلت: إن انتهيتن أو ليبدلَن الله رسوله خيرًا منكن، حتى أتيت إحدى نسائه، فقالت: يا عمر، أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تَعظهن أنت؟! فأنزل الله: { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } الآية [ التحريم : 5 ] .
وقال ابن أبي مريم: أخبرنا يحيى بن أيوب، حدثني حميد، قال: سمعت أنسًا عن عمر، رضي الله عنهما (2) .
هكذا ساقه البخاري هاهنا، وعلق الطريق الثانية عن شيخه سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري. وقد تفرد بالرواية عنه البخاري من بين أصحاب الكتب الستة. وروى عنه الباقون بواسطة، وغرضه من تعليق هذا الطريق ليبين (3) فيه اتصال إسناد الحديث، وإنما لم يسنده؛ لأن يحيى بن أبي أيوب الغافقي فيه شيء، كما قال الإمام أحمد فيه: هو سيئ الحفظ، والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هُشَيم، حدثنا حُمَيد، عن أنس، قال: قال عمر رضي الله عنه (4) وافقت ربي عز وجل في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزلت: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقلت: يا رسول الله، إن نساءكَ يدخلُ عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن؟ فنزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهن: { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } [ التحريم : 5 ] فنزلت كذلك (5) ثم رواه أحمد، عن يحيى وابن أبي عدي، كلاهما عن حميد، عن أنس، عن عمر أنه قال: وافقت ربي في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث فذكره (6) .
وقد رواه البخاري عن عَمْرو بن عَوْن والترمذي عن أحمد بن منيع، والنسائي عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي، وابن ماجه عن محمد بن الصباح، كلهم عن هُشَيم بن بشير، به (7) . ورواه الترمذي -أيضًا-عن عبد بن حُميد، عن حجاج بن مِنهال، عن حماد بن سلمة، والنسائي عن هناد، عن
__________
(1) في جـ: "عليهن بالحجاب".
(2) صحيح البخاري برقم (4483).
(3) في جـ: "ليتبين".
(4) في جـ: رضي الله عنهما".
(5) المسند (1/23).
(6) رواية يحيى في المسند (1/36) ورواية ابن أبي عدي (1/24).
(7) صحيح البخاري برقم (4916) وسنن الترمذي برقم (2960) وسنن النسائي الكبرى برقم (11611) وسنن ابن ماجة برقم (1009).
يحيى بن أبي زائدة، كلاهما عن حميد، وهو ابن تيرويه الطويل، به (1) . وقال الترمذي: حسن صحيح. ورواه الإمام علي بن المديني عن يزيد بن زُرَيع، عن حميد به. وقال: هذا من صحيح الحديث، وهو بصري، ورواه الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه بسند آخر، ولفظ آخر، فقال: حدثنا عقبة بن مُكْرَم، أخبرنا سعيد بن عامر، عن جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، قال: وافقت ربي في ثلاث: في الحجاب، وفي أسارى بدر، وفي مقام إبراهيم (2) .
وقال أبو حاتم الرازي: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطاب: وافقني ربي في ثلاث -أو وافقت ربي-قلت (3) يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزلت: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقلت: يا رسول الله لو حجبت النساء؟ فنزلت آية الحجاب. والثالثة: لما مات عبد الله بن أبي جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه. قلت: يا رسول الله، تصلي على هذا الكافر المنافق! فقال: "إيهًا عنك يا بن الخطاب"، فنزلت: { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } [ التوبة : 84 ] (4) .
وهذا إسناد صحيح أيضًا، ولا تعارض بين هذا ولا هذا، بل الكل صحيح، ومفهوم العدد إذا عارضه منطوق قُدم عليه، والله أعلم.
وقال ابن جريج (5) أخبرني جعفر بن محمد، عن أبيه عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط، ومشى أربعًا، حتى إذا فرغ عَمَد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، ثم قرأ: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }
وقال ابن جرير: حدثنا يوسف بن سلمان (6) حدثنا حاتم بن إسماعيل، حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر قال: استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن، فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم، فقرأ: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فجعل المقام بينه وبين البيت، فصلى ركعتين.
وهذا قطعة من الحديث الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه، من حديث حاتم بن إسماعيل (7) .
وروى البخاري بسنده، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت ابن عمر يقول: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا، وصلى خلف المقام ركعتين (8) .
فهذا كله مما يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحَجَرُ الذي كان إبراهيم عليه السلام، يقوم عليه
__________
(1) سنن الترمذي برقم (2959) وسنن النسائي الكبرى برقم (10998).
(2) صحيح مسلم برقم (2399).
(3) في ط: "فقلت".
(4) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (7/88) من طريق أبي حاتم الرازي به.
(5) في جـ: "ابن جرير".
(6) في جـ، ط: "سليمان".
(7) تفسير الطبري (3/36) وصحيح مسلم برقم (1218).
(8) صحيح البخاري برقم (395، 1793).
(1/416)
لبناء الكعبة، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل، عليه السلام، به ليقومَ فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار، كلَّما كَمَّل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى، يطوف حول الكعبة، وهو واقف عليه، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها هكذا، حتى تم جدارات الكعبة، كما سيأتي بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت، من رواية ابن عباس عند البخاري. وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه، ولم يزل هذا معروفًا تعرفه العرب في جاهليتها؛ ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية:
ومَوطئُ إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافيًا غير ناعل (1)
وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضا. وقال (2) عبد الله بن وهب: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب: أن أنس بن مالك حدثهم، قال: رأيت المقام فيه أثر أصابعه عليه السلام، وإخْمَص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم.
وقال ابن جرير: حدثنا بشر بن معاذ، حدثنا يزيد بن زُرَيع، حدثنا سعيد، عن قتادة: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه. ولقد تكلفت هذه الأمة شيئًا ما تكلفته الأمم قبلها، ولقد ذُكِرَ لنا من رأى أثر عَقِبِه وأصابعه فيه (3) فما زالت هذه الأمة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى.
قلت: وقد كان المقام ملصقًا بجدار الكعبة قديمًا، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك، وكان الخليل، عليه السلام (4) لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك؛ ولهذا -والله أعلم-أمر بالصلاة هناك عند فراغ الطواف، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه، وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عُمَرُ بن الخطاب رضي الله عنه (5) [وهو] (6) أحدُ الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين، الذين أُمِرْنا باتباعهم، وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللَّذَين من بعدي أبي بكر وعمر". وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده؛ ولهذا لم ينكر ذلك أحد من الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين.
قال عبد الرزاق، عن ابن جُرَيج، حدثني عطاء وغيره من أصحابنا: قالوا: أول من نقله عمر بن الخطاب رضي الله عنه (7) وقال عبد الرزاق أيضًا عن معمر عن حَمِيد الأعرج، عن مجاهد قال: أول من أخر المقام إلى موضعه الآن، عمر بن الخطاب رضي الله عنه (8) .
__________
(1) البيت في السيرة النبوية لابن هشام (1/273).
(2) في جـ، ط: "كما قال".
(3) في جـ، ط: "فيها".
(4) في جـ: "عليه الصلاة والسلام".
(5) في جـ: "رضي الله تعالى عنه".
(6) زيادة من جـ.
(7) المصنف لعبد الرزاق برقم (8955).
(8) المصنف لعبد الرزاق برقم (8953).
(1/417)
وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (1) أخبرنا أبو [الحسين بن] (2) الفضل القطان، أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن كامل، حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي، حدثنا أبو ثابت، حدثنا الدراوردي، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: أن المقام كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر ملتصقًا بالبيت، ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهذا إسناد صحيح مع ما تقدم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر العَدَني قال: قال سفيان -[يعني ابن عيينة] (3) وهو إمام المكيين في زمانه-كان المقام في (4) سُقْع البيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد قوله: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا، فرده عمر إليه.
وقال سفيان: لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله. قال سفيان: لا أدري أكان (5) لاصقًا بها أم لا؟ (6) .
فهذه الآثار متعاضدة على ما ذكرناه، والله أعلم.
وقد قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه: حدثنا أبو عَمْرو، حدثنا محمد بن عبد الوهاب، حدثنا آدم، حدثنا شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، قال: قال عمر: يا رسول الله لو صلينا خلف المقام؟ فأنزل الله: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فكان المقام عند البيت فحوله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضعه هذا. قال مجاهد: قد كان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن (7) .
هذا مرسل عن مجاهد، وهو مخالف لما تقدم من رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد أن أول من أخَّر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهذا أصح من طريق ابن مَرْدُويه، مع اعتضاد هذا بما تقدم، والله أعلم (8) .
{ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِين وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
__________
(1) في أ، و: "علي بن الحسين".
(2) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(3) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(4) في هـ: "من" وهو خطأ.
(5) في جـ: "إن كان".
(6) تفسير ابن أبي حاتم (1/372).
(7) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (8/169): "إسناده ضعيف".
(8) وقد ألف سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله- رسالتين فيما يتعلق بالمقام: الأولى: في جواز نقل المقام سماها: "الجواب المستقيم في جواز نقل مقام إبراهيم" مطبوعة ضمن فتاواه (5/17-55). والثانية: في الرد على الشيخ سليمان بن حمدان في اعتراضه على رسالة الشيخ عبد الرحمن المعلمي في جواز نقل المقام سماها: "نصيحة الإخوان ببيان بعض ما في نقض المباني لابن حمدان من الخبط والجهل والبهتان" مطبوعة ضمن فتاواه (5/56-132) وهما رسالتان قيمتان حشد فيهما -رحمه الله- جواز نقل المقام، واستشهد بكلام الحافظ ابن كثير هنا وكلام الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وهما تدلان على تبحره وسعة علمه - رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
================
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
البقرة - تفسير ابن كثير
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) }
(1/418)
قال الحسن البصري: قوله: { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } قال: أمرهما الله أن يطهراه من الأذى والنَّجَس ولا يصيبه من ذلك شيء.
وقال ابن جريج: قلت لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ } أي: أمرناه. كذا قال. والظاهر أن هذا الحرف إنما عُدِّيَ بإلى، لأنه في معنى تقدمنا وأوحينا.
وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قوله: { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ } قال: من الأوثان.
وقال مجاهد وسعيد بن جُبَير: { طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } إن ذلك من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس.
قال ابن أبي حاتم: ورُوي عن عُبَيد بن عمير، وأبي العالية، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء وقتادة: { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ } أي: بلا إله إلا الله، من الشرك.
وأما قوله تعالى: { لِلطَّائِفِينَ } فالطواف بالبيت معروف. وعن سعيد بن جبير أنه قال في قوله تعالى: { لِلطَّائِفِينَ } يعني: من أتاه من غُرْبة، { وَالْعَاكِفِينَ } المقيمين فيه. وهكذا روي عن قتادة، والربيع بن أنس: أنهما فسرا العاكفين بأهله المقيمين فيه، كما قال سعيد بن جبير.
وقال يحيى [بن] (1) القطَّان، عن عبد الملك -هو ابن أبي سليمان-عن عطاء في قوله: { وَالْعَاكِفِينَ } قال: من انتابه (2) من الأمصار فأقام عنده (3) وقال لنا -ونحن مجاورون-: أنتم من العاكفين.
وقال وكيع، عن أبي بكر الهذلي عن عطاء عن ابن عباس قال: إذا كان جالسًا فهو من العاكفين.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت قال: قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير: ما أراني إلا مُكَلِّم الأمير أن أمنع الذين ينامون في
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في جـ، أ: "من أتى".
(3) في أ: "فأقام عندنا".
(1/419)
المسجد الحرام فإنهم يجنبون (1) ويُحدثون. قال: لا تفعل، فإن ابن عمر سئل عنهم، فقال: هم العاكفون.
[ورواه عبد بن حميد عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة، به] (2) .
قلت: وقد ثبت في الصحيح أنّ ابن عمرَ كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عَزَب (3) .
وأما قوله تعالى: { وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } فقال وكيع، عن أبي بكر الهذلي، عن عطاء، عن ابن عباس { وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } قال: إذا كان مصليًا فهو من الركع السجود. وكذا قال عطاء وقتادة.
وقال ابن جَرير رحمه الله: فمعنى الآية: وأمَرْنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين. والتطهير الذي أمرهما به في البيت هو تطهيرُه من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك. ثم أورد سؤالا فقال: فإن قيل: فهل كان قبل بناء إبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر بتطهيره منه؟ وأجاب بوجهين: أحدهما: أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده زَمَان قوم نوح من الأصنام والأوثان ليكون ذلك سُنَّة لمن بعدهما إذ كان الله تعالى قد جعل إبراهيم إمامًا يقتدى به كما قال عبد الرحمن بن زيد: { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ } قال: من الأصنام التي يعبدون، التي كان المشركون يعظمونها.
قلت: وهذا الجواب مُفَرَّع على أنه كان يُعْبَدُ عنده أصنام قبل إبراهيم عليه السلام، ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم.
الجواب الثاني: أنه أمرهما أن يخلصا [في] (4) بنائه لله وحده لا شريك له، فيبنياه مطهرًا من الشرك والرَّيْب، كما قال جل ثناؤه: { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } [ التوبة : 109 ] قال: فكذلك قوله: { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ } أي: ابنيا بيتي على طهر من الشرك بي والريب، كما قال السدي: { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ } ابنيا بيتي للطائفين.
وملخص هذا الجواب: أن الله تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له للطائفين به والعاكفين عنده، والمصلين إليه من الركع السجود، كما قال تعالى: { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } الآيات [ الحج : 26 -37 ].
[وقد اختلف الفقهاء: أيما أفضل، الصلاة عند البيت أو الطواف؟ فقال مالك: الطواف به لأهل الأمصار أفضل من الصلاة عنده، وقال الجمهور: الصلاة أفضل مطلقا، وتوجيه كل منهما يذكر في كتاب الأحكام] (5) .
__________
(1) في جـ: "فإنهم يخبثون".
(2) زيادة من و.
(3) صحيح البخاري برقم (440).
(4) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(5) زيادة من أ.
(1/320)
والمراد من ذلك الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته، المؤسس على عبادته وحده لا شريك له، ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الحج : 25 ] .
ثم ذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد الله وحده لا شريك له، إما بطواف أو صلاة، فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة: قيامها، وركوعها، وسجودها، ولم يذكر العاكفين لأنه تقدم { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } وفي هذه الآية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين، واجتزأ بذكر الركوع والسجود عن القيام؛ لأنه قد علم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام. وفي ذلك -أيضًا-رَدّ على من لا يحجه من أهل الكتابين: اليهود والنصارى؛ لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وعظمته، ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وغير ذلك وللاعتكاف والصلاة عنده وهم لا يفعلون شيئًا من ذلك، فكيف يكونون (1) مقتدين بالخليل، وهم لا يفعلون ما شرع الله له؟ وقد حَجَّ البيتَ موسى بن عمران وغيره من الأنبياء عليهم السلام، كما أخبر بذلك المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى { إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى } [ النجم : 4 ] .
وتقدير الكلام إذًا: { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } [أي: تقدمنا لوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل] (2) { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } أي: طهراه من الشرك والريب وابنياه خالصًا لله، معقلا للطائفين والعاكفين والركع السجود. وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الآية، ومن قوله تعالى: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } [ النور : 36 ] ومن السنة من أحاديث كثيرة، من الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك، من صيانتها من الأذى والنجاسات (3) وما أشبه ذلك. ولهذا قال عليه السلام: "إنما بنيت المساجد لما بنيت له" (4) . وقد جَمَعْتُ في ذلك جزءًا على حدة ولله الحمد والمنة.
وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة، فقيل: الملائكة قبل آدم، وروي هذا عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين، ذكره القرطبي وحكى لفظه، وفيه غرابة، وقيل: آدم عليه السلام رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء وسعيد بن المسيب وغيرهم: أن آدم بناه من خمسة أجبل: من حراء وطور سيناء وطور زيتا وجبل لبنان والجودي، وهذا غريب أيضًا. وروي نحوه عن ابن عباس وكعب الأحبار وقتادة وعن وهب بن منبه: أن أول من بناه شيث، عليه السلام، وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب، وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها، وأما إذا صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين.
__________
(1) في جـ: "فكيف يكون".
(2) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(3) في جـ: "والنجاسة".
(4) رواه مسلم في صحيحه برقم (569) من حديث بريدة رضي الله عنه.
(1/421)
وقوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ }
قال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدي، حدثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حَرَّم بيت الله وأمَّنَه وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها فلا يُصَادُ صيدها ولا يقطع عضاهها" (1) .
وهكذا رواه النسائي، عن محمد بن بشار عن بُنْدَار به (2) .
وأخرجه مسلم، عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعَمْرو الناقد، كلاهما عن أبي أحمد الزبيري، عن سفيان الثوري (3) .
وقال ابن جرير -أيضًا-: حدثنا أبو كُرَيْب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، وحدثنا أبو كريب، حدثنا عبد الرحيم الرازي، قالا جميعًا: سمعنا أشعث عن نافع عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم كان عبد الله وخليله وإني عبدُ الله ورسوله وإن إبراهيم حَرَّم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، عضاهَها وصيدَها، لا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يقطع منها شجرة إلا لعلف بعير" (4) .
وهذه الطريق غريبة، ليست في شيء من الكتب الستة، وأصل الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر، جاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مُدِّنا، اللهم إن إبراهيمَ عبدُك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك لمكة وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه" ثم يدعو أصْغَرَ وليد له، فيعطيه ذلك الثمر. وفي لفظ: "بركة مع بركة" ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان. لفظ مسلم (5) .
ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كُريب، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا بكر بن مضر، عن ابن الهاد، عن أبي بكر بن محمد، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن رافع بن خَديج، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها".
انفرد بإخراجه مسلم، فرواه عن قتيبة، عن بكر بن مضر، به (6) . ولفظه كلفظه سواء. وفي
__________
(1) تفسير الطبري (3/48) واللابتان: هما الحرتان بجانبي المدينة، والعضاة: كل شجر عظيم له شوك، وقيل: العظيم من الشجر مطلقا.
(2) سنن النسائي الكبرى برقم (4284).
(3) صحيح مسلم برقم (1362).
(4) تفسير الطبري (3/48).
(5) صحيح مسلم برقم (1373).
(6) تفسير الطبري (3/49).
(1/422)
الصحيحين عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: "التمس لي غلامًا من غلمانكم يخدمني" فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه، فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل. وقال في الحديث: ثم أقْبَلَ حتى إذا بدا له أُحد قال: "هذا جبل يُحبُّنا ونحبه". فلما أشرف على المدينة قال:"اللهم إني أحرم ما بين جبليها، مثلما حرم به إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم في مُدِّهم وصاعهم". وفي لفظ لهما: "اللهم بارك لهم في مكيالهم، وبارك لهم في صاعهم، وبارك لهم في مدهم". زاد البخاري: يعني: أهل المدينة (1) .
ولهما أيضا عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم اجعل بالمدينة ضِعْفَي ما جعلته بمكة من البركة" (2) وعن عبد الله بن زيد بن عاصم، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها، وحَرَّمتُ (3) المدينة كما حرم إبراهيم مكة، ودعوت (4) لها في مدها وصاعها (5) مثل ما دعا إبراهيم لمكة"
رواه البخاري وهذا لفظه (6) ، ومسلم ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها. وإني حرَّمتُ المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت لها في صاعها ومدها بمثل ما دعا إبراهيم لأهل مكة" (7) .
وعن أبي سعيد، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم إنَّ إبراهيم حَرَّم مكة فجعلها حرامًا، وإني حرمت المدينة حرامًا ما بين مأزميها، لا يهراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف. اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مُدِّنا، اللهم اجعل مع البركة بركتين". الحديث رواه مسلم (8) .
والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة، وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم، عليه السلام، لمكة، لما في ذلك في مطابقة الآية الكريمة.
[وتَمسَّك بها من ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل، وقيل: إنها محرمة منذ خلقت مع الأرض وهذا أظهر وأقوى] (9) .
وقد وردت أحاديث أخَرُ تدل على أن الله تعالى حرم مكة قبل خلق السموات والأرض، كما
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1361).
(2) صحيح البخاري برقم (1885) وصحيح مسلم برقم (1369).
(3) في جـ، ط: "وإني حرمت".
(4) في جـ، ط: "وإني دعوت".
(5) في جـ، ط: "صاعها ومدها".
(6) صحيح البخاري برقم (2129).
(7) صحيح مسلم برقم (1360).
(8) صحيح مسلم برقم (1374).
(9) زيادة من جـ، ط، أ.
(1/423)
جاء في الصحيحين، عن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حَرَّمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. وإنه لم يحِل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. لا يُعْضَد شوكه ولا ينفر صيده، ولا تُلْتَقَط لُقَطَتُه إلا من عرَّفها، ولا يختلى خَلاهَا" فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذْخَر فإنه لقَينهم ولبيوتهم. فقال: "إلا الإذخر" وهذا لفظ مسلم (1) .
ولهما عن أبي هريرة نحو من ذلك (2) .
ثم قال البخاري بعد ذلك: قال (3) أبان بن صالح، عن الحسن بن مسلم، عن صفية بنت شيبة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، مثله (4) .
وهذا الذي علقه البخاري رواه الإمام أبو عبد الله بن ماجة، عن محمد بن عبد الله بن نُمَير، عن يونس بن بُكَيْر، عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن الحسن بن مسلم بن يَنَّاق، عن صفية بنت شيبة، قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب عام الفتح، فقال: "يا أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حَرَام إلى يوم القيامة، لا يُعْضَد شجرها ولا يُنَفَّر صيدُها، ولا يأخذ لُقَطَتَها إلا مُنْشِد" فقال العباس: إلا الإذخر؛ فإنه للبيوت والقبور. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذْخَر" (5) .
وعن أبي شُرَيح العدوي أنَّه قال لعَمْرو بن سعيد -وهو يبعث البعوث إلى مكة -: ائذن لي -أيها الأمير -أن أحدثَك قولا قام به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الغَد من يوم الفتح، سَمِعَته أذناي ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تَكَلَّم به، إنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد تَرَخَّصَ بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لكم. وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب". فقيل لأبي شُرَيح: ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصيًا، ولا فارًّا بدم، ولا فارًّا بخَرَبَة.
رواه البخاري ومسلم، وهذا لفظه (6) .
فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث الدالة على أن الله حَرَّم مكة يوم خلق السموات
__________
(1) صحيح البخاري برقم (1834 ، 1587 ، 3189 ، 3077) وصحيح مسلم برقم (1353).
(2) صحيح البخاري برقم (112 ، 6880) وصحيح مسلم برقم (1355).
(3) في جـ، ط: "وقال".
(4) صحيح البخاري برقم (1349).
(5) سنن ابن ماجة برقم (3109).
(6) صحيح البخاري برقم (1832) وصحيح مسلم برقم (1354).
(1/424)
والأرض، وبين الأحاديث الدالة على أن إبراهيم، عليه السلام، حَرَّمها؛ لأن إبراهيم بَلَّغ عن الله حُكْمه فيها وتحريمه إياها، وأنها لم تزل بلدًا حرامًا عند الله قبل بناء إبراهيم، عليه السلام، لها، كما أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوبًا عند الله خاتم النبيين، وإن آدم لمنجَدل في طينته، ومع هذا قال إبراهيم، عليه السلام: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ } وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقَدَره. ولهذا جاء في الحديث أنهم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن بَدْءِ أمرك. فقال: "دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى ابن مريم، ورأت أمي كأنه (1) خرج منها نور أضاء ت له قصور الشام".
أي: أخْبِرْنا عن بدء ظهور أمرك. كما سيأتي قريبًا، إن شاء الله.
وأما مسألة تفضيل مَكَّة على المدينة، كما هو قول الجمهور، أو المدينة على مكة، كما هو مذهب مالك وأتباعه، فتذكر في موضع آخر بأدلتها، إن شاء الله، وبه الثقة.
وقوله: تعالى إخبارًا عن الخليل أنه قال: { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا } أي: من الخوف، لا يَرْعَبُ أهله، وقد فعل الله ذلك شرعًا وقدرًا. كقوله تعالى (2) { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } [ آل عمران : 97 ] وقوله { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] إلى غير ذلك من الآيات. وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيها. وفي صحيح مسلم عن جابر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح" (3) . وقال في هذه السورة: { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا } أي: اجعل هذه البقعة بلدًا آمنًا، وناسب هذا؛ لأنه قبل بناء الكعبة. وقال تعالى في سورة إبراهيم: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا } [ إبراهيم : 35 ] وناسب هذا هناك لأنه، والله أعلم، كأنه وقع دعاء ثانًيا (4) بعد بناء البيت واستقرار أهله به، وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سنًّا من إسماعيل بثلاث عشرة سنة؛ ولهذا قال في آخر الدعاء: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ } [ إبراهيم : 39 ]
وقوله تعالى: { وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب: { قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قليلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النَّارِ وَبِئسَ الْمَصِير } قال: هو قول الله تعالى. وهذا قول مجاهد وعكرمة وهو الذي صوبه ابن جرير، رحمه الله تعالى: قال: وقرأ آخرون: { قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم، كما رواه أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: كان ابن عباس يقول: ذلك قول إبراهيم، يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلا .
__________
(1) في جـ: "كأنها".
(2) في جـ: "كما قال الله تعالى"، وفي طـ: "لقوله تعالى".
(3) صحيح مسلم برقم (1356).
(4) في جـ، طـ، أ: "دعاء مرة ثانية".
(1/425)
وقال أبو جعفر، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد: { وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا } يقول: ومن كفر فأرزقه أيضًا { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
وقال محمد بن إسحاق: لما عزل إبراهيم، عليه السلام، الدعوة عمَّن أبى الله أن يجعل له الولاية -انقطاعًا إلى الله ومحبته، وفراقًا لمن خالف أمره، وإن كانوا من ذريته، حين عرف أنه كائن منهم أنه ظالم ألا يناله عهدُه، بخبر الله له بذلك -قال الله: ومن كفر فإني أرزق البر والفاجر وأمتعه قليلا.
وقال حاتم بن إسماعيل عن حُمَيد الخرَّاط، عن عَمَّار الدُّهْني، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله تعالى: { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } قال ابن عباس: كان إبراهيم يحجُرها على المؤمنين دون الناس، فأنزل الله ومن كفر أيضًا أرزقهم كما أرزق المؤمنين أأخلق خلقًا لا أرزقهم؟! أمتعهم قليلا ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير. ثم قرأ ابن عباس: { كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا } [ الإسراء : 20 ] . رواه ابن مَرْدُويه. ورُوي عن عكرمة ومجاهد نحو ذلك أيضًا. وهذا كقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ* مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [ يونس : 69 ، 70 ] ، وقوله تعالى: { وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ* نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ لقمان : 23 ، 24 ] ، وقوله: { وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ* وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ* وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } [ الزخرف : 33 ، 35 ]
وقوله { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي: ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا وبسطنا عليه من ظلها إلى عذاب النار وبئس المصير. ومعناه: أن الله تعالى يُنْظرُهم ويُمْهلهُم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، كقوله تعالى: { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ الحج : 48 ] ، وفي الصحيحين: "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله؛ إنهم يجعلون له ولدا، وهو يرزقهم ويعافيهم" (1) وفي الصحيح أيضًا: "إن الله ليملي (2) للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته". ثم قرأ قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ] (3) .
وأما قوله تعالى: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ*رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }
__________
(1) سبق تخريج هذا الحديث قريبا.
(2) في جـ، طـ: "يملي".
(3) صحيح البخاري برقم (4686) وصحيح مسلم برقم (2583) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(1/426)
فالقواعد: جمع قاعدة، وهي السارية والأساس، يقول تعالى: واذكر -يا محمد -لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل، عليهما السلام، البيت، ورفْعَهما القواعدَ منه، وهما يقولان: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فهما في عمل صالح، وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما، كما روى ابن أبي حاتم من حديث محمد بن يزيد بن خنيس المكي، عن وهيب بن الورد: أنه قرأ: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } ثم يبكي ويقول: يا خليل الرحمن، ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مُشْفق أن لا يتقبل منك. وهذا كما حكى الله تعالى عن حال المؤمنين المخلصين (1) في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا } أي: يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقربات { وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } [ المؤمنون : 60 ] أي: خائفة ألا يتقبل منهم. كما جاء به الحديث الصحيح، عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه.
وقال بعض المفسرين: الذي كان يرفع القواعد هو إبراهيم، والداعي إسماعيل. والصحيح أنهما كانا يرفعان ويقولان، كما سيأتي بيانه.
وقد روى البخاري هاهنا حديثًا سنورده ثم نُتْبِعه بآثار متعلقة بذلك. قال البخاري، رحمه الله:
حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن أيوب السخيتاني (2) وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وَدَاعة -يزيد أحدُهما على الآخر -عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: أول ما (3) اتخذ النساء المنْطَق من قبَل أم إسماعيل، عليهما (4) السلام اتخذت منطقًا ليعفي أثرها على سارة. ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل، عليهما السلام، وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زَمْزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر وسِقَاء فيه ماء، ثم قَفَّى إبراهيم، عليه السلام، منطلقًا. فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها. فقالت (5) آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذًا لا يضيعنا. ثم رجعت. فانطلق إبراهيم، عليه السلام، حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات، ورفع يديه، قال: { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [ إبراهيم : 37 ] ، وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، عليهما السلام، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ماء السقاء (6) عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى -
__________
(1) في أ، و: "الخلص".
(2) في أ، و: "السختياني".
(3) في جـ: "أول من".
(4) في جـ: "عليه".
(5) في أ: "فقالت له".
(6) في أ، و: "نفد ما في السقاء".
(1/427)
أو قال: يتلبط -فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقربَ جبل في الأرض يليها (1) فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا؟ فلم تر أحدًا. فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طَرْفَ درعها، ثم سعت سَعْيَ الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي. ثم أتت المروة، فقامت عليها ونظرت هل ترى أحَدًا؟ فلم تر أحدًا. ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فلذلك سعى الناس بينهما".
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت: صه، تريد نفسها، ثم تَسَمَّعت فسمعَت أيضًا. فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غُوَاث فإذا هي بالمَلَك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه -أو قال: بجناحه -حتى ظهر الماء، فجعلت تُحَوِّضُهُ، وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم -أو قال: لو لم تغرف من الماء -لكانت زمزم عينًا مَعينًا".
قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة؛ فإن هاهنا بيتًا لله، عز وجل، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله، عز وجل، لا يضيع أهله. وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جُرْهُم -أو أهل بيت من جُرْهم -مقبلين من طريق كَدَاء. فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرًا عائفًا، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على الماء، لعَهْدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء. فأرسلوا جَرِيًّا أو جَرِيَّين، فإذا هم بالماء. فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا. قال: وأم إسماعيل عند الماء. فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حَقَّ لكم في الماء. قالوا: نعم.
قال ابن عباس (2) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس. فنزلوا، وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم. حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلامُ، وتعلم العربية منهم، وأنْفَسَهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم. وماتت أم إسماعيل، عليهما (3) السلام، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيلُ ليطالع تَرْكَتَه. فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا. ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بشَرّ، نحن في ضيق وشدة. وشكت إليه. قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له: يغير عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل، عليه السلام، كأنه أنس شيئًا. فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسأل (4) عنك، فأخبرته، وسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا في جَهْد وشدَّة. قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول (5) غَيِّرْ عتبة بابك. قال: ذاك أبي. وقد أمرني أن أفارقك، فالحقي بأهلك. فَطَلَّقَها وتزوج منهم بأخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده. فدخل على امرأته، فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا. قال: كيف أنتم؟
__________
(1) في جـ: "إليها".
(2) في ط: "عبد الله بن عباس".
(3) في جـ، ط: "عليها".
(4) في جـ، ط: "فسألنا".
(5) في أ: "يقول لك".
(1/428)
وسألها عن عيشهم وَهَيْئَتهم. فقالت: نحن بخير وسعة. وأثنت على الله، عز وجل. فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم. قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء". قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولم يكن لهم يومئذ حَب، ولو كان لهم، لدعا لهم فيه. قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه". قال: "فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومُريه يُثَبِّت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل، عليه السلام، قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه (1) فسألني عنك، فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا بخير. قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك. قال: ذاك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك. ثم لَبثَ عنهم ما شاء الله، عز وجل، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يَبْرِي نَبْلا (2) له تحت دوحة قريبًا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الولد بالوالد، والوالد بالولد. ثم قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر. قال: فاصنع ما أمرك ربك، عز وجل. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتًا -وأشار إلى أكَمَةٍ مرتفعة على ما حولها -قال: فعند ذلك رَفَعا القواعد من البيت فجعل (3) إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } " قال: "فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت، وهما يقولان: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (4) .
[ورواه عبد بن حميد عن عبد الرزاق به مطولا] (5) .
ورواه ابن أبي حاتم، عن أبي عبد الله محمد بن حمَّاد الظهراني. وابن جرير، عن أحمد بن ثابت الرازي، كلاهما عن عبد الرزاق به مختصرًا (6) .
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه: حدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل، حدثنا بشر بن موسى، حدثنا أحمد بن محمد الأزرقي، حدثنا مسلم بن خالد الزنجي، عن عبد الملك بن جُرَيج، عن كثير بن كثير، قال: كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين في ناس مع سعيد بن جبير، في أعلى المسجد ليلا فقال سعيد بن جبير: سلوني قبل أن لا تروني. فسألوه عن المقام. فأنشأ يحدثهم عن ابن عباس، فذكر الحديث بطوله.
ثم قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد. حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو (7) حدثنا إبراهيم بن نافع، عن كثير بن كثير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان، خرج بإسماعيل وأم إسماعيل، ومعهم شَنَّة فيها ماء، فجعلت أم إسماعيل تشرب من
__________
(1) في جـ: "وأثنت عليه خيرا".
(2) في جـ: "يبني له بيتا".
(3) في جـ: "قال: فجعل".
(4) صحيح البخاري برقم (3364).
(5) زيادة من و.
(6) تفسير ابن أبي حاتم (1/381).
(7) في أ: "بن عمير".
(1/429)
الشنَّة، فيَدِرُّ لبنها على صبيها، حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة، ثم رجع إبراهيم إلى أهله، فاتبعته أم إسماعيل، حتى (1) بلغوا كَدَاء نادته (2) من ورائه: يا إبراهيم، إلى من تتركنا؟ قال: إلى الله، عز وجل. قالت: رضيت بالله. قال: فرجَعَتْ، فجعلت تشرب من الشنة، ويَدر لبنها على صَبيها حتى لما فَنِي الماء قالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا. قال: فذهَبَتْ فصَعدت الصفا، فنظرت ونظرت هل تحس أحدًا، فلم تحس أحدًا. فلما بلغت الوادي سَعَت (3) حتى أتت المروة، ففعلت ذلك أشواطا ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل، تعني الصبي، فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه يَنْشَغُ للموت، فلم تقُرَّها نفسها، فقالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدًا. قال: فذهبت فصعدت الصفا، فنظرت ونَظرت فلم تُحس أحدًا، حتى أتمت سبعا، ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل، فإذا هي بصوت، فقالت: أغثْ إن كان عندك خير. فإذا جبريل، عليه السلام، قال: فقال بعقبه هكذا، وغمز عَقِبَه على الأرض. قال: فانبثق الماء، فَدَهَشَتْ أم إسماعيل، فجعلت تحفر.
قال: فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "لو تركَتْه لكان الماء ظاهرًا (4) .
قال: فجعلت تشرب من الماء ويَدِرُّ لبنها على صَبِيِّها.
قال: فمر ناس من جُرْهم ببطن الوادي، فإذا هم بطير، كأنهم أنكروا ذلك، وقالوا: ما يكون الطير إلا على ماء فبعثوا رسولهم فَنَظَرَ، فإذا هو بالماء. فأتاهم فأخبرهم. فأتوا إليها فقالوا: يا أم إسماعيل، أتأذنين لنا أن نكون معك -ونسكن معك؟ -فبلغ ابنها ونكح فيهم (5) امرأة.
قال: ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم (6) فقال لأهله: إني مُطَّلع تَرْكَتي. قال: فجاء فسلم، فقال: أين إسماعيل؟ قالت امرأته: ذهب يصيد. قال: قولي له إذا جاء: غير عتبة بيتك. فلما جاء أخبرته، قال: أنت ذَاكِ، فاذهبي إلى أهلك.
قال: ثم إنه بدا لإبراهيم، فقال لأهله: إني مُطَّلع تَرْكتي. قال: فجاء فقال: أين إسماعيل؟ فقالت امرأته: ذهب يصيد. فقالت: ألا تنزل فَتَطْعَم وتشرب؟ فقال: ما طعامكم وما شرابكم؟ قالت: طعامنا اللحم، وشرابنا الماء. قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم.
قال: فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "بَرَكة بدعوة إبراهيم"
قال: ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال لأهله: إني مُطَّلع تَرْكتي. فجاء فوافق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نَبْلا له (7) فقال: يا إسماعيل، إن ربك، عز وجل، أمرني أن أبني له بيتًا. فقال: أطعْ ربك، عز وجل. قال: إنه قد أمرني أن تعينني عليه؟ فقال: إذن أفعلَ -أو كما قال -قال: فقاما (8) [قال] (9) فجعل إبراهيم يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
__________
(1) في جـ، ط: "حتى لما".
(2) في جـ: "سألته".
(3) في جـ: "وسعت".
(4) في جـ: "ظاهر".
(5) في جـ: "منهم".
(6) في جـ، أ: "عليه السلام".
(7) في جـ: "يصلح بيتا له".
(8) في جـ، ط: "فقام".
(9) زيادة من جـ، ط.
قال: حتى ارتفع البناء وضَعُفَ الشيخ عن نقل الحجارة. فقام على حَجَر المقام، فجعل يناوله الحجارة ويقولان: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
هكذا (1) رواه من هذين الوجهين في كتاب الأنبياء (2) .
والعجب أن الحافظ أبا عبد الله الحاكم رواه في كتابه المستدرك، عن أبي العباس الأصم، عن محمد بن سنان القَزَّاز، عن أبي علي عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، عن إبراهيم بن نافع، به. وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. كذا قال. وقد رواه البخاري كما ترى، من حديث إبراهيم بن نافع، كأن فيه اقتصارًا، فإنه لم يذكر فيه [شأن] (3) الذبح. وقد جاء في الصحيح، أن قرني الكبش كانا معلقين بالكعبة، وقد جاء أن إبراهيم، عليه السلام، كان يزور أهله بمكة على البراق سريعًا (4) ثم يعود إلى أهله بالبلاد (5) المقدسة، والله أعلم. والحديث -والله أعلم -إنما فيه -مرفوع -أماكن صَرح بها ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في هذا السياق ما يخالف بعض هذا، كما قال ابن جرير:
حدثنا محمد بن بشار، ومحمد بن المثنى قالا حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرِّب، عن علي بن أبي طالب، قال: لما أمر إبراهيم ببناء البيت، خرج معه إسماعيل وهاجر. قال: فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة، فيه مثلُ الرأس. فكلمه، قال: يا إبراهيم، ابن على ظِلي -أو قال على قدري -ولا تَزْد ولا تنقص: فلما بنى خرج، وخلف إسماعيل وهاجر، فقالت هاجر: يا إبراهيم، إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله. قالت: انطلق، فإنه لا يضيعنا. قال: فعطش إسماعيل عطشًا شديدًا، قال: فصعدت هاجر إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئًا، حتى أتت المروة فلم تر شيئًا، ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئًا، حتى أتت المروة فلم تر شيئًا، ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئًا، حتى فعلت ذلك سبع مرات، فقالت: يا إسماعيل، مت حيث لا أراك. فأتته وهو يفحص برجله من العطش. فناداها جبريل فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا هاجر أم ولد إبراهيم. قال: فإلى من وَكَلَكُما؟ قالت: وكلنا إلى الله. قال: وكلكما إلى كافٍ. قال: ففحص الغلام الأرض بأصبعه، فنبعت زمزم. فجعلت تحبس الماء فقال: دعيه فإنها رَوَاء (6) .
ففي هذا السياق أنه بنى البيت قبل أن يفارقهما، وقد يحتمل -إن كان محفوظًا -أن يكون أولا
__________
(1) في ط: "هكذا".
(2) صحيح البخاري برقم (3365).
(3) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(4) في جـ: "بمكة سريعا على البراق".
(5) في جـ: "ثم يعود لأهله إلى البلاد".
(6) تفسير الطبري (3/69).
(1/431)
وضع له حوطًا وتحجيرًا، لا أنه بناه إلى أعلاه، حتى كبر إسماعيل فبنياه معًا، كما قال الله تعالى.
ثم قال ابن جرير: أخبرنا هَنَّاد بن السري، حدثنا أبو الأحوص، عن سِماك، عن خالد بن عرعرة، أن رجلا قام إلى علي، رضي الله عنه، فقال: ألا تخبرني عن البيت، أهو أول بيت وضع في الأرض؟ فقال: لا ولكنه أول بيت وضع فيه البَرَكة (1) ،مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنًا، وإن شئت أنبأتك كيف بني: إن الله أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتًا في الأرض، قال: فضاق إبراهيم بذلك ذرعًا فأرسل الله السكينة -وهي ريح خجوج، ولها رأسان -فأتْبَع أحدهما صاحبه، حتى انتهت إلى مكة، فتطوت (2) على موضع البيت كطي الحجفَة، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة. فبنى إبراهيم وبقي حجر، فذهب الغلام يبغي شيئًا. فقال إبراهيم: أبغني حجرًا كما آمرك. قال: فانطلق الغلام يلتمس له حجرًا، فأتاه به، فوجده قد ركب الحجر الأسود في مكانه. فقال: يا أبه، من أتاك بهذا الحجر؟ فقال: أتاني به من لن يَتَّكل (3) على بنائك، جاء به جبريل، عليه السلام، من السماء. فأتماه (4) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا حمد بن عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا سفيان، عن بشر بن عاصم، عن سعيد بن المسيب، عن كعب الأحبار، قال: كان البيت غثاءة على الماء قبل أن يخلق الله الأرض بأربعين عامًا، ومنه دحيت الأرض.
قال سعيد: وحدثنا علي بن أبي طالب: أن إبراهيم أقبل من أرمينية، ومعه السكينة تدله على تَبُوُّء (5) البيت كما تتبوأ العنكبوت بيتًا، قال: فكشفت عن أحجار لا يُطيق (6) الحجر إلا ثلاثون رجلا. قلت: (7) يا أبا محمد، فإن الله يقول: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ } قال: كان ذلك بعد.
وقال السدي: إن الله، عز وجل، أمر إبراهيم أن يبني [البيت] (8) هو وإسماعيل: ابنيا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود، فانطلق إبراهيم، عليه السلام، حتى أتى مكة، فقام هو وإسماعيل، وأخَذَا المعاول لا يدريان أين البيت؟ فبعث الله ريحًا، يقال لها: ريح الخجوج، لها جناحان ورأس في صورة حية، فكشفت لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول، واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس. فذلك حين يقول [الله] (9) تعالى: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ } { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ } [ الحج : 26 ] فلما بنيا القواعد فبلغا مكان الركن. قال إبراهيم لإسماعيل: يا بني، اطلب لي حجرًا حسنًا أضعه هاهنا. قال: يا أبت، إني كسلان لَغب.
__________
(1) في جـ، ط، أ، و: "في البركة".
(2) في أ: "فنظرت".
(3) في جـ: "من لا يتكل".
(4) تفسير الطبري (3/70).
(5) في أ: "حتى بنوا".
(6) في ط: "ولا يطيق".
(7) في جـ، ط: "فقلت".
(8) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(9) زيادة من جـ.
(1/432)
قال: عَلَيّ بذلك فانطلق فطلب (1) له حجرًا، فجاءه بحجر فلم يرضه، فقال ائتني بحجر أحسن من هذا، فانطلق يطلب له حجرًا، وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند، وكان أبيض، ياقوتة بيضاء مثل الثَّغَامة، وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس، فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن، فقال: يا أبه، من جاءك بهذا؟ قال: جاء به من هو أنشط منك. فبنيا وهما يدعوان الكلمات التي ابتلى [بهن] (2) إبراهيم ربه، فقال: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
وفي هذا السياق ما يدل على أن قواعد البيت كانت مبنية قبل إبراهيم. وإنما هُدِي إبراهيمُ إليها وبُوِّئ لها. وقد ذهب إلى ذلك (3) ذاهبون، كما قال الإمام عبد الرزاق (4) أخبرنا معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ } قال: (5) القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك (6) .
وقال عبد الرزاق أيضًا: أخبرنا هشام بن حسان، عن سوار -ختن عطاء -عن عطاء ابن أبي رباح، قال: لما أهبط الله آدم من الجنة، كانت رجلاه في الأرض ورأسُه في السماء يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم، يأنس إليهم، فهابته (7) الملائكة، حتى شكت إلى الله في دعائها وفي صلاتها. فخفضه الله إلى الأرض، فلما فقد ما كان يسمع منهم استوحش حتى شكا ذلك إلى الله في دعائه وفي صلاته. فوجه إلى مكة، فكان موضع قَدَمه قريةً، وخَطوُه مفازة، حتى انتهى إلى مكة، وأنزل الله ياقوتة من ياقوت الجنة، فكانت على موضع البيت الآن. فلم يزل يطوف به حتى أنزل الله الطوفان، فرفعت تلك الياقوتة، حتى بعث الله إبراهيم، عليه السلام، فبناه. وذلك قول الله تعالى: { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ } [ الحج : 26 ] (8) .
وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج، عن عطاء، قال: قال آدم: إني لا أسمع أصوات الملائكة؟! قال: بخطيئتك، ولكن اهبط إلى الأرض، فابن لي بيتًا ثم احفف به، كما رأيت الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء. فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل: من حراء. وطور زيتا، وطور سَيْناء، وجبل لبنان، والجودي. وكان رَبَضُه من حراء. فكان هذا بناء آدم، حتى بناه إبراهيم، عليه السلام، بعد (9) .
وهذا صحيح إلى عطاء، ولكن في بعضه نكارَة، والله أعلم.
وقال عبد الرزاق أيضًا: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: وضع الله البيت مع آدم حين أهبط الله آدم إلى الأرض، وكان مهبطه بأرض الهند. وكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض، فكانت
__________
(1) في جـ، ط: "يطلب".
(2) زيادة من جـ.
(3) في جـ: "إلى هذا".
(4) في ط: "عبد الرزاق أيضا وأحمد".
(5) في ط: "قالوا".
(6) تفسير عبد الرزاق (1/78).
(7) في جـ: "فهابت".
(8) رواه الطبري في تفسيره (3/59) من طريق عبد الرزاق به.
(9) رواه الطبري في تفسيره (3/57) من طريق عبد الرزاق به.
(1/433)
الملائكة تهابه، فنُقص إلى ستين ذراعًا؛ فحزن (1) إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم. فشكا ذلك إلى الله، عز وجل، فقال الله: يا آدم، إني قد أهبطت لك بيتًا تطوف به كما يُطَاف حول عرشي، وتصلِّي عنده كما يصلى عند عرشي، فانطلق إليه آدم، فخرج ومُدَّ له في خطوه، فكان بين كل خطوتين مفازة. فلم تزل تلك المفازة (2) بعد ذلك. فأتى آدم البيت فطاف به، ومَن بعده من الأنبياء (3) .
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد (4) حدثنا يعقوب القُمِّي، عن حفص بن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: وضع الله البيت على أركان الماء، على أربعة أركان، قبل أن تُخْلَق الدنيا بألفي عام، ثم دحِيت الأرض من تحت البيت.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني [عبد الله] (5) بن أبي نَجِيح، عن مجاهد وغيره من أهل العلم: أن الله لما بَوَّأ إبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام، وخرج معه بإسماعيل وبأمه هاجر، وإسماعيل طفل صغير يرضع، وحمُلوا -فيما حدثني -على البُرَاق، ومعه جبريل يَدُلّه على موضع البيت ومعالم الحَرم. وخرج معه جبريل، فكان لا يمر بقرية إلا قال: أبهذه أمرت يا جبريل؟ فيقول جبريل: امضِه. حتى قدم به مكة، وهي إذ ذاك عضَاة سَلَم وَسَمُر، وبها أناس يقال لهم: "العماليق" خارج مكة وما حولها. والبيت يومئذ ربوة حمراء مَدِرَة، فقال إبراهيم لجبريل: أهاهنا أمرت أن أضعهما؟ قال: نعم. فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه، وأمر هاجَرَ أمَّ إسماعيل أن تتخذ فيه عَريشًا، فقال: { رَبَّنَا (6) إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ } إلى قوله: { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [ إبراهيم : 37 ] .
وقال عبد الرزاق: أخبرنا هشام بن حَسَّان، أخبرني حُمَيد، عن مجاهد، قال: خلق الله موضعَ هذا البيت قبلَ أن يخلق شيئًا بألفي سنة، وأركانه في الأرض السابعة (7) .
وكذا قال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد: القواعد في الأرض السابعة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عَمْرو بن رافع، أخبرنا (8) عبد الوهاب بن معاوية، عن عبد المؤمن بن خالد، عن علياء بن أحمر: أن ذا القرنين قدم مكة فوجد إبراهيم وإسماعيل يبنيان قواعدَ البيت من خمسة أجبل. فقال: ما لكما ولأرضي؟ فقال (9) نحن عبدان مأموران، أمرنا ببناء هذه الكعبة. قال: فهاتا بالبينة على ما تدعيان. فقامت خمسة أكبش، فقلن: نحن نشهد أن إبراهيم وإسماعيل عبدان مأموران، أمرا ببناء هذه الكعبة. فقال: قد رضيت وسلمت. ثم مضى.
__________
(1) في جـ، ط، أ: "فحزن آدم".
(2) في جـ، ط: "المفاوز".
(3) رواه الطبري في تفسيره (3/59) من طريق عبد الرزاق به.
(4) في جـ، ط: "حدثنا أبو حميد".
(5) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(6) في جـ، ط، أ، و: "رب" وهو خطأ.
(7) رواه الطبري في تفسيره (3/62) من طريق عبد الرزاق به.
(8) في جـ، ط: "حدثنا".
(9) في جـ، ط، أ، و: "فقالا".
(1/434)
وذَكَرَ الأزْرَقي في تاريخ مكة أن ذا القرنين طاف مع إبراهيم، عليه السلام، بالبيت، وهذا يدل على تقدم زمانه (1) ، والله أعلم.
وقال البخاري، رحمه الله: قوله تعالى: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } الآية: القواعد: أساسه واحدها قاعدة. والقواعد من النساء: واحدتها قاعدُ.
حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله: أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر عبد الله بن عُمَر، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألم تَرَيْ أن قومك حين بنوا البيت (2) اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟" فقلت: يا رسول الله، ألا تَرُدَّها على قواعد إبراهيم؟ قال: "لولا حِدْثان قومك بالكفر". فقال عبد الله بن عمر: لئن كانت عائشة سَمعت هذا (3) من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الرُّكنين اللذَين يَلِيان الحِجْر إلا أن البيت لم يُتَمَّم على قواعد إبراهيم، عليه السلام (4) .
وقد رواه في الحج عن القَعْنَبي، وفي أحاديث الأنبياء عن عبد الله بن يوسف. ومسلم عن يحيى بن يحيى، ومن حديث ابن وهب. والنسائي من حديث عبد الرحمن بن القاسم، كلهم عن مالك به (5) .
ورواه مسلم أيضًا من حديث نافع، قال: سمعت عبد الله بن أبي بكر بن أبي قُحَافة يحدث عبدَ الله بن عُمَر، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية -أو قال: بكفر -لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها الحجر" (6) .
وقال البخاري: حدثنا عُبَيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الأسود، قال: قال لي ابنُ الزبير: كانت عائشة تُسر إليك حديثًا كثيرًا، فما حدثتك في الكعبة؟ قال قلت: قالت لي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة، لولا قومك حديث عهدهم -فقال ابن الزبير: بكفر -لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين: بابًا يدخل منه الناس، وبابًا يخرجون". ففعله ابن الزبير.
انفرد بإخراجه البخاري، فرواه هكذا في كتاب العلم من صحيحه (7) .
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا حَدَاثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم، فإن قريشا حين بنت البيت (8) استقصرت، ولجعلت لها خَلْفًا".
__________
(1) تاريخ مكة (ص74).
(2) في جـ، ط، أ: "بنوا الكعبة".
(3) في جـ: "سمعت ذلك".
(4) صحيح البخاري برقم (4484).
(5) صحيح البخاري برقم (1585 ، 3368) وصحيح مسلم برقم (1333) وسنن النسائي (5/214).
(6) صحيح مسلم برقم (1333).
(7) صحيح البخاري برقم (126).
(8) في جـ: "بنت الكعبة".
(1/435)
قال: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كُرَيب، قالا حدثنا ابن نُمَير، عن هشام بهذا الإسناد. انفرد به مسلم (1) ،قال: وحدثني محمد بن حاتم، حدثني ابن مهدي، حدثنا سليم بن حَيَّان، عن سعيد -يعني ابن ميناء -قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقول: حدثتني خالتي -يعني عائشة رضي الله عنها -قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم:"يا عائشة، لولا قومك حديث عَهْد (2) بشرك، لهدمت الكعبة، فألزقتها بالأرض، ولجعلت لها بابين: بابًا شرقيًّا، وبابًا غربيًّا، وزدتُ فيها ستة أذرع من الحِجْر؛ فإن قريشًا اقتصرتها حيث بنت الكعبة" انفرد به أيضًا (3) . ذكر بناء قريش الكعبة بعد إبراهيم الخليل، عليه السلام، بمدد (4) طويلة
وقبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين
وقد نقل معهم في الحجارة، وله من العمر خمس وثلاثون سنة
صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين
قال محمد بن إسحاق بن يسار، في السيرة:
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسًا وثلاثين سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يَهُمُّون بذلك (5) ليسقفوها، ويهابون هَدْمها، وإنما كانت رَضما فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفرًا سرقوا كنز الكعبة، وإنما كان يكون في بئر في جَوْف الكعبة، وكان الذي وُجد عنده الكنز دويك، مولى بني مُلَيح بن عمرو من خزاعة، فقطعت قريش يده. ويزعم الناس أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك. وكان البحر قد رَمى بسفينة إلى جُدَّة، لرجل من تجار الروم، فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدُّوه لتسقيفها. وكان بمكة رجل قبطي نجار، فهيأ لهم، في أنفسهم بعض ما يصلحها، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تَطْرَحُ، فيها ما يُهْدَى0 لها كل يوم، فَتَتشرق (6) على جدار الكعبة، وكانت مما يهابون. وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزَألَّت وكشت وفتحت فاها، فكانوا يهابونها، فبينا هي يوما تَتَشرَّق على جدار الكعبة، كما كانت تصنع، بعث الله إليها طائرًا فاختطفها، فذهب بها. فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله قد رَضي ما أردنا، عندنا عامل رفيق، وعندنا خشب، وقد كفانا الله الحية.
فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها، قام أبو وهب بن عَمْرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1333).
(2) في جـ: "حديث عهدهم".
(3) صحيح مسلم برقم (1333).
(4) في جـ: "بمدة".
(5) في جـ: "لذلك".
(6) في جـ، ط: "فتشرف".
(1/436)
مخزوم، فتناول من الكعبة حجرًا، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه. فقال: يا معشر قريش، لا تُدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبًا، لا يدخل فيها مهر بَغِي ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس.
قال ابن إسحاق: والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر (1) بن مَخزُوم (2) .
قال: ثم إن قريشا تَجَزأت الكعبة، فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جُمَح وسهم، وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قُصي، ولبني أسد بن عبد العزى بن قُصي، ولبني عدي بن كعب بن لؤي، وهو الحَطيم.
ثم إن الناس هابوا هَدْمها وفَرقُوا (3) منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هَدْمها: فأخذ المعْولَ ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم تَرعْ، اللهم إنا لا نريد إلا الخير. ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئًا، ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا. فأصبح الوليد من ليلته غاديًا على عَمَله، فهدم وهدم الناس معه، حتى إذا انتهى الهدم [بهم] (4) إلى الأساس، أساس إبراهيم، عليه السلام، أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضًا (5) .
قال [محمد بن إسحاق] (6) فحدثني بعض من يروي الحديث: أن رجلا من قريش، ممن كان يهدمها، أدخل عَتَلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك الحجر تنقضت مكة بأسرها، فانتهوا عن ذلك الأساس (7) .
قال ابن إسحاق: ثم إن القبائل من قريش جَمَعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها، حتى بلغ البنيان موضع الركن -يعني الحجر الأسود -فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوروا وتخالفوا، وأعدوا للقتال. فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا: لعَقَة الدم. فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسًا. ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا.
فزعم بعض أهل الرواية: أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر بن مخزوم -وكان عامئذ أسن
__________
(1) في أ: "الوليد بن المغيرة بن عمر بن عبد الله".
(2) السيرة النبوية لابن إسحاق (نص رقم 103) ط، حميد الله، المغرب.
(3) في جـ: "وخافوا".
(4) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(5) السيرة النبوية لابن إسحاق (نص رقم 105) ط، حميد الله، المغرب.
(6) زيادة من جـ، ط.
(7) السيرة النبوية لابن إسحاق (نص رقم 106) ط، حميد الله، المغرب.
(1/437)
قريش كلهم -قال (1) : يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم، فيه. ففعلوا، فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال [رسول الله] (2) صلى الله عليه وسلم: "هَلُمَّ إليَّ ثوبًا" فأتي به، فأخذ الركن -يعني الحجر الأسود-فوضعه فيه بيده، ثم قال: "لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب"، ثم [قال] (3) : "ارفعوه جميعا". ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم، ثم بنى عليه.
وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي: الأمين. فلما فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا، قال الزبير بن عبد المطلب، فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها:
عجبت لَمَا تصوبت (4) العُقَاب ... إلى الثعبان وهي لها اضطراب ...
وقد كانت يكون لها كشيش ... وأحيانًا يكون لها وثَاب ...
إذا قمنا إلى التأسيس شَدَّت ... تُهَيّبُنُا البناءَ وقد تُهَابُ ...
فلما أن خَشِينا الزَّجْرَ جاءت ... عقاب تَتْلَئِبُّ لها انصباب ...
فضمتها إليها ثم خَلَّت ... لنا البنيانَ ليس له حجاب ...
فَقُمْنَا حاشدين إلى بناء ... لنا منه القواعدُ والتراب ...
غداة نُرَفِّع التأسيس منه ... وليس على مُسَوِّينا ثياب ...
أعَزّ به المليكُ بني لُؤي ... فليسَ لأصله منْهُم ذَهاب ...
وقد حَشَدَتْ هُنَاك بنو عَديّ ... ومُرَّة قد تَقَدَّمَها كلاب ...
فَبَوَّأنا المليك بذاكَ عزّا ... وعند الله يُلْتَمَسُ الثواب
قال ابن إسحاق: وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر ذراعًا، وكانت تكسى القباطي، ثم كُسِيت بعدُ البُرود، وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف.
قلت: ولم تزل على بناء قريش حتى أحرقت (5) في أول إمارة عبد الله بن الزبير بعد سنة ستين. وفي آخر ولاية يزيد بن معاوية، لما حاصروا ابن الزبير، فحينئذ نقضها ابن الزبير إلى الأرض وبناها على قواعد إبراهيم، عليه السلام، وأدخل فيها الحجر وجعل لها بابًا شرقيًّا وبابًا غربيًّا ملصقين
__________
(1) في جـ، ط: "فقال".
(2) زيادة من جـ.
(3) زيادة من ط.
(4) في ط: "صوبت".
(5) في أ، و: "احترقت".
(1/438)
بالأرض، كما سمع ذلك من خالته عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم تزل كذلك مُدَّة إمارته حتى قتله الحجاج، فردها إلى ما كانت عليه بأمر عبد الملك بن مَرْوان له بذلك، كما قال مسلم بن الحجاج في صحيحه:
حدثنا هَنَّاد بن السَّري، حدثنا ابن أبي زائدة، أخبرنا ابن أبي سليمان، عن عطاء، قال: لما احترق البيت زَمَنَ يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام، وكان من أمره ما كان، تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسمَ يريد أن يُجَرِّئَهم -أو يُحزبهم -على أهل الشام، فلما صدر الناس قال: يا أيها الناس، أشيروا عليَّ في الكعبة، أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وَهَى منها؟ قال ابن عباس: فإني (1) قد فَرِقَ لي رأي فيها، أرى أن تُصْلِحَ ما وَهى منها، وتدع بيتًا أسلم الناس عليه (2) وأحجارًا أسلم الناس عليها، وبعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم. فقال ابن الزبير: لو كان أحدهم احترق بيته ما رضي حتى يجدده، فكيف بيت ربكم، عز وجل؛ إني مستخير ربي ثلاثًا ثم عازم على أمري. فلما مضَت ثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها. فتحاماها الناسُ أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمْر من السماء، حتى صعده رجل، فألقى منه حجارة، فلما لم يَره الناس أصابه شيء تتابعوا، فنقضوه حتى بلغوا به الأرض. فجعل ابن الزبير أعمدة يستر (3) عليها الستور، حتى ارتفع بناؤه. وقال ابن الزبير: إني سمعت عائشة، رضي الله عنها، تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لولا أن الناس حديث عهدُهم بكفر، وليس عندي من النفقة ما يُقَوِّيني على بنائه، لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع، ولجعلت له بابًا يدخل الناس منه، وبابًا يخرجون منه (4) . قال: فأنا أجد ما أنفق، ولست أخاف الناس. قال: فزاد فيه خمسة (5) أذرع من الحجر، حتى أبدى له أسا (6) نَظَر الناس إليه فبنى عليه البناء. وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعًا، فلما زاد فيه استقصره فزاد في طوله عشرة (7) أذرع، وجعل له بابين: أحدهما يدخل منه، والآخر يخرج منه. فلما قُتِل ابنُ الزبير كتب الحجَّاج إلى عبد الملك يخبره بذلك، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة، فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أما ما زاده في طوله فأقره. وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه، وسد الباب الذي فتحه. فنقضه وأعاده إلى بنائه (8) .
وقد رواه النسائي في سننه، عن هناد، عن يحيى بن أبي زائدة، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن ابن الزبير، عن عائشة بالمرفوع منه (9) . ولم يذكر القصة، وقد كانَت السنة إقرار ما فعله عبد الله بن الزبير، رضي الله عنه؛ لأنه هو الذي وَدَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن خشي أن تنكره
__________
(1) في جـ: "فإنه".
(2) في جـ، ط: "عليها".
(3) في جـ، ط: "فستر".
(4) في جـ: "وبابا يخرج الناس منه".
(5) في جـ، ط: "خمس".
(6) في جـ: "أساسا" وفي أ: "أشيا" وفي و: "أشا".
(7) في جـ: "عشر".
(8) صحيح مسلم برقم (1333).
(9) سنن النسائي (5/218).
(1/439)
قلوب بعض الناس لحداثة عهدهم بالإسلام وقربِ عهدهم من الكفر. ولكن خفيت هذه السُّنةُ على عبد الملك؛ ولهذا (1) لما تحقق ذلك عن عائشة أنها روت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وددنا أنا تركناه وما تولى. كما قال مسلم:
حدثني محمد بن حاتم (2) حدثنا محمد بن بكر (3) أخبرنا ابن جُرَيج، سمعت عبد الله بن عُبَيد بن عمير والوليد بن عطاء، يحدثان عن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، قال عبد الله بن عبيد: وَفَدَ الحارث بن عبد الله على عبد الملك بن مروان في خلافته، فقال عبد الملك: ما أظن أبا خُبَيبٍ -يعني ابن الزبير -سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها. قال الحارث: بلى، أنا سمعته منها. قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قومك استقصروا من بنيان البيت، ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه، فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فَهَلُمِّي لأريك ما تركوا منه". فأراها قريبًا من سبعة (4) أذرع (5) .
هذا حديث عبد الله بن عُبيد [بن عمير] (6) . وزاد عليه الوليد بن عطاء: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض شرقيًّا وغربيًّا، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟" قالت: قلت: لا. قال: "تَعَزُّزًا ألا يدخلها إلا من أرادوا. فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها، يَدَعونه حتى (7) يرتقي، حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط" قال عبد الملك: فقلت للحارث: أنت سمعتها تقول هذا؟ قال: نعم. قال: فَنَكَتَ ساعة بعصاه، ثم قال: وَدِدْتُ أني تركت وما تَحَمَّل.
قال مسلم: وحدثناه محمد بن عمرو بن جبلة، حدثنا أبو عاصم(ح) وحدثنا عَبْدُ بن حُمَيْد، أخبرنا عبد الرزاق، كلاهما عن ابن جُرَيج بهذا الإسناد، مثلَ حديث ابن (8) بكر (9) .
قال: وحدثني محمد بن حاتم، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، حدثنا حاتم بن أبي صَغيرة، عن أبي قَزَعَة أنَّ عبد الملك بن مروان بينما هو يطوف بالبيت إذ قال: قاتل الله ابن الزبير حيث يكذب على أمِّ المؤمنين، يقول: سمعتها تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة، لولا حِدْثان قومك بالكفر لنقضت البيت حتى أزيد فيها (10) من الحجر، فإنَّ قومك قصروا في البناء". فقال الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة: لا تقل هذا يا أمير المؤمنين، فأنا سمعت أم المؤمنين تحدث هذا. قال: لو كنتُ سمعته قبل أن أهدمَه لتركته على ما بنى ابن الزبير (11) .
__________
(1) في أ: "ولكن".
(2) في جـ: "محمد بن بكر حاتم".
(3) في أ: "بن بكير".
(4) في جـ، ط، أ، و: "سبع".
(5) صحيح مسلم برقم (1333).
(6) زيادة من و.
(7) في أ، و: "حين".
(8) في أ: "مثل حديث أبي".
(9) صحيح مسلم برقم (1333).
(10) في جـ، ط، أ، و: "فيه".
(11) صحيح مسلم برقم (1333).
(1/440)
فهذا الحديث كالمقطوع به إلى عائشة أم المؤمنين، لأنه قد رُوي عنها من طرق صحيحة متعددة عن الأسود بن يزيد، والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق، وعروة بن الزبير. فدل هذا على صواب ما فعله ابن الزبير. فلو ترك لكان جيدًا.
ولكن بعد ما رجع الأمر إلى هذا الحال، فقد كَرِه بعض العلماء أن يغير عن حاله، كما ذكر عن أمير المؤمنين هارون الرشيد -أو أبيه المهدي -أنه سأل الإمام مالكًا عن هدم الكعبة وردِّها إلى ما فعله ابن الزبير. فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا تجعل كعبة الله مَلْعَبَة للملوك، لا يشاء أحد (1) أن يهدمها إلا هدمها. فترك ذلك الرشيد.
نقله عياض والنواوي، ولا تزال -والله أعلم -هكذا إلى آخر الزمان، إلى أن يخرِّبَها ذو السويقتين من الحبشة، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرب الكعبة ذو السُّوَيقتين من الحبشة". أخرجاه (2) .
وعن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"كأني به أسودَ أفحَجَ، يقلعها حجرًا حجرًا". رواه البخاري (3) .
وقال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: حدثنا أحمد بن عبد الملك الحَرَّاني، حدثنا محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما (4) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يُخَرِّب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة، ويسلبها حلْيتها (5) ويجردها من كسوتها. ولكأني أنظر إليه أصيلع أفَيْدعَ يضرب عليها بِمِسْحَاته ومِعْوله" (6) .
الفَدَع: زيغ بين القدم وعظم الساق.
وهذا -والله أعلم -إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج، لما جاء في صحيح (7) البخاري عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليُحَجَّنَّ البيتُ وليُعْتَمَرَنَّ بعد خروج يأجوج ومأجوج" (8) .
وقوله تعالى حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل، عليهما السلام: { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }
__________
(1) في أ، و: "لا يشاء الله".
(2) صحيح البخاري برقم (1596) وصحيح مسلم برقم (2909).
(3) صحيح البخاري برقم (1595).
(4) في جـ: "عنه".
(5) في جـ: "ويسلبها قال حليتها".
(6) المسند (2/220).
(7) في جـ: "في حديث".
(8) صحيح البخاري برقم (1593).
(1/441)
قال ابن جرير: يعنيان بذلك، واجعلنا مستسلمين (1) لأمرك، خاضعين لطاعتك، لا نشرك معك في الطاعة أحدًا سواك، ولا في العبادة غيرك.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إسماعيل بن رجاء بن حيان الحِصْني القرشي، حدثنا معقل بن عبيد الله، عن عبد الكريم: { وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } قال: مخلصين لك، { وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } قال: مخلصة.
وقال أيضا: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا المقدمي، حدثنا سعيد بن عامر، عن سلام بن أبي مطيع في هذه الآية { وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ } قال: كانا مسلمين، ولكنهما سألاه الثبات.
وقال عكرمة: { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } قال الله: قد فعلت. { وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } قال الله: قد فعلت.
وقال السدي: { وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } يعنيان العرب.
قال ابن جرير: والصواب أنه يعمُّ العرب وغيرهم؛ لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل، وقد قال الله تعالى: { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 159 ]
قلت: وهذا الذي قاله ابن جرير لا ينفيه السدي؛ فإن تخصيصهم بذلك لا ينفي من عداهم، والسياق إنما هو في العرب؛ ولهذا قال بعده: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ } الآية، والمراد بذلك محمَّد صلى الله عليه وسلم، وقد بعث فيهم كما قال تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ } [ الجمعة : 2 ] ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود، لقوله تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158 ] ، وغير ذلك من الأدلة القاطعة.
وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل، عليهما السلام، كما أخبر الله تعالى عن عباده المتقين المؤمنين، في قوله: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } [ الفرقان : 74 ] . وهذا القدر مرغوب فيه شرعًا، فإن من تمام محبة عبادة الله تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد الله وحده لا شريك له؛ ولهذا لما قال الله تعالى لإبراهيم، عليه السلام: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } قال: { وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } وهو قوله: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ } [ إبراهيم : 35 ] . وقد ثبت في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (2)
__________
(1) في جـ، أ: "واجعلنا مسلمين".
(2) صحيح مسلم برقم (1631).
(1/442)
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
" وأرنا مناسكنا " قال ابن جُريج، عن عطاء { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } أخرجها لنا،عَلِّمْنَاها (1) .
وقال مجاهد { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } مذابحنا. ورُوى عن عطاء أيضًا، وقتادة نحو ذلك.
وقال سعيد بن منصور: حدثنا عتاب بن بشير، عن خُصيف، عن مجاهد، قال: قال إبراهيم: "أرنا مناسكنا" فأتاه جبرائيل، فأتى به البيت، فقال: ارفع القواعد. فرفع القواعد وأتم البنيان، ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى الصفا، قال: هذا من شعائر الله. ثم انطلق به إلى المروة، فقال: وهذا من شعائر الله؟. ثم انطلق به نحو (2) مِنًى، فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة، فقال: كَبِّر وارمه. فكبر ورماه. ثم انطلق (3) إبليس فقام عند الجمرة الوسطى، فلما جاز به (4) جبريل وإبراهيم قال له: كبر وارمه. فكبر ورماه. فذهب إبليس وكان الخبيث أراد أن يُدْخِل في الحج شيئًا فلم يستطع، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام، فقال: هذا المشعر الحرام. فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به عرفات. قال: قد عرفت ما أريتك؟ قالها: ثلاث مرار. قال: نعم.
وروي عن أبي مِجْلز وقتادة نحو ذلك. وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي العاصم الغنوي، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس، قال: إن إبراهيم لما أريَ أوامر المناسك، عرض له الشيطان عند المسعى، فسابقه إبراهيم، ثم انطلق به جبريل حتى أتى (5) به منى، فقال: مُنَاخ الناس هذا. فلما انتهى إلى جمرة العقبة تعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتى به الجمرة الوسطى، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات، حتى ذهب، ثم أتى به الجمرة القصوى، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، فأتى به جَمْعًا. فقال: هذا المشعر. ثم أتى به عرفة. فقال: هذه عرفة. فقال له جبريل: أعرفت؟ (6) .
{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) }
يقول تعالى إخبارًا عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم -أن يبعث الله فيهم رسولا منهم، أي من ذرية إبراهيم. وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قَدَرَ الله السابق في تعيين محمد -صلوات الله وسلامه عليه (7) -رسولا في الأميين إليهم، إلى سائر الأعجمين، من الإنس والجن، كما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح، عن سعيد بن سُوَيد الكلبي، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني عند الله لخاتم
__________
(1) في جـ، ط: "وعلمناها".
(2) في أ: "إلى".
(3) في جـ: "فانطلق".
(4) في أ: "فلما حاذاه"، وفي و: "فلما حاذى به".
(5) في جـ، ط: "حتى أراه".
(6) مسند الطيالسي برقم (2697).
(7) في جـ: "صلى الله عليه وسلم".
(1/443)
النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك، دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين (1) يَرَيْنَ" (2) .
وكذلك (3) رواه ابن وهب، والليث، وكاتبه عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، وتابعه أبو بكر بن أبي مريم، عن سعيد بن سُويَد، به.
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا أبو النضر، حدثنا الفرج، حدثنا لقمان بن عامر: سمعت أبا أمامة قال: قلت: يا رسول الله، ما كان أول بَدْء أمرك؟ قال: "دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بي، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام" (4) .
والمراد أن أول من نَوّه بذكره وشهره في الناس، إبراهيم (5) عليه السلام. ولم يزل ذكره في الناس مذكورًا مشهورًا سائرًا حتى أفصح باسمه خاتمُ أنبياء بني إسرائيل نسبًا، وهو عيسى ابن مريم، عليه السلام، حيث قام في بني إسرائيل خطيبًا، وقال: { إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } [ الصف : 6] ؛ ولهذا قال في هذا الحديث: "دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بن مريم".
وقوله: "ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام" قيل: كان منامًا رأته حين حملت به، وقَصته على قومها فشاع فيهم واشتهر بينهم، وكان ذلك توطئة. وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه وثبوته ببلاد الشام، ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلا للإسلام وأهله، وبها ينزل عيسى ابن مريم إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها. ولهذا جاء في الصحيحين: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" (6) . وفي صحيح البخاري: "وهم بالشام" (7) .
قال (8) أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ } يعني: أمة محمد صلى الله عليه وسلم. فقيل له: قد استجيبت لك، وهو كائن في آخر الزمان. وكذا قال السدي وقتادة.
وقوله تعالى: { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ } يعني: القرآن { وَالْحِكْمَةَ } يعني: السنة، قاله الحسن،
__________
(1) في أ: "المؤمنين".
(2) المسند (4/127).
(3) في جـ، ط: "وكذا".
(4) المسند (5/262).
(5) في جـ: "إبراهيم الخليل".
(6) هذا لفظ حديث ثوبان في صحيح مسلم برقم (1920) ورواه أيضا بنحوه من حديث معاوية برقم (1037) وهو في صحيح البخاري برقم (7460) من حديث معاوية رضي الله عنه برقم (7459) من حديث المغيرة رضي الله عنه.
(7) صحيح البخاري برقم (7460) من حديث معاذ رضي الله عنه.
(8) في جـ، ط: "وقال".
(1/444)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
وقتادة، ومقاتل بن حيان، وأبو مالك وغيرهم. وقيل: الفهم في الدين. ولا منافاة.
{ وَيُزَكِّيهِمْ } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني طاعة الله، والإخلاص.
وقال محمد بن إسحاق { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } قال: يعلمهم الخير فيفعلوه، والشر فيتقوه، ويخبرهم برضاه عنهم إذا أطاعوه واستكثروا من طاعته، وتجنبوا ما سخط من معصيته.
وقوله: { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي: العزيز الذي لا يعجزه شيء، وهو قادر على كل شيء، الحكيم في أفعاله وأقواله، فيضع الأشياء في محالها؛ وحكمته وعدله.
{ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) }
يقول تبارك وتعالى رَدًّا على الكفار فيما ابتدعوه وأحدثوه من الشرك بالله، المخالف لملة إبراهيم الخليل، إمام الحنفاء، فإنه جَرد توحيد ربه تبارك وتعالى، فلم يَدْع معه غيره، ولا أشرك به طرفة عين، وتبرأ من كل معبود سواه، وخالف في ذلك سائر قومه، حتى تبرأ من أبيه، فقال: { يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 78 ، 79 ] ، وقال تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ* إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } [ الزخرف : 26 ، 27 ] ، وقال تعالى : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إيَّاهُ فَلَمَا تَبَيَّنَ لَهُ أنَّه عَدُوٌ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ إنَّ إبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } [ التوبة : 114 ] وقال تعالى: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ* وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } [ النحل : 120 -122] ، ولهذا وأمثاله قال تعالى: { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ } أي: عن طريقته ومنهجه. فيخالفها ويرغب عنها { إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } أي: ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلال، حيث خالف طريق من اصطفي في الدنيا للهداية والرشاد، من حَداثة سنّه (1) إلى أن اتخذه الله خليلا وهو في الآخرة من الصالحين السعداء -فترك طريقه هذا ومسلكه وملّته واتبع طُرُقَ الضلالة والغي، فأي سفه أعظم من هذا؟ أم أي ظلم أكبر من هذا؟ كما قال تعالى: { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }
وقال أبو العالية وقتادة: نزلت هذه الآية في اليهود؛ أحدثوا طريقًا ليست من عند الله وخالفوا ملَّة إبراهيم فيما أخذوه (2) ، ويشهد لصحة هذا القول قول الله تعالى: { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 67 ، 68 ].
__________
(1) في أ: "من حداثة بنيته".
(2) في جـ، ط، أ، و: "فيما أحدثوه".
(1/445)
وقوله تعالى: { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } أي: أمره الله (1) بالإخلاص له والاستسلام والانقياد، فأجاب إلى ذلك شرعًا وقدرًا.
وقوله: { وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ } أي: وصى بهذه الملة (2) وهي الإسلام لله [أو يعود الضمير على الكلمة وهي قوله: { أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } ] (3) . لحرصهم عليها ومحبتهم لها حافظوا عليها إلى حين الوفاة ووصوا أبناءهم بها من بعدهم؛ كقوله تعالى: { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } [ الزخرف : 28 ] وقد قرأ بعض السلف "ويعقوب" بالنصب عطفًا على بنيه، كأن إبراهيم وصى بنيه وابن ابنه يعقوب بن إسحاق وكان حاضرًا ذلك، وقد ادعى القشيري، فيما حكاه القرطبي عنه أن يعقوب إنما ولد بعد وفاة إبراهيم، ويحتاج مثل هذا إلى دليل صحيح؛ والظاهر، والله أعلم، أن إسحاق ولد له يعقوب في حياة الخليل وسارة؛ لأن البشارة وقعت بهما في قوله: { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] وقد قرئ بنصب يعقوب هاهنا على نزع الخافض، فلو لم يوجد يعقوب في حياتهما لما كان لذكره من بين ذرية إسحاق كبير فائدة، وأيضًا فقد قال الله تعالى في سورة العنكبوت: { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } [ الآية : 27 ] وقال في الآية الأخرى: { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ] وهذا يقتضي أنه وجد في حياته، وأيضًا فإنه باني بيت المقدس، كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة، وثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع أول؟ قال: "المسجد الحرام"، قلت: ثم أي؟ قال: "بيت المقدس". قلت: كم بينهما؟ قال: "أربعون سنة" الحديث (4) . فزعم ابن حبان أن بين سليمان الذي اعتقد أنه باني بيت المقدس -وإنما كان جدّده بعد خرابه وزخرفه -وبين إبراهيم أربعين سنة، وهذا مما أنكر على ابن حبان، فإن المدة بينهما تزيد على ألوف سنين، والله أعلم، وأيضًا فإن ذكر وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريبًا، وهذا يدل على أنه هاهنا من جملة الموصين.
وقوله: { يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } أي: أحسنوا في حال الحياة والزموا هذا ليرزقكم (5) الله الوفاة عليه. فإن المرء يموت غالبًا على ما كان عليه، ويبعث على ما مات عليه. وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قصد الخير وُفّق له ويسر (6) عليه. ومن نوى صالحًا ثبت عليه. وهذا لا يعارض ما جاء، في الحديث [الصحيح] (7) "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا بَاعٌ أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها (8) . وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب،
__________
(1) في جـ، ط، أ، و: "أمره تعالى".
(2) في أ: "أي رضي بهذه المسألة".
(3) زيادة من جـ، ط، أ.
(4) صحيح البخاري برقم (3366) وصحيح مسلم برقم (520).
(5) في جـ: "يرزقكم".
(6) في ط: "ويسره".
(7) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(8) في جـ، ط، أ، و: "فيدخل النار".
(1/446)
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها"؛ لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث: "فيعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس. وقد قال الله تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } [ الليل : 5 -10 ] .
{ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) }
يقول تعالى محتجًّا على المشركين من العرب أبناء إسماعيل، وعلى الكفار من بني إسرائيل -وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم (1) السلام -بأن يعقوب لما حضرته الوفاة وصى بنيه بعبادة الله وحده لا شريك له، فقال لهم: { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } وهذا من باب التغليب لأن إسماعيل عمه.
قال النحاس: والعرب تسمي العم أبًا، نقله القرطبي؛ وقد استدل بهذه الآية من جعل الجد أبًا وحجب به الإخوة، كما هو قول الصديق -حكاه البخاري عنه من طريق ابن عباس وابن الزبير، ثم قال البخاري: ولم يختلف عليه، وإليه ذهبت عائشة أم المؤمنين، وبه يقول الحسن البصري وطاوس وعطاء، وهو مذهب أبي حنيفة وغير واحد من علماء السلف والخلف؛ وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه أنه يقاسم الإخوة؛ وحكى مالك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وجماعة من السلف والخلف، واختاره صاحبا أبي حنيفة القاضي: أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، ولتقريرها موضع آخر.
وقوله: { إِلَهًا وَاحِدًا } أي: نُوَحِّدُه بالألوهية، ولا نشرك به شيئا غيره { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي: مطيعون خاضعون كما قال تعالى: { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ وسلم } [ آل عمران : 83 ] والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة، وإن تنوّعت شرائعهم واختلفت مناهجهم، كما قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء : 25]. والآيات في هذا كثيرة والأحاديث، فمنها قوله صلى الله عليه وسلم :"نحن مَعْشَرَ الأنبياء أولاد عَلات ديننا واحد" (2) .
وقوله تعالى: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } أي: مضت { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ } أي: إن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيرًا يعود
__________
(1) في ط: "عليه".
(2) صحيح البخاري برقم (3443) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأولاد العلات: هم الأخوة من الأب وأمهاتهم شتى.
(1/447)
نفعهُ عليكم، فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم: { وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
وقال أبو العالية، والربيع، وقتادة: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } يعني: إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط [ولهذا جاء، في الأثر: من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه] (1)
__________
(1) زيادة من جـ، ط، أ، و.
=====
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
البقرة - تفسير ابن كثير
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
{ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) }
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال عبد الله بن صُوريا الأعورُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الهدى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهتد (1) . وقالت النصارى مثل ذلك. فأنزل الله عز وجل: { وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا }
وقوله { بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } " أي: لا نريد ما دعوتم إليه من اليهودية والنصرانية، بل نتبع { مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } أي: مستقيما. قاله محمد بن كعب القرظي، وعيسى بن جارية.
وقال خَصِيف عن مجاهد: مخلصًا. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: حاجًّا. وكذا روي عن الحسن والضحاك وعطية، والسدي.
وقال أبو العالية: الحنيف الذي يستقبل البيت بصلاته، ويرى أن حَجَّه عليه إن استطاع إليه سبيلا.
وقال مجاهد، والربيع بن أنس: حنيفًا، أي: متبعًا. وقال أبو قلابة: الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم.
وقال قتادة: الحنيفية: شهادة أن لا إله إلا الله. يدخل فيها تحريمُ الأمهات والبنات والخالات والعمات وما حرم الله، عز وجل (2) والختانُ.
{ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) }
أرشد الله تعالى عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أنزل إليهم بواسطة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مفصلا وبما أنزل على الأنبياء المتقدمين مجملا ونص على أعيان من الرسل، وأجمل ذكر بقية الأنبياء، وأن (3) لا يفرقوا بين أحد منهم، بل يؤمنوا بهم كلّهم، ولا يكونوا كمن قال الله فيهم: { وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا } [ النساء : 150 ، 151] .
__________
(1) في جـ: "تهتدي"، وفي ط: "تهدى".
(2) في جـ: "الله تعالى".
(3) في أ: "أنهم".
(1/448)
وقال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عثمان بن عُمَر، أخبرنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبْرَانيَّة ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تُكَذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا (1) " (2) .
وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من حديث عثمان بن حكيم، عن سعيد بن يَسار عن ابن عباس، قال، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما يصلى الركعتين اللتين قبل الفجر بـ { آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا } الآية، والأخرى بـ { آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 52 ] . (3) وقال أبو العالية والربيع وقتادة: الأسباط: بنو يعقوب اثنا عشر رجلا؛ ولد كل (4) رجل منهم أمة من الناس، فسمّوا الأسباط.
وقال الخليل بن أحمد وغيره: الأسباط في بني إسرائيل، كالقبائل في بني إسماعيل؛ وقال الزمخشري في الكشاف: الأسباط: حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثنى عشر، وقد نقله الرازي عنه، وقرره ولم يعارضه. وقال البخاري: الأسباط: قبائل بني إسرائيل، وهذا يقتضي أن المراد بالأسباط هاهنا شعوب بني إسرائيل، وما أنزل الله تعالى من الوحي على الأنبياء الموجودين منهم، كما قال موسى لهم: { اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } [ المائدة : 20 ] وقال تعالى: { وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا } [ الأعراف : 160 ] وقال القرطبي: وسموا الأسباط من السبط، وهو التتابع، فهم جماعة متتابعون. وقيل: أصله من السبط، بالتحريك، وهو الشجر، أي: هم في الكثرة بمنزلة الشجر الواحدة سبطة. قال الزجاج: ويبين لك هذا: ما حدثنا محمد بن جعفر الأنباري، حدثنا أبو نجيد الدقاق، حدثنا الأسود بن عامر، حدثنا إسرائيل عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمد -عليهم الصلاة والسلام. قال القرطبي: والسبط: الجماعة والقبيلة، الراجعون إلى أصل واحد.
وقال قتادة: أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا به، ويصدقُوا بكتبه كلّها وبرسله.
وقال سليمان بن حبيب: إنما أمرنا أن نؤمن بالتوراة والإنجيل، ولا نعمل بما فيهما.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن محمد بن مُصْعب الصوري، حدثنا مُؤَمَّل، حدثنا عبيد الله
__________
(1) في أ، و: "وما أنزل الله"، وفي جـ: "وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم".
(2) صحيح البخاري برقم (4485).
(3) صحيح مسلم برقم (727) وسنن أبي داود برقم (1259) وسنن النسائي (2/155).
(4) في جـ: "وكذا كل".
فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)
بن أبي حميد، عن أبي المليح، عن مَعْقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آمنوا بالتوراة والزبور والإنجيل وليسَعْكمُ القرآن" (1) .
{ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) }
يقول تعالى: { فَإِنْ آمَنُوا } أي (2) : الكفار من أهل الكتاب وغيرهم { بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ } أيها المؤمنون، من الإيمان بجميع كتب الله ورسله، ولم يفرقوا بين أحد منهم { فَقَدِ اهْتَدَوْا } أي: فقد أصابوا الحق، وأرشدوا إليه { وَإِنْ تَوَلَّوْا } أي: عن الحق إلى الباطل، بعد قيام الحجة عليهم { فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ } أي: فسينصرك عليهم ويُظْفِرُك بهم { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
وقال ابن أبي حاتم: قرئ على يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب، حدثنا زياد بن يونس، حدثنا نافع بن أبي نُعَيم، قال: أرسل إليَّ بعض الخلفاء مصحفَ عثمان بن عفان ليصلحه. قال زياد: فقلت له: إن الناس يقولون: إن مصحفه كان في حجره حين قُتِل، فوقع الدم على { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فقال نافع: بَصُرت عيني بالدم على هذه الآية وقد قَدُم (3) .
وقوله: { صِبْغَةَ اللَّهِ } قال الضحاك، عن ابن عباس: دين الله وكذا روي عن مجاهد، وأبي العالية، وعكرمة، وإبراهيم، والحسن، وقتادة، والضحاك، وعبد الله بن كثير، وعطية العوفي، والربيع بن أنس، والسدي، نحو ذلك.
وانتصاب { صِبْغَةَ اللَّهِ } إما على الإغراء كقوله { فِطْرَتَ اللَّهِ } [ الروم : 30 ] أي: الزموا ذلك عليكموه. وقال بعضهم: بدل من قوله: { مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } وقال سيبويه: هو مصدر مؤكد انتصب عن قوله: { آمَنَّا بِاللَّهِ } كقوله { وَاعْبُدُوا اللَّهَ } [ النساء : 36 ] .
وقد ورد (4) في حديث رواه ابن أبي حاتم وابن مَرْدُويه، من رواية أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس أن نبي الله (5) قال: "إن بني إسرائيل قالوا: يا موسى، هل يَصْبُغ ربك؟ فقال: اتقوا الله. فناداه ربه: يا موسى، سألوك هل يَصْبُغ ربك؟ فقل: نعم، أنا أصبُغ الألوان: الأحمر والأبيض والأسود، والألوان كلها من صَبْغي". وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: { صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً } (6) .
كذا وقع في رواية ابن مردويه مرفوعًا، وهو في رواية ابن أبي حاتم موقوف، وهو أشبه، إن صح إسناده، والله أعلم (7) .
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (1/400) وفي إسناده عبيد الله بن أبي حميد متفق على ضعفه ويروي عن أبي المليح عجائب. انظر: الميزان (3/5) والتهذيب (7/9).
(2) في و: "يعني".
(3) تفسير ابن أبي حاتم (1/402).
(4) في ط: "وقد روى".
(5) في جـ، ط، أ، و: "نبي الله صلى الله عليه وسلم".
(6) تفسير ابن أبي حاتم (1/403) ومن طريقه أبو الشيخ في العظمة برقم (138).
(7) في جـ: "والله تبارك وتعالى أعلم".
قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
{ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) }
يقول الله تعالى مرشدا نبيه صلوات الله وسلامه عليه (1) إلى درء مجادلة المشركين: { قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ } أي: أتناظروننا في توحيد الله والإخلاص له والانقياد، واتباع أوامره وترك زواجره { وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } المتصرف فينا وفيكم، المستحق لإخلاص الإلهية له وحده لا شريك له! { وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } أي: نحن برآء منكم، وأنتم بُرَآء منا، كما قال في الآية الأخرى: { وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } [ يونس : 41]وقال تعالى: { فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [ آل عمران : 20]وقال تعالى إخباراً عن إبراهيم (2) { وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 80] وقال { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ } الآية[ البقرة : 258].
وقال في هذه الآية الكريمة: { [وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ] (3) وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } أي: نحن (4) برآء منكم كما أنتم برآء منا، ونحن له مخلصون، أي في العبادة والتوجه.
ثم أنكر تعالى عليهم، في دعواهم أن إبراهيم ومن ذكر بعده من الأنبياء والأسباط كانوا على ملتهم، إما اليهودية وإما النصرانية (5) فقال: { قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ } يعني: بل الله أعلم، وقد أخبر أنهم لم يكونوا هودا ولا نصارى، كما قال تعالى: { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } الآية والتي بعدها[ آل عمران : 67 ،68].
وقوله: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ } قال الحسن البصري: كانوا يقرؤون في كتاب الله الذي أتاهم: إن الدين [عند الله] (6) الإسلامُ، وإن محمدا رسول الله، وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا برآء من اليهودية والنصرانية، فشهِد الله بذلك، وأقروا به على أنفسهم لله، فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك.
__________
(1) في جـ: "صلى الله عليه وسلم".
(2) في جـ: "عن إبراهيم عليه السلام".
(3) زيادة من و.
(4) في جـ، ط: "أي ونحن".
(5) في جـ، ط، أ، و: "أو النصرانية".
(6) زيادة من جـ، ط.
وقوله: { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [فيه] (1) تهديد ووعيد شديد، أي: [أن] (2) علمه محيط بعملكم، وسيجزيكم عليه.
ثم قال تعالى: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } أي: قد مضت { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ } أي: لهم أعمالهم ولكم أعمالكم { وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وليس يغني عنكم انتسابكم إليهم، من غير متابعة منكم لهم، ولا تغتروا بمجرد النسبة إليهم حتى تكونوا مثلهم منقادين لأوامر الله واتباع رسله، الذين بعثوا مبشرين ومنذرين، فإنه من كفر بنبي واحد فقد كفر بسائر الرسل، ولا سيما من كفر بسيد الأنبياء، وخاتم المرسلين ورسول رب العالمين إلى جميع الإنس والجن من سائر المكلفين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله (3) أجمعين (4) .
__________
(1) زيادة من جـ، ط.
(2) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(3) في جـ: "وعلى سائر أنبيائه".
(4) في أ: "أجمعين أبدا دائما إلى يوم الدين ورضي الله تعالى عن أصحابه وأصحابهم المتبعين إلى يوم الحشر واليقين".
===============
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
البقرة - تفسير ابن كثير
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
{ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) }
[قيل المراد بالسفهاء هاهنا: المشركون؛ مشركو العرب، قاله الزجاج. وقيل: أحبار يهود، قاله مجاهد. وقيل: المنافقون، قاله السدي. والآية عامة في هؤلاء كلهم، والله أعلم] (1) .
قال البخاري: حدثنا أبو نُعَيم، سمع زُهَيراً، عن أبي إسحاق، عن البراء، رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت (2) المقدس ستَّة عشر شهرا أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها، صلاة العصر، وصلى معه قوم. فخرج رجل (3) ممن كان صلى معه، فمر على أهل المسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم قبَل مكة، فدارُوا كما هم قبل البيت. وكان الذي مات على القبلة قبل أن تُحَوّل قبل البيت رجالا قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله عز وجل { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }
انفرد به البخاري من هذا الوجه (4) . ورواه مسلم من وجه آخر (5) .
__________
(1) زيادة من جـ، ط.
(2) في جـ: "إلى البيت".
(3) في ط: "فخرج قوم".
(4) صحيح البخاري برقم (4486).
(5) صحيح مسلم برقم (525).
(1/452)
وقال محمد بن إسحاق: حدثني إسماعيل (1) بن أبي خالد، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس، ويكثر النظر إلى السماء ينتظر (2) أمر الله، فأنزل الله: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } فقال رجال (3) من المسلمين: وَددْنا لو عَلمْنا علم من مات منا قبل أن نُصْرف إلى القبلة، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس؟ فأنزل الله: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } وقال السفهاء من الناس، وهم أهل الكتاب: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله: { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ } إلى آخر الآية.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا الحسن بن عطية، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وكان يحب أن يوجه نحو الكعبة، فأنزل الله: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قال: فَوُجّه نحو الكعبة. وقال السفهاء من الناس، وهم اليهود: { مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } فأنزل الله { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا هاجر إلى المدينة، أمَره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحِب قبلة إبراهيم، فكان يدعو الله وينظر إلى السماء، فأنزل الله عز وجل: { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } أي: نحوه. فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله: { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } .
وقد جاء في هذا الباب أحاديثُ كثيرة، وحاصلُ الأمر أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمِرَ باستقبال الصخرة من بيت المقدس، فكان بمكة يُصَلِّي بين الركنين، فتكون بين يديه الكعبة وهو مستقبل صخرة بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة تَعَذَّر الجمعُ بينهما، فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس، قاله ابن عباس والجمهور، ثم اختلف هؤلاء هل كان الأمر به بالقرآن أو بغيره؛ على قولين، وحكى القرطبي في تفسيره عن عكرمة وأبي العالية والحسن البصري أن التوجه إلى بيت المقدس كان باجتهاده عليه الصلاة والسلام. والمقصود أن التوجه إلى بيت المقدس بعد مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة، فاستمرَّ الأمرُ على ذلك بضعة عَشَرَ شهراً، وكان يكثر الدعاءَ والابتهالَ أنْ يُوَجَّه إلى الكعبة، التي هي قبلة إبراهيم، عليه السلام، فأجيب إلى ذلك، وأمر بالتوجِّه إلى البيت العتيق، فخطب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الناس، وأعلمهم بذلك. وكان أول صلاة صلاها إليها صلاة العصر، كما تقدم في الصحيحين من رواية البراء. ووقع عند النسائي من رواية أبي سعيد بن المعلى: أنها الظهر (4) . وأما أهل قُبَاء، فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر من اليوم الثاني، كما جاء في الصحيحين، عن ابن عمر أنه قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد
__________
(1) في أ: "حدثني المعلى".
(2) في ط: "وينتظر".
(3) في أ: "فقال رجل".
(4) سنن النسائي الكبرى برقم (11004).
(1/453)
أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها. وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة (1) .
وفي هذا دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به، وإن تقدم نزوله وإبلاغه؛ لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء، والله أعلم.
ولما وقع هذا حصل لبعض الناس -من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود -ارتياب وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك، وقالوا: { مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } أي: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا، وتارة يستقبلون كذا؟ فأنزل الله جوابهم في قوله: { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } أي: الحكم والتصرف والأمر كله لله، وحيثما تولوا فثمَّ وجه الله، و { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } [ البقرة : 177]أي: الشأن كله في امتثال أوامر الله، فحيثما وجهنا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره، ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة، فنحن عبيده وفي تصريفه وخُدَّامُه، حيثما وجَّهَنا توجهنا، وهو تعالى له بعبده ورسوله محمد -صلوات الله وسلامه عليه (2) -وأمتِه عناية عظيمة؛ إذ هداهم إلى قبلة إبراهيم، خليل الرحمن، وجعل توجههم إلى الكعبة المبنية على اسمه تعالى وحده لا شريك له، أشرف بيوت الله في الأرض، إذ هي بناء إبراهيم الخليل، عليه السلام، ولهذا قال: { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } .
وقد روى الإمام أحمد، عن علي بن عاصم، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عُمَر (3) بن قيس، عن محمد بن الأشعث، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني في أهل الكتاب -:"إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة، التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين" (4) .
وقوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } يقول تعالى: إنما حَوّلناكم إلى قبلة (5) إبراهيم، عليه السلام، واخترناها لكم (6) لنجعلكم خيار الأمم، لتكونوا يوم القيامة شُهَداء على الأمم؛ لأن الجميع (7) معترفون (8) لكم بالفضل. والوسط هاهنا: الخيار والأجود، كما يقال: قريش أوسطُ العرب نسباً وداراً، أي: خيرها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطا في قومه، أي: أشرفهم نسبا، ومنه الصلاة الوسطى، التي هي أفضل الصلوات، وهي العصر، كما ثبت في الصحاح وغيرها، ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً خَصَّها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح (9) المذاهب، كما قال تعالى: { هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } [ الحج : 78]
__________
(1) صحيح البخاري برقم (403) وصحيح مسلم برقم (526).
(2) في ط: "صلى الله عليه وسلم".
(3) في ط، أ، و: "عن عمرو".
(4) المسند (6/134).
(5) في ط: "ملة".
(6) في أ: "واحترفناها لكم"، وفي و: "واخترناكم لها".
(7) في أ: "الأمم".
(8) في ط: "معترفين" وهو خطأ..
(9) في جـ: "وأصح".
(1/454)
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: هل بلَّغت؟ فيقول: نعم. فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد، فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته" قال: فذلك قوله: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } (1) .
قال: الوسط (2) : العدل، فتدعون، فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم (3) .
رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن الأعمش، [به] (4) (5) .
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجيء النبي يوم القيامة [ومعه الرجل والنبي] (6) ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه، فيقال [لهم] (7) هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا. فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم. فيقال [له] (8) من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته فيدعى بمحمد وأمته، فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم. فيقال: وما علمكم؟ فيقولون: جاءنا نبينا صلى الله عليه وسلم فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا" فذلك قوله عز وجل: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } قال: "عدلا { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } " (9) .
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } قال: "عدلا" (10) .
وروى الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه وابن أبي حاتم من حديث عبد الواحد بن زياد، عن أبي مالك الأشجعي، عن المغيرة بن عتيبة (11) بن نهاس: حدثني مكتب لنا (12) عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أنا وأمَّتي يوم القيامة على كَوْم مُشرفين على (13) الخلائق. ما من الناس أحد إلا ودّ أنه منَّا. وما من نبي كَذَّبه قومه إلا ونحن نشهدُ أنه قد بلغ رسالةَ ربه، عز وجل (14) .
__________
(1) المسند (3/32).
(2) في جـ، ط: "قال: والوسط".
(3) في جـ: "بقول يشهد عليكم" وفي ط: "وأشهد عليكم".
(4) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(5) صحيح البخاري برقم (3339،4487) وسنن الترمذي برقم (2961) وسنن النسائي الكبرى برقم (11007) وسنن ابن ماجة برقم (4284).
(6) زيادة من جـ، أ، والمسند.
(7) زيادة من جـ، أ، والمسند.
(8) زيادة من جـ، والمسند.
(9) المسند (3/58).
(10) المسند (3/9).
(11) في جـ: "بن عيينة".
(12) في و: "مكاتب لنا".
(13) في جـ: "مشرف على".
(14) ورواه الطبري في تفسيره (3/147) من طريق ابن فضيل عن أبي مالك الأشجعي به.
(1/455)
وروى الحاكم، في مستدركه وابن مَرْدُويَه أيضاً، واللفظ له، من حديث مصعب بن ثابت، عن محمد بن كعب القُرَظي، عن جابر بن عبد الله، قال: شهد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جنازة، في بني سلمة، وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: والله -يا رسولَ الله -لنعم المرءُ كان، لقد كان عفيفا مسلما وكان ... وأثنوا عليه خيراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت بما تقول". فقال الرجل: الله أعلم بالسرائر، فأما الذي بدا لنا منه فذاك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وجبت". ثم شَهِد جنازة في بني حَارِثة، وكنتُ إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: يا رسولَ الله، بئس المرءُ كان، إن كان لفَظّاً غليظاً، فأثنوا عليه شراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعضهم: "أنت بالذي تقول". فقال الرجل: الله أعلم بالسرائر، فأما الذي بدا لنا منه فذاك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وجبت".
قال مصعب بن ثابت: فقال لنا عند ذلك محمد بن كَعْب: صدقَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قرأ: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }
ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه (1) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا داود بن أبي الفرات، عن عبد الله بن بُريدة، عن أبي الأسود أنه قال: أتيتُ المدينة فوافقتها، وقد وقع بها مرض، فهم يموتون موتاً ذَريعاً. فجلست إلى عمر بن الخطاب، فمرّت به جنازة، فَأثْنِيَ على صاحبها خير. فقال: وجبت وجَبَت. ثم مُرّ بأخرى فَأُثْنِيَ عليها شرٌّ، فقال عمر: وجبت [وجبت] (2) . فقال أبو الأسود: ما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أيّما مسلم شَهِد له أربعة بخير أدخله الله الجنة". قال: فقلنا. وثلاثة؟ قال: "وثلاثة". قال، فقلنا: واثنان؟ قال: "واثنان" ثم لم نسأله عن الواحد.
وكذا رواه البخاري، والترمذي، والنسائي من حديث داود بن أبي الفرات، به (3) .
قال ابن مَرْدويه: حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى، حدثنا أبو قِلابة الرقاشي، حدثني أبو الوليد، حدثنا نافع بن عمر، حدثني أمية بن صفوان، عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنَّباوَة (4) يقول: "يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم" قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بالثناء الحسن والثناء السَّيِّئ، أنتم شهداء الله في الأرض". ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون (5) . ورواه الإمام أحمد، عن يزيد بن هارون، وعبد الملك بن عمر (6) وشريح، عن نافع عن ابن عمر، به (7) .
__________
(1) المستدرك (2/268) وتعقبه الذهبي بقوله: "فيه مصعب بن ثابت ليس بالقوي".
(2) زيادة من أ.
(3) المسند ( 1/22) وصحيح البخاري برقم (1368) وسنن الترمذي برقم (1059) وسنن النسائي (4/50).
(4) في جـ: "بالبناوة".
(5) سنن ابن ماجة برقم (4221) وقال البوصيري في الزوائد (3/301) "إسناد صحيح، رجاله ثقات".
(6) في جـ، ط: "بن عمرو".
(7) لم أجده في المطبوع من المسند بهذا الطريق، وذكره الحافظ ابن حجر في أطراف المسند (6/231).
(1/456)
وقوله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } يقول تعالى: إنما شرعنا لك -يا محمد -التوجه أولا إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة، ليظهر حالُ من يَتَّبعك ويُطيعك ويستقبل معك حيثما توجهتَ مِمَّن ينقلب على عَقبَيْه، أي: مُرْتَدّاً عن (1) دينه { وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً } أي: هذه الفعلة، وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة، أي: وإن كان هذا الأمر عظيماً في النفوس، إلا على الذين هدى الله قلوبهم، وأيقنُوا بتصديق الرسُول، وأنَّ كلَّ ما جاء به فهو الحقّ الذي لا مرْية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يكلّف عباده بما شاء (2) ، وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك، بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكّاً، كما يحصل للذين آمنوا إيقان وتصديق، كما قال الله تعالى: { وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 124 ،125] وقال تعالى: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } [ فصلت : 44] وقال تعالى: { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } [ الإسراء: 82]. ولهذا كان مَن (3) ثَبَتَ على تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه في ذلك، وتوجه حيثُ أمره الله من غير شك ولا رَيْب، من سادات الصحابة. وقد ذهب بعضُهم إلى أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم الذين صلّوا القبلتين.
وقال البخاري في تفسير هذه الآية:
حدثنا مُسَدَّد، حدثنا يحيى، عن سُفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: بينا الناسُ يصلون الصبح في مسجد قُباء إذ جاء رجل فقال: قد أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها. فتوجهوا إلى الكعبة (4) .
وقد رواه مسلم من وجه آخر، عن ابن عمر (5) . ورواه الترمذي من حديث سفيان الثوري (6) وعنده: أنهم كانوا ركوعاً، فاستداروا كما هم إلى الكعبة، وهم ركوع. وكذا رواه مسلم من حديث حَمّاد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، مثله (7) ، وهذا يدل على كمال طاعتهم لله ورسوله، وانقيادهم لأوامر الله عز وجل، رضي الله عنهم أجمعين.
__________
(1) في جـ: "مرتدا على".
(2) في أ: "بما يشاء".
(3) في جـ : "من كان".
(4) صحيح البخاري برقم (4488).
(5) صحيح مسلم برقم (526).
(6) سنن الترمذي برقم (341).
(7) صحيح مسلم برقم (527).
(1/457)
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
وقوله: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أي: صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك لا يضيع (1) ثوابها عند الله، وفي الصحيح من حديث أبي إسحاق السَّبِيعي، عن البراء، قال: مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس فقال الناس: ما حالهم في ذلك؟ فأنزل الله تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } (2) .
[ورواه الترمذي عن ابن عباس وصححه (3) ] (4) .
وقال ابن إسحاق: حَدّثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أي: بالقبلة الأولى، وتصديقكم نبيكم، واتباعه إلى القبلة الأخرى. أي: لَيُعْطيكم (5) أجرَهما جميعا. { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }
وقال الحسن البصري: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أي: ما كان الله ليضيع محمدا صلى الله عليه وسلم وانصرافكم معه حيث انصرف { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين ولدها، فجعلت كُلَّما وجدت صبيًا من السبي أخذته فألصقته بصدرها، وهي تَدُور على، ولدها، فلما وجدته ضمته إليها وألقمته ثديها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أترون هذه طارحة ولدها في النار، وهي تقدر على ألا تطرحه؟" قالوا: لا يا رسول الله. قال: "فوالله، لله أرحم بعباده من هذه بولدها" (6) .
{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) }
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: كان أوَّل ما نُسخَ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجرَ إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضْعَةَ عَشَرَ شهرًا، وكان يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء، فأنزل الله: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ } إلى قوله: { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: { مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] (7) } وقال: { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } [البقرة: 115] وقال الله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ }
__________
(1) في ط، أ: "ما يضيع".
(2) سبق تخريج الحديث قريبا.
(3) سنن الترمذي برقم (2964).
(4) زيادة من جـ، ط، أ.
(5) في أ: "ليضيعنكم" وفي و: "ليعطينكم".
(6) صحيح البخاري برقم (5999) وصحيح مسلم برقم (2754).
(7) زيادة من ط.
(1/458)
وروى ابن مَرْدريه من حديث القاسم العُمَري، عن عمه عُبيد الله بن عمر، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته إلى بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء فأنزل الله: { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } إلى الكعبة إلى الميزاب، يَؤُم به جبرائيل (1) عليه السلام.
وروى الحاكم، في مستدركه، من حديث شعبة عن يعلى بن عطاء، عن يحيى بن قمطة قال: رأيت عبد الله بن عمرو (2) جالسا في المسجد الحرام، بإزاء الميزاب، فتلا هذه الآية: { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } قال: نحو ميزاب الكعبة.
ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه (3) .
ورواه ابن أبي حاتم، عن الحسن بن عرفة، عن هُشَيْم، عن يعلى بن عطاء، به.
وهكذا قال غيره، وهو أحد قولي الشافعي، رحمه الله: إن الغرض إصابة عين القبلة. والقول الآخر وعليه الأكثرون: أن المراد المواجهة (4) كما رواه الحاكم من حديث محمد بن (5) إسحاق، عن عمير بن زياد الكندي، عن علي، رضي الله عنه، { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قال: شطره: قبله. ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وهذا قول أبي العالية، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، وقتادة، والربيع بن أنس، وغيرهم. وكما تقدم في الحديث الآخر: ما بين المشرق والمغرب قبلة.
[وقال القرطبي: روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي (6) "] (7) .
وقال أبو نعيم الفضل بن دكين:
حدثنا زهير، عن أبي إسحاق، عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى قبلَ بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه قبلته قبل البيت وأنه صَلّى صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان يصلي معه، فمر على أهل المسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صَلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكَّة، فداروا كما هم قبل البيت (8) .
__________
(1) في ط: "جبريل".
(2) في أ: "بن عمر".
(3) المستدرك (2/269).
(4) في ط، أ، و: "الوجهة".
(5) في ط: "محمد أبي".
(6) رواه البيهقي في السنن الكبرى (2/ 9 ، 10) من طريق عمر بن حفص عن ابن جريج به، وقال البيهقي: "تفرد به عمر بن حفص المكي وهو ضعيف لا يحتج به، وروى بإسناد آخر ضعيف، عن عبد الله بن حبش كذلك مرفوعا، ولا يحتج بمثله، والله أعلم".
(7) زيادة من ج، ط،أ.
(8) رواه البخاري في صحيحه برقم (4486) عن أبي نعيم.
(1/459)
وقال عبد الرزاق: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء [قال] (1) لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحِب أن يحوَّل نحو الكعبة، فنزلت: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا] (2) } فصرف إلى الكعبة.
وروى النسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنا نَغْدُو إلى المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنمر على المسجد فنصلي فيه، فمررنا يومًا -ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر -فقلت: لقد حَدث أمر، فجلست، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } حتى فرغ من الآية. فقلت لصاحبي: تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكون أول من صلى، فتوارينا فصليناهما. ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فصلى للناس الظهر يومئذ (3) .
وكذا روى ابن مَرْدويه، عن ابن عمر: أن أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة صَلاةُ الظهر، وأنها الصلاة الوُسطى. والمشهور أن أول صلاة صلاها إلى الكعبة صلاة العصر، ولهذا تأخر الخبر عن أهل قباء إلى صلاة الفجر.
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا الحسين بن إسحاق التَّسْتَري، حدثنا رجاء بن محمد السقطي، حدثنا إسحاق بن إدريس، حدثنا إبراهيم بن جعفر، حدثني أبي، عن جدته أم أبيه نُوَيلة بنت مسلم، قالت: صَلَّينا الظهر -أو العصر (4) -في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا ركعتين، ثم جاء مَنْ يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام، فتحول النساءُ مكان (5) الرجال، والرجالُ مكان (6) النساء، فصلينا السجدتين الباقيتين، ونحن مستقبلون (7) البيت الحرام. فحدثني رجل من بني حارثة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أولئك رجال يؤمنون بالغيب" (8) .
وقال ابن مردويه أيضًا: حدثنا محمد بن علي بن دُحَيْم، حدثنا أحمد بن حازم، حدثنا مالك بن إسماعيل النهدي، حدثنا قيس، عن زياد بن علاقة، عن عُمَارة بن أوس قال: بينما نحن في الصلاة نحو بيت المقدس، ونحن ركوع، إذ أتى مناد بالباب: أن القبلة قد حُوِّلت إلى الكعبة. قال: فأشهد على إمامنا أنه انحرف فتحوَّل هو والرِّجال والصبيان، وهم ركوع، نحو الكعبة (9) .
وقوله: { وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } أمَرَ تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض، شرقًا وغربًا وشمالا وجنوبًا، ولا يستثنى من هذا شَيء، سوى النافلة في حال السفر، فإنه
__________
(1) زيادة من جـ، ط، و.
(2) زيادة من جـ.
(3) سنن النسائي الكبرى (11004).
(4) في جـ: "الظهر والعصر".
(5) في أ: "موضع".
(6) في أ: "موضع".
(7) في أ: "ونحن مستقبلو".
(8) المعجم الكبير (25/43) وقال الهيثمي في المجمع (2/14) "فيه إسحاق بن إدريس الأسواري وهو ضعيف متروك".
(9) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (1/335) عن شبابة عن قيس عن زياد به
(1/460)
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
يصليها حيثما توجه قَالبُه، وقَلْبُه نحو الكعبة. وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل حال، وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده، وإن كان مخطئًا في نفس الأمر، لأن الله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها.
مسألة: وقد استدل المالكية بهذه الآية على أن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده كما ذهب إليه الشافعي وأحمد وأبو حنيفة، قال المالكية لقوله: { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } فلو نظر إلى موضع سجوده لاحتاج أن يتكلف ذلك بنوع من الانحناء وهو ينافي كمال القيام. وقال بعضهم: ينظر المصلي في قيامه إلى صدره. وقال شريك القاضي: ينظر في حال قيامه إلى موضع سجوده كما قال جمهور الجماعة، لأنه أبلغ في الخضوع وآكد في الخشوع وقد ورد به الحديث، وأما في حال ركوعه فإلى موضع قدميه، وفي حال سجوده إلى موضع أنفه وفي حال قعوده إلى حجره.
وقوله: { وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ } أي: واليهودُ -الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس -يعلمون أن الله تعالى سَيُوجهك إليها، بما في كتبهم عن أنبيائهم، من النعت والصفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمَّته، وما خصه الله تعالى به وشَرفه من الشريعة الكاملة العظيمة، ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسدًا وكفرًا وعنادًا؛ ولهذا يهددهم تعالى بقوله: { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } (1) .
{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) }
يخبر تعالى (2) عن كُفر اليهود وعنادهم، ومخالفتهم ما (3) يعرفونه من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لو أقام عليهم كل دليل على صحة ما جاءهم به، لما اتبعوه وتركوا أهواءهم (4) كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس: 96، 97] ولهذا قال هاهنا: { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } .
وقوله { وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ [وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ] } إخبار عن شدة متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما أمره الله تعالى به، وأنه كما هم مُسْتَمْسكون (5) بآرائهم وأهوائهم، فهو أيضًا مستمسك (6) بأمر الله وطاعته واتباع مرضاته، وأنه لا يتبع أهواءهم في جميع أحواله، وما كان (7) متوجها إلى بيت المقدس؛ لأنها (8) قبلة اليهود، وإنما ذلك عن أمر الله تعالى (9) . ثم حذر [الله] (10) تعالى عن مخالفة
__________
(1) في جـ، ط: "تعلمون".
(2) في جـ: "يخبر تبارك وتعالى".
(3) في جـ: "ومخالفتهم لما".
(4) في جـ: "وتركوا أهوائهم " وهو خطأ.
(5) في جـ، ط: "متمسكون".
(6) في جـ، ط: "متمسك".
(7) في جـ، ط: "ولا كان".
(8) في جـ، ط: "لكونها".
(9) في جـ: "الله تعالى وطاعته".
(10) زيادة من جـ.
(1/461)
الحق الذي يعلمه العالم إلى الهوى؛ فإن العالم الحجة عليه أقوم من غيره. ولهذا قال مخاطبا للرسول، والمراد الأمة: { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ } [البقرة: 145] .
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
البقرة - تفسير ابن كثير
الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) }
يخبر تعالى (1) أنّ علماء أهل الكتاب يعرفون صِحّة ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم [كما يعرفون أبناءهم] (2) كما يعرف أحدُهم ولده، والعربُ كانت تضرب المثل في صحة الشيء بهذا، كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل معه صغير: "ابنك هذا؟" قال: نعم يا رسول الله، أشهد به. قال: "أما إنه لا يَجْنِي عليك ولا تجْنِي عليه" (3) .
[قال القرطبي: ويروى أن عمر قال لعبد الله بن سلام: أتعرف محمدًا صلى الله عليه وسلم كما تعرف ولدك ابنك، قال: نعم وأكثر، نزل الأمين من السماء على الأمين، في الأرض بنعته فعرفته، وإني لا أدري ما كان من أمره. قلت: وقد يكون المراد { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } من بين أبناء الناس لا يشك أحد ولا يتمارى في معرفة ابنه إذا رآه من بين أبناء الناس كلهم] (4) .
ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقق (5) والإتقان العلمي { لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ } أي: ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم { وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
ثم ثبّت تعالى نبيه (6) والمؤمنين وأخبرهم بأن ما جاء (7) به الرسول (8) صلى الله عليه وسلم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك، فقال: { الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }
{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) }
قال العوفي، عن ابن عباس: { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } يعني بذلك: أهل الأديان، يقول: لكل قبلة يرضونها، ووجهة الله حيث توجه المؤمنون.
وقال أبو العالية: لليهودي وجهة هو موليها، وللنصراني وجهة هو موليها، وهَداكم أنتم أيتها الأمة [الموقنون] (9) للقبلة التي هي القبلة. وروي عن مجاهد، وعطاء، والضحاك، والربيع بن أنس، والسدي نحو هذا.
__________
(1) في جـ: "يخبر تبارك وتعالى".
(2) زيادة من ط.
(3) رواه أحمد في المسند (2/226 ، 228) وأبو داود في السنن برقم (4495).
(4) زيادة من ج، ط، أ.
(5) في جـ، ط، أ، و: "التحقيق".
(6) في جـ: "النبي صلى الله عليه وسلم".
(7) في ط: "ما جاءهم به".
(8) في جـ: "النبي".
(9) زيادة من جـ.
(1/462)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
وقال مجاهد في الرواية الأخرى: ولكن أمَرَ كلَّ قوم أن يصلوا إلى الكعبة.
وقرأ ابن عباس، وأبو جعفر الباقر، وابن عامر: "ولكلٍ وجهة هو مُوَلاها".
وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا } [المائدة: 48] .
وقال هاهنا: { أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي: هو قادر على جمعكم من الأرض، وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم.
{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) }
هذا أمر ثالث من الله تعالى (1) باستقبال المسجد الحرام، من جميع أقطار الأرض.
وقد اختلفوا في حكمة هذا التكرار ثلاث مرات، فقيل: تأكيد لأنه أول ناسخ وقع، في الإسلام على ما نص عليه ابن عباس وغيره، وقيل: بل هو منزل على أحوال، فالأمر الأول لمن هو مشاهد الكعبة، والثاني لمن هو في مكة غائبًا عنها، والثالث لمن هو في بقية البلدان، هكذا وجهه فخر الدين الرازي. وقال القرطبي: الأول لمن هو بمكة، والثاني لمن هو في بقية الأمصار، والثالث لمن خرج، في الأسفار، ورجح هذا الجواب القرطبي، وقيل: إنما ذكر ذلك لتعلقه بما قبله أو بعده من السياق، فقال: أولا { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } إلى قوله: { وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } فذكر في هذا المقام إجابته إلى طلبته وأمره بالقبلة التي كان يود التوجه إليها ويرضاها؛ وقال في الأمر الثاني: { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } فذكر أنه الحق من الله وارتقى عن المقام الأول، حيث كان موافقًا لرضا الرسول صلى الله عليه وسلم فبين أنه الحق أيضًا من الله يحبه ويرتضيه، وذكر في الأمر الثالث حكمة قطع حجة المخالف من اليهود الذين كانوا يتحججون باستقبال الرسول إلى قبلتهم، وقد كانوا يعلمون بما في كتبهم أنه سيصرف إلى قبلة إبراهيم، عليه السلام، إلى الكعبة، وكذلك مشركو العرب انقطعت حجتهم لما صرف الرسول صلى الله عليه وسلم عن قبلة اليهود إلى قبلة إبراهيم التي هي أشرف، وقد كانوا يعظمون الكعبة وأعجبهم استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم إليها، وقيل غير ذلك من الأجوبة عن حكمة التكرار، وقد بسطها فخر الدين وغيره، والله -سبحانه وتعالى -أعلم.
__________
(1) في جـ: "من الله تبارك وتعالى".
(1/463)
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
وقوله: { لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } أي: أهل الكتاب؛ فإنهم يعلمون من صفة هذه الأمة التوجه إلى الكعبة، فإذا فقدوا ذلك من صفتها ربما احتجوا بها على المسلمين أو لئلا يحتجوا بموافقة المسلمين إياهم في التوجه إلى بيت المقدس. وهذا أظهر.
قال أبو العالية: { لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } يعني به أهل الكتاب حين قالوا: صُرف محمد إلى الكعبة.
وقالوا: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه (1) ودين قومه. وكان حجتهم على النبي صلى الله عليه وسلم انصرافه إلى البيت الحرام أن قالوا: سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا.
قال ابن أبي حاتم: وروى عن مجاهد، وعطاء، والضحاك، والربيع بن أنس، وقتادة، والسدي، نحو هذا.
وقال هؤلاء في قوله: { إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } يعني: مشركي قريش.
ووجه بعضهم حُجّة الظلمة -وهي داحضة -أن قالوا: إن هذا الرجل يزعمُ أنه على دين إبراهيم: فإن كان توجّهه إلى بيت المقدس على ملة إبراهيم، فلم رجع عنه؟ والجواب: أن الله تعالى اختار له التوجه إلى بيت المقدس أولا لما له تعالى في ذلك من الحكمة، فأطاع ربه تعالى في ذلك، ثم صرفه إلى قبلة إبراهيم -وهي الكعبة -فامتثل أمر الله في ذلك أيضًا، فهو، صلوات الله وسلامه عليه، مطيع لله في جميع أحواله، لا يخرج عن أمر الله طرفة عين، وأمتهُ تَبَع له.
وقوله: { فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي } أي: لا تخشوا شُبَهَ الظلمة المتعنتين، وأفْرِدُوا الخشية لي، فإنه تعالى هو أهل أن يخشى منه.
وقوله: { وَلأتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } عطف على { لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } أي: ولأتم نعمتي عليكم فيما شرعت لكم من استقبال الكعبة، لتكمل لكم الشريعة من جميع وجوهها { وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي: إلى ما ضَلّت عنه الأمم هديناكم إليه، وخَصصْناكم به، ولهذا كانت هذه الأمة أشرفَ الأمم وأفضلها.
{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) }
يُذكر تعالى عباده المؤمنين ما أنعم به عليهم من بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، يتلو عليهم آيات الله مبينات وَيُزَكِّيهم، أي: يطهرهم من رذائل الأخلاق ودَنَس النفوس وأفعال الجاهلية، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويعلمهم الكتاب -وهو القرآن -والحكمة -وهي السنة -ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون. فكانوا في الجاهلية الجَهْلاء يُسفَهُون بالقول الفرَى، فانتقلوا ببركة رسالته، ويُمن سفارته، إلى حال الأولياء، وسجايا العلماء فصاروا أعمق الناس علمًا، وأبرهم قلوبًا، وأقلهم تكلفًا، وأصدقهم لهجة. وقال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ }
__________
(1) في أ: "في بيت الله".
(1/464)
الآية [آل عمران: 164]. وذم من لم يعرف قدر هذه النعمة، فقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } [ إبراهيم: 28].
قال ابن عباس: يعني بنعمة الله محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا نَدَب الله المؤمنين إلى الاعتراف بهذه النعمة ومقابلتها بذكره وشكره، فقال: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ } .
قال مجاهد في قوله: { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ } (1) يقول: كما فعلت فاذكروني.
قال عبد الله بن وهب، عن هشام بن سعيد، عن زيد بن أسلم: أن موسى، عليه السلام، قال: يا رب، كيف أشكرك؟ قال له ربه: تذكرُني ولا تنساني، فإذا ذكرتني فقد شكرتني، وإذا نسيتني فقد كفرتني.
وقال الحسن البصري، وأبو العالية، والسدي، والربيع بن أنس، إن الله يذكر من ذكره، ويزيد من شكره ويعذب من كفره.
وقال بعض السلف في قوله تعالى: { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [آل عمران: 102] قال: هو أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا يُنْسَى، ويُشْكَرَ فلا يُكْفَر.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا عمارة الصيدلاني، حدثنا مكحول الأزدي قال: قلت لابن عمر: أرأيت قاتل النفس، وشارب الخمر والسارق والزاني يذكر الله، وقد قال الله تعالى: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } ؟ قال: إذا ذكر الله هذا ذكره الله بلعنته، حتى يسكت.
وقال الحسن البصري في قوله: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } قال: اذكروني، فيما افترضت عليكم أذكركم فيما أوجبت لكم على نفسي.
وعن سعيد بن جبير: اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي، وفي رواية: برحمتي.
وعن ابن عباس في قوله { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } (2) قال: ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه.
وفي الحديث الصحيح: "يقول الله تعالى: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه".
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: يا ابن آدم، إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي، وإن ذكرتني في ملإ ذكرتك، في ملإ من الملائكة -أو قال: [في] (3) ملأ خير منهم -وإن دنوت مني شبرًا دنوت منك ذراعًا، وإن دنوت مني ذراعا دنوت منك باعا، وإن أتيتني تمشي أتيتك أهرول"
صحيح الإسناد: أخرجه البخاري من حديث قتادة (4) . وعنده قال قتادة: الله أقرب بالرحمة.
وقوله تعالى: { وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ } أمر الله تعالى بشكره، ووعده على شكره بمزيد الخير، فقال: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [إبراهيم: 7] .
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا شعبة، عن الفضيل (5) بن فضالة -رجل من قيس-
__________
(1) في ط: "فيكم" وهو خطأ.
(2) في هـ: "اذكروني" والمثبت من ط.
(3) زيادة من أ، والمسند.
(4) المسند (3/138) وصحيح البخاري برقم (7536).
(5) في أ: "عن الفضل".
(1/465)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
حدثنا أبو رجاء العطاردي، قال: خرج علينا عمران بن حصين وعليه مطْرف من خز لم نره (1) عليه قبل ذلك ولا بعده، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أنعم الله عليه نعمة فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على خلقه". وقال روح مرة: "على عبده" (2) .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) }
__________
(1) في أ: "لم يرد".
(2) المسند (4/438).
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
البقرة - تفسير ابن كثير
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
{ وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) }
لما فرغ تعالى (1) من بيان الأمر بالشكر شرع في بيان الصبر، والإرشاد إلى الاستعانة بالصبر والصلاة، فإن العبد إما أن يكون في نعمة فيشكر عليها، أو في نقمة فيصبر عليها؛ كما جاء في الحديث: "عجبًا للمؤمن. لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له: إن أصابته سراء، فشكر، كان خيرًا له؛ وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرًا له".
وبين تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب الصبر والصلاة، كما تقدم في قوله: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ } [البقرة: 45] . وفي الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَه أمر صلى (2) . والصبر صبران، فصبر على ترك المحارم والمآثم وصبر على فعل الطاعات والقربات. والثاني أكثر ثوابًا لأنه المقصود. كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الصبر في بابين، الصبر لله بما أحب، وإن ثقل على الأنفس (3) والأبدان، والصبر لله عما كره وإن نازعت إليه الأهواء. فمن كان هكذا، فهو من الصابرين الذين يسلم عليهم، إن شاء الله.
وقال علي بن الحسين زين العابدين: إذا جمع الله الأولين والآخرين ينادي مناد: أين الصابرون ليدخلوا الجنة قبل الحساب؟ قال: فيقوم عُنُق من الناس، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: إلى أين يا بني آدم؟ فيقولون: إلى الجنة. فيقولون: وقبل الحساب؟ قالوا: نعم، قالوا: ومن أنتم؟ قالوا: الصابرون، قالوا: وما كان صبركم؟ قالوا: صبرنا على طاعة الله، وصبرنا عن معصية الله، حتى توفانا الله. قالوا: أنتم كما قلتم، ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين.
قلت: ويشهد لهذا قوله تعالى: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر: 10] .
وقال سعيد بن جبير: الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب منه، واحتسابه عند الله رجاء ثوابه، وقد يجزع الرجل وهو مُتَجَلّد لا يرى منه إلا الصبر.
وقوله تعالى: { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ } يخبر تعالى أن الشهداء في بَرْزَخِهم أحياء يرزقون، كما جاء في صحيح مسلم: "إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت (4) ثم تأوي إلى قناديل مُعَلَّقة تحت العرش، فاطَّلع عليهم ربك اطِّلاعَة،
__________
(1) في جـ: "لما فرغ تبارك وتعالى".
(2) رواه أبو داود في السنن برقم (1319) من حديث حذيفة رضي الله عنه.
(3) في جـ: "وإن تقتل عليه الأنفس" وفي ط: "فإن ثقل على الأنفس".
(4) في أ: "حيث ما شاءت".
(1/446)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
فقال: ماذا تبغون؟ فقالوا: يا ربنا، وأيّ شيء نبغي، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك؟ ثم عاد إليهم بمثل هذا، فلما رأوا أنهم لا يُتْرَكُون من أن يسألوا، قالوا: نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا، فنقاتل في سبيلك، حتى نقتل فيك مرة أخرى؛ لما يرون من ثواب الشهادة -فيقول الرب جلّ جلاله: إني كتبتُ أنَّهم إليها لا يرجعون" (1) .
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد، عن الإمام الشافعي، عن الإمام مالك، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَسَمَةُ المؤمن طائر تَعْلَقُ في شجر الجنة، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه" (2) .
ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضًا، وإن كان الشهداء قد خصِّصُوا (3) بالذكر في القرآن، تشريفًا لهم وتكريمًا وتعظيما (4) .
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) }
أخبر تعالى أنه يبتلي عباده [المؤمنين] (5) أي: يختبرهم ويمتحنهم، كما قال تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [محمد: 31] فتارة بالسراء، وتارة بالضراء من خوف وجوع، كما قال تعالى: { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ } [النحل: 112] فإن الجائع والخائف كل منهما يظهر ذلك عليه؛ ولهذا قال: لباس الجوع والخوف. وقال هاهنا { بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ } أي: بقليل من ذلك { وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ } أي: ذهاب بعضها { وَالأنْفُسِ } كموت الأصحاب والأقارب والأحباب { وَالثَّمَرَاتِ } أي: لا تُغِلّ الحدائق والمزارع كعادتها. كما قال بعض السلف: فكانت بعض النخيل لا تثمر غير واحدة. وكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده، فمن صبر أثابه [الله] (6) ومن قنط أحل [الله] (7) به عقابه. ولهذا قال: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ }
وقد حكى بعضُ المفسرين أن المراد من الخوف (8) هاهنا: خوف الله، وبالجوع: صيام رمضان، ونقص (9) الأموال: الزكاة، والأنفس: الأمراض، والثمرات: الأولاد.
وفي هذا نظر، والله أعلم.
ثم بيَنَّ تعالى مَنِ الصابرون (10) الذين شكرهم، قال: { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } أي: تسلَّوا بقولهم هذا عما أصابهم، وعلموا أنَّهم ملك لله يتصرف في عبيده
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1887) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ولفظه مختلف لكن معناه واحد.
(2) المسند (3/455).
(3) في جـ: "قد خصوا".
(4) في جـ: "تعظيما وتكريما".
(5) زيادة من جـ.
(6) زيادة من جـ.
(7) زيادة من جـ.
(8) في جـ: "أن المراد بالخوف".
(9) في جـ: "وبنقص".
(10) في جـ:"الصابرين".
(1/467)
بما (1) يشاء، وعلموا أنه لا يضيع لديه مثْقال ذرَّة يوم القيامة، فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم عبيده، وأنهم إليه راجعون في الدار الآخرة. ولهذا أخبر تعالى عما (2) أعطاهم على ذلك فقال: { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ } أي: ثناء من الله عليهم ورحمة.
قال سعيد بن جبير: أي أَمَنَةٌ من العذاب { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: نعم العدْلان ونعمت العلاوة { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } فهذان العدلان { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } فهذه العلاوة، وهي ما توضع بين العدلين، وهي زيادة في الحمل وكذلك هؤلاء، أعطوا ثوابهم وزيدوا (3) أيضًا.
وقد ورد في ثواب الاسترجاع، وهو قول (4) { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } عند المصائب أحاديث كثيرة. فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد:
حدثنا يونس، حدثنا ليث -يعني ابن سعد -عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن عمرو بن أبي عَمْرو، عن المطلب، عن أم سلمة قالت: أتاني أبو سلمة يومًا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا سُررْتُ به. قال: "لا يصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته، ثم يقول: اللهم أجُرني في مصيبتي واخلُف لي خيرًا منها، إلا فُعِل ذلك به". قالت أم سلمة: فحفظت ذلك منه، فلما توفي أبو سلمة استرجعت وقلت: اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منه، ثم رجعت إلى نفسي. فقلت: من أين لي خير (5) من أبي سلمة؟ فلما انقضت عدَّتي استأذن علي رسول الله صلى الله عليه وسلم -وأنا أدبغ إهابا لي -فغسلت يدي من القَرَظ (6) وأذنت له، فوضعت له وسادة أدم حَشْوُها ليف، فقعد عليها، فخطبني إلى نفسي، فلما فرغ من مقالته قلت: يا رسول الله، ما بي ألا يكون بك الرغبة، ولكني امرأة، فيّ غَيْرة شديدة، فأخاف أن ترى مني شيئًا يعذبني الله به، وأنا امرأة قد دخلتُ في السن، وأنا ذات عيال، فقال: "أما ما ذكرت من الغيرة فسوف يُذهبها (7) الله، عز وجل عنك. وأما ما ذكرت من السِّن فقد أصابني مثلُ الذي أصابك، وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي". قالت: فقد سلَّمْتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت أم سلمة بعد: أبدلني الله بأبي سلمة خيرًا منه، رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (8) .
وفي صحيح مسلم، عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } اللهم أجُرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها، إلا آجره الله من مصيبته، وأخلف له خيرا منها" قالت: فلما تُوُفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخلف الله لي خيرا منه: رسولَ الله صلى الله عليه وسلم (9) .
__________
(1) في جـ: "كيف".
(2) في جـ: "بما".
(3) في جـ: "ويزيدوا".
(4) في جـ: "وهو قوله".
(5) في ط: "خيرا".
(6) في أ: "القذى".
(7) في جـ: "من الغيرة فسيذهبها".
(8) المسند (4/27).
(9) صحيح مسلم برقم (918).
(1/468)
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، وعَبَّاد بن عباد قالا حدثنا هشام بن أبي هشام، حدثنا عباد بن زياد، عن أمه، عن فاطمة ابنة (1) الحسين، عن أبيها الحسين بن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها -وقال عباد: قدم عهدها -فيحدث لذلك استرجاعا، إلا جدد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب" (2) .
ورواه ابنُ ماجه في سُنَنه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وَكِيع، عن هشام بن زياد، عن أمه، عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها [الحسين] (3) (4) .
وقد رواه إسماعيل بن عُلَية، ويزيد بن هارون، عن هشام بن زياد (5) عن أبيه، كذا عن، فاطمة، عن أبيها.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق السالحيني، أخبرنا حماد بن سلمة، عن أبي سنان قال: دفنتُ ابنًا لي، فإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة -يعني الخولاني -فأخرجني، وقال لي: ألا أبشرك؟ قلت: بلى. قال: حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عرْزَب، عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله (6) :يا ملك الموت، قبضتَ ولد عبدي؟ قبضت قُرَّة عينه وثمرة فؤاده؟ قال نعم. قال: فما (7) قال؟ قال: حَمِدَك واسترجع، قال: ابنو له بيتًا في الجنة، وسمُّوه بيتَ الحمد".
ثم رواه عن علي بن إسحاق، عن عبد الله بن المبارك. فذكره (8) . وهكذا رواه الترمذي عن سُوَيد بن نصر، عن ابن المبارك ، به. (9) وقال: حسن غريب. واسم أبي سنان: عيسى بن سنان.
{ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) }
قال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي، أخبرنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: قلت: أرأيت قول الله تعالى: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } قلت: فوالله ما على أحد جناح أن لا يطَّوف بهما؟ فقالت عائشة: بئسما قلت يا ابن أختي إنها لو كانت على ما أوّلتَها (10) عليه كانت: فلا جناح عليه
__________
(1) في جـ: "بنت".
(2) المسند (1/201).
(3) زيادة من ط.
(4) سنن ابن ماجة برقم (1600) وقال البوصيري في الزوائد (1/528) "هذا إسناد فيه هشام بن زياد وهو ضعيف".
(5) في جـ، ط: "بن يزيد".
(6) في و: "إذا مات ولد العبد قال الله".
(7) في جـ: "فماذا".
(8) المسند (4/415).
(9) سنن الترمذي برقم (1021).
(10) في جـ: "كما أولتها".
(1/469)
ألا يطوف بهما، ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يُهِلّون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المُشلَّل. وكان من أهلَّ لها يتحرج أن يطوَّف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطَّوف بالصفا والمروة في الجاهلية. فأنزل الله عز وجل: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } إلى قوله: { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } قالت عائشة: ثم قد سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما، فليس لأحد أن يَدع الطواف بهما. أخرجاه في الصحيحين (1) .
وفي رواية عن الزهري أنه قال: فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فقال: إن هذا العلم، ما كنت سمعته، ولقد سمعتُ رجالا (2) من أهل العلم يقولون (3) إن الناس -إلا من ذكرتْ عائشة -كانوا يقولون: إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية. وقال آخرون من الأنصار: إنما أمرنا بالطواف بالبيت، ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } قال أبو بكر بن عبد الرحمن: فلعلها نزلت في هؤلاء وهؤلاء.
ورواه البخاري من حديث مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة (4) بنحو ما تقدم. ثم قال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن عاصم بن سُليمان قال: سألت أنسًا عن الصفا والمروة قال: كنا نرى ذلك (5) من أمر الجاهلية، فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله عز وجل: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } (6) .
وذكر القرطبي (7) في تفسيره عن ابن عباس قال: كانت الشياطين تفرق بين الصفا والمروة الليل كله، وكانت بينهما آلهة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الطواف بينهما، فنزلت هذه الآية. وقال الشعبي: كان إساف على الصفا، وكانت نائلة على المروة، وكانوا يستلمونهما فتحرجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما، فنزلت هذه الآية. قلت: وذكر ابن إسحاق في كتاب السيرة (8) أن إسافا ونائلة كانا بشرين، فزنيا داخل الكعبة فمسخا حجرين فنصبتهما قُريش تجاه الكعبة ليعتبر بهما الناس، فلما طال عهدهما عبدا، ثم حولا إلى الصفا والمروة، فنصبا هنالك، فكان من طاف بالصفا والمروة يستلمهما، ولهذا يقول أبو طالب، في قصيدته المشهورة:
وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم ... بمفضى السيول من إساف ونائل ...
وفي صحيح مسلم [من] (9) حديثُ جابر الطويلُ، وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه
__________
(1) المسند (6/144) وصحيح البخاري برقم (1643).
(2) في جـ: "رجلا".
(3) في جـ: "يقول".
(4) صحيح البخاري برقم (4495).
(5) في جـ: "أنها".
(6) صحيح البخاري برقم (4496).
(7) في أ: "وذكر الطبري".
(8) السيرة النبوية لابن إسحاق (رقم النص 4) ط، حميد الله، المغرب.
(9) زيادة من جـ.
(1/470)
بالبيت، عاد إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من باب الصفا، وهو يقول: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } ثم قال: "أبدأ بما بدأ الله به". وفي رواية النسائي: "ابدؤوا بما بدأ الله به" (1) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا شريح، حدثنا عبد الله بن المؤمل، عن عطاء بن أبي رباح، عن صفية بنت شيبة، عن حَبِيبة بنت أبي تجراة (2) قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة، والناس بين يديه، وهو وراءهم، وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره، وهو يقول: "اسعَوا، فإن الله كتب عليكم السعي" (3) .
ثم رواه الإمام أحمد، عن عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن واصل -مولى أبي عُيَينة -عن موسى بن عبيدة (4) عن صفية بنت شيبة، أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول: "كتب عليكم السعي، فاسعوا" (5) .
وقد استُدلّ بهذا الحديث على مذهب من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج، كما هو مذهب الشافعي، ومن وافقه [ورواية عن أحمد وهو المشهور عن مالك] (6) . وقيل: إنه واجب، وليس بركن [فإن تركه عمدًا أو سهوا جبره بدم وهو رواية عن أحمد وبه تقول طائفة وقيل: بل مستحب، وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري والشعبي وابن سيرين، وروي عن أنس وابن عمر وابن عباس، وحكي عن مالك في العتبية، قال القرطبي: واحتجوا بقوله: { فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا } ] (7) . وقيل: بل مستحب. والقول الأول أرجح، لأنه عليه السلام طاف بينهما، وقال: "لتأخذوا عني مناسككم". فكل ما فعله في حَجته تلك واجب لا بد من فعله في الحج، إلا ما خرج بدليل، والله أعلم [وقد تقدم قوله عليه السلام: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي"] (8) .
فقد بين الله-تعالى -أن الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله، أي: مما شرع الله تعالى لإبراهيم الخليل في مناسك الحج، وقد تقدم في حديث ابن عباس أن أصل ذلك مأخوذ من تطواف (9) هاجر وتردادها بين الصفا والمروة في طلب الماء لولدها، لما نفد ماؤها وزادُها، حين تركهما إبراهيم -عليه السلام -هنالك ليس عندهما أحد من الناس، فلما خافت الضيعة على ولدها هنالك، ونفد ما عندها قامت تطلب الغوث من الله، عز وجل، فلم تزل تردد (10) في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة متذللة خائفة وجلة مضطرة فقيرة إلى الله، عز وجل، حتى كشف الله كربتها، وآنس غربتها، وفرج شدتها، وأنبع لها زمزم التي ماؤها طعام طعم، وشفاء سقم، فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله في هداية قلبه وصلاح حاله وغفران ذنبه، وأن يلتجئ إلى الله،
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1218).
(2) في جـ: "بنت أبي تجر".
(3) المسند (6/421).
(4) في أ: "بن عبدة".
(5) المسند (6/437).
(6) زيادة من جـ، ط، أ.
(7) زيادة من جـ، ط، أ.
(8) زيادة من جـ، ط، أ.
(9) في جـ: "تطوف" وفي أ: "طواف".
(10) في جـ: "تزل تتردد".
(1/471)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
عز وجل ،ليُزيح ما هو به من النقائص والعيوب، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم (1) وأن يثبته عليه إلى مماته، وأن يحوّله من حاله الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي، إلى حال الكمال والغُفران والسداد والاستقامة، كما فعل بهاجر -عليها السلام.
وقوله: { فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا } (2) قيل: زاد في طوافه بينهما على قدر الواجب ثامنة وتاسعة ونحو ذلك. وقيل: يطوف بينهما (3) في حجة تطوع، أو عمرة تطوع. وقيل: المراد تطوع خيرًا في سائر العبادات. حكى ذلك [فخر الدين] (4) الرازي، وعزي الثالث إلى الحسن البصري، والله أعلم. وقوله: { فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } أي: يثيب على القليل بالكثير { عَلِيمٌ } بقدر الجزاء فلا يبخس أحدا ثوابه و { لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء: 40].
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ (159) إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) }
هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسلُ من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدى النافع للقلوب، من بعد ما بينه الله -تعالى -لعباده في كتبه، التي أنزلها على رسله.
قال (5) أبو العالية: نزلت في أهل الكتاب، كتمُوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ثم أخبر أنهم (6) . يلعنهم كلّ شيء على صنيعهم ذلك، فكما أن العالم يستغفر له كلّ شيء، حتى الحوت في الماء والطير في الهواء، فهؤلاء (7) بخلاف العلماء [الذين يكتمون] (8) فيلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. وقد ورد في الحديث المسند من طرق يشد بعضها بعضًا، عن أبي هريرة، وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سُئِل عن علم فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار" (9) . والذي في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال: لولا آية في كتاب الله ما حدثتُ أحدًا شيئًا: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى } الآية (10) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عمار بن محمد، عن ليث بن أبي سليم،
__________
(1) في جـ: "إلى صراط مستقيم"، وفي ط: "إلى صراطه المستقيم".
(2) في أ، و: "ومن".
(3) في أ: "بها".
(4) زيادة من جـ، ط، أ.
(5) في جـ: "وقال".
(6) في جـ: "أنه".
(7) في جـ: "فهو".
(8) زيادة من جـ، ط.
(9) المسند (2/263) وقد توسع الحافظ الزيلعي في كتابه "تخريج أحاديث الكشاف" (1/252-257) في ذكر طرق هذا الحديث.
(10) صحيح البخاري برقم (118) وصحيح مسلم برقم (2492).
(1/472)
عن (1) المنهال بن عمرو، عن زاذان أبي عُمَر (2) عن البراء بن عازب، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، فقال: "إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه، فيسمع كل (3) دابة غير الثقلين، فتلعنه كل دابة سمعت صوته، فذلك قول الله تعالى: { أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ } يعني: دواب الأرض" (4) .
[ورواه ابن ماجة عن محمد بن الصباح عن عمار بن محمد به] (5) .
وقال عطاء بن أبي رباح: كل دابة والجن والإنس. وقال مجاهد: إذا أجدبت الأرض قالت البهائم: هذا من أجل عُصاة بني آدم، لعن الله عصاة بني آدم.
وقال أبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة { وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ } يعني تلعنهم ملائكة الله، والمؤمنون.
[وقد جاء في الحديث، أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان، وجاء في هذه الآية: أن كاتم العلم يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون، واللاعنون أيضًا، وهم كل فصيح وأعجمي إما بلسان المقال، أو الحال، أو لو كان له عقل، أو يوم القيامة، والله أعلم] (6) .
ثم استثنى الله تعالى من هؤلاء من تاب إليه فقال: { إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا } أي: رجعوا عما كانوا فيه وأصلحوا أعمالهم وأحوالهم وبينوا للناس ما كانوا كتموه { فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } وفي هذا دلالة على أن الداعية إلى كفر، أو بدعة إذا تاب إلى الله تاب الله عليه.
وقد ورد أن الأمم السابقة لم تكن التوبة تقبل (7) من مثل هؤلاء منهم، ولكن هذا من شريعة نبي التوبة ونبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه.
ثم أخبر تعالى عمن كفر به واستمرّ به الحالُ إلى مماته بأن { عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا } أي: في اللعنة التابعة (8) لهم إلى يوم القيامة (9) ثم المصاحبة لهم في نار جهنم التي { لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ } فيها، أي: لا ينقص عَمَّا هم فيه { وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ } أي: لا يغير (10) عنهم ساعة واحدة، ولا يفتَّر، بل هو متواصل دائم، فنعوذ بالله من ذلك.
وقال أبو العالية وقتادة: إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله، ثم تلعنه الملائكة، ثم يلعنه الناس أجمعون.
فصل: لا خلاف في جواز لعن الكفار، وقد كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وعمن بعده
__________
(1) في جـ: "قال".
(2) في أ: "زاذان بن عمر".
(3) في جـ، أ، و: "يسمعها".
(4) هذا قطعة من حديث طويل رواه أبو داود في السنن برقم (4753 ، 4754) والنسائي في السنن (4/78) من طريق زاذان به، وسيأتي ذكره عند قوله تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا) في تفسير سور إبراهيم.
(5) زيادة من جـ، ط، أ.
(6) زيادة من جـ، ط، أ.
(7) في جـ: "تقبل منهم".
(8) في جـ: "الباقية".
(9) في أ: "يوم الدين".
(10) في جـ، أ، و: "لا يفتر".
(1/473)
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
من الأئمة، يلعنون الكفرة في القنوت وغيره؛ فأما الكافر المعين، فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن لأنا لا ندري بما يختم له، واستدل بعضهم بهذه الآية: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } وقالت طائفة أخرى: بل يجوز لعن الكافر المعين. واختار ذلك الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي، ولكنه احتج بحديث فيه ضعف، واستدل غيره بقوله، عليه السلام، في صحيح البخاري في قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده، فقال رجل: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله" (1) قالوا: فعلَّة المنع من لعنه؛ بأنه يحب الله ورسوله فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يلعن، والله أعلم.
{ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) }
يُخبرُ تعالى عن تفرده بالإلهية، وأنه لا شريك له ولا عَديل له، بل هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لا إله إلا هو وأنه الرحمن الرحيم. وقد تقدم تفسير هذين الاسمين في أول السورة (2) . وفي الحديث عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد بن السكن، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } و { الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [آل عمران: 1، 2] " (3)
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (6780) من حديث عمر رضي الله عنه.
(2) في جـ، ط، أ، و: "في أول الفاتحة".
(3) رواه أبو داود في السنن برقم (1496) والترمذي في السنن برقم (3478) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
البقرة - تفسير ابن كثير
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) }
ثم ذكر الدليل على تفرده بالإلهية [بتفرده] (1) بخلق السموات والأرض وما فيهما، وما بين ذلك مما ذرأ وبرأ من المخلوقات الدالة على وحدانيته، فقال: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } يقول تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } تلك في [لطافتها و] (2) ارتفاعها واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها، وهذه الأرض في [كثافتها و] (3) انخفاضها وجبالها وبحارها وقفارها وَوِهَادها وعُمْرانها وما فيها من المنافع { وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } هذا يجيء ثم يذهب ويخلفه الآخر ويعقبه، لا (4) يتأخر عنه لحظة، كما قال تعالى: { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [يس: 40] وتارة يطول هذا ويقصر هذا، وتارة يأخذ هذا من هذا ثم يتقارضان، كما قال تعالى: { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } [الحج: 61] أي: يزيد من هذا في هذا، ومن هذا في هذا { وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ }
__________
(1) زيادة من جـ، ط.
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ.
(4) في ط: "ولا".
(1/474)
أي: في تسخير البحر لحمل السفن من جانب إلى جانب لمعاش الناس، والانتفاع بما عند أهل ذلك الإقليم، ونقل هذا إلى هؤلاء وما عند أولئك إلى هؤلاء (1) { وَمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } كما قال تعالى: { وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ } [يس: 33-36]{ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ } أي: على اختلاف أشكالها وألوانها ومنافعها وصغرها وكبرها، وهو يعلم ذلك كله ويرزقه لا يخفى عليه شيء من ذلك، كما قال تعالى: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [هود: 6]{ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ } أي: تارة تأتي بالرحمة وتارة تأتي بالعذاب، تارة (2) تأتي مبشرة (3) بين يدي السحاب، وتارة تسوقه، وتارة تجمعه، وتارة تفرقه، وتارة تصرفه، [ثم تارة تأتي من الجنوب وهي الشامية، وتارة تأتي من ناحية اليمن وتارة صبا، وهي الشرقية التي تصدم وجه الكعبة، وتارة دبور وهي غربية تفد من ناحية دبر الكعبة والرياح تسمى كلها بحسب مرورها على الكعبة. وقد صنف الناس في الرياح والمطر والأنواء كتبا كثيرة فيما يتعلق بلغاتها وأحكامها، وبسط ذلك يطول هاهنا، والله أعلم] (4) . { وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ } [أي: سائر بين السماء والأرض] (5) يُسَخَّر إلى ما يشاء الله (6) من الأراضي والأماكن، كما يصرفه تعالى: { لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي: في هذه الأشياء دلالات بينة على وحدانية الله تعالى، كما قال تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران: 190، 191] . وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه: أخبرنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا أبو سعيد الدَّشْتَكِيّ، حدثني أبي، عن أبيه، عن أشعث بن إسحاق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أتت قريش محمدًا صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد إنما نريد أن تدعو ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا، فنشتري به الخيل والسلاح، فنؤمن بك ونقاتل معك. قال: "أوثقوا (7) لي لئِنْ دعوتُ ربي فجعلَ لكم الصفا ذهبًا لتُؤْمنُنّ بي" فأوثقوا له، فدعا ربه، فأتاه جبريل فقال: إن ربك قد أعطاهم الصفا ذهبًا على أنهم إن لم يؤمنوا بك عذبهم عذابًا لم يعذبه أحدًا من العالمين. قال محمد صلى الله عليه وسلم: "ربّ لا بل دعني وقومي فلأدعهم يومًا بيوم". فأنزل الله هذه الآية: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ } الآية.
__________
(1) في جـ: "أولئك لهؤلاء".
(2) في جـ: "وتارة".
(3) في أ: "مسيرة".
(4) زيادة من جـ، ط، أ.
(5) زيادة من جـ، أ، و.
(6) في جـ: "مسخرا إلى ما شاء الله" وفي ط: "مسخر إلى ما يشاء الله".
(7) في أ: "أوقفوا".
(1/475)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
ورواه ابن أبي حاتم من وجه آخر، عن جعفر بن أبي المغيرة، به (1) . وزاد في آخره: وكيف يسألونك عن الصفا وهم يرون من الآيات ما هو أعظم من الصفا.
وقال ابن أبي حاتم أيضًا: حدثنا أبي، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي نَجيح، عن عطاء، قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } فقال كفار قريش بمكة: كيف يسع الناس إله واحد؟ فأنزل الله تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ } إلى قوله: { لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
فبهذا يعلمون أنه إله واحد، وأنه إله كل شيء وخالق كل شيء.
وقال وكيع: حدثنا سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى قال: لما نزلت: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } إلى آخر الآية، قال المشركون: إن كان هكذا فليأتنا بآية. فأنزل الله عز وجل: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } إلى قوله: { يَعْقِلُونَ }
ورواه آدم بن أبي إياس، عن أبي جعفر -هو الرازي -عن سعيد بن مسروق، والد سفيان، عن أبي الضحى، به.
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) }
يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا وما لهم في الدار الآخرة، حيث جعلوا [له] (2) أندادًا، أي: أمثالا ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه، وهو الله لا إله إلا هو، ولا ضد له ولا ندَّ له، ولا شريك معه. وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندًا وهو خلَقَك" (3) .
وقوله: { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } ولحبهم لله وتمام معرفتهم به، وتوقيرهم وتوحيدهم له، لا يشركون به شيئًا، بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه، ويلجؤون في جميع أمورهم إليه. ثم تَوَعَّدَ تعالى المشركين به، الظالمين لأنفسهم بذلك فقال: { وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } .
__________
(1) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (12/12) من طريق يحيى الحماني عن يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة به نحوه.
(2) زيادة من جـ.
(3) صحيح البخاري برقم (4477) وصحيح مسلم برقم (68).
(1/476)
قال بعضهم: تقدير الكلام: لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعًا، أي: إن الحكم له (1) وحده لا شريك له، وأن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه { وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } كما قال: { فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } [الفجر: 25 ، 26] يقول: لو علموا ما يعاينونه (2) هنالك، وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم، لانتهوا عما هم فيه من الضلال.
ثم أخبر عن كفرهم بأوثانهم وتبرؤ المتبوعين من التابعين، فقال: { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ] (3) } تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في دار الدنيا، فتقول الملائكة: { تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } [القصص: 63] ويقولون: { سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } [سبأ: 41] والجن أيضًا تتبرأ منهم، ويتنصلون من عبادتهم لهم، كما قال تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [الأحقاف: 5، 6] وقال تعالى: { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } [مريم: 81، 82] وقال الخليل لقومه: { إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } [العنكبوت: 25] وقال تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [سبأ: 31-33] وقال تعالى: { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [إبراهيم: 22].
وقوله: { وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ } أي: عَاينوا عذاب الله، وتقطَّعت بهم الحيَلُ وأسباب الخلاص ولم يجدوا عن النار مَعْدلا ولا مَصْرفا.
قال عطاء عن ابن عباس: { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ } قال: المودة. وكذا قال مجاهد في رواية ابن أبي نجيح.
وقوله: { وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا } أي: لو أن لنا عَوْدة (4) إلى
__________
(1) في جـ، ط: "إن الحكم لله".
(2) في جـ: "ما يعاينوه".
(3) زيادة من جـ.
(4) في ط: "دعوة".
(1/477)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
الدار الدنيا حتى نَتَبَرَّأ من هؤلاء ومن عبادتهم، فلا نلتفت إليهم، بل نوحد الله وحده بالعبادة. وهم كاذبون في هذا، بل لو رُدّوا لعادوا لما نهوا عنه. كما أخبر الله تعالى عنهم بذلك؛ ولهذا قال: { كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } أي: تذهب وتضمحل كما قال الله تعالى: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [الفرقان: 23] .
وقال تعالى: { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } الآية [إبراهيم: 18] ، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً } الآية [النور: 39] ؛ ولهذا قال تعالى: { وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (169) }
لما بين تعالى أنه لا إله إلا هو، وأنه المستقل بالخلق، شرع يبين أنه الرزاق لجميع خلقه، فذكر [ذلك] (1) في مقام الامتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالا من الله طيبًا، أي: مستطابًا في نفسه غير ضار للأبدان ولا للعقول، ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان، وهي: طرائقه ومسالكه فيما أضل أتباعه فيه من تحريم البَحَائر والسوائب والوصائل ونحوها مما زَينه لهم في جاهليتهم، كما في حديث عياض بن حمَار الذي في صحيح مسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله تعالى: إن كل ما أمنحُه (2) عبادي فهو لهم حلال" وفيه: "وإني خلقت عبادي حُنَفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحَرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم" (3) .
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن عيسى بن شيبة (4) المصري، حدثنا الحسين بن عبد الرحمن الاحتياطي، حدثنا أبو عبد الله الجوزجاني (5) -رفيق إبراهيم بن أدهم -حدثنا ابن جُرَيج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: تُليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا } فقام سعد بن أبي وقاص، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال. "يا سعد، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده، إن الرجل ليَقْذفُ اللقمة الحرام في جَوْفه ما يُتَقبَّل منه أربعين يومًا، وأيّما عبد نبت لحمه من السُّحْت والربا فالنار أولى به" (6) .
وقوله: { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } تنفير عنه وتحذير منه، كما قال: { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [فاطر: 6] وقال تعالى: { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا } [الكهف: 50] .
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في جـ، ط، أ، و: "كل مال منحته".
(3) صحيح مسلم برقم (2865).
(4) في جـ: "شعبة" وفي هـ: "شبة".
(5) في جـ: "الجرجاني".
(6) المعجم الأوسط للطبراني برقم (5026) "مجمع البحرين".
(1/478)
وقال قتادة، والسدي في قوله: { وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان.
وقال عكرمة: هي نزغات الشيطان، وقال مجاهد: خطاه، أو قال: خطاياه.
وقال أبو مِجْلزَ: هي النذور في المعاصي.
وقال الشعبي: نذر رجل أن ينحر ابنه فأفتاه مسروق بذبح كبش. وقال: هذا من خطوات الشيطان.
وقال أبو الضحى، عن مسروق: أتى عبد الله بن مسعود بضَرْع وملح، فجعل يأكل، فاعتزل رجل من القوم، فقال ابن مسعود: ناولوا صاحبكم. فقال: لا أريده. فقال: أصائم أنت؟ قال: لا. قال: فما شأنك؟ قال: حرمت أن آكل ضَرْعًا أبدا. فقال ابن مسعود: هذا من خطوات الشيطان، فاطْعَمْ وكفِّر عن يمينك.
رواه (1) ابن أبي حاتم، وقال أيضًا:
حدثنا أبي، حدثنا حَسَّان بن عبد الله المصْري، عن سليمان التيمي، عن أبي رافع، قال: غضبت على امرأتي، فقالت: هي يومًا يهودية ويوما نصرانية، وكل مملوك لها حر، إن لم تطلق امرأتك. فأتيت عبد الله بن عمر فقال: إنما هذه من خطوات الشيطان. وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة، وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة. وأتيت عاصمًا وابن عمر (2) فقالا مثل ذلك.
وقال عبد بن حميد: حدثنا أبو نعيم (3) عن شريك، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ما كان من يمين أو نذر في غَضَب، فهو من خطوات الشيطان، وكفارته كفارة يمين.
[وقال سعيد بن داود في تفسيره: حدثنا عبادة بن عباد المهلبي عن عاصم الأحول، عن عكرمة في رجل قال لغلامه: إن لم أجلدك مائة سوط فامرأته طالق، قال: لا يجلد غلامه، ولا تطلق امرأته هذا من خطوات الشيطان] (4) .
وقوله: { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } أي: إنما يأمركم عدوّكم الشيطان بالأفعال السيئة، وأغلظ منها الفاحشة كالزنا ونحوه، وأغلظ من ذلك وهو القول على الله بلا علم، فيدخل (5) في هذا كل كافر وكل مبتدع أيضًا.
__________
(1) في جـ: "روى هذا" وفي ط، أ، و: "رواهن".
(2) في ط: "عاصم بن عمر".
(3) في جـ: "عبد الله بن نعيم".
(4) زيادة من ج، ط.
(5) في ط: "فدخل".
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
البقرة - تفسير ابن كثير
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) }
يقول تعالى: { وَإِذَا قِيلَ } لهؤلاء الكفرة من المشركين: { اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ } على رسوله، واتركوا ما أنتم فيه (1) من الضلال والجهل، قالوا في جواب ذلك: { بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا } أي: وجدنا { عَلَيْهِ آبَاءَنَا } أي: من عبادة الأصنام والأنداد. قال الله تعالى منكرًا عليهم: { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ } أي: الذين يقتدون بهم ويقتفون أثرهم { لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ } أي: ليس لهم فهم ولا هداية!!.
وروى ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنها نزلت في طائفة من اليهود، دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا. فأنزل الله هذه الآية.
ثم ضرب لهم تعالى مثلا كما قال تعالى: { لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ } [النحل: 60] فقال: { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي: فيما هم فيه من الغي والضلال والجهل كالدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا نعق بها راعيها، أي: دعاها إلى ما يرشدها، لا تفقه ما يقول ولا تفهمه، بل إنما تسمع صوته فقط.
هكذا روي عن ابن عباس، وأبي العالية، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، والحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني والربيع بن أنس، نحو هذا.
وقيل: إنما هذا مثل ضرب لهم في دعائهم الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل شيئًا، اختاره ابن جرير، والأول أولى؛ لأن الأصنام لا تسمع شيئًا ولا تعقله ولا تبصره، ولا بطش لها ولا حياة فيها (2) . وقوله: { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } أي: صُمٌّ عن سماع الحق، بُكْمٌ لا يتفوهون به، عُمْيٌ عن رؤية طريقه ومسلكه { فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ } أي: لا يعقلون شيئًا ولا يفهمونه، كما قال تعالى: { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الأنعام: 39] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) }
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بالأكل من طَيبات ما رزقهم تعالى، وأن يشكروه على ذلك، إن كانوا عبيده، والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبولَ الدعاء والعبادة، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمامُ أحمد:
حدثنا أبو النضر، حدثنا الفُضَيل بن مرزوق، عن عدَيِّ بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة
__________
(1) في أ: "ما أنتم عليه".
(2) في أ: "لأن الأصنام لا تسمع دعاء ولا نداء بل هي جمادات لا تسمع شيئا".
(1/480)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [المؤمنون: 51] وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ثم ذكر الرجل يطيلُ السفر أشعث أغبر، يمدُّ يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك".
ورواه مسلم في صحيحه، والترمذي من حديث [فضيل] (1) بن مرزوق (2) .
ولما امتن تعالى عليهم برزقه، وأرشدهم إلى الأكل من طيبه، ذكر أنه لم يحرم عليهم من ذلك إلا الميتة، وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية، وسواء كانت منخنقة أو موقوذة أو مُتَردِّية أو نطيحة أو قد عدا عليها السبع.
وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر لقوله تعالى: { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } [المائدة: 96] على ما سيأتي، وحديث العنبر في الصحيح وفي المسند والموطأ والسنن قوله، عليه السلام، في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وروى الشافعي وأحمد وابن ماجة والدارقطني من حديث ابن عمر مرفوعًا: "أحل لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال" وسيأتي تقرير ذلك في سورة المائدة (3) .
ولبن الميتة وبيضها المتصل بها نجس عند الشافعي وغيره؛ لأنه جزء منها. وقال مالك في رواية: هو طاهر إلا أنه ينجس بالمجاورة، وكذلك أنفحة الميتة فيها الخلاف والمشهور عندهم أنها نجسة، وقد أوردوا على أنفسهم أكل الصحابة من جبن المجوس، فقال القرطبي في تفسيره هاهنا: يخالط اللبن منها يسير، ويعفى عن قليل النجاسة إذا خالط الكثير من المائع. وقد روى ابن ماجة من حديث سيف بن هارون، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء، فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه" (4) .
وكذلك حرم عليهم لحم الخنزير، سواء ذُكِّي أو مات حَتْف أنفه، ويدخُلُ شَحْمه في حكم لحمه (5) إما تغليبًا أو أن اللحم يشمل ذلك، أو بطريق القياس على رأي. و[كذلك] (6) حَرَّم عليهم ما أهِلَّ به لغير الله، وهو ما ذبح على غير اسمه (7) تعالى من الأنصاب والأنداد والأزلام، ونحو ذلك
__________
(1) زيادة من أ.
(2) المسند (2/328) وصحيح مسلم برقم (1015) وسنن الترمذي برقم (2989).
(3) وسيأتي تخريج الحديثين عند تفسير أول سورة المائدة.
(4) سنن ابن ماجة برقم (3367) ورواه الترمذي في السنن برقم (1726) من طريق سيف بن هارون به وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه". وروى سفيان وغيره عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان قوله، وكأن الحديث الموقوف أصح، وسألت البخاري عن هذا الحديث فقال: ما أراه محفوظا، روى سفيان عن سليمان التيمي عن أبي عثمان، عن سلمان موقوفا، قال البخاري: "وسيف بن هارون مقارب الحديث، وسيف بن محمد، عن عاصم ذاهب الحديث".
(5) في جـ: "ويدخل لحمه في حكم شحمه".
(6) زيادة من جـ، أ، و.
(7) في جـ: "غير اسم الله".
(1/481)
مما كانت الجاهلية ينحرون له. [وذكر القرطبي عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري: أنه سئل عن امرأة عملت عرسًا للعبها فنحرت فيه جزورًا فقال: لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم؛ وأورد القرطبي عن عائشة أنها سئلت عما يذبحه العجم في أعيادهم فيهدون منه للمسلمين، فقالت: ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوه، وكلوا من أشجارهم] (1) . ثم أباح تعالى تناول ذلك عند الضرورة والاحتياج إليها، عند فقد غيرها من الأطعمة، فقال: { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ } أي: في غير بغي ولا عدوان، وهو مجاوزة الحد { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } أي: في أكل ذلك { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
وقال مجاهد: فمن اضطر غير باغ ولا عاد، قاطعًا للسبيل، أو مفارقًا للأئمة، أو خارجًا في معصية الله، فله الرخصة، ومن خرج باغيًا أو عاديًا أو في معصية الله فلا رخصة له، وإن اضطر إليه، وكذا روي عن سعيد بن جبير.
وقال سعيد -في رواية عنه -ومقاتل بن حيان: غير باغ: يعني غير مستحله. وقال السدي: غير باغ يبتغي فيه شهوته، وقال عطاء الخراساني في قوله: { غَيْرَ بَاغٍ } [قال] (2) لا يشوي من الميتة ليشتهيه ولا يطبخه، ولا يأكل إلا العُلْقَة، ويحمل معه ما يبلغه الحلال، فإذا بلغه ألقاه [وهو قوله: { وَلا عَادٍ } يقول: لا يعدو به الحلال] (3) .
وعن ابن عباس: لا يشبع منها. وفسره السدي بالعدوان. وعن ابن عباس { غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ } قال: { غَيْرَ بَاغٍ } في الميتة { وَلا عَادٍ } في أكله. وقال قتادة: فمن اضطر غير باغ ولا عاد في (4) أكله: أن يتعدى حلالا إلى حرام، وهو يجد عنه مندوحة.
وحكى القرطبي عن مجاهد في قوله: { فَمَنِ اضْطُرَّ } أي: أكره على ذلك بغير اختياره.
مسألة: ذكر القرطبي إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير بحيث لا قطع فيه ولا أذى، فإنه لا يحل له أكل الميتة بل يأكل طعام الغير بلا خلاف -كذا قال -ثم قال: وإذا أكله، والحالة هذه، هل يضمنه أم لا؟ فيه قولان هما روايتان عن مالك، ثم أورد من سنن ابن ماجه من حديث شعبة عن أبي إياس جعفر بن أبي وحشية: سمعت عباد بن العنزي (5) قال: أصابتنا عامًا مخمصة، فأتيت المدينة (6) . فأتيت حائطا، فأخذت سنبلا ففركته وأكلته، وجعلت منه في كسائي، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال للرجل: "ما أطعمته إذ كان جائعا أو ساعيا، ولا علمته إذ كان جاهلا" (7) . فأمره فرد إليه ثوبه، وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق، إسناد صحيح قوي جيد وله شواهد كثيرة: من ذلك حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثمر المعلق، فقال: "من أصاب منه من ذي حاجة بفيه غير متخذ خبنة (8) فلا شيء عليه" (9) الحديث.
__________
(1) زيادة من جـ، أ.
(2) زيادة من جـ.
(3) زيادة من و.
(4) في جـ: "ولا عاد أي".
(5) في أ: "شرحيل الفتوى" وفي ط: "بشر العنزي" والصواب ما أثبتناه.
(6) في أ: "فأتيت الحتفية".
(7) سنن ابن ماجة برقم (2298).
(8) في أ: "غير منحن جيبه".
(9) رواه الترمذي في السنن برقم (1289) وقال: "هذا حديث حسن".
(1/482)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
وقال مقاتل بن حيان في قوله: { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فيما أكل من اضطرار، وبلغنا -والله أعلم -أنه لا يزاد (1) على ثلاث لقم.
وقال سعيد بن جبير: غفور لما أكل من الحرام. رحيم إذ أحل له الحرام في الاضطرار.
وقال وَكِيع: حدثنا الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: من (2) اضطُرَّ فلم يأكل ولم يشرب، ثم مات دخل النار.
[وهذا يقتضي أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة. قال أبو الحسن الطبري -المعروف بالكيا الهراسي رفيق الغزالي في الاشتغال: وهذا هو الصحيح عندنا؛ كالإفطار للمريض في رمضان ونحو ذلك] (3) .
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) }
يقول تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ } [مما يشهد له بالرسالة] (4) { مَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ } يعني اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بأيديهم، مما تشهد (5) له بالرسالة والنبوة، فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتحف على تعظيمهم إياهم، فخشوا -لعنهم الله -إن أظهروا ذلك أن يَتَّبعه الناس ويتركوهم، فكتموا ذلك إبقاء على ما كان يحصل لهم من ذلك، وهو نزرٌ يسير، فباعوا أنفسهم بذلك، واعتاضوا عن الهدى واتباع الحق وتصديق الرسول والإيمان بما جاء عن الله بذلك النزر اليسير، فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة؛ أما في الدنيا فإن الله أظهر لعباده صِدْقَ رسوله، بما نصبه وجعله معه من الآيات الظاهرات والدلائل القاطعات، فصدقه الذين كانوا يخافون أن يتبعوه، وصاروا عونًا له على قتالهم، وباؤوا بغضب على غضب، وذمهم الله في كتابه في غير (6) موضع. من ذلك هذه الآية الكريمة: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا } وهو عرض الحياة الدنيا { أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ } أي: إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق نارا تأجج في بطونهم يوم القيامة. كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [النساء: 10] وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب
__________
(1) في أ: "أنه لا يزيد".
(2) في جـ: "فمن".
(3) زيادة من جـ.
(4) زيادة من جـ.
(5) في أ: "كالعهد".
(6) في جـ، أ، و: "في غير ما".
(1/483)
والفضة، إنما يُجَرْجرُ في بطنه نار جهنم" (1) .
وقوله: { وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وذلك لأنه غضبانُ عليهم، لأنهم كتموا وقد علموا، فاستحقوا الغضب، فلا ينظر إليهم ولا يزكيهم، أي يثني (2) عليهم ويمدحهم بل يعذبهم عذابا أليما.
وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مَرْدُوَيْه هاهنا [الحديث الذي رواه مسلم أيضًا من] (3) حديث الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم [ولهم عذاب أليم] (4) شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر" (5) .
ثم قال تعالى مخبرا عنهم: { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى } أي: اعتاضوا عن الهدى، وهو نشر ما في كتبهم من صفة الرسول وذكر مبعثه والبشارة به من كتب الأنبياء واتباعه وتصديقه، استبدلوا عن ذلك واعتاضوا عنه بالضلالة، وهو تكذيبه والكفر به وكتمان صفاته في كتبهم { وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ } أي: اعتاضوا عن المغفرة بالعذاب وهو ما تعاطَوْه من أسبابه المذكورة.
وقوله تعالى: { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } يخبر تعالى أنَّهم في عذاب شديد عظيم هائل، يتعجَّبُ من رآهم فيها من صبرهم على ذلك، مع (6) شدة ما هم فيه من العذاب، والنكال، والأغلال عياذًا بالله من ذلك.
[وقيل معنى قوله: { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } أي: ما أدومهم لعمل المعاصي التي تفضي بهم إلى النار] (7) .
وقوله: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } أي: إنما استحقوا هذا العذاب الشديد لأن الله تعالى أنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الأنبياء قبله كتبه بتحقيق الحق وإبطال الباطل، وهؤلاء اتخذوا آيات الله هزوًا، فكتابهم يأمرهم بإظهار العلم ونشره، فخالفوه وكذبوه. وهذا الرسول الخاتم يدعوهم إلى الله تعالى، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وهم يكذبونه ويخالفونه ويجحدونه، ويكتمون صفته، فاستهزؤوا بآيات الله المنزلة على رسله؛ فلهذا استحقوا العذاب والنكال؛ ولهذا (8) قال: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } .
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5634) وصحيح مسلم برقم (2065) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
(2) في أ: "أي: لا يثني".
(3) زيادة من جـ، أ.
(4) زيادة من جـ، وصحيح مسلم.
(5) رواه مسلم في صحيحه رقم (107).
(6) في جـ، أ، و: "من".
(7) زيادة من أ.
(8) في جـ: "فلهذا".
================
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
البقرة - تفسير ابن كثير
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) }
اشتملت هذه الآية الكريمة، على جمَل عظيمة، وقواعد عميمة، وعقيدة مستقيمة، كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عُبيد (1) بن هشام الحلبي، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عامر بن شُفَي، عن عبد الكريم،عن مجاهد، عن أبي ذر: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان؟ فتلا عليه: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } إلى آخر الآية. قال: ثم سأله أيضًا، فتلاها عليه (2) ثم سأله. فقال: "إذا عملت حسنة أحبها (3) قلبك، وإذا عملت سيئة أبغضها (4) قلبك" (5) .
وهذا منقطع؛ فإن (6) مجاهدًا لم يدرك أبا ذر؛ فإنه مات قديمًا.
وقال المسعودي: حدثنا القاسم بن عبد الرحمن، قال: جاء رجل إلى أبي ذر، فقال: ما الإيمان؟ فقرأ (7) عليه هذه الآية: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } حتى فرغ منها. فقال الرجل: ليس عن البر سألتُكَ. فقال أبو ذر: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألتني عنه، فقرأ عليه هذه الآية، فأبى أن يرضى كما أبيت [أنت] (8) أ ن ترضى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم -وأشار بيده -: "المؤمن إذا عمل حسنة سَرته ورجا ثوابها، وإذا عمل سيئة أحزنته وخاف عقابها" (9) .
رواه ابن مَرْدُويه، وهذا أيضًا منقطع، والله أعلم.
وأما الكلام على تفسير هذه الآية، فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولا بالتوجه إلى بيت المقدس، ثم حوَّلهم إلى الكعبة، شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك، وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل، وامتثال أوامره، والتوجه حيثما وجه، واتباع ما شرع، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق إلى المغرب بر ولا طاعة، إن لم يكن عن أمر الله وشرعه؛ ولهذا قال: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } الآية، كما قال في الأضاحي والهدايا: { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } [الحج: 37] .
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية: ليس البر أن تُصَلُّوا ولا تعملوا. فهذا حين تحول من مكة إلى المدينة ونزلت الفرائض والحدود، فأمر الله بالفرائض والعمل بها.
__________
(1) في جـ: "حدثنا عبيدة".
(2) في جـ: "فتلا عليه".
(3) في جـ: "فأحبها".
(4) في جـ: "فأبغضها".
(5) ورواه محمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" برقم (409) من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن عبد الكريم، عن مجاهد به.
(6) في جـ: "لأن".
(7) في جـ: "فتلا".
(8) زيادة من أ.
(9) ورواه محمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" برقم (408) من طريق عبد الله بن يزيد والملائي، كلاهما عن المسعودي به نحوه، ورواه الحاكم (2/272) من طريق موسى بن أعين، عن عبد الكريم به نحوه، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" وتعقبه الذهبي: "قلت: وهو منقطع".
(1/485)
وروي عن الضحاك ومقاتل نحو ذلك.
وقال أبو العالية: كانت اليهود تُقْبل (1) قبل المغرب، وكانت النصارى تُقْبل (2) قبل المشرق، فقال الله تعالى: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } يقول: هذا كلام الإيمان وحقيقته (3) العمل. وروي عن الحسن والربيع بن أنس مثله.
وقال مجاهد: ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله، عز وجل.
وقال الضحاك: ولكن البر والتقوى أن تؤدوا الفرائض على وجوهها.
وقال الثوري: { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } الآية، قال: هذه أنواع البر كلها. وصدق رحمه الله؛ فإن من اتصف بهذه الآية، فقد دخل في عرى الإسلام كلها، وأخذ بمجامع الخير كله، وهو الإيمان بالله، وهو أنه لا إله إلا هو، وصدق بوجود الملائكة الذين هم سفرة بين الله ورسله { وَالْكِتَابِ } وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء، حتى ختمت بأشرفها، وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب، الذي انتهى إليه كل خير، واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة، ونسخ [الله] (4) به كل ما سواه من الكتب قبله، وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
وقوله: { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } أي: أخرجه، وهو مُحب له، راغب فيه. نص على ذلك ابن مسعود وسعيد بن جبير وغيرهما من السلف والخلف، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هُرَيرة مرفوعًا: "أفضل الصدقة أن تَصَدَّقَ وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر".
وقد روى الحاكم في مستدركه، من حديث شعبة والثوري، عن منصور، عن زُبَيد، عن مُرَّة، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } أن (5) تعطيه وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى (6) وتخشى الفقر". ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه (7) .
قلت وقد رواه وَكِيع عن الأعمش، وسفيان عن زبيد، عن مرة، عن ابن مسعود، موقوفًا، وهو أصح، والله أعلم.
وقال تعالى: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا } [الإنسان: 8، 9] .
وقال تعالى: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } [آل عمران: 92] وقوله: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [الحشر: 9] نمَط آخرُ أرفع من هذا [ومن هذا] (8) وهو أنهم آثروا بما هم مضطرون إليه، وهؤلاء أعطوا (9) وأطعموا ما هم محبون له.
وقوله: { ذَوِي الْقُرْبَى } وهم: قرابات الرجل، وهم أولى من أعطى من الصدقة، كما ثبت في
__________
(1) في جـ: "تتقبل".
(2) في جـ: "تتقبل".
(3) في جـ: "وحقيقة".
(4) زيادة من جـ.
(5) في أ: "أي".
(6) في أ: "العيش".
(7) المستدرك (2/272).
(8) زيادة من جـ.
(9) في جـ: "وهؤلاء أعطوه".
(1/486)
الحديث: "الصدقة على المساكين (1) صدقة، وعلى ذوي الرحم ثنتان: صدقة وصلة". فهم أولى الناس بك وببرك وإعطائك. وقد أمر الله تعالى بالإحسان إليهم في غير ما موضع من كتابه العزيز.
{ وَالْيَتَامَى } هم: الذين لا كاسب (2) لهم، وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والقدرة على التكسب، وقد قال عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمَر، عن جويبر، عن الضحاك، عن النزال بن سبرة، عن علي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا يُتْم بعد حُلُم".
{ وَالْمَسَاكِينَ } وهم: الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم، فيعطون ما تُسَدُّ به حاجتهم وخلتهم. وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس المسكين بهذا الطوَّاف الذي تَرده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له (3) فَيُتَصَدق عليه (4) .
{ وَابْنَ السَّبِيلِ } وهو: المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته فيعطى ما يوصله إلى بلده، وكذا الذي يريد سفرا في طاعة، فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه، ويدخل في ذلك الضيف، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس أنه قال: ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين، وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو جعفر الباقر، والحسن، وقتادة، والضحاك والزهري، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان.
{ وَالسَّائِلِينَ } وهم: الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا وَكِيع وعبد الرحمن، قالا حدثنا سفيان، عن مصعب بن محمد، عن يعلى بن أبي يحيى، عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها (5) -قال عبد الرحمن: حسين بن علي -قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للسائل حق وإن جاء على فرس". رواه أبو داود.
{ وَفِي الرِّقَابِ } وهم: المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم.
وسيأتي الكلام على كثير من هذه الأصناف (6) في آية الصدقات من براءة، إن شاء الله تعالى. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا شريك، عن أبي حمزة، عن الشعبي، حدثتني فاطمة بنت قيس: أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفي المال حق سوى الزكاة؟ قالت: فتلا علي { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } (7) .
ورواه ابن مَرْدُويه من حديث آدم بن أبي إياس، ويحيى بن عبد الحميد، كلاهما، عن شريك،
__________
(1) في أ: "على المسلمين".
(2) في أ: "لا مكاسب".
(3) في أ: "لا يجد ما يغنيه ولا ينظر له".
(4) صحيح البخاري برقم (1479) وصحيح مسلم برقم (1039).
(5) في جـ: "فاطمة بنت حسين عن أبيها" وفي أ: "فاطمة بنت حسين بن علي، عن حسين بن علي".
(6) في جـ: "من الأصناف هذه".
(7) هو في صحيح البخاري برقم (33) وصحيح مسلم برقم (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/487)
عن أبي حمزة عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في المال حق سوى الزكاة" ثم تلا (1) { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } إلى قوله: { وَفِي الرِّقَابِ }
[وقد أخرجه ابن ماجة والترمذي (2) وضعف أبا حمزة ميمونًا (3) الأعور، قال: وقد رواه بيان (4) وإسماعيل بن سالم عن الشعبي] (5) .
وقوله: { وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } أي: وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها، وسجودها، وطمأنينتها، وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي.
وقوله: { وَآتَى الزَّكَاةَ } يُحْتَمَلُ أن يكون المراد به زكاة النفس، وتخليصها من الأخلاق الدنية (6) الرذيلة، كقوله: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [الشمس:9 ، 10] وقول موسى لفرعون: { هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } [النازعات: 18، 19] وقوله تعالى: { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [فصلت: 6، 7] .
ويحتمل أن يكون المرادُ زكاة المال (7) كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان، ويكون المذكور من إعطاء (8) هذه الجهات والأصناف المذكورين إنما هو التطوع والبر والصلة؛ ولهذا تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس: أن في المال حقا سوى الزكاة، والله أعلم.
وقوله: { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا } كقوله: { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ } [الرعد: 20] وعكس هذه الصفة النفاق، كما صح في الحديث: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان". وفي الحديث الآخر:"إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" (9) .
وقوله: { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ } أي: في حال الفقر، وهو البأساء، وفي حال المرض والأسقام، وهو الضراء. { وَحِينَ الْبَأْسِ } أي: في حال القتال والتقاء الأعداء، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وأبو العالية، ومُرّة الهمداني، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان، وأبو مالك، والضحاك، وغيرهم.
وإنما نُصِبَ { وَالصَّابِرِينَ } على المدح والحث على الصبر في هذه الأحوال لشدته وصعوبته، والله أعلم، وهو المستعان وعليه التكلان.
وقوله: { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا } أي: هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صَدَقوا في إيمانهم؛ لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، فهؤلاء هم الذين صدقوا { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }
__________
(1) في جـ، أ، و: "ثم قرأ".
(2) سنن الترمذي برقم (659) وسنن ابن ماجة برقم (1789) وقال الترمذي: "هذا حديث ليس إسناده بذاك، وأبو حمزة يضعف في الحديث، وقد روى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي قوله، وهو أصح".
(3) في أ: "عونا".
(4) في جـ: "سيار" والصواب ما أثبتناه".
(5) زيادة من جـ، أ.
(6) في جـ: "الذميمة".
(7) في جـ: "زكاة الملك".
(8) في أ، و: "من أعطى".
(9) رواه مسلم في صحيحه برقم (58) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
(1/488)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) }
يقول تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ } العدلُ في القصاص -أيّها المؤمنون -حُرّكم (1) بحركم، وعبدكم بعبدكم، وأنثاكم بأنثاكم، ولا تتجاوزوا وتعتدوا، كما اعتدى من قبلكم وغيروا حكم الله فيهم، وسبب ذلك قريظة و[بنو] (2) النضير، كانت بنو النضير قد غزت قريظة في الجاهلية وقهروهم، فكان إذا قتل النضري القرظيَّ لا يقتل به، بل يُفَادَى بمائة وسق من التمر، وإذا قتل القرظي النضري قتل به، وإن فادَوْه فَدَوه بمائتي وسق من التمر ضعْف دية (3) القرظي، فأمر الله بالعدل في القصاص، ولا يتبع سبيل المفسدين المحرفين (4) ، المخالفين لأحكام الله فيهم، كفرا وبغيًا (5) ، فقال تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى } .
وذكر في [سبب] (6) نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَير (7) حدثني عبد الله بن لَهيعة، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، في قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } يعني: إذا كان عَمْدا، الحر بالحر. وذلك أن حيَّيْنِ من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات، حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم (8) ، فنزلت فيهم.
{ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى } منها منسوخة، نسختها { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } [المائدة: 45] .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: { وَالأنْثَى بِالأنْثَى } وذلك أنهم لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة فأنزل الله: النفس بالنفس والعين بالعين، فجعل الأحرار في القصاص (9) سواء فيما بينهم من العمد رجالهم ونساؤهم في النفس، وفيما دون النفس، وجعل العبيد مستوين (10) فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم
__________
(1) في جـ، أ، و: "فاقتلوا حركم".
(2) زيادة من أ.
(3) في جـ: "ضعف دم".
(4) في أ: "المجرمين".
(5) في جـ: "لهوا ولعبا".
(6) زيادة من جـ.
(7) في جـ، أ: "بكر".
(8) في جـ: "والمرأة منا بالرجل منهم".
(9) في جـ: "القصاص والعبيد".
(10) في أ، و: "مستويين".
(1/489)
ونساؤهم، وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله: { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } .
مسألة: مذهب أبي حنيفة أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة، وإليه ذهب الثوري وابن أبي ليلى وداود، وهو مروي عن علي، وابن مسعود، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، وقتادة، والحكم، وقال البخاري، وعلي بن المديني وإبراهيم النخعي والثوري في رواية عنه: ويقتل السيد بعبده؛ لعموم حديث الحسن عن سمرة: "من قتل عبده قتلناه، ومن جذعه جذعناه، ومن خصاه خصيناه" (1) وخالفهم الجمهور وقالوا: لا يقتل الحر بالعبد؛ لأن العبد سلعة لو قتل خطأ لم تجب فيه دية، وإنما تجب فيه قيمته، وأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق أولى، وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر، كما ثبت في البخاري عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مسلم بكافر" (2) ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا، وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة.
مسألة: قال الحسن وعطاء: لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية، وخالفهم الجمهور لآية المائدة؛ ولقوله عليه السلام: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" (3) وقال الليث: إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة.
مسألة: ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد؛ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في غلام قتله سبعة فقتلهم، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم، ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة، وذلك كالإجماع. وحكي عن الإمام أحمد رواية: أن الجماعة لا يقتلون بالواحد، ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة. وحكاه ابن المنذر عن معاذ وابن الزبير، وعبد الملك بن مروان والزهري ومحمد بن سيرين وحبيب بن أبي ثابت؛ ثم قال ابن المنذر: وهذا أصح، ولا حجة لمن أباح قتل الجماعة (4) . وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه، وإذا اختلف الصحابة فسبيله النظر.
وقوله: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } قال مجاهد عن ابن عباس: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } فالعفو: أن يَقبل الدية في العمد، وكذا روي عن أبي العالية، وأبي الشعثاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء، والحسن، وقتادة، ومقاتل بن حيان.
وقال الضحاك عن ابن عباس: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } يقول: فمن ترك له من أخيه شيء يعني: [بعد] (5) أخذ الدّية بعد استحقاق الدم، وذلك العفو { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } يقول: فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قَبِل الدية { وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } يعني: من القاتل من غير ضرر ولا مَعْك، يعني : المدافعة.
وروى الحاكم من حديث سفيان، عن عمرو، عن مجاهد، عن ابن عباس: ويؤدي المطلوب
__________
(1) رواه أبو داود في السنن برقم (4515 ، 4516) والترمذي في السنن برقم (1414) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".
(2) صحيح البخاري برقم (111).
(3) رواه ابن ماجة في السنن برقم (2683) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4) في أ: "قتل جماعة بواحد".
(5) زيادة من جـ، أ.
(1/490)
بإحسان. وكذا قال سعيد بن جُبَير، وأبو الشعثاء جابر بن زَيد، والحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان.
مسألة: قال مالك -رحمه الله -في رواية ابن القاسم عنه وهو المشهور، وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي في أحد قوليه: ليس لولي الدم أن يعفو على الدية إلا برضا القاتل، وقال الباقون: له أن يعفو عليها وإن لم يرض القاتل، وذهب طائفة من السلف إلى أنه ليس للنساء عفو، منهم الحسن، وقتادة، والزهري، وابن شبرمة، والليث، والأوزاعي، وخالفهم الباقون.
وقوله: { ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } يقول تعالى: إنما شرع لكم أخذ الدية في العمد تخفيفًا من الله عليكم ورحمة بكم، مما كان محتوما على الأمم قبلكم من القتل أو العفو، كما قال سعيد بن منصور:
حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، أخبرني مجاهد، عن ابن عباس، قال: كتب على بني إسرائيل القصاص في القتلى، ولم يكن فيهم العفو، فقال الله لهذه الأمة (1) { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } فالعفو أن يقبل الدية في العمد، ذلك تخفيف [من ربكم ورحمة] (2) مما كتب على من كان قبلكم، فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان (3) .
وقد رواه غير واحد عن عمرو [بن دينار] (4) وأخرجه ابن حبان في صحيحه، عن عمرو بن دينار، به (5) . [وقد رواه البخاري والنسائي عن ابن عباس] (6) ؛ ورواه جماعة عن مجاهد عن ابن عباس، بنحوه.
وقال قتادة: { ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ } رحم الله هذه الأمة وأطعمهم الدية، ولم تحل لأحد قبلهم، فكان أهل التوراة إنما هو القصاص وعفو ليس بينهم أرش (7) وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به، وجعل لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش.
وهكذا روي عن سعيد بن جبير، ومقاتل بن حيان، والربيع بن أنس، نحو هذا.
وقوله: { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يقول تعالى: فمن قتل بعد أخذ الدية أو قبولها، فله عذاب من الله أليم موجع شديد.
وكذا رُوي عن ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان: أنه هو الذي يقتل بعد أخذ الدية، كما قال محمد بن إسحاق، عن الحارث بن فضيل، عن سفيان بن أبي العوجاء، عن أبي شريح الخزاعي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
__________
(1) في أ: "فقال الله في هذه الآية".
(2) زيادة من جـ.
(3) سنن سعيد بن منصور برقم (246) بتحقيق د. الحميد.
(4) زيادة من جـ.
(5) صحيح ابن حبان (7/601) "الإحسان" وانظر لتمام تخريج هذا الحديث وذكر طرقه: حاشية الدكتور سعد الحميد- حفظه الله - على سنن سعيد بن منصور.
(6) زيادة من جـ، أ.
(7) في جـ: "أثر".
(1/491)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
"من أصيب بقتل أو خَبْل (1) فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية؛ فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه. ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالدا فيها" رواه (2) أحمد (3) .
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية -يعني: لا أقبل منه الدية -بل أقتله" (4) .
وقوله: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } يقول تعالى: وفي شَرْع القصاص لكم -وهو قتل القاتل -حكمة عظيمة لكم، وهي بقاء المُهَج وصَوْنها؛ لأنه إذا علم القاتلُ أنه يقتل انكفّ عن صنيعه، فكان في ذلك حياة النفوس. وفي الكتب المتقدمة: القتلُ أنفى للقتل. فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح، وأبلغ، وأوجز.
{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } قال أبو العالية: جعل الله القصاص حياة، فكم من رجل يريد أن يقتُل، فتمنعه مخافة أن يُقتل.
وكذا روي عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي مالك، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، { يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } يقول: يا أولي العقول والأفهام والنهى، لعلكم تنزجرون فتتركون محارم الله ومآثمه، والتقوى: اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات.
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) }
__________
(1) في أ: "أو ختل".
(2) في جـ: "ورواه".
(3) المسند (4/31).
(4) ذكره السيوطي في الدر المنثور (1/421) وعزاه لسمويه في فوائده، وروى البيهقي في السنن الكبرى (8/54) من طريق سعيد بن أبي عروبة عن مطر عن الحسن مرسلا بنحوه، وروى أبو داود في السنن برقم (4507) من طريق حماد عن مطر عن الحسن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعا بنحوه.
(1/492)
( معلومات الكتاب - عودة إلى القرآن - فهرس القرآن )
البقرة - تفسير ابن كثير
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) }
اشتملت هذه الآية الكريمة، على جمَل عظيمة، وقواعد عميمة، وعقيدة مستقيمة، كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عُبيد (1) بن هشام الحلبي، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عامر بن شُفَي، عن عبد الكريم،عن مجاهد، عن أبي ذر: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان؟ فتلا عليه: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } إلى آخر الآية. قال: ثم سأله أيضًا، فتلاها عليه (2) ثم سأله. فقال: "إذا عملت حسنة أحبها (3) قلبك، وإذا عملت سيئة أبغضها (4) قلبك" (5) .
وهذا منقطع؛ فإن (6) مجاهدًا لم يدرك أبا ذر؛ فإنه مات قديمًا.
وقال المسعودي: حدثنا القاسم بن عبد الرحمن، قال: جاء رجل إلى أبي ذر، فقال: ما الإيمان؟ فقرأ (7) عليه هذه الآية: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } حتى فرغ منها. فقال الرجل: ليس عن البر سألتُكَ. فقال أبو ذر: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألتني عنه، فقرأ عليه هذه الآية، فأبى أن يرضى كما أبيت [أنت] (8) أ ن ترضى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم -وأشار بيده -: "المؤمن إذا عمل حسنة سَرته ورجا ثوابها، وإذا عمل سيئة أحزنته وخاف عقابها" (9) .
رواه ابن مَرْدُويه، وهذا أيضًا منقطع، والله أعلم.
وأما الكلام على تفسير هذه الآية، فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولا بالتوجه إلى بيت المقدس، ثم حوَّلهم إلى الكعبة، شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك، وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل، وامتثال أوامره، والتوجه حيثما وجه، واتباع ما شرع، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق إلى المغرب بر ولا طاعة، إن لم يكن عن أمر الله وشرعه؛ ولهذا قال: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } الآية، كما قال في الأضاحي والهدايا: { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } [الحج: 37] .
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية: ليس البر أن تُصَلُّوا ولا تعملوا. فهذا حين تحول من مكة إلى المدينة ونزلت الفرائض والحدود، فأمر الله بالفرائض والعمل بها.
__________
(1) في جـ: "حدثنا عبيدة".
(2) في جـ: "فتلا عليه".
(3) في جـ: "فأحبها".
(4) في جـ: "فأبغضها".
(5) ورواه محمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" برقم (409) من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن عبد الكريم، عن مجاهد به.
(6) في جـ: "لأن".
(7) في جـ: "فتلا".
(8) زيادة من أ.
(9) ورواه محمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" برقم (408) من طريق عبد الله بن يزيد والملائي، كلاهما عن المسعودي به نحوه، ورواه الحاكم (2/272) من طريق موسى بن أعين، عن عبد الكريم به نحوه، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" وتعقبه الذهبي: "قلت: وهو منقطع".
(1/485)
وروي عن الضحاك ومقاتل نحو ذلك.
وقال أبو العالية: كانت اليهود تُقْبل (1) قبل المغرب، وكانت النصارى تُقْبل (2) قبل المشرق، فقال الله تعالى: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } يقول: هذا كلام الإيمان وحقيقته (3) العمل. وروي عن الحسن والربيع بن أنس مثله.
وقال مجاهد: ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله، عز وجل.
وقال الضحاك: ولكن البر والتقوى أن تؤدوا الفرائض على وجوهها.
وقال الثوري: { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } الآية، قال: هذه أنواع البر كلها. وصدق رحمه الله؛ فإن من اتصف بهذه الآية، فقد دخل في عرى الإسلام كلها، وأخذ بمجامع الخير كله، وهو الإيمان بالله، وهو أنه لا إله إلا هو، وصدق بوجود الملائكة الذين هم سفرة بين الله ورسله { وَالْكِتَابِ } وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء، حتى ختمت بأشرفها، وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب، الذي انتهى إليه كل خير، واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة، ونسخ [الله] (4) به كل ما سواه من الكتب قبله، وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
وقوله: { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } أي: أخرجه، وهو مُحب له، راغب فيه. نص على ذلك ابن مسعود وسعيد بن جبير وغيرهما من السلف والخلف، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هُرَيرة مرفوعًا: "أفضل الصدقة أن تَصَدَّقَ وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر".
وقد روى الحاكم في مستدركه، من حديث شعبة والثوري، عن منصور، عن زُبَيد، عن مُرَّة، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } أن (5) تعطيه وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى (6) وتخشى الفقر". ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه (7) .
قلت وقد رواه وَكِيع عن الأعمش، وسفيان عن زبيد، عن مرة، عن ابن مسعود، موقوفًا، وهو أصح، والله أعلم.
وقال تعالى: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا } [الإنسان: 8، 9] .
وقال تعالى: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } [آل عمران: 92] وقوله: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [الحشر: 9] نمَط آخرُ أرفع من هذا [ومن هذا] (8) وهو أنهم آثروا بما هم مضطرون إليه، وهؤلاء أعطوا (9) وأطعموا ما هم محبون له.
وقوله: { ذَوِي الْقُرْبَى } وهم: قرابات الرجل، وهم أولى من أعطى من الصدقة، كما ثبت في
__________
(1) في جـ: "تتقبل".
(2) في جـ: "تتقبل".
(3) في جـ: "وحقيقة".
(4) زيادة من جـ.
(5) في أ: "أي".
(6) في أ: "العيش".
(7) المستدرك (2/272).
(8) زيادة من جـ.
(9) في جـ: "وهؤلاء أعطوه".
(1/486)
الحديث: "الصدقة على المساكين (1) صدقة، وعلى ذوي الرحم ثنتان: صدقة وصلة". فهم أولى الناس بك وببرك وإعطائك. وقد أمر الله تعالى بالإحسان إليهم في غير ما موضع من كتابه العزيز.
{ وَالْيَتَامَى } هم: الذين لا كاسب (2) لهم، وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والقدرة على التكسب، وقد قال عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمَر، عن جويبر، عن الضحاك، عن النزال بن سبرة، عن علي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا يُتْم بعد حُلُم".
{ وَالْمَسَاكِينَ } وهم: الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم، فيعطون ما تُسَدُّ به حاجتهم وخلتهم. وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس المسكين بهذا الطوَّاف الذي تَرده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له (3) فَيُتَصَدق عليه (4) .
{ وَابْنَ السَّبِيلِ } وهو: المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته فيعطى ما يوصله إلى بلده، وكذا الذي يريد سفرا في طاعة، فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه، ويدخل في ذلك الضيف، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس أنه قال: ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين، وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو جعفر الباقر، والحسن، وقتادة، والضحاك والزهري، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان.
{ وَالسَّائِلِينَ } وهم: الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا وَكِيع وعبد الرحمن، قالا حدثنا سفيان، عن مصعب بن محمد، عن يعلى بن أبي يحيى، عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها (5) -قال عبد الرحمن: حسين بن علي -قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للسائل حق وإن جاء على فرس". رواه أبو داود.
{ وَفِي الرِّقَابِ } وهم: المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم.
وسيأتي الكلام على كثير من هذه الأصناف (6) في آية الصدقات من براءة، إن شاء الله تعالى. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا شريك، عن أبي حمزة، عن الشعبي، حدثتني فاطمة بنت قيس: أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفي المال حق سوى الزكاة؟ قالت: فتلا علي { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } (7) .
ورواه ابن مَرْدُويه من حديث آدم بن أبي إياس، ويحيى بن عبد الحميد، كلاهما، عن شريك،
__________
(1) في أ: "على المسلمين".
(2) في أ: "لا مكاسب".
(3) في أ: "لا يجد ما يغنيه ولا ينظر له".
(4) صحيح البخاري برقم (1479) وصحيح مسلم برقم (1039).
(5) في جـ: "فاطمة بنت حسين عن أبيها" وفي أ: "فاطمة بنت حسين بن علي، عن حسين بن علي".
(6) في جـ: "من الأصناف هذه".
(7) هو في صحيح البخاري برقم (33) وصحيح مسلم برقم (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/487)
عن أبي حمزة عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في المال حق سوى الزكاة" ثم تلا (1) { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } إلى قوله: { وَفِي الرِّقَابِ }
[وقد أخرجه ابن ماجة والترمذي (2) وضعف أبا حمزة ميمونًا (3) الأعور، قال: وقد رواه بيان (4) وإسماعيل بن سالم عن الشعبي] (5) .
وقوله: { وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } أي: وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها، وسجودها، وطمأنينتها، وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي.
وقوله: { وَآتَى الزَّكَاةَ } يُحْتَمَلُ أن يكون المراد به زكاة النفس، وتخليصها من الأخلاق الدنية (6) الرذيلة، كقوله: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [الشمس:9 ، 10] وقول موسى لفرعون: { هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } [النازعات: 18، 19] وقوله تعالى: { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [فصلت: 6، 7] .
ويحتمل أن يكون المرادُ زكاة المال (7) كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان، ويكون المذكور من إعطاء (8) هذه الجهات والأصناف المذكورين إنما هو التطوع والبر والصلة؛ ولهذا تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس: أن في المال حقا سوى الزكاة، والله أعلم.
وقوله: { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا } كقوله: { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ } [الرعد: 20] وعكس هذه الصفة النفاق، كما صح في الحديث: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان". وفي الحديث الآخر:"إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" (9) .
وقوله: { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ } أي: في حال الفقر، وهو البأساء، وفي حال المرض والأسقام، وهو الضراء. { وَحِينَ الْبَأْسِ } أي: في حال القتال والتقاء الأعداء، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وأبو العالية، ومُرّة الهمداني، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان، وأبو مالك، والضحاك، وغيرهم.
وإنما نُصِبَ { وَالصَّابِرِينَ } على المدح والحث على الصبر في هذه الأحوال لشدته وصعوبته، والله أعلم، وهو المستعان وعليه التكلان.
وقوله: { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا } أي: هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صَدَقوا في إيمانهم؛ لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، فهؤلاء هم الذين صدقوا { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }
__________
(1) في جـ، أ، و: "ثم قرأ".
(2) سنن الترمذي برقم (659) وسنن ابن ماجة برقم (1789) وقال الترمذي: "هذا حديث ليس إسناده بذاك، وأبو حمزة يضعف في الحديث، وقد روى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي قوله، وهو أصح".
(3) في أ: "عونا".
(4) في جـ: "سيار" والصواب ما أثبتناه".
(5) زيادة من جـ، أ.
(6) في جـ: "الذميمة".
(7) في جـ: "زكاة الملك".
(8) في أ، و: "من أعطى".
(9) رواه مسلم في صحيحه برقم (58) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
(1/488)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) }
يقول تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ } العدلُ في القصاص -أيّها المؤمنون -حُرّكم (1) بحركم، وعبدكم بعبدكم، وأنثاكم بأنثاكم، ولا تتجاوزوا وتعتدوا، كما اعتدى من قبلكم وغيروا حكم الله فيهم، وسبب ذلك قريظة و[بنو] (2) النضير، كانت بنو النضير قد غزت قريظة في الجاهلية وقهروهم، فكان إذا قتل النضري القرظيَّ لا يقتل به، بل يُفَادَى بمائة وسق من التمر، وإذا قتل القرظي النضري قتل به، وإن فادَوْه فَدَوه بمائتي وسق من التمر ضعْف دية (3) القرظي، فأمر الله بالعدل في القصاص، ولا يتبع سبيل المفسدين المحرفين (4) ، المخالفين لأحكام الله فيهم، كفرا وبغيًا (5) ، فقال تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى } .
وذكر في [سبب] (6) نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَير (7) حدثني عبد الله بن لَهيعة، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، في قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } يعني: إذا كان عَمْدا، الحر بالحر. وذلك أن حيَّيْنِ من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات، حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم (8) ، فنزلت فيهم.
{ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى } منها منسوخة، نسختها { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } [المائدة: 45] .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: { وَالأنْثَى بِالأنْثَى } وذلك أنهم لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة فأنزل الله: النفس بالنفس والعين بالعين، فجعل الأحرار في القصاص (9) سواء فيما بينهم من العمد رجالهم ونساؤهم في النفس، وفيما دون النفس، وجعل العبيد مستوين (10) فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم
__________
(1) في جـ، أ، و: "فاقتلوا حركم".
(2) زيادة من أ.
(3) في جـ: "ضعف دم".
(4) في أ: "المجرمين".
(5) في جـ: "لهوا ولعبا".
(6) زيادة من جـ.
(7) في جـ، أ: "بكر".
(8) في جـ: "والمرأة منا بالرجل منهم".
(9) في جـ: "القصاص والعبيد".
(10) في أ، و: "مستويين".
(1/489)
ونساؤهم، وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله: { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } .
مسألة: مذهب أبي حنيفة أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة، وإليه ذهب الثوري وابن أبي ليلى وداود، وهو مروي عن علي، وابن مسعود، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، وقتادة، والحكم، وقال البخاري، وعلي بن المديني وإبراهيم النخعي والثوري في رواية عنه: ويقتل السيد بعبده؛ لعموم حديث الحسن عن سمرة: "من قتل عبده قتلناه، ومن جذعه جذعناه، ومن خصاه خصيناه" (1) وخالفهم الجمهور وقالوا: لا يقتل الحر بالعبد؛ لأن العبد سلعة لو قتل خطأ لم تجب فيه دية، وإنما تجب فيه قيمته، وأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق أولى، وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر، كما ثبت في البخاري عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مسلم بكافر" (2) ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا، وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة.
مسألة: قال الحسن وعطاء: لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية، وخالفهم الجمهور لآية المائدة؛ ولقوله عليه السلام: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" (3) وقال الليث: إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة.
مسألة: ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد؛ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في غلام قتله سبعة فقتلهم، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم، ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة، وذلك كالإجماع. وحكي عن الإمام أحمد رواية: أن الجماعة لا يقتلون بالواحد، ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة. وحكاه ابن المنذر عن معاذ وابن الزبير، وعبد الملك بن مروان والزهري ومحمد بن سيرين وحبيب بن أبي ثابت؛ ثم قال ابن المنذر: وهذا أصح، ولا حجة لمن أباح قتل الجماعة (4) . وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه، وإذا اختلف الصحابة فسبيله النظر.
وقوله: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } قال مجاهد عن ابن عباس: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } فالعفو: أن يَقبل الدية في العمد، وكذا روي عن أبي العالية، وأبي الشعثاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء، والحسن، وقتادة، ومقاتل بن حيان.
وقال الضحاك عن ابن عباس: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } يقول: فمن ترك له من أخيه شيء يعني: [بعد] (5) أخذ الدّية بعد استحقاق الدم، وذلك العفو { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } يقول: فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قَبِل الدية { وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } يعني: من القاتل من غير ضرر ولا مَعْك، يعني : المدافعة.
وروى الحاكم من حديث سفيان، عن عمرو، عن مجاهد، عن ابن عباس: ويؤدي المطلوب
__________
(1) رواه أبو داود في السنن برقم (4515 ، 4516) والترمذي في السنن برقم (1414) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".
(2) صحيح البخاري برقم (111).
(3) رواه ابن ماجة في السنن برقم (2683) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4) في أ: "قتل جماعة بواحد".
(5) زيادة من جـ، أ.
بإحسان. وكذا قال سعيد بن جُبَير، وأبو الشعثاء جابر بن زَيد، والحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان.
مسألة: قال مالك -رحمه الله -في رواية ابن القاسم عنه وهو المشهور، وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي في أحد قوليه: ليس لولي الدم أن يعفو على الدية إلا برضا القاتل، وقال الباقون: له أن يعفو عليها وإن لم يرض القاتل، وذهب طائفة من السلف إلى أنه ليس للنساء عفو، منهم الحسن، وقتادة، والزهري، وابن شبرمة، والليث، والأوزاعي، وخالفهم الباقون.
وقوله: { ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } يقول تعالى: إنما شرع لكم أخذ الدية في العمد تخفيفًا من الله عليكم ورحمة بكم، مما كان محتوما على الأمم قبلكم من القتل أو العفو، كما قال سعيد بن منصور:
حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، أخبرني مجاهد، عن ابن عباس، قال: كتب على بني إسرائيل القصاص في القتلى، ولم يكن فيهم العفو، فقال الله لهذه الأمة (1) { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } فالعفو أن يقبل الدية في العمد، ذلك تخفيف [من ربكم ورحمة] (2) مما كتب على من كان قبلكم، فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان (3) .
وقد رواه غير واحد عن عمرو [بن دينار] (4) وأخرجه ابن حبان في صحيحه، عن عمرو بن دينار، به (5) . [وقد رواه البخاري والنسائي عن ابن عباس] (6) ؛ ورواه جماعة عن مجاهد عن ابن عباس، بنحوه.
وقال قتادة: { ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ } رحم الله هذه الأمة وأطعمهم الدية، ولم تحل لأحد قبلهم، فكان أهل التوراة إنما هو القصاص وعفو ليس بينهم أرش (7) وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به، وجعل لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش.
وهكذا روي عن سعيد بن جبير، ومقاتل بن حيان، والربيع بن أنس، نحو هذا.
وقوله: { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يقول تعالى: فمن قتل بعد أخذ الدية أو قبولها، فله عذاب من الله أليم موجع شديد.
وكذا رُوي عن ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان: أنه هو الذي يقتل بعد أخذ الدية، كما قال محمد بن إسحاق، عن الحارث بن فضيل، عن سفيان بن أبي العوجاء، عن أبي شريح الخزاعي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
__________
(1) في أ: "فقال الله في هذه الآية".
(2) زيادة من جـ.
(3) سنن سعيد بن منصور برقم (246) بتحقيق د. الحميد.
(4) زيادة من جـ.
(5) صحيح ابن حبان (7/601) "الإحسان" وانظر لتمام تخريج هذا الحديث وذكر طرقه: حاشية الدكتور سعد الحميد- حفظه الله - على سنن سعيد بن منصور.
(6) زيادة من جـ، أ.
(7) في جـ: "أثر".
(1/491)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
"من أصيب بقتل أو خَبْل (1) فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية؛ فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه. ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالدا فيها" رواه (2) أحمد (3) .
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية -يعني: لا أقبل منه الدية -بل أقتله" (4) .
وقوله: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } يقول تعالى: وفي شَرْع القصاص لكم -وهو قتل القاتل -حكمة عظيمة لكم، وهي بقاء المُهَج وصَوْنها؛ لأنه إذا علم القاتلُ أنه يقتل انكفّ عن صنيعه، فكان في ذلك حياة النفوس. وفي الكتب المتقدمة: القتلُ أنفى للقتل. فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح، وأبلغ، وأوجز.
{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } قال أبو العالية: جعل الله القصاص حياة، فكم من رجل يريد أن يقتُل، فتمنعه مخافة أن يُقتل.
وكذا روي عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي مالك، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، { يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } يقول: يا أولي العقول والأفهام والنهى، لعلكم تنزجرون فتتركون محارم الله ومآثمه، والتقوى: اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات.
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) }
__________
(1) في أ: "أو ختل".
(2) في جـ: "ورواه".
(3) المسند (4/31).
(4) ذكره السيوطي في الدر المنثور (1/421) وعزاه لسمويه في فوائده، وروى البيهقي في السنن الكبرى (8/54) من طريق سعيد بن أبي عروبة عن مطر عن الحسن مرسلا بنحوه، وروى أبو داود في السنن برقم (4507) من طريق حماد عن مطر عن الحسن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعا بنحوه.
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
البقرة - تفسير ابن كثير
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) }
يبين تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه، حيث ادعت كل طائفة من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها، كما أخبر الله عنهم في سورة المائدة أنهم قالوا: { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [المائدة: 18] . فأكذبهم الله تعالى بما أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم، ولو كانوا كما ادعوا لما كان الأمر كذلك، وكما تقدم من (1) دعواهم أنه لن تمسهم النار إلا أياما معدودة، ثم ينتقلون إلى الجنة. وردَّ عليهم تعالى في ذلك، وهكذا قال لهم في هذه الدعوى التي ادعوها بلا دليل ولا حجة
__________
(1) في جـ، ط: "في".
(1/384)
ولا بينة، فقال { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ }
وقال أبو العالية: أماني تمنوها على الله بغير حق. وكذا قال قتادة والربيع بن أنس.
ثم قال: { قُلْ } أي: يا محمد، { هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ }
وقال أبو العالية ومجاهد والسدي والربيع بن أنس: حجتكم. وقال قتادة: بينتكم على ذلك. { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } كما تدعونه (1) .
ثم قال تعالى: { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي: من أخلص العمل لله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: { فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ } الآية [آل عمران: 20].
وقال أبو العالية والربيع: { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } يقول: من أخلص لله.
وقال سعيد بن جبير: { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ } أخلص، { وَجْهَهُ } قال: دينه، { وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي: متبع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم. فإن للعمل (2) المتقبل شرطين، أحدهما: أن يكون خالصًا لله وحده والآخر: أن يكون صوابًا موافقا للشريعة. فمتى كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يتقبل؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". رواه مسلم من حديث عائشة، عنه، عليه السلام.
فعمل الرهبان ومن شابههم -وإن فرض أنهم مخلصون فيه لله-فإنه لا يتقبل منهم، حتى يكون ذلك متابعًا للرسول [محمد] (3) صلى الله عليه وسلم المبعوث إليهم وإلى الناس كافة، وفيهم وأمثالهم، قال الله تعالى: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [الفرقان: 23] ، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا } [النور: 39] .
وروي عن أمير المؤمنين عمر أنه تأولها في الرهبان كما سيأتي.
وأما إن كان العمل موافقًا للشريعة في الصورة الظاهرة، ولكن لم يخلص عامله القصد لله فهو أيضًا مردود على فاعله وهذا حال المنافقين والمرائين، كما قال تعالى: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا } [النساء: 142] ، وقال تعالى: { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ* الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ* وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } [الماعون: 4 -7] ، ولهذا قال تعالى: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاَءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [الكهف: 110] . وقال في هذه الآية الكريمة: { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ }
وقوله: { فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل الأجور، وآمنهم مما يخافونه من المحذور فـ { لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فيما يستقبلونه، { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما مضى مما يتركونه، كما قال سعيد بن جبير: فـ { لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } يعني: في الآخرة { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ }
__________
(1) في جـ، ط، ب، و: "أي فيما تدعونه"، وفي أ: "أي مما تدعونه".
(2) في أ: "في العمل".
(3) زيادة من جـ، ط، ب.
(1/385)
[يعني: لا يحزنون] (1) للموت.
وقوله تعالى: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ } يبين به تعالى تناقضهم وتباغضهم وتعاديهم وتعاندهم. كما قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رافع بن حُرَيْملة (2) ما أنتم على شيء، وكفر بعيسى وبالإنجيل. وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيء. وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة. فأنزل الله في ذلك من قولهما (3) { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ } قال: إن كلا يتلو في كتابه تصديق من كفر به، أي: يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة، فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى، وفي الإنجيل ما جاء به عيسى بتصديق موسى، وما جاء (4) من التوراة من عند الله، وكل يكفر بما في يد (5) صاحبه.
وقال مجاهد في تفسير هذه الآية: قد كانت أوائل اليهود والنصارى على شيء.
وقال قتادة: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ } قال: بلى، قد كانت أوائل النصارى على شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا. { وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ } قال: بلى قد كانت أوائل اليهود على شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا.
وعنه رواية أخرى كقول أبي العالية، والربيع بن أنس في تفسير (6) هذه الآية: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ } هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا القول يقتضي أن كلا من الطائفتين صدقت فيما رمت به الطائفة الأخرى. ولكن ظاهر سياق الآية يقتضي ذمهم فيما قالوه، مع علمهم بخلاف ذلك؛ ولهذا قال تعالى: { وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ } أي: وهم يعلمون شريعة التوراة والإنجيل، كل منهما قد كانت مشروعة في وقت، ولكن تجاحدوا فيما بينهم عنادًا وكفرًا (7) ومقابلة للفاسد بالفاسد، كما تقدم عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة في الرواية الأولى عنه في تفسيرها، والله أعلم.
وقوله تعالى: { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } يُبَيِّن بهذا جهل اليهود والنصارى فيما تقابلوا من القول، وهذا من باب الإيماء والإشارة. وقد اختلف فيما عنى بقوله تعالى: { الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ }
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(2) في أ: "بن خزيمة".
(3) في جـ: "من قوله".
(4) في أ، و: "جاء به".
(5) في جـ، ط، ب: "بما في يدي".
(6) في أ، و: "في تفسيره".
(7) في جـ: "كفرا وعنادا".
(1/386)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
فقال الربيع بن أنس وقتادة: { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } قالا وقالت النصارى مثل قول اليهود وقيلهم. وقال ابن جُرَيج: قلت لعطاء: من هؤلاء الذين لا يعلمون؟ قال: أمم كانت قبل اليهود والنصارى وقبل التوراة والإنجيل. وقال السدي: { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } فهم: العرب، قالوا: ليس محمد على شيء.
واختار أبو جعفر بن جرير أنها عامة تصلح للجميع، وليس ثمَّ دليل قاطع يعين واحدًا من هذه الأقوال، فالحمل على الجميع أولى، والله أعلم.
وقوله تعالى: { فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي: أنه تعالى يجمع (1) بينهم يوم المعاد، ويفصل بينهم بقضائه العدل الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة. وهذا كقوله تعالى في سورة الحج: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [الحج: 17] ، وكما قال تعالى: { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ } [ سبأ:26] .
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) }
اختلف المفسرون في المراد من الذين منعوا مساجد الله (2) وسَعَوا في خرابها على قولين:
أحدهما: ما رواه العوفي في تفسيره، عن ابن عباس في قوله: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } قال: هم النصارى. وقال مجاهد: هم النصاري، كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة في قوله: { وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } هو بُخْتَنَصَّر وأصحابه، خَرَّب بيت المقدس، وأعانه على ذلك النصارى.
وقال سعيد، عن قتادة: قال: أولئك أعداء الله النصارى، حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس.
وقال السدي: كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس حتى خربه، وأمر به أن تطرح فيه الجيف، وإنما أعانه الروم على خرابه من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا. وروي نحوه عن الحسن البصري.
القول الثاني: ما رواه ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب قال: قال ابن
__________
(1) في أ: "يحكم".
(2) في جـ: "مساجد الله أن يذكر فيها اسمه".
(1/387)
زيد في قوله: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } قال: هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، وبين أن يدخلوا مكة حتى نحر هديه بذي طُوَى وهادنهم، وقال لهم: ما كان أحد يَصُد عن هذا البيت، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده. فقالوا: لا يدخل علينا مَنْ قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق.
وفي قوله: { وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } قال: إذ قطعوا من يَعْمُرُها بذكره ويأتيها للحج والعمرة.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن سلمة قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن قُرَيشًا منعوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام، فأنزل الله: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ }
ثم اختار ابن جرير القول الأول، واحتج بأن قريشًا لم تسع في خراب الكعبة. وأما الروم فسعوا في تخريب بيت المقدس.
قلت: الذي (1) يظهر -والله أعلم-القول الثاني، كما قاله ابن زيد، وروي عن ابن عباس؛ لأن النصارى إذا منعت اليهود الصلاة في البيت المقدس، كأن دينهم أقوم من دين اليهود، وكانوا أقرب منهم، ولم يكن ذكر الله من اليهود مقبولا إذ ذاك؛ لأنهم لعنوا من قبل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. وأيضا فإنه تعالى لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى، شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة، ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام، وأما اعتماده على أن قريشا لم تسع في خراب الكعبة، فأي خراب أعظم مما فعلوا؟ أخرجوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم، كما قال تعالى: { وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [الأنفال:34] ، وقال تعالى: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ* إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [التوبة:17 ، 18] ، وقال تعالى: { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فتَصُيِبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [الفتح: 25] ، فقال تعالى: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ } [التوبة: 18] ، فإذا كان من هو كذلك مطرودًا منها مصدودًا عنها، فأي خراب لها أعظم من ذلك؟ وليس المراد من عمارتها زخرفتها وإقامة صورتها فقط، إنما عمارتها بذكر الله فيها وإقامة شرعه فيها، ورفعها عن الدنس والشرك.
__________
(1) في ط، ب: "قلت والذي".
(1/388)
وقوله تعالى: { أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ } هذا خبر معناه الطلب، أي لا تُمَكِّنوا هؤلاء -إذا قَدَرُتم عليهم-من دخولها إلا تحت الهدنة والجزية. ولهذا لما فتح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكة أمر من العام القابل في سنة تسع أن ينادى برحاب منى: "ألا لا يَحُجَّن (1) بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عُريان، ومن كان له أجل فأجله إلى مدته". وهذا كان تصديقًا وعملا بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } الآية [التوبة: 28] ، وقال بعضهم: ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين على حال التهيب، وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم، فضلا أن يستولوا عليها ويمنعوا (2) المؤمنين منها. والمعنى: ما كان الحق والواجب إلا ذلك، لولا ظلم الكفرة وغيرهم.
وقيل: إن هذا بشارة من الله للمسلمين أنه سيُظْهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد، وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد منهم إلا خائفا، يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو يقتل إن لم يسلم. وقد أنجز الله هذا الوعد كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام، وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يبقى بجزيرة العرب دينان، وأن تجلى اليهود والنصارى منها، ولله الحمد والمنة. وما ذاك إلا تشريف أكناف المسجد الحرام وتطهير البقعة [المباركة] (3) التي بعث [الله] (4) فيها رسوله إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا صلوات الله وسلامه عليه (5) . وهذا هو الخزي لهم في الدنيا؛ لأن الجزاء من جنس العمل. فكما صدوا المؤمنين (6) عن المسجد الحرام، صُدوا عنه، وكما أجلوهم من مكة أجلوا منها { وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } على ما انتهكوا من حرمة البيت، وامتهنوه من نصب الأصنام حوله، والدعاء إلى غير الله عنده والطواف به عريا، وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله.
وأما من فَسَّر بيت (7) المقدس، فقال كعب الأحبار: إن النصارى لما ظهروا على بيت المقدس خربوه (8) فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم أنزل عليه: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ } الآية، فليس في الأرض نصراني يدخل بيت المقدس إلا خائفا.
وقال السدي: فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يُضْرَب (9) عُنُقُه، أو قد أخيف بأداء الجزية فهو يؤديها.
__________
(1) في ب، و: "ألا لا يحج"، وفي أ: "أن لا يحج".
(2) في جـ، ط، ب: "ويمنعوا".
(3) زيادة من جـ.
(4) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(5) في جـ، ب، و: "صلوات الله وسلامه عليه".
(6) في أ: "المسلمين".
(7) في ط، ب: "ببيت".
(8) في أ: حرقوه".
(9) في جـ، ط، ب: "أن تضرب".
(1/389)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
وقال قتادة: لا يدخلون المساجد إلا مسارقة.
قلت: وهذا لا ينفي أن يكون داخلا في معنى عموم الآية فإن النصارى ما ظلموا بيت المقدس، بامتهان الصخرة التي كانت يصلي (1) إليها اليهود، عوقبوا شرعًا وقَدَرا بالذلة فيه، إلا في أحيان من الدهر امتحن (2) بهم بيت المقدس وكذلك اليهودُ لما عَصَوا الله فيه أيضا أعظم من عصيان النصارى كانت عقوبتهم أعظم والله أعلم.
وفسر هؤلاء الخزي من الدنيا، بخروج المهدي عند السدي، وعكرمة، ووائل بن داود. وفسره قتادة بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون.
والصحيح أن الخزي في الدنيا أعم من ذلك كله، وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة كما قال الإمام أحمد: حدثنا الهيثم بن خارجة، حدثنا محمد بن أيوب بن ميسرة بن حَلبس (3) سمعت أبي يحدث، عن بُسْر (4) بن أرطاة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: "اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة" (5) .
وهذا حديث حسن، وليس في شيء من الكتب الستة، وليس لصحابيه وهو بسر (6) بن أرطاة -ويقال: ابن أبي أرطاة-حديث سواه، وسوى [حديث] (7) "لا تقطع الأيدي في الغزو".
{ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) }
وهذا -والله أعلم-فيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه
الذين أخرجوا (8) من مكة وفارقوا مسجدهم ومُصَلاهم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمكةَ إلى بيت المقدس والكعبةُ بين يديه. فلما قدم المدينة وُجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، ثم صرفه الله إلى الكعبة بعدُ، ولهذا يقول (9) تعالى: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ }
قال أبو عبيد القاسم بن سلام، في كتاب الناسخ والمنسوخ: أخبرنا حجاج بن محمد، أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا -والله أعلم-شأنُ القبلة: قال (10) تعالى: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } فاستقبل
__________
(1) في جـ، ب، و: "كانت تصلى"، وفي أ: "كانت تصل".
(2) في أ: "سخر".
(3) في جـ، ط، ب: "بن حابس".
(4) في أ: "عن بشر".
(5) المسند (4/181).
(6) في أ: "وهو بشر".
(7) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(8) في أ: "الذين خرجوا".
(9) في جـ: "يقول الله".
(10) في جـ، ب، و: "قال الله".
(1/390)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس، وترك البيت العتيق، ثم صرفه إلى بيته (1) العتيق ونسخها، فقال: { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } (2) .
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة. وذلك أن رسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة -وكان أهلُها اليهودَ-أمره الله أن يستقبل بيت المقدس. ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا] } (3) إلى قوله: { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فأنزل الله: { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] } (4) وقال: { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ }
وقال عكرمة عن ابن عباس: { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } قال: قبلة الله أينما توجهت شرقًا أو غربًا. وقال مجاهد: { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } [قال: قبلة الله] (5) حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها: الكعبة.
وقال ابن أبي حاتم بعد روايته الأثر المتقدم، عن ابن عباس، في نسخ القبلة، عن عطاء، عنه: وروي عن أبي العالية، والحسن، وعطاء الخراساني، وعكرمة، وقتادة، والسدي، وزيد بن أسلم، نحو ذلك.
وقال ابن جرير: وقال آخرون: بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض التوجه إلى الكعبة، وإنما أنزلها (6) تعالى ليعلم نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة، حيث شاؤوا من نواحي المشرق والمغرب؛ لأنهم لا يوجهون وجوههم وجهًا من ذلك وناحية إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه (7) وتلك الناحية؛ لأن له تعالى المشارق والمغارب، وأنه لا يخلو منه مكان، كما قال تعالى: { وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } [المجادلة : 7] قالوا: ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فَرَضَ عليهم التوجُّهَ إلى المسجد الحرام.
هكذا قال، وفي قوله: "وإنه تعالى لا يخلو منه مكان": إن أراد علمه تعالى فصحيح؛ فإن علمه تعالى محيط بجميع المعلومات، وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شيء من خلقه، تعالى الله
__________
(1) في جـ، أ، و: "البيت".
(2) ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره (1/346) من طريق حجاج بن محمد به، ورواه الحاكم في المستدرك (2/267) من طريق ابن جريج عن عطاء به وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا السياق".
(3) زيادة من جـ.
(4) زيادة من جـ، ط.
(5) زيادة من جـ.
(6) في جـ: "أنزلها الله".
(7) في أ: "التوجيه".
(1/391)
عن ذلك علوًا كبيرًا.
قال ابن جرير: وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذنا من الله أن يصلي التطوع حيث توجه من شرق أو غرب، في مسيره في سفره، وفي حال المسايفة وشدة الخوف.
حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا ابن إدريس، حدثنا عبد الملك -هو ابن أبي سليمان-عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر: أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته. ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، ويتأول هذه الآية: { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ }
ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن مَرْدُوَيه، من طرق، عن عبد الملك بن أبي سليمان، به (1) . وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر وعامر بن ربيعة، من غير ذكر الآية.
وفي صحيح البخاري من حديث نافع، عن ابن عمر: أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها. ثم قال: فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم، وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها.
قال نافع: ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم (2) .
مسألة: ولم يفرق الشافعي في المشهور عنه، بين سفر المسافة وسفر العدوي، فالجميع عنه يجوز التطوع فيه على الراحلة، وهو قول أبي حنيفة خلافا لمالك وجماعته، واختار أبو يوسف وأبو سعيد الإصطخري، التطوع على الدابة في المصر، وحكاه أبو يوسف عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، واختاره أبو جعفر الطبري، حتى للماشي أيضا.
قال ابن جرير: وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في قوم عُمِّيتْ عليهم القبلة، فلم يعرفوا شَطرها، فصلوا على أنحاء مختلفة، فقال الله (3) لي المشارق والمغارب فأين وليتم وجوهكم فهنالك وجهي، وهو قبلتكم فيعلمكم بذلك أن صلاتكم ماضية.
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا أبو الربيع السمان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة، فنزلنا منزلا فجعل الرَّجل يأخذُ الأحجارَ فيعمل مسجدا يصلي فيه. فلما [أن] (4) أصبحنا إذا نحن قد صلينا على غير القبلة. فقلنا: يا رسول الله، لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة؟ فأنزل الله تعالى: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } الآية.
__________
(1) تفسير الطبري (2/530) وصحيح مسلم برقم (700) وسنن الترمذي برقم (2958) وسنن النسائي (1/244) وتفسير ابن أبي حاتم (1/344).
(2) صحيح البخاري برقم (4535).
(3) في أ: "فقال الله لهم".
(4) زيادة من ط.
(1/392)
ثم رواه عن سفيان بن وَكِيع، عن أبيه، عن أبي الربيع السمان، بنحوه (1) .
ورواه الترمذي، عن محمود بن غيلان، عن وَكِيع. وابن ماجه، عن يحيى بن حكيم، عن أبي داود، عن أبي الربيع السمان (2) .
ورواه ابن أبي حاتم، عن الحسن بن محمد بن الصباح، عن سعيد (3) بن سليمان، عن أبي الربيع السمان (4) -واسمه أشعث بن سعيد البصري-وهو ضعيف الحديث.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن. ليس إسناده بذاك، ولا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وأشعث يُضَعَّف في الحديث.
قلت: وشيخه عاصم أيضًا ضعيف (5) .
قال البخاري: منكر الحديث. وقال ابن معين: ضعيف لا يحتج به. وقال ابن حبان: متروك، والله أعلم.
وقد روي من طرق أخرى، عن جابر.
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسير هذه الآية: حدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل، حدثنا الحسن بن علي بن شبيب، حدثني أحمد بن عبيد الله (6) بن الحسن، قال: وجدت في كتاب أبي: حدثنا عبد الملك العرزمي، عن عطاء، عن جابر، قال: بَعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سَرِيَّة كنت فيها، فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة، فقالت طائفة منا: قد عرفنا القبلة، هي هاهنا قبل السماك (7) . فصلُّوا وخطُّوا خطوطًا، فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة. فلما قفلنا من سفرنا (8) سألنا النبي صلى الله عليه وسلم، فسكت، وأنزل الله تعالى: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ }
ثم رواه من حديث محمد بن عبيد الله العَرْزَمي، عن عطاء، عن جابر، به (9) .
وقال الدارقطني: قرئ على عبد الله بن عبد العزيز -وأنا أسمع-حدثكم داود بن عمرو، حدثنا محمد بن يزيد (10) الواسطي، عن محمد بن سالم، عن عطاء، عن جابر، قال: كنا مع رسول الله
__________
(1) تفسير الطبري (2/ 531، 532).
(2) سنن الترمذي برقم (345) وسنن ابن ماجة برقم (1020).
(3) في و: "عن سعد".
(4) تفسير ابن أبي حاتم (1/344).
(5) في أ: "ضعيف الحديث".
(6) في هـ: "عبد الله".
(7) في جـ، ط، ب، أ، و: "قبل الشمال".
(8) في أ: "سيرنا".
(9) ورواه الدارقطني في السنن (1/271) من طريق إسماعيل بن علي عن الحسن بن علي بن شبيب به، ورواه البيهقي في السنن الكبرى (2/12) من طريق محمد بن الحارث عن أحمد بن عبيد الله قال: وجدت في كتاب أبي فذكر مثله، ورواه أيضا (2/10) من طريق محمد بن يزيد الواسطي، عن محمد بن عبيد الله العرزمي عن عطاء به.
(10) في جـ: "بن زيد".
(1/393)
صلى الله عليه وسلم في مسير فأصابنا غيم، فتحيرنا فاختلفنا في القبلة، فصلى كل (1) منا على حدة، وجعل أحدنا يخط بين يديه لنعلم أمكنتنا، فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يأمرنا بالإعادة، وقال: "قد أجزأت صلاتكم".
ثم قال الدارقطني: كذا قال: عن محمد بن سالم، وقال غيره: عن محمد بن عبد الله العرزمي، عن عطاء، وهما ضعيفان (2) .
ثم رواه ابن مَرْدُويه أيضا من حديث الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرِيَّة فأخذتهم ضبابة، فلم يهتدوا إلى القبلة، فصلوا لغير القبلة. ثم استبان لهم بعد طلوع (3) الشمس أنهم صلوا لغير القبلة. فلما جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّثُوه، فأنزل الله عز وجل، هذه الآية: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ }
وهذه الأسانيد فيها ضعف، ولعله يشد بعضها بعضا. وأما إعادة الصلاة لمن تبين له خطؤه ففيها قولان للعلماء، وهذه دلائل على عدم القضاء، والله أعلم.
قال ابن جرير: وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في سبب النجاشي، كما حدثنا محمد بن بشار، حدثنا هشام بن معاذ (4) حدثني أبي، عن قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخا لكم قد مات فصلوا عليه". قالوا: نصلي على رجل ليس بمسلم؟ قال: فنزلت: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ } [آل عمران: 199] قال قتادة: فقالوا: فإنه كان لا يصلي إلى القبلة. فأنزل الله: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } (5) .
وهذا غريب والله أعلم.
وقد قيل: إنه كان يصلي إلى بيت المقدس قبل أن يبلغه الناسخ إلى الكعبة، كما حكاه القرطبي عن قتادة، وذكر القرطبي أنه لما مات صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بذلك من ذهب إلى الصلاة على الغائب، قال: وهذا خاص عند أصحابنا من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه عليه السلام، شاهده حين صلى عليه طويت له الأرض. الثاني: أنه لما لم يكن عنده من يصلي عليه صلى عليه، واختاره ابن العربي، قال القرطبي: ويبعد أن يكون ملك مسلم ليس عنده أحد من قومه على دينه، وقد أجاب ابن العربي عن هذا لعلهم لم يكن عندهم شرعية الصلاة على الميت. وهذا جواب جيد. الثالث: أنه عليه الصلاة والسلام إنما صلى عليه ليكون ذلك كالتأليف لبقية الملوك، والله أعلم.
__________
(1) في جـ، ط، ب، أ، و: "كل رجل".
(2) سنن الدارقطني (1/271) ورواه الحاكم في المستدرك (1/206) من طريق داود بن عمرو به، وقال: "هذا حديث صحيح رواته كلهم ثقات غير محمد بن سالم فإني لا أعرفه بعدالة ولا جرح". قال الذهبي: قلت: "هو أبو سهل واه".
(3) في جـ، ط، ب، أ، و: "بعدما طلعت".
(4) في جـ، ط، ب، أ: "معاذ بن هشام".
(5) تفسير الطبري (2/532).
(1/394)
وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسير هذه الآية من حديث أبي معشر، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين المشرق والمغرب قبْلَة لأهل المدينة وأهل الشام وأهل العراق".
وله مناسبة هاهنا، وقد أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي معشر، واسمه (1) نَجِيح بن عبد الرحمن السَّندي المدني، به (2) "ما بين المشرق والمغرب قبلة".
وقال الترمذي: وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة. وتكلم بعض أهل العلم في أبي معشر من قبل حفظه، ثم قال الترمذي: حدثني الحسن بن [أبي] (3) بكر المروزي، حدثنا المعلى بن منصور، حدثنا عبد الله بن جعفر المخزومي، عن عثمان بن محمد الأخنسي، عن سعيد (4) المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين المشرق والمغرب قبلة" (5) .
ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وحكى عن البخاري أنه قال: هذا أقوى من حديث أبي معشر وأصح. قال الترمذي: وقد روي عن غير واحد من الصحابة: ما بين المشرق والمغرب قبلة -منهم عمر بن الخطاب، وعلي، وابن عباس.
وقال ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك، فما بينهما قبلة، إذا استقبلت القبلة.
ثم قال ابن مَرْدُويه: حدثنا علي بن أحمد بن عبد الرحمن، حدثنا يعقوب بن يونس مولى بني هاشم، حدثنا شعيب بن أيوب، حدثنا ابن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "ما بين المشرق والمغرب قبلة".
وقد رواه الدارقطني والبيهقي (6) وقال المشهور: عن ابن عمر، عن عمر، قوله.
قال ابن جرير: ويحتمل: فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم لي فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم، كما حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثني حجاج، قال: قال ابن جُرَيج: قال مجاهد: لما نزلت: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر: 60] قالوا: إلى أين؟ فنزلت: { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ }
__________
(1) في و: "وابن".
(2) سنن الترمذي برقم (342) وسنن ابن ماجة برقم (1011).
(3) زيادة من جـ.
(4) في أ: "عن شعبة".
(5) سنن الترمذي برقم (344).
(6) سنن الدارقطني (1/270) وسنن البيهقي (2/9) وهو معلول والصواب وقفه. قال ابن أبي حاتم في العلل (1/184): "سئل أبو زرعة عن حديث رواه يزيد بن هارون، عن محمد بن عبد الرحمن، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بين المشرق والمغرب قبلة" قال أبو زرعة: "هذا وهم، الحديث حديث ابن عمر موقوف".
(1/395)
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
قال ابن جرير: ويعني قوله: { إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } يسع خلقه كلهم بالكفاية، والإفضال والجود (1) .
وأما قوله: { عليم } فإنه يعني: عليم بأعمالهم، ما يغيب عنه منها شيء، ولا يعزب عن علمه، بل هو بجميعها عليم.
{ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) }
اشتملت هذه الآية الكريمة، والتي تليها على الرد على النصارى - عليهم لعائن الله-وكذا من أشبههم من اليهود ومن مشركي العرب، ممن (2) جعل الملائكة بنات الله، فأكذب الله جميعهم في دعواهم وقولهم: إن لله ولدا. فقال تعالى: { سُبْحَانَهُ } أي: تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوًا كبيرًا { بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي: ليس الأمر كما افتروا، وإنما له ملك السماوات والأرض، وهو المتصرف فيهم، وهو خالقهم ورازقهم، ومُقَدِّرهم ومسخرهم، ومسيرهم ومصرفهم، كما يشاء، والجميع عبيد (3) له وملك له، فكيف يكون له ولد منهم، والولد إنما يكون متولدًا من شيئين متناسبين، وهو تبارك وتعالى ليس له نظير، ولا مشارك في عظمته وكبريائه ولا صاحبة له، فكيف يكون له ولد! كما قال تعالى: { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الأنعام: 101] وقال تعالى: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا* لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا* تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا* أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا* وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا* إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا* لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا* وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [مريم : 88 -95] وقال تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [سورة الإخلاص] .
فقرر (4) تعالى في هذه الآيات الكريمة أنه السيد العظيم، الذي لا نظير له ولا شبيه له، وأن جميع الأشياء غيره مخلوقة له مربوبة، فكيف يكون له منها ولد! ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الآية من البقرة: أخبرنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن عبد الله بن أبي حُسَين، حدثنا نافع بن جبير -هو ابن مطعم-عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: كَذَّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إيَّاي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: لي ولد. فسبحاني (5) أن أتخذ صاحبة أو ولدا".
__________
(1) في ط: "بالكفاية والجود والإفضال"، وفي ب: "بالكفاية والأفضال والجود والإفضال".
(2) في ب، أ: "من".
(3) في ط: "والجميع عبد".
(4) في أ، و: "يقرر".
(5) في ط: "سبحاني".
(1/396)
انفرد به البخاري من هذا الوجه (1) .
وقال ابن مَرْدُويه: حدثنا أحمد بن كامل، حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي، حدثنا إسحاق بن محمد الفَرْوي، حدثنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: كذبني ابن آدم ولم ينبغ له أن يكذبني، وشتمني ولم ينبغ له أن يشتمني، أما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني. وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته (2) . وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا. وأنا الله الأحد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد" (3) .
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله؛ إنهم يجعلون له ولدا، وهو يرزقهم ويعافيهم" (4) .
وقوله: { كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } قال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أسباط، عن مطرف، عن عطية، عن ابن عباس، قال: { قَانِتينَ } مصلين.
وقال عكرمة وأبو مالك: { كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } مُقرُّون له بالعبودية. وقال سعيد بن جبير: { كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } يقول: الإخلاص. وقال الربيع بن أنس: يقول كل له قائم يوم القيامة. وقال السدي: { كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } يقول: له مطيعون يوم القيامة.
وقال خَصيف، عن مجاهد: { كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } قال: مطيعون، كن إنسانًا فكان، وقال: كن حمارًا فكان.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: { كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } مطيعون، يقول: طاعة الكافر في سجود ظله وهو كاره.
وهذا القول عن مجاهد -وهو اختيار ابن جرير-يجمع الأقوال كلها، وهو أن القنوت: هو الطاعة والاستكانة إلى الله، وذلك شرعي وقَدري، كما قال تعالى: { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } [الرعد: 15] .
وقد وَرَد حديث فيه بيان القنوت في القرآن ما هو المراد به، كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونُس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث: أن دَرَّاجًا أبا السمح حدثه، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4482).
(2) في أ: "بإعادته".
(3) الحديث رواه البخاري في صحيحه برقم (4974) من طريق شعيب عن أبي الزناد به، وفيه: "ولم يكن لي كفوا أحد".
(4) صحيح البخاري برقم (6099) وصحيح مسلم برقم (2804) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(1/397)
الطاعة".
وكذا رواه الإمام أحمد، عن حسن بن موسى، عن ابن لَهِيعة، عن دَرّاج بإسناده، مثله (1) .
ولكن هذا الإسناد ضعيف لا يعتمد عليه. ورفع هذا الحديث منكر، وقد يكون من كلام الصحابي أو مَنْ دونه، والله أعلم. وكثيرًا ما يأتي بهذا الإسناد تفاسير فيها نَكَارَة، فلا يغتر بها، فإن السند ضعيف، والله أعلم.
وقوله تعالى: { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي: خالقهما على غير مثال سبق، قال مجاهد والسدي: وهو مقتضى اللغة، ومنه يقال للشيء المحدث: بدعة. كما جاء في الصحيح لمسلم: "فإن كل محدثة بدعة [وكل بدعة ضلالة] (2) " (3) . والبدعة على قسمين: تارة تكون بدعة شرعية، كقوله: فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. وتارة تكون بدعة لغوية، كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم: نعْمَتْ البدعةُ هذه.
وقال ابن جرير: وبديع السماوات والأرض: مبدعهما. وإنما هو مُفْعِل فصرف إلى فَعيل، كما صرف المؤلم إلى الأليم، والمسمع إلى السميع. ومعنى المبدع: المنشئ والمحدث ما لم يسبقه إلى إنشاء (4) مثله وإحداثه أحد.
قال: ولذلك سمي المبتدع في الدين مبتدعًا؛ لإحداثه فيه ما لم يسبق (5) إليه غيره، وكذلك كل محدث فعلا أو قولا لم يتقدمه فيه متقدم، فإن العرب تسميه مبتدعا. ومن ذلك قول أعشى (6) ثعلبة، في مدح هوذة بن علي الحَنفِي:
يُرعى إلى قَوْل سادات الرّجال إذا ... أبدَوْا له الحزْمَ أو ما شاءه ابتدَعا (7)
أي: يحدث ما شاء.
قال ابن جرير: فمعنى الكلام: فسبحان الله أنى يكون لله ولد، وهو مالك ما في السماوات والأرض، تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوَحْدانيّة، وتقر له بالطاعة، وهو بارئها وخالقها وموجدها من غير أصل ولا مثال احتذاها عليه. وهذا إعلام من الله عباده أن ممن يشهد له بذلك المسيح، الذي أضافوا إلى الله بُنُوَّته، وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السماوات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال، هو الذي ابتدع المسيح عيسى من غير والد بقدرته.
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (1/348) والمسند (3/75).
(2) زيادة من ط.
(3) في صحيح مسلم برقم (867) من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ: "وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة".
(4) في أ: "إلى أشباه".
(5) في أ: "ما لم يسبقه".
(6) في و: "بن".
(7) البيت في تفسير الطبري (2/540).
(1/398)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
وهذا من ابن جرير، رحمه الله، كلام جيد وعبارة صحيحة.
وقوله تعالى: { وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } يبين بذلك تعالى كمال قدرته وعظيم سلطانه، وأنه إذا قَدَّر أمرًا وأراد كونه، فإنما يقول له: كن. أي: مرة واحدة، فيكون، أي: فيوجد على وفق ما أراد، كما قال تعالى: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس: 82] وقال تعالى: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [النحل: 40] وقال تعالى: { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [القمر: 50] ، وقال الشاعر:
إذا ما أراد الله أمرًا فإنَّما ... يقول له كن قولة فيكونُ ...
ونبه تعالى بذلك أيضا على أن خلق عيسى بكلمة: كن، فكان كما أمره الله، قال [الله] (1) تعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [آل عمران: 59] .
{ وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) }
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رافع بن حُرَيملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن كنت رسولا من الله كما تقول، فقل لله فَلْيُكَلمْنا حتى نسمع كلامه. فأنزل الله في ذلك من قوله: { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ }
وقال مجاهد [في قوله] (2) { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ } قال: النصارى تقوله.
وهو اختيار ابن جرير، قال: لأن السياق فيهم. وفي ذلك نظر.
[وحكى القرطبي { لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ } أي: لو يخاطبنا بنبوتك يا محمد، قلت: وظاهر السياق أعم، والله أعلم] (3) .
وقال أبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، والسدي في تفسير هذه الآية: هذا قول كفار العرب { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ [مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ] (4) } قالوا: هم اليهود والنصارى. ويؤيد هذا القول، وأن القائلين ذلك هم مشركو العرب، قوله تعالى: { وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ } [الأنعام: 123] .
__________
(1) زيادة من أ، و.
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من جـ، ط.
(4) زيادة من جـ.
(1/399)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
وقوله تعالى: { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا* أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا* أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنزلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا } [الإسراء: 90-93] ، وقوله تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا } [الفرقان: 21] ، وقوله: { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً } [المدثر: 52] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به، إنما هو الكفر والمعاندة، كما قال من قبلهم من الأمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم، كما قال تعالى: { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً } [النساء: 153] وقال تعالى: { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } [البقرة: 55] .
وقوله: { تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } أي: أشبهت قُلُوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو، كما قال تعالى: { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ* أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } [الذاريات: 52، 53] .
وقوله: { قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي: قد وضحنا الدلالات على صدق الرسل بما لا يحتاج معها إلى سؤال آخر وزيادة أخرى، لمن أيقن (1) وصدق واتبع الرسل، وفهم ما جاؤوا به عن الله تبارك وتعالى. وأما من ختم الله على قلبه وجعل على بصره غشاوة فأولئك الذين قال الله تعالى فيهم: { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ* وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [يونس: 96، 97] .
[قوله تعالى] (2)
{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) }
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الرحمن بن صالح، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله الفزاري عن شيبان النحوي، أخبرني قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنزلت علي: { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } قال: "بشيرًا بالجنة، ونذيرًا من النار" (3) .
وقوله: { وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } قراءة أكثرهم (4) { وَلا تُسْأَلُ } بضم التاء على الخبر. وفي قراءة أبي بن كعب: "وما تسأل" وفي قراءة ابن مسعود: "ولن تسأل عن أصحاب الجحيم"
__________
(1) في أ: "لمن اتقى".
(2) زيادة من ط.
(3) تفسير ابن أبي حاتم (1/354).
(4) في ب، أ، و: "قراءة بعضهم".
(1/400)
نقلهما (1) ابن جرير، أي: لا نسألك عن كفر من كفر بك، { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [الرعد:40] وكقوله تعالى: { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمصَيْطِرٍ } الآية [ الغاشية : 21 ، 22 ] وكقوله تعالى: { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } [ ق : 45 ] وأشباه ذلك من الآيات.
وقرأ آخرون (2) "ولا تَسْأَلْ عن أصحاب الجحيم" بفتح التاء على النهي، أي: لا تسأل عن حالهم، كما قال عبد الرزاق:
أخبرنا الثوري، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليت شعري ما فعل أبواي، ليت شعري ما فعل أبواي، ليت شعري ما فعل أبواي؟". فنزلت: { وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } فما ذكرهما (3) حتى توفاه الله، عز وجل.
ورواه ابن جرير، عن أبي كُرَيب، عن وَكِيع، عن موسى بن عبيدة، [وقد تكلموا فيه عن محمد بن كعب] (4) بمثله (5) وقد حكاه القرطبي عن ابن عباس ومحمد بن كعب قال القرطبي: وهذا كما يقال لا تسأل عن فلان؛ أي: قد بلغ فوق ما تحسب، وقد ذكرنا في التذكرة أن الله أحيا له أبويه حتى آمنا، وأجبنا عن قوله:(إن أبي وأباك في النار).(قلت): والحديث المروي في حياة أبويه عليه السلام ليس في شيء من الكتب الستة ولا غيرها، وإسناده ضعيف والله أعلم.
ثم قال [ابن جرير] (6) وحدثني القاسم، حدثنا الحسين، حدثني حجاج، عن ابن جُرَيج، أخبرني داود بن أبي عاصم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: "أين أبواي؟". فنزلت: { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } (7) .
وهذا مرسل كالذي قبله. وقد رد ابن جرير هذا القول المروي عن محمد بن كعب [القرظي] (8) وغيره في ذلك، لاستحالة الشك من الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر أبويه. واختار القراءة الأولى. وهذا الذي سلكه هاهنا فيه نظر، لاحتمال أن هذا كان في حال استغفاره لأبويه قبل أن يعلم أمرهما، فلما علم ذلك تبرأ منهما، وأخبر عنهما أنهما من أهل النار [كما ثبت ذلك في الصحيح] (9) ولهذا أشباه كثيرة ونظائر، ولا يلزم ما ذكر (10) ابن جرير. والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا فُلَيح بن سليمان، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، قال: لقيت عبد الله بن عَمْرو بن العاص، فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. فقال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وحرزًا للأميين، وأنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لا فظٍّ ولا غليظ ولا
__________
(1) في ب، ط: "نقلهما".
(2) في أ: "وقرأ البصريون".
(3) في أ: "فما ذكره".
(4) تفسير عبد الرزاق (2/78) وتفسير الطبري (2/558) وموسى بن عبيدة ضعيف جدا.
(5) زيادة من ط، أ.
(6) زيادة من ط، أ.
(7) تفسير الطبري (2/559).
(8) زيادة من ط.
(9) زيادة من أ.
(10) في أ، و: "ما ذكره".
(1/401)
سَخَّاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله. فيفتح به أعينا عُمْيًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبا غُلْفًا.
انفرد بإخراجه البخاري، فرواه في البيوع عن محمد بن سنان، عن فُلَيح، به (1) . وقال: تابعه عبد العزيز بن أبي سلمة، عن هلال. وقال سعيد: عن هلال، عن عطاء، عن عبد الله بن سلام. ورواه في التفسير عن عبد الله، عن عبد العزيز بن أبي سلمة، عن هلال، عن عطاء، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، به (2) . فذكر نحوه، فعبد الله هذا هو ابن صالح، كما صرح به في كتاب الأدب. وزعم أبو مسعود الدمشقي أنه عبد الله بن رجاء.
وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسير هذه الآية من البقرة، عن أحمد بن الحسن بن أيوب، عن محمد بن أحمد بن البراء، عن المعافَى بن سليمان، عن فليح، به. وزاد: قال عطاء: ثم لقيت كعب الأحبار، فسألته فما اختلفا في حرف، إلا أن كعبًا قال بلُغَتِهِ: أعينًا عمومى، وآذانًا صمومى، وقلوبًا غلوفًا (3)
__________
(1) المسند (2/174) وصحيح البخاري برقم (2125).
(2) صحيح البخاري برقم (4838).
(3) في ط: "وقلوبا غلفى".
==============
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
البقرة - تفسير ابن كثير
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
{ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) }
قال ابن جرير: يعني بقوله (1) جل ثناؤه: { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } وليست اليهود -يا محمد -ولا النصارى براضية عنك أبدًا، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق.
وقوله تعالى: { قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى } أي: قل يا محمد: إن هدى الله الذي بعثني به هو الهدى، يعني: هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل.
قال قتادة في قوله: { قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى } قال: خصومة عَلَّمها الله محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يخاصمون بها أهل الضلالة. قال قتادة: وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا تزال طائفة من أمتي يقتتلون على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله".
قلت: هذا الحديث مُخَرَّج في الصحيح (2) عن عبد الله بن عمرو (3) .
__________
(1) في ط: "في قوله".
(2) في ط: "في الصحيحين".
(3) صحيح مسلم برقم (1924).
(1/402)
{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } فيه تهديد ووعيد شديد للأمة عن اتباع طرائق اليهود والنصارى، بعد ما عَلِموا من القرآن والسنة، عياذًا بالله من ذلك، فإن الخطاب مع الرسول، والأمر لأمته.
[وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله: { حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } حيث أفرد الملة على أن الكفر كله ملة واحدة كقوله تعالى: { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [الكافرون: 6]، فعلى هذا لا يتوارث المسلمون والكفار، وكل منهم يرث قرينه سواء كان من أهل دينه أم لا؛ لأنهم كلهم ملة واحدة، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في رواية عنه. وقال في الرواية الأخرى كقول مالك: إنه لا يتوارث أهل ملتين شتى، كما جاء في الحديث، والله أعلم] (1) .
وقوله تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ } قال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: هم اليهود والنصارى. وهو قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جرير.
وقال: سعيد عن قتادة: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن موسى، وعبد الله بن عمران الأصبهاني، قالا حدثنا يحيى بن يمان، حدثنا أسامة بن زيد، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ } قال: إذا مر بذكر الجنة سأل الله الجنة، وإذا مر بذكر النار تعوذ بالله من النار (2) .
وقال أبو العالية: قال ابن مسعود: والذي نفسي بيده، إن حق تلاوته أن يُحِلَّ حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله.
وكذا رواه عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة ومنصور بن المعتمر، عن ابن مسعود.
وقال السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس في هذه الآية، قال: يُحِلُّون حلاله ويُحَرِّمُون حرامه، ولا يُحَرِّفُونه عن مواضعه.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن مسعود نحو ذلك.
وقال الحسن البصري: يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، يَكِلُونَ ما أشكل عليهم إلى عالمه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا ابن أبي زائدة، أخبرنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله: { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ } قال: يتبعونه حق اتباعه، ثم قرأ: { وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا } [ الشمس : 2 ] ، يقول: اتَّبَعَها. قال: ورُوِيَ عن عكرمة، وعطاء، ومجاهد، وأبي رزين، وإبراهيم النخَعي نحو ذلك.
وقال سفيان الثوري: حدثنا زُبَيد، عن مُرَّة، عن عبد الله بن مسعود، في قوله: { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ }
__________
(1) زيادة من ط، أ.
(2) تفسير ابن أبي حاتم (1/357).
(1/403)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
قال: يتبعونه حق اتباعه.
قال القرطبي: وروى نصر بن عيسى، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ } قال: "يتبعونه حق اتباعه" ، ثم قال: في إسناده غير واحد من المجهولين فيما ذكره الخطيب إلا أن معناه صحيح. وقال أبو موسى الأشعري: من يتبع القرآن يهبط به على رياض الجنة. وعن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها من الله، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها، قال: وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا مرَّ بآية رحمة سأل، وإذا مرَّ بآية عذاب تعوذ.
وقوله: { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } خَبَر عن { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ } أي: من أقام كتابه من أهل الكتب المنزلة على الأنبياء المتقدمين حق إقامته، آمن بما أرسلتك به يا محمد، كما قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } الآية [ المائدة : 66 ] . وقال: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } [ المائدة : 68 ] ، أي: إذا أقمتموها حق الإقامة، وآمنتم بها حَقَّ الإيمان، وصَدَّقتم ما فيها من الأخبار بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم ونَعْتِه وصفته والأمر باتباعه ونصره ومؤازرته، قادكم ذلك إلى الحق واتباع الخير في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ } الآية [ الأعراف : 157 ] وقال تعالى: { قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا* وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا } [ الإسراء : 107 ، 108 ] أي: إن كان ما وعدنا به من شأن محمد صلى الله عليه وسلم لواقعًا. وقال تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ* وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ القصص : 52 -54] . وقال تعالى: { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [ آل عمران : 20 ] ولهذا قال تعالى: { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } كما قال تعالى: { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [ هود : 17 ] . وفي الصحيح: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي، إلا دخل النار" (1) .
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) }
قد تقدم نظير هذه الآية في صدر السورة، وكررت هاهنا للتأكيد والحث على اتباع الرسول النبي
__________
(1) صحيح مسلم برقم (153) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/404)
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
الأمي الذي يجدون صفته في كتبهم ونعتَه واسمه وأمره وأمته. يحذرهم (1) من كتمان هذا، وكتمان ما أنعم به عليهم، وأمرهم أن يذكروا نعمة الله عليهم، من النعم الدنيوية والدينية، ولا يحسدوا بني عَمِّهم من العرب على ما رزقهم الله من إرسال الرسول الخاتم منهم. ولا يحملهم ذلك الحسدُ على مخالفته وتكذيبه، والحيدة عن موافقته، صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين.
{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) }
يقول تعالى مُنَبِّهًا على شرف إبراهيم خليله، عليه السلام (2) وأن الله تعالى جعله إماما للناس يقتدى به في التوحيد، حتى (3) قام بما كلفه الله تعالى به من الأوامر والنواهي؛ ولهذا قال: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } أي: واذكر -يا محمد -لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذين ينتحلون ملَّة إبراهيم وليسوا عليها، وإنما الذي هو عليها مستقيم فأنت والذين (4) معك من المؤمنين، اذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم، أي: اختباره له بما كلفه به من الأوامر والنواهي { فَأَتَمَّهُنَّ } أي: قام (5) بهن كلهن، كما قال تعالى: { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [ النجم : 37 ] ، أي: وفى جميع ما شرع له، فعمل به صلوات الله عليه، وقال تعالى: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ* وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ* ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ النحل : 120 -123 ]، وقال تعالى: { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 161 ] ، وقال تعالى: { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 67 ، 68 ]
وقوله تعالى: { بِكَلِمَاتٍ } أي: بشرائع وأوامر ونواه، فإن الكلمات تطلق، ويراد بها الكلمات القدرية، كقوله تعالى عن مريم، عليها السلام،: { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } [ التحريم : 12 ] . وتطلق ويراد بها الشرعية، كقوله تعالى: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا [لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ] (6) } [ الأنعام : 115 ] أي: كلماته الشرعية. وهي إما خبر صدق، وإما طلب عدل إن كان أمرًا أو نهيًا، ومن ذلك هذه الآية الكريمة: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } أي: قام بهن. قال: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } أي: جزاء على ما فَعَل، كما قام بالأوامر وتَرَكَ الزواجر، جعله الله للناس قدوة وإمامًا يقتدى به، ويحتذى حذوه.
__________
(1) في جـ، ط، أ، و: "فحذرهم".
(2) في جـ: "عليه الصلاة والسلام".
(3) في أ، و: "حين".
(4) في جـ: "فأنت والذي".
(5) في جـ: "أي أقام".
(6) زيادة من ط.
(1/405)
وقد اختلف [العلماء] (1) في تفسير (2) الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم الخليل، عليه السلام. فروي عن ابن عباس في ذلك روايات:
فقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال ابن عباس: ابتلاه الله بالمناسك. وكذا رواه أبو إسحاق السَّبِيعي، عن التميمي، عن ابن عباس.
وقال عبد الرزاق -أيضًا -: أخبرنا معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } قال: ابتلاه الله بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد؛ في الرأس: قَص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفَرْق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونَتْف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء (3) .
قال ابن أبي حاتم: ورُوِي عن سعيد بن المسيب، ومجاهد، والشعبي، والنَّخَعي، وأبي صالح، وأبي الجلد، نحو ذلك.
قلت: وقريب من هذا ما ثبت في صحيح مسلم، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَشْرٌ من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البرَاجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء" [قال مصعب] (4) ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة.
قال وَكِيع: انتقاص الماء، يعني: الاستنجاء (5) .
وفي الصحيح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط". ولفظه لمسلم (6) .
وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا يونس بن عبد الأعلى، قراءة، أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة، عن ابن هُبيرة، عن حَنَش (7) بن عبد الله الصنعاني، عن ابن عباس: أنه كان يقول في هذه الآية: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } قال: عَشْرٌ، ست في الإنسان، وأربع في المشاعر. فأما التي في الإنسان: حلق العانة، ونتف الإبط، والختان. وكان ابن هبيرة يقول: هؤلاء الثلاثة واحدة. وتقليم الأظفار، وقص الشارب، والسواك، وغسل يوم الجمعة. والأربعة التي في المشاعر: الطواف، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، والإفاضة.
وقال داود بن أبي هند، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس أنه قال: ما ابتلي بهذا الدين أحد فقام به
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في و: "تعيين".
(3) تفسير عبد الرزاق (1/76).
(4) زيادة من جـ، ط.
(5) صحيح مسلم برقم (261).
(6) صحيح البخاري برقم (5889) وصحيح مسلم برقم (257).
(7) في جـ، ط: "حنيش"، وفي أ: "حسين".
كله إلا إبراهيم، قال الله تعالى: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } قلت له: وما الكلماتُ التي ابتلى الله إبراهيم بهن فأتمهن؟ قال: الإسلام ثلاثون سهمًا، منها عشر آيات في براءة: { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ [الْحَامِدُونَ ] (1) } [ التوبة : 112 ] إلى آخر الآية (2) وعشر آيات في أول سورة { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } و { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } وعشر آيات في الأحزاب: { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } [ الآية : 35 ] إلى آخر الآية، فأتمهن كلهن، فكتبت له براءة. قال الله: { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [ النجم : 37 ] .
هكذا رواه الحاكم، وأبو جعفر بن جرير، وأبو محمد بن أبي حاتم، بأسانيدهم إلى داود بن أبي هند، به (3) . وهذا لفظ ابن أبي حاتم.
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن: فراق قومه -في الله -حين أمر بمفارقتهم. ومحاجَّته نمروذ (4) -في الله -حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافه. وصبره على قذفه إياه في النار ليحرقوه -في الله -على هول ذلك من أمرهم. والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده -في الله -حين أمره بالخروج عنهم، وما أمره به من الضيافة والصبر عليها بنفسه وماله، وما ابتلي به من ذبح ابنه حين أمره بذبحه، فلما مضى على ذلك من الله كله وأخلصه للبلاء (5) قال الله له: { أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } على ما كان من خلاف الناس وفراقهم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا إسماعيل بن عُلَيَّة، عن أبي رجاء، عن الحسن -يعني البصري -: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [فَأَتَمَّهُنَّ] (6) } قال: ابتلاه بالكوكب فرضي عنه، وابتلاه بالقمر فرضي عنه، وابتلاه بالشمس فرضي عنه، وابتلاه بالهجرة فرضي عنه، وابتلاه بالختان فرضي عنه، وابتلاه بابنه فرضي عنه.
وقال ابن جرير: حدثنا بشر بن معاذ، حدثنا يزيد بن زُرَيع، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسن يقول: أي والله، ابتلاه بأمر فصبر عليه: ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر، فأحسن في ذلك، وعرف أن ربه (7) دائم لا يزول، فوجه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما كان من المشركين. ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرًا إلى الله، ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة فصبر على ذلك. وابتلاه الله بذبح ابنه (8) والختان فصبر على ذلك.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عمن سمع الحسن يقول في قوله: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [فَأَتَمَّهُنَّ] (9) }
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) في و: "إلى آخر الآيات".
(3) تفسير الطبري (3/8) وتفسير ابن أبي حاتم (1/360).
(4) في جـ: "ومحاجته بنمروذ".
(5) في جـ: "ذلك من البلاء كله وأخلصه للبلاء".
(6) زيادة من أ.
(7) في جـ: "أن الله ربه".
(8) في ط: "بذبح ولده".
(9) زيادة من جـ.
(1/407)
قال: ابتلاه الله بذبح ولده، وبالنار، والكوكب (1) والشمس، والقمر.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا سَلْم بن قتيبة، حدثنا أبو هلال، عن الحسن { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } قال: ابتلاه بالكوكب، والشمس، والقمر، فوجده صابرًا.
وقال العوفي في تفسيره، عن ابن عباس: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } فمنهن: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } (2) ومنهن: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } ومنهن: الآيات في شأن المنسك والمقام الذي جعل لإبراهيم، والرزق الذي رزق ساكنو البيت، ومحمد بعث في دينهما.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا شبابة، عن ورقاء، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله تعالى: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } قال الله لإبراهيم: إني مبتليك بأمر فما هو؟ قال: تجعلني للناس إمامًا. قال: نعم. قال: ومن ذريتي؟ { قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال: تجعل البيت مثابة للناس؟ قال: نعم. قال: وأمنًا. قال: نعم. قال: وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك؟ قال: نعم. قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله؟ قال: نعم.
قال ابن أبي نَجِيح: سمعته من عكرمة، فعرضته على مجاهد، فلم ينكره.
وهكذا رواه ابن جرير من غير وجه، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد.
وقال سفيان الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } قال: ابتلي بالآيات التي بعدها: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [فَأَتَمَّهُنَّ] (3) } قال: الكلمات: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } وقوله: { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا } وقوله { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقوله: { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } الآية، وقوله: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } الآية، قال: فذلك كله من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم.
قال السدي: الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم رَبُّه: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } ، { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ [يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ] (4) } .
__________
(1) في أ، و: "والكواكب".
(2) في جـ، ط: "قال إني".
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.
[وقال القرطبي: وفي الموطأ وغيره، عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: إبراهيم، عليه السلام، أول من اختتن وأول من ضاف الضيف، وأول من استحد، وأول من قَلَّم أظفاره، وأول من قص الشارب، وأول من شاب فلما رأى الشيب، قال: ما هذا؟ قال: وقار، قال: يا رب، زدني وقارًا. وذكر ابن أبي شيبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: أول من خطب على المنابر إبراهيم، عليه السلام، قال غيره: وأول من برَّد البريد، وأول من ضرب بالسيف، وأول من استاك، وأول من استنجى بالماء، وأول من لبس السراويل، وروي عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي إبراهيم، وإن أتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم" قلت: هذا حديث لا يثبت، والله أعلم. ثم شرع القرطبي يتكلم على ما يتعلق بهذه الأشياء من الأحكام الشرعية] (1) .
قال أبو جعفر بن جرير ما حاصله: أنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميعُ ما ذكر، وجائز أن يكون بعض ذلك، ولا يجوز الجزمُ بشيء منها أنه المرادُ على التعيين إلا بحديث أو إجماع. قال: ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له.
قال: غَيْرَ أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نظير معنى ذلك خبران، أحدهما ما حدثنا به أبو كُرَيْب، حدثنا رشدين بن سعد، حدثني زبان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله { الَّذِي وَفَّى } [ النجم : 37 ] ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى: { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] حتى يختم الآية" (2) .
قال: والآخر منهما: حدثنا به أبو كريب، أخبرنا الحسن، عن عطية، أخبرنا إسرائيل، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } أتدرون ما وفى؟". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "وفَّى عمل يومه، أربع ركعات في النهار".
ورواه آدم في تفسيره، عن حماد بن سلمة. وعبد بن حميد، عن يونس بن محمد، عن حماد بن سلمة، عن جعفر بن الزبير، به (3) .
ثم شرع ابن جرير يضعف هذين الحديثين، وهو كما قال؛ فإنه لا تجوز روايتهما إلا ببيان ضعفهما، وضعفهما من وجوه عديدة، فإن كلا من السندين مشتمل على غير واحد من الضعفاء، مع ما في متن الحديث مما يدل على ضعفه [والله أعلم] (4) .
ثم قال ابن جرير: ولو قال قائل: إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس أولى
__________
(1) زيادة من جـ، ط، أ.
(2) تفسير الطبري (3/15).
(3) تفسير الطبري (3/16).
(4) زيادة من جـ، ط، أ، و.
بالصواب من القول الذي قاله غيرهم كان مذهبًا، فإن قوله: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } وقوله: { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } وسائر الآيات التي هي نظير ذلك، كالبيان عن الكلمات التي ذكر الله أنه ابتلى بهن إبراهيم.
قلت: والذي قاله أولا من أن الكلمات تشمل جميع ما ذكر، أقوى من هذا الذي جوزه من قول مجاهد ومن قال مثله؛ لأن السياق يعطي غير ما قالوه والله أعلم.
وقوله: { قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } لما جعل الله إبراهيم إمامًا ، سأل الله أن تكون الأئمةُ من بعده من ذريته، فأجيب إلى ذلك وأخبر أنه سيكون من ذريته ظالمون، وأنه لا ينالهم عهد الله، ولا يكونون أئمة فلا يقتدى بهم، والدليل على أنه أجيب إلى طَلِبَتِهِ قول الله (1) تعالى في سورة العنكبوت: { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } [ العنكبوت : 27 ] فكل نبي أرسله الله وكل كتاب أنزله الله بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه (2) .
وأما قوله تعالى: { قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } فقد اختلفوا في ذلك، فقال خَصِيف، عن مجاهد في قوله: { قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال: إنه سيكون في ذريتك ظالمون.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، { قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال: لا يكون لي إمام ظالم [يقتدى به] (3) . وفي رواية: لا (4) أجعل إمامًا ظالمًا يقْتَدَى به. وقال سفيان، عن (5) منصور، عن مجاهد في قوله تعالى: { قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال: لا يكون إمام ظالم يقتدى به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثني أبي، حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا شريك، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: { وَمِنْ ذُرِّيَّتِي } قال: أما من كان منهم صالحًا فسأجعله إمامًا يقتدى به، وأما من كان ظالما فلا ولا نُعْمَةَ عَيْنٍ.
وقال سعيد بن جبير: { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } المراد به المشرك، لا يكون إمام ظالم. يقول: لا يكون إمام مشرك.
وقال ابن جُرَيج، عن عطاء، قال: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي } فأبى أن يجعل من ذريته إمامًا ظالمًا. قلت لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا عمرو بن ثور القيساري (6) فيما كتب إلي، حدثنا الفريابي، حدثنا إسرائيل، حدثنا سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال الله لإبراهيم: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي } فأبى أن يفعل، ثم قال: { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }
__________
(1) في جـ: "قوله".
(2) في جـ: "وسلامه عليه وعليهم أجمعين".
(3) زيادة من ط.
(4) في جـ: "أن لا".
(5) في أ: "سفيان بن".
(6) في أ: "النيسابوري".
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس: { قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } يخبره أنه كائن في ذريته ظالم لا ينال عهده -ولا ينبغي [له] (1) أن يوليه شيئا من أمره وإن كان من ذرية خليله -ومحسن ستنفذ فيه دعوته، وتبلغ له فيه ما أراد من مسألته.
وقال العوفي، عن ابن عباس: { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال: يعني لا عهدَ لظالم عليك في ظلمه، أن تطيعه فيه.
وقال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله، عن إسرائيل، عن مسلم الأعور، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال: ليس للظالمين عهد، وإن عاهدته فانتقضه (2) .
وروي عن مجاهد، وعطاء، ومقاتل بن حيان، نحو ذلك.
وقال الثوري، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، قال: ليس لظالم عهد.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة، في قوله: { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال: لا ينال عهدُ الله في الآخرة (3) الظالمين، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به، وأكل وعاش.
وكذا قال إبراهيم النخعي، وعطاء، والحسن، وعكرمة.
وقال الربيع بن أنس: عهد الله الذي عهد إلى عباده: دينه، يقول: لا ينال دينه الظالمين، ألا ترى أنه قال: { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ } [ الصافات : 113 ] ، يقول: ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق.
وكذا روي عن أبي العالية، وعطاء، ومقاتل بن حيان.
وقال جويبر، عن الضحاك: لا ينال طاعتي عدو لي يعصيني، ولا أنحلها إلا وليًّا لي يطيعني.
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد، حدثنا أحمد بن عبد الله بن سعيد الأسدي، حدثنا سليم بن سعيد الدامغاني، حدثنا وَكِيع، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال: "لا طاعة إلا في المعروف" (4) .
__________
(1) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(2) في جـ، ط، أ، و: "فأنقضه".
(3) في ط: "لا ينال عهد الله ظالم في الآخرة".
(4) قال البخاري في صحيحه برقم (7257): حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن زيد، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، عن علي - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جيشا وأمر عليهم رجلا، فأوقد نارا وقال: ادخلوها، فأرادوا أن يدخلوها، وقال آخرون: إنما فررنا منها، فذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: "لو دخلوها لم يزالوا فيها إلى يوم القيامة". وقال للآخرين: "لا طاعة في المعصية، إنما الطاعة في المعروف". فهذا هو أصل هذا الحديث من دون ذكر الآية، والله أعلم.
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
وقال السدي: { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } يقول: عهدي نبوتي.
فهذه أقوال مفسري السلف في هذه الآية على ما نقله ابن جرير، وابن أبي حاتم، رحمهما الله تعالى. واختار ابن جرير أن هذه الآية -وإن كانت ظاهرة في الخبر -أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالما. ففيها إعلام من الله لإبراهيم الخليل، عليه السلام، أنه سيوجد من ذريتك من هو ظالم لنفسه، كما تقدم عن مجاهد وغيره، والله أعلم.
{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى (125) }
قال العوفي، عن ابن عباس: قوله تعالى: { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ } يقول: لا يقضون منه وطرًا، يأتونه، ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { مَثَابَةً لِلنَّاسِ } يقول: يثوبون.
رواهما (1) ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي، أخبرنا عبد الله بن رجاء، أخبرنا إسرائيل، عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله تعالى: { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ } قال: يثوبون إليه ثم يرجعون. قال: وروي عن أبي العالية، وسعيد بن جبير-في رواية -وعطاء، ومجاهد، والحسن، وعطية، والربيع بن أنس، والضحاك، نحو ذلك. وقال ابن جرير: حدثني عبد الكريم بن أبي عمير، حدثني الوليد بن مسلم قال: قال أبو عمرو -يعني الأوزاعي -حدثني عبدة بن أبي لبابة، في قوله تعالى: { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ } قال: لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرًا.
وحدثني يونس، عن ابن وهب، قال: قال ابن زيد: { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ } قال: يثوبون إليه من البُلْدان كلها ويأتونه.
[وما أحسن ما قال الشاعر في هذا المعنى، أورده القرطبي (2) :
جعل البيتُ مثابًا لهم ... ليس منه الدهر يقضون الوَطَرْ] (3)
وقال سعيد بن جبير -في الرواية الأخرى -وعكرمة، وقتادة، وعطاء الخراساني { مَثَابَةً لِلنَّاسِ } أي: مجمعا.
{ وَأَمْنًا } قال الضحاك عن ابن عباس: أي أمنًا للناس.
__________
(1) في جـ، ط: "رواه".
(2) تفسير القرطبي (2/110).
(3) زيادة من جـ، ط، أ.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا } يقول: أمنًا من العدو، وأن يُحْمَل فيه السلاح، وقد كانوا في الجاهلية يُتَخَطَّف الناس من حولهم، وهم آمنون لا يُسْبَون.
وروي عن مجاهد، وعطاء، والسدي، وقتادة، والربيع بن أنس، قالوا: من دخله كان آمنًا.
ومضمون ما فسر به هؤلاء الأئمة هذه الآية: أن الله تعالى يذكر شرف البيت وما جعله موصوفًا به شرعًا وقدرًا من كونه مثابة للناس، أي: جعله مَحَلا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه، ولا تقضي منه وطرًا، ولو ترددَت إليه كلَّ عام، استجابة من الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم، عليه السلام، في قوله: { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } إلى أن قال: { رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (1) } [ إبراهيم : 37 -40 ] ويصفه تعالى بأنه جعله أمنًا، من دخله أمن، ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنًا.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فيه فلا يَعْرض له، كما وصفها في سورة المائدة بقوله تعالى (2) { جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ } [ المائدة : 97 ] أي: يُرْفَع عنهم بسبب تعظيمها (3) السوءُ، كما قال ابن عباس: لو لم يحج الناسُ هذا البيت لأطبق الله السماءَ على الأرض، وما هذا الشرف إلا لشرف بانيه أولا وهو خليل الرحمن، كما قال تعالى: { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا } [ الحج : 26 ] وقال تعالى: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ* فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } [ آل عمران : 96 ، 97 ] .
وفي هذه الآية الكريمة نَبَّه على مقام إبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده. فقال: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقد اختلف المفسرون في المراد بالمقام ما هو؟ فقال ابن أبي حاتم: أخبرنا عمر بن شَبَّة النميري، حدثنا أبو خلف -يعني عبد الله بن عيسى-حدثنا داود بن أبي هند، عن مجاهد، عن ابن عباس: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } قال: مقام إبراهيم: الحرم كله. وروي عن مجاهد وعطاء مثل ذلك.
وقال [أيضا] (4) حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء عن { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فقال: سمعت ابن عباس قال: أما مقام إبراهيم الذي ذكر هاهنا، فمقام إبراهيم هذا الذي (5) في المسجد، ثم قال: و { مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ } يعد كثير، " مقام إبراهيم " الحج كله. ثم فسره لي عطاء فقال: التعريف، وصلاتان بعرفة، والمشعر، ومنى، ورمي الجمار، والطواف بين الصفا والمروة. فقلت: أفسره ابن عباس؟ قال: لا ولكن قال: مقام إبراهيم: الحج كله. قلت: أسمعت ذلك؟ لهذا أجمع. قال: نعم، سمعته منه.
__________
(1) في جـ، ط: "دعائي".
(2) في جـ: "بقوله تبارك وتعالى".
(3) في جـ: "لسبب تعظيمهم".
(4) زيادة من و.
(5) في جـ: "الذي هو".
وقال سفيان الثوري، عن عبد الله بن مسلم، عن سعيد بن جبير: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } قال: الحَجر مقام إبراهيم نبي الله، قد جعله الله رحمة، فكان يقوم عليه ويناوله إسماعيل الحجارة. ولو غَسل رأسَه كما يقولون لاختلف رجلاه.
[وقال السدي: المقام: الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلت رأسه. حكاه القرطبي، وضعفه ورجحه غيره، وحكاه الرازي في تفسيره عن الحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس] (1) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن ابن جُرَيج، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، سمع جابرًا يحدث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم قال له عمر: هذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال: نعم، قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله، عز وجل: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (2) .
وقال عثمان بن أبي شيبة: أخبرنا أبو أسامة، عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة قال: قال عمر: قلت: يا رسول الله، هذا مقام خليل ربنا؟ قال: نعم، قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فنزلت: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (3) .
وقال ابن مَرْدويه: حدثنا دَعْلَج بن أحمد، حدثنا غيلان بن عبد الصمد، حدثنا مسروق بن المرزبان، حدثنا زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه مَرَّ بمقام إبراهيم فقال: يا رسول الله، أليس نقوم مقام خليل ربنا (4) ؟ قال: "بلى". قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فلم يلبث إلا يسيرًا حتى نزلت: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }
وقال ابن مردويه: حدثنا محمد (5) بن أحمد بن محمد القزويني، حدثنا علي بن الحسين الجنيد، حدثنا هشام بن خالد، حدثنا الوليد، عن مالك بن أنس، عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر، قال: لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة عند مقام إبراهيم، قال له عمر: يا رسول الله، هذا مقام إبراهيم الذي قال الله: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } ؟ قال: "نعم". قال الوليد: قلت لمالك: هكذا حدثك { وَاتَّخِذُوا } قال: نعم. هكذا وقع في هذه الرواية. وهو غريب.
وقد روى النسائي من حديث الوليد بن مسلم نحوه (6) .
وقال البخاري: باب قوله: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } مثابة يثوبون يرجعون.
__________
(1) زيادة من جـ، ط، أ.
(2) تفسير ابن أبي حاتم (1/370).
(3) ورواه الدارقطني في "الأفراد" كما في "أطراف الغرائب والأفراد" لابن القيسراني (ق31) وقال: "غريب من حديث أبي إسحاق عن أبي ميسرة -عمرو بن شرحبيل- عن عمر، تفرد به زكريا بن أبي زائدة عنه".
(4) في جـ: "خليل الله".
(5) في جـ، و: "علي"
(6) سنن النسائي (5/236).
حدثنا مُسدَّد، حدثنا يحيى، عن حميد، عن أنس بن مالك. قال: قال عمر بن الخطاب وافقتُ ربي في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزلت: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقلت: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فأنزل الله آية الحجاب . وقال: وبلغني مُعَاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه، فدخلت عليهن (1) فقلت: إن انتهيتن أو ليبدلَن الله رسوله خيرًا منكن، حتى أتيت إحدى نسائه، فقالت: يا عمر، أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تَعظهن أنت؟! فأنزل الله: { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } الآية [ التحريم : 5 ] .
وقال ابن أبي مريم: أخبرنا يحيى بن أيوب، حدثني حميد، قال: سمعت أنسًا عن عمر، رضي الله عنهما (2) .
هكذا ساقه البخاري هاهنا، وعلق الطريق الثانية عن شيخه سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري. وقد تفرد بالرواية عنه البخاري من بين أصحاب الكتب الستة. وروى عنه الباقون بواسطة، وغرضه من تعليق هذا الطريق ليبين (3) فيه اتصال إسناد الحديث، وإنما لم يسنده؛ لأن يحيى بن أبي أيوب الغافقي فيه شيء، كما قال الإمام أحمد فيه: هو سيئ الحفظ، والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هُشَيم، حدثنا حُمَيد، عن أنس، قال: قال عمر رضي الله عنه (4) وافقت ربي عز وجل في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزلت: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقلت: يا رسول الله، إن نساءكَ يدخلُ عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن؟ فنزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهن: { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } [ التحريم : 5 ] فنزلت كذلك (5) ثم رواه أحمد، عن يحيى وابن أبي عدي، كلاهما عن حميد، عن أنس، عن عمر أنه قال: وافقت ربي في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث فذكره (6) .
وقد رواه البخاري عن عَمْرو بن عَوْن والترمذي عن أحمد بن منيع، والنسائي عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي، وابن ماجه عن محمد بن الصباح، كلهم عن هُشَيم بن بشير، به (7) . ورواه الترمذي -أيضًا-عن عبد بن حُميد، عن حجاج بن مِنهال، عن حماد بن سلمة، والنسائي عن هناد، عن
__________
(1) في جـ: "عليهن بالحجاب".
(2) صحيح البخاري برقم (4483).
(3) في جـ: "ليتبين".
(4) في جـ: رضي الله عنهما".
(5) المسند (1/23).
(6) رواية يحيى في المسند (1/36) ورواية ابن أبي عدي (1/24).
(7) صحيح البخاري برقم (4916) وسنن الترمذي برقم (2960) وسنن النسائي الكبرى برقم (11611) وسنن ابن ماجة برقم (1009).
يحيى بن أبي زائدة، كلاهما عن حميد، وهو ابن تيرويه الطويل، به (1) . وقال الترمذي: حسن صحيح. ورواه الإمام علي بن المديني عن يزيد بن زُرَيع، عن حميد به. وقال: هذا من صحيح الحديث، وهو بصري، ورواه الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه بسند آخر، ولفظ آخر، فقال: حدثنا عقبة بن مُكْرَم، أخبرنا سعيد بن عامر، عن جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، قال: وافقت ربي في ثلاث: في الحجاب، وفي أسارى بدر، وفي مقام إبراهيم (2) .
وقال أبو حاتم الرازي: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطاب: وافقني ربي في ثلاث -أو وافقت ربي-قلت (3) يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزلت: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقلت: يا رسول الله لو حجبت النساء؟ فنزلت آية الحجاب. والثالثة: لما مات عبد الله بن أبي جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه. قلت: يا رسول الله، تصلي على هذا الكافر المنافق! فقال: "إيهًا عنك يا بن الخطاب"، فنزلت: { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } [ التوبة : 84 ] (4) .
وهذا إسناد صحيح أيضًا، ولا تعارض بين هذا ولا هذا، بل الكل صحيح، ومفهوم العدد إذا عارضه منطوق قُدم عليه، والله أعلم.
وقال ابن جريج (5) أخبرني جعفر بن محمد، عن أبيه عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط، ومشى أربعًا، حتى إذا فرغ عَمَد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، ثم قرأ: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }
وقال ابن جرير: حدثنا يوسف بن سلمان (6) حدثنا حاتم بن إسماعيل، حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر قال: استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن، فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم، فقرأ: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فجعل المقام بينه وبين البيت، فصلى ركعتين.
وهذا قطعة من الحديث الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه، من حديث حاتم بن إسماعيل (7) .
وروى البخاري بسنده، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت ابن عمر يقول: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا، وصلى خلف المقام ركعتين (8) .
فهذا كله مما يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحَجَرُ الذي كان إبراهيم عليه السلام، يقوم عليه
__________
(1) سنن الترمذي برقم (2959) وسنن النسائي الكبرى برقم (10998).
(2) صحيح مسلم برقم (2399).
(3) في ط: "فقلت".
(4) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (7/88) من طريق أبي حاتم الرازي به.
(5) في جـ: "ابن جرير".
(6) في جـ، ط: "سليمان".
(7) تفسير الطبري (3/36) وصحيح مسلم برقم (1218).
(8) صحيح البخاري برقم (395، 1793).
(1/416)
لبناء الكعبة، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل، عليه السلام، به ليقومَ فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار، كلَّما كَمَّل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى، يطوف حول الكعبة، وهو واقف عليه، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها هكذا، حتى تم جدارات الكعبة، كما سيأتي بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت، من رواية ابن عباس عند البخاري. وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه، ولم يزل هذا معروفًا تعرفه العرب في جاهليتها؛ ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية:
ومَوطئُ إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافيًا غير ناعل (1)
وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضا. وقال (2) عبد الله بن وهب: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب: أن أنس بن مالك حدثهم، قال: رأيت المقام فيه أثر أصابعه عليه السلام، وإخْمَص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم.
وقال ابن جرير: حدثنا بشر بن معاذ، حدثنا يزيد بن زُرَيع، حدثنا سعيد، عن قتادة: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه. ولقد تكلفت هذه الأمة شيئًا ما تكلفته الأمم قبلها، ولقد ذُكِرَ لنا من رأى أثر عَقِبِه وأصابعه فيه (3) فما زالت هذه الأمة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى.
قلت: وقد كان المقام ملصقًا بجدار الكعبة قديمًا، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك، وكان الخليل، عليه السلام (4) لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك؛ ولهذا -والله أعلم-أمر بالصلاة هناك عند فراغ الطواف، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه، وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عُمَرُ بن الخطاب رضي الله عنه (5) [وهو] (6) أحدُ الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين، الذين أُمِرْنا باتباعهم، وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللَّذَين من بعدي أبي بكر وعمر". وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده؛ ولهذا لم ينكر ذلك أحد من الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين.
قال عبد الرزاق، عن ابن جُرَيج، حدثني عطاء وغيره من أصحابنا: قالوا: أول من نقله عمر بن الخطاب رضي الله عنه (7) وقال عبد الرزاق أيضًا عن معمر عن حَمِيد الأعرج، عن مجاهد قال: أول من أخر المقام إلى موضعه الآن، عمر بن الخطاب رضي الله عنه (8) .
__________
(1) البيت في السيرة النبوية لابن هشام (1/273).
(2) في جـ، ط: "كما قال".
(3) في جـ، ط: "فيها".
(4) في جـ: "عليه الصلاة والسلام".
(5) في جـ: "رضي الله تعالى عنه".
(6) زيادة من جـ.
(7) المصنف لعبد الرزاق برقم (8955).
(8) المصنف لعبد الرزاق برقم (8953).
(1/417)
وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (1) أخبرنا أبو [الحسين بن] (2) الفضل القطان، أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن كامل، حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي، حدثنا أبو ثابت، حدثنا الدراوردي، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: أن المقام كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر ملتصقًا بالبيت، ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهذا إسناد صحيح مع ما تقدم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر العَدَني قال: قال سفيان -[يعني ابن عيينة] (3) وهو إمام المكيين في زمانه-كان المقام في (4) سُقْع البيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد قوله: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا، فرده عمر إليه.
وقال سفيان: لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله. قال سفيان: لا أدري أكان (5) لاصقًا بها أم لا؟ (6) .
فهذه الآثار متعاضدة على ما ذكرناه، والله أعلم.
وقد قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه: حدثنا أبو عَمْرو، حدثنا محمد بن عبد الوهاب، حدثنا آدم، حدثنا شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، قال: قال عمر: يا رسول الله لو صلينا خلف المقام؟ فأنزل الله: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فكان المقام عند البيت فحوله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضعه هذا. قال مجاهد: قد كان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن (7) .
هذا مرسل عن مجاهد، وهو مخالف لما تقدم من رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد أن أول من أخَّر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهذا أصح من طريق ابن مَرْدُويه، مع اعتضاد هذا بما تقدم، والله أعلم (8) .
{ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِين وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
__________
(1) في أ، و: "علي بن الحسين".
(2) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(3) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(4) في هـ: "من" وهو خطأ.
(5) في جـ: "إن كان".
(6) تفسير ابن أبي حاتم (1/372).
(7) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (8/169): "إسناده ضعيف".
(8) وقد ألف سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله- رسالتين فيما يتعلق بالمقام: الأولى: في جواز نقل المقام سماها: "الجواب المستقيم في جواز نقل مقام إبراهيم" مطبوعة ضمن فتاواه (5/17-55). والثانية: في الرد على الشيخ سليمان بن حمدان في اعتراضه على رسالة الشيخ عبد الرحمن المعلمي في جواز نقل المقام سماها: "نصيحة الإخوان ببيان بعض ما في نقض المباني لابن حمدان من الخبط والجهل والبهتان" مطبوعة ضمن فتاواه (5/56-132) وهما رسالتان قيمتان حشد فيهما -رحمه الله- جواز نقل المقام، واستشهد بكلام الحافظ ابن كثير هنا وكلام الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وهما تدلان على تبحره وسعة علمه - رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
================
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
البقرة - تفسير ابن كثير
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) }
(1/418)
قال الحسن البصري: قوله: { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } قال: أمرهما الله أن يطهراه من الأذى والنَّجَس ولا يصيبه من ذلك شيء.
وقال ابن جريج: قلت لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ } أي: أمرناه. كذا قال. والظاهر أن هذا الحرف إنما عُدِّيَ بإلى، لأنه في معنى تقدمنا وأوحينا.
وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قوله: { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ } قال: من الأوثان.
وقال مجاهد وسعيد بن جُبَير: { طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } إن ذلك من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس.
قال ابن أبي حاتم: ورُوي عن عُبَيد بن عمير، وأبي العالية، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء وقتادة: { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ } أي: بلا إله إلا الله، من الشرك.
وأما قوله تعالى: { لِلطَّائِفِينَ } فالطواف بالبيت معروف. وعن سعيد بن جبير أنه قال في قوله تعالى: { لِلطَّائِفِينَ } يعني: من أتاه من غُرْبة، { وَالْعَاكِفِينَ } المقيمين فيه. وهكذا روي عن قتادة، والربيع بن أنس: أنهما فسرا العاكفين بأهله المقيمين فيه، كما قال سعيد بن جبير.
وقال يحيى [بن] (1) القطَّان، عن عبد الملك -هو ابن أبي سليمان-عن عطاء في قوله: { وَالْعَاكِفِينَ } قال: من انتابه (2) من الأمصار فأقام عنده (3) وقال لنا -ونحن مجاورون-: أنتم من العاكفين.
وقال وكيع، عن أبي بكر الهذلي عن عطاء عن ابن عباس قال: إذا كان جالسًا فهو من العاكفين.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت قال: قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير: ما أراني إلا مُكَلِّم الأمير أن أمنع الذين ينامون في
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في جـ، أ: "من أتى".
(3) في أ: "فأقام عندنا".
(1/419)
المسجد الحرام فإنهم يجنبون (1) ويُحدثون. قال: لا تفعل، فإن ابن عمر سئل عنهم، فقال: هم العاكفون.
[ورواه عبد بن حميد عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة، به] (2) .
قلت: وقد ثبت في الصحيح أنّ ابن عمرَ كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عَزَب (3) .
وأما قوله تعالى: { وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } فقال وكيع، عن أبي بكر الهذلي، عن عطاء، عن ابن عباس { وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } قال: إذا كان مصليًا فهو من الركع السجود. وكذا قال عطاء وقتادة.
وقال ابن جَرير رحمه الله: فمعنى الآية: وأمَرْنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين. والتطهير الذي أمرهما به في البيت هو تطهيرُه من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك. ثم أورد سؤالا فقال: فإن قيل: فهل كان قبل بناء إبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر بتطهيره منه؟ وأجاب بوجهين: أحدهما: أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده زَمَان قوم نوح من الأصنام والأوثان ليكون ذلك سُنَّة لمن بعدهما إذ كان الله تعالى قد جعل إبراهيم إمامًا يقتدى به كما قال عبد الرحمن بن زيد: { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ } قال: من الأصنام التي يعبدون، التي كان المشركون يعظمونها.
قلت: وهذا الجواب مُفَرَّع على أنه كان يُعْبَدُ عنده أصنام قبل إبراهيم عليه السلام، ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم.
الجواب الثاني: أنه أمرهما أن يخلصا [في] (4) بنائه لله وحده لا شريك له، فيبنياه مطهرًا من الشرك والرَّيْب، كما قال جل ثناؤه: { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } [ التوبة : 109 ] قال: فكذلك قوله: { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ } أي: ابنيا بيتي على طهر من الشرك بي والريب، كما قال السدي: { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ } ابنيا بيتي للطائفين.
وملخص هذا الجواب: أن الله تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له للطائفين به والعاكفين عنده، والمصلين إليه من الركع السجود، كما قال تعالى: { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } الآيات [ الحج : 26 -37 ].
[وقد اختلف الفقهاء: أيما أفضل، الصلاة عند البيت أو الطواف؟ فقال مالك: الطواف به لأهل الأمصار أفضل من الصلاة عنده، وقال الجمهور: الصلاة أفضل مطلقا، وتوجيه كل منهما يذكر في كتاب الأحكام] (5) .
__________
(1) في جـ: "فإنهم يخبثون".
(2) زيادة من و.
(3) صحيح البخاري برقم (440).
(4) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(5) زيادة من أ.
(1/320)
والمراد من ذلك الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته، المؤسس على عبادته وحده لا شريك له، ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الحج : 25 ] .
ثم ذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد الله وحده لا شريك له، إما بطواف أو صلاة، فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة: قيامها، وركوعها، وسجودها، ولم يذكر العاكفين لأنه تقدم { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } وفي هذه الآية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين، واجتزأ بذكر الركوع والسجود عن القيام؛ لأنه قد علم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام. وفي ذلك -أيضًا-رَدّ على من لا يحجه من أهل الكتابين: اليهود والنصارى؛ لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وعظمته، ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وغير ذلك وللاعتكاف والصلاة عنده وهم لا يفعلون شيئًا من ذلك، فكيف يكونون (1) مقتدين بالخليل، وهم لا يفعلون ما شرع الله له؟ وقد حَجَّ البيتَ موسى بن عمران وغيره من الأنبياء عليهم السلام، كما أخبر بذلك المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى { إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى } [ النجم : 4 ] .
وتقدير الكلام إذًا: { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } [أي: تقدمنا لوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل] (2) { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } أي: طهراه من الشرك والريب وابنياه خالصًا لله، معقلا للطائفين والعاكفين والركع السجود. وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الآية، ومن قوله تعالى: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } [ النور : 36 ] ومن السنة من أحاديث كثيرة، من الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك، من صيانتها من الأذى والنجاسات (3) وما أشبه ذلك. ولهذا قال عليه السلام: "إنما بنيت المساجد لما بنيت له" (4) . وقد جَمَعْتُ في ذلك جزءًا على حدة ولله الحمد والمنة.
وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة، فقيل: الملائكة قبل آدم، وروي هذا عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين، ذكره القرطبي وحكى لفظه، وفيه غرابة، وقيل: آدم عليه السلام رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء وسعيد بن المسيب وغيرهم: أن آدم بناه من خمسة أجبل: من حراء وطور سيناء وطور زيتا وجبل لبنان والجودي، وهذا غريب أيضًا. وروي نحوه عن ابن عباس وكعب الأحبار وقتادة وعن وهب بن منبه: أن أول من بناه شيث، عليه السلام، وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب، وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها، وأما إذا صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين.
__________
(1) في جـ: "فكيف يكون".
(2) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(3) في جـ: "والنجاسة".
(4) رواه مسلم في صحيحه برقم (569) من حديث بريدة رضي الله عنه.
(1/421)
وقوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ }
قال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدي، حدثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حَرَّم بيت الله وأمَّنَه وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها فلا يُصَادُ صيدها ولا يقطع عضاهها" (1) .
وهكذا رواه النسائي، عن محمد بن بشار عن بُنْدَار به (2) .
وأخرجه مسلم، عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعَمْرو الناقد، كلاهما عن أبي أحمد الزبيري، عن سفيان الثوري (3) .
وقال ابن جرير -أيضًا-: حدثنا أبو كُرَيْب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، وحدثنا أبو كريب، حدثنا عبد الرحيم الرازي، قالا جميعًا: سمعنا أشعث عن نافع عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم كان عبد الله وخليله وإني عبدُ الله ورسوله وإن إبراهيم حَرَّم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، عضاهَها وصيدَها، لا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يقطع منها شجرة إلا لعلف بعير" (4) .
وهذه الطريق غريبة، ليست في شيء من الكتب الستة، وأصل الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر، جاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مُدِّنا، اللهم إن إبراهيمَ عبدُك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك لمكة وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه" ثم يدعو أصْغَرَ وليد له، فيعطيه ذلك الثمر. وفي لفظ: "بركة مع بركة" ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان. لفظ مسلم (5) .
ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كُريب، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا بكر بن مضر، عن ابن الهاد، عن أبي بكر بن محمد، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن رافع بن خَديج، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها".
انفرد بإخراجه مسلم، فرواه عن قتيبة، عن بكر بن مضر، به (6) . ولفظه كلفظه سواء. وفي
__________
(1) تفسير الطبري (3/48) واللابتان: هما الحرتان بجانبي المدينة، والعضاة: كل شجر عظيم له شوك، وقيل: العظيم من الشجر مطلقا.
(2) سنن النسائي الكبرى برقم (4284).
(3) صحيح مسلم برقم (1362).
(4) تفسير الطبري (3/48).
(5) صحيح مسلم برقم (1373).
(6) تفسير الطبري (3/49).
(1/422)
الصحيحين عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: "التمس لي غلامًا من غلمانكم يخدمني" فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه، فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل. وقال في الحديث: ثم أقْبَلَ حتى إذا بدا له أُحد قال: "هذا جبل يُحبُّنا ونحبه". فلما أشرف على المدينة قال:"اللهم إني أحرم ما بين جبليها، مثلما حرم به إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم في مُدِّهم وصاعهم". وفي لفظ لهما: "اللهم بارك لهم في مكيالهم، وبارك لهم في صاعهم، وبارك لهم في مدهم". زاد البخاري: يعني: أهل المدينة (1) .
ولهما أيضا عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم اجعل بالمدينة ضِعْفَي ما جعلته بمكة من البركة" (2) وعن عبد الله بن زيد بن عاصم، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها، وحَرَّمتُ (3) المدينة كما حرم إبراهيم مكة، ودعوت (4) لها في مدها وصاعها (5) مثل ما دعا إبراهيم لمكة"
رواه البخاري وهذا لفظه (6) ، ومسلم ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها. وإني حرَّمتُ المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت لها في صاعها ومدها بمثل ما دعا إبراهيم لأهل مكة" (7) .
وعن أبي سعيد، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم إنَّ إبراهيم حَرَّم مكة فجعلها حرامًا، وإني حرمت المدينة حرامًا ما بين مأزميها، لا يهراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف. اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مُدِّنا، اللهم اجعل مع البركة بركتين". الحديث رواه مسلم (8) .
والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة، وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم، عليه السلام، لمكة، لما في ذلك في مطابقة الآية الكريمة.
[وتَمسَّك بها من ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل، وقيل: إنها محرمة منذ خلقت مع الأرض وهذا أظهر وأقوى] (9) .
وقد وردت أحاديث أخَرُ تدل على أن الله تعالى حرم مكة قبل خلق السموات والأرض، كما
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1361).
(2) صحيح البخاري برقم (1885) وصحيح مسلم برقم (1369).
(3) في جـ، ط: "وإني حرمت".
(4) في جـ، ط: "وإني دعوت".
(5) في جـ، ط: "صاعها ومدها".
(6) صحيح البخاري برقم (2129).
(7) صحيح مسلم برقم (1360).
(8) صحيح مسلم برقم (1374).
(9) زيادة من جـ، ط، أ.
(1/423)
جاء في الصحيحين، عن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حَرَّمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. وإنه لم يحِل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. لا يُعْضَد شوكه ولا ينفر صيده، ولا تُلْتَقَط لُقَطَتُه إلا من عرَّفها، ولا يختلى خَلاهَا" فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذْخَر فإنه لقَينهم ولبيوتهم. فقال: "إلا الإذخر" وهذا لفظ مسلم (1) .
ولهما عن أبي هريرة نحو من ذلك (2) .
ثم قال البخاري بعد ذلك: قال (3) أبان بن صالح، عن الحسن بن مسلم، عن صفية بنت شيبة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، مثله (4) .
وهذا الذي علقه البخاري رواه الإمام أبو عبد الله بن ماجة، عن محمد بن عبد الله بن نُمَير، عن يونس بن بُكَيْر، عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن الحسن بن مسلم بن يَنَّاق، عن صفية بنت شيبة، قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب عام الفتح، فقال: "يا أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حَرَام إلى يوم القيامة، لا يُعْضَد شجرها ولا يُنَفَّر صيدُها، ولا يأخذ لُقَطَتَها إلا مُنْشِد" فقال العباس: إلا الإذخر؛ فإنه للبيوت والقبور. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذْخَر" (5) .
وعن أبي شُرَيح العدوي أنَّه قال لعَمْرو بن سعيد -وهو يبعث البعوث إلى مكة -: ائذن لي -أيها الأمير -أن أحدثَك قولا قام به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الغَد من يوم الفتح، سَمِعَته أذناي ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تَكَلَّم به، إنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد تَرَخَّصَ بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لكم. وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب". فقيل لأبي شُرَيح: ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصيًا، ولا فارًّا بدم، ولا فارًّا بخَرَبَة.
رواه البخاري ومسلم، وهذا لفظه (6) .
فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث الدالة على أن الله حَرَّم مكة يوم خلق السموات
__________
(1) صحيح البخاري برقم (1834 ، 1587 ، 3189 ، 3077) وصحيح مسلم برقم (1353).
(2) صحيح البخاري برقم (112 ، 6880) وصحيح مسلم برقم (1355).
(3) في جـ، ط: "وقال".
(4) صحيح البخاري برقم (1349).
(5) سنن ابن ماجة برقم (3109).
(6) صحيح البخاري برقم (1832) وصحيح مسلم برقم (1354).
(1/424)
والأرض، وبين الأحاديث الدالة على أن إبراهيم، عليه السلام، حَرَّمها؛ لأن إبراهيم بَلَّغ عن الله حُكْمه فيها وتحريمه إياها، وأنها لم تزل بلدًا حرامًا عند الله قبل بناء إبراهيم، عليه السلام، لها، كما أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوبًا عند الله خاتم النبيين، وإن آدم لمنجَدل في طينته، ومع هذا قال إبراهيم، عليه السلام: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ } وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقَدَره. ولهذا جاء في الحديث أنهم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن بَدْءِ أمرك. فقال: "دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى ابن مريم، ورأت أمي كأنه (1) خرج منها نور أضاء ت له قصور الشام".
أي: أخْبِرْنا عن بدء ظهور أمرك. كما سيأتي قريبًا، إن شاء الله.
وأما مسألة تفضيل مَكَّة على المدينة، كما هو قول الجمهور، أو المدينة على مكة، كما هو مذهب مالك وأتباعه، فتذكر في موضع آخر بأدلتها، إن شاء الله، وبه الثقة.
وقوله: تعالى إخبارًا عن الخليل أنه قال: { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا } أي: من الخوف، لا يَرْعَبُ أهله، وقد فعل الله ذلك شرعًا وقدرًا. كقوله تعالى (2) { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } [ آل عمران : 97 ] وقوله { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] إلى غير ذلك من الآيات. وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيها. وفي صحيح مسلم عن جابر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح" (3) . وقال في هذه السورة: { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا } أي: اجعل هذه البقعة بلدًا آمنًا، وناسب هذا؛ لأنه قبل بناء الكعبة. وقال تعالى في سورة إبراهيم: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا } [ إبراهيم : 35 ] وناسب هذا هناك لأنه، والله أعلم، كأنه وقع دعاء ثانًيا (4) بعد بناء البيت واستقرار أهله به، وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سنًّا من إسماعيل بثلاث عشرة سنة؛ ولهذا قال في آخر الدعاء: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ } [ إبراهيم : 39 ]
وقوله تعالى: { وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب: { قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قليلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النَّارِ وَبِئسَ الْمَصِير } قال: هو قول الله تعالى. وهذا قول مجاهد وعكرمة وهو الذي صوبه ابن جرير، رحمه الله تعالى: قال: وقرأ آخرون: { قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم، كما رواه أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: كان ابن عباس يقول: ذلك قول إبراهيم، يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلا .
__________
(1) في جـ: "كأنها".
(2) في جـ: "كما قال الله تعالى"، وفي طـ: "لقوله تعالى".
(3) صحيح مسلم برقم (1356).
(4) في جـ، طـ، أ: "دعاء مرة ثانية".
(1/425)
وقال أبو جعفر، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد: { وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا } يقول: ومن كفر فأرزقه أيضًا { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
وقال محمد بن إسحاق: لما عزل إبراهيم، عليه السلام، الدعوة عمَّن أبى الله أن يجعل له الولاية -انقطاعًا إلى الله ومحبته، وفراقًا لمن خالف أمره، وإن كانوا من ذريته، حين عرف أنه كائن منهم أنه ظالم ألا يناله عهدُه، بخبر الله له بذلك -قال الله: ومن كفر فإني أرزق البر والفاجر وأمتعه قليلا.
وقال حاتم بن إسماعيل عن حُمَيد الخرَّاط، عن عَمَّار الدُّهْني، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله تعالى: { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } قال ابن عباس: كان إبراهيم يحجُرها على المؤمنين دون الناس، فأنزل الله ومن كفر أيضًا أرزقهم كما أرزق المؤمنين أأخلق خلقًا لا أرزقهم؟! أمتعهم قليلا ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير. ثم قرأ ابن عباس: { كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا } [ الإسراء : 20 ] . رواه ابن مَرْدُويه. ورُوي عن عكرمة ومجاهد نحو ذلك أيضًا. وهذا كقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ* مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [ يونس : 69 ، 70 ] ، وقوله تعالى: { وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ* نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ لقمان : 23 ، 24 ] ، وقوله: { وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ* وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ* وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } [ الزخرف : 33 ، 35 ]
وقوله { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي: ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا وبسطنا عليه من ظلها إلى عذاب النار وبئس المصير. ومعناه: أن الله تعالى يُنْظرُهم ويُمْهلهُم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، كقوله تعالى: { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ الحج : 48 ] ، وفي الصحيحين: "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله؛ إنهم يجعلون له ولدا، وهو يرزقهم ويعافيهم" (1) وفي الصحيح أيضًا: "إن الله ليملي (2) للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته". ثم قرأ قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ] (3) .
وأما قوله تعالى: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ*رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }
__________
(1) سبق تخريج هذا الحديث قريبا.
(2) في جـ، طـ: "يملي".
(3) صحيح البخاري برقم (4686) وصحيح مسلم برقم (2583) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(1/426)
فالقواعد: جمع قاعدة، وهي السارية والأساس، يقول تعالى: واذكر -يا محمد -لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل، عليهما السلام، البيت، ورفْعَهما القواعدَ منه، وهما يقولان: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فهما في عمل صالح، وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما، كما روى ابن أبي حاتم من حديث محمد بن يزيد بن خنيس المكي، عن وهيب بن الورد: أنه قرأ: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } ثم يبكي ويقول: يا خليل الرحمن، ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مُشْفق أن لا يتقبل منك. وهذا كما حكى الله تعالى عن حال المؤمنين المخلصين (1) في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا } أي: يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقربات { وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } [ المؤمنون : 60 ] أي: خائفة ألا يتقبل منهم. كما جاء به الحديث الصحيح، عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه.
وقال بعض المفسرين: الذي كان يرفع القواعد هو إبراهيم، والداعي إسماعيل. والصحيح أنهما كانا يرفعان ويقولان، كما سيأتي بيانه.
وقد روى البخاري هاهنا حديثًا سنورده ثم نُتْبِعه بآثار متعلقة بذلك. قال البخاري، رحمه الله:
حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن أيوب السخيتاني (2) وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وَدَاعة -يزيد أحدُهما على الآخر -عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: أول ما (3) اتخذ النساء المنْطَق من قبَل أم إسماعيل، عليهما (4) السلام اتخذت منطقًا ليعفي أثرها على سارة. ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل، عليهما السلام، وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زَمْزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر وسِقَاء فيه ماء، ثم قَفَّى إبراهيم، عليه السلام، منطلقًا. فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها. فقالت (5) آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذًا لا يضيعنا. ثم رجعت. فانطلق إبراهيم، عليه السلام، حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات، ورفع يديه، قال: { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [ إبراهيم : 37 ] ، وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، عليهما السلام، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ماء السقاء (6) عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى -
__________
(1) في أ، و: "الخلص".
(2) في أ، و: "السختياني".
(3) في جـ: "أول من".
(4) في جـ: "عليه".
(5) في أ: "فقالت له".
(6) في أ، و: "نفد ما في السقاء".
(1/427)
أو قال: يتلبط -فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقربَ جبل في الأرض يليها (1) فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا؟ فلم تر أحدًا. فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طَرْفَ درعها، ثم سعت سَعْيَ الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي. ثم أتت المروة، فقامت عليها ونظرت هل ترى أحَدًا؟ فلم تر أحدًا. ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فلذلك سعى الناس بينهما".
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت: صه، تريد نفسها، ثم تَسَمَّعت فسمعَت أيضًا. فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غُوَاث فإذا هي بالمَلَك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه -أو قال: بجناحه -حتى ظهر الماء، فجعلت تُحَوِّضُهُ، وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم -أو قال: لو لم تغرف من الماء -لكانت زمزم عينًا مَعينًا".
قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة؛ فإن هاهنا بيتًا لله، عز وجل، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله، عز وجل، لا يضيع أهله. وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جُرْهُم -أو أهل بيت من جُرْهم -مقبلين من طريق كَدَاء. فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرًا عائفًا، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على الماء، لعَهْدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء. فأرسلوا جَرِيًّا أو جَرِيَّين، فإذا هم بالماء. فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا. قال: وأم إسماعيل عند الماء. فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حَقَّ لكم في الماء. قالوا: نعم.
قال ابن عباس (2) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس. فنزلوا، وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم. حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلامُ، وتعلم العربية منهم، وأنْفَسَهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم. وماتت أم إسماعيل، عليهما (3) السلام، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيلُ ليطالع تَرْكَتَه. فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا. ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بشَرّ، نحن في ضيق وشدة. وشكت إليه. قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له: يغير عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل، عليه السلام، كأنه أنس شيئًا. فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسأل (4) عنك، فأخبرته، وسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا في جَهْد وشدَّة. قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول (5) غَيِّرْ عتبة بابك. قال: ذاك أبي. وقد أمرني أن أفارقك، فالحقي بأهلك. فَطَلَّقَها وتزوج منهم بأخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده. فدخل على امرأته، فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا. قال: كيف أنتم؟
__________
(1) في جـ: "إليها".
(2) في ط: "عبد الله بن عباس".
(3) في جـ، ط: "عليها".
(4) في جـ، ط: "فسألنا".
(5) في أ: "يقول لك".
(1/428)
وسألها عن عيشهم وَهَيْئَتهم. فقالت: نحن بخير وسعة. وأثنت على الله، عز وجل. فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم. قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء". قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولم يكن لهم يومئذ حَب، ولو كان لهم، لدعا لهم فيه. قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه". قال: "فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومُريه يُثَبِّت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل، عليه السلام، قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه (1) فسألني عنك، فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا بخير. قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك. قال: ذاك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك. ثم لَبثَ عنهم ما شاء الله، عز وجل، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يَبْرِي نَبْلا (2) له تحت دوحة قريبًا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الولد بالوالد، والوالد بالولد. ثم قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر. قال: فاصنع ما أمرك ربك، عز وجل. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتًا -وأشار إلى أكَمَةٍ مرتفعة على ما حولها -قال: فعند ذلك رَفَعا القواعد من البيت فجعل (3) إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } " قال: "فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت، وهما يقولان: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (4) .
[ورواه عبد بن حميد عن عبد الرزاق به مطولا] (5) .
ورواه ابن أبي حاتم، عن أبي عبد الله محمد بن حمَّاد الظهراني. وابن جرير، عن أحمد بن ثابت الرازي، كلاهما عن عبد الرزاق به مختصرًا (6) .
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه: حدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل، حدثنا بشر بن موسى، حدثنا أحمد بن محمد الأزرقي، حدثنا مسلم بن خالد الزنجي، عن عبد الملك بن جُرَيج، عن كثير بن كثير، قال: كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين في ناس مع سعيد بن جبير، في أعلى المسجد ليلا فقال سعيد بن جبير: سلوني قبل أن لا تروني. فسألوه عن المقام. فأنشأ يحدثهم عن ابن عباس، فذكر الحديث بطوله.
ثم قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد. حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو (7) حدثنا إبراهيم بن نافع، عن كثير بن كثير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان، خرج بإسماعيل وأم إسماعيل، ومعهم شَنَّة فيها ماء، فجعلت أم إسماعيل تشرب من
__________
(1) في جـ: "وأثنت عليه خيرا".
(2) في جـ: "يبني له بيتا".
(3) في جـ: "قال: فجعل".
(4) صحيح البخاري برقم (3364).
(5) زيادة من و.
(6) تفسير ابن أبي حاتم (1/381).
(7) في أ: "بن عمير".
(1/429)
الشنَّة، فيَدِرُّ لبنها على صبيها، حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة، ثم رجع إبراهيم إلى أهله، فاتبعته أم إسماعيل، حتى (1) بلغوا كَدَاء نادته (2) من ورائه: يا إبراهيم، إلى من تتركنا؟ قال: إلى الله، عز وجل. قالت: رضيت بالله. قال: فرجَعَتْ، فجعلت تشرب من الشنة، ويَدر لبنها على صَبيها حتى لما فَنِي الماء قالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا. قال: فذهَبَتْ فصَعدت الصفا، فنظرت ونظرت هل تحس أحدًا، فلم تحس أحدًا. فلما بلغت الوادي سَعَت (3) حتى أتت المروة، ففعلت ذلك أشواطا ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل، تعني الصبي، فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه يَنْشَغُ للموت، فلم تقُرَّها نفسها، فقالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدًا. قال: فذهبت فصعدت الصفا، فنظرت ونَظرت فلم تُحس أحدًا، حتى أتمت سبعا، ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل، فإذا هي بصوت، فقالت: أغثْ إن كان عندك خير. فإذا جبريل، عليه السلام، قال: فقال بعقبه هكذا، وغمز عَقِبَه على الأرض. قال: فانبثق الماء، فَدَهَشَتْ أم إسماعيل، فجعلت تحفر.
قال: فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "لو تركَتْه لكان الماء ظاهرًا (4) .
قال: فجعلت تشرب من الماء ويَدِرُّ لبنها على صَبِيِّها.
قال: فمر ناس من جُرْهم ببطن الوادي، فإذا هم بطير، كأنهم أنكروا ذلك، وقالوا: ما يكون الطير إلا على ماء فبعثوا رسولهم فَنَظَرَ، فإذا هو بالماء. فأتاهم فأخبرهم. فأتوا إليها فقالوا: يا أم إسماعيل، أتأذنين لنا أن نكون معك -ونسكن معك؟ -فبلغ ابنها ونكح فيهم (5) امرأة.
قال: ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم (6) فقال لأهله: إني مُطَّلع تَرْكَتي. قال: فجاء فسلم، فقال: أين إسماعيل؟ قالت امرأته: ذهب يصيد. قال: قولي له إذا جاء: غير عتبة بيتك. فلما جاء أخبرته، قال: أنت ذَاكِ، فاذهبي إلى أهلك.
قال: ثم إنه بدا لإبراهيم، فقال لأهله: إني مُطَّلع تَرْكتي. قال: فجاء فقال: أين إسماعيل؟ فقالت امرأته: ذهب يصيد. فقالت: ألا تنزل فَتَطْعَم وتشرب؟ فقال: ما طعامكم وما شرابكم؟ قالت: طعامنا اللحم، وشرابنا الماء. قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم.
قال: فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "بَرَكة بدعوة إبراهيم"
قال: ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال لأهله: إني مُطَّلع تَرْكتي. فجاء فوافق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نَبْلا له (7) فقال: يا إسماعيل، إن ربك، عز وجل، أمرني أن أبني له بيتًا. فقال: أطعْ ربك، عز وجل. قال: إنه قد أمرني أن تعينني عليه؟ فقال: إذن أفعلَ -أو كما قال -قال: فقاما (8) [قال] (9) فجعل إبراهيم يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
__________
(1) في جـ، ط: "حتى لما".
(2) في جـ: "سألته".
(3) في جـ: "وسعت".
(4) في جـ: "ظاهر".
(5) في جـ: "منهم".
(6) في جـ، أ: "عليه السلام".
(7) في جـ: "يصلح بيتا له".
(8) في جـ، ط: "فقام".
(9) زيادة من جـ، ط.
قال: حتى ارتفع البناء وضَعُفَ الشيخ عن نقل الحجارة. فقام على حَجَر المقام، فجعل يناوله الحجارة ويقولان: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
هكذا (1) رواه من هذين الوجهين في كتاب الأنبياء (2) .
والعجب أن الحافظ أبا عبد الله الحاكم رواه في كتابه المستدرك، عن أبي العباس الأصم، عن محمد بن سنان القَزَّاز، عن أبي علي عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، عن إبراهيم بن نافع، به. وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. كذا قال. وقد رواه البخاري كما ترى، من حديث إبراهيم بن نافع، كأن فيه اقتصارًا، فإنه لم يذكر فيه [شأن] (3) الذبح. وقد جاء في الصحيح، أن قرني الكبش كانا معلقين بالكعبة، وقد جاء أن إبراهيم، عليه السلام، كان يزور أهله بمكة على البراق سريعًا (4) ثم يعود إلى أهله بالبلاد (5) المقدسة، والله أعلم. والحديث -والله أعلم -إنما فيه -مرفوع -أماكن صَرح بها ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في هذا السياق ما يخالف بعض هذا، كما قال ابن جرير:
حدثنا محمد بن بشار، ومحمد بن المثنى قالا حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرِّب، عن علي بن أبي طالب، قال: لما أمر إبراهيم ببناء البيت، خرج معه إسماعيل وهاجر. قال: فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة، فيه مثلُ الرأس. فكلمه، قال: يا إبراهيم، ابن على ظِلي -أو قال على قدري -ولا تَزْد ولا تنقص: فلما بنى خرج، وخلف إسماعيل وهاجر، فقالت هاجر: يا إبراهيم، إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله. قالت: انطلق، فإنه لا يضيعنا. قال: فعطش إسماعيل عطشًا شديدًا، قال: فصعدت هاجر إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئًا، حتى أتت المروة فلم تر شيئًا، ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئًا، حتى أتت المروة فلم تر شيئًا، ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئًا، حتى فعلت ذلك سبع مرات، فقالت: يا إسماعيل، مت حيث لا أراك. فأتته وهو يفحص برجله من العطش. فناداها جبريل فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا هاجر أم ولد إبراهيم. قال: فإلى من وَكَلَكُما؟ قالت: وكلنا إلى الله. قال: وكلكما إلى كافٍ. قال: ففحص الغلام الأرض بأصبعه، فنبعت زمزم. فجعلت تحبس الماء فقال: دعيه فإنها رَوَاء (6) .
ففي هذا السياق أنه بنى البيت قبل أن يفارقهما، وقد يحتمل -إن كان محفوظًا -أن يكون أولا
__________
(1) في ط: "هكذا".
(2) صحيح البخاري برقم (3365).
(3) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(4) في جـ: "بمكة سريعا على البراق".
(5) في جـ: "ثم يعود لأهله إلى البلاد".
(6) تفسير الطبري (3/69).
(1/431)
وضع له حوطًا وتحجيرًا، لا أنه بناه إلى أعلاه، حتى كبر إسماعيل فبنياه معًا، كما قال الله تعالى.
ثم قال ابن جرير: أخبرنا هَنَّاد بن السري، حدثنا أبو الأحوص، عن سِماك، عن خالد بن عرعرة، أن رجلا قام إلى علي، رضي الله عنه، فقال: ألا تخبرني عن البيت، أهو أول بيت وضع في الأرض؟ فقال: لا ولكنه أول بيت وضع فيه البَرَكة (1) ،مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنًا، وإن شئت أنبأتك كيف بني: إن الله أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتًا في الأرض، قال: فضاق إبراهيم بذلك ذرعًا فأرسل الله السكينة -وهي ريح خجوج، ولها رأسان -فأتْبَع أحدهما صاحبه، حتى انتهت إلى مكة، فتطوت (2) على موضع البيت كطي الحجفَة، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة. فبنى إبراهيم وبقي حجر، فذهب الغلام يبغي شيئًا. فقال إبراهيم: أبغني حجرًا كما آمرك. قال: فانطلق الغلام يلتمس له حجرًا، فأتاه به، فوجده قد ركب الحجر الأسود في مكانه. فقال: يا أبه، من أتاك بهذا الحجر؟ فقال: أتاني به من لن يَتَّكل (3) على بنائك، جاء به جبريل، عليه السلام، من السماء. فأتماه (4) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا حمد بن عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا سفيان، عن بشر بن عاصم، عن سعيد بن المسيب، عن كعب الأحبار، قال: كان البيت غثاءة على الماء قبل أن يخلق الله الأرض بأربعين عامًا، ومنه دحيت الأرض.
قال سعيد: وحدثنا علي بن أبي طالب: أن إبراهيم أقبل من أرمينية، ومعه السكينة تدله على تَبُوُّء (5) البيت كما تتبوأ العنكبوت بيتًا، قال: فكشفت عن أحجار لا يُطيق (6) الحجر إلا ثلاثون رجلا. قلت: (7) يا أبا محمد، فإن الله يقول: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ } قال: كان ذلك بعد.
وقال السدي: إن الله، عز وجل، أمر إبراهيم أن يبني [البيت] (8) هو وإسماعيل: ابنيا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود، فانطلق إبراهيم، عليه السلام، حتى أتى مكة، فقام هو وإسماعيل، وأخَذَا المعاول لا يدريان أين البيت؟ فبعث الله ريحًا، يقال لها: ريح الخجوج، لها جناحان ورأس في صورة حية، فكشفت لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول، واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس. فذلك حين يقول [الله] (9) تعالى: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ } { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ } [ الحج : 26 ] فلما بنيا القواعد فبلغا مكان الركن. قال إبراهيم لإسماعيل: يا بني، اطلب لي حجرًا حسنًا أضعه هاهنا. قال: يا أبت، إني كسلان لَغب.
__________
(1) في جـ، ط، أ، و: "في البركة".
(2) في أ: "فنظرت".
(3) في جـ: "من لا يتكل".
(4) تفسير الطبري (3/70).
(5) في أ: "حتى بنوا".
(6) في ط: "ولا يطيق".
(7) في جـ، ط: "فقلت".
(8) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(9) زيادة من جـ.
(1/432)
قال: عَلَيّ بذلك فانطلق فطلب (1) له حجرًا، فجاءه بحجر فلم يرضه، فقال ائتني بحجر أحسن من هذا، فانطلق يطلب له حجرًا، وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند، وكان أبيض، ياقوتة بيضاء مثل الثَّغَامة، وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس، فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن، فقال: يا أبه، من جاءك بهذا؟ قال: جاء به من هو أنشط منك. فبنيا وهما يدعوان الكلمات التي ابتلى [بهن] (2) إبراهيم ربه، فقال: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
وفي هذا السياق ما يدل على أن قواعد البيت كانت مبنية قبل إبراهيم. وإنما هُدِي إبراهيمُ إليها وبُوِّئ لها. وقد ذهب إلى ذلك (3) ذاهبون، كما قال الإمام عبد الرزاق (4) أخبرنا معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ } قال: (5) القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك (6) .
وقال عبد الرزاق أيضًا: أخبرنا هشام بن حسان، عن سوار -ختن عطاء -عن عطاء ابن أبي رباح، قال: لما أهبط الله آدم من الجنة، كانت رجلاه في الأرض ورأسُه في السماء يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم، يأنس إليهم، فهابته (7) الملائكة، حتى شكت إلى الله في دعائها وفي صلاتها. فخفضه الله إلى الأرض، فلما فقد ما كان يسمع منهم استوحش حتى شكا ذلك إلى الله في دعائه وفي صلاته. فوجه إلى مكة، فكان موضع قَدَمه قريةً، وخَطوُه مفازة، حتى انتهى إلى مكة، وأنزل الله ياقوتة من ياقوت الجنة، فكانت على موضع البيت الآن. فلم يزل يطوف به حتى أنزل الله الطوفان، فرفعت تلك الياقوتة، حتى بعث الله إبراهيم، عليه السلام، فبناه. وذلك قول الله تعالى: { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ } [ الحج : 26 ] (8) .
وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج، عن عطاء، قال: قال آدم: إني لا أسمع أصوات الملائكة؟! قال: بخطيئتك، ولكن اهبط إلى الأرض، فابن لي بيتًا ثم احفف به، كما رأيت الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء. فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل: من حراء. وطور زيتا، وطور سَيْناء، وجبل لبنان، والجودي. وكان رَبَضُه من حراء. فكان هذا بناء آدم، حتى بناه إبراهيم، عليه السلام، بعد (9) .
وهذا صحيح إلى عطاء، ولكن في بعضه نكارَة، والله أعلم.
وقال عبد الرزاق أيضًا: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: وضع الله البيت مع آدم حين أهبط الله آدم إلى الأرض، وكان مهبطه بأرض الهند. وكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض، فكانت
__________
(1) في جـ، ط: "يطلب".
(2) زيادة من جـ.
(3) في جـ: "إلى هذا".
(4) في ط: "عبد الرزاق أيضا وأحمد".
(5) في ط: "قالوا".
(6) تفسير عبد الرزاق (1/78).
(7) في جـ: "فهابت".
(8) رواه الطبري في تفسيره (3/59) من طريق عبد الرزاق به.
(9) رواه الطبري في تفسيره (3/57) من طريق عبد الرزاق به.
(1/433)
الملائكة تهابه، فنُقص إلى ستين ذراعًا؛ فحزن (1) إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم. فشكا ذلك إلى الله، عز وجل، فقال الله: يا آدم، إني قد أهبطت لك بيتًا تطوف به كما يُطَاف حول عرشي، وتصلِّي عنده كما يصلى عند عرشي، فانطلق إليه آدم، فخرج ومُدَّ له في خطوه، فكان بين كل خطوتين مفازة. فلم تزل تلك المفازة (2) بعد ذلك. فأتى آدم البيت فطاف به، ومَن بعده من الأنبياء (3) .
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد (4) حدثنا يعقوب القُمِّي، عن حفص بن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: وضع الله البيت على أركان الماء، على أربعة أركان، قبل أن تُخْلَق الدنيا بألفي عام، ثم دحِيت الأرض من تحت البيت.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني [عبد الله] (5) بن أبي نَجِيح، عن مجاهد وغيره من أهل العلم: أن الله لما بَوَّأ إبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام، وخرج معه بإسماعيل وبأمه هاجر، وإسماعيل طفل صغير يرضع، وحمُلوا -فيما حدثني -على البُرَاق، ومعه جبريل يَدُلّه على موضع البيت ومعالم الحَرم. وخرج معه جبريل، فكان لا يمر بقرية إلا قال: أبهذه أمرت يا جبريل؟ فيقول جبريل: امضِه. حتى قدم به مكة، وهي إذ ذاك عضَاة سَلَم وَسَمُر، وبها أناس يقال لهم: "العماليق" خارج مكة وما حولها. والبيت يومئذ ربوة حمراء مَدِرَة، فقال إبراهيم لجبريل: أهاهنا أمرت أن أضعهما؟ قال: نعم. فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه، وأمر هاجَرَ أمَّ إسماعيل أن تتخذ فيه عَريشًا، فقال: { رَبَّنَا (6) إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ } إلى قوله: { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [ إبراهيم : 37 ] .
وقال عبد الرزاق: أخبرنا هشام بن حَسَّان، أخبرني حُمَيد، عن مجاهد، قال: خلق الله موضعَ هذا البيت قبلَ أن يخلق شيئًا بألفي سنة، وأركانه في الأرض السابعة (7) .
وكذا قال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد: القواعد في الأرض السابعة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عَمْرو بن رافع، أخبرنا (8) عبد الوهاب بن معاوية، عن عبد المؤمن بن خالد، عن علياء بن أحمر: أن ذا القرنين قدم مكة فوجد إبراهيم وإسماعيل يبنيان قواعدَ البيت من خمسة أجبل. فقال: ما لكما ولأرضي؟ فقال (9) نحن عبدان مأموران، أمرنا ببناء هذه الكعبة. قال: فهاتا بالبينة على ما تدعيان. فقامت خمسة أكبش، فقلن: نحن نشهد أن إبراهيم وإسماعيل عبدان مأموران، أمرا ببناء هذه الكعبة. فقال: قد رضيت وسلمت. ثم مضى.
__________
(1) في جـ، ط، أ: "فحزن آدم".
(2) في جـ، ط: "المفاوز".
(3) رواه الطبري في تفسيره (3/59) من طريق عبد الرزاق به.
(4) في جـ، ط: "حدثنا أبو حميد".
(5) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(6) في جـ، ط، أ، و: "رب" وهو خطأ.
(7) رواه الطبري في تفسيره (3/62) من طريق عبد الرزاق به.
(8) في جـ، ط: "حدثنا".
(9) في جـ، ط، أ، و: "فقالا".
(1/434)
وذَكَرَ الأزْرَقي في تاريخ مكة أن ذا القرنين طاف مع إبراهيم، عليه السلام، بالبيت، وهذا يدل على تقدم زمانه (1) ، والله أعلم.
وقال البخاري، رحمه الله: قوله تعالى: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } الآية: القواعد: أساسه واحدها قاعدة. والقواعد من النساء: واحدتها قاعدُ.
حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله: أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر عبد الله بن عُمَر، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألم تَرَيْ أن قومك حين بنوا البيت (2) اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟" فقلت: يا رسول الله، ألا تَرُدَّها على قواعد إبراهيم؟ قال: "لولا حِدْثان قومك بالكفر". فقال عبد الله بن عمر: لئن كانت عائشة سَمعت هذا (3) من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الرُّكنين اللذَين يَلِيان الحِجْر إلا أن البيت لم يُتَمَّم على قواعد إبراهيم، عليه السلام (4) .
وقد رواه في الحج عن القَعْنَبي، وفي أحاديث الأنبياء عن عبد الله بن يوسف. ومسلم عن يحيى بن يحيى، ومن حديث ابن وهب. والنسائي من حديث عبد الرحمن بن القاسم، كلهم عن مالك به (5) .
ورواه مسلم أيضًا من حديث نافع، قال: سمعت عبد الله بن أبي بكر بن أبي قُحَافة يحدث عبدَ الله بن عُمَر، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية -أو قال: بكفر -لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها الحجر" (6) .
وقال البخاري: حدثنا عُبَيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الأسود، قال: قال لي ابنُ الزبير: كانت عائشة تُسر إليك حديثًا كثيرًا، فما حدثتك في الكعبة؟ قال قلت: قالت لي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة، لولا قومك حديث عهدهم -فقال ابن الزبير: بكفر -لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين: بابًا يدخل منه الناس، وبابًا يخرجون". ففعله ابن الزبير.
انفرد بإخراجه البخاري، فرواه هكذا في كتاب العلم من صحيحه (7) .
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا حَدَاثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم، فإن قريشا حين بنت البيت (8) استقصرت، ولجعلت لها خَلْفًا".
__________
(1) تاريخ مكة (ص74).
(2) في جـ، ط، أ: "بنوا الكعبة".
(3) في جـ: "سمعت ذلك".
(4) صحيح البخاري برقم (4484).
(5) صحيح البخاري برقم (1585 ، 3368) وصحيح مسلم برقم (1333) وسنن النسائي (5/214).
(6) صحيح مسلم برقم (1333).
(7) صحيح البخاري برقم (126).
(8) في جـ: "بنت الكعبة".
(1/435)
قال: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كُرَيب، قالا حدثنا ابن نُمَير، عن هشام بهذا الإسناد. انفرد به مسلم (1) ،قال: وحدثني محمد بن حاتم، حدثني ابن مهدي، حدثنا سليم بن حَيَّان، عن سعيد -يعني ابن ميناء -قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقول: حدثتني خالتي -يعني عائشة رضي الله عنها -قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم:"يا عائشة، لولا قومك حديث عَهْد (2) بشرك، لهدمت الكعبة، فألزقتها بالأرض، ولجعلت لها بابين: بابًا شرقيًّا، وبابًا غربيًّا، وزدتُ فيها ستة أذرع من الحِجْر؛ فإن قريشًا اقتصرتها حيث بنت الكعبة" انفرد به أيضًا (3) . ذكر بناء قريش الكعبة بعد إبراهيم الخليل، عليه السلام، بمدد (4) طويلة
وقبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين
وقد نقل معهم في الحجارة، وله من العمر خمس وثلاثون سنة
صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين
قال محمد بن إسحاق بن يسار، في السيرة:
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسًا وثلاثين سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يَهُمُّون بذلك (5) ليسقفوها، ويهابون هَدْمها، وإنما كانت رَضما فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفرًا سرقوا كنز الكعبة، وإنما كان يكون في بئر في جَوْف الكعبة، وكان الذي وُجد عنده الكنز دويك، مولى بني مُلَيح بن عمرو من خزاعة، فقطعت قريش يده. ويزعم الناس أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك. وكان البحر قد رَمى بسفينة إلى جُدَّة، لرجل من تجار الروم، فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدُّوه لتسقيفها. وكان بمكة رجل قبطي نجار، فهيأ لهم، في أنفسهم بعض ما يصلحها، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تَطْرَحُ، فيها ما يُهْدَى0 لها كل يوم، فَتَتشرق (6) على جدار الكعبة، وكانت مما يهابون. وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزَألَّت وكشت وفتحت فاها، فكانوا يهابونها، فبينا هي يوما تَتَشرَّق على جدار الكعبة، كما كانت تصنع، بعث الله إليها طائرًا فاختطفها، فذهب بها. فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله قد رَضي ما أردنا، عندنا عامل رفيق، وعندنا خشب، وقد كفانا الله الحية.
فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها، قام أبو وهب بن عَمْرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1333).
(2) في جـ: "حديث عهدهم".
(3) صحيح مسلم برقم (1333).
(4) في جـ: "بمدة".
(5) في جـ: "لذلك".
(6) في جـ، ط: "فتشرف".
(1/436)
مخزوم، فتناول من الكعبة حجرًا، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه. فقال: يا معشر قريش، لا تُدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبًا، لا يدخل فيها مهر بَغِي ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس.
قال ابن إسحاق: والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر (1) بن مَخزُوم (2) .
قال: ثم إن قريشا تَجَزأت الكعبة، فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جُمَح وسهم، وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قُصي، ولبني أسد بن عبد العزى بن قُصي، ولبني عدي بن كعب بن لؤي، وهو الحَطيم.
ثم إن الناس هابوا هَدْمها وفَرقُوا (3) منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هَدْمها: فأخذ المعْولَ ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم تَرعْ، اللهم إنا لا نريد إلا الخير. ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئًا، ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا. فأصبح الوليد من ليلته غاديًا على عَمَله، فهدم وهدم الناس معه، حتى إذا انتهى الهدم [بهم] (4) إلى الأساس، أساس إبراهيم، عليه السلام، أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضًا (5) .
قال [محمد بن إسحاق] (6) فحدثني بعض من يروي الحديث: أن رجلا من قريش، ممن كان يهدمها، أدخل عَتَلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك الحجر تنقضت مكة بأسرها، فانتهوا عن ذلك الأساس (7) .
قال ابن إسحاق: ثم إن القبائل من قريش جَمَعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها، حتى بلغ البنيان موضع الركن -يعني الحجر الأسود -فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوروا وتخالفوا، وأعدوا للقتال. فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا: لعَقَة الدم. فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسًا. ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا.
فزعم بعض أهل الرواية: أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر بن مخزوم -وكان عامئذ أسن
__________
(1) في أ: "الوليد بن المغيرة بن عمر بن عبد الله".
(2) السيرة النبوية لابن إسحاق (نص رقم 103) ط، حميد الله، المغرب.
(3) في جـ: "وخافوا".
(4) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(5) السيرة النبوية لابن إسحاق (نص رقم 105) ط، حميد الله، المغرب.
(6) زيادة من جـ، ط.
(7) السيرة النبوية لابن إسحاق (نص رقم 106) ط، حميد الله، المغرب.
(1/437)
قريش كلهم -قال (1) : يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم، فيه. ففعلوا، فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال [رسول الله] (2) صلى الله عليه وسلم: "هَلُمَّ إليَّ ثوبًا" فأتي به، فأخذ الركن -يعني الحجر الأسود-فوضعه فيه بيده، ثم قال: "لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب"، ثم [قال] (3) : "ارفعوه جميعا". ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم، ثم بنى عليه.
وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي: الأمين. فلما فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا، قال الزبير بن عبد المطلب، فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها:
عجبت لَمَا تصوبت (4) العُقَاب ... إلى الثعبان وهي لها اضطراب ...
وقد كانت يكون لها كشيش ... وأحيانًا يكون لها وثَاب ...
إذا قمنا إلى التأسيس شَدَّت ... تُهَيّبُنُا البناءَ وقد تُهَابُ ...
فلما أن خَشِينا الزَّجْرَ جاءت ... عقاب تَتْلَئِبُّ لها انصباب ...
فضمتها إليها ثم خَلَّت ... لنا البنيانَ ليس له حجاب ...
فَقُمْنَا حاشدين إلى بناء ... لنا منه القواعدُ والتراب ...
غداة نُرَفِّع التأسيس منه ... وليس على مُسَوِّينا ثياب ...
أعَزّ به المليكُ بني لُؤي ... فليسَ لأصله منْهُم ذَهاب ...
وقد حَشَدَتْ هُنَاك بنو عَديّ ... ومُرَّة قد تَقَدَّمَها كلاب ...
فَبَوَّأنا المليك بذاكَ عزّا ... وعند الله يُلْتَمَسُ الثواب
قال ابن إسحاق: وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر ذراعًا، وكانت تكسى القباطي، ثم كُسِيت بعدُ البُرود، وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف.
قلت: ولم تزل على بناء قريش حتى أحرقت (5) في أول إمارة عبد الله بن الزبير بعد سنة ستين. وفي آخر ولاية يزيد بن معاوية، لما حاصروا ابن الزبير، فحينئذ نقضها ابن الزبير إلى الأرض وبناها على قواعد إبراهيم، عليه السلام، وأدخل فيها الحجر وجعل لها بابًا شرقيًّا وبابًا غربيًّا ملصقين
__________
(1) في جـ، ط: "فقال".
(2) زيادة من جـ.
(3) زيادة من ط.
(4) في ط: "صوبت".
(5) في أ، و: "احترقت".
(1/438)
بالأرض، كما سمع ذلك من خالته عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم تزل كذلك مُدَّة إمارته حتى قتله الحجاج، فردها إلى ما كانت عليه بأمر عبد الملك بن مَرْوان له بذلك، كما قال مسلم بن الحجاج في صحيحه:
حدثنا هَنَّاد بن السَّري، حدثنا ابن أبي زائدة، أخبرنا ابن أبي سليمان، عن عطاء، قال: لما احترق البيت زَمَنَ يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام، وكان من أمره ما كان، تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسمَ يريد أن يُجَرِّئَهم -أو يُحزبهم -على أهل الشام، فلما صدر الناس قال: يا أيها الناس، أشيروا عليَّ في الكعبة، أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وَهَى منها؟ قال ابن عباس: فإني (1) قد فَرِقَ لي رأي فيها، أرى أن تُصْلِحَ ما وَهى منها، وتدع بيتًا أسلم الناس عليه (2) وأحجارًا أسلم الناس عليها، وبعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم. فقال ابن الزبير: لو كان أحدهم احترق بيته ما رضي حتى يجدده، فكيف بيت ربكم، عز وجل؛ إني مستخير ربي ثلاثًا ثم عازم على أمري. فلما مضَت ثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها. فتحاماها الناسُ أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمْر من السماء، حتى صعده رجل، فألقى منه حجارة، فلما لم يَره الناس أصابه شيء تتابعوا، فنقضوه حتى بلغوا به الأرض. فجعل ابن الزبير أعمدة يستر (3) عليها الستور، حتى ارتفع بناؤه. وقال ابن الزبير: إني سمعت عائشة، رضي الله عنها، تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لولا أن الناس حديث عهدُهم بكفر، وليس عندي من النفقة ما يُقَوِّيني على بنائه، لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع، ولجعلت له بابًا يدخل الناس منه، وبابًا يخرجون منه (4) . قال: فأنا أجد ما أنفق، ولست أخاف الناس. قال: فزاد فيه خمسة (5) أذرع من الحجر، حتى أبدى له أسا (6) نَظَر الناس إليه فبنى عليه البناء. وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعًا، فلما زاد فيه استقصره فزاد في طوله عشرة (7) أذرع، وجعل له بابين: أحدهما يدخل منه، والآخر يخرج منه. فلما قُتِل ابنُ الزبير كتب الحجَّاج إلى عبد الملك يخبره بذلك، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة، فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أما ما زاده في طوله فأقره. وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه، وسد الباب الذي فتحه. فنقضه وأعاده إلى بنائه (8) .
وقد رواه النسائي في سننه، عن هناد، عن يحيى بن أبي زائدة، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن ابن الزبير، عن عائشة بالمرفوع منه (9) . ولم يذكر القصة، وقد كانَت السنة إقرار ما فعله عبد الله بن الزبير، رضي الله عنه؛ لأنه هو الذي وَدَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن خشي أن تنكره
__________
(1) في جـ: "فإنه".
(2) في جـ، ط: "عليها".
(3) في جـ، ط: "فستر".
(4) في جـ: "وبابا يخرج الناس منه".
(5) في جـ، ط: "خمس".
(6) في جـ: "أساسا" وفي أ: "أشيا" وفي و: "أشا".
(7) في جـ: "عشر".
(8) صحيح مسلم برقم (1333).
(9) سنن النسائي (5/218).
(1/439)
قلوب بعض الناس لحداثة عهدهم بالإسلام وقربِ عهدهم من الكفر. ولكن خفيت هذه السُّنةُ على عبد الملك؛ ولهذا (1) لما تحقق ذلك عن عائشة أنها روت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وددنا أنا تركناه وما تولى. كما قال مسلم:
حدثني محمد بن حاتم (2) حدثنا محمد بن بكر (3) أخبرنا ابن جُرَيج، سمعت عبد الله بن عُبَيد بن عمير والوليد بن عطاء، يحدثان عن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، قال عبد الله بن عبيد: وَفَدَ الحارث بن عبد الله على عبد الملك بن مروان في خلافته، فقال عبد الملك: ما أظن أبا خُبَيبٍ -يعني ابن الزبير -سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها. قال الحارث: بلى، أنا سمعته منها. قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قومك استقصروا من بنيان البيت، ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه، فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فَهَلُمِّي لأريك ما تركوا منه". فأراها قريبًا من سبعة (4) أذرع (5) .
هذا حديث عبد الله بن عُبيد [بن عمير] (6) . وزاد عليه الوليد بن عطاء: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض شرقيًّا وغربيًّا، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟" قالت: قلت: لا. قال: "تَعَزُّزًا ألا يدخلها إلا من أرادوا. فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها، يَدَعونه حتى (7) يرتقي، حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط" قال عبد الملك: فقلت للحارث: أنت سمعتها تقول هذا؟ قال: نعم. قال: فَنَكَتَ ساعة بعصاه، ثم قال: وَدِدْتُ أني تركت وما تَحَمَّل.
قال مسلم: وحدثناه محمد بن عمرو بن جبلة، حدثنا أبو عاصم(ح) وحدثنا عَبْدُ بن حُمَيْد، أخبرنا عبد الرزاق، كلاهما عن ابن جُرَيج بهذا الإسناد، مثلَ حديث ابن (8) بكر (9) .
قال: وحدثني محمد بن حاتم، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، حدثنا حاتم بن أبي صَغيرة، عن أبي قَزَعَة أنَّ عبد الملك بن مروان بينما هو يطوف بالبيت إذ قال: قاتل الله ابن الزبير حيث يكذب على أمِّ المؤمنين، يقول: سمعتها تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة، لولا حِدْثان قومك بالكفر لنقضت البيت حتى أزيد فيها (10) من الحجر، فإنَّ قومك قصروا في البناء". فقال الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة: لا تقل هذا يا أمير المؤمنين، فأنا سمعت أم المؤمنين تحدث هذا. قال: لو كنتُ سمعته قبل أن أهدمَه لتركته على ما بنى ابن الزبير (11) .
__________
(1) في أ: "ولكن".
(2) في جـ: "محمد بن بكر حاتم".
(3) في أ: "بن بكير".
(4) في جـ، ط، أ، و: "سبع".
(5) صحيح مسلم برقم (1333).
(6) زيادة من و.
(7) في أ، و: "حين".
(8) في أ: "مثل حديث أبي".
(9) صحيح مسلم برقم (1333).
(10) في جـ، ط، أ، و: "فيه".
(11) صحيح مسلم برقم (1333).
(1/440)
فهذا الحديث كالمقطوع به إلى عائشة أم المؤمنين، لأنه قد رُوي عنها من طرق صحيحة متعددة عن الأسود بن يزيد، والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق، وعروة بن الزبير. فدل هذا على صواب ما فعله ابن الزبير. فلو ترك لكان جيدًا.
ولكن بعد ما رجع الأمر إلى هذا الحال، فقد كَرِه بعض العلماء أن يغير عن حاله، كما ذكر عن أمير المؤمنين هارون الرشيد -أو أبيه المهدي -أنه سأل الإمام مالكًا عن هدم الكعبة وردِّها إلى ما فعله ابن الزبير. فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا تجعل كعبة الله مَلْعَبَة للملوك، لا يشاء أحد (1) أن يهدمها إلا هدمها. فترك ذلك الرشيد.
نقله عياض والنواوي، ولا تزال -والله أعلم -هكذا إلى آخر الزمان، إلى أن يخرِّبَها ذو السويقتين من الحبشة، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرب الكعبة ذو السُّوَيقتين من الحبشة". أخرجاه (2) .
وعن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"كأني به أسودَ أفحَجَ، يقلعها حجرًا حجرًا". رواه البخاري (3) .
وقال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: حدثنا أحمد بن عبد الملك الحَرَّاني، حدثنا محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما (4) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يُخَرِّب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة، ويسلبها حلْيتها (5) ويجردها من كسوتها. ولكأني أنظر إليه أصيلع أفَيْدعَ يضرب عليها بِمِسْحَاته ومِعْوله" (6) .
الفَدَع: زيغ بين القدم وعظم الساق.
وهذا -والله أعلم -إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج، لما جاء في صحيح (7) البخاري عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليُحَجَّنَّ البيتُ وليُعْتَمَرَنَّ بعد خروج يأجوج ومأجوج" (8) .
وقوله تعالى حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل، عليهما السلام: { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }
__________
(1) في أ، و: "لا يشاء الله".
(2) صحيح البخاري برقم (1596) وصحيح مسلم برقم (2909).
(3) صحيح البخاري برقم (1595).
(4) في جـ: "عنه".
(5) في جـ: "ويسلبها قال حليتها".
(6) المسند (2/220).
(7) في جـ: "في حديث".
(8) صحيح البخاري برقم (1593).
(1/441)
قال ابن جرير: يعنيان بذلك، واجعلنا مستسلمين (1) لأمرك، خاضعين لطاعتك، لا نشرك معك في الطاعة أحدًا سواك، ولا في العبادة غيرك.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إسماعيل بن رجاء بن حيان الحِصْني القرشي، حدثنا معقل بن عبيد الله، عن عبد الكريم: { وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } قال: مخلصين لك، { وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } قال: مخلصة.
وقال أيضا: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا المقدمي، حدثنا سعيد بن عامر، عن سلام بن أبي مطيع في هذه الآية { وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ } قال: كانا مسلمين، ولكنهما سألاه الثبات.
وقال عكرمة: { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } قال الله: قد فعلت. { وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } قال الله: قد فعلت.
وقال السدي: { وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } يعنيان العرب.
قال ابن جرير: والصواب أنه يعمُّ العرب وغيرهم؛ لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل، وقد قال الله تعالى: { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 159 ]
قلت: وهذا الذي قاله ابن جرير لا ينفيه السدي؛ فإن تخصيصهم بذلك لا ينفي من عداهم، والسياق إنما هو في العرب؛ ولهذا قال بعده: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ } الآية، والمراد بذلك محمَّد صلى الله عليه وسلم، وقد بعث فيهم كما قال تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ } [ الجمعة : 2 ] ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود، لقوله تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158 ] ، وغير ذلك من الأدلة القاطعة.
وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل، عليهما السلام، كما أخبر الله تعالى عن عباده المتقين المؤمنين، في قوله: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } [ الفرقان : 74 ] . وهذا القدر مرغوب فيه شرعًا، فإن من تمام محبة عبادة الله تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد الله وحده لا شريك له؛ ولهذا لما قال الله تعالى لإبراهيم، عليه السلام: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } قال: { وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } وهو قوله: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ } [ إبراهيم : 35 ] . وقد ثبت في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (2)
__________
(1) في جـ، أ: "واجعلنا مسلمين".
(2) صحيح مسلم برقم (1631).
(1/442)
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
" وأرنا مناسكنا " قال ابن جُريج، عن عطاء { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } أخرجها لنا،عَلِّمْنَاها (1) .
وقال مجاهد { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } مذابحنا. ورُوى عن عطاء أيضًا، وقتادة نحو ذلك.
وقال سعيد بن منصور: حدثنا عتاب بن بشير، عن خُصيف، عن مجاهد، قال: قال إبراهيم: "أرنا مناسكنا" فأتاه جبرائيل، فأتى به البيت، فقال: ارفع القواعد. فرفع القواعد وأتم البنيان، ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى الصفا، قال: هذا من شعائر الله. ثم انطلق به إلى المروة، فقال: وهذا من شعائر الله؟. ثم انطلق به نحو (2) مِنًى، فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة، فقال: كَبِّر وارمه. فكبر ورماه. ثم انطلق (3) إبليس فقام عند الجمرة الوسطى، فلما جاز به (4) جبريل وإبراهيم قال له: كبر وارمه. فكبر ورماه. فذهب إبليس وكان الخبيث أراد أن يُدْخِل في الحج شيئًا فلم يستطع، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام، فقال: هذا المشعر الحرام. فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به عرفات. قال: قد عرفت ما أريتك؟ قالها: ثلاث مرار. قال: نعم.
وروي عن أبي مِجْلز وقتادة نحو ذلك. وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي العاصم الغنوي، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس، قال: إن إبراهيم لما أريَ أوامر المناسك، عرض له الشيطان عند المسعى، فسابقه إبراهيم، ثم انطلق به جبريل حتى أتى (5) به منى، فقال: مُنَاخ الناس هذا. فلما انتهى إلى جمرة العقبة تعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتى به الجمرة الوسطى، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات، حتى ذهب، ثم أتى به الجمرة القصوى، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، فأتى به جَمْعًا. فقال: هذا المشعر. ثم أتى به عرفة. فقال: هذه عرفة. فقال له جبريل: أعرفت؟ (6) .
{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) }
يقول تعالى إخبارًا عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم -أن يبعث الله فيهم رسولا منهم، أي من ذرية إبراهيم. وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قَدَرَ الله السابق في تعيين محمد -صلوات الله وسلامه عليه (7) -رسولا في الأميين إليهم، إلى سائر الأعجمين، من الإنس والجن، كما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح، عن سعيد بن سُوَيد الكلبي، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني عند الله لخاتم
__________
(1) في جـ، ط: "وعلمناها".
(2) في أ: "إلى".
(3) في جـ: "فانطلق".
(4) في أ: "فلما حاذاه"، وفي و: "فلما حاذى به".
(5) في جـ، ط: "حتى أراه".
(6) مسند الطيالسي برقم (2697).
(7) في جـ: "صلى الله عليه وسلم".
(1/443)
النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك، دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين (1) يَرَيْنَ" (2) .
وكذلك (3) رواه ابن وهب، والليث، وكاتبه عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، وتابعه أبو بكر بن أبي مريم، عن سعيد بن سُويَد، به.
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا أبو النضر، حدثنا الفرج، حدثنا لقمان بن عامر: سمعت أبا أمامة قال: قلت: يا رسول الله، ما كان أول بَدْء أمرك؟ قال: "دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بي، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام" (4) .
والمراد أن أول من نَوّه بذكره وشهره في الناس، إبراهيم (5) عليه السلام. ولم يزل ذكره في الناس مذكورًا مشهورًا سائرًا حتى أفصح باسمه خاتمُ أنبياء بني إسرائيل نسبًا، وهو عيسى ابن مريم، عليه السلام، حيث قام في بني إسرائيل خطيبًا، وقال: { إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } [ الصف : 6] ؛ ولهذا قال في هذا الحديث: "دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بن مريم".
وقوله: "ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام" قيل: كان منامًا رأته حين حملت به، وقَصته على قومها فشاع فيهم واشتهر بينهم، وكان ذلك توطئة. وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه وثبوته ببلاد الشام، ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلا للإسلام وأهله، وبها ينزل عيسى ابن مريم إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها. ولهذا جاء في الصحيحين: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" (6) . وفي صحيح البخاري: "وهم بالشام" (7) .
قال (8) أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ } يعني: أمة محمد صلى الله عليه وسلم. فقيل له: قد استجيبت لك، وهو كائن في آخر الزمان. وكذا قال السدي وقتادة.
وقوله تعالى: { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ } يعني: القرآن { وَالْحِكْمَةَ } يعني: السنة، قاله الحسن،
__________
(1) في أ: "المؤمنين".
(2) المسند (4/127).
(3) في جـ، ط: "وكذا".
(4) المسند (5/262).
(5) في جـ: "إبراهيم الخليل".
(6) هذا لفظ حديث ثوبان في صحيح مسلم برقم (1920) ورواه أيضا بنحوه من حديث معاوية برقم (1037) وهو في صحيح البخاري برقم (7460) من حديث معاوية رضي الله عنه برقم (7459) من حديث المغيرة رضي الله عنه.
(7) صحيح البخاري برقم (7460) من حديث معاذ رضي الله عنه.
(8) في جـ، ط: "وقال".
(1/444)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
وقتادة، ومقاتل بن حيان، وأبو مالك وغيرهم. وقيل: الفهم في الدين. ولا منافاة.
{ وَيُزَكِّيهِمْ } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني طاعة الله، والإخلاص.
وقال محمد بن إسحاق { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } قال: يعلمهم الخير فيفعلوه، والشر فيتقوه، ويخبرهم برضاه عنهم إذا أطاعوه واستكثروا من طاعته، وتجنبوا ما سخط من معصيته.
وقوله: { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي: العزيز الذي لا يعجزه شيء، وهو قادر على كل شيء، الحكيم في أفعاله وأقواله، فيضع الأشياء في محالها؛ وحكمته وعدله.
{ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) }
يقول تبارك وتعالى رَدًّا على الكفار فيما ابتدعوه وأحدثوه من الشرك بالله، المخالف لملة إبراهيم الخليل، إمام الحنفاء، فإنه جَرد توحيد ربه تبارك وتعالى، فلم يَدْع معه غيره، ولا أشرك به طرفة عين، وتبرأ من كل معبود سواه، وخالف في ذلك سائر قومه، حتى تبرأ من أبيه، فقال: { يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 78 ، 79 ] ، وقال تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ* إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } [ الزخرف : 26 ، 27 ] ، وقال تعالى : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إيَّاهُ فَلَمَا تَبَيَّنَ لَهُ أنَّه عَدُوٌ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ إنَّ إبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } [ التوبة : 114 ] وقال تعالى: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ* وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } [ النحل : 120 -122] ، ولهذا وأمثاله قال تعالى: { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ } أي: عن طريقته ومنهجه. فيخالفها ويرغب عنها { إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } أي: ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلال، حيث خالف طريق من اصطفي في الدنيا للهداية والرشاد، من حَداثة سنّه (1) إلى أن اتخذه الله خليلا وهو في الآخرة من الصالحين السعداء -فترك طريقه هذا ومسلكه وملّته واتبع طُرُقَ الضلالة والغي، فأي سفه أعظم من هذا؟ أم أي ظلم أكبر من هذا؟ كما قال تعالى: { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }
وقال أبو العالية وقتادة: نزلت هذه الآية في اليهود؛ أحدثوا طريقًا ليست من عند الله وخالفوا ملَّة إبراهيم فيما أخذوه (2) ، ويشهد لصحة هذا القول قول الله تعالى: { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 67 ، 68 ].
__________
(1) في أ: "من حداثة بنيته".
(2) في جـ، ط، أ، و: "فيما أحدثوه".
(1/445)
وقوله تعالى: { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } أي: أمره الله (1) بالإخلاص له والاستسلام والانقياد، فأجاب إلى ذلك شرعًا وقدرًا.
وقوله: { وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ } أي: وصى بهذه الملة (2) وهي الإسلام لله [أو يعود الضمير على الكلمة وهي قوله: { أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } ] (3) . لحرصهم عليها ومحبتهم لها حافظوا عليها إلى حين الوفاة ووصوا أبناءهم بها من بعدهم؛ كقوله تعالى: { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } [ الزخرف : 28 ] وقد قرأ بعض السلف "ويعقوب" بالنصب عطفًا على بنيه، كأن إبراهيم وصى بنيه وابن ابنه يعقوب بن إسحاق وكان حاضرًا ذلك، وقد ادعى القشيري، فيما حكاه القرطبي عنه أن يعقوب إنما ولد بعد وفاة إبراهيم، ويحتاج مثل هذا إلى دليل صحيح؛ والظاهر، والله أعلم، أن إسحاق ولد له يعقوب في حياة الخليل وسارة؛ لأن البشارة وقعت بهما في قوله: { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] وقد قرئ بنصب يعقوب هاهنا على نزع الخافض، فلو لم يوجد يعقوب في حياتهما لما كان لذكره من بين ذرية إسحاق كبير فائدة، وأيضًا فقد قال الله تعالى في سورة العنكبوت: { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } [ الآية : 27 ] وقال في الآية الأخرى: { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ] وهذا يقتضي أنه وجد في حياته، وأيضًا فإنه باني بيت المقدس، كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة، وثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع أول؟ قال: "المسجد الحرام"، قلت: ثم أي؟ قال: "بيت المقدس". قلت: كم بينهما؟ قال: "أربعون سنة" الحديث (4) . فزعم ابن حبان أن بين سليمان الذي اعتقد أنه باني بيت المقدس -وإنما كان جدّده بعد خرابه وزخرفه -وبين إبراهيم أربعين سنة، وهذا مما أنكر على ابن حبان، فإن المدة بينهما تزيد على ألوف سنين، والله أعلم، وأيضًا فإن ذكر وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريبًا، وهذا يدل على أنه هاهنا من جملة الموصين.
وقوله: { يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } أي: أحسنوا في حال الحياة والزموا هذا ليرزقكم (5) الله الوفاة عليه. فإن المرء يموت غالبًا على ما كان عليه، ويبعث على ما مات عليه. وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قصد الخير وُفّق له ويسر (6) عليه. ومن نوى صالحًا ثبت عليه. وهذا لا يعارض ما جاء، في الحديث [الصحيح] (7) "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا بَاعٌ أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها (8) . وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب،
__________
(1) في جـ، ط، أ، و: "أمره تعالى".
(2) في أ: "أي رضي بهذه المسألة".
(3) زيادة من جـ، ط، أ.
(4) صحيح البخاري برقم (3366) وصحيح مسلم برقم (520).
(5) في جـ: "يرزقكم".
(6) في ط: "ويسره".
(7) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(8) في جـ، ط، أ، و: "فيدخل النار".
(1/446)
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها"؛ لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث: "فيعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس. وقد قال الله تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } [ الليل : 5 -10 ] .
{ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) }
يقول تعالى محتجًّا على المشركين من العرب أبناء إسماعيل، وعلى الكفار من بني إسرائيل -وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم (1) السلام -بأن يعقوب لما حضرته الوفاة وصى بنيه بعبادة الله وحده لا شريك له، فقال لهم: { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } وهذا من باب التغليب لأن إسماعيل عمه.
قال النحاس: والعرب تسمي العم أبًا، نقله القرطبي؛ وقد استدل بهذه الآية من جعل الجد أبًا وحجب به الإخوة، كما هو قول الصديق -حكاه البخاري عنه من طريق ابن عباس وابن الزبير، ثم قال البخاري: ولم يختلف عليه، وإليه ذهبت عائشة أم المؤمنين، وبه يقول الحسن البصري وطاوس وعطاء، وهو مذهب أبي حنيفة وغير واحد من علماء السلف والخلف؛ وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه أنه يقاسم الإخوة؛ وحكى مالك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وجماعة من السلف والخلف، واختاره صاحبا أبي حنيفة القاضي: أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، ولتقريرها موضع آخر.
وقوله: { إِلَهًا وَاحِدًا } أي: نُوَحِّدُه بالألوهية، ولا نشرك به شيئا غيره { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي: مطيعون خاضعون كما قال تعالى: { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ وسلم } [ آل عمران : 83 ] والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة، وإن تنوّعت شرائعهم واختلفت مناهجهم، كما قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء : 25]. والآيات في هذا كثيرة والأحاديث، فمنها قوله صلى الله عليه وسلم :"نحن مَعْشَرَ الأنبياء أولاد عَلات ديننا واحد" (2) .
وقوله تعالى: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } أي: مضت { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ } أي: إن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيرًا يعود
__________
(1) في ط: "عليه".
(2) صحيح البخاري برقم (3443) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأولاد العلات: هم الأخوة من الأب وأمهاتهم شتى.
(1/447)
نفعهُ عليكم، فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم: { وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
وقال أبو العالية، والربيع، وقتادة: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } يعني: إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط [ولهذا جاء، في الأثر: من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه] (1)
__________
(1) زيادة من جـ، ط، أ، و.
=====
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
البقرة - تفسير ابن كثير
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
{ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) }
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال عبد الله بن صُوريا الأعورُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الهدى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهتد (1) . وقالت النصارى مثل ذلك. فأنزل الله عز وجل: { وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا }
وقوله { بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } " أي: لا نريد ما دعوتم إليه من اليهودية والنصرانية، بل نتبع { مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } أي: مستقيما. قاله محمد بن كعب القرظي، وعيسى بن جارية.
وقال خَصِيف عن مجاهد: مخلصًا. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: حاجًّا. وكذا روي عن الحسن والضحاك وعطية، والسدي.
وقال أبو العالية: الحنيف الذي يستقبل البيت بصلاته، ويرى أن حَجَّه عليه إن استطاع إليه سبيلا.
وقال مجاهد، والربيع بن أنس: حنيفًا، أي: متبعًا. وقال أبو قلابة: الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم.
وقال قتادة: الحنيفية: شهادة أن لا إله إلا الله. يدخل فيها تحريمُ الأمهات والبنات والخالات والعمات وما حرم الله، عز وجل (2) والختانُ.
{ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) }
أرشد الله تعالى عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أنزل إليهم بواسطة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مفصلا وبما أنزل على الأنبياء المتقدمين مجملا ونص على أعيان من الرسل، وأجمل ذكر بقية الأنبياء، وأن (3) لا يفرقوا بين أحد منهم، بل يؤمنوا بهم كلّهم، ولا يكونوا كمن قال الله فيهم: { وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا } [ النساء : 150 ، 151] .
__________
(1) في جـ: "تهتدي"، وفي ط: "تهدى".
(2) في جـ: "الله تعالى".
(3) في أ: "أنهم".
(1/448)
وقال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عثمان بن عُمَر، أخبرنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبْرَانيَّة ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تُكَذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا (1) " (2) .
وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من حديث عثمان بن حكيم، عن سعيد بن يَسار عن ابن عباس، قال، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما يصلى الركعتين اللتين قبل الفجر بـ { آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا } الآية، والأخرى بـ { آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 52 ] . (3) وقال أبو العالية والربيع وقتادة: الأسباط: بنو يعقوب اثنا عشر رجلا؛ ولد كل (4) رجل منهم أمة من الناس، فسمّوا الأسباط.
وقال الخليل بن أحمد وغيره: الأسباط في بني إسرائيل، كالقبائل في بني إسماعيل؛ وقال الزمخشري في الكشاف: الأسباط: حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثنى عشر، وقد نقله الرازي عنه، وقرره ولم يعارضه. وقال البخاري: الأسباط: قبائل بني إسرائيل، وهذا يقتضي أن المراد بالأسباط هاهنا شعوب بني إسرائيل، وما أنزل الله تعالى من الوحي على الأنبياء الموجودين منهم، كما قال موسى لهم: { اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } [ المائدة : 20 ] وقال تعالى: { وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا } [ الأعراف : 160 ] وقال القرطبي: وسموا الأسباط من السبط، وهو التتابع، فهم جماعة متتابعون. وقيل: أصله من السبط، بالتحريك، وهو الشجر، أي: هم في الكثرة بمنزلة الشجر الواحدة سبطة. قال الزجاج: ويبين لك هذا: ما حدثنا محمد بن جعفر الأنباري، حدثنا أبو نجيد الدقاق، حدثنا الأسود بن عامر، حدثنا إسرائيل عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمد -عليهم الصلاة والسلام. قال القرطبي: والسبط: الجماعة والقبيلة، الراجعون إلى أصل واحد.
وقال قتادة: أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا به، ويصدقُوا بكتبه كلّها وبرسله.
وقال سليمان بن حبيب: إنما أمرنا أن نؤمن بالتوراة والإنجيل، ولا نعمل بما فيهما.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن محمد بن مُصْعب الصوري، حدثنا مُؤَمَّل، حدثنا عبيد الله
__________
(1) في أ، و: "وما أنزل الله"، وفي جـ: "وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم".
(2) صحيح البخاري برقم (4485).
(3) صحيح مسلم برقم (727) وسنن أبي داود برقم (1259) وسنن النسائي (2/155).
(4) في جـ: "وكذا كل".
فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)
بن أبي حميد، عن أبي المليح، عن مَعْقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آمنوا بالتوراة والزبور والإنجيل وليسَعْكمُ القرآن" (1) .
{ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) }
يقول تعالى: { فَإِنْ آمَنُوا } أي (2) : الكفار من أهل الكتاب وغيرهم { بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ } أيها المؤمنون، من الإيمان بجميع كتب الله ورسله، ولم يفرقوا بين أحد منهم { فَقَدِ اهْتَدَوْا } أي: فقد أصابوا الحق، وأرشدوا إليه { وَإِنْ تَوَلَّوْا } أي: عن الحق إلى الباطل، بعد قيام الحجة عليهم { فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ } أي: فسينصرك عليهم ويُظْفِرُك بهم { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
وقال ابن أبي حاتم: قرئ على يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب، حدثنا زياد بن يونس، حدثنا نافع بن أبي نُعَيم، قال: أرسل إليَّ بعض الخلفاء مصحفَ عثمان بن عفان ليصلحه. قال زياد: فقلت له: إن الناس يقولون: إن مصحفه كان في حجره حين قُتِل، فوقع الدم على { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فقال نافع: بَصُرت عيني بالدم على هذه الآية وقد قَدُم (3) .
وقوله: { صِبْغَةَ اللَّهِ } قال الضحاك، عن ابن عباس: دين الله وكذا روي عن مجاهد، وأبي العالية، وعكرمة، وإبراهيم، والحسن، وقتادة، والضحاك، وعبد الله بن كثير، وعطية العوفي، والربيع بن أنس، والسدي، نحو ذلك.
وانتصاب { صِبْغَةَ اللَّهِ } إما على الإغراء كقوله { فِطْرَتَ اللَّهِ } [ الروم : 30 ] أي: الزموا ذلك عليكموه. وقال بعضهم: بدل من قوله: { مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } وقال سيبويه: هو مصدر مؤكد انتصب عن قوله: { آمَنَّا بِاللَّهِ } كقوله { وَاعْبُدُوا اللَّهَ } [ النساء : 36 ] .
وقد ورد (4) في حديث رواه ابن أبي حاتم وابن مَرْدُويه، من رواية أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس أن نبي الله (5) قال: "إن بني إسرائيل قالوا: يا موسى، هل يَصْبُغ ربك؟ فقال: اتقوا الله. فناداه ربه: يا موسى، سألوك هل يَصْبُغ ربك؟ فقل: نعم، أنا أصبُغ الألوان: الأحمر والأبيض والأسود، والألوان كلها من صَبْغي". وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: { صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً } (6) .
كذا وقع في رواية ابن مردويه مرفوعًا، وهو في رواية ابن أبي حاتم موقوف، وهو أشبه، إن صح إسناده، والله أعلم (7) .
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (1/400) وفي إسناده عبيد الله بن أبي حميد متفق على ضعفه ويروي عن أبي المليح عجائب. انظر: الميزان (3/5) والتهذيب (7/9).
(2) في و: "يعني".
(3) تفسير ابن أبي حاتم (1/402).
(4) في ط: "وقد روى".
(5) في جـ، ط، أ، و: "نبي الله صلى الله عليه وسلم".
(6) تفسير ابن أبي حاتم (1/403) ومن طريقه أبو الشيخ في العظمة برقم (138).
(7) في جـ: "والله تبارك وتعالى أعلم".
قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
{ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) }
يقول الله تعالى مرشدا نبيه صلوات الله وسلامه عليه (1) إلى درء مجادلة المشركين: { قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ } أي: أتناظروننا في توحيد الله والإخلاص له والانقياد، واتباع أوامره وترك زواجره { وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } المتصرف فينا وفيكم، المستحق لإخلاص الإلهية له وحده لا شريك له! { وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } أي: نحن برآء منكم، وأنتم بُرَآء منا، كما قال في الآية الأخرى: { وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } [ يونس : 41]وقال تعالى: { فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [ آل عمران : 20]وقال تعالى إخباراً عن إبراهيم (2) { وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 80] وقال { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ } الآية[ البقرة : 258].
وقال في هذه الآية الكريمة: { [وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ] (3) وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } أي: نحن (4) برآء منكم كما أنتم برآء منا، ونحن له مخلصون، أي في العبادة والتوجه.
ثم أنكر تعالى عليهم، في دعواهم أن إبراهيم ومن ذكر بعده من الأنبياء والأسباط كانوا على ملتهم، إما اليهودية وإما النصرانية (5) فقال: { قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ } يعني: بل الله أعلم، وقد أخبر أنهم لم يكونوا هودا ولا نصارى، كما قال تعالى: { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } الآية والتي بعدها[ آل عمران : 67 ،68].
وقوله: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ } قال الحسن البصري: كانوا يقرؤون في كتاب الله الذي أتاهم: إن الدين [عند الله] (6) الإسلامُ، وإن محمدا رسول الله، وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا برآء من اليهودية والنصرانية، فشهِد الله بذلك، وأقروا به على أنفسهم لله، فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك.
__________
(1) في جـ: "صلى الله عليه وسلم".
(2) في جـ: "عن إبراهيم عليه السلام".
(3) زيادة من و.
(4) في جـ، ط: "أي ونحن".
(5) في جـ، ط، أ، و: "أو النصرانية".
(6) زيادة من جـ، ط.
وقوله: { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [فيه] (1) تهديد ووعيد شديد، أي: [أن] (2) علمه محيط بعملكم، وسيجزيكم عليه.
ثم قال تعالى: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } أي: قد مضت { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ } أي: لهم أعمالهم ولكم أعمالكم { وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وليس يغني عنكم انتسابكم إليهم، من غير متابعة منكم لهم، ولا تغتروا بمجرد النسبة إليهم حتى تكونوا مثلهم منقادين لأوامر الله واتباع رسله، الذين بعثوا مبشرين ومنذرين، فإنه من كفر بنبي واحد فقد كفر بسائر الرسل، ولا سيما من كفر بسيد الأنبياء، وخاتم المرسلين ورسول رب العالمين إلى جميع الإنس والجن من سائر المكلفين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله (3) أجمعين (4) .
__________
(1) زيادة من جـ، ط.
(2) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(3) في جـ: "وعلى سائر أنبيائه".
(4) في أ: "أجمعين أبدا دائما إلى يوم الدين ورضي الله تعالى عن أصحابه وأصحابهم المتبعين إلى يوم الحشر واليقين".
===============
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
البقرة - تفسير ابن كثير
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
{ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) }
[قيل المراد بالسفهاء هاهنا: المشركون؛ مشركو العرب، قاله الزجاج. وقيل: أحبار يهود، قاله مجاهد. وقيل: المنافقون، قاله السدي. والآية عامة في هؤلاء كلهم، والله أعلم] (1) .
قال البخاري: حدثنا أبو نُعَيم، سمع زُهَيراً، عن أبي إسحاق، عن البراء، رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت (2) المقدس ستَّة عشر شهرا أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها، صلاة العصر، وصلى معه قوم. فخرج رجل (3) ممن كان صلى معه، فمر على أهل المسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم قبَل مكة، فدارُوا كما هم قبل البيت. وكان الذي مات على القبلة قبل أن تُحَوّل قبل البيت رجالا قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله عز وجل { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }
انفرد به البخاري من هذا الوجه (4) . ورواه مسلم من وجه آخر (5) .
__________
(1) زيادة من جـ، ط.
(2) في جـ: "إلى البيت".
(3) في ط: "فخرج قوم".
(4) صحيح البخاري برقم (4486).
(5) صحيح مسلم برقم (525).
(1/452)
وقال محمد بن إسحاق: حدثني إسماعيل (1) بن أبي خالد، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس، ويكثر النظر إلى السماء ينتظر (2) أمر الله، فأنزل الله: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } فقال رجال (3) من المسلمين: وَددْنا لو عَلمْنا علم من مات منا قبل أن نُصْرف إلى القبلة، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس؟ فأنزل الله: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } وقال السفهاء من الناس، وهم أهل الكتاب: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله: { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ } إلى آخر الآية.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا الحسن بن عطية، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وكان يحب أن يوجه نحو الكعبة، فأنزل الله: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قال: فَوُجّه نحو الكعبة. وقال السفهاء من الناس، وهم اليهود: { مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } فأنزل الله { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا هاجر إلى المدينة، أمَره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحِب قبلة إبراهيم، فكان يدعو الله وينظر إلى السماء، فأنزل الله عز وجل: { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } أي: نحوه. فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله: { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } .
وقد جاء في هذا الباب أحاديثُ كثيرة، وحاصلُ الأمر أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمِرَ باستقبال الصخرة من بيت المقدس، فكان بمكة يُصَلِّي بين الركنين، فتكون بين يديه الكعبة وهو مستقبل صخرة بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة تَعَذَّر الجمعُ بينهما، فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس، قاله ابن عباس والجمهور، ثم اختلف هؤلاء هل كان الأمر به بالقرآن أو بغيره؛ على قولين، وحكى القرطبي في تفسيره عن عكرمة وأبي العالية والحسن البصري أن التوجه إلى بيت المقدس كان باجتهاده عليه الصلاة والسلام. والمقصود أن التوجه إلى بيت المقدس بعد مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة، فاستمرَّ الأمرُ على ذلك بضعة عَشَرَ شهراً، وكان يكثر الدعاءَ والابتهالَ أنْ يُوَجَّه إلى الكعبة، التي هي قبلة إبراهيم، عليه السلام، فأجيب إلى ذلك، وأمر بالتوجِّه إلى البيت العتيق، فخطب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الناس، وأعلمهم بذلك. وكان أول صلاة صلاها إليها صلاة العصر، كما تقدم في الصحيحين من رواية البراء. ووقع عند النسائي من رواية أبي سعيد بن المعلى: أنها الظهر (4) . وأما أهل قُبَاء، فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر من اليوم الثاني، كما جاء في الصحيحين، عن ابن عمر أنه قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد
__________
(1) في أ: "حدثني المعلى".
(2) في ط: "وينتظر".
(3) في أ: "فقال رجل".
(4) سنن النسائي الكبرى برقم (11004).
(1/453)
أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها. وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة (1) .
وفي هذا دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به، وإن تقدم نزوله وإبلاغه؛ لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء، والله أعلم.
ولما وقع هذا حصل لبعض الناس -من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود -ارتياب وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك، وقالوا: { مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } أي: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا، وتارة يستقبلون كذا؟ فأنزل الله جوابهم في قوله: { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } أي: الحكم والتصرف والأمر كله لله، وحيثما تولوا فثمَّ وجه الله، و { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } [ البقرة : 177]أي: الشأن كله في امتثال أوامر الله، فحيثما وجهنا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره، ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة، فنحن عبيده وفي تصريفه وخُدَّامُه، حيثما وجَّهَنا توجهنا، وهو تعالى له بعبده ورسوله محمد -صلوات الله وسلامه عليه (2) -وأمتِه عناية عظيمة؛ إذ هداهم إلى قبلة إبراهيم، خليل الرحمن، وجعل توجههم إلى الكعبة المبنية على اسمه تعالى وحده لا شريك له، أشرف بيوت الله في الأرض، إذ هي بناء إبراهيم الخليل، عليه السلام، ولهذا قال: { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } .
وقد روى الإمام أحمد، عن علي بن عاصم، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عُمَر (3) بن قيس، عن محمد بن الأشعث، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني في أهل الكتاب -:"إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة، التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين" (4) .
وقوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } يقول تعالى: إنما حَوّلناكم إلى قبلة (5) إبراهيم، عليه السلام، واخترناها لكم (6) لنجعلكم خيار الأمم، لتكونوا يوم القيامة شُهَداء على الأمم؛ لأن الجميع (7) معترفون (8) لكم بالفضل. والوسط هاهنا: الخيار والأجود، كما يقال: قريش أوسطُ العرب نسباً وداراً، أي: خيرها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطا في قومه، أي: أشرفهم نسبا، ومنه الصلاة الوسطى، التي هي أفضل الصلوات، وهي العصر، كما ثبت في الصحاح وغيرها، ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً خَصَّها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح (9) المذاهب، كما قال تعالى: { هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } [ الحج : 78]
__________
(1) صحيح البخاري برقم (403) وصحيح مسلم برقم (526).
(2) في ط: "صلى الله عليه وسلم".
(3) في ط، أ، و: "عن عمرو".
(4) المسند (6/134).
(5) في ط: "ملة".
(6) في أ: "واحترفناها لكم"، وفي و: "واخترناكم لها".
(7) في أ: "الأمم".
(8) في ط: "معترفين" وهو خطأ..
(9) في جـ: "وأصح".
(1/454)
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: هل بلَّغت؟ فيقول: نعم. فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد، فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته" قال: فذلك قوله: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } (1) .
قال: الوسط (2) : العدل، فتدعون، فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم (3) .
رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن الأعمش، [به] (4) (5) .
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجيء النبي يوم القيامة [ومعه الرجل والنبي] (6) ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه، فيقال [لهم] (7) هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا. فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم. فيقال [له] (8) من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته فيدعى بمحمد وأمته، فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم. فيقال: وما علمكم؟ فيقولون: جاءنا نبينا صلى الله عليه وسلم فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا" فذلك قوله عز وجل: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } قال: "عدلا { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } " (9) .
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } قال: "عدلا" (10) .
وروى الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه وابن أبي حاتم من حديث عبد الواحد بن زياد، عن أبي مالك الأشجعي، عن المغيرة بن عتيبة (11) بن نهاس: حدثني مكتب لنا (12) عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أنا وأمَّتي يوم القيامة على كَوْم مُشرفين على (13) الخلائق. ما من الناس أحد إلا ودّ أنه منَّا. وما من نبي كَذَّبه قومه إلا ونحن نشهدُ أنه قد بلغ رسالةَ ربه، عز وجل (14) .
__________
(1) المسند (3/32).
(2) في جـ، ط: "قال: والوسط".
(3) في جـ: "بقول يشهد عليكم" وفي ط: "وأشهد عليكم".
(4) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(5) صحيح البخاري برقم (3339،4487) وسنن الترمذي برقم (2961) وسنن النسائي الكبرى برقم (11007) وسنن ابن ماجة برقم (4284).
(6) زيادة من جـ، أ، والمسند.
(7) زيادة من جـ، أ، والمسند.
(8) زيادة من جـ، والمسند.
(9) المسند (3/58).
(10) المسند (3/9).
(11) في جـ: "بن عيينة".
(12) في و: "مكاتب لنا".
(13) في جـ: "مشرف على".
(14) ورواه الطبري في تفسيره (3/147) من طريق ابن فضيل عن أبي مالك الأشجعي به.
(1/455)
وروى الحاكم، في مستدركه وابن مَرْدُويَه أيضاً، واللفظ له، من حديث مصعب بن ثابت، عن محمد بن كعب القُرَظي، عن جابر بن عبد الله، قال: شهد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جنازة، في بني سلمة، وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: والله -يا رسولَ الله -لنعم المرءُ كان، لقد كان عفيفا مسلما وكان ... وأثنوا عليه خيراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت بما تقول". فقال الرجل: الله أعلم بالسرائر، فأما الذي بدا لنا منه فذاك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وجبت". ثم شَهِد جنازة في بني حَارِثة، وكنتُ إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: يا رسولَ الله، بئس المرءُ كان، إن كان لفَظّاً غليظاً، فأثنوا عليه شراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعضهم: "أنت بالذي تقول". فقال الرجل: الله أعلم بالسرائر، فأما الذي بدا لنا منه فذاك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وجبت".
قال مصعب بن ثابت: فقال لنا عند ذلك محمد بن كَعْب: صدقَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قرأ: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }
ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه (1) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا داود بن أبي الفرات، عن عبد الله بن بُريدة، عن أبي الأسود أنه قال: أتيتُ المدينة فوافقتها، وقد وقع بها مرض، فهم يموتون موتاً ذَريعاً. فجلست إلى عمر بن الخطاب، فمرّت به جنازة، فَأثْنِيَ على صاحبها خير. فقال: وجبت وجَبَت. ثم مُرّ بأخرى فَأُثْنِيَ عليها شرٌّ، فقال عمر: وجبت [وجبت] (2) . فقال أبو الأسود: ما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أيّما مسلم شَهِد له أربعة بخير أدخله الله الجنة". قال: فقلنا. وثلاثة؟ قال: "وثلاثة". قال، فقلنا: واثنان؟ قال: "واثنان" ثم لم نسأله عن الواحد.
وكذا رواه البخاري، والترمذي، والنسائي من حديث داود بن أبي الفرات، به (3) .
قال ابن مَرْدويه: حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى، حدثنا أبو قِلابة الرقاشي، حدثني أبو الوليد، حدثنا نافع بن عمر، حدثني أمية بن صفوان، عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنَّباوَة (4) يقول: "يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم" قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بالثناء الحسن والثناء السَّيِّئ، أنتم شهداء الله في الأرض". ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون (5) . ورواه الإمام أحمد، عن يزيد بن هارون، وعبد الملك بن عمر (6) وشريح، عن نافع عن ابن عمر، به (7) .
__________
(1) المستدرك (2/268) وتعقبه الذهبي بقوله: "فيه مصعب بن ثابت ليس بالقوي".
(2) زيادة من أ.
(3) المسند ( 1/22) وصحيح البخاري برقم (1368) وسنن الترمذي برقم (1059) وسنن النسائي (4/50).
(4) في جـ: "بالبناوة".
(5) سنن ابن ماجة برقم (4221) وقال البوصيري في الزوائد (3/301) "إسناد صحيح، رجاله ثقات".
(6) في جـ، ط: "بن عمرو".
(7) لم أجده في المطبوع من المسند بهذا الطريق، وذكره الحافظ ابن حجر في أطراف المسند (6/231).
(1/456)
وقوله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } يقول تعالى: إنما شرعنا لك -يا محمد -التوجه أولا إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة، ليظهر حالُ من يَتَّبعك ويُطيعك ويستقبل معك حيثما توجهتَ مِمَّن ينقلب على عَقبَيْه، أي: مُرْتَدّاً عن (1) دينه { وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً } أي: هذه الفعلة، وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة، أي: وإن كان هذا الأمر عظيماً في النفوس، إلا على الذين هدى الله قلوبهم، وأيقنُوا بتصديق الرسُول، وأنَّ كلَّ ما جاء به فهو الحقّ الذي لا مرْية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يكلّف عباده بما شاء (2) ، وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك، بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكّاً، كما يحصل للذين آمنوا إيقان وتصديق، كما قال الله تعالى: { وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 124 ،125] وقال تعالى: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } [ فصلت : 44] وقال تعالى: { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } [ الإسراء: 82]. ولهذا كان مَن (3) ثَبَتَ على تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه في ذلك، وتوجه حيثُ أمره الله من غير شك ولا رَيْب، من سادات الصحابة. وقد ذهب بعضُهم إلى أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم الذين صلّوا القبلتين.
وقال البخاري في تفسير هذه الآية:
حدثنا مُسَدَّد، حدثنا يحيى، عن سُفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: بينا الناسُ يصلون الصبح في مسجد قُباء إذ جاء رجل فقال: قد أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها. فتوجهوا إلى الكعبة (4) .
وقد رواه مسلم من وجه آخر، عن ابن عمر (5) . ورواه الترمذي من حديث سفيان الثوري (6) وعنده: أنهم كانوا ركوعاً، فاستداروا كما هم إلى الكعبة، وهم ركوع. وكذا رواه مسلم من حديث حَمّاد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، مثله (7) ، وهذا يدل على كمال طاعتهم لله ورسوله، وانقيادهم لأوامر الله عز وجل، رضي الله عنهم أجمعين.
__________
(1) في جـ: "مرتدا على".
(2) في أ: "بما يشاء".
(3) في جـ : "من كان".
(4) صحيح البخاري برقم (4488).
(5) صحيح مسلم برقم (526).
(6) سنن الترمذي برقم (341).
(7) صحيح مسلم برقم (527).
(1/457)
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
وقوله: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أي: صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك لا يضيع (1) ثوابها عند الله، وفي الصحيح من حديث أبي إسحاق السَّبِيعي، عن البراء، قال: مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس فقال الناس: ما حالهم في ذلك؟ فأنزل الله تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } (2) .
[ورواه الترمذي عن ابن عباس وصححه (3) ] (4) .
وقال ابن إسحاق: حَدّثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أي: بالقبلة الأولى، وتصديقكم نبيكم، واتباعه إلى القبلة الأخرى. أي: لَيُعْطيكم (5) أجرَهما جميعا. { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }
وقال الحسن البصري: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أي: ما كان الله ليضيع محمدا صلى الله عليه وسلم وانصرافكم معه حيث انصرف { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين ولدها، فجعلت كُلَّما وجدت صبيًا من السبي أخذته فألصقته بصدرها، وهي تَدُور على، ولدها، فلما وجدته ضمته إليها وألقمته ثديها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أترون هذه طارحة ولدها في النار، وهي تقدر على ألا تطرحه؟" قالوا: لا يا رسول الله. قال: "فوالله، لله أرحم بعباده من هذه بولدها" (6) .
{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) }
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: كان أوَّل ما نُسخَ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجرَ إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضْعَةَ عَشَرَ شهرًا، وكان يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء، فأنزل الله: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ } إلى قوله: { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: { مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] (7) } وقال: { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } [البقرة: 115] وقال الله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ }
__________
(1) في ط، أ: "ما يضيع".
(2) سبق تخريج الحديث قريبا.
(3) سنن الترمذي برقم (2964).
(4) زيادة من جـ، ط، أ.
(5) في أ: "ليضيعنكم" وفي و: "ليعطينكم".
(6) صحيح البخاري برقم (5999) وصحيح مسلم برقم (2754).
(7) زيادة من ط.
(1/458)
وروى ابن مَرْدريه من حديث القاسم العُمَري، عن عمه عُبيد الله بن عمر، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته إلى بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء فأنزل الله: { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } إلى الكعبة إلى الميزاب، يَؤُم به جبرائيل (1) عليه السلام.
وروى الحاكم، في مستدركه، من حديث شعبة عن يعلى بن عطاء، عن يحيى بن قمطة قال: رأيت عبد الله بن عمرو (2) جالسا في المسجد الحرام، بإزاء الميزاب، فتلا هذه الآية: { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } قال: نحو ميزاب الكعبة.
ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه (3) .
ورواه ابن أبي حاتم، عن الحسن بن عرفة، عن هُشَيْم، عن يعلى بن عطاء، به.
وهكذا قال غيره، وهو أحد قولي الشافعي، رحمه الله: إن الغرض إصابة عين القبلة. والقول الآخر وعليه الأكثرون: أن المراد المواجهة (4) كما رواه الحاكم من حديث محمد بن (5) إسحاق، عن عمير بن زياد الكندي، عن علي، رضي الله عنه، { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قال: شطره: قبله. ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وهذا قول أبي العالية، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، وقتادة، والربيع بن أنس، وغيرهم. وكما تقدم في الحديث الآخر: ما بين المشرق والمغرب قبلة.
[وقال القرطبي: روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي (6) "] (7) .
وقال أبو نعيم الفضل بن دكين:
حدثنا زهير، عن أبي إسحاق، عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى قبلَ بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه قبلته قبل البيت وأنه صَلّى صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان يصلي معه، فمر على أهل المسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صَلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكَّة، فداروا كما هم قبل البيت (8) .
__________
(1) في ط: "جبريل".
(2) في أ: "بن عمر".
(3) المستدرك (2/269).
(4) في ط، أ، و: "الوجهة".
(5) في ط: "محمد أبي".
(6) رواه البيهقي في السنن الكبرى (2/ 9 ، 10) من طريق عمر بن حفص عن ابن جريج به، وقال البيهقي: "تفرد به عمر بن حفص المكي وهو ضعيف لا يحتج به، وروى بإسناد آخر ضعيف، عن عبد الله بن حبش كذلك مرفوعا، ولا يحتج بمثله، والله أعلم".
(7) زيادة من ج، ط،أ.
(8) رواه البخاري في صحيحه برقم (4486) عن أبي نعيم.
(1/459)
وقال عبد الرزاق: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء [قال] (1) لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحِب أن يحوَّل نحو الكعبة، فنزلت: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا] (2) } فصرف إلى الكعبة.
وروى النسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنا نَغْدُو إلى المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنمر على المسجد فنصلي فيه، فمررنا يومًا -ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر -فقلت: لقد حَدث أمر، فجلست، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } حتى فرغ من الآية. فقلت لصاحبي: تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكون أول من صلى، فتوارينا فصليناهما. ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فصلى للناس الظهر يومئذ (3) .
وكذا روى ابن مَرْدويه، عن ابن عمر: أن أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة صَلاةُ الظهر، وأنها الصلاة الوُسطى. والمشهور أن أول صلاة صلاها إلى الكعبة صلاة العصر، ولهذا تأخر الخبر عن أهل قباء إلى صلاة الفجر.
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا الحسين بن إسحاق التَّسْتَري، حدثنا رجاء بن محمد السقطي، حدثنا إسحاق بن إدريس، حدثنا إبراهيم بن جعفر، حدثني أبي، عن جدته أم أبيه نُوَيلة بنت مسلم، قالت: صَلَّينا الظهر -أو العصر (4) -في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا ركعتين، ثم جاء مَنْ يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام، فتحول النساءُ مكان (5) الرجال، والرجالُ مكان (6) النساء، فصلينا السجدتين الباقيتين، ونحن مستقبلون (7) البيت الحرام. فحدثني رجل من بني حارثة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أولئك رجال يؤمنون بالغيب" (8) .
وقال ابن مردويه أيضًا: حدثنا محمد بن علي بن دُحَيْم، حدثنا أحمد بن حازم، حدثنا مالك بن إسماعيل النهدي، حدثنا قيس، عن زياد بن علاقة، عن عُمَارة بن أوس قال: بينما نحن في الصلاة نحو بيت المقدس، ونحن ركوع، إذ أتى مناد بالباب: أن القبلة قد حُوِّلت إلى الكعبة. قال: فأشهد على إمامنا أنه انحرف فتحوَّل هو والرِّجال والصبيان، وهم ركوع، نحو الكعبة (9) .
وقوله: { وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } أمَرَ تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض، شرقًا وغربًا وشمالا وجنوبًا، ولا يستثنى من هذا شَيء، سوى النافلة في حال السفر، فإنه
__________
(1) زيادة من جـ، ط، و.
(2) زيادة من جـ.
(3) سنن النسائي الكبرى (11004).
(4) في جـ: "الظهر والعصر".
(5) في أ: "موضع".
(6) في أ: "موضع".
(7) في أ: "ونحن مستقبلو".
(8) المعجم الكبير (25/43) وقال الهيثمي في المجمع (2/14) "فيه إسحاق بن إدريس الأسواري وهو ضعيف متروك".
(9) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (1/335) عن شبابة عن قيس عن زياد به
(1/460)
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
يصليها حيثما توجه قَالبُه، وقَلْبُه نحو الكعبة. وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل حال، وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده، وإن كان مخطئًا في نفس الأمر، لأن الله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها.
مسألة: وقد استدل المالكية بهذه الآية على أن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده كما ذهب إليه الشافعي وأحمد وأبو حنيفة، قال المالكية لقوله: { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } فلو نظر إلى موضع سجوده لاحتاج أن يتكلف ذلك بنوع من الانحناء وهو ينافي كمال القيام. وقال بعضهم: ينظر المصلي في قيامه إلى صدره. وقال شريك القاضي: ينظر في حال قيامه إلى موضع سجوده كما قال جمهور الجماعة، لأنه أبلغ في الخضوع وآكد في الخشوع وقد ورد به الحديث، وأما في حال ركوعه فإلى موضع قدميه، وفي حال سجوده إلى موضع أنفه وفي حال قعوده إلى حجره.
وقوله: { وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ } أي: واليهودُ -الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس -يعلمون أن الله تعالى سَيُوجهك إليها، بما في كتبهم عن أنبيائهم، من النعت والصفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمَّته، وما خصه الله تعالى به وشَرفه من الشريعة الكاملة العظيمة، ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسدًا وكفرًا وعنادًا؛ ولهذا يهددهم تعالى بقوله: { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } (1) .
{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) }
يخبر تعالى (2) عن كُفر اليهود وعنادهم، ومخالفتهم ما (3) يعرفونه من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لو أقام عليهم كل دليل على صحة ما جاءهم به، لما اتبعوه وتركوا أهواءهم (4) كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس: 96، 97] ولهذا قال هاهنا: { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } .
وقوله { وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ [وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ] } إخبار عن شدة متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما أمره الله تعالى به، وأنه كما هم مُسْتَمْسكون (5) بآرائهم وأهوائهم، فهو أيضًا مستمسك (6) بأمر الله وطاعته واتباع مرضاته، وأنه لا يتبع أهواءهم في جميع أحواله، وما كان (7) متوجها إلى بيت المقدس؛ لأنها (8) قبلة اليهود، وإنما ذلك عن أمر الله تعالى (9) . ثم حذر [الله] (10) تعالى عن مخالفة
__________
(1) في جـ، ط: "تعلمون".
(2) في جـ: "يخبر تبارك وتعالى".
(3) في جـ: "ومخالفتهم لما".
(4) في جـ: "وتركوا أهوائهم " وهو خطأ.
(5) في جـ، ط: "متمسكون".
(6) في جـ، ط: "متمسك".
(7) في جـ، ط: "ولا كان".
(8) في جـ، ط: "لكونها".
(9) في جـ: "الله تعالى وطاعته".
(10) زيادة من جـ.
(1/461)
الحق الذي يعلمه العالم إلى الهوى؛ فإن العالم الحجة عليه أقوم من غيره. ولهذا قال مخاطبا للرسول، والمراد الأمة: { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ } [البقرة: 145] .
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
البقرة - تفسير ابن كثير
الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) }
يخبر تعالى (1) أنّ علماء أهل الكتاب يعرفون صِحّة ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم [كما يعرفون أبناءهم] (2) كما يعرف أحدُهم ولده، والعربُ كانت تضرب المثل في صحة الشيء بهذا، كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل معه صغير: "ابنك هذا؟" قال: نعم يا رسول الله، أشهد به. قال: "أما إنه لا يَجْنِي عليك ولا تجْنِي عليه" (3) .
[قال القرطبي: ويروى أن عمر قال لعبد الله بن سلام: أتعرف محمدًا صلى الله عليه وسلم كما تعرف ولدك ابنك، قال: نعم وأكثر، نزل الأمين من السماء على الأمين، في الأرض بنعته فعرفته، وإني لا أدري ما كان من أمره. قلت: وقد يكون المراد { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } من بين أبناء الناس لا يشك أحد ولا يتمارى في معرفة ابنه إذا رآه من بين أبناء الناس كلهم] (4) .
ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقق (5) والإتقان العلمي { لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ } أي: ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم { وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
ثم ثبّت تعالى نبيه (6) والمؤمنين وأخبرهم بأن ما جاء (7) به الرسول (8) صلى الله عليه وسلم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك، فقال: { الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }
{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) }
قال العوفي، عن ابن عباس: { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } يعني بذلك: أهل الأديان، يقول: لكل قبلة يرضونها، ووجهة الله حيث توجه المؤمنون.
وقال أبو العالية: لليهودي وجهة هو موليها، وللنصراني وجهة هو موليها، وهَداكم أنتم أيتها الأمة [الموقنون] (9) للقبلة التي هي القبلة. وروي عن مجاهد، وعطاء، والضحاك، والربيع بن أنس، والسدي نحو هذا.
__________
(1) في جـ: "يخبر تبارك وتعالى".
(2) زيادة من ط.
(3) رواه أحمد في المسند (2/226 ، 228) وأبو داود في السنن برقم (4495).
(4) زيادة من ج، ط، أ.
(5) في جـ، ط، أ، و: "التحقيق".
(6) في جـ: "النبي صلى الله عليه وسلم".
(7) في ط: "ما جاءهم به".
(8) في جـ: "النبي".
(9) زيادة من جـ.
(1/462)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
وقال مجاهد في الرواية الأخرى: ولكن أمَرَ كلَّ قوم أن يصلوا إلى الكعبة.
وقرأ ابن عباس، وأبو جعفر الباقر، وابن عامر: "ولكلٍ وجهة هو مُوَلاها".
وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا } [المائدة: 48] .
وقال هاهنا: { أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي: هو قادر على جمعكم من الأرض، وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم.
{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) }
هذا أمر ثالث من الله تعالى (1) باستقبال المسجد الحرام، من جميع أقطار الأرض.
وقد اختلفوا في حكمة هذا التكرار ثلاث مرات، فقيل: تأكيد لأنه أول ناسخ وقع، في الإسلام على ما نص عليه ابن عباس وغيره، وقيل: بل هو منزل على أحوال، فالأمر الأول لمن هو مشاهد الكعبة، والثاني لمن هو في مكة غائبًا عنها، والثالث لمن هو في بقية البلدان، هكذا وجهه فخر الدين الرازي. وقال القرطبي: الأول لمن هو بمكة، والثاني لمن هو في بقية الأمصار، والثالث لمن خرج، في الأسفار، ورجح هذا الجواب القرطبي، وقيل: إنما ذكر ذلك لتعلقه بما قبله أو بعده من السياق، فقال: أولا { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } إلى قوله: { وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } فذكر في هذا المقام إجابته إلى طلبته وأمره بالقبلة التي كان يود التوجه إليها ويرضاها؛ وقال في الأمر الثاني: { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } فذكر أنه الحق من الله وارتقى عن المقام الأول، حيث كان موافقًا لرضا الرسول صلى الله عليه وسلم فبين أنه الحق أيضًا من الله يحبه ويرتضيه، وذكر في الأمر الثالث حكمة قطع حجة المخالف من اليهود الذين كانوا يتحججون باستقبال الرسول إلى قبلتهم، وقد كانوا يعلمون بما في كتبهم أنه سيصرف إلى قبلة إبراهيم، عليه السلام، إلى الكعبة، وكذلك مشركو العرب انقطعت حجتهم لما صرف الرسول صلى الله عليه وسلم عن قبلة اليهود إلى قبلة إبراهيم التي هي أشرف، وقد كانوا يعظمون الكعبة وأعجبهم استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم إليها، وقيل غير ذلك من الأجوبة عن حكمة التكرار، وقد بسطها فخر الدين وغيره، والله -سبحانه وتعالى -أعلم.
__________
(1) في جـ: "من الله تبارك وتعالى".
(1/463)
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
وقوله: { لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } أي: أهل الكتاب؛ فإنهم يعلمون من صفة هذه الأمة التوجه إلى الكعبة، فإذا فقدوا ذلك من صفتها ربما احتجوا بها على المسلمين أو لئلا يحتجوا بموافقة المسلمين إياهم في التوجه إلى بيت المقدس. وهذا أظهر.
قال أبو العالية: { لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } يعني به أهل الكتاب حين قالوا: صُرف محمد إلى الكعبة.
وقالوا: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه (1) ودين قومه. وكان حجتهم على النبي صلى الله عليه وسلم انصرافه إلى البيت الحرام أن قالوا: سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا.
قال ابن أبي حاتم: وروى عن مجاهد، وعطاء، والضحاك، والربيع بن أنس، وقتادة، والسدي، نحو هذا.
وقال هؤلاء في قوله: { إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } يعني: مشركي قريش.
ووجه بعضهم حُجّة الظلمة -وهي داحضة -أن قالوا: إن هذا الرجل يزعمُ أنه على دين إبراهيم: فإن كان توجّهه إلى بيت المقدس على ملة إبراهيم، فلم رجع عنه؟ والجواب: أن الله تعالى اختار له التوجه إلى بيت المقدس أولا لما له تعالى في ذلك من الحكمة، فأطاع ربه تعالى في ذلك، ثم صرفه إلى قبلة إبراهيم -وهي الكعبة -فامتثل أمر الله في ذلك أيضًا، فهو، صلوات الله وسلامه عليه، مطيع لله في جميع أحواله، لا يخرج عن أمر الله طرفة عين، وأمتهُ تَبَع له.
وقوله: { فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي } أي: لا تخشوا شُبَهَ الظلمة المتعنتين، وأفْرِدُوا الخشية لي، فإنه تعالى هو أهل أن يخشى منه.
وقوله: { وَلأتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } عطف على { لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } أي: ولأتم نعمتي عليكم فيما شرعت لكم من استقبال الكعبة، لتكمل لكم الشريعة من جميع وجوهها { وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي: إلى ما ضَلّت عنه الأمم هديناكم إليه، وخَصصْناكم به، ولهذا كانت هذه الأمة أشرفَ الأمم وأفضلها.
{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) }
يُذكر تعالى عباده المؤمنين ما أنعم به عليهم من بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، يتلو عليهم آيات الله مبينات وَيُزَكِّيهم، أي: يطهرهم من رذائل الأخلاق ودَنَس النفوس وأفعال الجاهلية، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويعلمهم الكتاب -وهو القرآن -والحكمة -وهي السنة -ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون. فكانوا في الجاهلية الجَهْلاء يُسفَهُون بالقول الفرَى، فانتقلوا ببركة رسالته، ويُمن سفارته، إلى حال الأولياء، وسجايا العلماء فصاروا أعمق الناس علمًا، وأبرهم قلوبًا، وأقلهم تكلفًا، وأصدقهم لهجة. وقال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ }
__________
(1) في أ: "في بيت الله".
(1/464)
الآية [آل عمران: 164]. وذم من لم يعرف قدر هذه النعمة، فقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } [ إبراهيم: 28].
قال ابن عباس: يعني بنعمة الله محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا نَدَب الله المؤمنين إلى الاعتراف بهذه النعمة ومقابلتها بذكره وشكره، فقال: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ } .
قال مجاهد في قوله: { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ } (1) يقول: كما فعلت فاذكروني.
قال عبد الله بن وهب، عن هشام بن سعيد، عن زيد بن أسلم: أن موسى، عليه السلام، قال: يا رب، كيف أشكرك؟ قال له ربه: تذكرُني ولا تنساني، فإذا ذكرتني فقد شكرتني، وإذا نسيتني فقد كفرتني.
وقال الحسن البصري، وأبو العالية، والسدي، والربيع بن أنس، إن الله يذكر من ذكره، ويزيد من شكره ويعذب من كفره.
وقال بعض السلف في قوله تعالى: { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [آل عمران: 102] قال: هو أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا يُنْسَى، ويُشْكَرَ فلا يُكْفَر.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا عمارة الصيدلاني، حدثنا مكحول الأزدي قال: قلت لابن عمر: أرأيت قاتل النفس، وشارب الخمر والسارق والزاني يذكر الله، وقد قال الله تعالى: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } ؟ قال: إذا ذكر الله هذا ذكره الله بلعنته، حتى يسكت.
وقال الحسن البصري في قوله: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } قال: اذكروني، فيما افترضت عليكم أذكركم فيما أوجبت لكم على نفسي.
وعن سعيد بن جبير: اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي، وفي رواية: برحمتي.
وعن ابن عباس في قوله { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } (2) قال: ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه.
وفي الحديث الصحيح: "يقول الله تعالى: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه".
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: يا ابن آدم، إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي، وإن ذكرتني في ملإ ذكرتك، في ملإ من الملائكة -أو قال: [في] (3) ملأ خير منهم -وإن دنوت مني شبرًا دنوت منك ذراعًا، وإن دنوت مني ذراعا دنوت منك باعا، وإن أتيتني تمشي أتيتك أهرول"
صحيح الإسناد: أخرجه البخاري من حديث قتادة (4) . وعنده قال قتادة: الله أقرب بالرحمة.
وقوله تعالى: { وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ } أمر الله تعالى بشكره، ووعده على شكره بمزيد الخير، فقال: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [إبراهيم: 7] .
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا شعبة، عن الفضيل (5) بن فضالة -رجل من قيس-
__________
(1) في ط: "فيكم" وهو خطأ.
(2) في هـ: "اذكروني" والمثبت من ط.
(3) زيادة من أ، والمسند.
(4) المسند (3/138) وصحيح البخاري برقم (7536).
(5) في أ: "عن الفضل".
(1/465)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
حدثنا أبو رجاء العطاردي، قال: خرج علينا عمران بن حصين وعليه مطْرف من خز لم نره (1) عليه قبل ذلك ولا بعده، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أنعم الله عليه نعمة فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على خلقه". وقال روح مرة: "على عبده" (2) .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) }
__________
(1) في أ: "لم يرد".
(2) المسند (4/438).
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
البقرة - تفسير ابن كثير
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
{ وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) }
لما فرغ تعالى (1) من بيان الأمر بالشكر شرع في بيان الصبر، والإرشاد إلى الاستعانة بالصبر والصلاة، فإن العبد إما أن يكون في نعمة فيشكر عليها، أو في نقمة فيصبر عليها؛ كما جاء في الحديث: "عجبًا للمؤمن. لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له: إن أصابته سراء، فشكر، كان خيرًا له؛ وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرًا له".
وبين تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب الصبر والصلاة، كما تقدم في قوله: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ } [البقرة: 45] . وفي الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَه أمر صلى (2) . والصبر صبران، فصبر على ترك المحارم والمآثم وصبر على فعل الطاعات والقربات. والثاني أكثر ثوابًا لأنه المقصود. كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الصبر في بابين، الصبر لله بما أحب، وإن ثقل على الأنفس (3) والأبدان، والصبر لله عما كره وإن نازعت إليه الأهواء. فمن كان هكذا، فهو من الصابرين الذين يسلم عليهم، إن شاء الله.
وقال علي بن الحسين زين العابدين: إذا جمع الله الأولين والآخرين ينادي مناد: أين الصابرون ليدخلوا الجنة قبل الحساب؟ قال: فيقوم عُنُق من الناس، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: إلى أين يا بني آدم؟ فيقولون: إلى الجنة. فيقولون: وقبل الحساب؟ قالوا: نعم، قالوا: ومن أنتم؟ قالوا: الصابرون، قالوا: وما كان صبركم؟ قالوا: صبرنا على طاعة الله، وصبرنا عن معصية الله، حتى توفانا الله. قالوا: أنتم كما قلتم، ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين.
قلت: ويشهد لهذا قوله تعالى: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر: 10] .
وقال سعيد بن جبير: الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب منه، واحتسابه عند الله رجاء ثوابه، وقد يجزع الرجل وهو مُتَجَلّد لا يرى منه إلا الصبر.
وقوله تعالى: { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ } يخبر تعالى أن الشهداء في بَرْزَخِهم أحياء يرزقون، كما جاء في صحيح مسلم: "إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت (4) ثم تأوي إلى قناديل مُعَلَّقة تحت العرش، فاطَّلع عليهم ربك اطِّلاعَة،
__________
(1) في جـ: "لما فرغ تبارك وتعالى".
(2) رواه أبو داود في السنن برقم (1319) من حديث حذيفة رضي الله عنه.
(3) في جـ: "وإن تقتل عليه الأنفس" وفي ط: "فإن ثقل على الأنفس".
(4) في أ: "حيث ما شاءت".
(1/446)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
فقال: ماذا تبغون؟ فقالوا: يا ربنا، وأيّ شيء نبغي، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك؟ ثم عاد إليهم بمثل هذا، فلما رأوا أنهم لا يُتْرَكُون من أن يسألوا، قالوا: نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا، فنقاتل في سبيلك، حتى نقتل فيك مرة أخرى؛ لما يرون من ثواب الشهادة -فيقول الرب جلّ جلاله: إني كتبتُ أنَّهم إليها لا يرجعون" (1) .
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد، عن الإمام الشافعي، عن الإمام مالك، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَسَمَةُ المؤمن طائر تَعْلَقُ في شجر الجنة، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه" (2) .
ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضًا، وإن كان الشهداء قد خصِّصُوا (3) بالذكر في القرآن، تشريفًا لهم وتكريمًا وتعظيما (4) .
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) }
أخبر تعالى أنه يبتلي عباده [المؤمنين] (5) أي: يختبرهم ويمتحنهم، كما قال تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [محمد: 31] فتارة بالسراء، وتارة بالضراء من خوف وجوع، كما قال تعالى: { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ } [النحل: 112] فإن الجائع والخائف كل منهما يظهر ذلك عليه؛ ولهذا قال: لباس الجوع والخوف. وقال هاهنا { بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ } أي: بقليل من ذلك { وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ } أي: ذهاب بعضها { وَالأنْفُسِ } كموت الأصحاب والأقارب والأحباب { وَالثَّمَرَاتِ } أي: لا تُغِلّ الحدائق والمزارع كعادتها. كما قال بعض السلف: فكانت بعض النخيل لا تثمر غير واحدة. وكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده، فمن صبر أثابه [الله] (6) ومن قنط أحل [الله] (7) به عقابه. ولهذا قال: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ }
وقد حكى بعضُ المفسرين أن المراد من الخوف (8) هاهنا: خوف الله، وبالجوع: صيام رمضان، ونقص (9) الأموال: الزكاة، والأنفس: الأمراض، والثمرات: الأولاد.
وفي هذا نظر، والله أعلم.
ثم بيَنَّ تعالى مَنِ الصابرون (10) الذين شكرهم، قال: { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } أي: تسلَّوا بقولهم هذا عما أصابهم، وعلموا أنَّهم ملك لله يتصرف في عبيده
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1887) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ولفظه مختلف لكن معناه واحد.
(2) المسند (3/455).
(3) في جـ: "قد خصوا".
(4) في جـ: "تعظيما وتكريما".
(5) زيادة من جـ.
(6) زيادة من جـ.
(7) زيادة من جـ.
(8) في جـ: "أن المراد بالخوف".
(9) في جـ: "وبنقص".
(10) في جـ:"الصابرين".
(1/467)
بما (1) يشاء، وعلموا أنه لا يضيع لديه مثْقال ذرَّة يوم القيامة، فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم عبيده، وأنهم إليه راجعون في الدار الآخرة. ولهذا أخبر تعالى عما (2) أعطاهم على ذلك فقال: { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ } أي: ثناء من الله عليهم ورحمة.
قال سعيد بن جبير: أي أَمَنَةٌ من العذاب { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: نعم العدْلان ونعمت العلاوة { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } فهذان العدلان { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } فهذه العلاوة، وهي ما توضع بين العدلين، وهي زيادة في الحمل وكذلك هؤلاء، أعطوا ثوابهم وزيدوا (3) أيضًا.
وقد ورد في ثواب الاسترجاع، وهو قول (4) { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } عند المصائب أحاديث كثيرة. فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد:
حدثنا يونس، حدثنا ليث -يعني ابن سعد -عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن عمرو بن أبي عَمْرو، عن المطلب، عن أم سلمة قالت: أتاني أبو سلمة يومًا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا سُررْتُ به. قال: "لا يصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته، ثم يقول: اللهم أجُرني في مصيبتي واخلُف لي خيرًا منها، إلا فُعِل ذلك به". قالت أم سلمة: فحفظت ذلك منه، فلما توفي أبو سلمة استرجعت وقلت: اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منه، ثم رجعت إلى نفسي. فقلت: من أين لي خير (5) من أبي سلمة؟ فلما انقضت عدَّتي استأذن علي رسول الله صلى الله عليه وسلم -وأنا أدبغ إهابا لي -فغسلت يدي من القَرَظ (6) وأذنت له، فوضعت له وسادة أدم حَشْوُها ليف، فقعد عليها، فخطبني إلى نفسي، فلما فرغ من مقالته قلت: يا رسول الله، ما بي ألا يكون بك الرغبة، ولكني امرأة، فيّ غَيْرة شديدة، فأخاف أن ترى مني شيئًا يعذبني الله به، وأنا امرأة قد دخلتُ في السن، وأنا ذات عيال، فقال: "أما ما ذكرت من الغيرة فسوف يُذهبها (7) الله، عز وجل عنك. وأما ما ذكرت من السِّن فقد أصابني مثلُ الذي أصابك، وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي". قالت: فقد سلَّمْتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت أم سلمة بعد: أبدلني الله بأبي سلمة خيرًا منه، رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (8) .
وفي صحيح مسلم، عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } اللهم أجُرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها، إلا آجره الله من مصيبته، وأخلف له خيرا منها" قالت: فلما تُوُفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخلف الله لي خيرا منه: رسولَ الله صلى الله عليه وسلم (9) .
__________
(1) في جـ: "كيف".
(2) في جـ: "بما".
(3) في جـ: "ويزيدوا".
(4) في جـ: "وهو قوله".
(5) في ط: "خيرا".
(6) في أ: "القذى".
(7) في جـ: "من الغيرة فسيذهبها".
(8) المسند (4/27).
(9) صحيح مسلم برقم (918).
(1/468)
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، وعَبَّاد بن عباد قالا حدثنا هشام بن أبي هشام، حدثنا عباد بن زياد، عن أمه، عن فاطمة ابنة (1) الحسين، عن أبيها الحسين بن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها -وقال عباد: قدم عهدها -فيحدث لذلك استرجاعا، إلا جدد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب" (2) .
ورواه ابنُ ماجه في سُنَنه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وَكِيع، عن هشام بن زياد، عن أمه، عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها [الحسين] (3) (4) .
وقد رواه إسماعيل بن عُلَية، ويزيد بن هارون، عن هشام بن زياد (5) عن أبيه، كذا عن، فاطمة، عن أبيها.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق السالحيني، أخبرنا حماد بن سلمة، عن أبي سنان قال: دفنتُ ابنًا لي، فإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة -يعني الخولاني -فأخرجني، وقال لي: ألا أبشرك؟ قلت: بلى. قال: حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عرْزَب، عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله (6) :يا ملك الموت، قبضتَ ولد عبدي؟ قبضت قُرَّة عينه وثمرة فؤاده؟ قال نعم. قال: فما (7) قال؟ قال: حَمِدَك واسترجع، قال: ابنو له بيتًا في الجنة، وسمُّوه بيتَ الحمد".
ثم رواه عن علي بن إسحاق، عن عبد الله بن المبارك. فذكره (8) . وهكذا رواه الترمذي عن سُوَيد بن نصر، عن ابن المبارك ، به. (9) وقال: حسن غريب. واسم أبي سنان: عيسى بن سنان.
{ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) }
قال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي، أخبرنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: قلت: أرأيت قول الله تعالى: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } قلت: فوالله ما على أحد جناح أن لا يطَّوف بهما؟ فقالت عائشة: بئسما قلت يا ابن أختي إنها لو كانت على ما أوّلتَها (10) عليه كانت: فلا جناح عليه
__________
(1) في جـ: "بنت".
(2) المسند (1/201).
(3) زيادة من ط.
(4) سنن ابن ماجة برقم (1600) وقال البوصيري في الزوائد (1/528) "هذا إسناد فيه هشام بن زياد وهو ضعيف".
(5) في جـ، ط: "بن يزيد".
(6) في و: "إذا مات ولد العبد قال الله".
(7) في جـ: "فماذا".
(8) المسند (4/415).
(9) سنن الترمذي برقم (1021).
(10) في جـ: "كما أولتها".
(1/469)
ألا يطوف بهما، ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يُهِلّون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المُشلَّل. وكان من أهلَّ لها يتحرج أن يطوَّف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطَّوف بالصفا والمروة في الجاهلية. فأنزل الله عز وجل: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } إلى قوله: { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } قالت عائشة: ثم قد سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما، فليس لأحد أن يَدع الطواف بهما. أخرجاه في الصحيحين (1) .
وفي رواية عن الزهري أنه قال: فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فقال: إن هذا العلم، ما كنت سمعته، ولقد سمعتُ رجالا (2) من أهل العلم يقولون (3) إن الناس -إلا من ذكرتْ عائشة -كانوا يقولون: إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية. وقال آخرون من الأنصار: إنما أمرنا بالطواف بالبيت، ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } قال أبو بكر بن عبد الرحمن: فلعلها نزلت في هؤلاء وهؤلاء.
ورواه البخاري من حديث مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة (4) بنحو ما تقدم. ثم قال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن عاصم بن سُليمان قال: سألت أنسًا عن الصفا والمروة قال: كنا نرى ذلك (5) من أمر الجاهلية، فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله عز وجل: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } (6) .
وذكر القرطبي (7) في تفسيره عن ابن عباس قال: كانت الشياطين تفرق بين الصفا والمروة الليل كله، وكانت بينهما آلهة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الطواف بينهما، فنزلت هذه الآية. وقال الشعبي: كان إساف على الصفا، وكانت نائلة على المروة، وكانوا يستلمونهما فتحرجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما، فنزلت هذه الآية. قلت: وذكر ابن إسحاق في كتاب السيرة (8) أن إسافا ونائلة كانا بشرين، فزنيا داخل الكعبة فمسخا حجرين فنصبتهما قُريش تجاه الكعبة ليعتبر بهما الناس، فلما طال عهدهما عبدا، ثم حولا إلى الصفا والمروة، فنصبا هنالك، فكان من طاف بالصفا والمروة يستلمهما، ولهذا يقول أبو طالب، في قصيدته المشهورة:
وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم ... بمفضى السيول من إساف ونائل ...
وفي صحيح مسلم [من] (9) حديثُ جابر الطويلُ، وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه
__________
(1) المسند (6/144) وصحيح البخاري برقم (1643).
(2) في جـ: "رجلا".
(3) في جـ: "يقول".
(4) صحيح البخاري برقم (4495).
(5) في جـ: "أنها".
(6) صحيح البخاري برقم (4496).
(7) في أ: "وذكر الطبري".
(8) السيرة النبوية لابن إسحاق (رقم النص 4) ط، حميد الله، المغرب.
(9) زيادة من جـ.
(1/470)
بالبيت، عاد إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من باب الصفا، وهو يقول: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } ثم قال: "أبدأ بما بدأ الله به". وفي رواية النسائي: "ابدؤوا بما بدأ الله به" (1) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا شريح، حدثنا عبد الله بن المؤمل، عن عطاء بن أبي رباح، عن صفية بنت شيبة، عن حَبِيبة بنت أبي تجراة (2) قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة، والناس بين يديه، وهو وراءهم، وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره، وهو يقول: "اسعَوا، فإن الله كتب عليكم السعي" (3) .
ثم رواه الإمام أحمد، عن عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن واصل -مولى أبي عُيَينة -عن موسى بن عبيدة (4) عن صفية بنت شيبة، أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول: "كتب عليكم السعي، فاسعوا" (5) .
وقد استُدلّ بهذا الحديث على مذهب من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج، كما هو مذهب الشافعي، ومن وافقه [ورواية عن أحمد وهو المشهور عن مالك] (6) . وقيل: إنه واجب، وليس بركن [فإن تركه عمدًا أو سهوا جبره بدم وهو رواية عن أحمد وبه تقول طائفة وقيل: بل مستحب، وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري والشعبي وابن سيرين، وروي عن أنس وابن عمر وابن عباس، وحكي عن مالك في العتبية، قال القرطبي: واحتجوا بقوله: { فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا } ] (7) . وقيل: بل مستحب. والقول الأول أرجح، لأنه عليه السلام طاف بينهما، وقال: "لتأخذوا عني مناسككم". فكل ما فعله في حَجته تلك واجب لا بد من فعله في الحج، إلا ما خرج بدليل، والله أعلم [وقد تقدم قوله عليه السلام: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي"] (8) .
فقد بين الله-تعالى -أن الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله، أي: مما شرع الله تعالى لإبراهيم الخليل في مناسك الحج، وقد تقدم في حديث ابن عباس أن أصل ذلك مأخوذ من تطواف (9) هاجر وتردادها بين الصفا والمروة في طلب الماء لولدها، لما نفد ماؤها وزادُها، حين تركهما إبراهيم -عليه السلام -هنالك ليس عندهما أحد من الناس، فلما خافت الضيعة على ولدها هنالك، ونفد ما عندها قامت تطلب الغوث من الله، عز وجل، فلم تزل تردد (10) في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة متذللة خائفة وجلة مضطرة فقيرة إلى الله، عز وجل، حتى كشف الله كربتها، وآنس غربتها، وفرج شدتها، وأنبع لها زمزم التي ماؤها طعام طعم، وشفاء سقم، فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله في هداية قلبه وصلاح حاله وغفران ذنبه، وأن يلتجئ إلى الله،
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1218).
(2) في جـ: "بنت أبي تجر".
(3) المسند (6/421).
(4) في أ: "بن عبدة".
(5) المسند (6/437).
(6) زيادة من جـ، ط، أ.
(7) زيادة من جـ، ط، أ.
(8) زيادة من جـ، ط، أ.
(9) في جـ: "تطوف" وفي أ: "طواف".
(10) في جـ: "تزل تتردد".
(1/471)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
عز وجل ،ليُزيح ما هو به من النقائص والعيوب، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم (1) وأن يثبته عليه إلى مماته، وأن يحوّله من حاله الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي، إلى حال الكمال والغُفران والسداد والاستقامة، كما فعل بهاجر -عليها السلام.
وقوله: { فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا } (2) قيل: زاد في طوافه بينهما على قدر الواجب ثامنة وتاسعة ونحو ذلك. وقيل: يطوف بينهما (3) في حجة تطوع، أو عمرة تطوع. وقيل: المراد تطوع خيرًا في سائر العبادات. حكى ذلك [فخر الدين] (4) الرازي، وعزي الثالث إلى الحسن البصري، والله أعلم. وقوله: { فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } أي: يثيب على القليل بالكثير { عَلِيمٌ } بقدر الجزاء فلا يبخس أحدا ثوابه و { لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء: 40].
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ (159) إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) }
هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسلُ من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدى النافع للقلوب، من بعد ما بينه الله -تعالى -لعباده في كتبه، التي أنزلها على رسله.
قال (5) أبو العالية: نزلت في أهل الكتاب، كتمُوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ثم أخبر أنهم (6) . يلعنهم كلّ شيء على صنيعهم ذلك، فكما أن العالم يستغفر له كلّ شيء، حتى الحوت في الماء والطير في الهواء، فهؤلاء (7) بخلاف العلماء [الذين يكتمون] (8) فيلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. وقد ورد في الحديث المسند من طرق يشد بعضها بعضًا، عن أبي هريرة، وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سُئِل عن علم فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار" (9) . والذي في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال: لولا آية في كتاب الله ما حدثتُ أحدًا شيئًا: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى } الآية (10) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عمار بن محمد، عن ليث بن أبي سليم،
__________
(1) في جـ: "إلى صراط مستقيم"، وفي ط: "إلى صراطه المستقيم".
(2) في أ، و: "ومن".
(3) في أ: "بها".
(4) زيادة من جـ، ط، أ.
(5) في جـ: "وقال".
(6) في جـ: "أنه".
(7) في جـ: "فهو".
(8) زيادة من جـ، ط.
(9) المسند (2/263) وقد توسع الحافظ الزيلعي في كتابه "تخريج أحاديث الكشاف" (1/252-257) في ذكر طرق هذا الحديث.
(10) صحيح البخاري برقم (118) وصحيح مسلم برقم (2492).
(1/472)
عن (1) المنهال بن عمرو، عن زاذان أبي عُمَر (2) عن البراء بن عازب، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، فقال: "إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه، فيسمع كل (3) دابة غير الثقلين، فتلعنه كل دابة سمعت صوته، فذلك قول الله تعالى: { أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ } يعني: دواب الأرض" (4) .
[ورواه ابن ماجة عن محمد بن الصباح عن عمار بن محمد به] (5) .
وقال عطاء بن أبي رباح: كل دابة والجن والإنس. وقال مجاهد: إذا أجدبت الأرض قالت البهائم: هذا من أجل عُصاة بني آدم، لعن الله عصاة بني آدم.
وقال أبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة { وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ } يعني تلعنهم ملائكة الله، والمؤمنون.
[وقد جاء في الحديث، أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان، وجاء في هذه الآية: أن كاتم العلم يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون، واللاعنون أيضًا، وهم كل فصيح وأعجمي إما بلسان المقال، أو الحال، أو لو كان له عقل، أو يوم القيامة، والله أعلم] (6) .
ثم استثنى الله تعالى من هؤلاء من تاب إليه فقال: { إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا } أي: رجعوا عما كانوا فيه وأصلحوا أعمالهم وأحوالهم وبينوا للناس ما كانوا كتموه { فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } وفي هذا دلالة على أن الداعية إلى كفر، أو بدعة إذا تاب إلى الله تاب الله عليه.
وقد ورد أن الأمم السابقة لم تكن التوبة تقبل (7) من مثل هؤلاء منهم، ولكن هذا من شريعة نبي التوبة ونبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه.
ثم أخبر تعالى عمن كفر به واستمرّ به الحالُ إلى مماته بأن { عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا } أي: في اللعنة التابعة (8) لهم إلى يوم القيامة (9) ثم المصاحبة لهم في نار جهنم التي { لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ } فيها، أي: لا ينقص عَمَّا هم فيه { وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ } أي: لا يغير (10) عنهم ساعة واحدة، ولا يفتَّر، بل هو متواصل دائم، فنعوذ بالله من ذلك.
وقال أبو العالية وقتادة: إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله، ثم تلعنه الملائكة، ثم يلعنه الناس أجمعون.
فصل: لا خلاف في جواز لعن الكفار، وقد كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وعمن بعده
__________
(1) في جـ: "قال".
(2) في أ: "زاذان بن عمر".
(3) في جـ، أ، و: "يسمعها".
(4) هذا قطعة من حديث طويل رواه أبو داود في السنن برقم (4753 ، 4754) والنسائي في السنن (4/78) من طريق زاذان به، وسيأتي ذكره عند قوله تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا) في تفسير سور إبراهيم.
(5) زيادة من جـ، ط، أ.
(6) زيادة من جـ، ط، أ.
(7) في جـ: "تقبل منهم".
(8) في جـ: "الباقية".
(9) في أ: "يوم الدين".
(10) في جـ، أ، و: "لا يفتر".
(1/473)
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
من الأئمة، يلعنون الكفرة في القنوت وغيره؛ فأما الكافر المعين، فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن لأنا لا ندري بما يختم له، واستدل بعضهم بهذه الآية: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } وقالت طائفة أخرى: بل يجوز لعن الكافر المعين. واختار ذلك الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي، ولكنه احتج بحديث فيه ضعف، واستدل غيره بقوله، عليه السلام، في صحيح البخاري في قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده، فقال رجل: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله" (1) قالوا: فعلَّة المنع من لعنه؛ بأنه يحب الله ورسوله فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يلعن، والله أعلم.
{ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) }
يُخبرُ تعالى عن تفرده بالإلهية، وأنه لا شريك له ولا عَديل له، بل هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لا إله إلا هو وأنه الرحمن الرحيم. وقد تقدم تفسير هذين الاسمين في أول السورة (2) . وفي الحديث عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد بن السكن، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } و { الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [آل عمران: 1، 2] " (3)
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (6780) من حديث عمر رضي الله عنه.
(2) في جـ، ط، أ، و: "في أول الفاتحة".
(3) رواه أبو داود في السنن برقم (1496) والترمذي في السنن برقم (3478) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
البقرة - تفسير ابن كثير
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) }
ثم ذكر الدليل على تفرده بالإلهية [بتفرده] (1) بخلق السموات والأرض وما فيهما، وما بين ذلك مما ذرأ وبرأ من المخلوقات الدالة على وحدانيته، فقال: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } يقول تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } تلك في [لطافتها و] (2) ارتفاعها واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها، وهذه الأرض في [كثافتها و] (3) انخفاضها وجبالها وبحارها وقفارها وَوِهَادها وعُمْرانها وما فيها من المنافع { وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } هذا يجيء ثم يذهب ويخلفه الآخر ويعقبه، لا (4) يتأخر عنه لحظة، كما قال تعالى: { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [يس: 40] وتارة يطول هذا ويقصر هذا، وتارة يأخذ هذا من هذا ثم يتقارضان، كما قال تعالى: { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } [الحج: 61] أي: يزيد من هذا في هذا، ومن هذا في هذا { وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ }
__________
(1) زيادة من جـ، ط.
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ.
(4) في ط: "ولا".
(1/474)
أي: في تسخير البحر لحمل السفن من جانب إلى جانب لمعاش الناس، والانتفاع بما عند أهل ذلك الإقليم، ونقل هذا إلى هؤلاء وما عند أولئك إلى هؤلاء (1) { وَمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } كما قال تعالى: { وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ } [يس: 33-36]{ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ } أي: على اختلاف أشكالها وألوانها ومنافعها وصغرها وكبرها، وهو يعلم ذلك كله ويرزقه لا يخفى عليه شيء من ذلك، كما قال تعالى: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [هود: 6]{ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ } أي: تارة تأتي بالرحمة وتارة تأتي بالعذاب، تارة (2) تأتي مبشرة (3) بين يدي السحاب، وتارة تسوقه، وتارة تجمعه، وتارة تفرقه، وتارة تصرفه، [ثم تارة تأتي من الجنوب وهي الشامية، وتارة تأتي من ناحية اليمن وتارة صبا، وهي الشرقية التي تصدم وجه الكعبة، وتارة دبور وهي غربية تفد من ناحية دبر الكعبة والرياح تسمى كلها بحسب مرورها على الكعبة. وقد صنف الناس في الرياح والمطر والأنواء كتبا كثيرة فيما يتعلق بلغاتها وأحكامها، وبسط ذلك يطول هاهنا، والله أعلم] (4) . { وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ } [أي: سائر بين السماء والأرض] (5) يُسَخَّر إلى ما يشاء الله (6) من الأراضي والأماكن، كما يصرفه تعالى: { لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي: في هذه الأشياء دلالات بينة على وحدانية الله تعالى، كما قال تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران: 190، 191] . وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه: أخبرنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا أبو سعيد الدَّشْتَكِيّ، حدثني أبي، عن أبيه، عن أشعث بن إسحاق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أتت قريش محمدًا صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد إنما نريد أن تدعو ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا، فنشتري به الخيل والسلاح، فنؤمن بك ونقاتل معك. قال: "أوثقوا (7) لي لئِنْ دعوتُ ربي فجعلَ لكم الصفا ذهبًا لتُؤْمنُنّ بي" فأوثقوا له، فدعا ربه، فأتاه جبريل فقال: إن ربك قد أعطاهم الصفا ذهبًا على أنهم إن لم يؤمنوا بك عذبهم عذابًا لم يعذبه أحدًا من العالمين. قال محمد صلى الله عليه وسلم: "ربّ لا بل دعني وقومي فلأدعهم يومًا بيوم". فأنزل الله هذه الآية: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ } الآية.
__________
(1) في جـ: "أولئك لهؤلاء".
(2) في جـ: "وتارة".
(3) في أ: "مسيرة".
(4) زيادة من جـ، ط، أ.
(5) زيادة من جـ، أ، و.
(6) في جـ: "مسخرا إلى ما شاء الله" وفي ط: "مسخر إلى ما يشاء الله".
(7) في أ: "أوقفوا".
(1/475)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
ورواه ابن أبي حاتم من وجه آخر، عن جعفر بن أبي المغيرة، به (1) . وزاد في آخره: وكيف يسألونك عن الصفا وهم يرون من الآيات ما هو أعظم من الصفا.
وقال ابن أبي حاتم أيضًا: حدثنا أبي، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي نَجيح، عن عطاء، قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } فقال كفار قريش بمكة: كيف يسع الناس إله واحد؟ فأنزل الله تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ } إلى قوله: { لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
فبهذا يعلمون أنه إله واحد، وأنه إله كل شيء وخالق كل شيء.
وقال وكيع: حدثنا سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى قال: لما نزلت: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } إلى آخر الآية، قال المشركون: إن كان هكذا فليأتنا بآية. فأنزل الله عز وجل: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } إلى قوله: { يَعْقِلُونَ }
ورواه آدم بن أبي إياس، عن أبي جعفر -هو الرازي -عن سعيد بن مسروق، والد سفيان، عن أبي الضحى، به.
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) }
يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا وما لهم في الدار الآخرة، حيث جعلوا [له] (2) أندادًا، أي: أمثالا ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه، وهو الله لا إله إلا هو، ولا ضد له ولا ندَّ له، ولا شريك معه. وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندًا وهو خلَقَك" (3) .
وقوله: { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } ولحبهم لله وتمام معرفتهم به، وتوقيرهم وتوحيدهم له، لا يشركون به شيئًا، بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه، ويلجؤون في جميع أمورهم إليه. ثم تَوَعَّدَ تعالى المشركين به، الظالمين لأنفسهم بذلك فقال: { وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } .
__________
(1) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (12/12) من طريق يحيى الحماني عن يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة به نحوه.
(2) زيادة من جـ.
(3) صحيح البخاري برقم (4477) وصحيح مسلم برقم (68).
(1/476)
قال بعضهم: تقدير الكلام: لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعًا، أي: إن الحكم له (1) وحده لا شريك له، وأن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه { وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } كما قال: { فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } [الفجر: 25 ، 26] يقول: لو علموا ما يعاينونه (2) هنالك، وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم، لانتهوا عما هم فيه من الضلال.
ثم أخبر عن كفرهم بأوثانهم وتبرؤ المتبوعين من التابعين، فقال: { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ] (3) } تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في دار الدنيا، فتقول الملائكة: { تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } [القصص: 63] ويقولون: { سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } [سبأ: 41] والجن أيضًا تتبرأ منهم، ويتنصلون من عبادتهم لهم، كما قال تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [الأحقاف: 5، 6] وقال تعالى: { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } [مريم: 81، 82] وقال الخليل لقومه: { إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } [العنكبوت: 25] وقال تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [سبأ: 31-33] وقال تعالى: { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [إبراهيم: 22].
وقوله: { وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ } أي: عَاينوا عذاب الله، وتقطَّعت بهم الحيَلُ وأسباب الخلاص ولم يجدوا عن النار مَعْدلا ولا مَصْرفا.
قال عطاء عن ابن عباس: { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ } قال: المودة. وكذا قال مجاهد في رواية ابن أبي نجيح.
وقوله: { وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا } أي: لو أن لنا عَوْدة (4) إلى
__________
(1) في جـ، ط: "إن الحكم لله".
(2) في جـ: "ما يعاينوه".
(3) زيادة من جـ.
(4) في ط: "دعوة".
(1/477)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
الدار الدنيا حتى نَتَبَرَّأ من هؤلاء ومن عبادتهم، فلا نلتفت إليهم، بل نوحد الله وحده بالعبادة. وهم كاذبون في هذا، بل لو رُدّوا لعادوا لما نهوا عنه. كما أخبر الله تعالى عنهم بذلك؛ ولهذا قال: { كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } أي: تذهب وتضمحل كما قال الله تعالى: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [الفرقان: 23] .
وقال تعالى: { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } الآية [إبراهيم: 18] ، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً } الآية [النور: 39] ؛ ولهذا قال تعالى: { وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (169) }
لما بين تعالى أنه لا إله إلا هو، وأنه المستقل بالخلق، شرع يبين أنه الرزاق لجميع خلقه، فذكر [ذلك] (1) في مقام الامتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالا من الله طيبًا، أي: مستطابًا في نفسه غير ضار للأبدان ولا للعقول، ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان، وهي: طرائقه ومسالكه فيما أضل أتباعه فيه من تحريم البَحَائر والسوائب والوصائل ونحوها مما زَينه لهم في جاهليتهم، كما في حديث عياض بن حمَار الذي في صحيح مسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله تعالى: إن كل ما أمنحُه (2) عبادي فهو لهم حلال" وفيه: "وإني خلقت عبادي حُنَفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحَرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم" (3) .
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن عيسى بن شيبة (4) المصري، حدثنا الحسين بن عبد الرحمن الاحتياطي، حدثنا أبو عبد الله الجوزجاني (5) -رفيق إبراهيم بن أدهم -حدثنا ابن جُرَيج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: تُليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا } فقام سعد بن أبي وقاص، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال. "يا سعد، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده، إن الرجل ليَقْذفُ اللقمة الحرام في جَوْفه ما يُتَقبَّل منه أربعين يومًا، وأيّما عبد نبت لحمه من السُّحْت والربا فالنار أولى به" (6) .
وقوله: { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } تنفير عنه وتحذير منه، كما قال: { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [فاطر: 6] وقال تعالى: { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا } [الكهف: 50] .
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في جـ، ط، أ، و: "كل مال منحته".
(3) صحيح مسلم برقم (2865).
(4) في جـ: "شعبة" وفي هـ: "شبة".
(5) في جـ: "الجرجاني".
(6) المعجم الأوسط للطبراني برقم (5026) "مجمع البحرين".
(1/478)
وقال قتادة، والسدي في قوله: { وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان.
وقال عكرمة: هي نزغات الشيطان، وقال مجاهد: خطاه، أو قال: خطاياه.
وقال أبو مِجْلزَ: هي النذور في المعاصي.
وقال الشعبي: نذر رجل أن ينحر ابنه فأفتاه مسروق بذبح كبش. وقال: هذا من خطوات الشيطان.
وقال أبو الضحى، عن مسروق: أتى عبد الله بن مسعود بضَرْع وملح، فجعل يأكل، فاعتزل رجل من القوم، فقال ابن مسعود: ناولوا صاحبكم. فقال: لا أريده. فقال: أصائم أنت؟ قال: لا. قال: فما شأنك؟ قال: حرمت أن آكل ضَرْعًا أبدا. فقال ابن مسعود: هذا من خطوات الشيطان، فاطْعَمْ وكفِّر عن يمينك.
رواه (1) ابن أبي حاتم، وقال أيضًا:
حدثنا أبي، حدثنا حَسَّان بن عبد الله المصْري، عن سليمان التيمي، عن أبي رافع، قال: غضبت على امرأتي، فقالت: هي يومًا يهودية ويوما نصرانية، وكل مملوك لها حر، إن لم تطلق امرأتك. فأتيت عبد الله بن عمر فقال: إنما هذه من خطوات الشيطان. وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة، وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة. وأتيت عاصمًا وابن عمر (2) فقالا مثل ذلك.
وقال عبد بن حميد: حدثنا أبو نعيم (3) عن شريك، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ما كان من يمين أو نذر في غَضَب، فهو من خطوات الشيطان، وكفارته كفارة يمين.
[وقال سعيد بن داود في تفسيره: حدثنا عبادة بن عباد المهلبي عن عاصم الأحول، عن عكرمة في رجل قال لغلامه: إن لم أجلدك مائة سوط فامرأته طالق، قال: لا يجلد غلامه، ولا تطلق امرأته هذا من خطوات الشيطان] (4) .
وقوله: { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } أي: إنما يأمركم عدوّكم الشيطان بالأفعال السيئة، وأغلظ منها الفاحشة كالزنا ونحوه، وأغلظ من ذلك وهو القول على الله بلا علم، فيدخل (5) في هذا كل كافر وكل مبتدع أيضًا.
__________
(1) في جـ: "روى هذا" وفي ط، أ، و: "رواهن".
(2) في ط: "عاصم بن عمر".
(3) في جـ: "عبد الله بن نعيم".
(4) زيادة من ج، ط.
(5) في ط: "فدخل".
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
البقرة - تفسير ابن كثير
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) }
يقول تعالى: { وَإِذَا قِيلَ } لهؤلاء الكفرة من المشركين: { اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ } على رسوله، واتركوا ما أنتم فيه (1) من الضلال والجهل، قالوا في جواب ذلك: { بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا } أي: وجدنا { عَلَيْهِ آبَاءَنَا } أي: من عبادة الأصنام والأنداد. قال الله تعالى منكرًا عليهم: { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ } أي: الذين يقتدون بهم ويقتفون أثرهم { لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ } أي: ليس لهم فهم ولا هداية!!.
وروى ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنها نزلت في طائفة من اليهود، دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا. فأنزل الله هذه الآية.
ثم ضرب لهم تعالى مثلا كما قال تعالى: { لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ } [النحل: 60] فقال: { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي: فيما هم فيه من الغي والضلال والجهل كالدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا نعق بها راعيها، أي: دعاها إلى ما يرشدها، لا تفقه ما يقول ولا تفهمه، بل إنما تسمع صوته فقط.
هكذا روي عن ابن عباس، وأبي العالية، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، والحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني والربيع بن أنس، نحو هذا.
وقيل: إنما هذا مثل ضرب لهم في دعائهم الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل شيئًا، اختاره ابن جرير، والأول أولى؛ لأن الأصنام لا تسمع شيئًا ولا تعقله ولا تبصره، ولا بطش لها ولا حياة فيها (2) . وقوله: { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } أي: صُمٌّ عن سماع الحق، بُكْمٌ لا يتفوهون به، عُمْيٌ عن رؤية طريقه ومسلكه { فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ } أي: لا يعقلون شيئًا ولا يفهمونه، كما قال تعالى: { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الأنعام: 39] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) }
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بالأكل من طَيبات ما رزقهم تعالى، وأن يشكروه على ذلك، إن كانوا عبيده، والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبولَ الدعاء والعبادة، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمامُ أحمد:
حدثنا أبو النضر، حدثنا الفُضَيل بن مرزوق، عن عدَيِّ بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة
__________
(1) في أ: "ما أنتم عليه".
(2) في أ: "لأن الأصنام لا تسمع دعاء ولا نداء بل هي جمادات لا تسمع شيئا".
(1/480)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [المؤمنون: 51] وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ثم ذكر الرجل يطيلُ السفر أشعث أغبر، يمدُّ يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك".
ورواه مسلم في صحيحه، والترمذي من حديث [فضيل] (1) بن مرزوق (2) .
ولما امتن تعالى عليهم برزقه، وأرشدهم إلى الأكل من طيبه، ذكر أنه لم يحرم عليهم من ذلك إلا الميتة، وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية، وسواء كانت منخنقة أو موقوذة أو مُتَردِّية أو نطيحة أو قد عدا عليها السبع.
وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر لقوله تعالى: { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } [المائدة: 96] على ما سيأتي، وحديث العنبر في الصحيح وفي المسند والموطأ والسنن قوله، عليه السلام، في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وروى الشافعي وأحمد وابن ماجة والدارقطني من حديث ابن عمر مرفوعًا: "أحل لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال" وسيأتي تقرير ذلك في سورة المائدة (3) .
ولبن الميتة وبيضها المتصل بها نجس عند الشافعي وغيره؛ لأنه جزء منها. وقال مالك في رواية: هو طاهر إلا أنه ينجس بالمجاورة، وكذلك أنفحة الميتة فيها الخلاف والمشهور عندهم أنها نجسة، وقد أوردوا على أنفسهم أكل الصحابة من جبن المجوس، فقال القرطبي في تفسيره هاهنا: يخالط اللبن منها يسير، ويعفى عن قليل النجاسة إذا خالط الكثير من المائع. وقد روى ابن ماجة من حديث سيف بن هارون، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء، فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه" (4) .
وكذلك حرم عليهم لحم الخنزير، سواء ذُكِّي أو مات حَتْف أنفه، ويدخُلُ شَحْمه في حكم لحمه (5) إما تغليبًا أو أن اللحم يشمل ذلك، أو بطريق القياس على رأي. و[كذلك] (6) حَرَّم عليهم ما أهِلَّ به لغير الله، وهو ما ذبح على غير اسمه (7) تعالى من الأنصاب والأنداد والأزلام، ونحو ذلك
__________
(1) زيادة من أ.
(2) المسند (2/328) وصحيح مسلم برقم (1015) وسنن الترمذي برقم (2989).
(3) وسيأتي تخريج الحديثين عند تفسير أول سورة المائدة.
(4) سنن ابن ماجة برقم (3367) ورواه الترمذي في السنن برقم (1726) من طريق سيف بن هارون به وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه". وروى سفيان وغيره عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان قوله، وكأن الحديث الموقوف أصح، وسألت البخاري عن هذا الحديث فقال: ما أراه محفوظا، روى سفيان عن سليمان التيمي عن أبي عثمان، عن سلمان موقوفا، قال البخاري: "وسيف بن هارون مقارب الحديث، وسيف بن محمد، عن عاصم ذاهب الحديث".
(5) في جـ: "ويدخل لحمه في حكم شحمه".
(6) زيادة من جـ، أ، و.
(7) في جـ: "غير اسم الله".
(1/481)
مما كانت الجاهلية ينحرون له. [وذكر القرطبي عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري: أنه سئل عن امرأة عملت عرسًا للعبها فنحرت فيه جزورًا فقال: لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم؛ وأورد القرطبي عن عائشة أنها سئلت عما يذبحه العجم في أعيادهم فيهدون منه للمسلمين، فقالت: ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوه، وكلوا من أشجارهم] (1) . ثم أباح تعالى تناول ذلك عند الضرورة والاحتياج إليها، عند فقد غيرها من الأطعمة، فقال: { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ } أي: في غير بغي ولا عدوان، وهو مجاوزة الحد { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } أي: في أكل ذلك { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
وقال مجاهد: فمن اضطر غير باغ ولا عاد، قاطعًا للسبيل، أو مفارقًا للأئمة، أو خارجًا في معصية الله، فله الرخصة، ومن خرج باغيًا أو عاديًا أو في معصية الله فلا رخصة له، وإن اضطر إليه، وكذا روي عن سعيد بن جبير.
وقال سعيد -في رواية عنه -ومقاتل بن حيان: غير باغ: يعني غير مستحله. وقال السدي: غير باغ يبتغي فيه شهوته، وقال عطاء الخراساني في قوله: { غَيْرَ بَاغٍ } [قال] (2) لا يشوي من الميتة ليشتهيه ولا يطبخه، ولا يأكل إلا العُلْقَة، ويحمل معه ما يبلغه الحلال، فإذا بلغه ألقاه [وهو قوله: { وَلا عَادٍ } يقول: لا يعدو به الحلال] (3) .
وعن ابن عباس: لا يشبع منها. وفسره السدي بالعدوان. وعن ابن عباس { غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ } قال: { غَيْرَ بَاغٍ } في الميتة { وَلا عَادٍ } في أكله. وقال قتادة: فمن اضطر غير باغ ولا عاد في (4) أكله: أن يتعدى حلالا إلى حرام، وهو يجد عنه مندوحة.
وحكى القرطبي عن مجاهد في قوله: { فَمَنِ اضْطُرَّ } أي: أكره على ذلك بغير اختياره.
مسألة: ذكر القرطبي إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير بحيث لا قطع فيه ولا أذى، فإنه لا يحل له أكل الميتة بل يأكل طعام الغير بلا خلاف -كذا قال -ثم قال: وإذا أكله، والحالة هذه، هل يضمنه أم لا؟ فيه قولان هما روايتان عن مالك، ثم أورد من سنن ابن ماجه من حديث شعبة عن أبي إياس جعفر بن أبي وحشية: سمعت عباد بن العنزي (5) قال: أصابتنا عامًا مخمصة، فأتيت المدينة (6) . فأتيت حائطا، فأخذت سنبلا ففركته وأكلته، وجعلت منه في كسائي، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال للرجل: "ما أطعمته إذ كان جائعا أو ساعيا، ولا علمته إذ كان جاهلا" (7) . فأمره فرد إليه ثوبه، وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق، إسناد صحيح قوي جيد وله شواهد كثيرة: من ذلك حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثمر المعلق، فقال: "من أصاب منه من ذي حاجة بفيه غير متخذ خبنة (8) فلا شيء عليه" (9) الحديث.
__________
(1) زيادة من جـ، أ.
(2) زيادة من جـ.
(3) زيادة من و.
(4) في جـ: "ولا عاد أي".
(5) في أ: "شرحيل الفتوى" وفي ط: "بشر العنزي" والصواب ما أثبتناه.
(6) في أ: "فأتيت الحتفية".
(7) سنن ابن ماجة برقم (2298).
(8) في أ: "غير منحن جيبه".
(9) رواه الترمذي في السنن برقم (1289) وقال: "هذا حديث حسن".
(1/482)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
وقال مقاتل بن حيان في قوله: { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فيما أكل من اضطرار، وبلغنا -والله أعلم -أنه لا يزاد (1) على ثلاث لقم.
وقال سعيد بن جبير: غفور لما أكل من الحرام. رحيم إذ أحل له الحرام في الاضطرار.
وقال وَكِيع: حدثنا الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: من (2) اضطُرَّ فلم يأكل ولم يشرب، ثم مات دخل النار.
[وهذا يقتضي أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة. قال أبو الحسن الطبري -المعروف بالكيا الهراسي رفيق الغزالي في الاشتغال: وهذا هو الصحيح عندنا؛ كالإفطار للمريض في رمضان ونحو ذلك] (3) .
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) }
يقول تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ } [مما يشهد له بالرسالة] (4) { مَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ } يعني اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بأيديهم، مما تشهد (5) له بالرسالة والنبوة، فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتحف على تعظيمهم إياهم، فخشوا -لعنهم الله -إن أظهروا ذلك أن يَتَّبعه الناس ويتركوهم، فكتموا ذلك إبقاء على ما كان يحصل لهم من ذلك، وهو نزرٌ يسير، فباعوا أنفسهم بذلك، واعتاضوا عن الهدى واتباع الحق وتصديق الرسول والإيمان بما جاء عن الله بذلك النزر اليسير، فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة؛ أما في الدنيا فإن الله أظهر لعباده صِدْقَ رسوله، بما نصبه وجعله معه من الآيات الظاهرات والدلائل القاطعات، فصدقه الذين كانوا يخافون أن يتبعوه، وصاروا عونًا له على قتالهم، وباؤوا بغضب على غضب، وذمهم الله في كتابه في غير (6) موضع. من ذلك هذه الآية الكريمة: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا } وهو عرض الحياة الدنيا { أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ } أي: إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق نارا تأجج في بطونهم يوم القيامة. كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [النساء: 10] وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب
__________
(1) في أ: "أنه لا يزيد".
(2) في جـ: "فمن".
(3) زيادة من جـ.
(4) زيادة من جـ.
(5) في أ: "كالعهد".
(6) في جـ، أ، و: "في غير ما".
(1/483)
والفضة، إنما يُجَرْجرُ في بطنه نار جهنم" (1) .
وقوله: { وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وذلك لأنه غضبانُ عليهم، لأنهم كتموا وقد علموا، فاستحقوا الغضب، فلا ينظر إليهم ولا يزكيهم، أي يثني (2) عليهم ويمدحهم بل يعذبهم عذابا أليما.
وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مَرْدُوَيْه هاهنا [الحديث الذي رواه مسلم أيضًا من] (3) حديث الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم [ولهم عذاب أليم] (4) شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر" (5) .
ثم قال تعالى مخبرا عنهم: { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى } أي: اعتاضوا عن الهدى، وهو نشر ما في كتبهم من صفة الرسول وذكر مبعثه والبشارة به من كتب الأنبياء واتباعه وتصديقه، استبدلوا عن ذلك واعتاضوا عنه بالضلالة، وهو تكذيبه والكفر به وكتمان صفاته في كتبهم { وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ } أي: اعتاضوا عن المغفرة بالعذاب وهو ما تعاطَوْه من أسبابه المذكورة.
وقوله تعالى: { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } يخبر تعالى أنَّهم في عذاب شديد عظيم هائل، يتعجَّبُ من رآهم فيها من صبرهم على ذلك، مع (6) شدة ما هم فيه من العذاب، والنكال، والأغلال عياذًا بالله من ذلك.
[وقيل معنى قوله: { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } أي: ما أدومهم لعمل المعاصي التي تفضي بهم إلى النار] (7) .
وقوله: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } أي: إنما استحقوا هذا العذاب الشديد لأن الله تعالى أنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الأنبياء قبله كتبه بتحقيق الحق وإبطال الباطل، وهؤلاء اتخذوا آيات الله هزوًا، فكتابهم يأمرهم بإظهار العلم ونشره، فخالفوه وكذبوه. وهذا الرسول الخاتم يدعوهم إلى الله تعالى، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وهم يكذبونه ويخالفونه ويجحدونه، ويكتمون صفته، فاستهزؤوا بآيات الله المنزلة على رسله؛ فلهذا استحقوا العذاب والنكال؛ ولهذا (8) قال: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } .
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5634) وصحيح مسلم برقم (2065) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
(2) في أ: "أي: لا يثني".
(3) زيادة من جـ، أ.
(4) زيادة من جـ، وصحيح مسلم.
(5) رواه مسلم في صحيحه رقم (107).
(6) في جـ، أ، و: "من".
(7) زيادة من أ.
(8) في جـ: "فلهذا".
================
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
البقرة - تفسير ابن كثير
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) }
اشتملت هذه الآية الكريمة، على جمَل عظيمة، وقواعد عميمة، وعقيدة مستقيمة، كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عُبيد (1) بن هشام الحلبي، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عامر بن شُفَي، عن عبد الكريم،عن مجاهد، عن أبي ذر: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان؟ فتلا عليه: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } إلى آخر الآية. قال: ثم سأله أيضًا، فتلاها عليه (2) ثم سأله. فقال: "إذا عملت حسنة أحبها (3) قلبك، وإذا عملت سيئة أبغضها (4) قلبك" (5) .
وهذا منقطع؛ فإن (6) مجاهدًا لم يدرك أبا ذر؛ فإنه مات قديمًا.
وقال المسعودي: حدثنا القاسم بن عبد الرحمن، قال: جاء رجل إلى أبي ذر، فقال: ما الإيمان؟ فقرأ (7) عليه هذه الآية: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } حتى فرغ منها. فقال الرجل: ليس عن البر سألتُكَ. فقال أبو ذر: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألتني عنه، فقرأ عليه هذه الآية، فأبى أن يرضى كما أبيت [أنت] (8) أ ن ترضى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم -وأشار بيده -: "المؤمن إذا عمل حسنة سَرته ورجا ثوابها، وإذا عمل سيئة أحزنته وخاف عقابها" (9) .
رواه ابن مَرْدُويه، وهذا أيضًا منقطع، والله أعلم.
وأما الكلام على تفسير هذه الآية، فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولا بالتوجه إلى بيت المقدس، ثم حوَّلهم إلى الكعبة، شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك، وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل، وامتثال أوامره، والتوجه حيثما وجه، واتباع ما شرع، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق إلى المغرب بر ولا طاعة، إن لم يكن عن أمر الله وشرعه؛ ولهذا قال: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } الآية، كما قال في الأضاحي والهدايا: { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } [الحج: 37] .
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية: ليس البر أن تُصَلُّوا ولا تعملوا. فهذا حين تحول من مكة إلى المدينة ونزلت الفرائض والحدود، فأمر الله بالفرائض والعمل بها.
__________
(1) في جـ: "حدثنا عبيدة".
(2) في جـ: "فتلا عليه".
(3) في جـ: "فأحبها".
(4) في جـ: "فأبغضها".
(5) ورواه محمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" برقم (409) من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن عبد الكريم، عن مجاهد به.
(6) في جـ: "لأن".
(7) في جـ: "فتلا".
(8) زيادة من أ.
(9) ورواه محمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" برقم (408) من طريق عبد الله بن يزيد والملائي، كلاهما عن المسعودي به نحوه، ورواه الحاكم (2/272) من طريق موسى بن أعين، عن عبد الكريم به نحوه، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" وتعقبه الذهبي: "قلت: وهو منقطع".
(1/485)
وروي عن الضحاك ومقاتل نحو ذلك.
وقال أبو العالية: كانت اليهود تُقْبل (1) قبل المغرب، وكانت النصارى تُقْبل (2) قبل المشرق، فقال الله تعالى: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } يقول: هذا كلام الإيمان وحقيقته (3) العمل. وروي عن الحسن والربيع بن أنس مثله.
وقال مجاهد: ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله، عز وجل.
وقال الضحاك: ولكن البر والتقوى أن تؤدوا الفرائض على وجوهها.
وقال الثوري: { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } الآية، قال: هذه أنواع البر كلها. وصدق رحمه الله؛ فإن من اتصف بهذه الآية، فقد دخل في عرى الإسلام كلها، وأخذ بمجامع الخير كله، وهو الإيمان بالله، وهو أنه لا إله إلا هو، وصدق بوجود الملائكة الذين هم سفرة بين الله ورسله { وَالْكِتَابِ } وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء، حتى ختمت بأشرفها، وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب، الذي انتهى إليه كل خير، واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة، ونسخ [الله] (4) به كل ما سواه من الكتب قبله، وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
وقوله: { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } أي: أخرجه، وهو مُحب له، راغب فيه. نص على ذلك ابن مسعود وسعيد بن جبير وغيرهما من السلف والخلف، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هُرَيرة مرفوعًا: "أفضل الصدقة أن تَصَدَّقَ وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر".
وقد روى الحاكم في مستدركه، من حديث شعبة والثوري، عن منصور، عن زُبَيد، عن مُرَّة، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } أن (5) تعطيه وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى (6) وتخشى الفقر". ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه (7) .
قلت وقد رواه وَكِيع عن الأعمش، وسفيان عن زبيد، عن مرة، عن ابن مسعود، موقوفًا، وهو أصح، والله أعلم.
وقال تعالى: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا } [الإنسان: 8، 9] .
وقال تعالى: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } [آل عمران: 92] وقوله: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [الحشر: 9] نمَط آخرُ أرفع من هذا [ومن هذا] (8) وهو أنهم آثروا بما هم مضطرون إليه، وهؤلاء أعطوا (9) وأطعموا ما هم محبون له.
وقوله: { ذَوِي الْقُرْبَى } وهم: قرابات الرجل، وهم أولى من أعطى من الصدقة، كما ثبت في
__________
(1) في جـ: "تتقبل".
(2) في جـ: "تتقبل".
(3) في جـ: "وحقيقة".
(4) زيادة من جـ.
(5) في أ: "أي".
(6) في أ: "العيش".
(7) المستدرك (2/272).
(8) زيادة من جـ.
(9) في جـ: "وهؤلاء أعطوه".
(1/486)
الحديث: "الصدقة على المساكين (1) صدقة، وعلى ذوي الرحم ثنتان: صدقة وصلة". فهم أولى الناس بك وببرك وإعطائك. وقد أمر الله تعالى بالإحسان إليهم في غير ما موضع من كتابه العزيز.
{ وَالْيَتَامَى } هم: الذين لا كاسب (2) لهم، وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والقدرة على التكسب، وقد قال عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمَر، عن جويبر، عن الضحاك، عن النزال بن سبرة، عن علي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا يُتْم بعد حُلُم".
{ وَالْمَسَاكِينَ } وهم: الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم، فيعطون ما تُسَدُّ به حاجتهم وخلتهم. وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس المسكين بهذا الطوَّاف الذي تَرده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له (3) فَيُتَصَدق عليه (4) .
{ وَابْنَ السَّبِيلِ } وهو: المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته فيعطى ما يوصله إلى بلده، وكذا الذي يريد سفرا في طاعة، فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه، ويدخل في ذلك الضيف، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس أنه قال: ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين، وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو جعفر الباقر، والحسن، وقتادة، والضحاك والزهري، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان.
{ وَالسَّائِلِينَ } وهم: الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا وَكِيع وعبد الرحمن، قالا حدثنا سفيان، عن مصعب بن محمد، عن يعلى بن أبي يحيى، عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها (5) -قال عبد الرحمن: حسين بن علي -قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للسائل حق وإن جاء على فرس". رواه أبو داود.
{ وَفِي الرِّقَابِ } وهم: المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم.
وسيأتي الكلام على كثير من هذه الأصناف (6) في آية الصدقات من براءة، إن شاء الله تعالى. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا شريك، عن أبي حمزة، عن الشعبي، حدثتني فاطمة بنت قيس: أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفي المال حق سوى الزكاة؟ قالت: فتلا علي { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } (7) .
ورواه ابن مَرْدُويه من حديث آدم بن أبي إياس، ويحيى بن عبد الحميد، كلاهما، عن شريك،
__________
(1) في أ: "على المسلمين".
(2) في أ: "لا مكاسب".
(3) في أ: "لا يجد ما يغنيه ولا ينظر له".
(4) صحيح البخاري برقم (1479) وصحيح مسلم برقم (1039).
(5) في جـ: "فاطمة بنت حسين عن أبيها" وفي أ: "فاطمة بنت حسين بن علي، عن حسين بن علي".
(6) في جـ: "من الأصناف هذه".
(7) هو في صحيح البخاري برقم (33) وصحيح مسلم برقم (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/487)
عن أبي حمزة عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في المال حق سوى الزكاة" ثم تلا (1) { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } إلى قوله: { وَفِي الرِّقَابِ }
[وقد أخرجه ابن ماجة والترمذي (2) وضعف أبا حمزة ميمونًا (3) الأعور، قال: وقد رواه بيان (4) وإسماعيل بن سالم عن الشعبي] (5) .
وقوله: { وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } أي: وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها، وسجودها، وطمأنينتها، وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي.
وقوله: { وَآتَى الزَّكَاةَ } يُحْتَمَلُ أن يكون المراد به زكاة النفس، وتخليصها من الأخلاق الدنية (6) الرذيلة، كقوله: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [الشمس:9 ، 10] وقول موسى لفرعون: { هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } [النازعات: 18، 19] وقوله تعالى: { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [فصلت: 6، 7] .
ويحتمل أن يكون المرادُ زكاة المال (7) كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان، ويكون المذكور من إعطاء (8) هذه الجهات والأصناف المذكورين إنما هو التطوع والبر والصلة؛ ولهذا تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس: أن في المال حقا سوى الزكاة، والله أعلم.
وقوله: { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا } كقوله: { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ } [الرعد: 20] وعكس هذه الصفة النفاق، كما صح في الحديث: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان". وفي الحديث الآخر:"إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" (9) .
وقوله: { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ } أي: في حال الفقر، وهو البأساء، وفي حال المرض والأسقام، وهو الضراء. { وَحِينَ الْبَأْسِ } أي: في حال القتال والتقاء الأعداء، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وأبو العالية، ومُرّة الهمداني، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان، وأبو مالك، والضحاك، وغيرهم.
وإنما نُصِبَ { وَالصَّابِرِينَ } على المدح والحث على الصبر في هذه الأحوال لشدته وصعوبته، والله أعلم، وهو المستعان وعليه التكلان.
وقوله: { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا } أي: هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صَدَقوا في إيمانهم؛ لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، فهؤلاء هم الذين صدقوا { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }
__________
(1) في جـ، أ، و: "ثم قرأ".
(2) سنن الترمذي برقم (659) وسنن ابن ماجة برقم (1789) وقال الترمذي: "هذا حديث ليس إسناده بذاك، وأبو حمزة يضعف في الحديث، وقد روى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي قوله، وهو أصح".
(3) في أ: "عونا".
(4) في جـ: "سيار" والصواب ما أثبتناه".
(5) زيادة من جـ، أ.
(6) في جـ: "الذميمة".
(7) في جـ: "زكاة الملك".
(8) في أ، و: "من أعطى".
(9) رواه مسلم في صحيحه برقم (58) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
(1/488)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) }
يقول تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ } العدلُ في القصاص -أيّها المؤمنون -حُرّكم (1) بحركم، وعبدكم بعبدكم، وأنثاكم بأنثاكم، ولا تتجاوزوا وتعتدوا، كما اعتدى من قبلكم وغيروا حكم الله فيهم، وسبب ذلك قريظة و[بنو] (2) النضير، كانت بنو النضير قد غزت قريظة في الجاهلية وقهروهم، فكان إذا قتل النضري القرظيَّ لا يقتل به، بل يُفَادَى بمائة وسق من التمر، وإذا قتل القرظي النضري قتل به، وإن فادَوْه فَدَوه بمائتي وسق من التمر ضعْف دية (3) القرظي، فأمر الله بالعدل في القصاص، ولا يتبع سبيل المفسدين المحرفين (4) ، المخالفين لأحكام الله فيهم، كفرا وبغيًا (5) ، فقال تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى } .
وذكر في [سبب] (6) نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَير (7) حدثني عبد الله بن لَهيعة، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، في قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } يعني: إذا كان عَمْدا، الحر بالحر. وذلك أن حيَّيْنِ من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات، حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم (8) ، فنزلت فيهم.
{ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى } منها منسوخة، نسختها { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } [المائدة: 45] .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: { وَالأنْثَى بِالأنْثَى } وذلك أنهم لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة فأنزل الله: النفس بالنفس والعين بالعين، فجعل الأحرار في القصاص (9) سواء فيما بينهم من العمد رجالهم ونساؤهم في النفس، وفيما دون النفس، وجعل العبيد مستوين (10) فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم
__________
(1) في جـ، أ، و: "فاقتلوا حركم".
(2) زيادة من أ.
(3) في جـ: "ضعف دم".
(4) في أ: "المجرمين".
(5) في جـ: "لهوا ولعبا".
(6) زيادة من جـ.
(7) في جـ، أ: "بكر".
(8) في جـ: "والمرأة منا بالرجل منهم".
(9) في جـ: "القصاص والعبيد".
(10) في أ، و: "مستويين".
(1/489)
ونساؤهم، وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله: { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } .
مسألة: مذهب أبي حنيفة أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة، وإليه ذهب الثوري وابن أبي ليلى وداود، وهو مروي عن علي، وابن مسعود، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، وقتادة، والحكم، وقال البخاري، وعلي بن المديني وإبراهيم النخعي والثوري في رواية عنه: ويقتل السيد بعبده؛ لعموم حديث الحسن عن سمرة: "من قتل عبده قتلناه، ومن جذعه جذعناه، ومن خصاه خصيناه" (1) وخالفهم الجمهور وقالوا: لا يقتل الحر بالعبد؛ لأن العبد سلعة لو قتل خطأ لم تجب فيه دية، وإنما تجب فيه قيمته، وأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق أولى، وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر، كما ثبت في البخاري عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مسلم بكافر" (2) ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا، وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة.
مسألة: قال الحسن وعطاء: لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية، وخالفهم الجمهور لآية المائدة؛ ولقوله عليه السلام: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" (3) وقال الليث: إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة.
مسألة: ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد؛ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في غلام قتله سبعة فقتلهم، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم، ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة، وذلك كالإجماع. وحكي عن الإمام أحمد رواية: أن الجماعة لا يقتلون بالواحد، ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة. وحكاه ابن المنذر عن معاذ وابن الزبير، وعبد الملك بن مروان والزهري ومحمد بن سيرين وحبيب بن أبي ثابت؛ ثم قال ابن المنذر: وهذا أصح، ولا حجة لمن أباح قتل الجماعة (4) . وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه، وإذا اختلف الصحابة فسبيله النظر.
وقوله: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } قال مجاهد عن ابن عباس: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } فالعفو: أن يَقبل الدية في العمد، وكذا روي عن أبي العالية، وأبي الشعثاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء، والحسن، وقتادة، ومقاتل بن حيان.
وقال الضحاك عن ابن عباس: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } يقول: فمن ترك له من أخيه شيء يعني: [بعد] (5) أخذ الدّية بعد استحقاق الدم، وذلك العفو { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } يقول: فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قَبِل الدية { وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } يعني: من القاتل من غير ضرر ولا مَعْك، يعني : المدافعة.
وروى الحاكم من حديث سفيان، عن عمرو، عن مجاهد، عن ابن عباس: ويؤدي المطلوب
__________
(1) رواه أبو داود في السنن برقم (4515 ، 4516) والترمذي في السنن برقم (1414) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".
(2) صحيح البخاري برقم (111).
(3) رواه ابن ماجة في السنن برقم (2683) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4) في أ: "قتل جماعة بواحد".
(5) زيادة من جـ، أ.
(1/490)
بإحسان. وكذا قال سعيد بن جُبَير، وأبو الشعثاء جابر بن زَيد، والحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان.
مسألة: قال مالك -رحمه الله -في رواية ابن القاسم عنه وهو المشهور، وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي في أحد قوليه: ليس لولي الدم أن يعفو على الدية إلا برضا القاتل، وقال الباقون: له أن يعفو عليها وإن لم يرض القاتل، وذهب طائفة من السلف إلى أنه ليس للنساء عفو، منهم الحسن، وقتادة، والزهري، وابن شبرمة، والليث، والأوزاعي، وخالفهم الباقون.
وقوله: { ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } يقول تعالى: إنما شرع لكم أخذ الدية في العمد تخفيفًا من الله عليكم ورحمة بكم، مما كان محتوما على الأمم قبلكم من القتل أو العفو، كما قال سعيد بن منصور:
حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، أخبرني مجاهد، عن ابن عباس، قال: كتب على بني إسرائيل القصاص في القتلى، ولم يكن فيهم العفو، فقال الله لهذه الأمة (1) { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } فالعفو أن يقبل الدية في العمد، ذلك تخفيف [من ربكم ورحمة] (2) مما كتب على من كان قبلكم، فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان (3) .
وقد رواه غير واحد عن عمرو [بن دينار] (4) وأخرجه ابن حبان في صحيحه، عن عمرو بن دينار، به (5) . [وقد رواه البخاري والنسائي عن ابن عباس] (6) ؛ ورواه جماعة عن مجاهد عن ابن عباس، بنحوه.
وقال قتادة: { ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ } رحم الله هذه الأمة وأطعمهم الدية، ولم تحل لأحد قبلهم، فكان أهل التوراة إنما هو القصاص وعفو ليس بينهم أرش (7) وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به، وجعل لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش.
وهكذا روي عن سعيد بن جبير، ومقاتل بن حيان، والربيع بن أنس، نحو هذا.
وقوله: { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يقول تعالى: فمن قتل بعد أخذ الدية أو قبولها، فله عذاب من الله أليم موجع شديد.
وكذا رُوي عن ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان: أنه هو الذي يقتل بعد أخذ الدية، كما قال محمد بن إسحاق، عن الحارث بن فضيل، عن سفيان بن أبي العوجاء، عن أبي شريح الخزاعي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
__________
(1) في أ: "فقال الله في هذه الآية".
(2) زيادة من جـ.
(3) سنن سعيد بن منصور برقم (246) بتحقيق د. الحميد.
(4) زيادة من جـ.
(5) صحيح ابن حبان (7/601) "الإحسان" وانظر لتمام تخريج هذا الحديث وذكر طرقه: حاشية الدكتور سعد الحميد- حفظه الله - على سنن سعيد بن منصور.
(6) زيادة من جـ، أ.
(7) في جـ: "أثر".
(1/491)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
"من أصيب بقتل أو خَبْل (1) فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية؛ فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه. ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالدا فيها" رواه (2) أحمد (3) .
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية -يعني: لا أقبل منه الدية -بل أقتله" (4) .
وقوله: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } يقول تعالى: وفي شَرْع القصاص لكم -وهو قتل القاتل -حكمة عظيمة لكم، وهي بقاء المُهَج وصَوْنها؛ لأنه إذا علم القاتلُ أنه يقتل انكفّ عن صنيعه، فكان في ذلك حياة النفوس. وفي الكتب المتقدمة: القتلُ أنفى للقتل. فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح، وأبلغ، وأوجز.
{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } قال أبو العالية: جعل الله القصاص حياة، فكم من رجل يريد أن يقتُل، فتمنعه مخافة أن يُقتل.
وكذا روي عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي مالك، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، { يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } يقول: يا أولي العقول والأفهام والنهى، لعلكم تنزجرون فتتركون محارم الله ومآثمه، والتقوى: اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات.
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) }
__________
(1) في أ: "أو ختل".
(2) في جـ: "ورواه".
(3) المسند (4/31).
(4) ذكره السيوطي في الدر المنثور (1/421) وعزاه لسمويه في فوائده، وروى البيهقي في السنن الكبرى (8/54) من طريق سعيد بن أبي عروبة عن مطر عن الحسن مرسلا بنحوه، وروى أبو داود في السنن برقم (4507) من طريق حماد عن مطر عن الحسن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعا بنحوه.
(1/492)
( معلومات الكتاب - عودة إلى القرآن - فهرس القرآن )
البقرة - تفسير ابن كثير
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) }
اشتملت هذه الآية الكريمة، على جمَل عظيمة، وقواعد عميمة، وعقيدة مستقيمة، كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عُبيد (1) بن هشام الحلبي، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عامر بن شُفَي، عن عبد الكريم،عن مجاهد، عن أبي ذر: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان؟ فتلا عليه: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } إلى آخر الآية. قال: ثم سأله أيضًا، فتلاها عليه (2) ثم سأله. فقال: "إذا عملت حسنة أحبها (3) قلبك، وإذا عملت سيئة أبغضها (4) قلبك" (5) .
وهذا منقطع؛ فإن (6) مجاهدًا لم يدرك أبا ذر؛ فإنه مات قديمًا.
وقال المسعودي: حدثنا القاسم بن عبد الرحمن، قال: جاء رجل إلى أبي ذر، فقال: ما الإيمان؟ فقرأ (7) عليه هذه الآية: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } حتى فرغ منها. فقال الرجل: ليس عن البر سألتُكَ. فقال أبو ذر: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألتني عنه، فقرأ عليه هذه الآية، فأبى أن يرضى كما أبيت [أنت] (8) أ ن ترضى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم -وأشار بيده -: "المؤمن إذا عمل حسنة سَرته ورجا ثوابها، وإذا عمل سيئة أحزنته وخاف عقابها" (9) .
رواه ابن مَرْدُويه، وهذا أيضًا منقطع، والله أعلم.
وأما الكلام على تفسير هذه الآية، فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولا بالتوجه إلى بيت المقدس، ثم حوَّلهم إلى الكعبة، شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك، وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل، وامتثال أوامره، والتوجه حيثما وجه، واتباع ما شرع، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق إلى المغرب بر ولا طاعة، إن لم يكن عن أمر الله وشرعه؛ ولهذا قال: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } الآية، كما قال في الأضاحي والهدايا: { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } [الحج: 37] .
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية: ليس البر أن تُصَلُّوا ولا تعملوا. فهذا حين تحول من مكة إلى المدينة ونزلت الفرائض والحدود، فأمر الله بالفرائض والعمل بها.
__________
(1) في جـ: "حدثنا عبيدة".
(2) في جـ: "فتلا عليه".
(3) في جـ: "فأحبها".
(4) في جـ: "فأبغضها".
(5) ورواه محمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" برقم (409) من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن عبد الكريم، عن مجاهد به.
(6) في جـ: "لأن".
(7) في جـ: "فتلا".
(8) زيادة من أ.
(9) ورواه محمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" برقم (408) من طريق عبد الله بن يزيد والملائي، كلاهما عن المسعودي به نحوه، ورواه الحاكم (2/272) من طريق موسى بن أعين، عن عبد الكريم به نحوه، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" وتعقبه الذهبي: "قلت: وهو منقطع".
(1/485)
وروي عن الضحاك ومقاتل نحو ذلك.
وقال أبو العالية: كانت اليهود تُقْبل (1) قبل المغرب، وكانت النصارى تُقْبل (2) قبل المشرق، فقال الله تعالى: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } يقول: هذا كلام الإيمان وحقيقته (3) العمل. وروي عن الحسن والربيع بن أنس مثله.
وقال مجاهد: ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله، عز وجل.
وقال الضحاك: ولكن البر والتقوى أن تؤدوا الفرائض على وجوهها.
وقال الثوري: { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } الآية، قال: هذه أنواع البر كلها. وصدق رحمه الله؛ فإن من اتصف بهذه الآية، فقد دخل في عرى الإسلام كلها، وأخذ بمجامع الخير كله، وهو الإيمان بالله، وهو أنه لا إله إلا هو، وصدق بوجود الملائكة الذين هم سفرة بين الله ورسله { وَالْكِتَابِ } وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء، حتى ختمت بأشرفها، وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب، الذي انتهى إليه كل خير، واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة، ونسخ [الله] (4) به كل ما سواه من الكتب قبله، وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
وقوله: { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } أي: أخرجه، وهو مُحب له، راغب فيه. نص على ذلك ابن مسعود وسعيد بن جبير وغيرهما من السلف والخلف، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هُرَيرة مرفوعًا: "أفضل الصدقة أن تَصَدَّقَ وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر".
وقد روى الحاكم في مستدركه، من حديث شعبة والثوري، عن منصور، عن زُبَيد، عن مُرَّة، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } أن (5) تعطيه وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى (6) وتخشى الفقر". ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه (7) .
قلت وقد رواه وَكِيع عن الأعمش، وسفيان عن زبيد، عن مرة، عن ابن مسعود، موقوفًا، وهو أصح، والله أعلم.
وقال تعالى: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا } [الإنسان: 8، 9] .
وقال تعالى: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } [آل عمران: 92] وقوله: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [الحشر: 9] نمَط آخرُ أرفع من هذا [ومن هذا] (8) وهو أنهم آثروا بما هم مضطرون إليه، وهؤلاء أعطوا (9) وأطعموا ما هم محبون له.
وقوله: { ذَوِي الْقُرْبَى } وهم: قرابات الرجل، وهم أولى من أعطى من الصدقة، كما ثبت في
__________
(1) في جـ: "تتقبل".
(2) في جـ: "تتقبل".
(3) في جـ: "وحقيقة".
(4) زيادة من جـ.
(5) في أ: "أي".
(6) في أ: "العيش".
(7) المستدرك (2/272).
(8) زيادة من جـ.
(9) في جـ: "وهؤلاء أعطوه".
(1/486)
الحديث: "الصدقة على المساكين (1) صدقة، وعلى ذوي الرحم ثنتان: صدقة وصلة". فهم أولى الناس بك وببرك وإعطائك. وقد أمر الله تعالى بالإحسان إليهم في غير ما موضع من كتابه العزيز.
{ وَالْيَتَامَى } هم: الذين لا كاسب (2) لهم، وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والقدرة على التكسب، وقد قال عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمَر، عن جويبر، عن الضحاك، عن النزال بن سبرة، عن علي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا يُتْم بعد حُلُم".
{ وَالْمَسَاكِينَ } وهم: الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم، فيعطون ما تُسَدُّ به حاجتهم وخلتهم. وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس المسكين بهذا الطوَّاف الذي تَرده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له (3) فَيُتَصَدق عليه (4) .
{ وَابْنَ السَّبِيلِ } وهو: المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته فيعطى ما يوصله إلى بلده، وكذا الذي يريد سفرا في طاعة، فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه، ويدخل في ذلك الضيف، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس أنه قال: ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين، وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو جعفر الباقر، والحسن، وقتادة، والضحاك والزهري، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان.
{ وَالسَّائِلِينَ } وهم: الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا وَكِيع وعبد الرحمن، قالا حدثنا سفيان، عن مصعب بن محمد، عن يعلى بن أبي يحيى، عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها (5) -قال عبد الرحمن: حسين بن علي -قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للسائل حق وإن جاء على فرس". رواه أبو داود.
{ وَفِي الرِّقَابِ } وهم: المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم.
وسيأتي الكلام على كثير من هذه الأصناف (6) في آية الصدقات من براءة، إن شاء الله تعالى. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا شريك، عن أبي حمزة، عن الشعبي، حدثتني فاطمة بنت قيس: أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفي المال حق سوى الزكاة؟ قالت: فتلا علي { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } (7) .
ورواه ابن مَرْدُويه من حديث آدم بن أبي إياس، ويحيى بن عبد الحميد، كلاهما، عن شريك،
__________
(1) في أ: "على المسلمين".
(2) في أ: "لا مكاسب".
(3) في أ: "لا يجد ما يغنيه ولا ينظر له".
(4) صحيح البخاري برقم (1479) وصحيح مسلم برقم (1039).
(5) في جـ: "فاطمة بنت حسين عن أبيها" وفي أ: "فاطمة بنت حسين بن علي، عن حسين بن علي".
(6) في جـ: "من الأصناف هذه".
(7) هو في صحيح البخاري برقم (33) وصحيح مسلم برقم (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/487)
عن أبي حمزة عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في المال حق سوى الزكاة" ثم تلا (1) { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } إلى قوله: { وَفِي الرِّقَابِ }
[وقد أخرجه ابن ماجة والترمذي (2) وضعف أبا حمزة ميمونًا (3) الأعور، قال: وقد رواه بيان (4) وإسماعيل بن سالم عن الشعبي] (5) .
وقوله: { وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } أي: وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها، وسجودها، وطمأنينتها، وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي.
وقوله: { وَآتَى الزَّكَاةَ } يُحْتَمَلُ أن يكون المراد به زكاة النفس، وتخليصها من الأخلاق الدنية (6) الرذيلة، كقوله: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [الشمس:9 ، 10] وقول موسى لفرعون: { هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } [النازعات: 18، 19] وقوله تعالى: { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [فصلت: 6، 7] .
ويحتمل أن يكون المرادُ زكاة المال (7) كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان، ويكون المذكور من إعطاء (8) هذه الجهات والأصناف المذكورين إنما هو التطوع والبر والصلة؛ ولهذا تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس: أن في المال حقا سوى الزكاة، والله أعلم.
وقوله: { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا } كقوله: { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ } [الرعد: 20] وعكس هذه الصفة النفاق، كما صح في الحديث: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان". وفي الحديث الآخر:"إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" (9) .
وقوله: { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ } أي: في حال الفقر، وهو البأساء، وفي حال المرض والأسقام، وهو الضراء. { وَحِينَ الْبَأْسِ } أي: في حال القتال والتقاء الأعداء، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وأبو العالية، ومُرّة الهمداني، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان، وأبو مالك، والضحاك، وغيرهم.
وإنما نُصِبَ { وَالصَّابِرِينَ } على المدح والحث على الصبر في هذه الأحوال لشدته وصعوبته، والله أعلم، وهو المستعان وعليه التكلان.
وقوله: { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا } أي: هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صَدَقوا في إيمانهم؛ لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، فهؤلاء هم الذين صدقوا { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }
__________
(1) في جـ، أ، و: "ثم قرأ".
(2) سنن الترمذي برقم (659) وسنن ابن ماجة برقم (1789) وقال الترمذي: "هذا حديث ليس إسناده بذاك، وأبو حمزة يضعف في الحديث، وقد روى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي قوله، وهو أصح".
(3) في أ: "عونا".
(4) في جـ: "سيار" والصواب ما أثبتناه".
(5) زيادة من جـ، أ.
(6) في جـ: "الذميمة".
(7) في جـ: "زكاة الملك".
(8) في أ، و: "من أعطى".
(9) رواه مسلم في صحيحه برقم (58) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
(1/488)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) }
يقول تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ } العدلُ في القصاص -أيّها المؤمنون -حُرّكم (1) بحركم، وعبدكم بعبدكم، وأنثاكم بأنثاكم، ولا تتجاوزوا وتعتدوا، كما اعتدى من قبلكم وغيروا حكم الله فيهم، وسبب ذلك قريظة و[بنو] (2) النضير، كانت بنو النضير قد غزت قريظة في الجاهلية وقهروهم، فكان إذا قتل النضري القرظيَّ لا يقتل به، بل يُفَادَى بمائة وسق من التمر، وإذا قتل القرظي النضري قتل به، وإن فادَوْه فَدَوه بمائتي وسق من التمر ضعْف دية (3) القرظي، فأمر الله بالعدل في القصاص، ولا يتبع سبيل المفسدين المحرفين (4) ، المخالفين لأحكام الله فيهم، كفرا وبغيًا (5) ، فقال تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى } .
وذكر في [سبب] (6) نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَير (7) حدثني عبد الله بن لَهيعة، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، في قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } يعني: إذا كان عَمْدا، الحر بالحر. وذلك أن حيَّيْنِ من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات، حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم (8) ، فنزلت فيهم.
{ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى } منها منسوخة، نسختها { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } [المائدة: 45] .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: { وَالأنْثَى بِالأنْثَى } وذلك أنهم لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة فأنزل الله: النفس بالنفس والعين بالعين، فجعل الأحرار في القصاص (9) سواء فيما بينهم من العمد رجالهم ونساؤهم في النفس، وفيما دون النفس، وجعل العبيد مستوين (10) فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم
__________
(1) في جـ، أ، و: "فاقتلوا حركم".
(2) زيادة من أ.
(3) في جـ: "ضعف دم".
(4) في أ: "المجرمين".
(5) في جـ: "لهوا ولعبا".
(6) زيادة من جـ.
(7) في جـ، أ: "بكر".
(8) في جـ: "والمرأة منا بالرجل منهم".
(9) في جـ: "القصاص والعبيد".
(10) في أ، و: "مستويين".
(1/489)
ونساؤهم، وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله: { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } .
مسألة: مذهب أبي حنيفة أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة، وإليه ذهب الثوري وابن أبي ليلى وداود، وهو مروي عن علي، وابن مسعود، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، وقتادة، والحكم، وقال البخاري، وعلي بن المديني وإبراهيم النخعي والثوري في رواية عنه: ويقتل السيد بعبده؛ لعموم حديث الحسن عن سمرة: "من قتل عبده قتلناه، ومن جذعه جذعناه، ومن خصاه خصيناه" (1) وخالفهم الجمهور وقالوا: لا يقتل الحر بالعبد؛ لأن العبد سلعة لو قتل خطأ لم تجب فيه دية، وإنما تجب فيه قيمته، وأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق أولى، وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر، كما ثبت في البخاري عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مسلم بكافر" (2) ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا، وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة.
مسألة: قال الحسن وعطاء: لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية، وخالفهم الجمهور لآية المائدة؛ ولقوله عليه السلام: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" (3) وقال الليث: إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة.
مسألة: ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد؛ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في غلام قتله سبعة فقتلهم، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم، ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة، وذلك كالإجماع. وحكي عن الإمام أحمد رواية: أن الجماعة لا يقتلون بالواحد، ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة. وحكاه ابن المنذر عن معاذ وابن الزبير، وعبد الملك بن مروان والزهري ومحمد بن سيرين وحبيب بن أبي ثابت؛ ثم قال ابن المنذر: وهذا أصح، ولا حجة لمن أباح قتل الجماعة (4) . وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه، وإذا اختلف الصحابة فسبيله النظر.
وقوله: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } قال مجاهد عن ابن عباس: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } فالعفو: أن يَقبل الدية في العمد، وكذا روي عن أبي العالية، وأبي الشعثاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء، والحسن، وقتادة، ومقاتل بن حيان.
وقال الضحاك عن ابن عباس: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } يقول: فمن ترك له من أخيه شيء يعني: [بعد] (5) أخذ الدّية بعد استحقاق الدم، وذلك العفو { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } يقول: فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قَبِل الدية { وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } يعني: من القاتل من غير ضرر ولا مَعْك، يعني : المدافعة.
وروى الحاكم من حديث سفيان، عن عمرو، عن مجاهد، عن ابن عباس: ويؤدي المطلوب
__________
(1) رواه أبو داود في السنن برقم (4515 ، 4516) والترمذي في السنن برقم (1414) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".
(2) صحيح البخاري برقم (111).
(3) رواه ابن ماجة في السنن برقم (2683) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4) في أ: "قتل جماعة بواحد".
(5) زيادة من جـ، أ.
بإحسان. وكذا قال سعيد بن جُبَير، وأبو الشعثاء جابر بن زَيد، والحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان.
مسألة: قال مالك -رحمه الله -في رواية ابن القاسم عنه وهو المشهور، وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي في أحد قوليه: ليس لولي الدم أن يعفو على الدية إلا برضا القاتل، وقال الباقون: له أن يعفو عليها وإن لم يرض القاتل، وذهب طائفة من السلف إلى أنه ليس للنساء عفو، منهم الحسن، وقتادة، والزهري، وابن شبرمة، والليث، والأوزاعي، وخالفهم الباقون.
وقوله: { ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } يقول تعالى: إنما شرع لكم أخذ الدية في العمد تخفيفًا من الله عليكم ورحمة بكم، مما كان محتوما على الأمم قبلكم من القتل أو العفو، كما قال سعيد بن منصور:
حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، أخبرني مجاهد، عن ابن عباس، قال: كتب على بني إسرائيل القصاص في القتلى، ولم يكن فيهم العفو، فقال الله لهذه الأمة (1) { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } فالعفو أن يقبل الدية في العمد، ذلك تخفيف [من ربكم ورحمة] (2) مما كتب على من كان قبلكم، فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان (3) .
وقد رواه غير واحد عن عمرو [بن دينار] (4) وأخرجه ابن حبان في صحيحه، عن عمرو بن دينار، به (5) . [وقد رواه البخاري والنسائي عن ابن عباس] (6) ؛ ورواه جماعة عن مجاهد عن ابن عباس، بنحوه.
وقال قتادة: { ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ } رحم الله هذه الأمة وأطعمهم الدية، ولم تحل لأحد قبلهم، فكان أهل التوراة إنما هو القصاص وعفو ليس بينهم أرش (7) وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به، وجعل لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش.
وهكذا روي عن سعيد بن جبير، ومقاتل بن حيان، والربيع بن أنس، نحو هذا.
وقوله: { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يقول تعالى: فمن قتل بعد أخذ الدية أو قبولها، فله عذاب من الله أليم موجع شديد.
وكذا رُوي عن ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان: أنه هو الذي يقتل بعد أخذ الدية، كما قال محمد بن إسحاق، عن الحارث بن فضيل، عن سفيان بن أبي العوجاء، عن أبي شريح الخزاعي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
__________
(1) في أ: "فقال الله في هذه الآية".
(2) زيادة من جـ.
(3) سنن سعيد بن منصور برقم (246) بتحقيق د. الحميد.
(4) زيادة من جـ.
(5) صحيح ابن حبان (7/601) "الإحسان" وانظر لتمام تخريج هذا الحديث وذكر طرقه: حاشية الدكتور سعد الحميد- حفظه الله - على سنن سعيد بن منصور.
(6) زيادة من جـ، أ.
(7) في جـ: "أثر".
(1/491)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
"من أصيب بقتل أو خَبْل (1) فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية؛ فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه. ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالدا فيها" رواه (2) أحمد (3) .
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية -يعني: لا أقبل منه الدية -بل أقتله" (4) .
وقوله: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } يقول تعالى: وفي شَرْع القصاص لكم -وهو قتل القاتل -حكمة عظيمة لكم، وهي بقاء المُهَج وصَوْنها؛ لأنه إذا علم القاتلُ أنه يقتل انكفّ عن صنيعه، فكان في ذلك حياة النفوس. وفي الكتب المتقدمة: القتلُ أنفى للقتل. فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح، وأبلغ، وأوجز.
{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } قال أبو العالية: جعل الله القصاص حياة، فكم من رجل يريد أن يقتُل، فتمنعه مخافة أن يُقتل.
وكذا روي عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي مالك، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، { يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } يقول: يا أولي العقول والأفهام والنهى، لعلكم تنزجرون فتتركون محارم الله ومآثمه، والتقوى: اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات.
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) }
__________
(1) في أ: "أو ختل".
(2) في جـ: "ورواه".
(3) المسند (4/31).
(4) ذكره السيوطي في الدر المنثور (1/421) وعزاه لسمويه في فوائده، وروى البيهقي في السنن الكبرى (8/54) من طريق سعيد بن أبي عروبة عن مطر عن الحسن مرسلا بنحوه، وروى أبو داود في السنن برقم (4507) من طريق حماد عن مطر عن الحسن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعا بنحوه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق